تحسين بدري
المقدمة
إن التغير كالثبات في الشرائع والملل من الأمور المسلّمة ولا نقاش فيه، فهو سنة كل شريعة إلهية أو أرضية، وهو ضروري بمستوى ضرروة وجود الثبات في الشريعة، وعدمه يُعدّ نقصاً ووجوده كمال، وضرورته لا لنقص في التقنين يمنعه من الثبات والمقاومة، بل لمواكبة الزمان وتغيّراته، ولعدم تحجيم الشريعة بزمان خاص، ولعدم تجريدها من العناصر التي تجعلها مقاومة رغم تطور الزمان وتحوّله.
إن التغير تارة يكون كلياً بحيث يبلغ مستوى الهجر والنسخ كما كان للشرائع الإلهية السابقة مثل شريعة نوح(ع) وإبراهيم(ع) وغيرهما، بل وحتى على مستوى فرق ومذاهب إسلامية حيث كانت وبلغ بها التغيير إلى مستوى لا تعدّ هي نفسها التي كانت ونحن نقرأ عنها في كتب الملل ولا وجود لها أكثر من ذلك.
وتارة يكون التغيير جزئياً ينال بعض الشريعة بالنسخ والتحول، وهو تارة يطال التعاليم الأساسية مثل أصول العقائد واللاهوت، وتارة لا يطال التعاليم الأساسية من الشريعة بشيء من التغيير والتحول.. والقسمان الأخيران حصلا لشرائع معاصرة فضلاً عهد غير المعاصرة.
إن ما يهمنا هنا هو دراسة المسألة بلحاظ الشريعة الإسلامية كنموذج تطبيقي لما ذكر من فروض في المقطعين السابقين ومعرفة التغييرات التي قد تحصل أو حصلت للإسلام من أي نوع من أنواع التغيير مع استثناء الخوض في أصول العقائد الإسلامية، لنخصّ البحث في مجال فروع الدين أو الفقه، وفي مجال تمييز المشروع عن غيره من التغيير، ونتعرف في النهاية على رأي السيد الشهيد في الموضوع هذا، من خلال قراءة أخرى لكتابه (اقتصادنا).
من تاريخ التغير في الشريعة الإسلامية
إن بداية التغير في تعاليم الشريعة يعود تاريخه إلى أول حكم نسخ في القرآن في السنوات الأولى من نزوله.. فالمعروف أن هناك عدة أحكام صدرت من دون قيد زمني ونسخت بعد فترة من نزولها، نأتي هنا ببعضها:
١. عدة المتوفى عنها زوجها، حيث كانت سنة كاملة وأقرّتها الآية 240 من سورة البقرة، ونسختها الآية 12 من سورة النساء لتكون أربعة أشهر وعشرة أيام.
٢. حكم الفاحشة حيث كان الحبس والهجر في البيت كما تشير إلى ذلك الآيتان 15 و16 من سورة النساء، قد نُسخت بآيات الحدود من الجلد والرجم كالآية الثانية من سورة النور.
٣. حكم التوراث بالمؤاخاة والهجرة الذي أشير إليه في الآية 72 من سورة الأنفال، وقد نسخ بالحكم بالتوريث بالقرابة والرحم بالآية السادسة من سورة الأحزاب.
هذه بعض موارد التغيير في الشريعة على مستوى نسخ، بعبارة أخرى تغيير تنزيلي من قبل صاحب الشريعة ذاته.
أما على مستوى الرسول(ص) فينقل عنه موارد للتغيير، منها: أنه أزاد على الصلوات الرباعية التي كانت ثنائية ركعتين لتصبح رباعية، وعلى المغرب ركعة لتصبح ثلاثاً[1]. ومنها: أنه حرّم كل مسكر بعد ما حرّم الله الخمر فحسب.[2]
وعلى مستوى الأئمة(ع) فإن التغيير عندهم ملحوظ أكثر من التغيير الذي صدر عن الرسول، وحجمه أكثر بكثير، وإحصاء الموارد جميعها صعب جداً، إلا أن المسلّم به هو كثرة موارد التغيير وسعتها، وقد تكون أوضح هذه الموارد هو فرض الزكاة على الخيل من قبل الإمام علي(ع) [3]، رغم أنه لا وجود لهكذا زكاة في فرض الرسول(ص)، وكذا فرض الخمس من قبل الإمام الصادق(ع) على موارد غير التي فرض فيها الخمس عهد الرسول(ص) أي غير الغنائم الحربية.
وتحليل هذه التغييرات وغيرهما من النماذج الكثير، ومقارنة بعضها بالآخر يخرجنا بالنتائج التالية:
أ ۔ أن طروّ التغيير على الشريعة أمر مسلَّم وأن الشريعة طرأها التغيير وهي في المهد، كما يلاحظ ذلك في النسخ وفي تغييرات الرسول(ص).
ب ۔ أن التغيير أمر مشروع ومن طلب الشريعة، ولا إشكال في جوازه، وصدوره من أرباب الشريعة ومنزّلها وكذا رسوله دليل على ذلك.
ج ۔ أن التغييرات ماضية الذكر تشترك جميعاً في أنها نالت فروع الدين بالتغيير دون أصوله، فلم يلحظ تغيير فيها على صعيد أصل التوحيد أو المعاد مثلاً.
د ۔ أن النسخ يمتاز بتغيير على مستوى الأحكام الإلزامية، مثل وجوب الاعتداد ووجوب الحبس والهجر ووجوب التوريث، حيث إن التغيير طال هذه الأحكام رغم أنها إلزامية.
هـ ۔ يمتاز تغيير المعصومين بأنه طال الأحكام غير الإلزامية دون الإلزامية، فزيادة ركعتين على الصلاة أو النية عن استخدام كل سكر من قبل الرسول(ص) تغيير في المباحات من الأحكام، وكذا إيجاب الخمس في غير غنائم الحرب، وفرض الزكاة على الخيل إيجاب لما أبيح تخميسه أو زكاته.
وبعبارة أخرى: أن التغيير الصادر من المعصومين كان تغييراً على مستوى توسيع دائرة الواجب أو المحرّم لا تغييراً في نفس الواجب أو نفس المحرم كما كان في نفس النسخ.
و ۔ أن تغيير المعصومين لم يلحظ فيه تغيير على مستوى تضييق دائرة الواجبات والمحرمات أو تعطيلها، فلا يوجد وثيقة من رواية أو غير ذلك تثبت أن الرسول(ص) أو الأئمة(ع) ضيّقوا من دائرة الواجبات أو المحرمات في الحالات غير الاستثنائية، أو أنهم عطّلوا شيئاً منها.
إن تعطيل الرسول للحج في سنة من السنوات[4] محمول على حالة استثنائية من قبيل الضرورة أو الاضطرار، ولا يُحمل على صلاحية الرسول(ص) في تعطيل أحكام الشريعة الإلزامية. ولا أتصوّر هناك من يحمل هذا التصور عن الرسول، والموارد الشبيهة للمورد السابق كثيرة جداً، وعدّها من باب تعطيل الأحكام غلط فاحش.
كما أن تحليل أكل لحم الحُمر والبغال في أقوال الأئمة رغم حرمته في أقوال وممارسات الرسول(ص) ليس تغييراً في الحرام الإلزامي؛ وذلك لأن منع الرسول لم يكن منعاً إلزامياً من الأول، بل ترجيحياً أو أن منعه كان بدافع حكومي، وهو من الأحكام الخاضعة للزمان والمكان باعتبار حاجة المسلمين آنذاك لظهور هذه الحيوانات كوسيلة نقل.
كان ذلك جانباً صغيراً جداً من التغيير الذي طرأ على الشريعة في عهد الرسول والأئمة، وقد مضى تحليلنا له.. . أما التغييرات التي حدثت بعد عهد المعصومين فهي حاصلة قطعاً، وقد لا تكون قليلة، إلا أن ما يهمنا هنا هو معرفة التبرير الشرعي لها، وبعبارة أخرى صلاحية الفقيه في التغيير في الشريعة.
التغيير عند الفقهاء
لقد عدّ الفقهاء ظروفاً عديدة تؤهّل الحكم للتغيير، لكل ظرف مبرره ودليله الشرعي الخاص، كما أن أكثرها إذا لم يكن جميعها اتفاقي لا اختلاف فيها.. وتدخل جميعها تحت العنوان العام (الأحكام الثانوية) وفرقها عن الأولية، أن الأخيرة تعبّر عن رأي الشارع وموقفه تجاه قضيةٍ ما في الحالات المادية والمستمرة، أما الأحكام الثانوية فإنها تعبّر عن موقف الشارع كذلك إلا أنه في الحالات الاستثنائية. والحالات المفروضة هي كالتالي:
- الاضطرار.
- العسر.
- الحرج.
- العجز، أي ما لا يطاق.
- الجهل، أي ما لم يُعلم.
- الإكراه.
- النسيان.
- الخطأ.
- الضرر.
- التقية.
ذلك فيما يتعلق بموارد التغيير الخاصة بالظروف الاستثنائية والأحكام الثانوية، وهناك موارد أخرى تفسّر وتبرّر التغير الذي طرأ على الشريعة على يد الفقهاء، ترجع عمدةً إلى تغير في موضوع الحكم واقعاً أو من حيث تغير العرف أو القيمة التي يمنحها أو يسلبها العرف عن الموضوع:
أ ۔ تغيّر الموضوع واقعاً مثل انقلاب الخمر خلّاً، فإن الموضوع هنا تغيّر واقعاً ولا يصدق كونه خمراً. ومثال آخر: تحول الميتة إلى تراب؛ فإن النجاسة مترتبة على ذات الميتة، أما إذا تحولت إلى تراب فتخرج عن كونها ميتة نجسة.
ب ۔ تغيير نظرة العرف تجاه الموضوع، وهذا صادق في مجال الأحكام التي علّق الشارع تحديد موضوعها على العرف، مثلاً نفقة الزوجة كانت تُقدّر في السنة الواحدة بمائة دينار وبلبس ملابس من أقمشة طبيعية وتوفير وسائل بيتية بسيطة، أما الآن فالنفقة تحتاج إلى أكثر بكثير من المائة دينار وتوفير أقمشة ملابس صناعية أغلى من الطبيعية وأكثر تنوعاً، وكذا وسائل منزلية كالغسّالة الكهربائية والمكنسة الكهربائية وأمثال ذلك، وتُعدّ جميعها من ضمن النفقات الواجب توفيرها.. هذا بالنسبة إلى العرف العام وتحولاته الملموسة وتأثير هذه التحولات على الحكم الشرعي.
وكذا الحال بالنسبة للعرف الخاص كعرف الأطباء فإنه في تحوّل دائم ومستمر، وطبيعي أن تختلف وتتغير الأحكام المترتبة عليه بسبب تغيره.
ج ۔ تغيّر قيمة الموضوع، إن الدم قبل القرن الحالي كان فاقداً لأي قيمة تُذكر؛ لذا كان غير مؤهل للبيع والشراء، أما حالياً فقد اختلف الأمر بفضل تطور الوسائل الطبية، وأصبح ذاقيمة يمكن بسبب ذلك بيعه وشراؤه وإجراء المعاملات عليه.
وهناك عاملان آخران لا يرتبطان بالعرف، يبرران التغيير في جزء كبير من الأحكام الشرعية ويحظيان بأهمية قصوى من هذه الناحية:
الأول: تطور علم أصول الفقه
إن أصول الفقه مجموعة من الآليات التي يعتمدها الفقيه لاستنباط الحكم الشرعي، وباعتبار أن جُلّ هذه الآليات تعتمد العقل بشكل كلي أو جزئي فهي متغيرة ومتطورة بتطور العقل.
إن ملاحظة تاريخ تطور هذا العلم يوضح لنا مدى إمكانية تأثيره في قضية التحول والتغيير في الأحكام، إن هذا العلم بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ولا وجود له أصبح يشكّل قسماً من الدراسة الفقهية لعلمائنا المتقدمين، وبعد مراحل من التطور التي مرّ بها أصبح علماً مستقلاً يُدرس بمعزل عن الفقه، ولا زالت آلياته والنظريات المطروحة فيه تتحول وتتغير بمرور الزمن.
إن الاختلاف في حجية ومصداقية آلية ما، أو الاعتقاد بتقدمها أو تأخرها يؤثّر من دون شك في تغير الأحكام. إن القول بحجية الاستصحاب عند بعض والقول بعدم حجتيه عند البعض الآخر، وكذا القول بالمفهوم لبعض الجمل وعدم القول بالمفهوم لذلك البعض، أو القول بتقدم أصالة الاحتياط على البراءة عند السيد الشهيد، والقول بتقدم البراءة على الاحتياط عند غير السيد الشهيد، من أوضح المصاديق على تأثير تطور وتحول هذا العلم على قضية التغير في الأحكام الشرعية وطريقة استنباطها من مصادرها.
الثاني: أهلية الأحكام للتغير
إن هذه الأهلية ليست ذاتية للأحكام، بل بسبب عدم قطعية مصادرها؛ فإن المعروف أن ما يقرب من خمسة وتسعين بالمائة من الأحكام ظنية أو ذات مستوى دون الظن بكثير، والأمر يرجع بالنسبة إلى القرآن هو ظهوره في المرادات وعدم نصه فيها، وبالنسبة إلى السنّة فبسبب عدم نصها في المرادات تارة وإلى عدم قطعية السند والصدور تارة أخرى.[5]
إن عدم إمكانية القطع بهذه المصادر هو الأرضية المناسبة والخصبة لإيجاد التغيير والتحول في استنطاق المفاهيم والتعاليم منها. وحتى لو كانت هذه النسبة من الأحكام من الثوابت في الواقع وعند الله، إلا أن ظنية مصادرها تفرض شيئاً آخر وهو التحول والتغيير حسب تحول عقلية الإنسان وتفهّمه لها.
ولو شاء الله لجعل مصادرها جميعاً قطعية سنداً ونصاً، إلا أنه لم يحصل ذلك، وقد يكون متعمداً لإدخال عنصر الزمان وتطوراته في عملية استنطاق النصوص واستنباط الأحكام منها.
السيد الشهيد والتغير
إن ما مضى من عوامل ومبررات للتغير في الحكم الشرعي كان من وجهة نظر الفقهاء عموماً، وهي قضايا متفق عليها تقريباً، وما نريد التعرف عليه هنا هو وجهة نظر السيد الشهيد في هذا المجال الذي يُعدّ هدف هذا المقال.
إن السيد الشهيد يقرّ بما تقدم من عوامل للتغير في الحكم الشرعي، وذلك باعتبارها قضايا متفق عليها، ولا أتصور هناك من يشكل في شأنها وبخاصة من أمثال الشهيد الذي يرى مجالاً للتغيير أوسع من ذلك.. هذا إضافة إلى أنه لا توجد وثيقة تدل على رفضه لمورد من الموارد السابقة كعوامل ومبررات للتغيير، بل هناك عدة مقاطع تؤكد ما ذكرناه كما في كتاب اقتصادنا:[6]
.. كما زوّد الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية غير أنها تتكيف في تطبيقها بالظروف والملابسات، وبذلك تحدّد الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع أساليب إشباعها بالرغم من ثباتها، وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ونفي الحرج في الدين.[7]
كما أنه يشير إلى مورد تغيّر موضوع الحكم بسبب تعليق تحديده على العرف، ويذكر أن الفقير الذي تُدفع له الزكاة هو الذي لم يظفر بمستوى من المعيشة لا العاجز عن إشباع البسيط من حاجاته الأساسية.[8] وعلى التعريف الأول فالفقير موضع ذا مفهوم مرن يتغير من ظرف إلى آخر. كما يشير إلى وجوب تعلّم الطلب على المسلمين وهو مفهوم متغير من زمان إلى آخر وفي حال تطور دائم، فالواجب يتغير كذلك.
هذا، وقد زاد السيد الشهيد على موارد التغيير السابقة مورداً اختلف به مع كثير من الفقهاء[9] وهو مورد الأحكام الحكومية، حيث اعتبر بعض الأحكام الصادرة من الرسول(ص) ذات صبغة زمانية أو مكانية خاصة لا تُعدّ جزءً من التشريع الثابت، وصدرت من الرسول من موقف ولي أمر وإمام للمسلمين لا رسول من الله.. وسمّاها منطقة الفراغ في التشريع.
تفصيل الحديث
يقسّم السيد الشهيد الأحكام إلى إلزامية وغير إلزامية، ويرى الإلزامية ثوابت التشريع الإسلامي وغير الإلزامية متغيراته وعناصره المتحركة، وقد أكد ذلك في مقاطع عديدة من كتابه اقتصادنا نأتي بعض منها:
فلا يجوز للدولة أو ولي الأمر أن يحلّل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطّل قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي، وإنما يسمح لولي الأمر في الإسلام بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامي للمجتمع. فإحياء الأرض واستخراج المعادن وشقّ الأنهار وغير ذلك من ألوان النشاط والاتّجار، أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً عاماً ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في حدود صلاحياته كان له ذلك.[10]
وكما هو واضح في عبارته أنه لا يرى مجالاً للتغيير في مثل الربا المحرّم والإرث الواجب.. بينما يسمح بذلك في مجال ما أباحه الشارع مثل شقّ الأنهار واستخراج المعادن المباحة.
كما يؤكد هذا المعنى أكثر بعبارته التالية:
فإن المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين: أحدهما قد مُلئ من قِبل الإسلام بصورة منجزة لا تقبل التغيير والتبديل، والآخر يشكّل منطقة الفراغ في المذهب قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو ولي الأمر يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للتقصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان.[11]
ثم يأخذ السيد الشهيد ببسط اصطلاح (منطقة الفراغ) ويشرحه أكثر بالشكل التالي:
ونحن حين نقول: منطقة فراغ فإنما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام الذي عاشته الأمة في عهد النبوة؛ فإن النبي الأعظم(ص) قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي، على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه(ص) حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلّغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي(ص) لذلك الفراغ، معبّراً عنه صيغ تشريعية ثابتة، وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف.[12]
نماذج
بعد شرحه لنظرية منطقة الفراغ وإتيان الدليل عليها يأتي بعدة نماذج تطبيقية لرؤيته نكتفي بذكر اثنين منها:
أ ۔ جاء في النصوص: أن النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ، فعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: (قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع فضل ماء وكلاء).[13]
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً، وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأن منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء ليس من المحرّمات الأصلية في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر، أمكننا أن نستنتج أن النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي الأمر.
فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف؛ لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، وألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلإهم للآخرين، تشجيعاً للثروات الزراعية والحيوانية.
وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته، وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً؛ تحقيقاً لمصلحة واجبة.[14]
ب ۔ ورد عن النبي(ص) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها. ففي الحديث عن الصادق(ع): أنه سئل عن الرجل يشترى الثمرة المسمّاة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟ فقال: (قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله(ص)، فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم).
وفي حديث آخر: أن رسول الله أحلّ ذلك فاختلفوا. فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها.[15]
فبيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة، لكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات.[16]
ملاحظة
عند إشارة السيد للجانب غير الإلزامي من الشريعة يستخدم مفردة (المباح) وكما نعلم أن هذه المفردة لها معنيان:
معنى عام يشمل المستحب والمكروه، ومعنى أخص وهو ما تساوى فيه ملاك الفعل والترك. فهل هو يشير بهذه المفردة إلى كلا المعنيين أم لا؟ وبعبارة أخرى هل صلاحية الإمام في التغيير تشمل المستحب والمكروه من الأحكام؟
وفي الإجابة نقول: إن عبارات مثل (فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية) [17] ۔ التي تحدّد صلاحيته في الأحكام غير الإلزامية، الوجوب والحرمة ۔ بإطلاقها يمكن القول بأنها تشمل ما استحبّ أو كُرِه من نشاط.
وكذا العبارة الثانية: (فإن منطقة الفراغ تضمّ جميع ألوان النشاط المباحة بطبيعتها فلولي الأمر أن يتدخل في هذه الألوان من النشاط)[18]، فعبارة (جميع ألوان النشاط المباحة) ظاهرة في أنواع المباحات من المستحب والمكروه والمباح بالمعنى الخاص.
هذا إضافة إلى أن الأمثلة التي يذكرها كمصاديق لمنطقة الفراغ هي مستحبة أو مكروهة في عرف الفقهاء غير السيد الشهيد، فإن منع فضل الماء مكروه عند غيره وبالنسبة إلى البيع السمح بموازين عدل وأسعار غير مجحفة فهو مستحب، وصلاحية الإمام في تغييرها صلاحية تغيير في المكروه المستحب.
إذن لا يريد السيد من مفردة (المباح أو المباحة) الإباحة الخاصة، أي التي تساوى فيها ملاك الفعل والترك، بل يريد منها ما هو أعم من ذلك ليشمل المستحب والمكروه، لكن ما يلحظ على ذلك هو تبرير عدم استخدامه لمفردتي المستحب والمكروه، لِمَ لم يذكرهما أبداً؟!
إن في عدم الاستخدام هذا احتمالات:
منها: أن عدم الاستخدام لشأن لغوي بلاغي ۔ أي من البلاغة ۔ هو استخدام مفردة تضمّ معانٍ كثيرة، ومن غير المستحسن استخدام المفردات (مستحب، مكروه، مباح) وتكرار الاستخدام مع إمكان التعويض عن ذلك باستخدام مفردة واحدة.
منها: أنه في مجال الاقتصاد لا يرى مجالاً للمستحب والمكروه. وبعبارة أخرى كل ما ورد من روايات استفاد منها العلماء الاستحباب والكراهة في المجالات الاقتصادية هي في الحقيقة مصاديق لنظرية منطقة الفراغ مملوءة من قبل المعصومين، فما من نشاط مروي عن المعصومين في هذا المجال يبدو أنه مستحب ومكروه هو في الحقيقة ملء لهذه المنطقة وذا سمة حكومية مؤقتة خاصة بظروف المعصوم وملابسات زمانه ومكانه.
وهذا الاحتمال غير بعيد، فإن حمل الروايات التي منعت عن بعض الحِرَف ۔ مثلاً ۔ على الكراهة في الوقت الحاضر يؤدي إلى اختلال النظام الاقتصادي ونظم المجتمع إذا ما تركت هذه الحِرَف وأُهملت، إضافة إلى أن حمل الروايات الحاثّة على العمل والاشتغال في بعض الحِرَف على الاستحباب يؤدي إلى تضخّم في العاملين في هذا القطاع، وفي النتيجة اختلال آخر في النظم الاجتماعية والاقتصادية.
أما حملها جميعاً على مبنى أنها أحكام صدرت من المعصوم من موقف إمام وقائد للمجتمع يحول دون تبلور صورة الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع.
وقد تترتب اختلالات أخرى على الروايات التي وردت في مجال التجارة والاقتصاد وذكرها جميعاً ليس محل هذا المقال، المهم أنه لا يبعد حملها جميعاً باستثناء موارد خاصة جداً على الملء لمنطقة الفراغ.
ومنها: أن حديثه في كتاب (اقتصادنا) صدر من موقف مبيّن وشارح لنظرية الإسلام ومذهبه في مجال الاقتصاد، ومن الواضح أن النظرية لا مجال فيها إلى ما ترجّح فعله أو تركه، بل الحديث فيها دائماً يكون صارماً، إما بالمنع الباتّ أو السماح، ومجال المستحب والمكروه هو الفقه فقط دون غيره.
إن بيان نظرية أو مذهب ما، يعني بياناً لقوانين النظرية والمذهب، ولم يُلحظ في التقنين مجال لاصطلاحات مثل المستحب والمكروه أو الراجح والمرجوح، فمحل هذه الاصطلاحات غير القوانين التي مخاطبها الحكومة أو الشعوب ككل لا كأفراد، ولا يختص الأمر بالقوانين الاقتصادية بل يشمل جميع المجالات.
لم يُلحظ في أي من الكتب الاقتصادية المدوّنة من قبل اقتصاديين غربيين أو شرقيين عبارة الترجيح في الفعل أو الترك، وهي مسيرة كل من كَتب في هذا المجال، وهي سيرة في محلها. والسيد الشهيد تمشّياً مع هذه السيرة لم يستخدم مفردتي المكروه والمستحب اللتين تعدّان من الاصطلاحات الخاصة بالفقه.
ما مقياس تمييز الثابت عن المتغير من الأحكام؟
والعبارة الأخرى لهذا السؤال هو كيف نميّز الحكم الشرعي العام والدائم عن ذي الصبغة الحكومية المؤقتة؟
وقد تساءل السيد نفسه وطرح هذا السؤال بالعبارة التالية: (فقد جاء في الرواية أن النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلاء.
وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلاء يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر، كما يمكن أيضاً أن يعبّر عن إجراء معين اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها ولي الأمر).[19]
ويبدو أن المقياس الأساسي للتمييز هو القرائن الذاتية وغير الذاتية للنصوص، فهي التي تعيننا على الكشف عن هذا الأمر، وبصيرة المجتهد في هذا المجال وكيفية رؤيته للنصوص تلعب دوراً أساسياً.
مع العلم أن القرينة تختلف من مورد إلى آخر، وربما يمكن حصر القرينة بشكل معين، كما أن وجود تعارض بين نصين للرسول وأحد الأئمة هو أحد القرائن التي تكشف في كثير من الأحيان عن عدم عمومية التشريع وثباته أو حكوميته وتوقيته.
وقد أشار السيد إلى هذا المقياس بالسطرين التاليين اللذين جاءا مباشرة بعد المقطع سالف الذكر وفي نفس الصفحة.
وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقريرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.[20]
مشروعية النظرية
المهم في هذه النظرية ۔ باعتبارها تعبّر عن وجهة نظر الإسلام في مجال الاقتصاد، بل وحتى غير الاقتصاد ۔ هو الاستدلال عليها لا فذلكتها العقلية أو العرفية، أي الإتيان بما يدلّ عليها من القرآن والسنة، ولم يغفل السيد الصدر هذا الجانب المهم من النظرية؛ فكتب في الاستدلال عليها ثلاثة عشر سطراً تحت عنوان: (الدليل التشريعي). ورغم الإيجاز الذي تضمّنه الاستدلال المتناسب مع كتاب اقتصادي غير فقهي أو استدلالي، إلا أنه احتوى على مضامين عالية تفي ۔ إلى حد ما ۔ بما يتبادر لكل متفقه من إشكالات وتساؤل حول مبررات هذه النظرية.
ونحن هنا ۔ بعد إعادة صياغة الدليل التشريعي الذي ذكره السيد الشهيد ۔ نأتي بدليل آخر نرى صلاحيته لتأكيد حجية ومصداقية هذه النظرية:
الدليل الأول: الآية الكريمة <يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ>.[21]
يقول السيد في تفسير الآية والاستدلال بها:
وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضمّ في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية بالمنع عنه أو الأمر به، فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً، وإذا أمر به أصبح واجباً، وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر الأمر بها. كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة، فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ.[22]
وكأن السيد الشهيد يفرض صلاحية الإمام في التشريع أو التغيير أمراً مفروغاً عنه؛ ولذا بدأ بالحديث عن صلاحية أولي الأمر مباشرة، ولم يتحدث عن أصل الصلاحية ومشروعيتها حيث قال: (وحدود منطقة الفراغ..) وهذا هو الصحيح، فإنه لو لم تكن له صلاحية ولم تكن له قدرة تشريعية لما فرض الله طاعته، وإذا كان ولي الأمر مبلّغاً بحتاً فإن فرض طاعته هنا بلا داعي؛ لأن كل ما يصدر عنه عبارة عن بلاغ من الله لا منه ذاته، وبالنتيجة فإطاعة ما يصدر منه هو إطاعة لله مباشرة لا له، أي خلاف ما فرضته الآية؛ وعلى هذا، فأصل صلاحيته في التشريع مسلّمة، وكل ما ينبغي أن ينصبّ عليه الحديث هو حدود تلك الصلاحية لا غير.
الدليل الثاني: الدليل العقلي
إن المسلّم به هو التطور المستمر للإنسان في حياته بجميع أبعادها تقريباً من الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، والتطور هذا يستدعي تطوراً في القوانين والنظم الاجتماعية، تطوراً منسجماً ومتناسباً مع نوعية التحولات وكميتها. وباعتبار أن التغيير والمساس بالتعاليم الإلزامية من الشريعة منهي عنه ولا صلاحية لأي من البشر التغيير فيها، تبقى التعاليم غير الإلزامية ۔ التي لا تُعدّ مخالفتها معصية ۔ مؤهّلة ومنصاعة للتغيير والتحول بيد من هو أهل لذلك، أي ولي الأمر أو الإمام.
ومن جانب آخر فإن شأن الولاية والحكومة تستدعي تنظيم الأمور وتطبيق الشريعة بالشكل الذي يتناسب مع متغيرات الزمان والمكان. فلو فرض أن الإمام لا شأن له غير الإشراف والمراقبة دون الصلاحية في التغيير والتدخل لاختلّ النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، ولتعذّر تطبيق الشريعة بالشكل المطلوب.
فلو فرضنا عدم صلاحية الإمام في الوقت الحاضر في إدخال قيود على قانون (من أحياء أرضاً فهي له)، لأصبح الجزء المعمور من الأرض بأجمعه بأيدي مجموعة قليلة من الناس؛ وذلك باعتبار تطوّر الآليات ووسائل الإحياء حالياً، الأمر الذي يمكّن بعض الأغنياء من الإحياء بسرعة فائقة، باعتبار قدرتهم الشرائية وتمتّعهم بالإمكانيات اللازمة لهذا الأمر.
وكذا الحال بالنسبة إلى أحكام وقوانين من هذا القبيل أشار إليها السيد في (اقتصادنا)، فإنها جميعاً تستدعي تدخّل الدولة أو الإمام للحيلولة دون انحصار الثروات وتكدّس الأموال بيد مجموعة قليلة من الناس وترك الآخرين يعانون من فقر مدقع؛ لأن ذلك وإن لم يتنافَ مع هذه القوانين المفروضة، إلا أنه يتنافى مع مبادئ أقرّها الإسلام وسعى لترويجها مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وأمثال ذلك.
من هم أولي الأمر؟
لم يتعرض السيد بشكل مباشر إلى الإجابة عن هذا الموضوع، رغم أنه أشار إلى شبهة تعيين أولي الأمر بشكل خاطف:
والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في قوله تعالى: <أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ>. فإن هذا النص دلّ بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر، ولا خلاف بين المسلمين في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم. فللسلطة الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة.
وبهذا النص اكتفى السيد الشهيد دون التحديد الدقيق والمراد الأول من أولي الأمر في الآية.
هناك أربعة أقوال في المراد الأولي من <أُولِي الْأَمْرِ> في الآية، وهي:
- أمراء السرايا زمن الرسول(ص).
- الخلفاء الراشدون.
- العلماء.
- الأئمة المعصومون.
والأقوال الثلاثة الأولى هي لأهل السنة، والأخير هو للشيعة.
ومع غض النظر عما يُطرح من أدلة لإثبات صحة كل من الأقوال الماضية، فالمهم هو معرفة رأي السيد الشهيد في هذا المجال.
لا وجود لنص أو عبارة في ثنايا كتاب (اقتصادنا) يكشف عنه مخالفة السيد للرأي المعروف عند الشيعة في تفسير أولي الأمر، فهو كلما أراد الإشارة إلى أولي الأمر استخدم الاصطلاح نفسه أو مصطلح الإمام مكانه، وكلا الاستعمالين والمصطلحين لا يكشف عن أي شيء من قبيل إنكاره لتفسير الشيعة لأولي الأمر، فإن المصطلحين كليهما يستخدمان للإشارة إلى الأئمة المعصومين.
إلا أن ما يلفت النظر هنا هو عدم استخدامه للتحية عند ذكره لأحد المفردتين، كما هو المتعارف عند الشيعة حين ذكرهم لأحد المعصومين، فهل هذا يكشف عن اختلافه مع الشيعة في تفسير الآية والمراد منها، أو أن عدم الاستخدام كان لشأن آخر غير الاختلاف في التفسير؟
يبدو أن عدم استخدام السيد التحية هنا ناشئ عن أمرين:
الأول: أنه يشير باصطلاح أولي الأمر إلى السلطة الشرعية والحكومة المشروعة بأيٍ تمثّلت، من دون لحاظ ما فسّرت به، ومن دون لحاظ اختلاف المسلمين في هذا المجال. وبهذا فهو لا يريد الإشارة إلى أي من تفاسير أولي الأمر، وهذا كما هو واضح لا يحتاج إلى تحية.
الثاني: أنه حتى لو أريد بأولي الأمر الإمام المعصوم، وخُصّ التفسير به، إلا أن هذا لا يتنافى مع إمكانية تعميم المراد وشموله للولي الفقيه ۔ بناء على القول بولايته ۔ وهذا أيضاً لا يحتاج إلى التحية، والقرائن تفيد أنه يقصد الولي الفقيه من هذه المفردة دون غيره.
إن السيد باعتباره يقرّ بولاية الفقيه، ويقرّ بصلاحية للفقيه تبلغ مستوى صلاحية الإمام المعصوم التشريعية، فإذا كانت صلاحية الإمام المعصوم تسع الأحكام المباحة أو غير الإلزامية، فللولي الفقيه نفس الصلاحية والحق في التغيير المتناسب مع ظروف الزمان والمكان.
وفي مجال الحديث عن ولاية الفقيه وصلاحياته هناك نظريات عديدة، قد تكون أهمها ما ذهب إليه الإمام الخميني(قده) من نظرية أُطلق عليها ولاية الفقيه المطلقة، وهي نفسها التي تُستوحى من كتاب (اقتصادنا) من حيث فرض تساوي الصلاحية في التغيير للإمام المعصوم والفقيه غير المعصوم.
إشكالات خاصة
يمكن تقسيم الإشكالات والنقود في هذا المجال إلى ما توجّه من نقود وإشكالات إلى نظرية منطقة الفراغ بشكل خاص، وإلى ما توجّه من إشكالات على القول بوجود التغير في الشريعة بشكل عام، وهي قد لا تعبّر عن قائل بها، بل عبارة عن تصورات أعم من وجود قائل بها.
أما ما يمكن توجيهه من نقد لنفس النظرية فهو في المصاديق التي ذكرت كنماذج تطبيقية لنظرية ملء الفراغ من قبل الرسول(ص) فهو في رأي أكثر الفقهاء ۔ وبخاصة من تقدّم على السيد الشهيد ۔ تُعدّ مصاديق للمستحب والمكروه، أما بناء على رأي الشهيد فهي خلوٌ من عناوين كهذه، بل هي حكومية وخاصة بذلك الزمان، وقد تتصف بالإلزام أي الوجوب والحرمة، لكنها تتصف في نفس الوقت بالتوقيت الزماني والمكاني، وكذا تتصف بعدم الشمولية والثبات، وإلزامها إلزام حكومي ولائي لا أكثر.
وقد أشار السيد إلى هذا الإشكال في بعض عباراته:
وأما أولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، وينظرون دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأمر، فيفسّرون النص الآنف الذكر[23] على أساس أنه حكم شرعي عام، ويفرّعون على هذا الأساس أن النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة؛ لأنهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل ماءه حراماً شرعاً في كل زمان ومكان.
وهذا الموقف الخاص في النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معيّنة فيه درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلّغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة.[24]
ويبدو أن المقطع الأخير من عبارة السيد الشهيد تعبّر عن جوابه بما يمكن أن يصدر من نقد تجاه الإشكال المذكور.
وكما هو واضح فإن الاختلاف مع السيد ليس اختلافاً مبنائياً وفي أصل الاعتقاد بوجود منطقة فراغ في التشريع، بل اختلاف بنائي في المصاديق فحسب ناشئ عن الإغماض عن الوجه الآخر لشخصية الرسول، أي وجه كونه ولي الأمر والقائد للمسلمين، لا عن عدم الاعتقاد بوجود كذا منطقة في التشريع.
إن النماذج التي ذكرها السيد محمولة على الاستحباب والكراهة؛ بناءً على ما يفهم من قواعد الجمع الأصولية عند التعارض بين دليلين، وهي نفسها محمولة على التوقيت وعدم الشمولية، بناءً على قرائن ذاتية أو غير ذاتية لمصادر هذه النماذج تضطرّنا لحملها على التوقيت دون التشريع العام والشمولي بناءً على رأي السيد الشهيد.
وعلى هذا، فلا وجود لنقد[25] مباشر لأصل رؤية وجود منطقة في التشريع لم تملأ من الشارع، والاختلاف في هذا المجال في مصاديق هذه الرؤية. ونحن نرى لهذه المنطقة الكثير من المصاديق التي تُغنينا عن النماذج السابقة على فرض عدم أهليتها للحمل على الملء الحكومي.
من أوضح مصاديق هذه المنطقة المملوءة من قبل المعصوم كولي أمر لا غير هو دعوة الرسول المسلمين لطلب الرزق من مصر[26]، وكذا فرض الإمام علي(ع) الزكاة على الخيل.[27]
لابد أن مصر كانت تمتاز بمزايا اقتصادية مثل وفرة الإنتاج وقلة الكلفة، بحيث دعت الرسول لتحريض المسلمين للمتاجرة هناك، كما أن في عهد الإمام علي لابد من وجود ظروف مالية خاصة دعته لفرض الزكاة على الخيل رغم عدم وجوبه في زمن الرسول(ص).
والمقالان السابقان محمولان على الاستحباب عند أمثال صاحب الوسائل، والسبب هو ما ذكره السيد الشهيد في أنهم يغمضون العين عن الجانب الآخر من شخصية الرسول أو الإمام، وهو شخصيته كولي أمر للمسلمين.
رغم هذا فإن من تقدّم على السيد من الفقهاء الذين ما كان لهم نصيب من الابتلاء بتطورات هذا العصر من قبيل تدخّل الدولة في جميع شؤون المجتمع وبخاصة في المجالات الاقتصادية؛ فإن عدم ابتلائهم هذا حال دون تنبّههم لوجود منطقة فراغ في التشريع، وهذا لا يعني المخالفة أبداً وإن اختلفوا مع الشهيد في وسم بعض الأوامر بالعموم والشمول.
إشكالات عامة
أما الإشكالات التي ترد على أصل وجود التغيير أو القابلية عليه في الشريعة عموماً فتنحصر بمعارضة لهذه الفكرة مع حديث (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة)[28]. وكذا بمعارضة مع ما أجمع وتبانى عليه المسلمون من أن الإسلام هو خاتم الأديان ولا دين بعده، وفي النهاية لا تغيير ولا نسخ.
هل التغيير يتنافى مع حديث (حلال محمد..)؟
رغم وضوح ظهور هذا الحديث في التنافي والتعارض مع إمكانية وجود تغيير في الشريعة، إلا أنّا نرى له محامل تحول دون تبلور هذا التعارض في الذهن:
الأول: أنه محمول على الثوابت من الأوامر الشرعية دون المتغير أو المؤهّل للتغيير؛ وذلك لأن المتغيرات ثبت لها هذه الصفة بأدلة تضاهي هذا الحديث اعتباراً، بل قد تكون أكثر وثوقاً، أو تُعدّ من المسلّمات.
إن تغيير الحكم لأجل الضرورة مثلاً أمر لا يشك به أحد، وعلى فرض وجود تعارض بين هذا الحديث وما يخالفه، فلابد من حمل هذا الحديث على غير ما تثبته الأحاديث والأدلة المخالفة والمثبتة لقابلية التغيير في الحكم، طبقاً لقواعد الجمع الأصولية.
الثاني: أنه محمول على العبادات دون المعاملات، وذلك باعتبار أن المعاملات لا إشكال في قابليتها للتغيير والتحول. لكن هذا مردود بأن في العبادات قابلية للتغيير تشبه القابلية الموجودة في المعاملات من دون شك، وأقله ذلك الذي يتغير بسبب التقية أو الضرورة، وقد مرّ بعض الأمثلة في بداية البحث.
ومن جانب آخر، فإن أي تغيير يطال الأحكام ما دام يتصف بالظرفية الزمانية أو المكانية، لا يتنافى مع الحكم ذي السمة الشمولية الدائمة؛ فإن التنافي صادق إذا كان الحكمان المنصبّان على الموضوع الواحد متفقين من جميع الجوانب حتى الزمان والمكان، أما إذا اختلفا في الصفتين الأخيرتين فإن التعارض غير مستقر ولا صادق.
هل التغيير يتنافى مع خاتمية الرسالة؟
إن مما لا شك فيه هو أن الإسلام خاتم الديانات السماوية وأن الرسول هو خاتم الرسل، لكن هل وجود قابلية على التغيير في الشريعة يعني منافاة ذلك مع الخاتمية؟
بالطبع لا، فإن الخاتمية لا تعني عدم التغيير والثبات الذي يبلغ مستوى الجمود في التشريع؛ وذلك لأن الشريعة التي هي خاتمة الشرائع تضمّ تعاليم كثيرة جداً، وما يناله التغيير جزء من ذلك الكثير، وهذا لا يعني مسخاً للشريعة وتغييراً لها لكي يتنافى ذلك مع خاتميتها.
إن الأصول الاعتقادية للإسلام أمور لا يُتصور فيها تغيير وتحول، وكذا الحال بالنسبة لضرورات الدين كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك، فهي كلها من الثوابت ولا يتصور التغيير فيها، كما لا إشكال في ذلك أبداً.
وبالنسبة إلى ذلك الجزء من الشريعة الذي يطاله التغيير، فإن التغيير الحاصل لا يعدّ شيئاً أجنبياً عن الشريعة ولا تزريقاً من ثقافات وشرائع أخرى، بل إن التغيير هذا من صلب الشريعة وجزء منها لا خارجاً عنها؛ لأن ذلك بسماح وتأييد منها، وهي التي فرضت هذا التغيير وتلك القابلية وأكدت على ممارسته، ولو كان أرباب هذه الشريعة يعدّ التغيير أمراً أجنبياً وخارجاً عنها لما أجازه أو فرضه.
هذا ومن جانب آخر فإن ضرورة وجود العناصر المتغيرة في الشريعة كضرورة وجود الثوابت فيها، ولا يمكن حفظ ثبات الثوابت والمقاومة عليها من دون هذه التغييرات، فهي لغز الثبات والمقاومة وفي النتيجة الخاتمية، فهي التي تسهل تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان مهما اختلفت الظروف.
كما أن الروايات التي أفادت وأخبرت عن إتيان الإمام المهدي(عج) بالجديد وتغييرات في بعض الأحكام غير قليلة، فلو كانت هذه التغييرات متنافية مع الخاتمية لما أقرّتها هذه الروايات ونسبتها إلى المهدي(عج) الذي يُعدّ من رموز خاتمية هذه الرسالة.
[1]. وسائل الشيعة، ج 3، ص 31، الباب 13، ج2، طبعة دار إحياء التراث العربي.
[2]. م. ن، ج 17، ص 222، الباب 1، ح 4.
[3]. م. ن، ج 6، ص 51، الباب 16، ح 1 _ 4.
[4]. في العام السادس من الهجرة _ أي عام صلح الحديبية _ حيث رجع الرسول بالمؤمنين في ذلك العام من دون أن يؤدوا فريضة الحج.
[5]. اقتصادنا، ص 417.
[6]. م. ن، ص 339.
[7]. م. ن.
[8]. م. ن، ص 717 _ 718.
[9]. يأتي ذكر نوعية الاختلاف في أنه مبنائي أو بنائي عند بحث ما يتوجه لهذه النظرية من نقود.
[10]. اقتصادنا، ص 301 _ 302.
[11]. م. ن، ص 400.
[12]. م. ن.
[13]. وسائل الشيعة، ج 17، ص 33، الباب 7، ح 2.
[14]. اقتصادنا، ص 726 _ 727.
[15]. إن الأحاديث بهذا المضمون كثيرة تجدها في وسائل الشيعة، ج 13، ص 3 _ 7؛ كتاب التجارة، الباب 10، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[16]. اقتصادنا، ص 727.
[17]. م. ن، ص 726.
[18]. م. ن، ص 693.
[19]. م. ن، ص 414.
[20]. م. ن.
[21]. سورة النساء، الآية 59.
[22]. اقتصادنا، ص 726.
[23]. وهو قضاء النبي بين أهل المدينة في النخل: (لا يمنع نفع بئر). وقضاءه بين أهل البادية: (أنه لا يمنع فضل الماء ولا يباع فضل كلاء).
[24]. اقتصادنا، ص 414 _ 415.
[25]. لم أعثر على نقد منقول عن هذه النظرية، فضلاً عن النقد المدوّن رغم أنه قيل بوجود من ينقدها.
[26]. صدر عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: ذكرت له مصر فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) (اطلبوا بها الرزق…)، وسائل الشيعة، ج 12، ص 342، الباب 56، ح 1.
[27]. وسائل الشيعة، ج 6، ص 51، الباب 16، ح 1 _ 4.
[28]. الكافي، ج 1، ص 58، ح 19.