خصائص المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر

السيد محمد الحسيني

تمهيد

في وقت مبكر من حياته الشريفة حمل الشهيد الصدر مشروعاً نهضوياً متكاملاً لانبعاث الأمة الحضاري ووضعها في مسارها الصحيح، واستعادة دورها الريادي وفقاً لمتطلبات (المقولات) الإسلامية الأساسية في الفكر الإسلامي، من خلافة وإشهاد وإعمار للأرض.

وكما هي كلمات الإسلام متكاملة قوية وشاملة، جاء مشروعه الثقافي النهضوي متكاملاً قوياً وشاملاً، يحكي الترابط العضوي لمقولات الإسلام وقوانينه ومفاهيمه، ويجسّد القيمومة العامة لهذه المقولات على مناحي الحياة، حياة الفرد والمجتمع.

ومشروع من هذا القبيل لا يستوفي حقه عدد من السطور والكلمات وإن انتظمت بدقة متناهية واختزلت مراحل الاستدلال والبرهان والشرح والبيان.

ووفقاً لهذه الملاحظة ۔ المشار إليها آنفاً ۔ تكرس هذه السطور نفسها للحديث عن جانب مهم من هذا المشروع الثقافي، وهو الجانب الفقهي والقانوني تحديداً.

لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه السطور وإن كانت تعنى بالدرجة الأساسية بالمشروع الفقهي للسيد الشهيد، إلا أنها لا تغفل المحيط الفقهي العام عبر مقطع زمني طويل تطور فيه الفقه الإسلامي ۔ وفقاً لمذهب أهل البيت(ع) ۔ تطوراً كبيراً، وقفز فيه الفقه قفزات هائلة، واجتاز مراحل فنية وفكرية عديدة، انتقل فيها من (رحم) الحديث ولغته الخاصة المفعمة بالأسانيد والعنعنة إلى شيء من الانطلاق والتحرر من أسر هذه القيود، ليعلن عن نفسه وذاته وإن أبقي على متون الروايات والأحاديث في لغة الفقه وطريقة التعبير عن مسائله.

ومع تطور وتنامي الخبرات وتضافر الجهود أخذ الفقه يكتسب شخصية مستقلة وإطاراً خاصاً؛ ليتوفر على شيء من الاستدلال والبرهان، بعد أن كان الفقيه يختزل هذه المراحل ليصل إلى النتيجة، التي هي ۔ في الغالب ۔ متن الحديث نفسه.

وعلى خلفية اتساع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وتنامي حاجات المجتمع والأفراد، أخذ الفقيه يفكّر في كيفية استنطاق المصادر الأساسية وفقاً لما هو مأذون به شرعاً، فنشأت مدارس عديدة في دراسة الحجج وطرق التفكير الفقهي ووسائله وآلياته المشروعة.

ومع هذا التطور الكبير أنتجت الذهنية الفقهية عدداً من الكتب والدراسات شكّلت في يوم من الأيام معلماً واضحاً في مسيرة الفقه، بما تضمنته من إبداع وابتكار، لكن مع خلو الميدان العلمي من عقليات كبيرة في وقت من الأوقات، كانت تظهر عمليات المحاكاة والتقليد، والتي مهّدت لانتشار ما عرف بـ(الشروح والحواشي والتعليقات على المتون) ثم تجاوز هذه المرحلة كلما بزغ نجم هنا وطلع آخر هناك.

هموم الفقيه

اكتسب الفقيه ۔ إسلامياً ۔ وضعاً حقوقياً وسياسياً لا نظير له في أي مذهب أو إطار فكري غير الإسلام، خاصة على المستوى الإسلامي الشيعي الإمامي، حيث أصبح هذا الوضع معه مسلّمات فقه الشيعة الإمامية، لتضفي عليه طابع القيمومة تارة والولاية والشهادة تارة أخرى، وإن اختلفت الصيغ القانونية الشرعية، في تصويرها ومداها وسعة دائرتها.

ولم يكن تكريس هذا المضمون الحقوقي والاجتماعي في شخص الفقيه محض رغبة أو امتيازاً تاريخياً أهّل الفقيه لهذا المستوى المتقدم، وإنما هو عبارة عن موقف فكري حُمّل على أساسه الفقيه مسؤولية التفكير في الشأن الإسلامي والعمل في سبيله والتضحية لأجله، وافترض أن تكون همومه كبيرة كما هي هموم الإسلام، وعطاءاته متواصلة كما هي عطاءات الإسلام حية ومتجددة وزاخرة.

وكلما اقترب الفقيه من مواقع الإسلام وتجسّدت فيه رؤى الإسلام، والتحمت مع روحه وعقله وأفكاره ومبادئه كان الأقدر على تحقيق وإنجاز مهامّه المفترضة، والأجدر على اكتساب حقوق المركز القانوني للفقيه.

هذه الحقيقة أدركها الشهيد الصدر مبكراً، ووعاها وعياً كاملاً قدر وعيه للإسلام وأهدافه وغاياته، كتب:

وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء، شدَّدت عليهم وتوقّعت منهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقيّاً من كل ألوان الاستغلال للعلم؛ لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقاً[1].

وبغض النظر عن مصداقية الشهيد الصدر ۔ كفقيه ۔ من حيث توفره على ما افترضته الشريعة من خصائص في الفقية، فثمة مهمة أساسية تتصدر مهام الفقيه، ونعني بها المهمة العلمية التي يفترض أن يتكفل بإنجازها الفقيه في ضوء الضوابط الشرعية ومعاييرها.

وقد حدّد الشهيد الصدر ۔ فقهياً ۔ هدف (الإنتاج الفقهي) وعملية الاجتهاد إذ يقول: (وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة؛ لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدّد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها)[2]، ولذلك لاحظ السيد الشهيد على الفقهاء استغراقهم في التفكير الفردي وتقزيم الشريعة وتجزئة الاجتهاد وتضييقه.

وانطلاقاً من هذه الملاحظة شرع الشهيد في ملء الفراغ الذي تشكو منه المكتبة الفقهية، فكان كتابه (اقتصادنا) انعطافاً كبيراً في حركة الاجتهاد والإنتاج الفقهي، وكان كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) تحضيراً لاستنزال الفقه إلى الشارع وإلى حياة المجتمع البشري المسلم، في ظل المعطيات وتعقيدات الأوضاع الاقتصادية التي تخلّف الفقه عن مواكبتها لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، فيما كانت (الفتاوى الواضحة) تجسيداً لهموم الفقيه المجاهد والدؤوب على الحركة، لخلق أكثر الشروط ملاءمة لانطلاقة حضارية جديدة، يتاح للإسلام فيها القيمومة على حياة الإنسان.

وفي زحمة همومه(ره) كفقيه تنبّه إلى حجم التحديات والإشكالات التي تعيق حركة الفقه كعلم وتشريع حاكم يمارس قيمومته أو يفترض أن يمارسها، وقد حدّد وفقاً لحجم هذه التحديات معالم مشروعه الثقافي في إطاره الفقهي، لترشيد الذهنية الفقهية وتعميقها من جهة، وتعميم المعطيات الفقهية التي أنتجتها حركة الفقه ودورته العلمية والاجتماعية على أكبر قطاع اجتماعي، وتنمية فاعليته في الحياة.

تعميق الثقافة الفقهية

كان من أبرز معالم مشروعه ۔ الشهيد الصدر ۔ الثقافي خطواته الجريئة ودوره الكبير في تعميق التفكير الثقافي وتأصيله. ومعاناته في هذا المجال واضحة، على مستوى طرق الاستدلال، وقراءة النصوص، بدقة متناهية وعقلية مرهفة وملاحظات متعاقبة، فضلاً عن البعد الاستثنائي الذي تميزت به دراساته في حقل الفقه، من عمق وجدّة إلى درجة لا يترك معها لخلفائه ۔ من فقهاء وباحثين ۔ ما يمكنهم إضافته أو تجديده. وتلك خصوصية استثنائية تؤطّر دراسات الشهيد الصدر على تنوعها، وتصنّفها ضمن الإبداعات التاريخية لا الرائدة وحسب.

وقد لا تسمح هذه السطور بمواكبة إبداعه الفقهي تفصيلياً ودوره الريادي فيه، لجهة الطابع الاختصاصي لهذا الحقل العلمي، وما يفرضه من قراءة دقيقة ومتأنية للنصوص الفقهية وملاحقتها في ثنايا البحوث والدراسات العالية في هذا المجال. وربما نوفّق فيما يأتي من بحوث في الإشارة إلى بعض معالم مدرسته الفقهية وملامحها الرئيسة، على مستوى المنهج وعلى مستوى الخصائص.

ومهما يكن من أمر، فلا يخفى على القرّاء ۔ على اختلاف وتباين ثقافاتهم واختصاصاتهم ۔ الدور الريادي للشهيد الصدر في كتابة البحث الفقهي المعمق والمعاصر في آن واحد، والذي تمظهر في كتابيه: (اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام)، إلى درجة لم يظهر معها إلى الآن كتاب في المكتبة الإسلامية يوحي بشيء من المضاهاة لهذين الكتابين، في الوقت الذي لم يفكر فيه الشهيد الصدر أن يكونا كذلك، بل افترض فيهما ۔ معاً ۔ أنهما بداية الطريق، وأنهما مجرد اقتراحات فكرية ولبنات تأسيسية قابلة للتطوير والتأصيل.

وعوداً على بدء يمكن القول: إن (اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام) هما الكتابان الفريدان من نوعهما في المكتبة الفقهية، اللذان توفّرا على عنصري المعاصرة والوفاء بمتطلبات العصر والدقة العلمية فقهياً. ولا أجد أدنى مبالغة في تأكيد هذه الملاحظة، فما نتوفر عليه ۔ اليوم ۔ في المكتبة الإسلامية، إما أن يكون معاصراً خلواً من الاختصاص العلمي ۔ الفقهي، وإما أن يكون وفياً للمنهج الفقهي التقليدي على نحو تغيب فيه روح المعاصرة ومعالجة الإشكاليات الحديثة غياباً تاماً.

أما على المستوى الفقهي ۔ تقليدياً ۔ فقد قُدّر للشهيد الصدر أن يلقي أبحاثه الفقهية العالية في ظرف زمني يقرب من العشرين عاماً تخرّج من مجلسه عدد من الفقهاء ومن يقرب من درجة الفقاهة، وأنتجت هذه الممارسة الفقهية كتابه الفقهي المعروف بـ(بحوث في شرح العروة الوثقى) في أربعة أجزاء دون أن تكتمل، لتضيع أبحاثه الأخرى على خلفية همجية النظام الحاكم، وتشاغل طلابه عن مواصلة المسيرة والوفاء لمدرسة أستاذهم.

ولو قُدّر ۔ على الأقل ۔ لكتابه ۔ هذا ۔ الاكتمال لأعطى للمكتبة الفقهية بعداً لم تألفه الكتب الفقهية السابقة على قيمتها العلمية والتاريخية، باعتبارها بحوثاً تعبّر عن ممارسة علمية فقهية كتبت بقلم الفقيه ۔ الأستاذ ۔ نفسه دونما اختزال أو خرق لمراحل الاستدلال الفقهي كما هي عادة الفقهاء.

تعميم الثقافة الفقهية

ولئن كان تعميق الثقافة الفقهية هو الأبرز في مشروع الشهيد الصدر الثقافي فقهياً، فإنه لم يمنعه من التفكير بتعميم الثقافة الفقهية في الوسط الاجتماعي، باعتبارها القانون (القيّم) على حياة الإنسان المسلم، والذي يحدّد وفقاً لها موقفه تجاه الأشياء والأحداث.

وكما هو العلم بالقانون لا يختص بمواطن دون آخر، فالفقه كـالقانون لا يختص بمسلم دون آخر؛ لأنه مشاع والناس فيه سواء. أما موضوع التخصص به فهو ينحصر بالاستدلال الفقهي وطرقه وحجيته ومستويات نتائجه ومعطياته، فضلاً عن الصناعة والتكييف الفنيين لأحكامه.

ووفقاً لهذه الملاحظة سعى السيد الشهيد إلى تفعيل الفقه في حياة المسلم، وانفتاح الأخير على هذه الثقافة انفتاحاً مباشراً، بعيداً عن الاتكالية المطلقة. وباعتبار أن ما يعرف بـ(الرسالة العملية) هي النافذة الرئيسة لإطلالة المسلم على الفقه، فقد توجّهت جهود السيد الصدر إلى إعادة النظر في هذا الفن الفقهي ودرجة تفاعل المسلم المقلِّد معه وانفتاحه عليه، وقد لاحظ أن هذا النوع من الكتابة الفقهية لا زال تقليدياً إلى حد كبير من جهة، ووفياً إلى اللغة القديمة والتقسيم الموروث من جهة أخرى، كما لاحظ على هذا الفن الفقهي أنه لا يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولا يربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تعطَ فيه المسائل التفريعية والتطبيقية وصفها الصحيح بما هي أمثلة صريحة لقضايا أعم منها؛ لكي يستطيع المقلِّد أن يعرف الأشباه والنظائر؛ وبذلك فات المقلِّد أن يكوّن لنفسه الثقافة الفقهية المطلوبة على الأقل.

وقد تخطّى الشهيد الصدر هذه الملاحظات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) حيث تكفّل ذلك بتعديل كبير في اللغة الفقهية، وتغيير جذري للتقسيم الشكلي لمسائل الفقه وموضوعاته. ولم يأنف السيد الشهيد عن التخلي عن اللغة العلمية الاختصاصية ورموزها وطلاسمها لصالح المسلم المقلِّد، وحاول ۔ قدر الإمكان ۔ تزويده بثقافة فقهية للأساس الشرعي، لما اشتملت عليه الفتاوى من أحكام شرعية، والذي عنون له بـ(مصادر الفتوى)، كما تدرّج في عرضه للمسائل لغة واصطلاحاً وقاعدة، لينتهي في التطبيقات المنتزعة من حياة المقلِّد نفسه.

وسيأتي الحديث مفصلاً في إنجاز السيد الشهيد على مستوى تطوير (الرسالة العملية) على مستوى الشكل والمضمون واللغة.

تحديث الخطاب الفقهي

وعلى صعيد الخطاب الفقهي لاحظ الشهيد الصدر غياب المنهج الواقعي الذي يجسّد حقيقة الترابط بين التشريعات الإسلامية وقيمومتها على حياة المسلم كفرد ومجتمع ودولة، ورفض ضمناً التقسيمات الشكلية الموروثة لمسائل الفقه، على خلفية ما توحي به من تجزيئية وتغييب لعدد كبير من التشريعات في أحايين كثيرة، فعمد إلى تقسيم جديد يقوم على أساس حضور الحقيقة المشار إليها ۔ آنفاً ۔ في حياة المسلم.

وانطلاقاً من النظرة الواعية لرسالة الإسلام وهدفها في صياغة الإنسان، وضع تقسيمه الشكلي (الرباعي) للفقه كبديل عن التقسيم الموروث، والذي يبدو فيه الفقه أكثر حيوية وأكثر انسجاماً مع الهدف والغاية، فشمل تقسيمه: العبادات والأموال بقسيمها الخاص والعام، والسلوك الخاص والعام.

وللأسف أن تتعثر جهوده في إكمال المشروع، إذ صدر منه الجزء الأول فقط، والذي ضم القسم الأول منه.

وإنما عمد السيد الشهيد إلى هذا التقسيم الجديد دون غيره من التقسيمات الموروثة والمتعارفة في الكتب الفقهية والرسائل العملية؛ فذلك نظراً إلى ما تقدمه هذه الرسائل من انطباع للشريعة وفقاً لهذه التقسيمات؛ إذ أن (أكثر الرسائل العملية تقدّم عادة الصورة المحدودة؛ لأنها تتعامل مع فرد متدين يريد أن يطبّق سلوكه على الشريعة رغم تواجده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة)[3] دونما إشارة إلى البعد المجتمعي للأحكام الشرعية والأبعاد الأخرى المرتبطة بفقه الدولة وحركتها.

أما على مستوى النص الفقهي نفسه فإنه يفتقر إلى تغيير كبير يأخذ بنظر الاعتبار تطور أساليب التعبير اللغوي من جهة، وتعقّد الحياة وأساليبها ونشوء أوضاع جديدة من جهة أخرى؛ لذلك افترض الشهيد الصدر في الرسالة العملية أن تكون قادرة على (مواكبة التطور الشامل في مناهج ووقائع الحياة) وهو ما أخذه بنظر الاعتبار في رسالته (الفتاوى الواضحة)، وإن كان قد تردد في أخذه في بحوثه ودراساته العليا، واعتذر عن مثل هذا التحديث على أمل توفر الشروط الموضوعية لإنجازه.[4]

تأصيل التفكير الفقهي

وقد نبّه السيد الصدر في وقت مبكر إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقه، في مقام استنباط الحكم الشرعي والكشف عنه من أدلته المعتبرة شرعاً، وهي مناهج تتحدد ۔ أساساً ۔ طبقاً لهدف الاجتهاد نفسه، الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفراداً ومجتمعات ودولة.

وكمدخل لهذا التفكير لاحظ السيد الشهيد على الفقيه بشكل عام انصرافه إلى تغطية حاجات الفرد المسلم فقهياً، والاستغراق في تلبية هذه الحاجات على حساب الجانب المجتمعي وفقه الدولة، وهو انصراف أملته الظروف التاريخية، حيث أدت إلى انكماش هدف الاجتهاد في وعي الفقيه ليختزله في المجال التطبيقي الفردي، فضلاً عن تسرّب الفردية إلى النظرة الفقهية نحو الشريعة نفسها، لتسود عدة قواعد فقهية مطلقة من قبيل (الاحتياط) و(لا ضرر ولا ضرار)، دونما تمييز بين المجال الفردي والمجتمعي.

كما أدى ذلك إلى غياب الضابط الموضوعي للتمييز بين الأحكام الشرعية وبين الأحكام الولايتية.

وربما تساعد هذه الرؤية على حل بعض الإشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص وفي المجالات الحيوية تحديداً، وعلى سبيل المثال نشير إلى مسألة حصر الزكاة في (الغلات الأربع)، وهي مسألة خطيرة جداً، إذ تستثني الغلات الأخرى على أهميتها ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.

ومن المعلوم أن الموقف الفقهي السائد يميل إلى حصر الزكاة في هذه (الغلات الأربع) دونما تعدٍّ إلى غيرها إلا بالعناوين الثانوية ۔ إن أمكن ذلك ۔ كما لو فرض الحاكم الشرعي الزكاة على ما سوى الغلات الأربع، وهو موقف تبنّاه السيد الشهيد نفسه.[5]

وفي إطار الملاحظة السابقة حذّر الشهيد الصدر من محاولات تقزيم الشريعة تبعاً للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتجه نفسياً نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة، وهو منهج لم يقتصر تأثيره على إخفاء بعض المعالم التشريعية، بل أدى ۔ أحياناً ۔ إلى التضليل في فهم النص التشريعي.

ومن جهة أخرى لاحظ السيد الشهيد على المنهج الفقهي السائد أنه يميل إلى التجزئة في مقام فهم النصوص الشرعية، على خلفية الابتعاد عن الواقع وعلاقة هذه النصوص به، من حيث أنها تطبيقات له وفيه.

وقد كتب السيد الشهيد في تقرير هذه الملاحظة ما نصه:

.. ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه؛ ولهذا سوّغ الكثير لأنفسهم أن يجزّئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له. وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب الإجارة، فهناك مسألة هي: أن المستأجر هل يجوز له ۔ بدوره ۔ أن يؤجّر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الإيجار؟ وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهى عن ذلك، والنصوص كعادتها في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصة، فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور. ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة اجتماعية عامة على أساسها سوف نتوقف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة، وبأن النهي مختص بتلك الموارد التي صرّحت بها النصوص دون غيرها. وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية لا على مستوى التقنين الاجتماعي فإننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة[6].

وقد جاءت تعليقة السيد الشهيد على هذه المسألة من كتاب الإجارة في (منهاج الصالحين)[7] منسجمة إلى حد كبير مع هذه الملاحظة، فعمّم الحكم على سائر الأعيان، ولم يقتصر على الأعيان المشار إليها في النصوص.

وقد نبّه السيد الشهيد إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تسهم به هذه النظرة في تذليل بعض المشاكل الفقهية وفي مقدمتها ما يمكن أن نسمّية بـ(تشظي) الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن (كثيراً من الأحكام بُيّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة ولم تُبيّن بصورة ابتدائية وبلغة تقنينية، والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها، فيجيء الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيّناً للحكم في الحالة المسؤول عنها، فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب، كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي مُني بها السائل في حياته العملية وأبرزها في سؤاله، مع أننا قد نكون واثقين بأن بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنما نشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات، وأما إذا فهمنا النص فهماً اجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام).[8]

وربما تكون هذه الفكرة التي أشار إليها السيد الشهيد هي أول مساهمة علمية من فقيه كبير لتذليل بعض الصعوبات الكبيرة التي تعترض عملية الاستنباط والبحث الفقهي، وقد جاءت ۔ تاريخياً ۔ كتعليقه على ما كتبه الفقيه المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (فقه الإمام الصادق) والذي دعا إلى فهم اجتماعي للنص الفقهي مستثنياً فقه العبادات.

ويمكن أن تخفّف هذه الفكرة من غلواء الطابع التعبدي وتعميمه ۔ فقهياً ۔ لجميع الأحكام الشرعية، العبادات منها والمعاملات على السواء.

وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى الجمود الحرفي على النصوص الشرعية خارج حقل العبادات، وكمثال على ذلك نذكر مسألة (بيع العبد الآبق) الذي ورد فيه نص خاص أجيز بمقتضاه بيعه مع الضميمة استثناء من قاعدة شرطية القدرة على التسليم، وقد جرت مباحثات فقهية بين الفقهاء، حول مدى مشروعية التعدي إلى غيره في البيع، بل في الإجارة أيضاً. والرأي المعروف ۔ فقهياً ۔ هو عدم جواز التعدي.[9]

لكن يلاحظ على الشهيد الصدر قوله بالتعدي من المورد الخاص إلى غيره، وقد علّق على (منهاج الصالحين) وتحديداً في مسألة عدم جواز بيع غير المقدور على تسليمه ولو بالضميمة بقوله:

المنع عن بيعه مع الضميمة مشكل، بل لا يبعد الجواز، بمعنى أن كل ما كان يجوز جعل الثمن بإزائه ابتداءً، يجوز جعله بإزاء المجموع منه ومن غير المقدور على تسليمه.[10]

وربما يكون السيد الشهيد أول من نبّه إلى دور المفاهيم الإسلامية في الإشعاع على بعض الأحكام الشرعية وتيسير مهمة فهم النصوص الشرعية، وهذا ما أشار إليه السيد الشهيد في كتابه (اقتصادنا) بشكل واضح.[11] لكن تحسن الإشارة إلى أن دور المفاهيم الإسلامية في هذا الإشعاع إنما يمكن خارج إطار فقه العبادات وخارج إطار النظرة الفردية للأحكام الشرعية.[12]

فقاهة فريدة

لا يخفى على أحد انتماء السيد الشهيد إلى مدرسة أهل البيت(ع) بل وإلى المدرسة الأصولية ۔ نسبة إلى أصول الفقه ۔ تحديداً، فمصادر التشريع عنده هي المصادر المعتبرة ۔ شرعاً ۔ في هذه المدرسة، والآليات التي يعتمدها في التفكير الفقهي هي الآليات السائدة فيها. ويجد الباحث عدداً من المناقشات التي خاضها السيد الشهيد مع الأخباريين كما في بحث حجية ظواهر الكتاب[13]، وفي بحث الاحتياط الشرعي[14]، وفي بحث حجية العقل[15]، وفي بحث الأساس النظري لحجية الإجماع[16].

لكن الملاحظ على مناقشاته مع الأخباريين غياب الانفعال عنها، واتسامها بسمة الحياد النفسي والطابع الموضوعي، وقد يكون في مقدمتها مناقشته لدعوى بعض الأصوليين فيما نسبوه إلى الأخباريين من حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة[17]، أو تأثر الحركة الأخبارية بالنزعة التجريبية الحسية التي نشأت في أوروبا كما نقل عن السيد البروجردي[18].

وقد ردّ السيد الشهيد هذه الدعاوى بلغة علمية وموضوعية بالغة الدقة.[19] وقد حدّد السيد الشهيد انتماءه الفقهي ۔ والفكري العقيدي عموماً ۔ إلى مدرسة أهل البيت(ع) في مقدمة كتابه (الفتاوى الواضحة) وذلك عن طريق تشخيص المصادر الشرعية للفتاوى التي اعتمدها، وقد حدّدها بـ: الكتاب الكريم والسنة الشريفة (المنقولة عن طريق الثقات المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم).[20]

ولا يزيدنا الشهيد الصدر شيئاً في خصوص الكتاب الكريم، فهو بلا إشكال المصدر الأول في التشريع الإسلامي عند المسلمين على تعدد مشاربهم وتنوع اتجاهاتهم. والأمر نفسه في خصوص السنة الشريفة التي لا يختلف المسلمون على كونها المصدر الثاني للتشريع، إنما هناك خلاف بين المسلمين في شمول السنة لغير النبي(ص) إذ ترى مدرسة أهل البيت(ع) أن السنة شاملة لغير النبي من الأئمة من أهل بيته الطاهرين (إذ تعتبر أقوالهم والنصوص الصادرة عنهم كالقرآن الكريم والسنة النبوية مصدراً تشريعياً يرجع إليها في مجال التعرف على أحكام الشريعة المقدسة).[21]

لكن ينبغي التذكير إلى أن هناك خلافاً في أوساط مدرسة أهل البيت(ع) من حيث طبيعة قول الأئمة وفعلهم وتقريرهم، وهل هو عبارة عن بيان للتشريع الصادر عن النبي(ص) وأنه بمثابة تشريع مستقل؟

وهنا لا يخفي السيد الشهيد في أبحاثه ميله إلى القول الأول، إذ يقول ما نصّه:

.. إن تغيّر أحكام الشريعة عن طريق النسخ يكون أيضاً أحد العوامل المستوجبة للتعارض بين الأحاديث والنصوص، ولكن التعارض على أساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي(ص) ولا تعمّ النصوص الصادرة عن الأئمة(ع) لما ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي(ص) وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلا بياناً لما شرّعه النبي(ص) من الأحكام وتفاصيلها.[22]

لكن مع ذلك ذكر الشهيد الصدر (أن تشريع الأحكام ۔ على ما يشهد له بعض الأخبار ۔ كان متدرجاً حتى بلحاظ زمان الأئمة المعصومين(ع)، حتى أن بعض الأحكام استبقي لزمان ظهور الحجة)[23] مما لا يكون منسجماً مع فرض كون الأئمة(ع) في مقام بيان الأحكام التشريعية الصادرة عن النبي(ص)، ذلك لأن استبقاء بعض هذه الأحكام إلى ظهور الحجة على خلاف المقصود من التشريع؛ لذلك قد يريد السيد الشهيد بالتدرج ما ذكره هو في أبحاثه الأخرى، مما أسماه (التدرج في البيان) إذ قال ما نصّه:

ومن أهم عوامل نشوء التعارض بين الروايات أيضاً، أسلوب التدرج الذي كان يسلكه أئمتنا(ع) في مجال بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله وكل أبعاده دفعة واحدة وفي مجلس واحد في أكثر الأحيان، بل كانوا يؤجّلون بيان التحديدات والتفاصيل إلى أن تحين فرصة أخرى، أو يتصدى الراوي بنفسه للسؤال عنها ثانية.[24]

وهذا معنى منسجم مع مهمة البيان؛ لأن بيان الأحكام موكول إليهم، وهم أمناء عليه، فلابد أنهم يقومون به وفقاً لوظيفتهم في إيصال الحكم الشرعي إلى المكلفين وبيانه إليهم.

وهذا كله بالنسبة للكتاب والسنة الشريفة، أما الأهم في كلام السيد الشهيد وهو بصدد تحديد مصادر الفتوى، فهو إشارته إلى مركز العقل والإجماع ودورهما في استكشاف الحكم الشرعي، فإنه وإن اختار حجية العقل على ما هو مختار الأصوليين خلافاً للأخباريين فإنه قال:

وأما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا؟ فنحن وإن كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به، ولكنا لم نجد حكماً واحداً يتوقف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة.[25]

وبصدد الإجماع فإنه من وجهة نظر السيد الشهيد (ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنة وإنما لا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات).[26]

ولذلك لم يعبأ السيد الشهيد بالإجماع في عدد من المسائل التي ادعي الإجماع عليها، من قبيل: الإجماع المدعى على نجاسة البئر بالملاقاة وإن لم يحصل التغير[27]، ومن ذلك مناقشته الإجماع المدعى على نجاسة الخمر[28]، وإن كان هو نفسه يلتزم بالنجاسة ولكن بوجه فقهي آخر. ومناقشته هذه لا نجد لها مثيلاً في أبحاث ودراسات نظرائه من الفقهاء.

وفي الإطار نفسه تشكيكه بصدقية الإجماع المدعى على نجاسة الكافر بنحو يشمل الكافر الكتابي، بل وبنحو يشمل غيره ۔ أيضاً ۔ باستثناء المشرك.[29]

ولكنه قد يعتمد الإجماع في الحالات التي يكشف فيها عن الحكم الشرعي، ويظهر ذلك في بعض التطبيقات، التي قد يكون من أوضحها ما ورد في بحثه في حجية البينة، ومدى صلاحية الاستدلال بالإجماع على حجيتها. كتب السيد الشهيد ما نصّه:

الثالث من الوجوه: الإجماع، ولا ينبغي الاستشكال فيه لمن لاحظ كلماتهم في الموارد المتفرقة في الفقه، التي يستظهر منها المفروغية عند الجميع عن حجية البينة على الإطلاق، فإن كان هذا الإجماع مستنداً إلى رواية مسعدة بن صدقة، كان بنفسه سبباً صالحاً للوثوق بالرواية، وإن كان مستنداً إلى استظهار الكلية من روايات القضاء، فهذا بنفسه يؤكد عرفية هذا الاستظهار وصحته، وإن كان غير مستند إلى ما تقدم فهو إجماع تعبدي صالح لأن يكشف عن تلقي معقده بطريق معتبر؛ فالاعتماد على الإجماع في المقام بمثل هذا البيان ليس ببعيد.[30]

ومما استقرب صلاحية الإجماع للاستدلال به، ذلك في مسألة طهارة الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، فإنه وإن أمكن المناقشة فيه ببعض المناقشات، كتب السيد الشهيد:

.. وهذا الإجماع بصيغته الفتوائية حاله حال الإجماع المتقدم في دم ما لا نفس له، من حيث ورود تلك المناقشات عليه، غير أنه بالإمكان صياغته في المقام بإرجاعه إلى الارتكاز وعمل أصحاب الأئمة(ع)، ومن بعدهم من المسلمين إلى زماننا هذا، فإن هذا البناء العملي والقولي الموروث على معاملة الدم المتخلف معاملة الطاهر، مع عدم ورود أسئلة عنه في الروايات رغم كثرة ابتلاء الناس والرواة بالمسألة وكونهم قد سألوا الأئمة(ع) عن أشياء أقل أهمية في حياتهم اليومية. فأقول: إن مثل هذا الإجماع القولي والعملي كاشف عن وضوح الطهارة في أذهان المتشرعة من أصحاب الأئمة(ع)؛ إذ احتمال غفلتهم عنه موضوعاً أو حكماً ينفيه كون الدم المتخلف محل ابتلائهم في حياتهم اليومية كثيراً، وكون حكم نجاسة الدم مركوزة في الجملة في أذهانهم، وافتراض أنهم سألوا عنها وأفتاهم المعصوم(ع) بالنجاسة، ومع ذلك لم يصل إلينا كلامه، ينفيه أن شيوع الابتداء بها يستلزم تظافر نقل الحكم بالنجاسة لو كان، وتأكيد الأئمة(ع) والرواة على ترسيخه في ذهن المتشرعة من أصحابهم، فلا يبقى إلا أن يكون ذلك باعتبار موافقة المعصومين(ع) مع ما هو مقتضى الطبع العقلائي والأولي من عدم استقذار ما يتخلف في الذبائح بعد خروج المتعارف الكاشف عن طهارته شرعاً، وكون الطهارة على وفق الطبع الأولي مع عدم وجود ردع عنها هو الذي يفسّر لنا عدم وقوع السؤال من الرواة عن طهارته كثيراً، وعدم توافر الدواعي على نقلها كذلك.[31]

وإن لم يصلح الإجماع مستنداً ومدركاً فلا أقل من اقتضائه للقول بالاحتياط من وجهة نظر السيد الشهيد في عدة موارد منها ۔ على سبيل المثال لا الحصر ۔ الاحتياط في طهارة الدم المتخلف مما لا يؤكل لحمه؛ لشبهة الإجماع المدعى من قبل عدد من الأصحاب على النجاسة، مع أن الصحيح عنده هو عدم الفرق بين ما كان في الذبيحة المأكولة وغير المأكولة.[32]

وعوداً على بدء، يمكن القول: إن الفقاهة إنما تتحقق بالتوفر على التالي:

أولاً: الاطلاع الكبير على الأدلة التفصيلية وخاصة الأخبار.

ثانياً: فهم الأخبار والأدلة ۔ بشكل عام ۔ وتحديد دلالاتها.

ثالثاً: أن يكون هذا الفهم عرفياً، ووفقاً لأصول المحاورات العقلائية، بعيداً عن الدقة العقلية وتحميل النصوص أكثر مما تحتمله من فروض وصور غير متعارفة وغير واقعية.

وفي ضوء ما ذكرناه يمكن الإشارة إلى عدة سمات طبعت مدرسة الشهيد الصدر على المستوى الفقهي، نشير إليها على نحو مختصر.

السمة الأولى: الإحاطة والشمول

لعل من أبرز سمات المدرسة الفكرية للسيد الشهيد ۔ عموماً ۔ والفقهية بشكل خاص توفرها على خصيصة الإحاطة والاستيعاب لموضوعات البحث الفكري، ودراسة الإشكاليات التي تكتنف البحث بشمولية فريدة ومميزة.

وسمة من هذا القبيل قلما توفر عليها مفكر وبشكل عام، بحيث تستوعب تمام الموضوعات التي تقع في دائرة اهتمامه.

ولا يخفى في هذا المجال سعة هذه الدائرة في مدرسة الشهيد الصدر، التي تنوعت اهتماماتها وتعددت اتجاهاتها الفكرية، بحيث شملت حقولاً فكرية متعددة قد لا يجمعها جامع، من قبيل التاريخ والفلسفة والمنطق والاقتصاد، فضلاً عن علوم الفقه والأصول والتفسير وعلم الكلام.

وعلى هامش هذه الملاحظة يمكن أن نشير إلى شدة إعجاب الشهيد الصدر بمدرسة الشيخ الأنصاري، على خلفية تميُّز الشيخ الأنصاري بالقدرة على التفريع والتنظير وفقاً لمبانٍ عديدة واتجاهات مختلفة[33].

وعوداً على بدء يمكن القول: إن ما أضفى هذه السمة ۔ الإحاطة والشمولية ۔ على المدرسة الفكرية للسيد الشهيد هو توفره على عدة خصائص يتصدرها الصبر العلمي والذهنية الوقّادة المبدعة، فقد أتاحت له الخصيصة الأولى ۔ الصبر العلمي ۔ قدرة هائلة على متابعة موضوعات بحثه، ورصد أطراف البحث على سعتها وتشعّبها، من تعدد الاتجاهات إلى التطور التاريخي لهذه الاتجاهات،[34] فضلاً عن الإلمام بدقائق هذه الاتجاهات، مما أتيح له ما يمكن تسميته بالنقض على الاتجاهات الأخرى وفقاً للمباني المتبناة لأربابها.[35]

وبغية التحرر من العمومية في الحديث يمكن أن نشير إلى أهم التطبيقات الفقهية التي تكشف بوضوح عن السمة المشار إليها.

وفي هذا الإطار نُنوّه ببحثه المميز في تحقيق قاعدة الطهارة[36] بشكل لا يعثر الباحث على نظير له في الأبحاث الأخرى، بما فيها المتأخرة التي عُرفت بالتحقيق والتنظير.

وفي الاتجاه نفسه نشير إلى بحثه في طهارة الكتابي[37]، بما لا يجده الباحث في الأبحاث الفقهية الأخرى. وللمقارنة يمكن الرجوع إلى (مستند العروة الوثقى) للسيد الخوئي و(مستمسك العروة الوثقى) للسيد الحكيم كأحد أهم كتابين فقهيين في القرن الأخير.

والحال نفسه في بحثه الذي عقده لمسألة نجاسة الخمر[38]، فقد اشتمل على نكات وملاحظات لم تشتمل عليها دراسة أو بحث فقهي، خاصة بلحاظ الجمع بين الروايات المختلفة بل والمتعارضة.

كما يمكن أن نشير إلى بحثه المميّز في مسألة اعتصام ماء البئر[39]، ومعالجته للوجوه الصناعية التي ابتكرها الفقهاء في هذا الصدد، وهو بحث طريف جداً لا نظير له في الدراسات الفقهية المعاصرة فضلاً عن الدراسات القديمة.

ولا ننسى الإشارة إلى أبحاثه الطريفة الأخرى والتي تفرّد فيها ۔ أيضاً ۔ من قبيل بحثه في مسألة الأسآر[40]، وبحثه في نجاسة العصير العنبي[41]، وكذلك بحثه الطريف في الوجوه الفنية ۔ فقهياً ۔ للجمع بين ما دل من الروايات على (أن الموات كلها للإمام) وبين ما دل منها على (أن ما أخذ بالسيف فهو ملك للمسلمين) فإنه ذكر وجوهاً صناعية لترجيح الطائفة الأولى غير مسبوقة.[42]

كما يمكن مراجعة بحثه المدرسي في الاستدلال على طهارة الماء بعد فرض عدم الإشكال في المطهرية،[43] وبحثه في إطلاق الماء والمجازية وعدمها[44] في هذه المسألة.

ومما يمكن أن يكون شاهداً على كثرة التفريع والاحتمالات ما يظهر في بحثه الطريف في تحديد اسم (كان) في جملة (إذا كان ذكياً) مما ورد عن الإمام(ع) في حكم فأرة المسك، فإنه احتمل تسعة احتمالات[45]، لم أعثر على بحث يضاهيه في مثل هذه الوجوه والاحتمالات، ويمكن مراجعة كتابي (المستند) للسيد الخوئي و(المستمسك) للسيد الحكيم كأهم كتابين في الفقه في القرن الأخير.

ولا يقلّ عن ذلك أهمية بحثه في تحديد الكر[46]، وكذلك بحثه في التغير التقديري[47]، فيما إذا كان موجباً للنجاسة أو لا.

السمة الثانية: الدقة والتأني

ونلاحظ أن الصبر العلمي ۔ الذي طبع حياة الشهيد الفكرية ۔ كان قد أورثه الدقة والتأني في معالجاته الفكرية. ولا تجد في آثاره الفكرية ما يوحي بالخلاف، فهو مفكر من طراز قليل النظير، شعاره في حياته الفكرية الرؤية المستقلة والوضوح الفكري والثقافي، وهو ما أتاح له المتابعة الدقيقة لموضوعات بحثه، ووفّر له في الآن نفسه الحس النقدي، الذي أكسبه قدرة هائلة على التفكير والتأمل والتحليل، بعيداً عن التأثيرات الفكرية التي يفرضها الواقع العلمي أحياناً كثيرة.

ولما كان الحديث ۔ في هذه السطور ۔ منحصراً في الحقل الفقهي وما يتصل به من شؤون، نكتفي بالإشارة إلى عدة تطبيقات تكمل الصورة التي رسمناها للسيد الشهيد على المستوى النظري.

1. في فصل (النجاسات) من كتاب الطهارة، وهو بصدد البحث عن نجاسة الكافر، يعثر الباحث على تتبع دقيق لمدلول هذا المصطلح في الروايات، يؤكد فيه الشهيد الصدر عدم معلومية هذا المصطلح في عصر النص، على نحو يطابق ما هو مرتكز الآن في أذهان المتشرعة، وإن كانت النجاسة مشرّعة على نحو الإجمال. كتب يقول:

.. لأن النجاسة وإن كانت مشرّعة إجمالاً في ذلك الزمان، ولكن المتتبع يكاد أن يحصل له القطع بأن لفظة (النجاسة) لم تكن قد خصصت للتعبير عن القذارة الشرعية، وإنما كان يعبّر عنها بتعبيرات مختلفة في الموارد المتفرقة؛ ولهذا نلاحظ أن مجيء لفظ (النجاسة) في مجموع الأحاديث المنقولة عن النبي(ص) إما معدوم وإما نادر جداً، لا في طرقنا فقط بل حتى في روايات العامة التي تشتمل على ستمائة حديث عن النبي(ص) في أحكام النجاسة، ولم أجد فيها التعبير بعنوان النجس إلا في روايتين: في إحداهما نقل الراوي أن رسول الله(ص) قال: إن الهرّ ليس بنجس. وفي الأخرى نقل أن صحابياً واجه النبي(ص) وهو جنب فاستحى وذهب واغتسل واعتذر من النبي فقال(ص): سبحان الله إن المؤمن لا ينجس.

وهذا يكشف عن ضآلة استعمال لفظة النجاسة ودورانها في لسان الشارع، الأمر الذي ينفي استقرار الاصطلاح الشرعي بقرينة حالية خاصة، وهي ظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية، فلو حمل اللفظ على النجاسة غير الشرعية الاعتبارية لكان هذا إخباراً من قبل المولى عن أمر خارجي، وهو خلاف الظهور الحالي المذكور[48].

2. خصيصة التأني وفّرت للسيد الشهيد رصد مظاهر الخطأ والاشتباه، وهو أمر طبيعي وإنساني، إنما نريد التأكيد على أن حسن الظن بالكبار والرموز الفكرية ورجال الفكر قد يؤدي إلى تكرار الخطأ واجتراره، غير أنه قد يختفي مع الدقة والتأني واستقلالية التفكير، ونلاحظ ذلك في عدد كبير من التطبيقات في مطاوي دراسات وأبحاث الشهيد الصدر، إنما نكتفي بذكر بعضها:

أ ۔ في مسألة نجاسة العصير العنبي حالة الغليان، استدل بعض الفقهاء على النجاسة برواية معاوية بن عمار[49]، والتى ورد في بعض صيغها أنه (خمر) فتثبت النجاسة؛ بناءً على ما يعرف بلغة الأصوليين بالحكومة، لكن نوقش في الرواية على مستوى المتن على أساس التهافت بين صيغة الرواية المشار إليها وصيغة (الكافي) للكليني التي لم تشتمل على هذه اللفظة. وثمة عدد من التقريبات. إنما ما يهمنا هو ملاحظة السيد الشهيد على الصيغة التي ورد فيها لفظة (خمر) إذ لاحظ السيد الشهيد أن أول من استدل بهذه الرواية بصيغتها المشار إليها هو الملا أمين الأسترابادي ۔ أحد الفقهاء المتقدمين على أصحاب المجاميع الثلاثة ۔ وأنه اشتبه في نقلها، وذكر أنها رواية محمد بن عمار، كما أنه لم يسندها إلى كتاب التهذيب بالخصوص، بل لاحظ السيد الشهيد أنه لم يجد في كتب السابقين على الملا أمين الأسترابادي الاستدلال بهذه الرواية بصيغتها المشتملة على لفظة (خمر) بل صرّح جملة من الفقهاء منهم الشهيد الأول بأنه لم ير دليلاً على نجاسة العصير العنبي، بينما ذكر بعد سطرين من ذلك أن الفقاع نجس؛ لأنه أطلق عليه الخمر في كلام الإمام(ع)، فلو كان وقف على كلمة (خمر) في رواية التهذيب لكان من المترقب أن يشير الشهيد الأول إلى إمكان استفادة النجاسة من ذلك.[50]

ب ۔ في معرض مناقشته للروايات التي استدل بها بعض الفقهاء ۔ في مقابل المشهور ۔ على نجاسة ولد الزنا، ذكر السيد الخوئي أن من جملة ما استدل به الروايات الناهية عن الاغتسال من البئر الذي تجتمع فيه غسالة ماء الحمام، معللاً ذلك بأن فيها غسالة ولد الزنا، أو بأنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا، فناقش السيد الخوئي دلالات هذه الأخبار، ثم أردف بقوله:

وذكره ۔ ابن الزنا ۔ مقارناً للنصارى واليهود لا يقتضي نجاسته؛ إذ النهي بالإضافة إليهم أيضاً مستند إلى الاستقذار العرفي كما أشير إليه في بعض الروايات…[51]

وقد علّق السيد الشهيد على ما ذكره أستاذه السيد الخوئي قائلاً:

.. غير أنا لم نجد عطف اليهودي والنصراني على ولد الزنا في أي رواية من الروايات الناهية عن الاغتسال من بئر ماء الحمام، حتى تتوهم قرينيته على النجاسة، وإنما ذكر الناصب كما في هذه الرواية، أو الجنب أو الزاني، كما في بعض الروايات الآتية، اللهم إلا أن يريد مرسل الوشّاء الآتي، غير أنه لم يذكر فيه ماء الحمام أصلاً.[52]

ج ۔ بل أكثر من ذلك فإنه لاحظ على أستاذه السيد الخوئي ۔ في مبحث عرق الجنب من الحرام ۔ أنه نقل الإجماع على النجاسة؛ إذ قال السيد الخوئي في (التنقيح): (بل عن الأمالي أن من دين الإمامية الإقرار بنجاسته، وظاهره أن النجاسة إجماعية عندنا).

في وقت لا يظهر من كتبهم ۔ كما يقول السيد الشهيد ۔ سوى عدم جواز الصلاة في الثوب الذي عرق فيه الجنب من الحرام، ولا نعلم باستلزام ذلك في نظرهم النجاسة.[53]

3. وفي الاتجاه نفسه سجّل السيد الشهيد تحفّظه على عدد من الدعاوی العلمية ۔ إن صح التعبير ۔ التي أتيح للسيد الشهيد اكتشاف زيفها وعدم صدقيتها، على خلفية خصيصة الدقة العلمية والتأني أثناء التأمل الفكري. ويمكن أن نشير إلى عدد من هذه الدعاوی التي ناقشها السيد الشهيد في هذا الإطار:

أ ۔ في نجاسة البئر أو اعتصامه بملاقاة النجاسة، ثمة طائفتان: إحداهما دلت على النجاسة والأخرى دلت على الاعتصام وعدم النجاسة لمجرد الملاقاة، وقد رجّح بعض الاتجاهات الفقهية أخبار النجاسة بعد فرض استحكام التعارض؛ وذلك بدعوى أنها متواترة إجمالاً خلافاً للطائفة الأخرى، فتكون الأخيرة من الروايات المخالفة للسنة القطعية، فتتقدم عليها الطائفة الأولى.

وبغض النظر عن المناقشة الأساسية التي ناقش بها السيد الشهيد هذا التكييف الفقهي لهذا الوجه، فقد ردّ دعوى التواتر الإجمالي، وشرح كيفية تشكّل التواتر الإجمالي ومدى تأثره بالمعارض.[54]

ب ۔ بصدد إثبات قاعدة (لا ضرر..) ثمة عدد من الطرق التي ذكرها الشهيد الصدر؛ بغية إثبات سند القاعدة ومدركها، منها: دعوى التواتر الإجمالي على نحو يمكن أن يقطع معه الفقيه بصدور سند هذه القاعدة على نحو الإجمال.

غير أن السيد الشهيد ناقش في هذه الدعوى؛ إذ كتب يقول:

هذا إلا أن الإنصاف قلة روايات الباب بدرجة لا تكفي حتى مع وحدة الموضوع المطروق فيها جميعاً لحصول التواتر؛ لأن الطائفة الأولى اثنتان يرويها راوٍ واحد وهو زرارة، والطائفة الثانية اثنتان منها تكونان في طرقنا بسند واحد وراوٍ واحد، وهو عقبة بن خالد، ورويت من طرق العامة عن عبدالله بن عباس وعبادة بن الصامت، والطائفة الثالثة كلها مراسيل.

نعم، قد يضم إلى ذلك شهرة هذه الرواية شهرة عظيمة جداً عند العامة والخاصة منذ قرون طويلة، فيدعى حصول الاطمئنان بصدور مثل هذا المضمون عن النبي(ص)[55].

وهذا التمييز بين حصول التواتر الإجمالي من الروايات أو حصول الاطمئنان بفعل عوامل أخرى ضروري جداً؛ لئلا تختلط الأمور ويصبح من السهل تسويق الادعاءات بلغة علمية.

ج ۔ وقد ردّ السيد الشهيد دعوى حصول التواتر الإجمالي للروايات في مسألة إثبات حجية خبر الواحد بالسنة، وذلك على نحو يمكن أن يقطع معه الفقيه بصدور بعض الأخبار التي يمكن أن يستدل بها على حجية خبر الواحد.

وقد تمنّى السيد الشهيد على الفقهاء والأصوليين أن تكون هذه الدعوى موضع عنايتهم واهتمامهم العلمي على غرار أبحاثهم في دلالة آية النبأ وغيرها مما استدلوا به على حجية خبر الواحد (.. فإنهم لو كانوا حققوا أو دقّقوا النظر حقاً في أخبار الباب، كتدقيقهم في آية النبأ والنفر لعرفوا أنه لا تواتر أصلاً في المقام، فإن ما يدل منها على حجية خبر الواحد معدود جداً، ويوجد في كتاب جامع الأحاديث للسيد البروجردي(ره) ما يكون حوالي 170 حديثاً مما يستدل به على حجية خبر الواحد، بينما الواقع أن حوالي مائة وخمسين منها غير دال على المقصود أبداً).[56]

د ۔ بل يسجّل السيد الشهيد تحفّظه ۔ على مثل هذه الدعاوی ۔ بلغة مشوبة بالأسى العلمي، ولا يخفي امتعاضه تجاهها، وتجاه تسويقها واجترارها دونما تدقيق أو تحقيق.

يقول السيد الشهيد تعليقاً على موقف بعض العلماء من أخبار التثليث[57]:

ثم إنه من العجيب ما يدّعى في الكتب الأصولية من أن أخبار التثليث لا تحتاج إلى مراجعة أسنادها؛ لأنها بالغة حدّ التواتر أو ما يشبه التواتر، مع أنه لا يوجد لدينا خبر يدل على التثليث إلا عن ثلاثة فقط:

أحدهم: نعمان بن بشير المقطوع فساده، والآخر عمر بن حنظلة الذي هو محل الكلام والبحث في وثاقته وعدم وثاقته، والخبر الآخر: ضعيف سنداً، وكأن هذا التوهم نشأ ۔ بعد فرض عدم مراجعة مصادر الرواية ۔ من كثرة ذكر حديث التثليث في كتب الأصول، وكثيراً ما ينشأ مثل هذه الدعاوی من عدم مراجعة مصادر الرواية، فينبغي مراجعتها حتى لا يقع الإنسان في مثل هذا الاشتباه.[58]

وهذه الملاحظة النقدية التي يذكرها السيد الشهيد بصدد تعليقه على تواتر أخبار التثليث، تسري على مجموعة من الدعاوی التي يسوقها البعض في هذا الاتجاه سواء كانت في حقل الفقه أو الأصول أو التاريخ، وهي جديرة بالتأمل.

4. ولا تقتصر خصيصة الدقة والتأني في حياة الشهيد الفكرية على حقل دون آخر، وقد يلاحظ الباحث أنها حاضرة بشكل متساوٍ ۔ ربما ۔ في الحقول المعرفية التي اهتم بها السيد الشهيد.

وفي الإطار الفقهي يمكن أن نشير إلى حضور هذه الخصيصة في ما يتصل بتحقيق صدور الروايات ۔ مستند الأحكام الشرعية ۔ إذ لاحظ بدقة وعمق شديدين الخلل في بعض الأسانيد مما لم يكتشفه بعض أكابر أهل الحديث والرواية.

وثمة عدد من التطبيقات:

أ ۔ بصدد التعليق على رواية هشام بن الحكم عن الصادق(ع) أنه سأله عن الفقاع؟ فقال: (لا تشربه فإنه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله).[59]

سجّل السيد الشهيد على الشيخ الحر العاملي أنه لم ينبّه إلى الفرق بين طريقي الشيخ الكليني الذي وقع فيه الإرسال، وبين طريق الشيخ الطوسي عن الكليني في التهذيب من دون الإرسال.[60]

ب ۔ في تعليقته على أسناد رواية إسماعيل بن جابر المتيقنة الصحة عند المشهور[61]، والتي استدل بها الفقهاء على تحديد مقدار الكر، لاحظ السيد الشهيد على المشهور أنهم لم يتفطنوا إلى إسنادها بشكل دقيق؛ وذلك لأنهم اقتصروا على ما نقله الحر العاملي في الوسائل، دونما رجوع إلى مصادر الوسائل والتهذيب والاستبصار؛ ليتعرفوا الفرق بين ما ورد في الوسائل وبين ما ورد في التهذيب والاستبصار، حيث ورد السند في الوسائل كالتالي: عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أيوب بن نوح عن صفوان عن إسماعيل في الوقت الذي ورد السند في التهذيب والاستبصار بشكل مختلف، فورد في الاستبصار كالتالي: (أخبرني الحسين بن عبيدالله عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن محمد بن أحمد بن يحيى..) وورد في التهذيب: (أخبرني الشيخ أيّده الله عنه أحمد بن محمد بن الحسن عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد بن يحيى..).

وفي كلا السندين من لم تثبت وثاقته؛ ولذلك يردّ على المشهور تصحيحهم السند بإرجاعه إلى محمد بن أحمد بن يحيى عن طريق تصحيح بعض الطرق الصحيحة إلى كتاب محمد بن أحمد بن يحيى؛ وذلك لأن الشيخ لم ينقل الرواية عن كتاب محمد بن أحمد بن يحيى كما هو ظاهر تصريحه بطرقه ووسائطه إلى الرواية في التهذيب والاستبصار.[62]

ج ۔ وتبدو القدرات الفائقة للسيد الشهيد على مستوى تحقيق الأسانيد في عدد من الأبحاث الطريفة في هذا الاتجاه، سواء في دفع الإشكالات السندية أم في تكريس هذه الإشكالات تارة أخرى.

ويمكن مراجعة بحثه الطريف في تصحيح السند إلى رسالة (قطب الدين الراوندي) التي ألّفها في أحوال أحاديث الأصحاب.[63] وكذلك بحثه في تحقيق ما يعرف بـ (أصل زيد النرسي)، فهو وإن لم يكن يصحح إسناده، إلا أنه اشتمل على عدد مهم من الملاحظات لم تكن معروفة لدى أقرانه ونظرائه من الفقهاء.[64]

وقد بلغت دقته وحسّه النقدي أنه لا يعوّل كثيراً على تصحيحات أسلافه من الفقهاء، وإن كان بعضهم من أهل الإبداع. ويمكن أن نشير إلى ما سجّله من ملاحظة على أستاذه السيد الخوئي وعلى السيد الحكيم في تصحيحهم رواية علي بن يقطين المروية عن أبي الحسن(ع): (في الرجل يتوضأ بفضل الحائض، قال: إذا كانت مأمونة فلا بأس)[65] فقد لاحظ السيد الشهيد على السيدين أنهما عبّرا عنها بالموثقة[66]، وهي ليست كذلك؛ لأن الشيخ يرويها بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال عن أيوب عن محمد بن علي، وإسناد الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال ضعيف بوجود من لم يوثّق فيه، وهو علي بن محمد بن الزبير.[67]

السمة الثالثة: قوة الشخصية

الخصائص العلمية التي توفر عليها السيد الشهيد ۔ بما أشرنا إليه تفصيلاً أو في مطاوي البحث ۔ أكسبته شخصية قوية وذات استقلال فكري كبير.

وقد انعكست هذه السمة بوضوح في فتاواه وآرائه الفقهية أو في طريقة تفكيره الفقهي، والتي انعكست ۔ أيضاً ۔ في كتاباته ودراساته الفقهية على مستوى التأصيل والاستدلال.

ويمكن أن نشير إلى عدد من المسائل الفقهية المهمة التي أفتى فيها السيد الشهيد على خلاف الرؤية الفقهية السائدة، فيما يعرف بالمشهور أو المعروف أو المجمع عليه.. وإن لم يفتِ به فلا أقلّ من تحفّظه على ما هو كذلك.

وسرد بعض هذه المسائل قد يدعّم الاستنتاج المشار إليه أعلاه، ومن هذه المسائل:

1. تحفّظ السيد الشهيد على الفتاوى المشهورة والمدّعى الإجماع عليها في خصوص نجاسة الكافر من غير الكتابي؛ ولذلك أفتى السيد الشهيد بالاحتياط في هذه المسألة على إطلاقها خروجاً من شبهة المخالفة فيما أفتى بطهارة الكتابي، وكل من حكم بكفره من منتحلي الإسلام.[68]

وقد تبعه على ذلك بعض الفقهاء المعاصرين[69]، فيما عمّق آخرون وجهة نظره على مستوى الفتوى بالطهارة على الإطلاق في هذه المسألة.[70]

2. كما تحفّظ السيد الشهيد على الفتوى المشهورة في خصوص نجاسة كل مسكر مائع بالأصالة؛ إذ أفتى بنجاسة خصوص الخمر، وهو المتخذ من العصير العنبي، دون غيره من المسكرات وإن كانت حراماً.[71]

3. وقد أفتى السيد الشهيد بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس الجامد الخالي من عين النجاسة، على خلاف المشهور عند الفقهاء.[72]

4. كما أفتى ۔ على خلاف المشهور ۔ بعدم حرمة مسّ المحدِث لاسم الجلالة وسائر أسمائه وصفاته إذا كانت في غير القرآن. كتب السيد الشهيد في (الفتاوى الواضحة) في معرض حديثه عن حرمة مسّ المحدِث كتابة المصحف الشريف يقول:

.. وإذا لم تكن الكلمة القرآنية أو الآية في المصحف، بل كانت بكتاب أو برسالة أو بطاقة تهنئة أو ورقة تعزية أو نقش خاتم ۔ فيجوز للمحدث أن يمسها.[73]

وكان قد علّق السيد الشهيد على فتوى السيد الحكيم بالاحتياط الوجوبي في هذه المسألة بقوله: (هذا الاحتياط ليس بواجب).[74]

5. تحفّظ السيد الشهيد على ما عرف عند مشهور الفقهاء ۔ إن لم يكن المجمع عليه عندهم ۔ من وجوب الغسل على المرأة بتحقق الجنابة ولو من غير الجماع؛ إذ شكّك السيد الشهيد بما عرف من وجود المني عند المرأة، ولذلك أفتى بالاحتياط في مثل هذا الفرض. فكتب السيد الشهيد: (المني بالمعنى المعروف في الرجل غير موجود في المرأة، فإذا أنزلت ماء من دون شهوة فليس عليها غسل، وإذا أنزلت ماء بشهوة احتاطت بالغسل وضمّت إليه الوضوء إذا كانت محدثة بالأصغر).[75] وقد عمّق هذه الفكرة بعض الفقهاء،[76] وتبعه آخرون فيها لكن مع الاستشكال في النتيجة.[77]

6. اعتبر السيد الشهيد مبدأ تحقق النفاس ۔ عند المرأة ۔ وعدّ الأيام العشرة هو رؤية الدم، لا من يوم الولادة، كما لعله المشهور المعروف عند الفقهاء.[78]

7. استشكل السيد الشهيد ۔ على خلاف ما هو المشهور ۔ في جواز أخذ الهاشمي زكاة الهاشمي، فكتب في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم الذي أفتى بجواز أخذ زكاة الهاشمي للهاشمي: (.. على المشهور المدعّم بروايات عديدة، ولكنها جميعاً لا تخلو عن إشكال، كما يظهر بالملاحظة، والاحتياط سبيل النجاة).[79]

8. كما استشكل في ثبوت الخمس في الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، على خلاف ما هو المعروف المشهور عند الفقهاء، فكتب في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم: (لا تخلوا المسألة من شوب إشكال).[80]

وقد عمّق الإشكال المذكور بعض تلامذته كما في كتاب الخمس.[81]

9. كما تحفّظ السيد الشهيد على ما اشتهر عند الفقهاء من التخيير في الصلاة بين القصر والتمام في الأماكن الأربعة: المسجد الحرام ومسجد النبي ومسجد الكوفة والحائر، فكتب في تعليقته على المنهاج: (في نفسي شيء من هذا التخيير، فلا يترك الاحتياط باختيار القصر).[82]

10. وتحفّظ ۔ أيضاً ۔ على اشتراط السوم في وجوب الزكاة على الأنعام، وكذلك في شرطية عدم كونها من العوامل على خلاف ما هو المشهور المعروف عندهم.[83]

11. كما شكّك في ما عرف ۔ عند مشهور الفقهاء ۔ من مطهرية الشمس للثوابت، إذ كتب في تعليقته على عدّ الشمس في المطهرات: (لا تخلو أصل مطهرية الشمس من إشكال).[84]

12. وتحفّظ على ما هو المشهور عند الفقهاء من عدم جواز بيع ثمرة النخل والشجر قبل ظهورها عاماً واحداً، بل هو المجمع عليه كما عن صاحب الجواهر،[85] فمال إلى الجواز وفاقاً لبعض الفقهاء، فكتب في تعليقته على منهاج السيد الحكيم:

على الأحوط، وللجواز وجه، وفاقاً للمحدث البحراني والمحقق الأردبيلى(قده) بلحاظ أنه لم يرد ما يعتد بدلالته في مورد عدم الظهور إلا رواية الحلبي؛ لأن غيرها من روايات المنع وارد في مورد الظهور قبل بدو الصلاح، وفي مقابل ذلك روايتا بريد والحلبي، وهما يصلحان قرينة على حمل النهي على الكراهة أو حفظ النظام، أو بنكتة تعرض المعاملة للانفساخ بعدم ظهور الثمر. ولو سُلّم عدم الجواز فلا يبعد جواز استئجار البستان سنة واحدة بلحاظ منافعه المتيقنة، ويشترط المستأجر على المؤجر على نحو شرط النتيجة أن تكون ثمرته له على تقدير ظهورها.[86]

13. كما تحفّظ ۔ أيضاً ۔ على ما هو المعروف المشهور عند الفقهاء من اشتراط إسلام الذابح في حلّية الذبيحة، وعدم حلية ذبيحة غير المسلم ولو مع صدور التسمية منه؛ ولذلك أفتى بالاحتياط، فيما إذا سمّى الكافر ۔ الكتابي ۔ على الذبيحة، خلافاً لما هو المشهور من عدم حلية ذبيحته سمّى أم لم يسمّ.[87]

14. وتحفّظ على ما هو المعروف من حرمة استقبال القبلة على المتخلي؛ ولذلك أفتى بالاحتياط،[88]خلافاً للمشهور.

15. في التزامات الزوجة تجاه زوجها، وتحقق عنوان النشوز وعدمه، فصّل السيد الشهيد بين ثلاث حالات فذكر في تعليقة:

الزوجة تارة تكون مؤدية للزوج كل حقوقه الشرعية، وأخرى معلنة تمرّدها على الزوج والحياة الزوجية بترك البيت أو بمقاطعة الزوج في داخل البيت أو حرمانه من الاستمتاع على أساس رفض التعايش معه كزوجة، وثالثة وسطاً بين الأمرين، كما إذا امتنعت في بعض الأحيان عن الاستمتاع بدعوى عذر وبالتماس التأجيل إلى وقت آخر مما لا يخرجها عرفاً عن كونها زوجة منسجمة، وإن كانت آثمة بعدم التمكين، ولا شك في وجوب النفقة في الحالة الأولى كما لا ينبغي الشك في عدم وجوب النفقة في الحالة الثانية، وأما في الحالة الثالثة فالمشهور بين العلماء سقوط النفقة فيها، ومال البعض إلى وجوبها وهو الأحوط.[89]

16. وقد نقل عن السيد الشهيد ۔ وكما يظهر من بعض تلامذته[90] ۔ أنه كان يقول بجواز الموسيقى التصويرية، والتي كان يفسّرها ۔ كما نقل عنه ۔: أنها ما يكون صوتها مشابهاً لصوت شيء في الطبيعة ۔ كصوت العاصفة أو نزول المطر أو تغريد البلبل أو غير ذلك.

وقد ناقش بعض تلامذته في ذلك بأنه صحيح بهذا المقدار، وبعبارة أخرى إذا كانت الموسيقى التصويرية، إذ يرى أنه الموسيقى التصويرية عبارة من هذا التفسير فلا بأس بذلك، وإنما الكلام في ما هو المفهوم عرفاً من الموسيقى المنفردة الهادئة التي تعزف باستمرار بمناسبة ما، فيكون منها جوّ موسيقي متناغم ومستمر حسب ما يراه العازف مناسباً، ولا تعارض بصوتها حديثاً أو خطاباً أو أي شيء آخر، وبذلك تكون هذه الموسيقى تابعة للغناء، فإذا كان لهوياً فهي حرام، ولا إشكال ۔ من وجهة نظره ۔ في أن الموسيقى التصويرية بجميع أشكالها عادة لهوية فتكون محكومة بالحرمة.[91]

ولكن بالعودة إلى تعريف الموسيقى التصويرية يمكن أن نحدّد الموضوع ۔ موضع النقاش ۔ فهي إنما سميت بهذا الاسم (لأنها تحتاج إلى برنامج لشرح مصاحباتها الخارجية، وهي تحاول أن توقظ في ذهن المستمع شيئاً من الارتباط بالمعاني والموضوعات الخارجية، كأن تحكي قصة أو تصوّر مشهداً أو تستثير خاطراً).[92]

ولذلك فلا يمكن الحكم عليها بأنها لهوية إلا إذا كانت بصدد إثارة جوّ يمكن أن يصدق عليه عنوان محرّم.

17. وقد تحفّظ على مشروعية الاستخارة ۔ كما نقل عنه بعض تلامذته على ما يظهر من بعض عباراته ۔ وذلك لجهة عدم احتمال حصول سبب مما وراء الطبيعة يتدخل في نتيجة الخيرة ۔ وعليه فتكون نتيجة الخيرة متوقفة على حصول المعجزة وهو مما لا يحتمل حصوله، وعليه فتكون النتيجة مجرد صدفة، وليس ثمة تدخّل إلهي فيها، وعندئذ ينتج بطلان الاستخارة على الإطلاق.[93]

18. كما نقل عنه ۔ كما يظهر من عبارات بعض تلامذته ۔ أنه لا يفتي بحرمة اللعب بالورق؛ وذلك لعدم صدق عنوان (آلات القمار) عليها، ولذلك فهي محكومة بالحلية بالعنوان الأولي، إنما كان يفتي بحرمة اللعب بها بالولاية لا بالفتوى.[94]

19. وقد ميّز السيد الشهيد بين شرائط المقلد ۔ بالفتح ۔ وبين الشرائط التي ينبغي توفرها في (المرجع) الذي يتولى الولاية العامة، ففي وقت اشترط فيه الشرائط ذاتها التي اشترطها المشهور في المقلد ۔ بالفتح ۔ في الفتوى، فإنه اشترط، إضافة إلى ذلك في (المرجع) في الولاية العامة، أن يكون كفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً.[95]

وتجدر الإشارة إلى أن مخالفة المشهور والخروج على الإجماعات السائدة في المدرسة الفقهية ليس مما يلجأ إليه الفقيه بشكل مزاجي وكيفي، وإنما يتجاوز هذه الخطوط الحمراء بفضل قدراته العلمية وما يتاح له من مناقشة هذه المقولات السائدة، التي قد تشكّل قيداً على حرية بعض الفقهاء، وقد لا تشكّل قيداً على حريتهم، كما لو كان الفقيه واثقاً من قدراته العلمية، مطمئناً إلى نتائج بحثه.

ولذلك فلا يتجاوز السيد الشهيد مثل هذه (الخطوط الحمراء) إن لم يكن ثمة ما يبرّر ذلك، كما لو كان ثمة تسالم أو ارتكاز متشرعي يكشف عن الحكم الشرعي بدرجة ما من الوضوح، وإن لم يكن ثمة دليل لفظي أو غيره يصلح أن يكون مستنداً للحكم. وكمثال على ذلك فقد ناقش السيد الشهيد الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على شرطية طهارة مسجد الجبهة في الصلاة، إلا أنه مع ذلك أذعن للتسالم والارتكاز في هذه المسألة؛[96] وذلك لأن الارتكاز المتشرعي وتسالم المتشرعة ۔ إن لم يكن ثمة ما ينافي ۔ قد يصلح دليلاً على الحكم الشرعي وكاشفاً عنه.

وإنما نقول بأن التسالم الفقهي قد يصلح دليلاً على الحكم الشرعي؛ لأنه قد يشكّك في قيام مثل هذا التسالم والارتكاز، وقد نجد لمثل هذا التشكيك في مناقشة السيد الشهيد لمسألة دفع إشكال السيد محمد صاحب المدارك الذي ناقش في الإجماع والتسالم على نجاسة الميتة، على خلفية ثلمه من قبل الشيخ الصدوق، فردّ بعض الفقهاء هذا الإشكال بدعوى عدم تأثير ثلم الشيخ الصدوق لمثل هذا التسالم أو الإجماع لتفرّده في هذا الموقف، فناقش السيد الشهيد التسالم المشار إليه وقدرته على الثبات في وقت يخالف فيه الشيخ الصدوق مثل هذا التسالم؛ وذلك لأن دعوى عدم قدح مخالفة الواحد ليست صحيحة في كل مقام وفي كل وقت؛ إذ أنه مخالفة الصدوق القائم على رأس حوزة يكثر فيها الفقهاء والمشايخ قد تكشف عن عدم التسالم الارتكازي على النجاسة.[97]

ولذلك برّر السيد الشهيد تقديم الروايات الدالة على نجاسة المني على الروايات الدالة على الطهارة، وذلك بدعوى الاتفاق العملي من المتشرعة على الاحتراز منه والتجنب عنه[98] والتي يمثّل ارتكازاً كاشفاً عن سقوط هذه الروايات عن الحجية، وبذلك يكون هذا التسالم قادراً على إثبات العكس تارة، كما يكون قادراً على إثبات ما هو المطلوب، كما في الأمثلة المتقدمة.

وقد يتعدى السيد الشهيد في عدم مخالفته للإجماع أو المشهور من التسالم والارتكاز إلى مجرد الوحشة في التفرد بالحكم المخالف. قال السيد الشهيد في معرض حل التعارض بين ما دل من الروايات على أن الأرض التي يسلم أهلها طوعاً فهي لهم، وبين ما دل من الروايات من أن الموات كلها للإمام(ع): (ولكن الصحيح هو الاحتمال الأول، فيكون المعنی أن الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً مما لم يعمروه منها أصلاً لا حدوثاً ولا بقاءً، لهم خصوصاً ۔ إكراماً لإسلامهم ۔ ولعموم المسلمين، فيخصص بالرواية مما دل على أن الموات كلها للإمام(ع)، ولا وحشة فيه إلا وحشة الانفراد في الحكم. هذا في مقام البحث، وفي مقام العمل الخارجي حيث إن الحكم مخالف للمشهور فالاحتياط حسن.[99]

وعوداً على بدء يمكن أن نذكّر: أن قوة الشخصية بما تعبّر عن استقلال في التفكير وتحلل من القيود التي يفرضها المحيط الثقافي ۔ أي محيط ۔ لا يعني التحلل من الثوابت الحقيقية التي تقوم عليها المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها المفكر أو الباحث، أو طريقة التفكير التي تقوم عليها هذه المدرسة.

ولا يخفى انتساب السيد الشهيد إلى المدرسة الأصولية التي تجذّرت واشتدّ عودها على أبطال معروفين في هذا الحقل العلمي من أمثال الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والإصفهاني والعراقي والنائيني والسيد الخوئي أستاذ السيد الشهيد نفسه.

ولذلك نجد سيادة الآليات نفسها في مدرسة الشهيد الصدر، فتركت بصماتها واضحة في فتاواه وطريقة تفكيره ومنهجه في الاستدلال.

ويمكن أن نشير إلى واحدة من أهم المسائل الفقهية التي تكشف بوضوح عن طريقة التفكير هذه، وهي مسألة عدم جواز زواج أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، مع أن النهي الصادر هو نهي متأخر جداً، لم يعرف قبل زمن الإمام الجواد(ع) والإمامين الرضا(ع) والعسكري(ع)، مع أن هذا الحكم مخالف لمقتضى القاعدة، وهو محل ابتلاء المكلفين، فلماذا يتأخر بيان الحكم الشرعي إلى هذا الزمان؟

ولم يجد السيد الشهيد بأساً في الالتزام بهذه النتيجة الفقهية المشهورة، كما يظهر من تعليقته على منهاج السيد الحكيم،[100] وذلك بناءً على ما هو المعروف من (أن الأئمة(ع) كلهم بمنزلة متكلم واحد، فإنهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي(ص)، ولهذا يخصّص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم، فإنه لولا أن كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحد بالخاص من شخص آخر. فإذن يكون الخاص الصادر من الصادق(ع) مثلاً مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين(ع) مثلاً بحسب مقام الثبوت وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الإثبات، وكذا الخاص الصادر من الباقر(ع) مثلاً فكما أن الخاص المقدم زماناً يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له، كذلك الخاص المتأخر يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولاً له، وكلاهما في مرتبة واحدة).[101]

وبغض النظر عن أصل الحكم الفقهي في هذه المسألة، فإنه يمكن أن يقال ۔ كما عن بعض أساتذتنا[102] ۔ أن هذه الروايات الدالة على الحرمة مما صدر عن الأئمة المتأخرين، في وقت لا نجد فيه رواية واحدة مؤيدة لها صادرة عن الإمام الباقر(ع) أو الإمام الصادق(ع) على كثرة ما صدر عنهم من روايات في باب الرضاع، مع أن المسألة من المسائل المهمة، ومما يكثر بها الابتلاء يومذاك. فكيف يمكن أن يلتزم بهذه المقولة الأصولية على إطلاقها؟! فهل يعقل صدور الخاص في مسألة مهمة ۔ تقوم عليها حياة الناس كما في الزواج وغيره من أمور المعاشرة ۔ بعد زمن طويل جداً؟! فهل يمكن الالتزام بتجزئة الأحكام الشرعية على الناس، مع فرض أن الصادر عن الأئمة(ع) هو بيان للحكم الشرعي الذي جاء به النبي محمد(ص)؟!

وربما تكون مسألة وجوب تقليد الفقيه الأعلم من أهم نتائج تفكير هذه المدرسة، بل تجد تشكيك السيد الشهيد ۔ وفقاً لمعطيات هذه المدرسة ذاتها ۔ في بعض معطياتها المعروفة والمشهورة من قبيل قولهم بحرمة تقليد المجتهد، فيكشف السيد الشهيد وفقاً للآليات السائدة نفسها عدم صحة هذه المقولة ۔ على اشتهارها بينهم ۔ وذلك فيما إذا كان الفقيه غير الأعلم يعترف بأنه المفضول وثمة أعلم منه في الفقهاء[103].

لكن تحسن الإشارة إلى بحثه الطريف في كيفية التخلص من الخدش في قيمة آراء وفتاوى غير الأعلم في صورة عدم التفاته إلى أعلمية غيره، فإنه قدّم عدة تصورات يمكن بواسطتها التخلص من هذه الإشكالية، وتبرير حجية فتوى غير الأعلم مع مخالفتها لفتوى الأعلم.[104]

ولكن مع ذلك قد يخرج على بعض المقولات المشهورة في هذه المدرسة من قبيل عدم حجية فتوى الفقيه الميت وبالتالي عدم جواز تقليده ابتداءً، فإنه ينقل عن السيد الشهيد ميله إلى خلاف هذه النظرية، ولكنه لم يلتزم بذلك بالعنوان الثانوي الذي يرى أنه يكفي لتبرير القول بعدم حجية تقليد الميت ابتداءً خشية تقويض الكيان المرجعي.[105]

السمة الرابعة: التواضع العلمي

على أن هذه المدرسة التي تمتعت برصيد علمي وفكري كبير ۔ قل نظيره ۔ تمتاز بتوازن الشخصية والتواضع العلمي الكبير؛ إذ لا يلاحظ على لغتها ومنهجها شيء من الزهو أو الغرور الفكري، الذي قد يلقي بظلاله في أحيان كثيرة على مفكرين وعلماء، فيطبع لغتهم وأسلوبهم بالعنف اللامقصود.

وتجدر الإشارة إلى أن المنهج السائد في أبحاث السيد الشهيد هو الخلق الرفيع واللغة العلمية الموضوعية، بعيداً عن التشنج أو القسوة والانفعال. ولم نلحظ ما يخالف ذلك إلا في موردين اثنين[106] قد يشكّلان أكبر استثناء في لغته المفعمة بالشفافية والهدوء الكبير.

المنهج الفقهي _ ملامح عامة

يمكن إدراج المنهج الفقهي في المنهج النقلي، وذلك لجهة تركيز الفقيه جهده العلمي على اكتشاف الحكم الشرعي ونفض غبار الزمن عن القانون الإسلامي. وإن كان ثمة دور عقلي ما في فهم النص واكتشاف دلالاته فهو دور لا يمكن أن يقلّل من حقيقة تبعية الفقيه لمرجعية قانونية ۔ شرعية ليس بوسعه تجاوزها.

وعلى أية حال يمكن تحديد المراحل الأساسية للمنهج الفقهي بالتالي:

أولاً: مرحلة التوثيق.

ثانياً: مرحلة فهم النص.

ثالثاً: مرحلة الموازنة بين النصوص المختلفة والمتعارضة.

رابعاً: مرحلة استخلاص النتائج.

مرحلة التوثيق

طغيان المنهج النقلي في عملية تفكير الفقيه فرضت عليه أولاً وقبل كل شيء التثبت من المعطيات الأساسية التي يستند إليها في تفكيره وما يؤول إليه من نتائج. وبكلمة أخرى: يتوجب على الفقيه الوثوق بصدور النصوص الشرعية ۔ المدّعى صدورها ۔ عن الشارع، وأنها نصوص صحيحة صادرة عن المعصوم.

وللتثبت من صدور النص الشرعي عن المعصوم يلجأ الفقيه إلى جمع القرائن والأمارات التي تتكفل إثبات صدوره على نحو قطعي أو اطمئناني أو ظني.

وفي هذا الصدد يبرز دور علم الرجال كأحد أبرز العلوم المساعدة على التحقيق والوثوق بنسبة النصوص الشرعية إلى مصدرها الحقيقي، بل يتأكد دوره ۔ علم الرجال ۔ فيما لو بنى الفقيه على حجية خبر الثقة على نحو يكون ۔ خبر الثقة ۔ موضوعاً للحجية لا كأحد طرق الوثوق.

وقد تبنّى السيد الشهيد هذه النظرية أصولياً ۔ نسبة إلى علم أصول الفقه ۔ بل وجمع عدة قرائن تؤكد ذلك[107] ۔ وناقش في الاتجاه الآخر الذي تبنّى حجية الخبر الموثوق بصدوره وأنه لم يكن خبر ثقة.

ولما كان الاتجاه المتبنى ۔ أصولياً ۔ عند الشهيد الصدر هو حجية خبر الثقة، فقد تم تأصيل دور (علم الرجال) في أبحاثه الفقهية على مستوى التحقيق الصغروي في ملاحقة التوثيقات وفقاً لمعطيات علم الرجال ۔ تاريخياً ۔ على مدى الزمن المتقادم ووفقاً لأصول هذا العلم، أو على مستوى التحقيق الكبروي في تأصيل بعض النظريات وتعميقها، كما سنشير إليه في مطاوي البحث.

البحث الصغروي

ثمة مواضع عديدة ۔ قد يصعب حصرها ۔ في أبحاث السيد الشهيد خصوصاً كتابه (بحوث في شرح العروة الوثقى) تُبرز ملكته في التحقيق والتوثيق، إن على مستوى التوثيق السندي، أو على مستوى غير التوثيق السندي، أي التحقيق والتوثيق الأعم من فحص الأسانيد والتحقيق من وثاقة ونزاهة الرواة والاطمئنان إليهم في النقل.

والفوائد الرجالية وغيرها كثيرة في أبحاث الشهيد الصدر، وهي منتشرة هنا وهناك، ربما يتاح لنا ۔ في يوم من الأيام ۔ جمعها وتنسيقها، إلا أننا نشير إلى بعضها كنماذج علمية.

وقد لا يجد الباحث جديداً في تقييمه لبعض الرواة مثل تضعيفه لسهل بن زياد[108] أو عبدالله بن الحسن[109] أو مسعدة بن صدقة[110]، أو ياسين الضرير[111].. وإن كنا لا نعرف الوجوه العلمية التفصيلية لهذه التضعيفات ومدى اختلافها مع الموقف العام لعلماء الرجال، إلا أننا نجد الجديد في بعض التوثيقات، وربما يتفرد بها من بين أقرانه، كما في توثيقه لإسحاق بن يعقوب؛ بناء على حساب الاحتمال تارة، وأخرى على أساس القيمة الخاصة للتوقيع، فإن افتراء توقيع على الإمام في مثل هذا الظرف لا يخلو من احتمالين: إما أنه يكون راويه بدرجة كبيرة من الوثاقة أو كونه على درجة كبيرة من الخبث والسوء، ولا يخفى على الشيخ الكليني مع دقته المعهودة حال إسحاق بن يعقوب ۔ وهو يروي عنه ۔ لو كان على مثل هذه الدرجة من الخبث والسوء، فيقطع بوثاقته.[112]

بل نجد له طريقاً لتضعيف بعض الرواة يختلف عنه الاتجاه العام، كما في تضعيفه لسعد بن طريف وجابر بن يزيد النخعي؛ بناء على اتجاههم الباطني الذي يحاول غلق أبواب المعرفة وتلغيزها بذرائع عديدة.[113]

وثمة عدة تقييمات متناثرة في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية طالت المصادر الحديثية، قد لا يكون بعضها جديداً كما في موقفه تجاه كتاب (الاحتجاج) الذي يشتمل في معظم رواياته على المراسيل[114]، أو تجاه كتاب (عوالي اللآلي)[115] الذي يشتمل على المراسيل فضلاً عن الموقف العام من مؤلفه نفسه، وكذلك تجاه كتاب (الاختصاص) الذي نقل عنه تلميذه السيد الحائرى تشكيكه في صحة نسبة الكتاب إلى الشيخ المفيد[116]، أو تجاه كتاب (فقه الرضا)[117].

بل تجاه كتاب (بصائر الدرجات)، خلافاً لعدد من الأعلام وفيهم أستاذه السيد الخوئي؛ إذ شكك السيد الشهيد في الطريق الذي وصلنا به كتاب (بصائر الدرجات)[118].

وقد اشتملت أبحاثه على تحقيقات ۔ صغروية ۔ إن صح التعبير، وهي وإن لم تندرج في البحث السندي، إلا أنها تندرج فيما يمكن تسميته بالتوثيق والتحقيق، كما في عدد من المواضع المهمة التي تترتب عليها آثار فقهية مهمة[119].

البحث الكبروي

ومن أسف أن لا يجد الباحث نظريات السيد الشهيد وآراءه في علم الرجال مكتوبة بشكل تفصيلي، لكن مع ذلك، ترك السيد الشهيد ۔ في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية ۔ عناوين إجمالية ۔ في الغالب ۔ لنظرياته في هذا الحقل المهم، يمكن أن تكوّن بمجموعها ما يمكن تسميته بـ (الفوائد الرجالية) في أبحاث السيد الشهيد فيما لو أتيح لبعض الباحثين جمعها واستقصاؤها.

1. بخصوص ما يعرف بالتوثيق الإجمالي سجّل السيد الشهيد تحفّظه على ظهور عبارات بعض مؤلفي الكتب الحديثية في إرادة التوثيق العام، كما في إرادة التوثيق العام في عبارة ابن قولويه[120] في مقدمة كتابه (كامل الزيارات) واستظهر أنه ۔ ابن قولويه ۔ في مقام توثيق مشايخه المباشرين لا مطلق المشايخ ممن ورد اسمه في الكتاب كما استظهره السيد الخوئي ۔ في مدة طويلة من الزمن ثم عدل عنه ۔ وآخرون.

ولذلك لم يصحح توثيق أحمد بن هلال العبرتائي[121] بناءً على التوثيق العام في (كامل الزيارات) وكذلك توثيق محمد بن يحيى المعاذي[122]، ومحمد بن إسماعيل[123]، والنوفلي[124]، وزيد النرسي[125]، وإن وثّقه بواسطة قاعدة رجالية أخرى كانت موضع قبوله.

2. وعلى هامش الحديث عن موقفه من استظهار إرادة التوثيق العام في عبارات (ابن قولويه) يمكن أن نشير إلى أننا لم نعثر على موقفه تجاه (التوثيقات العامة) الأخرى، وفي مقدمتها: التوثيق العام لمشايخ النجاشي، وكذلك التوثيق العام لرواة تفسير علي بن إبراهيم.

لكن نقل عنه البعض[126] أنه لا يرى إرادة التوثيق العام لجميع رواة تفسير علي بن إبراهيم، خلافاً لأستاذه السيد الخوئي.

وقد انعكس هذا الموقف في موقفه من توثيق أحمد بن هلال العبرتائي[127] وهو أحد رواة التفسير المذكور، فلو كان يرى التوثيق العام لكان ثقة من وجهة نظره، وكذلك موقفه من توثيق مسعدة بن صدقة.[128]

إلا أنه قبل ما يعرف بتوثيق الشيخ المفيد في الرسالة العددية، والذي شمل عدداً من الرواة، ويظهر ذلك في توثيقه للراوي (عبد الأعلى بن أعين).[129]

3. وفي الإطار نفسه تحفّظ السيدالشهيد على قاعدة توثيق مشايخ المشايخ الثلاثة: الكليني والصدوق والطوسي، وقد انعكس ذلك في موقفه من محاولة تصحيح أحد التوقيعات المروية عن إسحاق بن يعقوب، فإنه لاحظ عليه الخدش فيه ۔ سنداً ۔ على مستويين، أحدهما: عدم توثيق إسحاق نفسه[130]، وثانيهما: عدم توثيق محمد بن محمد بن عصام الكليني ۔ الواسطة ۔ إلا بناءً على التوثيق العام المشار إليه.[131] وقد صرّح السيد الشهيد ۔ في بعض أبحاثه الأصولية ۔ عدم تمامية هذه القاعدة من وجهة نظره.[132] ولذلك تحفّظ على محاولة توثيق أحمد بن محمد بن يحيى.

4. ومن الفوائد الرجالية المهمة التي وردت في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية موقفه من تصحيح بعض روايات الشيخ الصدوق بدعوى روايته لها بنحو الجزم، كما في مرسلته عن الإمام الصادق(ع) في جلود الميتة، فقد علّق الشهيد الصدر قائلاً: (.. والصدوق وإن كان يرويها بنحو الجزم، حيث يقول: سئل الصادق(ع)، إلا أن ذلك لا يكفي في شمول دليل الحجية له، ما دام لا يحتمل في حق مثل الصدوق أن ينقل الرواية عن الصادق(ع) بالحس، أو ما يكون بحكمه، كأن تكون الرواية المذكورة متواترة النقل إلى زمانه، وأن النقل بالنحو المذكور يكشف عن تأكد الصدوق من صدور الرواية، وهذا لا يكفي لحجيتها).[133]

5. ومن الفوائد الرجالية المهمة التي اشتملت عليها أبحاثه الفقهية والأصولية قاعدة (مشايخ الثقاة) الثلاثة أو مطلقاً، وهم المشايخ من الرواة الذين لا يروون إلا عن ثقة. وقد أفاد السيد الشهيد من هذه القاعدة في عدد غير قليل لتوثيق الرواة، كما في توثيق عثمان بن عيسى لرواية أحد الثلاثة: ابن أبي عمير، صفوان، البزنطي عنه،[134] وفي توثيق الحسن بن موسى الخياط لرواية ابن أبي عمير عنه [135]، وتوثيق الحسين بن زرارة لرواية صفوان عنه[136]، وتوثيق برد الإسكاف وسيف التمار لرواية صفوان عنهما[137]، وتوثيق داود الرقي لرواية ابن أبي عمير عنه[138]، وتوثيق إبراهيم بن ميمون لرواية صفوان عنه[139]، وتوثيق عمر بن حنظلة لرواية ابن أبي عمير عنه أو توثيق يزيد المشار إليه الذي روى النص على وثاقته من الإمام(ع).[140]

ومن أسف أن لا يعثر الباحث على الصناعة الفنية التي أثبت بواسطتها السيد الشهيد صحة هذه القاعدة وإن كنا نحتمل أن يكون ذلك بواسطة حساب الاحتمال الذين أفاد السيد الشهيد منه كثيراً في حقول المعرفة التي اهتم بها سواء كانت فقهية أم أصولية أم رجالية.

لكن نبه الشهيد الصدر على عدم جريان هذه القاعدة في مورد التعارض كما لو ورد تضعيف ما بحق الوسيط. وعليه فتسقط الشهادة العامة بوثاقة الوسيط.[141] ولا يقال بالتخصيص؛ لأنه إنما يجري فيما إذا كان العام والخاص منتسباً إلى شخص واحد أو بحكمه على نحو يعلم كون المراد الجدي واحداً.[142]

كما نبّه السيد الشهيد على عدم جريان القاعدة المذكورة في حالات رواية الثلاثة بالواسطة عن الراوي المراد توثيقه، فإنه في مثل هذه الحالة لا يكفي الرواية عنه بالواسطة دلالة على التوثيق أو الوثاقة.

وقد ذكر ذلك السيد الشهيد بمناسبة تعليقه على رواية سليمان الإسكاف فيما رواه عن الإمام الصادق(ع) عن شعر الخنزير[143]، فقد ذكر السيد الشهيد في مقام البحث السندي أن (في سندها سليمان بن الإسكاف وهو لم يوثّق، ولم يرو عنه أحد الثلاثة. نعم، روى عنه ابن أبي عمير بالواسطة وهذا لا يكفي)[144]، فإنه روى عن سليمان الإسكاف بتوسط هشام بن سالم كما في هذه الرواية.

هذا كله في حالة ما إذا كان الوسيط مصرّحاً باسمه كما لو روى ابن أبي عمير رواية عن راوٍ لم تثبت وثاقته، إنما الكلام في مراسيله ۔ أيضاً ۔ فكيف يمكن الإفادة من هذه القاعدة؟

في تعليقه على روايات تحديد الكر، وتحديداً في تعليقه على مرسلة ابن أبي عمير[145] نبّه السيد الشهيد على إشكال مفاده:

أنّا لو سلمنا دعوى الشيخ، يتشكل عموم يقتضي الشهادة من قبل ابن أبي عمير بوثاقة كل من يروي عنه، وحيث إن بعض الأشخاص الذين روى عنهم قد ورد في حقهم معارض أقوى يشهد بعدم الوثاقة، وسقطت من أجل ذلك الشهادة الضمنية لابن أبي عمير بوثاقتهم عن الحجية، فحينما يرسل ابن أبي عمير يحتمل أن تكون الواسطة أحد أولئك الأشخاص الذين سقطت شهادته عن الحجية بالنسبة إليهم، وهذا يعني أنها شبهة مصداقية، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.[146]

وقد أجاب عن الإشكال على مستوى الوسيط الوحيد وأخرى على مستوى تعدده. أما على المستوى الأول فإنه أجاب عنه تارة بتفسير أن أفراد العموم ۔ في شهادة المشايخ ۔ هو الروايات لا الرواة،[147] وأخرى بنفي صدق الشبهة المصداقية على المقام أصلاً،[148] وأخرى بتطبيق حساب الاحتمال على نحو يمكن الاطمئنان الشخصي بوثاقة الوسيط المجهول[149]. هذا على المستوى الأول. وأما على المستوى الثاني فقد أجاب عنه السيد الشهيد على ضوء حساب الاحتمال أيضاً.[150] على أن تطبيق حساب الاحتمال على النحو المذكور للتخلص من إشكال ضعف الوسيط مما يمكن تعميمه إلى غير المشايخ الثلاثة، بناءً على قاعدة استعراض تاريخ الراوي وملاحظة نسبة الثقات في مشايخه، كما أشار إليه السيد الشهيد في تعليقه على بعض روايات الحسن بن محمد بن سماعة.[151]

6. ومن الفوائد الرجالية المهمة التي تعرّض لها السيد الشهيد استطراداً في بعض أبحاثه الأصولية قيمة شهادات التوثيق ومدى تأثرها ببعض العوامل التي قد توجب سقوطها، من قبيل كثرة معارضة روايات الراوي لأمارات أخرى، أو كثرة رواياته المستبعد صدورها من الإمام.

فقد ذكر السيد الشهيد ۔ كما في تقريرات بعض تلامذته ۔ في شرح هذه الفائدة:

بقي هنا شيء، وهو أنه قد تكثر من قبل ثقةٍ الأخبار المتعارضة لأمارات أخرى، والروايات المستبعد صدورها من الإمام، وقد ظهر مما مضى أن خبر الثقة حجة ولو لم يحصل الظن منه لمعارضته لأمارة أخرى، بل ولو حصل الظن بخلافه، لكننا نقول هنا: إنه قد يسقط بحسب مقام الإثبات عن درجة الوثاقة بكثرة ابتلاء أخباره بهذا البلاء، توضيح ذلك: أنه إن فرض ثبوت وثاقته لنا بالمباشرة بحساب الاحتمالات، فقد يقع التزاحم بين ذاك الحساب والحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار العجيبة المستبعد مطابقتها للواقع، بنحو يختلّ الحساب الأول في التأثير، وإن فرض ثبوت وثاقته لنا بمثل شهادة الشيخ أو النجاشي(قده) فإن احتملنا أن الشيخ أو النجاشي كان في شهادته مستنداً إلى حساب للاحتمالات غالب على هذا الحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار منه بنحو يوجب العلم بالوثاقة، بحيث لو اطلعنا على ذاك الحساب لوافقنا على ما يقوله الشيخ أو النجاشي كان قوله حجة، وإن اطمأنّا بخلاف ذلك ۔ كما هو كذلك عادة ۔ ورأينا أن شهادته إما ناشئة من عدم اطلاعه على هذه الأخبار منه، أو غفلته عن هذه النكتة التي حتى الآن لم تكن ملتفتاً إليها في علم الأصول، أو تقديمه لذاك الحساب على هذا الحساب باجتهاد غير صحيح عندنا، سقط قوله عن الحجية.

وبهذا البيان الذي ذكرناه يسقط بعض المشهودين بوثاقتهم في علم الرجال عن الوثاقة.[152]

7. وفي قيمة توثيقات المتأخرين وأنها في الغالب توثيقات حدسية اجتهادية لا حسية ۔ كما هي توثيقات المتقدمين من أمثال الشيخ والنجاشي ۔ ناقش الشهيد الصدر في صحة هذه المقولة على إطلاقها، فقد ذكر على هامش موقفه من توثيق أبي البركات علي بن الحسين العلوي الخوزي والذي لم يرد فيه توثيق إلا من الحر العاملي صاحب الوسائل:

أن المقياس في نشوء احتمال الاستناد إلى الحس في مقابل الحدس والاجتهاد ليس هو طول الزمان وقصره فحسب، وإنما تتحكم فيه أيضاً ملابسات ذلك الفاصل الزمني وظروفه، فقد يكون الفاصل قصيراً ولكنه قد مضى بنحو لا يوفّر للباحث ما يحتاجه من المدارك الواضحة التي تستوجب حسية شهادته بالتوثيق أو الجرح، وقد تطول الفاصل الزمني دون أن يضر بما تتطلبه حسية الشهادة من مدارك ومستندات، فمثلاً ترى أن التسلسل النسبي لأسرة علوية قد يكون محفوظاً عبر مئات السنين، فيستطيع أي فرد منها أن ينسب نفسه إلى أبيه ثم إلى جده وجدّ جده وهكذا إلى أزمنة سحيقة من تاريخ آبائه وأجداده، نتيجة الاهتمام الموجود تجاه هذا النسب المبارك، بينما لا يتأتى ذلك في حق الأنساب الأخرى ولو لأزمنة قصيرة من تاريخ الآباء والأجداد.

وعلى هذا الأساس لو لاحظنا السنين التي تفصل بين الشيخ الطوسي(قده) وبين الرواة الذين شهد بوثاقتهم والتي هي أقصر بكثير من الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل(قده) والعلماء الذين يشهد بوثاقتهم ۔ كأبي البركات مثلاً ۔ نرى فارقاً كيفياً كبيراً بين الزمانين يميز الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل وأبي البركات من ناحية إمكانية الحصول فيه على مدارك حسية للشهادة بوثاقته.

وذلك الفارق الكيفي يتمثل في توفّر الضبط في النقل وشدة الاهتمام بمدارك التوثيق والجرح والتعديل وشيوع كتب الرجال والإجازات والأسناد التي هي منفذ اطلاع الباحث على معرفة أحوال الرجال عادة وعدم توفّر مثل هذه المدارك وإمكانات البحث والاطلاع في الفترة الزمنية بين الشيخ الطوسي وأصحاب الأئمة حتى أنه لم ينقل فهرست لأحد من الأصحاب في هذه الفترة غير البرقي(قده)[153].

8. ومن الفوائد الرجالية التي اشتملت عليها أبحاثه الفقهية والأصولية رأيه في ما يعرف من التمييز بين التوثيقات الواردة في كتب الرجال، من حيث القيمة وبين التوثيقات الواردة في غير الكتب الرجالية كما في الكتب الفقهية مثلاً، فإن الموقف العام هو حدسية التوثيقات الواردة في الكتب الفقهية فلا تكون موضع الاعتماد والحجية على خلاف ما يرد من توثيقات في الكتب الرجالية.

والسيد الشهيد وإن لم يتعرض إلى أصل الكبرى والضابط الذي يتم وفقاً له مثل هذا التمييز، إلا أنه ناقش في بعض الصغريات استطراداً كما يظهر ذلك في توثيق عبد الأعلى بن أعين الذي لم يتعرض لتوثيقه الشيخ والنجاشي، إلا أنه تعرض لتوثيقه الشيخ المفيد في (الرسالة العددية) وهي رسالة فقهية، فذكر السيد الشهيد كما في بعض تقريرات بحثه: (وما قد يناقش به في توثيق الشيخ المفيد وغيره من الفقهاء إذا كان في غير كتب الرجال من عدم حمله على الشهادة عن الحس لا يأتي في المقام؛ لأن شهادة الشيخ المفيد بشأن هذا الرجل شهادة مفصّلة وموضّحة؛ لكونه من أولئك الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم، وأنه من الأعلام الذين لا يرتاب في فقههم وعلمهم، وشهادة من هذا القبيل لا يستبعد حملها على الشهادة عن الحس)[154] خاصة وأن الشيخ المفيد من العلماء المتقدمين، ممن عاش في أوائل عصر الغيبة الكبرى، وهو شيخ وأستاذ الشيخ الطوسي.

9. وقد يعثر الباحث على عدد من الفوائد الرجالية ذات الصلة بدلالات التوثيق من قبيل (الوجيه) و(المرضي) الذي استظهر السيد الشهيد دلالتها على الوثاقة[155]، ودلالة (الإمام الزاهد) على الوثاقة، بل على مرتبة عالية من التوثيق لا يلقّب بها إلا أجلّاء علماء الطائفة[156]، كما اعتبر لفظ (مضطرب الحديث) دالاً على الجرح[157]، على خلاف رأي السيد الخوئي الذي لم ير في اللفظ المذكور ما ينافي الوثاقة.[158]

وفي وقت استظهر فيه بعض علماء فن الرجال من صفة الإتقان والإحكام في روايات بعض الرواة ما يدل على الوثاقة، فقد رفض السيد الشهيد دلالة الإتقان والإحكام في روايات راوٍ ما على وثاقته، كما يظهر ذلك في موقفه من الراوي مسعدة بن صدقة؛ إذ ذكر السيد الشهيد أن كون رواياته متقنة ومحكمة إنما يدل على فضله، لا على وثاقته.[159]

10. ومن الفوائد الرجالية المهمة التي يمكن أن تصنّف في دائرة الإبداع ما أدخله السيد الشهيد على المنهج الرجالي بشكل عام من اعتماد حساب الاحتمال في تنقيح بعض الصغريات أو على مستوى القواعد الرجالية وإثبات مصداقيتها، كما يظهر ذلك في اعتماد أو تصحيح قاعدة توثيق مشايخ المشايخ الثقات الثلاثة، أو على مستوى تنقيح بعض المعطيات الرجالية والتحقق من مصداقيتها كما في دعوى وضع (أصل زيد النرسي) فإنه استبعد وفقاً لحساب الاحتمال الوضع بهذه الطريقة[160]، بل في أصل قيمة شهادات الرجاليين بتوثيق الرواة فإنه ۔ السيد الشهيد ۔ أشار إلى ما يمكن أن ينشأ من أمارة مغايرة ۔ على الخلاف ۔ على ضوء حساب الاحتمال.[161]

كما أفاد السيد الشهيد من حساب الاحتمال في إرجاع بعض الروايات إلى الأخرى وكونها ترجع إلى رواية واحدة، على ضوء بعض القرائن التي يمكن تجميعها في هذا الإطار.[162]

11. ومن أهم إنجازات السيد الشهيد في حقل الرجال والبحث الرجالي تنقيحه لما أسماه بـ(نظرية التعويض) وذلك عن طريق تصحيح الخلل الذي يقع في الأسانيد لجهة وقوع الراوي الضعيف فيها، بما يمنع الفقيه من الاعتماد عليه.

جدير بالذكر أن محاولة تصحيح الأسانيد ليست مبتكرة تماماً، فقد حاول عدد من الأعلام الإسهام في إنجاز هذه المهمة، بغية تذليل الصعوبات التي تعترض الروايات على مستوى الأسانيد والاحتجاج بها للخدش السندي فيها، ولعل في مقدمة هؤلاء الأعلام الشيخ محمد الأردبيلي والشيخ المجلسي والسيد بحر العلوم والسيد الخوئي ۔ على ما نقل عنه ۔ أو كما هو موجود في معجم رجال الحديث.

لكن مع ذلك لا يمكن القول: إنه هناك نظرية علمية لتفادي هذه الصعوبات، على نحو يمكن تلمُّس ضوابطها وشروطها في كلمات هؤلاء الأعلام.[163]

وهنا تبدو محاولة السيد الشهيد بما هي إنجاز كبير، بل وابتكار ۔ أيضاً ۔ على عادته في التأسيس والتنظير.

ومن خلال مراجعة كلمات السيد الشهيد في تقريرات بحثه الأصولي أو في ما نقل عن بعض تلاميذه،[164] يمكن أن نحدّد شرائط تطبيق (نظرية التعويض) بما يلي:

الشرط الأول: إنما يمكن تطبيق نظرية التعويض في حالة وجود راوٍ ضعيف ۔ مطلقاً[165] ۔ في سند الرواية، إذا كان فوق الراوي الضعيف راوٍ ثقة[166]، أو كان قبله راوٍ ثقة.[167]

ويمثل للأول بما رواه الشيخ في الاستبصار عن الإمام الكاظم(ع) في الحية والوزغ يقعان في الماء فلا يموت، أيتوضأ منه للصلاة.. بما سنده:

(عن الحسين بن عبيدالله عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن العمركي عن علي بن جعفر)، والطريق ضعيف بالراوي (أحمد بن محمد بن يحيى) الذي لم يرد في حقه توثيق من الرجاليين. ويلاحظ وجود راوٍ ثقة فوق أحمد بن محمد بن يحيى (الضعيف) وهو محمد بن أحمد بن يحيى، وللشيخ طريق صحيح إلى هذا الراوي الثقة، سوى هذا الطريق الضعيف.

ويمثل للثاني ۔ بما افترضه السيد الشهيد افتراضاً[168] ۔ فيما إذا وقع قبل الراوي الضعيف راوٍ ثقة أقرب إلى الشيخ الطوسي من الرواي الضعيف، وكان للثقة المذكور طريق صحيح إلى ثقة أو إلى الإمام مباشرة بما يمكن أن يعوَّض به الخلل الذي وقع في وسط السند.

الشرط الثاني: لكن ينبغي التذكير بعدم كفاية تحقق الشرط الأول؛ وذلك لعدم الاطمئنان برواية الثقة المذكور ۔ سواء وقع قبل أو بعد الضعيف ۔ لنفس (شخص) الرواية التي رواها الراوي الضعيف، ولذلك لابد من افتراض أن الشيخ الطوسي ۔ مثلاً ۔ روى جميع كتبه ورواياته[169] بعدة طرق منها الطريق الضعيف، وطرق أخرى صحيحة، فيصار إلى التعويض بالصحيح عن الطريق الضعيف واستبداله.

ففي المثال الأول الذي ذكرناه في (الشرط الأول) للشيخ الطوسي في (فهرسته) طريقان إلى جميع كتبه ورواياته، أحدهما شخص طريق الرواية، والآخر صحيح، وعليه فإن ظاهر عبارة الشيخ أن تمام ما وصل إليه بالطريق الضعيف وصل إليه بالطريق الصحيح أيضاً، وبذلك يمكن استبدال الطريق الضعيف بالطريق الصحيح، فيتم التعويض.

وقد صحح السيد الشهيد رواية علي بن جعفر عن الكاظم(ع)[170] المشار إليها وفقاً لتوفّر الشرطين: الأول والثاني، وكذلك صحح رواية حفص بن غياث عن الصادق(ع)[171] في عدم فساد الماء بالميتة إلا ما كان له نفس سائلة، بناء على توفر الشرطين أيضاً، على خلاف تصحيح السيد الخوئي[172] للرواية المشار إليها من دون تعرض لكيفية التصحيح ولا إشارة إلى ضرورة توفر الشرط الثاني الذي لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال.

بل يمكن التعدي وتصحيح السند السقيم وتعويضه بالسند الصحيح إذا كان سند الشيخ الطوسي ۔ مثلاً ۔ ضعيفاً وللشيخ النجاشي طريق صحيح سوى الطريق الضعيف الذي للشيخ الطوسي، فيمكن التعويل على سند الشيخ النجاشي، لكن بشرط الاطمئنان بأن ما ينقله الشيخ النجاشي ينقله ويرويه الشيخ الطوسي، وذلك باستظهار عبارة الشيخ النجاشي في كتاب (الرجال) والذي يذكر فيه أن له طريقاً إلى جميع كتب المروي عنه ويذكرها على نحو التفصيل، وكذلك يشير إليها الشيخ الطوسي على نحو التفصيل، فيعلم من ذلك أن ما يرويه الشيخ النجاشي يرويه الشيخ الطوسي، فيتم بذلك التعويض[173].

بل يمكن التصحيح على نطاق أوسع، وذلك فيما إذا كان للشيخ الطوسي ۔ مثلاً ۔ طريق ضعيف إلى أحد الرواة، وكان للشيخ الصدوق طريق صحيح إليه، فإنه يمكن التعويض، وذلك بناءً على استظهار أن حوالة الشيخ الطوسي في خاتمة كتابيه: التهذيب والاستبصار على فهارس الشيوخ، حوالة خارجية تشمل الفهارس التي كانت متداولة يومذاك ومنها فهرس الشيخ الصدوق، أي مشيخته، فإذا استظهر ذلك أمكن التعويض وتصحيح السند[174]، وإلا فلا يتم هذا الوجه من وجوه التعويض[175].

الشرط الثالث: كما يشترط في جريان نظرية التعويض ۔ من وجهة نظر الشهيد الصدر ۔ أن يكون الراوي الثقة الذي يمكن بواسطته التعويض عن السند السقيم ممن بُدئ به السند، بحيث يكون المنسوب إليه من الروايات مما أسند إليه ونسب إليه في كتاب له، لا مطلق وقوعه في السند، وهذا هو المستظهر من عبارة الشيخ الطوسي ۔ مثلاً ۔ في فهرسته من قوله: (أخبرنا بكل رواياته وكتبه..) ولا أقل من الإجمال ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔ فيقتصر على هذا المورد، ولا يتعدى إلى النطاق الأوسع؛ ولذلك عبّر السيد الشهيد عنه النطاق الأوسع ۔ أي إمكانية التعويض لمجرد وقوع الراوي الثقة في السند، وإن لم يبتدأ به ۔ بأن نظرية التعويض بهذا العرض العريض غير مقبول لدينا.[176]

مرحلة فهم النص

في حال ثبتت نسبة الدليل الشرعي ۔ النص ۔ إلى الشارع المقدس على نحو قطعي أو اطمئناني أو ظني معتبر، فإنه يعمد إلى قراءته ومحاولة فهم دلالته.

ولا إشكال أن قراءة الفقيه للنص الشرعي لا تختلف عن قراءة النصوص الأخرى الصادرة باللغة العربية. وربما تفرّد الشارع بأسلوب معين، كما لو قامت القرائن على ذلك، وهو حاصل فعلاً، لكن مع ذلك لا يختلف فهم النص الشرعي عن فهم أي وثيقة مكتوبة باللغة العربية؛ وذلك لجهة أن الشارع في أسلوبه البياني اللغوي لا يبتعد عن الأسلوب العرفي الذي يتبانى عليه الناس ۔ العرف ۔ وفقاً لأصول وقواعد المحاورات عندهم[177]، ولذلك دأب الفقهاء على فهم هذه النصوص وفقاً لما عليه العرف، إلى درجة يمكن أن تكون معها ومرتكزات العرف قرائن للتعميم تارة، وللتخصيص تارة أخرى، كما هو الحال في ما يعرف بقاعدة (مناسبات الحكم والموضوع)، لكن مع ذلك نجد هناك اتجاهاً ۔ لا يستهان به ۔ أخذ يميل إلى قراءة النصوص الشرعية بطريقة فلسفية. ودخلت معها ليس فقط لغة الفلسفة والمنطق وحسب، بل آلياتهما وقواعدهما أيضاً.

مرحلة الموازنة بين النصوص

قد لا تكون قراءة النصوص الشرعية وتحديد دلالاتها عسيرة وشاقّة، خاصة في الإطار التجزيئي، إنما ثمة عدد من المشكلات أضفت على هذه المهمة طابعاً شديد القساوة، معها بدت مهمة الفقيه صعبة وحرجة، فهو مدعو إلى الموازنة بين النصوص[178] التي ربما وجد بعضها ينتمي إلى حقبة زمنية معينة، وأخرى إلى حقبة زمنية مختلفة، مع افتراض كونها صادرة عن مصدر واحد غير متعدد.

هذا مع كون بعض هذه النصوص صادراً في ظرف معين، وبمعنى آخر ليس ثمة إطلاق زماني لمثل هذه النصوص مع افتراض تقييدها بزمن صدورها، كما لو كان صدر عن المشرع بصفته ولياً ومدبّراً للشأن العام لا مشرّعاً ليمكن تعميم الحكم الشرعي إلى الحالات الأخرى على اختلاف أزمنتها.[179]

هذا مع ملاحظة أن بعض النصوص قد يكون صادراً على خلاف أصالة الجهة، بمعنى أنه صادر في ظرف التقية، ولم يكن صادراً عن المشرّع على نحو جدّي ومراد له جداً.

وهنا لابد من التنويه إلى أن هذا العامل من العوامل شديدة الخطورة، ويحتاج الفقيه إلى التعاطي معه بشكل دقيق يفتقر إلى فهم كامل للتاريخ والظرف الذي عاشه المعصوم؛ إذ لم تكن التقية بمستوى واحد عند المعصومين، ففي وقت لا يمكن تصور صدور نص شرعي من النبي(ص) على نحو التقية، فإنه يمكن أن يتصور صدور مثل هذا النص من الإمام على هذا النحو، لكن مع اختلاف ظروف الأئمة(ع) أيضاً.[180]

وقد اختلفت الآراء وتنوعت في المدرسة الاثنا عشرية ۔ في تفسير ظاهرة لجوء الإمام المعصوم إلى خيار التقية من حيث السعة والضيق، ففي الوقت الذي يميل فيه بعض الأعلام ۔ مثل العلامة المجلسي ۔ إلى التوسع ۔ وبذلك حُملت مجموعة كبيرة من الروايات الصادرة عن الأئمة(ع) على التقية ۔ يؤكد البعض الآخر من الأعلام أن هذا الخيار لا يصل إلى هذا المستوى، خاصة وأن الأئمة لم يكونوا بصدد التقية إلا في ما يتصل بالشأن السياسي أو ما يمسّ المرتكزات العامة والاتجاه العام عند المسلمين.[181]

وهنا لابد من الإشارة إلى رأي يتبناه بعض الأعلام ۔ كما عن السيد محمد تقي الحكيم ۔ وذلك بتحديد التقية في الشأن السياسي وما يتصل بهذا الشأن مما يترك حساسية مفرطة لدى السلاطين تجاه الأئمة(ع).[182]

ويبدو من خلال مراجعة كلمات السيد الشهيد أنه لا يحدّد خيار التقية في هذا الإطار، بل يتسع ۔ من وجهة نظره ۔ لهذا الخيار على نحو يشمل ليس ۔ فقط ۔ ما يشكّل تحدياً للسلاطين، بل وما يشكّل تحدياً للمرتكزات الموروثة للعامة، أو للمذاهب الشائعة عند المسلمين.[183]

قال السيد الشهيد ۔ كما في تقريرات بحثه ۔:

وواضح على ألسنة هذه الروايات ما ذكرناه من أن تقية الأئمة لم تكن تحفظاً من الحكّام فحسب، بل كانت مراعاة للناس والمذاهب المختلفة التي راجت عندهم أيضاً.[184]

ولكن مع ذلك لا يبدو هذا الخيار على إطلاقه، فهو خيار لا يتم اللجوء إليه بطريقة جزافية، بل هو آلية أريد منها حفظ النوع والانسجام مع الوسط العام ومحاولة مداراته.

ولذلك لاحظ السيد الشهيد على علمائنا الأقدمين التوسع في تفسير الاختلاف في الروايات والأخبار وردّه إلى خيار التقية وتقديمه على الخيارات الأخرى، في وقت ليس ثمّة ما يبرر اللجوء إلى خيار التقية أصلاً[185]، مما يوحي بغياب الضابط العلمي الذي يمكن بواسطته تحديد ما إذا كان الخبر صادراً على نحو جدّي أو على نحو يناقض أصالة الجد أو الجهة كما يصطلح عليها.

وقد حدَّد السيد الشهيد ۔ كما يبدو من موارد متفرقة في أبحاثه ۔ عدة خصائص للنص الصادر من المعصوم في ظرف التقية، وهو تحديد غير مسبوق فيما أعلم، ويمكن الإشارة إليه بالتالي:

أولاً: لمعرفة ما إذا كان النص الشرعي صادراً عن المعصوم في ظرف التقية لابد من صحة افتراض اتقاء الإمام من الآخر، سواء كان سلطاناً أم كان أمة ومذهباً أم اتجاهاً فكرياً، ففي المسائل التي يعمّ الابتلاء بها ويكون اتفاق العامة فيها على خلاف المتبنى من قبل أهل البيت يبعد عدم وقوع بعض الحالات التي تفرض التقية فيها بيان الحكم على وفقها؛ ولهذا نلاحظ في مسائل من هذا القبيل وجود روايات على طبق مذهب العامة إلى جانب الروايات التي تبين الحكم الواقعي[186]، ويبررها كون الأئمة(ع) في ظرف لا يريدون تحدي ما هو سائد ومتبنى من المذاهب الشائعة السائدة والتي شكّلت الإطار العام للجماعة، بما يعني الإفتاء على خلافه خروجاً على الجماعة وتحدياً لها.

أما لو كان الآخر لا يتمتع بهذه المنزلة والعمق الاجتماعي والديني فإنه لا يعقل أن يكون عائقاً عن التصدي لبيان الحكم الواقعي وإن كان مخالفاً له؛ لأن افتراض التقية بهذا المعنى غير محتمل عادة في نفسه.[187]

وينبغي التنويه إلى أن لجوء الإمام إلى خيار التقية مرتكز على أساس حفظ النوع من جهة، وتدعيم أسس المجتمع الإسلامي وحمايته من الانقسام والتشرذم، وعليه فما يبرّر الإفتاء خلافاً للحكم الواقعي هو تحقيق مصلحة أقوى وأهم في وقت يمكن أن يبيّن الإمام الحكم الواقعي في ظرف آخر بما لا يتنافى وهذه المصلحة الأهم؛ ولذلك فما يصدر عن الإمام في ظرف التقية لا يهدف إلى تبرير الأخطاء أو التغاضي عنها ولو كانت منسوبة إلى الحكّام والسلاطين؛ لأنه من غير الممكن أن نتصور الإمام في منزلة من هذا القبيل في وقت نجد فيه إباء بعض فقهاء العامة عن مثل هذا السلوك، فكيف يمكن تصوره في حياة الأئمة(ع) وهم المعصومون المنزّهون عن كل خطأ؟![188]

وعليه فيمكن حمل بعض الروايات والأخبار على التقية فيما إذا كان ثمّة احتمال معتد به، أما إذا لم يكن ثمة احتمال من هذا القبيل فلا يمكن العمل على التقية، كما لو لم يكن هناك أقوالاً للعامة تبرّر صدور روايات طبقاً لهذه الأقوال والآراء.[189]

ثانياً: أن يتم التعبير عن هذا الخيار ۔ خيار التقية ۔ بطريقة متناسبة واللجوء إليه، وذلك وفقاً للتالي:

1.أن لا يكون التعبير بطريقة صريحة واضحة ومعلَّلة ومفصّلة؛ وذلك لأن (لسان التقية عادة لسان الإجمال والاضطراب لا التفصيل والتعليل والتأكيد)[190]، مما تفرضه طبيعة الموقف من الاضطرار إلى التعبير عن الرأي المخالف للحكم الواقعي، وهو لا يسوِّغ أكثر من التعبير عن الرأي ۔ وفقاً للتقية ۔ خالياً ومجرداً عن كل ما هو تفصيلي أو ما كان مشتملاً على الاستدلال أو التعليل.

ولأجل ذلك استبعد السيد الشهيد حمل روايات طهارة الخمر على التقية ۔ كما هو مختار عدد من الفقهاء إن لم يكن المشهور ۔ وذلك لأن (روايات الطهارة بحسب ألسنتها لا تناسب الحمل على التقية؛ لوضوحها وصراحة بعضها واشتمالها على التعليل بأن الله إنما حرّم شربها لا الصلاة فيها..).[191]

ومثله موقفه من حمل روايات طهارة الكتابي على التقية؛ إذ لاحظ السيد الشهيد على هذه الروايات أنها مما لا يتناسب ولغة التقية وخصوصياتها.[192]

لكن نلاحظ على السيد الشهيد لجوءه إلى حمل بعض الروايات على التقية مع اشتمالها على التعليل أو التفصيل والاستدلال، مما يستبعد معه احتمال التقية، وذلك في موقفه تجاه رواية محمد بن مسلم[193]، الصريحة في إمضاء نفي الآية[194]لمحرّم سوى ما ذكر فيها وإلى الأبد، فحملها على التقية وموافقة العامة، وإن كان ذكر ذلك مضافاً إلى عدم الالتزام الفقهي بالنتيجة المذكورة، وإبائها من حيث السياق عن التخصيص.[195]

2. أن لا يكون الراوي ۔ في الروايات المحتمل صدورها تقية ۔ من المقربين للإمام وما لا يتقي منه، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك؛ ولذلك استبعد السيد الشهيد حمل روايات طهارة الكتابي على التقية؛ لكون بعض رواتها من أمثال علي بن جعفر،[196] أو محمد بن مسلم أو زرارة.

3. أن لا تكون الروايات ۔ المحتمل صدورها تقية ۔ كثيرة وبما يستبعد معه صدورها عن الإمام على هذا النحو؛ لأنه قد يجتزئ بموقف أو أكثر بما يوافق الاتجاه العام، لا أن يصدر منه عدد كبير من الروايات.[197]

ولذلك استبعد السيد الشهيد حمل روايات طهارة الكتابي على التقية؛ لكثرتها وتعددها وبما لا ينجسم مع أسلوب التقية، وكذلك موقفه من روايات طهارة الخمر، وكذلك موقفه من حمل روايات النزح أو النجاسة ۔ في خصوص ماء البئر ۔ على التقية، إذ استبعد مثل هذا الحمل؛ لكثرة هذه الروايات إلى حد لا يعقل معه صدور جميعها تقية؛ وذلك لأن (التقية قد تَعرِض للإمام، ولكن عروضها بهذا الشكل المستمر المتكرر مع اختلاف الأحوال والرواة وطرق الأداء بحيث يفوق البيانات الجدية بمراتب، دون أن يكون فيها إشارة أو تعريض إلى كون الحال حال تقية، وعدم تكفّل الأخبار الدالة على الاعتصام شيئاً من الإشارة أو التعريض بذلك.. مستبعد جداً لمن لاحظ الأحاديث الواردة تقيةً في الفقه، وخصوصياتها..).[198]

4. أن تكون هناك مبررات عقلائية تفرض اللجوء إلى خيار التقية، فإن لم تكن ثمّة مبررات تدعو لذلك، فإنه لا يلزم حمل الروايات ۔ المحتمل صدورها تقية ۔ على التقية، بل يمكن أن تفسّر تفسيراً آخر.

ولذلك استبعد السيد الشهيد حمل خبر أبي مريم الأنصاري[199] المشتمل على أن الإمام(ع) توضأ من ماء الدلو الذي رأى فيه الراوي العذرة على التقية؛ وذلك (لأن التقية لا تلزم عادة باستعمال ماء الدلو المشتمل على العذرة مع وجود مبررات طبعيّة لعدم الاستعمال).[200]

وإن لم تكن الروايات صادرة على خلاف أصالة الجهة، أي لم تصدر تقية، فإنه تصل النوبة عندئذ إلى معرفة ما إذا كان بالإمكان حل التعارض والتنافي وفقاً لقاعدة الجمع العرفي.

وها هنا أبحاث عديدة وموسعة لمعرفة النسبة بين الأدلة المتعارضة أو المتنافية ۔ أو التي تبدو كذلك ۔ ليتم حل التعارض وفقاً لعدد من المقولات العلمية، كما في الحكومة أو الورود، أو التخصيص والتقييد. وللسيد الشهيد في هذا المجال باع كبير وإبداع لا نظير له، سنشير إليه فيما يأتي من أبحاث.

مرحلة استخلاص النتائج

كل ما تقدم يلقي الضوء على الجهد الكبير الذي يبذله الفقيه بغية الوصول إلى الحكم الشرعي، ابتداءً من التوثيق وفهم الدلالة، ومروراً بالموازنة بين النصوص، وانتهاءً باستخلاص النتائج، التي تمثل الغاية النهائية التي يتطلع إليها الفقيه، لكن مع ذلك تبقى نتائجه عرضة للخطأ ۔ مهما بذل من جهد ۔ ولذلك لا يجزم بصحتها في الواقع، وإن كان راجحة من وجهة نظره؛ وذلك إما لعدم صحة النص في الواقع، أو الخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعاب النصوص الأخرى ۔ ذات دلالة في الموضوع ۔ ذهل عنها أو عاثت بها القرون.[201]

نعم هذه النتائج شرعية، بمعنى أنها تنتسب إلى الشارع بوجه من الوجوه، ولو كان ذلك الانتساب اعتبارياً؛ لجهة إمضاء الشارع للمقدمات التي يتمّ وفقاً لها استخلاص النتائج.

خصائص المنهج عند الشهيد الصدر

الشهيد الصدر ۔ فقيهاً ۔ ينتمي إلى مدرسة أهل البيت(ع)، ويعتمد فيما يعتمد من آليات لاكتشاف الحكم الشرعي ما هو مشروع من وجهة نظرهم؛ ولذلك حدّد السيد الشهيد بوضوح ۔ في كتابه الفتاوى الواضحة ۔ مصادر الفتوى من وجهة نظره كفقيه، فاعتمد الكتاب والسنة الشريفة، فيما رفض الاعتماد على القياس والاستحسان ونحوهما مما لم يثبت المسوِّغ الشرعي للاعتماد عليه.[202]

وقد طبعت منهج الشهيد الصدر ۔ كفقيه ۔ عدة خصائص شكّلت المعالم الرئيسة لمنهجه الفقهي، ويمكن تحديدها بالتالي:

أولاً: الطابع الدقي (الاتجاه العقلي)

ينتمى السيد الشهيد إلى المدرسة الفقهية الجديدة التي نشأت مؤخراً منذ عهد الوحيد البهبهاني وعصر الأنصاري، والتي توطدت دعائمها مع أعلام الأصوليين من أمثال الآخوند الخراساني والنائيني والعراقي والإصفهاني والقمي والخوئي أستاذ السيد الشهيد، وعدد آخر من الفقهاء لسنا بصدد استقرائهم وحصرهم.

وهذه المدرسة الجديدة ذات اتجاه عقلي يحاول ۔ إن صح التعبير ۔ عقلنة الفقه ومحاولة استكشاف الوجوه الصناعية وفقاً لقراءة دقيقة لدلالات الأدلة الشرعية.

ويلاحظ السيد الشهيد ۔ نفسه ۔ أن طريقة الاستدلال ۔ عند المتأخرين ۔ على عدد من الأحكام الشرعية تغيرت تغيراً كلياً عما عليه عند القدماء، في الاستدلال على هذه الأحكام، ولم يبق منها إلا النتائج التي لو قُدّر للفقهاء المناقشة فيها ۔ فضلاً عن مناقشتهم في طرق الاستدلال عليها ۔ لكانت النتيجة مختلفة تماماً، واستلزم ذلك تأسيس فقه جديد كما يقولون؛ ولذلك سعى المتأخرون من الفقهاء إلى تلمّس عدد من الآليات الجديدة من قبيل بحث السيرة.[203]

ولا يقتصر الاختلاف الجوهري بين المتأخرين والمتقدمين على طرق الاستدلال وحسب، بل يتعدى ذلك إلى اللغة والتعبير أيضاً، فيجد الباحث لغة المتأخرين مثقلة باصطلاحات الفلسفة والمنطق، وسيادة القواعد الأصولية مما لم يعهده القدماء.

وهذه اللغة وهذا الأسلوب حاضر بقوة في أبحاث السيد الشهيد وآثاره الفقهية وغيرها.[204]

ثانياً: الطابع العرفي

وعلى الرغم من انتمائه للمدرسة العقلية ۔ الدقيّة ۔ فقد يلاحظ الباحث على منهج السيد الشهيد سمة التعاطي العرفي مع الأدلة الشرعية، في فهمها واقتناص المدلول الشرعي منها؛ انسجاماً مع طريقة الشارع المقدس في المحاورة والتشريع، كما أشار إليه السيد الشهيد في بعض أبحاثه، وتحديداً في بحث أخذ قصد القربة في متعلق الحكم، فبالرغم من استحالته عقلاً، فإنه ذكر أن الشارع وإن كان دقيقاً إلا أنه في مقام المحاورة والتشريع يتبع نفس الطريقة العرفية التي يتعامل فيها مع قيد قصد القربة كما يتعامل مع سائر القيود في مقام المحاورة.[205]

ولذلك لاحظ السيد الشهيد على أجوبة الشيخ الأنصاري ۔ وغيره ۔ في مقام دفع إشكال كثرة التخصيصات على قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أنها لا تأخذ بنظر الاعتبار مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية، وذلك بلحاظ أن الشريعة بحسب المرتكز العقلائي لابد أن تشتمل على قواعد وأنظمة تستتبع لا محالة تحميل الناس وتحديدهم، ولكنه ليس ضرراً من وجهة النظر العرفية والعقلائية؛ ولذلك يندفع الإشكال من أساسه لعدم التخصيص؛ لأن المورد ليس من موارده، بل من موارد التخصص.[206]

وقد شكّل هذا التعاطي العرفي ۔ في فهم مراد الشارع ۔ عنصراً رئيساً في خطاب الشارع المقدس، كما يظهر ذلك في عدد من المسائل الفقهية.

وكشاهد على ذلك ما استدل به الشهيد الصدر من روايات على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة، مثل الصوف والشعر والعظم والقرن.. فاستدل بطائفتين من الروايات: منها ما دل على الطهارة بعنوان كلي ينطبق على ما ليس فيه روح ولا تحله الحياة من الأجزاء، ومنها ما دل على طهارة بعض هذه العناوين، كما في السؤال عن بيضة الميتة وإنفحتها وعظمها وشعرها.. ولم يجد السيد الشهيد بأساً في الاستدلال بالطائفة الثانية من الروايات وإن لم تكن في مقام إعطاء ضابط كلي؛ وذلك لجهة عدم استبعاد دعوى استفادة القاعدة الكلية منها بحمل ما ورد فيها من العناوين على المثالية واقتناص الجامع المنتزع منها بحسب فهم العرف والمناسبات التي يراها للحكم المذكور وجعله موضوعاً للحكم بالطهارة، ولذلك فمن القريب من وجهة نظر السيد الشهيد أن يقال:

إن العرف يفهم من العناوين المذكورة أنها كلها بنكتة مشتركة قد حكم عليها بالطهارة، وهي كونها مما لا تحلها الحياة ولم تكن مصب الروح الحيوانية وإن كانت بالنظر العقلي الدقيق فيها شيء من الحياة.[207]

ويلاحظ حضور الفهم العرفي في هذا الاستدلال من جهتين:

الأولى: في استظهار المثالية مما ورد من عناوين في هذه الأخبار، وهو استظهار يقوم على الفهم العرفي أساساً، بناءً على مناسبات الحكم والموضوع، وبذلك يستغني الفقيه عن التفتيش عن الضابط الكلي من روايات أخرى.

والثانية: عدم منافاة هذه الروايات لما دل بالنظر العقلي الدقيق على وجود الحياة والنمو في هذه الأجزاء؛ وذلك لوضوح أخذ مفهوم الحياة من هذه الأدلة بما هو معروف لدى العقلاء وما هو متعارف لديهم، لا بما هو مفهوم علمي دقيق.

ويظهر ذلك ۔ أيضاً ۔ في مناقشة الشهيد الصدر لما نسب إلى الشيخ الطوسي من تفصيل في مسألة انفعال الماء القليل وعدمه بين ما يدركه الطرف وبين ما لا يدركه، فقد ذكر السيد الشهيد بعد استبعاد اختصاص ذلك بالدم قائلاً:

.. بل يمكن أن يحمل كلامه على أن الأفراد العقلية للدم والبول وغيرهما ليست موجبة للتنجيس ما لم تكن أفراداً عرفية، فكل ماهية إذا لوحظت لحاظاً عقلياً يرى أن الكمية لم تؤخذ فيها، ولكن إذا لوحظت بالنظر العرفي يرى أن حداً أدنى من الكمية مأخوذ في مفهوم اللفظ الدال عليها، فلو نقص فرد عن تلك الكمية لم يكن مصداقاً لمفهوم اللفظ عرفاً، وإن كان فرداً حقيقياً من الماهية عقلاً..[208].

ويمكن أن نلاحظ الطابع العرفي الذي اتسمت به مدرسة السيد الشهيد في عدة تطبيقات منها:

  1. في مسألة نجاسة الخمر أو طهارته ثمّة عدد من الروايات، منها ما دل على النجاسة، ومنها ما دل على الطهارة، كما في رواية الحسين بن أبي سارة، (قال: قلت لأبي عبدالله(ع) إن أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس، إن الثوب لا يسكر) إذ استدل بها على طهارة الخمر ۔ فضلاً عن عدم المانعية في الصلاة ۔ وذلك بضم الدلالة الالتزامية على الطهارة من عدم مانعية الخمر عن الصلاة، أو من التعليل الوارد في الرواية بأن الثوب لا يسكر، إذ يكون المحذور في الإسكار وهو لا يسري إلى الثوب.

ولكن رغم ذلك فقد استظهر بعض الفقهاء ۔ كما عن السيد الحكيم[209] ۔ أن هذه الرواية على النجاسة أدل، بتقريب: أن الثوب لو كان يسكر لما جازت الصلاة فيه، وليس ذلك إلا لنجاسة المسكر، ويتحصل من ذلك أن الخمر نجس ولكنه غير منجس للثوب.

وقد ردّه السيد الشهيد بأنه لا معنى (لدعوى دلالة التعليل على عدم جواز الصلاة في الثوب لو كان يسكر لنجاسته؛ لأن النجس هو المسكر لا السكران، والعبارة التي وردت تعليلاً إنما تقال عرفاً في العادة لبيان أنه لا محذور سوى الإسكار في الخمر، من دون نظر إلى ما هو الحكم لو فرض محالاً أن الثوب كان مسكراً أو كان يسكر).[210]

2. في مسألة الإعراض عن الملك وأنه يوجب زوال الملكية أو لا؟ وقع نزاع بين الفقهاء لتحديد أي الرأيين أرجح وأكثر انسجاماً مع السيرة العقلائية، ولعل مشهورهم الزوال بالإعراض، واختار عدد من الفقهاء كما عن السيد الحكيم في منهاج الصالحين[211]، والسيد الخوئي في مستند العروة الوثقى[212] عدم زوال الملك به.

وقد اختار السيد الشهيد زوال الملكية بالإعراض، كما يظهر في تعليقته على منهاج الصالحين[213]، ولعله استند على استظهار السيرة العقلائية والعرف القائم، أو على فهم بعض الأخبار على نحو عرفي مستبعِداً الخصوصية.[214]

3. لا إشكال في نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم من أخبار، إنما البحث عند الأصوليين في التعدي من مخالفة الكتاب الكريم كمعيار لرد الخبر المخالف إلى مخالفة السنة القطعية سواء كانت نبوية أو مطلق السنة.

وقد كان السيد الشهيد الصدر في بحثه (إحياء الموات) كما هو منعكس في تقريرات بحثه[215] لا يرى إمكانية التعدي لعدم الدليل عليه، وانعكس ذلك في كتابه اقتصادنا[216]، لكنه ۔ كما يظهر من تقريرات بحثه الأصولي ۔ استقرب التعدي فيما بعد؛ وذلك بناء على الفهم العرفي، والذي لا يرى للكتاب الكريم خصوصية إلا كونه قطعي الصدور، وبذلك يتم التعدي من الكتاب الكريم إلى السنة القطعية.

قال الشهيد الصدر:

.. ولكن لا يبعد دعوى أن المنسبق إلى الذهن العرفي من هذه الروايات الحكم بإلغاء ما يخالف الكتاب الكريم على أساس كونه قطعياً سنداً؛ لأن قطعية السند هي الصفة البارزة والطابع العام الواضح لدى المتشرعة عن القرآن الكريم كدليل شرعي.. فالصحيح تعميم الحكم بالطرح إلى المخالفة مع كل دليل قطعي السند.[217]

4. وقع نزاع فقهي بين الفقهاء في مسألة فقهية معروفة، وهي ما إذا وقع التزاحم بين وجوب الحج على المستطيع في وقت يجب عليه الوفاء بالنذر في يوم التاسع من عرفة، كما لو نذر زيارة الإمام الحسين(ع) في هذا اليوم، فهل يجب عليه الوفاء بالنذر ويسقط عنه الحج بلحاظ سقوط الاستطاعة ۔ شرط وجوب الحج ۔ أو يسقط عنه النذر ويجب عليه الحج.

وقد اختار عدد من الفقهاء وجوب الوفاء بالنذر، فيما اختار آخرون وجوب تقديم الحج، وهو مختار السيد الشهيد أيضاً، لكنه في مقام التوجيه ذكر عدة تقريبات أوصلها إلى أربعة، في جملتها تقديم وجوب الحج بناءً على الفهم العرفي، وذلك باعتبار (أن المستظهر عرفاً من أدلة وجوب الوفاء اشتراط القدرة الشرعية اللولائية فيه لا مجرد القدرة الشرعية بالفعل، أي أن المستفاد منها اشتراط عدم أمر شرعي بالخلاف في نفسه، وبقطع النظر عن وجوب الوفاء؛ لأن الظاهر من القبلية في قوله: (شرط الله قبل شرطكم) أن التكاليف والالتزامات الشرعية المفروضة من قبل الله تعالى لابد وأن تلحظ في المرتبة السابقة على شروطكم وبقطع النظر عنها، فإذا كانت ثابتة كذلك فلا يصل الدور إلى شروطكم..).[218]

5. في مسألة تأثر ۔ إنفعال ۔ ماء البئر بالنجاسة، ثمّة طائفتان من الروايات، إحداهما: ما دل على الاعتصام وعدم التأثر ما لم يتغير، وثانيهما: ما دل على الانفعال بمجرد الملاقاة. وفي الطائفتين ما هو صحيح سنداً وسليم الدلالة؛ ولذلك وقع البحث في التخلص من إشكالية التعارض بين الطائفتين المشار إليهما.

وقد عولج هذا التعارض المدعى بعدة وجوه منها: أن يحمل النجاسة في الطائفة الثانية على مرتبة ضعيفة لا تكون منشأ لآثار لزومية بل تنزيهية، والنجاسة بهذا المعنى تجتمع مع الطهارة بالمعنى المقابل للمرتبة اللزومية من النجاسة التي تكون منشأ للحكم ببطلان الوضوء بالماء ونحوه.

وقد أشكل السيد الخوئي ۔ في التنقيح[219] ۔ فيما أشكل به على هذا الوجه بأنه جمع غير عرفي، قال: (إن الجمع على هذا الوجه ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان إذا عرضنا عليهم المتعارضين، ولا يكادون يفهمون من الطهارة طبيعيها، إلا من النجاسة مرتبة ضعيفة منها)، ولذلك فالتعارض مستحكم ولا يجب عليه هذا الوجه.

وقد لاحظ السيد الشهيد على أستاذه السيد الخوئي بأنه خلاف الذوق العرفي؛ وذلك لأن (تعدد المراتب للقذارة أمر عرفي وثابت في القذارات العرفية، وبذلك يكون حمل دليل النجاسة على المرتبة الضعيفة في مقام التعارض حملاً عرفياً بعد ارتكازية تعدد المراتب، من قبيل حمل دليل الطلب على المرتبة الضعيفة في مقام التعارض مع دليل الجواز، بلحاظ ارتكازية تعدد مراتب الطلب في النظر العرفي. وإنما لا يصح مثل هذا الحمل والجمع في الأحكام التي ليس لها مراتب في نظر العرف، من قبيل الملكية والزوجية مثلاً)[220].

وقد ذكر السيد الشهيد عدة شواهد ومؤيدات على هذا الجمع وكونه مما ينسجم مع الفهم العرفي.[221]

6. في إطار التخطيط لبنك إسلامي ذكر الشهيد الصدر أن من حق صاحب رأس المال ۔ في حالة إيداع ماله في البنك ۔ الاحتفاظ بالقيمة الحقيقية لنقده فيما إذا طرأت أوضاع وظروف أدت إلى انخفاض قيمة النقد، وعندئذ يتوجب على البنك ردّ المال إليه لا بما هو نقد ورقي قلّت قيمته الأساسية، بل ردّ ما يقابل القيمة الحقيقية للنقد المودع.

وقد حاول السيد الشهيد التنظير لهذه الرؤية في إطار عمل البنك الإسلامي ومحاولاته لتجميع النقد من دون اللجوء إلى الأساليب الرأسمالية، وذلك عن طريق تعهد البنك للمودعين بإرجاع أموالهم المودعة أو عن طريق (الاحتفاظ بالقيمة الحقيقية لنقده، وتوضيح ذلك: أن قيمة النقود في هبوط مستمر والتضخم النقدي يسبب انخفاضاً باستمرار في القوة الشرائية للنقد وبالتالي في قيمته الحقيقية، فلو أراد الشخص أن يحتفظ بنقوده في حوزته فترة طويلة من الزمن لم يكن هذا في الحقيقة إلا احتفاظاً شكلياً بصورة تلك الأوراق النقدية، وأما القيمة الحقيقية فتفقدها تلك الأوراق بعد فترة من الزمن، وهنا تظهر الميزة الإيجابية لاحتفاظ البنك بتلك الأوراق على صورة القرض، فإن البنك يضمنها بقيمتها الحقيقية؛ لأن الأوراق النقدية وإن كانت مثلية ولكن مثلها ليس هو الورق فحسب، بل ما يمثّل قيمتها، فليس من الربا أن يدفع البنك لدى الوفاء ما يمثل قيمة ما أخذ، وتقدّر القيمة الحقيقية على أساس الذهب وسعر الصرف بالذهب)[222].

والشهيد الصدر وإن لم يذكر الوجه في تشخيص مقدار القوة الشرائية بسعر الصرف بالذهب، فقد ذكر بعض تلاميذه أن يكون الوجه في ذلك دعوى عرفية هذا التقدير، باعتبار أن العرف ينظر إلى الذهب بمنظار كونه نقداً وثمناً ذاتياً.[223]

٧. وقد تبدو عرفية السيد الشهيد بأجلى مظاهرها في تحديده مفاد كلمة (الضرر) فإنه بحث في مدى انطباق (الضرر) على حالات لا تكون من الضرر المطلق، بل هي من الضرر الملحوظ من زاوية ما، كما في حالات اعتبار الغرض مثل التاجر الذي يبتغي من وراء عمله الربح، فهل يصدق على حالة عدم ربحه أنه متضرر أو لا؟ وكذلك حالة ما إذا لم يكن ثمّة نقص ملحوظ كما في حالات الاحتكار التجاري الذي يمنع بعض التجار من العمل ويحجبهم عن السوق، فهل يصدق عليه أنه ضرر؟

في إطار تحليل ما إذا كانت هذه الموارد مما يصدق عليه عنوان الضرر أو لا لجأ السيد الشهيد إلى الفهم العرفي في تحديد مفهوم الضرر، فهو وإن لم يكن يعتبر النقص الملحوظ من زاوية الغرض من الضرر المطلق المشمول بالعنوان المذكور إلا أنه لم يمنع من صدق العنوان عليه إذا كانت الحيثية عامة عرفاً، بحيث يعتبر ذلك النقص ضرراً مطلقاً بحسب الأنظار العرفية والعقلائية.[224]

وكذلك المورد الثاني فإنه من الممكن ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔ إدراجه في النقص؛ لأنه نقص لحق العمل أو حرية الإنسان، فهو سلب للحق فيكون ضرراً، فيدخل تحت إطلاق القاعدة؛ لأنه مضافاً إلى شمول عنوان الضرر لمثل هذه الأضرار عرفاً يكون مورد الرواية النقص في حق من هذا القبيل.[225]

وكذلك ينطبق عنوان الضرر ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔ على كل مورد يصدق عليه أنه نقص لحق مركوز عقلائياً، كما في حق الشريك في الشفعة وخيار الغبن لمن وقع عليه الغبن وخيار تبعّض الصفقة للمشتري، وهي موارد وإن لم تشتمل على الضرر الحقيقي إلا أن هذه الخيارات حقوق عقلائية، وفوتها على صاحبها يعدّ ضرراً من وجهة النظر العرفية والعقلائية، فتكون مصداقاً لقاعدة (لا ضرر..)[226].

وعلى هامش الحديث عن البعد العرفي في مدرسة الشهيد الصدر تحسن الإشارة إلى الإفادة التي سجّلها السيد الشهيد في بعض أبحاثه الأصولية لشرعية بعض الأوضاع المستجدة، وذلك عن طريق تعميم الخطابات الشرعية للمصاديق العرفية المستجدة التي لم تكن معروفة في عصر الشارع، وذلك عن طريق نكتتين توجبان ذلك:

إحداهما: إذا فرض أن فرداً من أفراد الضرر في عرفنا المعاصر لم يكن موجوداً في عصر الشارع بشخصه، ولكنه كان ثابتاً بنكتته، أي أن ذلك الحق المشروع في عرفنا المعاصر كان نظيره أو كُبراه مركوزاً في عصر التشريع أيضاً، ولم يردع عنه الشارع بل أمضاه، كفى ذلك في شمول القاعدة له، فالعبرة بسعة النكتة العقلائية الممضاة في عصر التشريع لا بالحدود الواقعة خارجاً من مصاديق تلك النكتة، كما أشرنا إلى ذلك في بعض البحوث السابقة.

الثانية: أنه عند الشك في ثبوت هذا الحق في زمن التشريع أو دخوله تحت نكتة ممضاة من قبله لا نحتاج إلى إثبات ذلك بالشواهد التاريخية القطعية، الأمر الذي يتعسر غالباً أو يتعذر، بل يمكن إثبات ذلك بطريق آخر تعبدي وهو إجراء أصالة الثبات في الظهور؛ لما ذكرنا من أن هذه الأفراد العنائية توجب ظهوراً وتوسعة في مدلول الخطاب لفظاً أو مقاماً بحيث يشمل الخطاب هذه الأفراد، فإذا شك في إمضاء الشارع لها رجع إلى الشك في تحديد ظهور الخطاب وأن ما نفهمه اليوم من إطلاقه هل كان ثابتاً له في عصر التشريع أيضاً أم لا، فيكون من موارد التمسك بأصالة الثبات وعدم النقل في الظهور.[227]

ولكن قد يلاحظ الباحث على السيد الشهيد أنه ينأى عن التعاطي العرفي ۔ أحياناً ۔ في فهم الأدلة الشرعية واقتناص الحكم الشرعي منها، خاصة في ظل توقُّد ذهنه وقدرته على التحليل، بما يقرّبه إلى المنهج العقلي أكثر منه إلى المنهج العرفي.

وربما يظهر ذلك في تطبيقه لقاعدة أصولية في باب التعارض، وهي إن تمت تكون سيّالة في عدة موارد فقهية، صحّح ببركتها بعض النتائج الفقهية المشهورة، وتقوم هذه الفكرة ۔ كما يشرحها السيد الشهيد ۔ على أساس تصنيف الروايات المتعارضة إلى مراتب من حيث الصراحة والظهور.

يقول:

.. إن الأصحاب جَروا في مورد تعارض الخاصّين المطابق أحدهما لعام فوقيّ على الالتزام بتساقط الخاصين والرجوع إلى العام، بنكتة أن العام لا يصلح لمعارضة الخاص المقابل، فيكون مرجعاً بعد تساقط الخاصين. ولكنهم دأبوا في نفس الوقت حينما توجد طائفتان متعارضتان في مسألة بدون جمع أو مرجح إلى إيقاع التعارض والتساقط بينها جميعاً دون تصنيف لروايات كل من الطائفتين من ناحية درجة دلالتها على الحكم، مع أنه قد تشتمل إحدى الطائفتين على درجتين من الدلالة على الحكم، وتكون الطائفة الثانية كلها صالحة للقرينية على الدرجة الثانية دون الأولى، ففي مثل ذلك تكون الروايات ذات الدرجة الثانية من الطائفة الأولى بمثابة العام الفوقاني، وإن كان الموضوع واحداً في جميع الروايات. غير أن نكتة سلامة العام الفوقي عن المعارضة وتعيّنه للمرجعية جارية فيها أيضاً..[228].

والقاعدة المذكورة وإن كانت صحيحة من وجهة النظر الدقي إلا أنها قد لا تكون قريبة من الفهم العرفي مع أن حل التعارض لابد وأن يرتكز على الفهم العرفي لا على فهم دقيق لا يلتفت إليه العرف.

ومهما يكن من أمر، فقد أفاد السيد الشهيد من هذه القاعدة في عدد من المسائل المهمة على صعيد الفقه.

ومن هذه المسائل:

  1. تعارض روايات انفعال الماء (الكر) بالنجاسة وعدمها.[229]
  2. تعارض روايات نجاسة الخمر مع روايات الطهارة.[230]
  3. تعارض روايات نجاسة النبيذ مع روايات طهارته.[231]
  4. تعارض روايات نجاسة الكلب مع روايات الطهارة.[232]
  5. تعارض روايات نجاسة المني مع روايات الطهارة.[233]
  6. تعارض الروايات في ملكية الإمام للأرض المحياة وحقه في الخراج.[234]

ثالثاً: مرجعية الكتاب (القرآن الكريم)

من المسائل المهمة التي لم يبلغ البحث فيها مداه مسألة تحكيم مرجعية الكتاب الكريم، ولا نعني به كونه المصدر الأساسي للتشريع، فإن ذلك مما لا ريب فيه عند المسلمين جميعهم، بل نعني به مرجعية الكتاب الكريم في فهم الأخبار والروايات، وبمعنى آخر فإن السنة الشريفة ينبغي أن تفهم ۔ وتُحدّد دلالاتها ۔ في إطار المنظومة القرآنية.

وفي هذا الاتجاه تبدو عدة تطبيقات بذلها السيد الشهيد في تحكيم الكتاب الكريم وفهم الأخبار والروايات في ضوء مرجعيته وفي إطار منظومته.

وفي مقدمة هذه التطبيقات موقفه مما ذكره بعض الفقهاء في مسألة وجوب الأكل على الحاج من هديه وإهداء ثلثه والتصدق بثلثه على بعض الفقراء، مشترطين الإيمان ۔ بالمعنى الاصطلاحي ۔ فيمن يُهدى إليه ويتصدق به عليه، ولضمان تطبيق ذلك مع ندرة الفقير المؤمن في ذلك المكان ذكروا بإمكان الحاج أن يتوكل عن فقير مؤمن ولو في بلده فيقبض الحاج ثلثه نيابة عنه، وبذلك يؤدي الوظيفة الشرعية.

وقد لاحظ السيد الشهيد على هذا الرأي ابتعاده عن الفهم العرفي من جهة، وعدم انسجامه مع الدلالات القرآنية من جهة أخرى.

كتب السيد الشهيد في هذا الاتجاه:

.. والصحيح أن هذا التصرف من الأساس ليس بواجب على هذا الوجه في هدي حج التمتع، فلا يجب على الحاج أن يأكل من ذبيحته وإنما يرخَّص له في ذلك ويجب عليه أن يطعم الفقراء من ذبيحته إذا تمكّن من ذلك، قال الله: <فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ>، ولا يشترط في الفقير هنا الإيمان، فإن (لكل كبدٍ حرّى أجر)، وقد ورد ۔ بسند معتبر على الأظهر ۔ عن الإمام الصادق(ع) (أن علي بن الحسين(ع) كان يطعم ذبيحته الحرورية)، وهم الخوارج الذين يعادون مولانا أميرالمؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام. وإطعام البائس الفقير الذي يأمر به القرآن الكريم لا ينطبق عرفاً على تقبّل الحاج للثلث نيابة عن فقير يبعد عن منى مئات الفراسخ، ولا يحصل على شيء من الذبيحة، فإن المأمور به عنوان الإطعام لا مجرد إنشاء التمليك..[235].

كما تظهر هذه المرجعية في فهمه للروايات والأخبار التي تصوغ العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار المؤسسة الزوجية، وتحديداً مسألة قيمومة الرجل على المرأة، فقد فهمها السيد الشهيد في إطار قرآني، وبذلك لا تتجاوز القيمومة المشار إليها المؤسسة الزوجية، وذلك للربط بين الإنفاق والقيمومة قرآنياً؛ ولذلك لا قيمومة للرجل على المراة مطلقاً، بناءً على ظهور الآية الكريمة ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔ في أن القيمومة بسبب الإنفاق، فمع التخلف عنه لا قيمومة.[236]

ولكن مع ذلك قد لا نجد هذه المرجعية ۔ بهذه القوة ۔ في عدد من المسائل الحرجة التي تحتاج إلى جواب كبير وواضح وشاف أيضاً، ولعل في مقدمتها ما يعرف بحق المرأة في المعاشرة الجنسية ولزوم إجابة الزوج لها على حد استجابتها له.

رابعاً: روح الإسلام كمبدأ أعلى

قد تكون من المسائل المهمة التي لم تعط حقها بالبحث في الأوساط العلمية السائدة ما يعرف بـ(روح الإسلام) والمبادئ العليا والمقاصد الإسلامية والأهداف التي قامت عليها التشريعات الإسلامية، فقد يلاحظ على المنهج الفقهي السائد ما يمكن تسميته بالعقلية التقعيدية الصارمة، أو ما يسميه بعض الأعلام بالعقلية الهندسية التي تنحو منحى عقلياً صارماً في فهم الأدلة الشرعية، بعيداً عن الأسس التي قامت عليها.

وكمثال على ذلك فإننا نجد أن من المسلّم به على مستوى المفهوم الإسلامي استخلاف الله تعالى الإنسان على الثروات الطبيعية بما يحقق الهدف الأسمى الذي رسمته السماء، وبكلمة أخرى: لا يبقى ثمّة حق لهذا الإنسان في هذه الثروات إلا في هذا الإطار، ولكن من وجهة نظر فقهية نجد أن الملكية من أقدس الحقوق التي لا يمكن مسّها، وعليه فكيف يمكن التوفيق بين هذا المفهوم وهذا التشريع القانوني الذي لا شك أنه مترشح عنه ومشرَّع في إطاره؟!

هذا الرؤية خلقت عند السيد الشهيد حساً إسلامياً في فهم النصوص الشرعية ربما يحقق هذا التوازن بين التشريع الإسلامي والفكري والعقيدي.

ربما لا نجد الكثير من التطبيقات، لكن ثمّة عدد منها يعثر عليه الباحث في مطاوي بحوثه الفقهية وغيرها.

وفضلاً عن ذلك فقد حاول السيد الشهيد أن يؤسس لهذه النظرة أصولياً، وذلك في إطار بحثه مسألة (التعارض) وتحديداً في حجية الأخبار التي لا توافق الكتاب الكريم، فذكر (أنه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم أو ما ليس عليه شاهد منه طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذ أن الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدية مع آياته..).[237]

وفي الإطار نفسه ذكر السيد الشهيد في مقام تفسير حجية الأخبار الموافقة للكتاب:

أن يكون المقصود بموافقة الكتاب الكريم الملائمة للمزاج والإطار العام للقرآن، بأن لا يكون مخالفاً لمسلّمات الشريعة التي يكون مثالها الكامل هو القرآن، باعتبار أن القرآن هو كتاب الشريعة ودستورها. وبناء على هذا الاحتمال يكون محصّل هذه الأخبار هو أنه كلما ورد حديث غير موافق في المضمون للإطار والذوق العام للكتاب الكريم كان هذا الحديث ساقطاً سواء كان في الأحكام أو في العقائد..[238].

وعليه فإن هناك روحاً عامة للكتاب الكريم ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔ وهذه الروح تتجاوز المضمون الحدي للآيات الكريمة التي اشتمل عليها القرآن الكريم؛ ولذلك رفض السيد الشهيد بعض الأخبار والروايات، وفيها الصحيح سنداً والسليم دلالة.

ففي معرض تعليقه على رواية عبدالله بن سنان: (عن ولد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ قال: كفار يحشرون إلى جهنم) ذكر السيد الشهيد: (أن تلك الروايات منافية بظاهرها للعدل الإلهي).[239]

كما رفض عدداً من الروايات التي تتنافى مع الروح الإسلامية والمبادئ التي أسست عليها، كما في روايات تحليل الكذب والإيذاء في اليوم التاسع من ربيع الأول،[240] وروايات ذم بعض الطوائف من البشر وبيان خسّتهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن.[241]

وانطلاقاً من هذه النظرة استدل السيد الشهيد على وجوب ردع الطفل عن شرب المسكر بعدد من الوجوه، منها ما أسماه بمذاق الشارع ومرامه في قطع مادة الفساد، من خلال الاستفادة الإجمالية من مجموع ما ورد من الأدلة المختلفة والتشريعات العديدة.[242]

وربما رأيه في وجوب دفع الزكاة في حالة الفرار منها من هذا الوادي.[243]

هنا لابد من التنويه إلى أن السيد الشهيد في كتاباته خارج الإطار الفقهي المدرسي أكثر انطلاقاً بهذا المنهج منه في الإطار الفقهي المدرسي، وقد نلاحظ ذلك في عدد من المسائل الفقهية التي عرضها في كتبه غير الفقهية.[244]

خامساً: النزعة التاريخية

وثمّة نزعة تاريخية طبعت المنهج الفكري للسيد الشهيد عموماً، والمنهج الفقهي خصوصاً، وهي نزعة ليست علمية على المستوى المنهجي وحسب، بل يمكن أن تلقي بظلالها على النتائج ۔ موضوع البحث ۔ التي يصبو إليها الفقيه.. فقد تبدو للفقيه نتائج قد يقتنع بها، إلا أنها لا تثبت أمام النقد من وجهة نظر تاريخية، أو ما يمكن تسميته بالمناسبات التاريخية وفقاً لاصطلاح السيد الشهيد نفسه[245].

وهنا يمكن أن نلفت النظر إلى أن غياب البعد التاريخي في التفكير الفقهي قد يؤدي إلى نتائج وخيمة قد تقلب النتائج المرجوة فقهياً وتبدو بصورة مغايرة تماماً لما هو الواقع.

ومهما يكن من أمر، فيمكن أن نصنّف النزعة التاريخية لدى السيد الشهيد في اتجاهين:

الأول: يمثل الميل العلمي لتحقيق المسائل موضوع بحثه على اختلاف موضوعاته وتنوع مسائله.

الثاني: ويمثل الميل لفحص مصداقية بعض النتائج التي قد تبدو للفقيه بمعزل عن المناسبات التاريخية والأوضاع التاريخية.

ويندرج تحت الاتجاه الأول ملاحظاته التاريخية المتنوعة والمتناثرة في مطاوي أبحاثه، من قبيل إشارته إلى منهج الأقدمين في عدم التمييز بين المناهي على مستوى التحريم أو على مستوى الكراهة والتنزيه، وعدم التمييز بين الأوامر على مستوى الوجوب أو على مستوى الاستحباب،[246] أو إشارته إلى ما كان عليه الفقه الشيعي ۔ الإمامي قبل الشيخ الطوسي ۔وتحديداً مع تصنيف كتابه المبسوط ۔ فقد لاحظ السيد الشهيد أنه على مستوى ممارسة الفتوى لم يتجاوز مضامين الروايات مما ينعكس على قيمة الإجماعات في مثل هذه الموارد[247]، أو ملاحظته على المنهج الفقهي السائد عند الأقدمين في مسألة الجمع بين الأخبار، إذ لاحظ سيادة وشيوع الحمل على التقية عند الأقدمين على حساب ما يعرف بالجمع العرفي،[248] فضلاً عن ملاحقة الآراء الفقهية تاريخياً[249].

ويبدو الاتجاه الثاني في عدة تطبيقات منها:

1. في مسألة جواز رفع الحدث بماء الورد ۔ في حال الاختيار فضلاً عن الاضطرار ۔ استدل له بما رواه الشيخ الكليني عن أبي الحسن(ع): (.. عن الرجل يغسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة؟ قال: لا بأس بذلك).

وقد ذكر السيد الخوئي أن ماء الورد يشمل عدة أقسام: المعتصر من الورد، والمجاور المخلوط به، والمصعد، والأول ماء مضاف، فيبقى القسمان الثانى والثالث من الماء المطلق.

ومع خروج الماء المجاور عن مدلول الكلمة يبقى نحوان من ماء الورد: الماء المعتصر والماء المصعّد، أما الماء المعتصر فهو المتيقن من الكلمة، وأما الماء المصعد فهو محل بحث ودراسة، وقد استقرب السيد الشهيد ۔ من خلال المناسبات التاريخية ۔ أن لا يكون المصعد متعارفاً إلى زمان الشيخ الطوسي؛ لأن الشيخ عند التعليق على الرواية المشار إليها في كتاب التهذيب لم يتعرض إلا لقسمين من ماء الورد، وهما المعتصر والمخلوط به الورد، ولم يتعرض للمصعد أصلاً، وبذلك ينحصر المدلول الواقعي للكلمة ۔ بمعونة المناسبات التاريخية ۔ بالماء المعتصر، وإلا فإنه سيكون مشمولاً بالكلمة[250].

2. وقع ماء البئر موضوعاً لطائفتين من الروايات: إحداهما دلت على انفعاله بملاقاته النجاسة على أساس موافقة الكتاب، فتصل النوبة إلى إعمال المرجّح الثاني، وهو مخالفة العامة، فتقدّم أخبار الطهارة والاعتصام؛ لأن العامة متفقون على انفعال ماء البئر بالملاقاة، وعليه فتحمل الروايات الدالة على النجاسة على التقية.

غير أن هذه النتيجة لم تلق القبول من قبل السيد الشهيد، وذلك بناءً على نزعته التاريخية؛ وذلك لعدم معلومية ذهاب فقهاء العامة المعاصرين للصادقين(ع) إلى القول بالنجاسة.[251]

3. في مسألة طهارة المني أو نجاسته ثمّة طائفتان دلّت إحداهما على النجاسة مما هو موضع اتفاق فقهاء الإمامية، فيما دلت الطائفة الثانية على الطهارة وفيها الصحيح أيضاً على مستوى السند والوضوح على مستوى الدلالة، وقد حاول البعض حمل الطائفة الثانية على التقية بلحاظ موافقتها لفتاوى الشافعية والحنابلة.

وقد ردّ السيد الشهيد هذا الوجه من علاج التعارض بالقرينة التاريخية التي يمكن أن تنتج عكس ما تشبّث به صاحب المحاولة.

قال في ردّ هذا الوجه:

وفيه أن هذين المذهبين قد نشئا في زمن متأخر عن صدور هذه الروايات حيث إنها صادرة عن الصادق(ع) بينما نشأة المذهبين متأخرة عن زمانه(ع). وأما احتمال كون الفتوى المتأخرة بالطهارة امتداداً لشيوع ذلك بين فقهاء العامة المعاصرين للإمام الصادق(ع) على نحو يصح حينئذ معه حمل روايات الطهارة على التقية، فيرد عليه أولاً: أن الأمر كان على العكس في أيام الإمام الصادق(ع)، فإن الحنفي والمالكي معاً كانا يفتيان بالنجاسة..[252].

4. في مسألة نجاسة الكافر ناقش السيد الشهيد الوجوه المدعاة على نجاسة الكافر ۔ مطلقاً ۔ على نحو يشمل الكتابي وغير المشرك، وذلك من خلال عدة مناقشات، كرّس بعضها لما يمكن تسميته بالقرائن التاريخية؛ وذلك إما لجهة عدم ثبوت الإجماع المدعى على النجاسة من خلال تتبع كلمات الفقهاء الأقدمين على نحو يستكشف منه عدم ادعائهم الإجماع[253]، أو على نحو يكشف فيه التشكيك بأصل دعوى الإجماع وإرادة الإجماع فعلاً أو ادعائه، وذلك عن طريق جمع القرائن، من خلال تتبع سير الفتاوى تاريخياً[254]، أو لجهة سير التاريخ الإسلامي ۔ بغضّ النظر عن فتاوى الفقهاء ۔ على عهد النبى(ص) إذ (أن ابتلاء المسلمين بالتعايش مع أصناف من الكفار في المدينة وغيرها على عهد النبي(ص) كان على نطاق واسع. واختلاطهم مع المشركين كان شديداً جداً خصوصاً بعد صلح الحديبية، ووجود العلائق الرحمية وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لانعكس ذلك وانتشر وأصبح من الواضحات. ولسُمعت عن النبي(ص) توضيحات كثيرة بهذا الشأن..).[255]

ويمكن أن يقال ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد ۔:

إننا إذا رجعنا إلى عصر أقدم من عصور الفقه الإمامي، أي عصر الرواة، نجد أن قضية نجاسة الكفار لم تكن أمراً مركوزاً في أذهان الرواة إلى زمان الغيبة، ولهذا كثر السؤال عن ذلك بين حين وحين..[256].

5. في مسألة طهارة الخمر أو نجاسته ثمّة طائفتان دلّت إحداهما على النجاسة ۔ كما هو المشهور في الفقه الإمامي ۔ ودلّت الثانية على الطهارة؛ ولذلك وقع البحث في تشخيص الوظيفة الفقهية تجاه الطائفتين المتعارضتين، وثمّة عدة وجوه من بينها طرح روايات الطهارة، وذلك لجهة موافقتها للعامة فتحمل على التقية.

وهنا يبدو الميل التاريخي واضحاً في التفكير العلمي ۔ عند السيد الشهيد ۔ فقد كتب في تحقيق ما عليه الفقه السني العام تاريخياً:

والتحقيق أن المشهور في الفقه السني بمختلف مذاهبه هو الحكم بالنجاسة، حتى ذكر السيد المرتضى(قده) (أنه لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم)، وأكثر من نسب إليهم القول بالطهارة من فقهاء السنة ممن لا يمكن افتراض اتقاء الإمام الصادق(ع)منهم، فضلاً عن الباقر(ع)، فقد قيل: إن الطهارة أحد القولين للشافعي أو قول بعض الشافعية، ومن الواضح أن ولادة الشافعي بعد وفاة الإمام الصادق(ع)، فلا معنى لاتقائه منه. ونسب القول بالطهارة إلى ليث بن سعد، وهو وإن كان معاصراً للإمام الصادق(ع) غير أنه كان يسكن في مصر ۔ فهل يحتمل عادة أن الإمام وهو في الحجاز أو العراق يتّقي من فقيه في مصر، ولا يعتني بما ذهب إليه فقهاء الحجاز والعراق؟

وإذا افترضنا صدور بعض نصوص الطهارة من الإمام الباقر(ع) المتوفى سنة 114ق كان عدم تعقل اتقائه من ليث في غاية الوضوح؛ لأن ليثاً ولد سنة 93ق فيكون عمره حين وفاة الباقر(ع) حوالي عشرين عاماً. ونسب القول بالطهارة إلى داود المولود سنة 202ق، وهو متأخر ولادة عن وفاة الصادق(ع)، فكيف يفرض الاتقاء منه؟ ونسب هذا القول أيضاً إلى ربيعة، وهو وإن كان معاصراً للإمام الصادق(ع) ولكنه كان فقيهاً منعزلاً، ولم يتحقق له في حياته من المقام الرسمي أو الاجتماعي ما يناسب الاتقاء منه، خصوصاً إذا قبلنا صدور بعض النصوص السابقة في الطهارة من الإمام الباقر الذي كان ربيعة شاباً عند وفاته..[257].

سادساً: المعطى العلمي

في ظل التطور العلمي والتقني في العالم تقفز إلى ساحة البحث الفقهي عدة مسائل، تفتقر إلى أجوبة شرعية شافية وواضحة، وسيكون الفقيه ملزماً بتقديم الحلول الشرعية تجاه هذه الصيغ والأوضاع المستجدة التي لا يمكن تجاوزها والقفز عليها؛ لأنها أوضاع بدأت تفرض هيمنتها على حياة المسلمين. وهناك عدد كبير من المسائل المستجدة التي طرحت على بساط البحث الفقهي، من قبيل التلقيح الصناعي، أطفال الأنابيب، عقد الرحم، تنظيم النسل عن طريق بعض الوسائل الطبية من قبيل اللولب، التشريح، مني المرأة، الكحول الطبية، ثبوت الهلال بالوسائل الفلكية الحديثة.

ولا يخفى دور الشهيد الصدر في الإجابة على تحديات العصر، بل لا يخفى دوره الريادي في هذا المضمار، ويقف كتابه (اقتصادنا) وكتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) وكتابه (الإسلام يقود الحياة) بل وكتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) شاهداً على ما نقول.

لكن ثمّة تطبيقات عديدة يمكن التقاطها من مطاوي أبحاثه الفقهية التخصصية ويلاحظ في بعضها اطلاع السيد الشهيد على النظريات الحديثة في مجالات عديدة، بل وتسجيل ملاحظاته عليها، كما يظهر ذلك في استعراضه لبعض النظريات الحديثة في تفسير تكوّن المياه، وتحديداً تلك الفرضية التي تفسِّر تكوّنها عن طريق نزولها من السماء.[258]

وتظهر عنايته بالمعطى العلمي في مسألة تشخيص (الإسبرتو) وهل هو محكوم بالطهارة أو لا؟ وقد حكم السيد الخوئي بطهارة الإسبرتو، سواء ما كان منه متخذاً من الأخشاب، لعدم صدق عنوان الخمرية عليه، أم ما كان منه متخذاً من الخمر؛ وذلك لاستحالته بالتبخير، كما في تبخير البول وغيره.

وبصدد تشخيص حقيقة (الإسبرتو) يتصدى السيد الشهيد إلى ملاحقة الواقع الذي عليه (الإسبرتو)، وفقاً للمعطيات العلمية السائدة.[259] ويخلص السيد الشهيد إلى أن الإسبرتو المتخذ من الأخشاب ليس هو المتعارف في المجال الطبي، وإنما هو سم محض وليس مسكراً، والمتخذ من الخمر ليس هو المتعارف طبياً، والمتعارف طبياً لا يؤخذ من الخمر بل من مواد أخرى.[260]

وفي الاتجاه نفسه تحقيقه لمسألة وجود المني عند المرأة أو عدم وجوده، فإنه اعتماداً على المعطيات العلمية ۔ التي تنفي وجود المني عند المرأة كما هو الحال عند الرجل ۔ شكّك السيد الشهيد بوجوب الغسل على المرأة من غير الجماع، وإن أفتى بالاحتياط في هذه المسألة.[261]

ومن التطبيقات الفقهية التي أفاد فيها السيد الشهيد من المعطيات العلمية مسألة إحراز النسب وذلك بإمكان التعويل على الطرق العلمية الحديثة في إحرازه.

كتب في تعليقته على منهاج السيد الحكيم:

.. وأما إذا أحرز النسب الشرعي بوجه قطعي عن طريق القرائن والعلامات فلا بأس بالتعويل على ذلك، وكذلك الأمر في الطرق العلمية الحديثة.[262]

وقد يكون الأهم ۔ من هذه التطبيقات ۔ في هذا الاتجاه تعويله على معطيات علم الفلك الحديث لإثبات هلال شهر رمضان، على تفصيل في الدور الإيجابي ۔ الإثبات ۔ أو السلبي ۔ النفي ۔ بل أخذ السيد الشهيد بالاعتبار النبوءة العلمية ۔ فضلاً عن الحقائق العلمية ۔ في إثبات الرؤية وعدمها؛ وذلك لأنه احتمال الخطأ في حسابات النبوءة العلمية وإن كان موجوداً، ولكنه قد يكون أبعد أحياناً عن احتمال الخطأ في مجموع تلك الشهادات أو على الأقل لا يسمح بسرعة حصول اليقين بصواب الشهود في شهاداتهم.[263]

المنهج على مستوى الشكل

كان البحث ۔ فيما مضى ۔ بصدد تلمّس المعالم العامة للمنهج السائد في مدرسة السيد الشهيد على مستوى المحتوى والمضمون. ويحسن أن لا نغفل منهجه على مستوى الشكل أيضاً.

ونريد بالمنهج الشكلي ۔ في الحقل الفقهي ۔ طريقة تقسيمه للمسائل الفقهية ولغته في هذا الحقل، ومعرفة ما إذا كانت ثمّة إنجازات له في هذا المضمار.

وبغض النظر عن طريقته المنهجية في كتابه (اقتصادنا) وكتابه (البنك اللاربوي في الإسلام)، فإننا أمام ثلاثة إنجازات له تتمثل في بحثه الرائع فيما أسماه (بحوث في شرح العروة الوثقى) والذي صدر فيه أربعة أجزاء، وتعليقته على (منهاج الصالحين) للسيد محسن الحكيم في جزئين، وكتابه الفقهي الفتوائي الموسوم بـ(الفتاوى الواضحة) الذي اشتمل على خلاصة آرائه الفقهية، فيما يعرف بـ(الرسالة العملية) والتي صدر منها جزء واحد فقط، وتحديداً في فقه العبادات وفقاً لتقسيمه، وإلا فإنه لم يتم حتى قسم العبادات وفقاً للتقسيم الموروث.

وتجدر الإشارة إلى أن منهجه في الكتاب الأول ۔ وهو كتاب استدلالي موسّع ۔ لم يتجاوز المنهج الفقهي السائد، خاصة وأنه كان أسير (المتن الفقهي) الذي اشتملت عليه (العروة الوثقى) للسيد اليزدي، من حيث الشرح والتعليق والمناقشة مع التطوير في طرق الاستدلال.

وقد اعتذر السيد الشهيد عن مجاراته الأسلوب التقليدي في وقت كان ينتظر منه تجديد وتحديث المنهج الشكلي أيضاً، في أوسع بحث وأدقه وأتقنه، فقد كتب في المقدمة:

.. وواضح لدي ۔ وأنا ألاحظ بحوث هذا الكتاب ۔ أن المنهج بحاجة إلى تطوير أساسي يعطي للبحث الفقهي أبعاده الكاملة، كما أن عبارة الكتاب ۔ بحكم أنها لم تعدّ لغرض التأليف، وإنما تمت صياغتها وفق متطلبات الموقف التدريسي ۔ تتّسم بقدر كبير من استهداف التوضيح والتوسع في الشرح، وبهذا فقدت جانب الاختزال والتركيز اللفظي الذي يميّز الكتاب الفقهي عادة. وهذه النقاط إن كان لابد من الاعتراف بها فالمبرر لها هو أن الكتاب يمثّل ۔ كما ذكرنا ۔ ممارسة تدريسية قد خضعت لنفس الأعراف المتّبعة في مجال التدريس السائد من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشرح والتوضيح، واتجهت إلى تعميق المحتوى والمضمون كلما أتيح لها ذلك، تاركة تطوير المنهج ولغة البحث إلى حين تتوفر الظروف الموضوعية.. .

أما كتابه الثاني فهو في الأساس تعليقة ۔هوامش فقهية۔ على كتاب فقهي منجّز حاول فيها تسجيل فتاواه وآرائه الفقهية مجردة عن الاستدلال كما هو شأن كل الفتاوى، وإن اشتملت على الاستدلال ۔ أحياناً ۔ فهو خلاصة عنه لا أكثر.

نعم، تم تطوير المنهج على مستوى الشكل في كتابه الثالث (الفتاوى الواضحة) وهو عبارة عن الفتاوى الفقهية ۔ أيضاً ۔ المجردة عن الاستدلال، والتي أراد لها السيد الشهيد أن تكون في متناول المقلِّدين والمستفتين.

وقد يحسن الحديث ۔ أولاً ۔ عن تطور البحث الفقهي والأشكال التي مرّ بها، ثم نعطف بالحديث عن الإضافات التي حاول الشهيد الصدر أن ينجزها في هذا المجال.

ومهما يكن من أمر، فقد اتخذ البحث الفقهي أشكالاً مختلفة تبعاً لعوامل عديدة لسنا بصددها الآن، إنما يمكن أن نصنّف هذه الأشكال التاريخية إلى:

الشكل الأول: وقد اقتصر فيه الفقهاء على نقل الحديث أو الرواية كجواب على الاستفتاء، دونما تعليق أو صناعة علمية، إلى درجة احتفظ معها بالسند أيضاً؛ ولذلك طغى ۔ في مرحلة من مراحل البحث والتفكير الفقهي ۔ شيوع كتب الحديث وغياب أي لون من ألوان الكتابة الفقهية الأخرى.

الشكل الثاني: ومع تقادم الزمن وتطور التفكير الفقهي، وعلى خلفية كثرة الأحاديث والروايات التي كانت موضوع بحث الفقيه ۔ سنداً ودلالة ۔ أخذ الفقيه في تلك الفترة يجيب على الاستفتاء بما ثبت عنده من الروايات والنصوص الشرعية وما صح منها، متخلياً عن الالتزام بذكر السند، تاركاً ذكره في المجال الذي يناسبه، وهو كتب الحديث وموسوعات الرواية.

الشكل الثالث: ثم تحلل الفقيه شيئاً فشيئاً عن الالتزام بمتن الحديث؛ لأنه يجد نفسه في مقام الإفتاء وإعطاء الرأي لا في مقام نقل الرواية، وفي هذه الفترة ظهرت عدة كتب فقهية كفتاوى مجردة عن الاستدلال من جهة، ومتحررة من لفظ الحديث والرواية من جهة أخرى، إلا أن هذا التغير لم يكن كبيراً، إذ يلاحظ الباحث على هذه الكتب أنها لا تبتعد كثيراً عن لفظ الحديث، وإن فعل مصنفوها ذلك فهو تعديل يسير.

الشكل الرابع: وقد تكون تلك المراحل السابقة بمثابة التأسيس للكتابة الفقهية، حيث استنفدت أغراضها، فأخذ بعض الفقهاء يفتّش عن لون جديد من الكتابة الفقهية لغرض تعميقها من جهة، ولغرض الوفاء بمتطلبات الزمان التي تفرض وتحتّم ابتكار مناهج للكتابة جديدة وغير مألوفة، فضلاً عن إبداع مناهج للتفكير أيضاً.

وفي هذه الفترة ظهرت (الشروح) التي غالباً ما يميل مؤلفوها من الفقهاء إلى شيء من الاستدلال، وسبر للأقوال في المسائل الفقهية موضوع البحث.

الشكل الخامس: إلا أن هذه (الشروح) لم تفِ بالغرض فهي على مستوى الاستدلال تأتي مقتضبة، وغالباً ما يقفز الفقيه فيها إلى النتائج عبر عملية حرق واسعة لمراحل الاستدلال، فانطلق عدد من المتأخرين إلى التوسع في الشروح، وتطويرها منهجاً ومضموناً.

وقد يكون ظهور هذا الشكل الأخير من الكتابة الفقهية مديناً إلى ما يعرف بـ(البحث الخارج) وشيوع هذا النمط من أنماط التعليم الفقهي الذي يعرض فيه الفقيه على تلامذته معظم ما توصل إليه من نتائج مارّاً بالأدلة والمدارك والمرتكزات التي أثمرت مثل هذه النتائج، وهي بحوث موسّعة ودقيقة يعمد التلاميذ ۔ أحياناً ۔ إلى تسجيلها وتدوينها، وعرفت في الوسط العلمي بـ(التقريرات)، وقد يعمد الأستاذ الفقيه نفسه إلى تدوينها.

والكتابة الفقهية ۔ في أشكالها الأخيرة ۔ اتسمت باللغة العلمية التخصصية، وهي مهما بلغت من السعة والشرح فإنها تبقى موجزة ومقتضبة أيضاً، وذلك لأنها لم تكتب إلا للعالم والمتخصص، ولغرض الجدل العلمي، كما هو في معظم الدراسات العلمية السائدة اليوم في الجامعات والحواضر العلمية.

وفي ضوء هذه الملاحظة التفت الفقهاء إلى تغطية حاجة المسلم العادي فقهياً والوفاء بمتطلباته، والإجابة على استفتاءاته بشكل يتناسب مع ثقافته، وقد اتخذت وسائل اتصال الفقيه بالجمهور أشكالاً ثلاثة وهي:

أولاً: المشافهة، وهي وسيلة مباشرة، يجيب الفقيه وفقاً لها على استفتاء السائل، وهي وسيلة لا تزال قائمة، وفي الغالب لا تنطوي على مشاكل علمية أو لغوية، ولكنها لا تتاح دائماً للسائل لسبب وآخر.

ثانياً: المراسلة، وهي وسيلة غير مباشرة، يجيب من خلالها الفقيه على استفتاء السائل، وهي تخضع لوسائل الاتصال من جهة ولظروف الفقيه والسائل من جهة أخرى، وهذه الوسيلة قديمة، وقد ترك لنا الفقهاء من أمثال السيد الشريف المرتضى والطوسي وأستاذهما الشيخ المفيد وغيرهم تراثاً كبيراً في هذا المجال وفي شتى الحقول المعرفية ۔فضلاً عن الفقه۔ ولكن ۔وللأسف۔ أخذت هذه الوسيلة طريقها إلى الفتور والاضمحلال أيضاً.

ثالثاً: الرسالة العملية، وهي لون من ألوان الكتابة الفقهية، التي أريد منه تعميم الفتاوى ۔والثقافة الفقهية بشكل عام۔ على أوسع قطاعات الجمهور المتدين، بعيداً عن الاتصال المباشر أو غير المباشر، وهو فن لم يعرف قديماً، وإن كانت جذوره معروفة.

وقد انتشرت الرسالة العملية ۔ كفنٍّ من الفنون الفقهية على مستوى الكتابة ۔ في القرون الهجرية الأخيرة وبشكل واسع وملحوظ، إلا أننا لا نعرف على وجه التحديد بداية نشأتها وظهورها، وإن كان الشهيد مرتضى المطهري[264] أرّخ بداية الظهور هذا مع كتاب (الجامع العباسي) الذي كتبه الشيخ البهائي المتوفى عام 1020 أو 1025 أحد أبرز فقهاء جبل عامل المقيمين في إيران يومذاك، وقد كتبه الشيخ البهائي للسلطان الصفوي الشاه عباس، وقد كتبت باللغة الفارسية.

وإذا كان قد لبّى هذا اللون من الكتابة الفقهية حاجات الجمهور المتدين إلا أنه ۔وللأسف۔ كفّ عن تطوير نفسه في الحقبة المتأخرة، وجمد على اللغة نفسها والأسلوب نفسه الذي اتسم به هذا اللون من الكتابة الفقهية يوم نشأته وظهوره، وإن تطوّر فهو تطور غير ملحوظ أو لا يعد كذلك. وفي هذا السياق يأتي إسهام السيد الشهيد، لتطوير الرسالة العملية من حيث وظيفتها ودورها، إن على مستوى اللغة أو على مستوى الشكل.

مبررات التجديد

أما المبررات التي تدعو إلى هذا التطوير ۔ مع وجهة نظر السيد الشهيد ۔ فإنها تنبثق من الملاحظات التي سجّلها على (الرسالة العملية) بشكل عام وما تشكوه من ثغرات، ولكنه ۔مع ذلك۔ لا يتنكر للدور المهم والرئيس الذي قامت به.

كتب السيد الشهيد ۔ بصدد الحديث مبررات التطوير ۔ يقول:

وقد قامت الرسائل العملية بدور مهم وجليل في هذا المجال، ولكن على الرغم مما تمتاز به عادة من الدقة في التعبير والإيجاز في العبارة توجد فيها ۔على الأغلب۔ ملاحظتان تستدعيان التغيير والتطوير:

الملاحظة الأولى: أن هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجية الفنية في تقسيم الأحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الأبواب المختلفة، ومن نتائج ذلك حصل ما يلي:

أولاً: أن كثيراً من الأحكام أعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعاً للأبواب، ولم تعطَ لها صيغة عامة يمكن للمقلد أن يستفيد منها في نطاق واسع.

ثانياً: أن عدداً من الأحكام دُسّ دسّاً في أبواب أجنبية عنه لأدنى مناسبة؛ حرصاً على نفس التقسيم التقليدي للأبواب الفقهية.

ثالثاً: أن جملة من الأحكام لم تذكر نهائياً؛ لأنها لم تجد لها مجالاً ضمن التقسيم التقليدي.

رابعاً: أنه لم يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولم تربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تعطَ المسائل التفريعية والتطبيقية بوصفها أمثلة صريحة لقضايا أعم منها لكي يستطيع المقلد أن يعرف الأشباه والنظائر.

خامساً: افترض في كثير من الأحيان وجود صورة مسبقة عن العبادة أو الحكم الشرعي، ولم يبدأ العرض من الصفر، اعتماداً على تلك الصورة المسبقة.

سادساً: انطمست المعالم العامة للأحكام عن طريق نثرها بصورة غير منتظمة، وضاعت على المكلف فرصة استخلاص المبادئ العامة منها.

الملاحظة الثانية: أن الرسائل العملية لم تعد تدريجاً بوصفها التاريخي المألوف كافية لأداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة؛ ذلك أن الرسالة العملية تعبّر عن أحكام شرعية لوقائع من الحياة، والأحكام الشرعية بصيغها العامة وإن كانت ثابتة، ولكن أساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر إلى عصر آخر، ووقائع الحياة تتجدد وتتغير، وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل وآخر.

فاللغة المستعملة تاريخياً في الرسائل العملية كانت تتفق مع ظروف الأمة السابقة؛ إذ كان قرّاء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين؛ لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة لم تكن متعلمة، وأما اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ إذا كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لابد للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلدين وفقاً لذلك.

والمصطلحات الفقهية التي تعتمد عليها الرسائل العملية ۔غالباً۔ للتعبير عن المقصود قد كان من مبرراتها تاريخياً اقتراب الناس سابقاً من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم وتضاءلت معلوماتهم الفقهية حتى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب غريبة تماماً.

وعرض الأحكام من خلال صور عاشها فقهاؤنا في الماضي كان أمراً معقولاً، فمن الطبيعي أن تعرض أحكام الإجارة مثلاً من خلال افتراض استئجار دابة للسفر، ولكن إذا تغيرت تلك الصور فينبغي أن يكون العرض لنفس تلك الأحكام من خلال الصور الجديدة، ويكون ذلك أكثر صلاحية لتوضيح المقصود للمقلد المعاصر.

والوقائع المتزايدة والمتجددة باستمرار بحاجة إلى تعيين الحكم الشرعي، ولئن كانت الرسائل العملية تاريخياً تفي بأحكام ما عاصرته من وقائع فهي اليوم بحاجة إلى أن تبدأ تدريجاً باستيعاب غيرها مما تجدّد في حياة الإنسان.

والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتة قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابد لرسالة عملية تعاصر تغيراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي، فمثلاً الشرط الضمني ۔ على حد تعبير الفقهاء ۔ واجب ونافذ، وهو كل شرط دل عليه العرف العام وإن لم يصرّح به في العقد، ولكن نوع هذه الشروط ۔ لمّا كان العرف هو الذي يحدّدها۔ تختلف، فقد يكون شيء ما شرطاً ضمنياً مع العقد في عصر دون عصر. وهكذا ينبغي للرسالة العملية أن تأخذ العرف المتطور بعين الاعتبار في تحديد ذلك القسم من الأحكام الذي يرتبط بالعرف.[265]

والنص ۔ الذي حرصنا على نقله بتمامه ۔ أول محاولة جادة لنقد الخطاب الفقهي ومحاولة تطويره، وهو ۔ بحق ۔ برنامج عملي لتطوير هذا الخطاب وتعميمه وتفعيله في حياة الإنسان المسلم.

وقد دأب السيد الشهيد على تفادي هذه الملاحظات، فجاءت (الفتاوى الواضحة) خالية منها، إن من حيث اللغة أو العرض أو التنظيم.

لكن الأهم ۔ ربما ۔ في هذه المحاولة هو عزوفه عن التقسيم الشكلي الموروث للأحكام الشرعية، وهو التقسيم الرباعي الذي يعود تاريخه إلى عصر المحقق الحلي (ت 676هـ) وعلى التقسيم الثنائي الذي أصبح مألوفاً في الأزمنة اللاحقة، والذي يقوم على تصنيف المسائل الفقهية إلى عبادات ومعاملات.

أما تقسيم السيد الشهيد فهو رباعي أيضاً، ولكنه يأخذ بالاعتبار ليس فقط التطور الحضاري الذي عليه المجتمع المسلم، بل يأخذ بالاعتبار التركيبة الكلية للتشريع الإسلامي أيضاً.

وقد جاء التقسيم الشكلي للأحكام الشرعية عند السيد الشهيد كالتالي:

1. العبادات، وهي الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة والكفارات.

2. الأموال وهي على نوعين:

أ ۔ الأموال العامة: ونريد بها كل مال مخصّص لمصلحة عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس؛ فإنهما على الرغم من كونهما عبادتين يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز، وكذلك يدخل ضمنها الخراج والأنفال وغير ذلك، والحديث في هذا القسم يدور حول أنواع الأموال العامة، وأحكام كل نوع وطريقة إنفاقه.

ب ۔ الأموال الخاصة: ونريد بها ما كان مالاً للأفراد، واستعراض أحكامها في بابين:

الباب الأول: في الأسباب الشرعية للتملك أو كسب الحق الخاص، سواء كان المال عينياً ۔أي مالاً خارجياً۔ أو مالاً في الذمة، وهي الأموال التي تشتغل بها ذمة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة. ويدخل في نطاق هذا الباب أحكام الإحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين وغير ذلك.

الباب الثاني: في أحكام التصرف في المال، ويدخل في نطاق ذلك البيع والصلح والشركة والوقف والوصية وغير ذلك من المعاملات والتصرفات.

3. السلوك الخاص: ونريد به كل سلوك شخصي للفرد لا يتعلق مباشرة بالمال ولا يدخل في عبادة الإنسان لربه. وأحكام السلوك الخاص نوعان:

الأول: ما يرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمبارات والظهار والإيلاء وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاص في غير ذلك المجال، ويدخل فيه أحكام الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن وآداب المعاشرة وأحكام النذر واليمين والعهد والصيد والذباحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرمات والواجبات.

4. السلوك العام: ونريد به سلوك ولي الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك أحكام الولاية العامة والقضاء والشهادات والحدود والجهاد وغير ذلك).[266]

ولم يأخذ هذا التقسيم المقترح مداه في (الرسائل العملية) التي صدرت في السنوات الأخيرة[267]، ولم يخضع للدراسة والتمحيص والتطور أيضاً، إنما هناك ملاحظة سجّلها بعض الباحثين على هذا التقسيم؛ إذ كتب معلقاً عليه:

ومن المناهج الجيدة الحديثة لفقهائنا المحدثين التنظيم الذي يذكره الشهيد المحقق الصدر(ره) في مقدمة كتابه (الفتاوى الواضحة)..وهو تنظيم جيد يخلو من نقطتي الضعف اللتين ذكرناهما لتنظيم الشيخ مصطفى الزرقا، فليس فيه اقتباس واضح من منهجة الفقه الوضعي، والعلاقة العضوية (الاشتقاقية) بين الأبواب أو ما يعبّر عنه بـ(الحصر العقلي) موجود إلى حد ما، إلا أنه مع ذلك لم يخضع لدراسة نقدية توضح نقاط الضعف فيه، ولسنا الآن بصدد ذلك، وإنما نشير فقط إلى أن موضع الخمس والزكاة في الأموال العامة ليس وضعاً دقيقاً، فإن قدماء فقهائنا يضعونهما في العبادات لاشتراط النية فيهما، والمحدثون من الفقهاء يضعونهما وسائر الأموال العامة كالأنفال والخراج في شؤون الدولة أو ما يطلق عليه بالأمور السلطانية أو الولاية العامة، وهذا الباب هو أنسب الأبواب الثلاثة للخمس والزكاة، والإرث وإن كان يدخل بموجب هذا التنظيم في الأموال الخاصة في قسم الأسباب الشرعية للتملك إلا أنه أكثر انسجاماً بالأحوال الشخصية ۔ أي القسم الأول من السلوك الخاص ۔ ومهما يكن من أمر، فإن هذا المنهج لو توفّر له نقد علمي دقيق وجرى عليه تعديل في ضوء هذا النقد يصلح أن يكون أساساً جيداً لتنظيم أبواب الفقه.[268]

لكن يلاحظ على هذا النقد أنه لم يأخذ بالاعتبار المحور الذي اعتمده السيد الشهيد في تقسيمه من جهة، ولم يأخذ بالاعتبار ۔ أيضاً ۔ المباني الفقهية للسيد الشهيد من جهة أخرى.

فما ذكره من كون الخمس والزكاة من العبادات وفقاً لرأي الأقدمين ومن شؤون الدولة ۔ الأمور السلطانية ۔ وفقاً لرأي المحدثين ليس دقيقاً؛ لأن الزكاة ۔ من وجهة نظر السيد الشهيد[269] ۔ وإن كان يُشترط فيها نية القربة إلا أنه احتياطي؛ ولذلك يصح دفع الزكاة ويجري في الحالات التي لا يشتمل الدفع على نية التقرب.

كما أن وضع الخمس والزكاة في شؤون الولاية ليس صحيحاً؛ لأنهما وإن کانا موضوعاً لتصرف الولي أو الحاكم إلا أن موضوع تصرفاته أعم من المال، إذ يشمل تصرفه المال وغيره؛ ولذلك فإن تصنيف السيد الشهيد من هذه الجهة لا غبار عليه.

أما ما ذكر الناقد من أن الأنسب في وضع الميراث هو الأحوال الشخصية فليس صحيحاً؛ إذ مع أنه مصطلح غير شرعي فقد لاحظ الناقد على الزرقا أنه في تقسيمه أقرب إلى الفقه الوضعي، وهذا المصطلح منه أيضاً. كما أن السيد الشهيد في تقسيمه أخذ عنوان السلوك وليس عنوان الشخص ليقال له: إن الميراث مما يتصل بالشخص؛ لأن الميراث ليس من السلوك لا الخاص ولا العام أيضاً.

[1]. الفتاوى الواضحة، محمدباقر الصدر، ص 93، الطبعة الثامنة، بيروت، دارالتعارف، 1992م.

[2]. الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، محمدباقر الصدر، بحث نشر في مجلة الأضواء النجفية، راجع الاجتهاد والحياة، حوار على الورق، ص 153، محمد الحسيني طبعة مركز الغدير، الطبعة الأولی، 1996، بيروت.

[3]. الإسلام يقود الحياة، محمدباقر الصدر، ص 60، طبعة دار التعارف، بيروت،1990.

[4]. بحوث في شرح العروة الوثقى، محمدباقر الصدر، ج 1، المقدمة، الطبعة الثانية، إيران، 1408ق.

[5]. الإسلام يقود الحياة، محمدباقر الصدر، ص 52.

[6] الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، محمدباقر الصدر، ص 158.

[7] منهاج الصادقين، محمدباقر الصدر، ج 2، ص 612، الطبعة الثانية، بيروت، دار التعارف، 1976، كتب في التعليقة: (الأحوط وجوباً عدم الجواز في سائر الأعيان أيضاً). فلم يُجز إجارة الأعيان المستأجرة ۔ مطلقاً ۔ دون إحداث شيء فيها أو إجارتها بغير جنسها، على خلاف السيد الحكيم وباقي الفقهاء في اقتصارهم على ما ورد في النصوص من الدار والدكان والأجير، بل والسفينة والأرض والرحى.. .

[8]. الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق، بحث في الاجتهاد والحياة، محمدباقر الصدر، ص 166.

[9]. مستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم، ج 12، ص 8، طبعة قم، 1404ق، مكتبة المرعشي.

[10]. منهاج الصالحين، ج 2، ص37.

[11]. اقتصادنا، محمدباقر الصدر، ص 437، الطبعة العشرون، 1987، دار التعارف، بيروت.

[12]. الإسلام يقود الحياة، ص 64.

[13]. مباحث الأصول، كاظم الحائري، تقريرات بحث الشهيد، ج 2، ص 215، طبعة قم.

[14]. م. ن، ج 3، ص 387.

[15]. م. ن، ج 1، ص 487، وراجع: بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 4، ص 119.

[16]. بحوث في علم الأصول، محمود الهاشمي، تقريرات بحث الشهيد، ج 4، ص314، طبعة قم، 1405.

[17]. انعكست هذه الدعوى في بعض الدراسات الأصولية، رغم أنها شديدة الصلة بمدرسة الشهيد الصدر، راجع: الحلقة الثالثة بأسلوبها الثاني، باقر الإيرواني، ج 2، ص515، الطبعة الأولى، قم، 1415.

[18]. في إحدى محاضراته حول الاجتهاد في الإسلام قال الشهيد مرتضى المطهري: (أتذكر أنني في سنة 1322ش سافرت إلى بروجرد، حيث كان المرحوم آية الله البروجردي ما يزال هناك، أي قبل نزوحه إلى قم، وفي يوم من الأيام تناول الحديث فكر الأخباريين هذا، فقال المرحوم في مضمار انتقاد له، إن ظهور هذه الفكرة عند الأخباريين كان على أثر ظهور الفلسفة الحسية في أوروبا. هذا ما سمعته يومئذ منه، وبعد ذلك عندما قدم إلى قم يدرس الأصول وبلغ في بحثه هذا الموضوع كنت أنتظر منه أن يشير إلى ذلك مرة أخرى، ولكنه مع الأسف لم يتطرق إليه، فأنا الآن لا أدري إن كان قوله ذاك مجرد حدس وتخمين، أم أنه كان عنده ما يستند إليه. أنا شخصياً لم أعثر على دليل يؤيد انتقال هذه الفكرة من الغرب إلى الشرق، وهو عندي مستبعد. ولكني من جهة أخرى، أعتقد أن المرحوم آية الله البروجردي لم يكن ليدلي برأي بدون دليل، وإني لألوم نفسي على عدم الاستفسار منه) راجع الاجتهاد في الإسلام، ص 15، سلسلة محاضرات في الدين والاجتماع، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، طبعة طهران، مؤسسة البعثة.

[19]. ذكر السيد الشهيد كما ورد في تقريرات بحثه للسيد الهاشمي ما نصه: (ومن الطريف ما نقل عن السيد البروجردي(قده) من أن هذه النزعة التي ظهرت على يد الأسترابادي متسربة إلى الفكر الإسلامي من النزعة التجريبية الحسية في الفلسفة الأوروبية آنذاك التي رفضت المدركات العقلية، حيث كانت النزعتان متقاربتين زماناً. وهذه الملاحظة غير صحيحة لما أشرنا إليه في (معالم الأصول) من أن الاتجاه التجريبي في الفلسفة الحديثة متأخر زماناً من المحدث الأسترابادي، فإنها حصلت في أواخر القرن الثاني عشر بينما المحدث الأسترابادي كان يعيش في القرن الحادي عشر، فلو كان هناك تأثير متبادل بين النزعتين فلابد وأن يكون بالعكس بأن تتسرب النزعة التجريبية من الاتجاه الذي أوجده المحدّثون إلى الفلسفة الأوروبية، إلا أن هذا كله على فرض التعامل مع مدعيات الأسترابادي على أساس أنها تمثّل النزعة الحسية في نظرية المعرفة وهذا غير واضح؛ إذ ليس المستفاد من كلامه أنه يروم حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة، بل غرضه حصر المعرفة بالدليل الشرعي النقلي، وإلغاء الدليل العقلي النظري في مجال استكشاف الحكم الشرعي.) بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 125.

[20]. الفتاوى الواضحة، ص 98.

[21]. بحوث في علم الأصول، تقريرات بحث الشهيد، ج 7، ص28.

[22]. م. ن، ج 7، ص 30 ۔ 365.

[23]. مباحث الأصول، تقريرات بحث الشهيد، كاظم الحائري، ج 3، ص 127، الطبعة الأولى، قم، 1415ق.

[24]. بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 23.

[25]. الفتاوى الواضحة، ص 98.

[26]. م. ن.

[27]. بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 69.

[28]. م. ن، ج 3، ص 320.

[29]. م. ن، ص 239.

[30]. م. ن، ج 2، ص 83.

[31]. بحوث في شرح العروة، ج 3، ص 191.

[32]. م. ن، ص198.

[33]. قال السيد الشهيد في بحث (إحياء الموات) على ما هو مقرر عنه وفي بحث تحليل الخمس والأنفال للشيعة: (وأما البحث عن التحليل بالنظر إلى مجموع الأخبار لا خصوص الصحاح منها فلابد من التأمل فيها لنرى أنه هل تفترق النتيجة بناء على ملاحظة مجموعها عما إذا لاحظنا خصوص الصحاح منها أم لا؟ وببالي أن الشيخ الأعظم(قده) في كتاب الطهارة في مبحث الحيض في مسألة من المسائل ذكر وجهاً مبتنياً على مبنى ووجهاً آخر مبتنياً على مبنى آخر وهكذا.. وهكذا إلى أن أنهاها إلى أحد عشر وجهاً. ولله درّه فإنه الذي علّم كيفية الاستنباط وعلّم الناس كيفية الاجتهاد واستنباط الأحكام). راجع: إحياء الموات، الشيخ محمد إبراهيم الأنصاري، ص 72، تقريراً لبحث الشهيد، الطبعة الأولى، دار التعارف، بيروت، 1993.

[34]. يمكن أن نشير إلى الميل التاريخي عند السيد الشهيد في ضبط المسائل الفقهية أو الأصولية في مثالين، أولهما في الفقه ويمكن مراجعة (إحياء الموات)، للأنصاري، ص 50، وتحديداً في مقام التتبع التاريخي لمسألة أخبار التحليل، وثانيهما، في الأصول كما يظهر في عملية تأرخة آراء أستاذه السيد الخوئي وتطورها عبر الزمن، راجع بحوث في علم الأصول، ج 6، ص 127.

[35]. راجع بحوث في شرح العروة الوثقى، السيد الشهيد، ج 1، ص 72، 257، 475؛ ج2، ص210، 229؛ ج4، ص 226.

[36]. بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 189 وما بعدها.

[37]. م. ن، ص 239.

[38]. م. ن، ج2، ص 319.

[39]. م. ن، ص 51.

[40]. م. ن، ص 283.

[41]. م. ن، ج3، ص 383.

[42]. إحياء الموات، ص 41 وما بعد.

[43]. بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 1، ص 18.

[44]. م. ن، ص 9 ۔16.

[45]. م. ن، ج3، ص 115.

[46]. م. ن، ج1، ص 420 ۔ 472.

[47]. م. ن، ص 260 ۔ 272.

[48]. م. ن، ج3، ص 259.

[49]. وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة.

[50]. بحوث في شرح العروة الوثقی، ج 3، ص 447.

[51]. التنقيح في شرح العروة الوثقی، تقريرات بحث الخوئي، الميرزا علي الغروي، ج 3، ص 72، طبعة النجف الأشرف.

[52]. بحوث في شرح العروة الوثقی، ج 3، ص 303 وراجع ج 1، ص 410.

[53]. م. ن، ج 4، ص 5.

[54]. م. ن، ج 2، ص 66.

[55]. بحوث في علم الأصول، ج 5، ص 437.

[56]. مباحث الأصول، ج 2، ص 484.

[57]. كما في الرواية عن النبي(ص) أنه قال: (الأمور ثلاثة: أمرٌ بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله). وثمة طرق أخرى وألفاظ أخرى.

[58]. مباحث الأصول، ج3، ص 425.

[59].الحر العاملي، باب 38 من أبواب النجاسات حديث رقم 5.

[60]. بحوث في شرح العروة الوثقی، ج 3، ص 331.

[61]. التنقيح، الميرزا علي الغروي، ج 2، ص 199، انظر الوسائل، باب 10 من أبواب الماء المطلق حديث رقم 1.

[62]. بحوث في شرح العروة، ج 1، ص 463.

[63]. بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 349.

[64]. بحوث في شرح العروة، ج 3، ص 419.

[65]. الوسائل الشيعة، الحر العاملي، باب 8 من الأسآر، حديث 5.

[66]. التنقيح، ج 2، ص 442، المستمسك، الحکيم، ج 1، ص 272.

[67]. بحوث في شرح العروة، ج 2، ص 289.

[68]. منهاج الصالحين، الصدر، ج 1، ص 27 و150،كتب معلّقاً على منهاج السيد الحكيم في عدّ الكافر في النجاسات: (على الأحوط، والأقوى الطهارة في أهل الكتاب، وفي كل من حكم بكفره من منتحلي الإسلام) وقال في موضع آخر: (الحكم بنجاسة سؤر الكافر غير الكتابي مبني على الاحتياط).

[69]. منهاج الصالحين، محمدسعيد الحكيم، ج 1، ص 126 ۔ 127، الطبعة الأولى، دار الصفوة، بيروت، 1994.

[70]. فقه الشريعة، محمدحسين فضل الله، ج 1، ص 46، الطبعة الأولى، دار الملاك، بيروت، 1999.

[71]. منهاج الصالحين، ج 1، ص 149- 150.

[72]. م. ن، ص 19.

[73]. الفتاوى الواضحة، ص 189.

[74]. منهاج الصالحين، ج1، ص 58.

[75]. م. ن، ج 1، ص 62.

[76]. فقه الحياة، حوارات مع السيد فضل الله، أحمد أحمد وعادل القاضي.

[77]. مصباح منهاج الصالحين، محمد سعيد الحكيم، ج 3، ص 310 ۔ 315، الطبعة الأولی، مؤسسة المنار، قم، 1996.

[78]. منهاج الصالحين، ج1، ص 97.

[79]. م. ن، ص 439.

[80]. م. ن، ص 454.

[81]. كتاب الخمس، محمود الهاشمي، ج 1، ص 397، طبعة قم، مكتب السيد الهاشمي، 1409ق.

[82]. منهاج الصالحين، ج 1، ص 361.

[83]. م. ن، ص 418.

[84]. م. ن، ص 171.

[85]. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمدحسن النجفي، ج 24، ص 56، طبعة طهران، 1368 ش.

[86]. منهاج الصالحين، ج 2، ص 78.

[87]. م. ن، ص 356.

[88]. م. ن، ج 1، ص 28.

[89]. م. ن، ج 2، ص 303.

[90]. في أغلب الموارد التي يذكرها السيد الشهيد محمد الصدر من كتابه (ماوراء الفقه) بعنوان (بعض أساتذتنا) فهو يعني السيد الشهيد وفي بعض الحالات يعني السيد الخميني، وقد أرسلت له رسالة لم يرجع جوابها بسبب استشهاده.

[91]. ماوراء الفقه، ج 2، ص 84، الطبعة الأولى، دار الأضواء، بيروت، 1995.

[92]. الموسوعة العربية الميسرة، ج 2، ص 1783، طبعة دار نهضة، لبنان، بيروت.

[93]. م. ن، ج 3، ص 201.

[94]. م. ن، ص 172.

[95]. الفتاوى الواضحة، ص 115.

[96]. بحوث في شرح العروة، ج 4، ص 259.

[97]. م. ن، ج 3، ص 76.

[98]. م. ن، ص 62.

[99]. إحياء الموات، الأنصاري، ص32 ۔ 33.

[100]. منهاج الصالحين،ج 2، ص 284.

[101]. بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 304 ۔ 365.

[102]. رسالة في الرضاع، تقرير الشيخ محمد أديب قبيسي، ص 119، طبعة دار الملاك، الأولى 1995، وقد وجدنا في باب الرضاع من الوسائل أكثر من ستين رواية عن الصادق(ع) وهو أكثر ما روي عنه في هذا الباب كما في غيره، فراجع الوسائل.

[103]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 18 ۔19.

[104]. م. ن.

[105]. نقل عنه ذلك تلميذه السيد كاظم الحائري وسمعناه من بعض تلامذة الأخير.

[106]. بحوث في شرح العروة، محمد­باقر الصدر، ج 3، ص 350-425.

[107]. مباحث الأصول، السيد الحائري، ج 2، ص 567.

[108]. بحوث في شرح العروة، محمدباقر الصدر، ج 2، ص 66.

[109]. م. ن، ج 3، ص 421.

[110]. م. ن، ج 2، ص 83.

[111]. م. ن، ج 1، ص 233.

[112]. مباحث الأصول، ج 2، ص 513.

[113]. م. ن، ص 229؛ بحوث في علم الأصول، ج4، ص 258.

[114]. بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 347.

[115]. م. ن، ج 7، ص 348.

[116]. م. ن، ج 2، ص 51.

[117]. بحوث في شرح العروة، محمدباقر الصدر، ج 3، ص 85.

[118]. م. ن، ج 1، ص 233. وراجع بحوث في علم الأصول، ج 2، ص 349.

[119]. بحوث فى شرح العروة، ج 3، ص 403 و417 و447.

[120]. كتب في مقدمة كتابه: (.. وقد علمنا بأنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم.. لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا.. ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال..).

[121]. بحوث في شرح العروة، محمدباقر الصدر، ج 2، ص 144.

[122]. م. ن، ص 192.

[123]. م. ن، ص 290.

[124]. م. ن، ج 3، ص 14.

[125]. م. ن، ص 418.

[126]. المفيد من معجم رجال الحديث، محمد الجواهري.

[127]. بحوث في شرح العروة، ج 2، ص 144.

[128]. م. ن، ج 2، ص 83.

[129]. مباحث الأصول، ج 3، ص 318.

[130]. عدل السيد الشهيد عن ذلك وصحح السند بناء على ما ذكرناه سابقاً.

[131]. إحياء الموات، الأنصاري، ص 80.

[132]. مباحث الأصول، الحائري، ج 3، ص 237.

[133]. بحوث في شرح العروة، السيد محمدباقر الصدر، ج 3، ص 75.

[134]. م. ن، ج 1، ص 329.

[135]. م. ن، ج 3، ص 340.

[136]. م. ن، ص 234.

[137]. م. ن، ص 226.

[138]. م. ن، ص25.

[139]. م. ن، ص150.

[140]. م. ن، ص 334. وراجع بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 370.

[141]. م. ن، ج 4، ص 264. وراجع بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 370.

[142]. مشايخ الثقات، ميرزا غلام رضا عرفانيان، ص 37، الطبعة الثانية، قم، 1409ق.

[143]. وسائل الشيعة، كتاب الطهارة، باب 13 من أبواب النجاسات، حديث رقم 3.

[144]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 228.

[145]. وسائل اشيعة، كتاب الطهارة، باب 11 من أبواب الماء المطلق حديث 1 ۔ 3.

[146]. بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 1، ص 429، ومشايخ الثقات، ص 38.

[147]. مشايخ الثقات، ص 38.

[148]. م. ن.

[149]. م. ن، ص 40.

[150]. م. ن، ص 42.

[151]. بحث في شرح العروة، الصدر، ج 4، ص 295.

[152]. مباحث الأصول، الحائري، ج 2، ص 591.

[153]. يحوث في علم الأصول،الهاشمي، ج 7، ص355.

[154]. مباحث الأصول، الحائري، ج 3، ص 318.

[155]. م. ن، ج 2، ص 511.

[156]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 357.

[157]. م. ن، ج 4، ص 284.

[158]. المفيد من معجم رجال الحديث، الجواهري، ص 613.

[159]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 2، ص83.

[160]. م. ن، ج 3، ص 419.

[161]. مباحث الأصول، الحائري، ج 2، ص 591.

[162]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 442.

[163]. راجع البحث القيم الذي كتبه الباحث ثامر العميدي بعنوان الجديد في علمي الدراية والرجال عند الشهيد الصدر، المنشور في مجلة قضايا إسلامية، العدد 3، ص 9-1، نشر قم، 1996.

[164]. راجع مباحث الأصول، ج 3، ص 238، والقضاء في الفقه الإسلامي، ص 52، وتحرير المقال في كليات علم الرجال، مهدي الهادوي، ص 129، الطبعة الأولی، قم، 1412ق.

[165]. سواء كان مجهولاً أم مهملاً أم مجروحاً.

[166]. اقتصر بعض تلاميذ الشهيد على هذا الشرط كما عن السيد محمد باقر الحكيم في بحثه (النظريه السياسية عند الشهيد الصدر) في حديثه عن نظرية التعويض، راجع: قضايا إسلامية، ص 256.

[167]. اقتصر الشيخ باقر الإيرواني على هذا الشرط كما في كتابه: دروس تمهيدية في القواعد الرجالية، ص 294، طبعة قم.

[168]. وقد أشار إلى ذلك أيضاً السيد الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي، ص 58.

[169]. بحث السيد في محتملات هذه العبارة بما يخدم نظرية التعويض، راجع مباحث الأصول، الحائري، ج 3، ص 240.

[170]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 4، ص 51.

[171]. م. ن، ج 3، ص 125 ۔ 126، وج 1، ص 464.

[172]. التنقيح في شرح العروة، ج 2، ص 463.

[173]. مباحث الأصول، الحائري، ج 3، ص 245.

[174]. م. ن، ج 2، ص 250 وما بعد.

[175]. ناقش السيد الحائري في تمامية هذا الاستظهار فكتب: (وعلى أي حال فالإنصاف أن هذا الشكل الأخير من التعويض غير صحيح؛ لما قلنا من أن مشيخة الفقيه ليست فهرستاً، ولا معنى لفرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لها). القضاء في الفقه الإسلامي، ص 265.

[176]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 5، ص 60، وراجع شرح العروة الوثقى، الصدر، ج 1، ص 329.

[177]. ذكر السيد الخميني في كتابه الاستصحاب، ص 220: (وليس مخاطبة الشارع مع الناس إلا كمخاطبة بعضهم بعضاً..). الطبعة الأولى، 1417ق، قم، نشر مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني.

[178]راجع بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 28 وما بعدها. وقد تحدث السيد الشهيد عن العوامل التي تفسر ظاهرة التعارض بين النصوص، فراجع.

[179]. اقتصادنا، الصدر، ص 391.

[180]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 333.

[181]. اختلاف الحديث، علي السيستاني، تقريرات بحثه بقلم السيد هاشم الهاشمي، لم يطبع بعد.

[182]. أصول الفقه المقارن، محمدتقي الحكيم، ص 369 ۔ 370، طبعة بيروت، دار الأندلس.

[183]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 35.

[184]. م. ن، ص 38.

[185]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 243 ۔ 244.

[186]. م. ن، ج 3، ص 254.

[187]. م. ن، ص 250.

[188]. م. ن.

[189]. م. ن، ج 1، ص 426.

[190]. م. ن، ج 3، ص 301 و204.

[191]. م. ن، ص 351.

[192]. م. ن، ص 254.

[193]. وسائل الشيعة، الحر العاملي، كتاب الأطعمة، باب 5، حديث رقم 6.

[194]. قوله تعالى: <قُلْ لاٰ أَجِدُ في مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ>. الأنعام: 145.

[195]. بحوث في شرح العروة، ج 3، ص 194 ۔ 195.

[196]. م. ن، ص 254.

[197]. م. ن.

[198]. م. ن، ج 2، ص 63.

[199]. الوسائل الشيعة، الحر العاملي، باب 8 من أبواب الماء المطلق، حديث رقم 12.

[200]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 1، ص 287.

[201]. اقتصادنا، الصدر، ص 393-394.

[202]. الفتاوى الواضحة، الصدر، ص 98.

[203]. مباحث الأصول، الحائري، ج 2، ص 94 ۔ 131.

[204]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 1، ص393 و404، ج2، ص 216-217 و271-272، وراجع بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 5، ص 450 وما بعد.

[205]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 2، ص 96.

[206]. م. ن، ج 5، ص 473.

[207]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 86.

[208]. م. ن، ج 1، ص 415.

[209]. المستمسك، الحكيم، ج 1، ص 402.

[210]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 338.

[211]. منهاج الصالحين للسيد الحكيم مع تعليقته، محمدباقر الصدر، ج 2، ص 184.

[212]. مستند العروة الوثقى، مرتضى البروجردي، تقريرات بحث الخوئي، كتاب الإجارة، ص 459.

[213]. منهاج الصالحين، الصدر، ج 2، ص 184.

[214]. الوسائل الشيعة، الحر العاملي، كتاب اللقطة، باب 11، حديث 1 ۔ 2.

[215]. إحياء الموات، الأنصاري، ص 44.

[216]. اقتصادنا، الصدر، ص 705.

[217]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 333.

[218]. م. ن، ص 140.

[219]. التنقيح في شرح العروة، الغروي، ج 1، ص 296.

[220]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 2، ص 56.

[221]. نلاحظ تشابهاً كبيراً بين ما ذكره السيد الشهيد وبين ما كتبه السيد محمد سعيد الحكيم في كتابه مصباح منهاج الصالحين، ج 1، ص 188، طبعة مؤسسة المنار، قم 1996، ولم يشر السيد الحكيم إلى ذلك.

[222]. الإسلام يقود الحياة، الصدر، ص 199 ۔ 200.

[223]. بحث الأوراق المالية الاعتبارية، المنشور في مجلة رسالة الثقلين، كاظم الحائري، ص 100، العدد التاسع، السنة الثالثة، 1994، الصادرة عن المجمع العلمي العالمي لأهل البيت(ع)، قم.

[224]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 5، ص 450.

[225]. م. ن، ص 451.

[226]. م. ن، ص 472.

[227]. م. ن، ص 488.

[228]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص352 وراجع ج 1، ص 390، واقتصادنا، ص 703.

[229]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 1، ص289.

[230]. م. ن، ج 2، ص252.

[231]. م. ن، ص256.

[232]. م. ن، ص221.

[233]. م. ن، ص62.

[234]. اقتصادنا، الصدر، ص 701.

[235]. موجز أحكام الحج، محمد باقر الصدر، ص 168، نشر دارالإسلام، مؤسسة العارف، بيروت، 1995.

[236]. منهاج الصالحين، الصدر، ج 2، ص307.

[237]. بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 7، ص 333.

[238]. مباحث الأصول، الحائري، ج 2، ص 255.

[239]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 3، ص 297.

[240]. مباحث الأصول، ج 2، ص 355.

[241]. بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 334.

[242]. بحوث في شرح العروة، ج 4، ص 352.

[243]. منهاج الصالحين، ج 1، ص 419.

[244]. الإسلام يقود الحياة، الصدر، ص 197.

[245]. بحوث في شرح العروة، الصدر، ج 1، ص 63.

[246]. م. ن، ج 3، ص 250.

[247]. م. ن، ج 2، ص 247.

[248]. م. ن، ج 2، ص 242.

[249]. م. ن، ج 3، ص 370.

[250]. م. ن، ج 1، ص 80 وينبغي التنويه إلى أننا في مقام ملاحقة المفردات المنتشرة في أبحاث السيد الشهيد والتي تكشف عن حسه التاريخي، ولسنا بصدد الاستدلال النهائي في المسألة.

[251]. م. ن، ج 2، ص 64.

[252]. م. ن، ج3، ص 62.

[253]. م. ن، ج 2، ص 229.

[254]. م. ن، ج 3، ص 240.

[255]. م. ن، ص 242.

[256]. م. ن، ج 2، ص 242.

[257]. م. ن، ج 2، ص 249 ۔ 250.

[258]. الإسلام يقود الحياة، ج 1، ص 20.

[259]. م. ن، ج 3، ص 360.

[260]. م. ن، ج 2، ص 261 ۔ 262.

[261]. منهاج الصالحين، الصدر، ج 1، ص 62.

[262]. م. ن، ج 2، ص 11 ۔12.

[263]. الفتاوى الواضحة، الصدر، ص 620.

[264]. الإسلام وإيران، مرتضی مطهري، ج 2، ص 96، مترجم إلى العربية، محمدهادي اليوسفي، طبعة إيران.

[265]. الفتاوى الواضحة، الصدر، ص 94 ۔ 97.

[266]. م. ن، ص 132 وما بعد.

[267]. علق السيد محمدحسين فضل الله على الفتاوى الواضحة ۔ متفرداً ۔ كما أنه أفاد منها في كتابه الفتوائي الأخير (فقه الشريعة).

[268]. مقدمة النهاية ونكتها للمحقق الحلي، حياة المحقق الحلي، محمدمهدي الآصفي، ص 120_ 122، الطبعة الأولى، نشر مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، قم.

[269]. منهاج الصالحين، الصدر، ج 1، ص 442.