السيد حسن جابر النوري
بسم الله الرحمن الرحيم
<يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَفي الآخِرَةِ>[1]
الشخصيات التاريخية البارزة تصوغ التاريخ بإحدى طريقتين رئيستين: فمن ناحية هناك المبدعون الذين قدّموا إسهامات مختلفة للثقافة الإنسانية سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو كتّاباً إلى آخره، فالمبدعون قد تركوا تأثيراً دائماً على أفكار عدة لا حصر لها من الرجال والنساء وأحاسيسهم، أما الناحية الأخرى فإن هناك القادة الذين يغيّرون العالم بأعمالهم الكبيرة وليس من خلال أفكارهم أو تعبيرهم عن عواطفهم، فالقادة قد تركوا علاقة دائمة على المسار الذي أخذه التاريخ وهؤلاء المبدعون والقادة هم مَن تصبح سيَرهم بمثابة كتب التاريخ.[2]
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
من الشاقّ عليّ أن أتحدث عن الجانب العلمي الأصولي في شخصية الإمام الشهيد الصدر(رضوان الله عليه) وذلك لأسباب أهمها:
- أن عقلية الصدر الأصولية عقلية موسوعية دقيقة.
- حتى لا أتطاول مدّعياً قدرتي على خوض مثل هذا البحث، ولكني لما لم أجد أن كبار طلابه قد كتبوا عن هذا المجال، لأنهم مشغولون بكتابة آرائه ولهذا بدأت أكتب في الموضوع.
وسيكون هدف بحثي بيان ما يلي:
- تمكّن الشهيد من المنهج الأصولي الدقيق الذي يمتاز بالأصالة والاستقلال والقدرة الهائلة على الهدم والبناء وقدرته على الاستفادة منه وتطويره.
- بيان الإبداعات المختلفة للشهيد الصدر في المجالات التالية:
أ۔ العرض والبيان.
ب ۔ استحداث واكتشاف مسائل جديدة.
ج ۔ تكميل وتعميق مسائل سابقة.
- التأكيد على أن علم الأصول لدى السيد الصدر لم يقتصر أثره على بناء شخصيته العلمية الفقهية وإنما تعدّاها لاكتشافات أكبر في مناهج العلوم الأخرى.
- التأكيد على أن السيد الشهيد الصدر لم ينشغل بعلم الأصول عن باقي الاهتمامات العلمية والعملية، وإن كان البعض يعتقد أن هذا ما حصل في أول الشوط الدراسي للسيد الشهيد.
- بيان خصائص مدرسته الفكرية عامة ومنهجه الأصولي خاصة.
- بيان تاريخ التطور العلمي الأصولي وإحاطة السيد بتاريخ علم الأصول.
- دراسة لمنهجين كان السيد يسير في بحوثه وكتاباته عليهما.
- دراسة النتاجات الأصولية للسيد الصدر دروساً وكتابات.
- بيان الطريقة التي يستخدمها الشهيد في البحث أحياناً من خلال المشاركة وأحياناً من خلال مناقشة المفكرين من غير علماء الإسلام (راسل).
- عطاء السيد الصدر الأصولي والإسلامي عامة ۔ أخلاقيات البحث ۔ أساتذته، زملائه، طلابه.
- تطبيقات نظريته في المعرفة على مختلف المجالات خصوصاً الفقه والأصول.
المدرسة الفكرية للشهيد الصدر
مدخل
للشهيد الصدر مدرسة فكرية متميزة بخصائص واضحة عرضها جملة من طلابه بالشكل التالي:
الفقيه المحقق السيد كاظم الحائري:
- العمق والدقة 2. التوسع والتطوير 3. التجديد والمنهجية 4. الدراسة المقارنة.[3]
الفقيه المحقق السيد محمود الهاشمي:
- الشمولية والموسوعية 2. الاستيعاب والإحاطة 3. الإبداع والتجديد 4. المنهجية والتنسيق 5. الجمع بين النزعتين المنطقية والوجدانية 6. الذوق الفني والإحساس العقلائي 7. المقارنة والتصدي لدفع الشبهات.[4]
أما الشيخ التسخيري فيضيف إلى ما تقدم:
- روح التنظير في الفكر والعمل 2. العقائدية 3. الروح الاجتماعية في الفكر.[5]
ونحن ذكرنا:
مرونة التفكير
إعادة البناء السريع للمعلومات ولأنظمة المعارف وفقاً لمتطلبات الحالات المستجدة وتغيير شكل الصياغة عندما لا يبرهن الشكل السابق على فعاليته، وهي ترتبط بالمثابرة والبحث عن الحلول، وكل موضوع إبداعي يخلو من ذلك يكون سطحياً وضعيفاً.
بطاقة شخصية
درس الأصول (كتاب معالم الدين) على يد أخيه السيد إسماعيل الصدر، درس مدة 17 سنة كل يوم 16 ساعة.
درس الفلسفة على يد مدرس الفلسفة الأكثر شهرة في النجف الشيخ صدرا البادكوبي، ودرس شيئاً من اللمعة على يد الشيخ محمد تقي الجواهري، وعلى يد السيد الخوئي(قده) من سنة 1365هـ إلى سنة 1378هـ.
درس شيئاً من الفقه الاستدلالي على يد خاله الشيخ محمد.
درس الكفاية والمكاسب وبحوث الفقه والأصول الاستدلالية على يد الأستاذ السيد محمد الحسيني وكان حضوره مع شخص آخر فقط.
وأستاذه الأكبر ۔ والذي يشير إليه بعنوان السيد الأستاذ ۔ هو السيد الخوئي، وكان يحترم آراءه ويجلّه، ويرى بعض الفقهاء أنه لم يستطع التخلص كلية من تأثيراته العلمية.
أهمية علم أصول الفقه
لعل من أول العلوم التي أثّرت على منهج الدراسات الإسلامية هو علم الأصول، ومراجعة سريعة لما كتبه الدكتور النشّار والدكتور محمد عابد الجابري والدكتور طه عبدالرحمن تكشف عن هذه الحقيقة؛ ذلك أن هدف علم الأصول هو استنباط الشريعة، والشريعة تعتمد على العقيدة، وكل بحث أو منهج يؤثّر على دراسة العقيدة يؤثّر أيضاً على طريقة اكتشاف الشريعة أو كيفية فهمها، أو يحدّدها ضمن أطر الاعتقاد ولهذا نجد اهتمام الدارسين المنهجيين بدراسة علم الأصول تاريخاً وتطوراً، ومعرفة الشريعة ليس بالأمر الميسور مع ملاحظة اختلاف العلماء في مصادر الشريعة وأسسه ومناهجه، وأي اختلاف في المناهج يؤثّر على النتائج، وكلما كبر الخلاف في المنهج كبر الخلاف في النتائج.
ومعنى أن يكون العالم أصولياً هو أن يحيط إحاطة كاملة بمناهج الأصوليين ويناقشها وينقدها ليختار المنهج الأفضل، ومع ملاحظة أن علم الأصول مرتبط عضوياً بعلوم أساسية هامة عديدة نعرف خطورة الاجتهاد، فمثلاً علوم العربية وعلوم القرآن وبعض المعلومات الحديثية والرجالية والتاريخية لها علاقة بالنتائج التي ارتبطت بعلم الأصول، وما لم ينته العالم من معرفة هذه العلوم والإحاطة بها لا يمكنه أن يكون عالماً بالأصول، مع تطوّر الدراسات في تلك الحقول والمجالات وتطور الدراسة الأصولية، كما أن الحاجة الفقهية إلى حلول وإجابات أثّرت على توسّع وتطور البحث الأصولي، وليس سهلاً في الأزمنة الغابرة أن يكون العالم أصولياً، وأصعب من ذلك أن يكون في الفترات اللاحقة كذلك.
ولقد كان علم الأصول مصدر إلهام لكثير من الطروحات والنظريات الإسلامية ولا يزال كذلك، ونحن هنا في دراستنا للسيد الشهيد الصدر ودراساته الأصولية لسنا أمام عالم من علماء الأصول المعروفين بمنهجهم المسلكي المعهود، ولو كان الأمر كذلك لما كان في هذه الدراسة أي جديد؛ لأن المنهج الواحد مهما كثر السائرون عليه لا يزيده هذا السير أي قيمة فوق قيمته الذاتية، إنما نحن هنا أمام عالم تقلّب في دراسة مختلف المناهج، والصعوبة في دراسة هذا العالم أنك لا تجد له مثالاً معروفاً قبله أو بعده أو معه، والدارسون لكتبه وكذلك الممارسون لتدريس كتبه وأفكاره يشعرون بالصعوبة في فهم أفكاره ورؤاه، حيث إن المصادر القليلة تلك التي تعين على فهم هذه الأفكار، ولسنا هنا في مقام العتب على أبرز طلابه؛ لأنهم لم يفصّلوا ما هو مجمل من نظرياته أو يشرحوا ما هو غامض من أفكاره، ولكننا نقول: إن أي تأخير أو تقصير في هذا المجال سيبقي مظلومية هذا العالم الكبير على حالها والصعوبات التي تواجهنا في هذه الدراسة.
إن دراسة السيد الشهيد الصدر أصولياً تعني الدراسة لكل أفكار هذا المبدع العبقري؛ لأنه بدأ من علم الأصول ليكون متخصصاً في كل مجال بحثه ومبدعاً فيه، ولا نريد بذلك بيان احتواء علم الأصول على كل هذه العلوم والمجالات، وإنما نريد أن نقول: إن علم الأصول هو الذي فجّر طاقات هذا العالم ونمّاها لتنتج فكراً جديداً خلّاقاً في جوانب النظرية والعمل.
وهناك كلمات تثار حول مصادر علم الرجل في الأصول وغيره، منها أن الرجل اقتبس من هذا أو ذاك، ولكننا نقول:
- إن نظريات السيد الصدر في الأصول والتفسير والمنطق والفلسفة وغيرها لا يمكن أن تصدر عن أرضية فكرية كالتي عليها أولئك العلماء الذي يُدّعى اقتباس السيد الصدر من فكرهم، فهل استطاعوا أن يعمّقوا البحث في نظرية المعرفة أو أسس الاستقراء المنطقية أو حتى يستدلوا على أفكارهم الأصولية كما فعل؟
- إن إنتاجهم الذي صدر بعضه متوافقاً مع زمن صدور نتاجات السيد أو متأخراً عنه لا يدلّل على ما يقولون، وإنه لمن حسن الحظ أن تصدر نتاجاتهم وأبحاثهم لتدلّل على الحقيقة في مثل هذه الدعاوى.
- قال عنه أحد العلماء ممن يدعي أن الصدر أخذ عنه: (لقد كان عالماً ذكياً تقياً قليل النظير). ومَن يكون كذلك ينسب الفكر إلى أهله والقول إلى قائله، وقد عهدنا في السيد هذه السمة كما فعل في الاقتصاد والفلسفة والمنطق والتاريخ والأصول والفقه.
وقال عنه عالم آخر يدّعي أيضاً أن الصدر اقتبس منه: (لقد مات وانتقل إلى ربه مَن كان يحرّكنا علمياً) من خلال المنافسة، ونفس هذا العالم استفاد من فكر السيد الصدر واصطلاحاته الأصولية مثل حساب الاحتمالات، فهذه الحسابات وإن كانت فطرية نظرية ومدركة للجميع، ولكن طرحها كنظرية في المعرفة أولاً وكتفسير لبعض المطالب الأصولية ثانياً لم يكن ليحصل لولا تنضيج وتطوير للبحث فيها من خلال البحث فيها في دروسه الأصولية ومن خلال كتاب الأسس المنطقية للاستقراء الذي انتجه الشهيد الصدر بعد تأمل طويل في مسألة من مسائل العلم الإجمالي الأصولية.
- إن الذي كان يحضر لديه السيد الصدر بصفة تلميذ ودارس قد يكون له تأثير سلبي، حيث استطاع بإغراءاته الذكية أن يمنعه من الكتابة في غير مجالات الدراسة المسلكية، ولم يستطع السيد أن يخرج من هذا التأثير إلا بعد استقلاله الكامل علمياً، فعاد إلى الكتابة الإسلامية في مختلف المجالات.
الأسلوب والمنهج
عند دراسة أسلوب الشهيد الصدر في الكتابة الأصولية لابد من أن نعترف بأنه لم يكن على نسق واحد، فإنه عند دراسة الكتاب الأول له ۔ والذي يظهر أنه أعرض عن إتمامه أو نشره ۔ يتبين أن أسلوبه كان متأثراً باللغة الأصولية الكلاسيكية التي كان يستظهرها مع أنها لغة دقيقة وغير مألوفة خارج الدرس والكتاب الأصولي. وقد خصّصنا بعض الحديث لإيضاح ما نجده في ذلك الكتاب من خصائص.
وقد تغيّر هذا الأسلوب في ما كتبه في علم الأصول بعد ذلك حيث نجد في المعالم الجديدة للأصول تغيّراً واضحاً لا يستطيع الإنسان بسهولة أن يدرك أن صاحب هذا الكتاب هو نفسه الذي كتب (غاية الفكر في علم أصول الفقه).
فهنا العبارة المشرقة عوضاً عن إغلاق العبارة وعجمتها أحياناً، وهنا الأمثلة والإيضاح بينما هناك الاختصار والتعقيد. وليس عسيراً علينا أن ندرك بعد تحليل دقيق لمعنى الأسلوب وأسباب تغيّره أن نعرف أن الشهيد الصدر إنما غيّر أسلوبه تبعاً لتغيّر بعض المؤثرات.
الأسلوب هو الإنسان كما يقول بوفون[6] وهي أيضاً (طريقة الإنسان في التعبير عن نفسه كتابة)[7] ولهذا كان لكل كاتب ولكل عصر أسلوبه.
هل كان الشهيد الصدر في فترة من الفترات تحت تأثير العبارة الأصولية والبحث الأصولي ضمن مدرسة أصولية محددة متأثراً بعباراتها ومصطلحاتها؟ وقد نقل أنه كان يقرأ كثيراً أفكار الإصفهاني والعراقي والنائيني ولعلّه لفترة كان يعيش مع الإصفهاني قراءة ومباحثة أكثر من غيره في تلك الفترة التي ظهرت عباراته الأصولية مغلقة مختصرة، وفي الفترات التي لحقت الكتاب الأول ظهر جلياً تغيّر الهدف الذي يريد الشهيد الوصول إليه من الكتابة الأصولية، ففي الكتاب الأول ۔ الذي هو أشبه بالمذكرات وتسجيل الملاحظات لاختصاره ۔ نجد أن الأسلوب العلمي الذي انتهجه في كتابه الأول ظلّ هو الأسلوب في المعالم الجديدة للأصول مع تطور هام.
ذلك أن الأسلوب العلمي يتقوم:[8]
- باللغة العلمية شكلاً والفكر المنطقي مضموناً.
- الدقة في صياغة العبارة والابتعاد عن المجازات والمتشابهات اللفظية.
- الاقتراب إلى ذهن المتلقي بالأسلوب.
- الوضوح في الأداء وتجنّب الغموض.
- التسلسل الطبيعي لفظاً ومعنى والترابط في خط السياق.
التطور الهام هو الخروج عن إسار العبارة الأصولية المعهودة والسعي إلى طرح مصطلحات علمية واضحة.[9]
بل إن اهتمامه بالأسلوب يظهر جلياً من خلال المقدمة التي كتبها لحلقات الأصول، الكتاب الذي أعدّه منهجاً دراسياً.
فهو يعترض على الأسلوب السائد في الكتب الدراسية في التدرج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقّد ومن الأسبق رتبة إلى المتأخر، بحيث تعرض المسألة المتفرعة ذاتاً في تطوراتها على حيثيات مسائل أخرى بعد أن تكون تلك الحيثيات قد طرحت.
ومن هنا لم يحرص أيضاً على وضع كثير من النكات والمباحث في موضعها الواقعي وبصيغة تتناسب مع كليتها وأهميتها، وإنما دُسّت دسّاً في مقام علاج مشكلة أو دفع توهم أو أثيرت من خلال تطبيق من تطبيقاتها.
ومن هنا لم يحرص أيضاً على اجتناب استعمال مصطلحات لم يأت بعد تفسيرها؛ لأن الحديث في تلك الكتب مع العالم لا مع الطالب.
من خلال مراجعة وافية لكتابات الشهيد الصدر الأصولية ننتهي في هذه النقطة ۔ الأسلوب ۔ إلى ما يلي:
أن الأسلوب الذي اتّبعه الشهيد الصدر في كتاباته هو الأسلوب العلمي بعبارة دقيقة ولغة علمية وإيضاح مقصود وتسلسل طبيعي في الأفكار والدوال، ولكن هذا الأسلوب استطاع أن يكون مرناً ومتطوراً في بعض الأحيان، حيث يختلف أسلوبه في الكتاب الذي يعبّر عن آرائه فقط، عن أسلوبه الذي يستهدف منه الوصول إلى هدف بيان المسائل الأصولية عامة؛ لهذا اختلف الأسلوب، بل ومنهج الكتب الدراسية التي أعدّها وألّفها عن أسلوب كتبه العلمية المعبّرة عن آرائه وإن كان يغيّر هو أيضاً في أسلوب التعبير بعد عرض آرائه وإلقاء محاضراته، كما صنع في مباحث التعادل والتراجيح ۔ كما يذكر ذلك مقرر البحث الفقيه المحقق السيد محمود الهاشمي ۔ ولعله كان يستهدف ذلك في كل ما كان يريد أن ينشره.
ونجد أيضاً:
العبارات والمصطلحات الجديدة تدخل إلى مجال علم الأصول، وكذلك التدرج في عرض المطالب والتوسع فيها لحساب الهدف المرحلي.
إذن هناك أهداف مختلفة للكتب العلمية التي ألّفها السيد الشهيد فما كان كتاباً تخصصياً لا يحتاج معه السيد إلى إيضاحات كثيرة، وإنما يكتفي بعرض المضامين باللغة المعهودة.[10]
والسبب الآخر هو أن اللغة العربية هي لغة الدراسة لطلاب العلم من العرب وغيرهم والكتب الأصولية مكتوبة بهذه اللغة وطلاب العلم هؤلاء تلقّوا ثقافتهم العربية من المصادر القديمة التي لا تهيّء لهم قدرة كافية لفهم اللغة العربية بأساليبها الحديثة.
وقد شذّ عن هذا الالتزام الذي التزمه كتاب المعالم الجديدة للأصول، والذي أتصوره أن السيد الشهيد؛ لأنه كتب هذا الكتاب للمثقفين غير المتخصصين فعلاً وبالقوة، لهذا لم يتقيد بقيود العبارات الأصولية المألوفة.
وقد صرّح الشهيد بأن أسلوب الكتب الأصولية يحتوي على عبارات طعمت بشيء من الألغاز؛ إما لإيجازها أو للالتواء في صياغتها أو لكلا الأمرين.. ولهذا تجاوز الشهيد هذه المشكلة من خلال مجيء عبارات كتاب الحلقات وافية من غير التواء أو تعقيد.
ونتحدّث باختصار عن صورة علم الأصول وهدفه ومنهجه ضمن نقطتين:
- الهيكل العام
المنهج
وقد سلك منهجين بأسلوبين:
المنهج الأول: اتّبعه في بحوثه الاستدلالية التي ألقاها على طلابه سنين عديدة، إذ أكمل ما يسمّى بـ(الدورة الأصولية) أي أنه درّس كل مطالب علم الأصول استدلالياً، وشرع في الدورة الثانية التي كنّا من طلابها في مقطع حجية القطع وحتى استشهاده(قده) وهذا المنهج الذي اختاره وسار عليه في دروسه ومحاضراته الأصولية يكون ضمن المخطط التالي:
تمهيد ومقدمة يبحث فيها أمران: حجية القطع
بيان حقيقته وأقسامه
المنهج الثاني:
التقسيم بلحاظ نوع الدليلية [لفظية، عقلية، تعبدية].
مباحث الألفاظ
مباحث الاستلزام العقلي: غير المستقلات العقلية
المستقلات العقلية
مباحث الدليل الاستقرائي: التواتر، الإجماع، السيرة.
الحجج الشرعية: الأمارات
الأصول العملية الشرعيه
الأصول العملية العقلية، ثم خاتمة في بحث التعارض وأقسامه وأحكامه.
التقسيم بلحاظ نوع الدليل في ذاته
الأدلة: تشخيص الوظيفة تجاه الحكم الشرعي بملاك الكشف عنه.
الأصول: تشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي لا بملاك الكشف.
تحديد الدلالات
- شرعية إثبات الصدور
الأدلة وتقسّم إلى: حجية هذه الدلالات
- عقلية
تحديد دلالات الدليل الشرعي: اللفظي
وغير اللفظي: فعل المعصوم وتقريره.
إثبات الصدور: وسائل الإثبات الوجداني
وسائل الإثبات التعبدي
حجية الدلالة: يبحث فيها عن ظهور للكتاب والسنة وحجيته وتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية.
بحث صغروي عن صحة الإدراك العقلي ودرجة هذا الإدراك والتصديق
الدليل العقلي:
بحث كبروي عن حجية الإدراك العقلي
الدليل العقلي: المستقلات العقلية
غير المستقلات العقلية
الأصول العملية: بحوث عامة في الأصول العملية وألسنتها وفوارقها مع الأدلة وإثباتها بمواردها وعدم إثباتها لمدلولاتها الالتزامية.
ويقع البحث فيها بالشكل التالي:
- الأصول التي تعالج الشبهات غير المقرونة بالعلم الإجمالي، البراءة والاستصحاب.
- الأصول التي تعالج الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، الاشتغال والأقل والأكثر.
ثم خاتمة في بحث التعارض وأقسامه وأحكامه.
مقارنة بين التقسيمين
والملحوظ أن التقسيم الثاني أقرب إلى المنهج القديم في الدراسات الأصولية؛ حيث كان يدرج فيها البحث عن حجية الخبر في البحث عن السنّة؛ لكونه عن عوارض السنة، أي مثبتات الدليل الشرعي، في حين أن التقسيم الأول أوفق بالمنهج المتداول في الدراسات الأصولية الحديثة.
كما أنه يتميز التقسيم الثاني بأنه يلحظ فيه تقسيم البحوث إلى مجاميع بنحو متطابق مع أنحاء تجمعها في مجال الاستدلال الفقهي، فالقواعد الأصولية العامة في الدليل اللفظي، كأبحاث الأوامر والنواهي وغيرها لا تنفصل عادة في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي عن القواعد الأصولية الدخيلة في إثبات السند، كحجية خبر الواحد والتواتر والسيرة والإجماع؛ لأن الفقيه حينما يستنبط الحكم من دليل لفظي يلتفت إلى دلالته وسنده معاً ويعمل القواعد الأصولية المناسبة في كل من الجهتين، فالتقسيم المذكور يراعي ذلك ويوحّد البحث عن مجموع تلك القواعد تحت عنوان الدليل الشرعي.
وهذا معنى أن التصنيف فيه بنحو يناظر وضع القواعد الأصولية في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي، بينما ليس التقسيم الأول كذلك؛ لأن أبحاث الظواهر والألفاظ فصلت فيه عن بحث حجية الخبر، بل عن بحث حجية نفس الظهور أيضاً مع أن الظهور وحجيته عنصران متلازمان عند الاستناد إليهما في عملية الاستدلال الفقهي.
وفي مقابل ذلك يتميز التقسيم الأول بإجراء التصنيف على أساس نوع الدليلية للقاعدة الأصولية، وتجميع كل مجموعة تتّفق في سنخ الدليلية وفي كونها لفظية أو عقلية برهانية أو استقرائية أو تعبدية بجعل الشارع في نطاق مستقل.
وهذا يتيح الحديث في كل نطاق من نطاقات هذا التصنيف عن سنخ تلك الدليلية، التي هي السمة المشتركة للقواعد الأصولية الداخلة في ذلك النطاق ومنهجها وقواعدها العامة. فالأدلة الاستقرائية ۔ مثلاً ۔ بوصفها صنفاً خاصاً في التقسيم المذكور يمكن الحديث في نطاقها عن أصل المنهج الاستقرائي، والحجج الشرعية بوصفها تمثّل صنفاً آخر من الدليلية ۔ وهو الدليلية التعبدية بحكم الشارع ۔ يمكن الحديث في نطاقها عن أصل الحجية التعبدية وتحليلها.
وبهذا يستهلّ كل صنف بما يكون بمثابة المنطق أو المنهج بالنسبة إليه، بينما لا يتأتى ذلك بنفس الدرجة من السهولة والدقة في التقسيم الثاني؛ إذ قد تندمج بموجبه القاعدة ذات الدلالة اللفظية والأخرى الاستقرائية والثالثة التعبدية في صنف واحد لمساهمتها جميعاً في الاستنباط من دليل واحد.
وبهذا قد يصحّ أن يقال: بأن التقسيم الأول هو الأفضل إذا نظر إلى علم الأصول بنظرة تجريدية، أي بصورة منفصلة عن تطبيقه في علم الفقه. وأن التقسيم الثاني هو الأفضل حينما ينظر إليه موزّعاً من خلال التطبيق وعلم الفقه. ومسألة تعيين أحد التقسيمين مسألة اختيار وتفضيل حسب وجهة النظر.
وسنسير في بحوثنا هذه سيراً يقارب منهج التقسيم الأول؛ لأنه بذلك يكون أقرب إلى الانطباق على المنهج المألوف في الكتب الأصولية التي وضعتها مدرسة الشيخ الأنصاري في الأصول، غير أننا فضّلنا منهج التقسيم الثاني في الحلقات الدراسية الجديدة التي وضعناها كبديل للكتب الدراسية الأصولية القائمة فعلاً؛ لأنه في رأينا أكثر قدرة على إعطاء الطالب صورة أوضح عن دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي، ورؤية أجلى لكيفية الممارسة الفقهية لقواعد علم الأصول.
- الآليات
لقد حدّد الشهيد الصدر مصادر فتاواه في مقدمة الفتاوى الواضحة بما يلي:
مصادر الفتوى
ونرى من الضروري أن نشير أخيراً بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي ۔ كما ذكرنا في مستهلّ الحديث ۔ عبارة عن الكتاب الكريم والسنة الشريفة المنقولة عن طريق الثقات المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم. أما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوّغاً شرعياً للاعتماد عليها.
وأما ما يسمّى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا؟ فنحن وإن كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به، ولكنا لم نجد حكماً واحداً يتوقف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة.
وأما ما يسمّى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنة، وإنما لا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات.
وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة، ونبتهل إلى الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما <فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لَا انْفِصٰامَ لَهٰا وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ>.[11]
ولكن كون مصادر الاستنباط حسب الرؤية الصدرية محصورة في مصدرين فقط لا يعني التخفف من بحث باقي مصادر الاستنباط، وليس مصادفة أن يكون للشهيد إبداع وأصالة وعمق في بحث الدليل العقلي والإجماع.
حيث لا نجد في كتب الأصوليين أروع من الطريقة التي بحث فيها الدليل العقلي الذي أسماه في المعالم الجديدة للأصول بالدليل البرهاني، أما في الحلقات فسمّاه بالدليل العقلي، وفي المعالم أشار إليه بعنوان الطريقة القياسية ومثّل له بما يلي: الصلاة في المكان المغصوب حرام، وكل حرام لا يمكن أن يكون واجباً؛ لعلاقة التضاد القائمة بين الوجوب والحرمة، فالصلاة في المكان المغصوب إذن لا يمكن أن تكون واجبة.
وسمّاه الشهيد في المعالم الجديدة بالدليل القياسي، لكنه عقّب على ذلك بقوله: استبدلنا كلمة القياس بالبرهان؛ لأن كلمة القياس قد يختلط معناها المنطقي الذي نريده هنا بمعان أخرى، فآثرنا أن نضع الدليل البرهاني عنواناً لدراسة تلك العلاقات العقلية.
وفي الحلقات أشار إلى أن الدليل العقلي هو كل قضية يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي، وهي تنقسم إلى ما يكون دليلاً عقلياً مستقلاً وما لا يكون دليلاً مستقلاً.
حجية الدليل العقلي
وانتهى في مسألة الحجية إلى أن الدليل العقلي القطعي حجة، أما الظني فليس بحجة.
ولكن كيف نقطع بالدليل العقلي؟ وذلك يحتاج إلى:
١. القطع بالملاك.
٢. القطع بدرجة الملاك.
٣. عدم وجود أي معارض من الملاكات الشرعية الأخرى.
ولا سبيل لنا دائماً أو غالباً إلى معرفة هذه الأمور الثلاثة مجتمعة من غير بيان شرعي، ومع البيان الشرعي يدخل هذا في الدليل الشرعي ولا موجب لدخوله في الدليل العقلي.
ويوجد نزاع بين الإمامية أنفسهم في الأدلة العقلية، حيث ذهب الأخباريون إلى عدم صحة الاستنباط القائم على الدليل العقلي.
وهنا تبدأ دقة وشمولية البحث عن الشهيد الصدر، حيث أشار إلى أن المراد بالدليل العقلي هو الحكم الذي يصدره العقل على نحو الجزم واليقين غير مستند إلى كتاب أو سنة.
ولا يراد به حكم القوة العاقلة بمعناها الفلسفي.
والنزاع مخصوص بالأحكام العقلية التي يراد استنباط حكم شرعي منها في عرض الكتاب والسنة، لا الحكم العقلي الواقعي في مبادئ التصديق بالكتاب والسنة، إذ لا إشكال في حجيته عند الجميع.
ولا يراد أيضاً الحكم العقلي الواقع في طول الكتاب والسنة وفي مرحلة معلولات الأحكام الشرعية كوجوب الطاعة والامتثال؛ ولعدم وقوع خلاف شديد في الدليل الشرعي آثرنا عدم الإشارة إليه.
ثمّ يقسّم البحث في الدليل العقلي بالشكل التالي:
الدليل العقلي المقتنص من الأحكام العقلية النظرية.
الدليل العقلي المقتنص من الأحكام العقلية العملية.
والقسم الأول يرجع البحث فيه إلى أحد بيانين:
العلاقات والاستلزامات الواقعية الثابتة للأحكام.
أي باب الإمكان والوجوب والاستحالة، ولمّا كان هذا البحث متوقفاً على إثبات الأحكام فهو لا يستقل في إثباتها؛ لهذا دخل في غير المستقلات، وهذا ما بحثه في الحلقات، كما أشرنا إلى عناوينها وباب العلية والمعلولية حيث يدرك العقل الملاك التام وعلة الحكم.. وهذا هو بحث المستقلات العقلية.
ويدفع بعد ذلك السيد الشهيد الإشكاليات الثلاث الموجهة إلى حجية الدليل العقلي.
وبعد أن عرفنا حدود رؤية الشهيد الصدر إلى الدليل العقلي ندخل إلى رحاب بحثه في الدليل الشرعي، ولا يملك الأصوليون الشيعة أدلة أخرى على الحكم الشرعي خارج الدليل العقلي والدليل الشرعي.
والشهيد الصدر يشير إلى رأي مشهور الأصوليين في المذاهب الإسلامية الأخرى حيث يقول:
فقه العامة يتجه إلى إثبات الحكم الشرعي دائماً، فإن لم يكن إثباته بالأدلة القطعية أو المفروغ عن دليليتها شرعاً تحوّل إلى طرق أضعف في مقام الإثبات من الأمارات والظنون القائمة، على أساس اعتبارات ومناسبات واستحسانات، فهو يتوسل بكل وسيلة إلى إثبات الحكم الشرعي مهما أمكن.[12]
ولهذا فإن (فقه العامة لم يتعرض لبحث الأصول العملية وأقسامها وشرائط كل منها، بل على العكس من ذلك نجد أن للبحث عن الأمارات والظنون ومحاولات إثبات الحكم الشرعي على أساسها مجالاً واسعاً في أصول فقه العامة، في الوقت الذي يكون البحث عنها عندنا محصوراً في حدود ما هو معرض قيام دليل شرعي على حجيته).[13]
وبحث الشهيد الصدر في الدليل الشرعي من ناحية المنهج لا يختلف كثيراً في المضامين ولا يختلف من ناحية المنهج إلا في الحلقات.
وقد ظهرت في بحث الدليل الشرعي منهجية السيد الشهيد الواضحة المتميزة في الحلقات.[14]
وبذلك حقّق للطالب فائدة عظمى هي معرفة دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي، وأعطته رؤية أجلى لكيفية الممارسة الفقهية لقواعد علم الأصول.[15]
نظرة في كتاب غاية الفكر
وحين نطالع أول نتاج أصولي وفكري للسيد الشهيد نجد الخصائص التالية:
- إحاطة كاملة بكلمات أعلام الأصوليين أمثال العراقي والإصفهاني والنائيني، ولعل أقرب هؤلاء إلى عقليته(قده) في تلك الفترة هو المحقق العراقي ثم أستاذه المحقق السيد الخوئي.. وإن كان الكتاب يتضمن ردوداً على هؤلاء جميعاً، وقد نجده يحاول البرهنة على بعض مقالات العراقي الأصولية.[16]
- معرفة كاملة بالقواعد المنطقية والفلسفية التي تساهم في بناء النظرية الأصولية.[17] ويشير إلى رأي الدواني.[18]
- اختيار بعض النظريات الأصولية التي سيخالفها في مستقبل بحوثه الأصولية، مثل نظريته في تفسير العلم الإجمالي.[19]
- يلاحظ تواضعه العلمي في مقدمة الكتاب وفي ثنايا بحوثه.
- يلاحظ أيضاً مقدمات نضوج في الرؤية.
- مقدمات جرأة على اختيار الرأي المستقل فهو يردّ على والده،[20] ويختار رأياً يخالف فيه الأساطين.[21]
٧. مراجعة أكثر من مصدر للإحاطة بآراء العلماء والمقارنة بين كلماتهم، لاحظ كيف يرجع إلى أجود التقريرات وفوائد الأصول.
٨. التعبير والصياغة لم تخرج على المعهود في الصياغة الأصولية المتعارفة عند علماء الأصول.
٩. يظهر اطّلاعه الشامل على مجريات مسائل علم الأصول، فهو يقول مثلاً على تفصيل محقق في مباحث العموم والخصوص. كذلك عندما يناقش العراقي يدخل في تفاصيل التصورات عن أقسام الحكومة وآثارها.[22]
١٠. وهل هو صدفة أن يكون بحثه الأول في العلم الإجمالي في الأصول الذي كتبه وهو لم يبلغ العشرين عاماً؛ ليكون منطلقاً في مستقبل دراساته للوصول إلى تفسير الاحتمال ونظرية الاحتمال التي تفرّد ببنائها والاستدلال عليها لتكون نظرية متكاملة في المعرفة.
معالم في البحث الأصولي عند الشهيد الصدر
١. من أجل تربية طلابه علمياً يعرض في درسه فرضيات وآراء غير مقبولة عنده؛ ليعلّمهم كيفية مناقشتها بعد تحليلها.
٢. من أجل تربيتهم أيضاً يدفعهم للتفكير والتأمل والبحث المتواصل، من خلال التحدي الهادف، وأذكر جيداً ما قاله لنا في درس الأصول: إنك تستطيع أحياناً أن تُسكت المقابل، ولكنك لا تستطيع أن تقنعه، وذلك يحصل عندما لا يستطيع أن يجد الجواب والرد المناسب على كلامك، ولكنه غير مقتنع بما تقول. وذكر هنا مثالين: الأول ما كان يقوله صاحب الكفاية لطلابه الذين سألوه عن رأيه في مسألة الترتب الأصولية، فقال لهم: إن قلتم بالإمكان فأنا أثبت لكم العكس وإن قلتم بالاستحالة فأنا أثبت لكم الإمكان، وهنا قال الشهيد: إن صاحب الكفاية لا يستطيع أن يقنع طلابه بالرأيين معاً في وقت واحد.
المثال الثاني ما كان يقوله لتلميذه السيد الحائري: إن مفهوم الشرط عليه دليل لفظي؛ حيث استدل الإمام الصادق(ع) لإثبات حرمة الذبيحة التي تذبح ويسيل منها دم عبيط ۔ طازج أي ليس لها حياة وحركة ۔ بمفهوم قول الإمام علي(ع): (إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فَكُل) وكان السيد الحائري لا يملك وقتها جواباً على كلام أستاذه الذي كان لا يعتقد صحة الاستدلال بهذه الرواية وقال لأستاذه عند ذاك: لابد أن تكون هناك حجة أقوى من حجتك؛ لأنني لم أقتنع بما تقول. وكان الشهيد الصدر يقول: إن إجابتي كانت إجابة إسكاتية، وأنا غير مقتنع بما ذكرته من رد.
ومن الطرائف أنني حين درست عند السيد الحائري بحث المفاهيم ووصلنا إلى هذه النقطة ذكر أن أستاذه أورد عليه بإيراد لم يستطع وقتها أن يجيبه عليه، وهو الآن يملك الإجابة في الرد على الرواية سنداً ودلالةً، وهذا يعني أن الأستاذ وضع تلميذه موضع التحدي وجعله يفكّر حتى وجد الحل والرد الصحيح.
3. تربية طلابه على الروح النقدية، من خلال الطريقة المقارنة في البحث.
4. تطعيم بحوثه بالرؤى والأفكار الفلسفية الحديثة والقديمة، حيث يتعرض لبعض ما يشبه الأحاجي والألغاز، ويتعرض لشبهات أثارها الفيلسوف البريطاني راسل. لاحظ شبهة الإغريقي والكلي الذي لا ينطبق على نفسه، وكذلك الاستدلال على وحدة الوجود ومناقشة الشهيد الصدر له. [23]
لاحظ شبهة الكلي الذي لا ينطبق على نفسه.[24]
وكذلك يناقش في الردود التي أوردها الأصوليون على الأخباريين، ويدافع عن الأخباريين.[25]
5. تربية طلابه على الاستنتاج وكيفية بناء المركّب العلمي، من خلال مراجعة مجموعة كلمات ومقولات صاحب الرأي الأصولي من غير أن يقتصر على كلمة هنا أو هناك، وقد تعوّدنا على عبارته (ويظهر من مجموع كلمات..).
6. إثارة احتمالات غريبة ومثيرة.[26]
هذه الإثارات قد تهدف إلى تربية الآفاق العلمية لطلابه وتربيتهم على أن يبحثوا عن كافة المحتملات.
٧. دراسة تاريخ المسائل العلمية الأصولية وغيرها.
ونحن لا نملك في تراثنا دراسة تأصيلية لتاريخ علم الأصول كالدراسة المختصرة في سطورها الموسّعة في آفاقها ومضامينها التي كتبها في المعالم الجديدة للأصول، ومن المؤكد أن دراسة تاريخ المسألة تعين الدراسات اللاحقة على أن تلاحق تطورات المسائل وأدلتها ومداركها.[27]
٨. تنوع الأساليب والصياغات وضرب الأمثلة يجعل الدراسة الأصولية المعقدة محبّبة إلى العقول وقابلة للفهم، وكان الشهيد الصدر يملك القدرة على تجسيد المعنويات وتجسيم المجردات.
٩. تطعيم الدروس والبحوث بالمفاهيم التربوية والأخلاقية والهموم الرسالية، ولا زلت أذكر ما طرحه في درس الفقه وأستغرب منه كثيراً، وبل ويستغرب منه كل مَن يسمعه يقول: (إن الشخص لو قام فصلّى من أجل أن يتعلم أولاده كيفية الصلاة فإن قصد القربة يتحقّق منه) كيف يستطيع الفقيه أن يفلسف هذه الفتوى الغريبة.
وكان يقول أيضاً: (إن المكروهات الواردة على الجنب تحثّ الجنب على أن يسرع في الغسل).
إن هذه وأمثالها من الاستنتاجات تربّي الطالب على أن يفهم أو يحاول أن يفهم الملاكات للأحكام الشرعية.
وعندما تعرض لمسألة إبطال الرياء للعبادات أشار إلى طلاب العلوم الدينية قائلاً: (إننا أذكياء ونستطيع أن نبرع في التجارة، ومن لا يخلص في طلب العلم والعمل به وهداية الناس فإنه خسر الدنيا والآخرة، أما الآخرة فإن الإخلاص هو شرط قبول الأعمال، والرياء مبطل للعمل العبادي، ونحن نستحي حين لا نعرف حكم مسألة من المسائل، لهذا نحن نجيب بآرائنا وأهوائنا وجهلنا. وأما الدنيا فأي دنيا هي دنيا الطلبة لا أمن فيها ولا مال..).
وكان يقول أيضاً حاثّاً المؤمنين على العمل من أجل الإسلام: (لماذا لا ينام بعض أتباع المذاهب الإلحادية حتى يخطّطوا لعملهم في غدٍ؟ ماذا يفعلون وكيف يعملون ونحن لا نفعل شيئاً؟)
وقال لطلابه المجتمعين لمدارسة المَلازِم الأولى من كتاب فلسفتنا التي كانت تصدر تباعاً من المطبعة: (والله لا أعلم مجلساً أقرب إلى الله من مجلسكم؛ لأنكم تريدون التسلّح بالفكر الإسلامي لمواجهة الضلالات).
١٠. دراسة تأثير علم الأصول على المجالات غير الفقهية، ودراسة من هذا القبيل تحتاج إلى تفصيل للنقاط التي أثارها الشهيد الصدر في المعالم الجديدة للأصول.[28]
١١. دراسة الشهيد الصدر للنصوص الأصولية دراسة علمية تحليلية، فتراه يشقّق ويحلّل الفكرة إلى أبعد حدّ وكأنه يريد أن يصل بالفكرة إلى أقصى مدى، وليس هذا مقصوراً على كلمات الأصوليين، بل لعله وليد منهجه في تحليل النصوص الشرعية، ومراجعة سريعة لبحثه الفقهي يظهر منها ما نقول، وكذلك دراسته للأفكار والآراء والمقولات.
ومن يلاحظ بحثه في القائلين بوحدة الوجود رغم اختصاره يلاحظ الوجوه المحتملة في مقولتهم.[29]
إن ملاحظة ذلك تكشف للإنسان عمق الذهنية التي يملكها الشهيد الصدر، والتي أراد لطلابه أن يتحلّوا بها. لاحظ ما طرحه من تفسير للإرادة في آية التطهير.[30]
ورأيه في الإرادة يحل الإشكاليات التي أوردها الكثيرون على الاستدلال بالآية على عصمة أهل الكساء(ع). وهو يرى أن المراد التكويني لا يستحيل انفكاكه عن الإرادة التكوينية.[31]
كذلك يلاحظ بحثه في الدليل العقلي الجزء الأول من مباحث الأصول للسيد الحائري[32] وكذا بحوث علم الأصول للسيد الهاشمي.[33]
١٢. الدفاع عن الحقيقة العلمية أياً كان قائلها، والرد على الأباطيل من أي مصدر صدرت، مثال ذلك دفاعه عن الأخباريين والأشاعرة من غير أن يكون أخبارياً أو أشعرياً في موضوع توقّف المعجزة على مقدمة عقلية هي قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب.[34]
كذلك قال: إن ثلث علم الأصول قائم على قاعدة باطلة هي قبح العقاب بلا بيان، وهي لعب بالألفاظ.
وهو يرى أن الإجماع المنقول لا يوثق به؛ نتيجة التساهل في نقله.[35]
رغم أنه يأوّل تأويلاً متميزاً للإجماع المنقول عن السيد المرتضى في عدم صحة العمل بخبر الواحد.
وهذه الطريقة القاسية من الرد نفس طريقة المحقق ابن إدريس الذي كان يغلظ في الرد على الشيخ الطوسي ليربّي الآخرين على الجرأة في مواجهة الآراء غير المبرهنة.
وهذا لا ينافي ما كان يفعله من تقريب وجهات النظر ومحاولات الجمع بين المباني إذا أمكن ذلك.
١٣. كان ينسب الفضل إلى أهله، فهو إن عرف عنه اختياره لمسلك حق الطاعة وقد يفهم البعض أنه انفرد به، لكنه يقول: إن هذا هو مختار الشيخ الطوسي وغيره.
ويثني كثيراً على العلماء الذين فطنوا إلى مسائل هامة في علم الأصول كالشيخ النائيني في مسألة الترتب، وكذلك أشاد بالأنصاري وغيره وتقسيمه لعصور علم الأصول.
١4. إشاعة الروح الجماعية في البحث والحوار والتحقيق. لاحظ رسالته الموجهة إلى تلميذه السيد الحائري.
كما قال لتلميذه السيد علي أكبر الحائري: إنك أحييت كتاب الحلقات؛ لأنه صحّح الأخطاء المطبعية.
وهذه طريقة غريبة على منهج الدراسات الحوزوية.
١5. السعي إلى إيجاد منهجية وافية وصحيحة، لقد ذكرنا أنه استخدم منهجين في دراساته وبحوثه الأصولية.
١6. التأكيد على دور الإشراط والقرن بملابسات معينة في التأثير على المصطلحات، من ذلك ما ذكره في مناقشة الاستدلال الأخباري على عدم العمل بالظهور القرآني استدلالاً بالنص الوارد عن الأئمة(ع) الذي ينهي عن التفسير بالرأي.[36]
وهذا يدل على ذهنية دقيقة عميقة تلاحق المصطلح في ظروف نشأته وتطوره.
لاحظ أيضاً إطراءه على الشيخ الفقيه محمد جواد مغنيه.[37]
لاحظ سلسلة (اخترنا لك)[38] وتتضمن مجموعة بحوث مأخوذة من كتابات الشهيد الصدر.[39]
١٧. الذوق الإسلامي والتبصرة الدينية صفة بارزة في شخصية الشهيد الصدر، وظهرت آثارها في فهمه للنصوص الواردة في الأكراد وفي رفع التكليف في يوم محدد من السنة.[40]
لاحظ هجومه على المنهج الباطني في فهم الأحاديث والنصوص والشريعة. ولاحظ جعله القرآن مرجعاً أساسياً لكل المعارف الإسلامية طيلة تاريخ الإسلام.[41]
علم الكلام والفلسفة والأصول
الشهيد الصدر الفيلسوف والمنطقي الأرسطي أولاً ثم العلمي الاستقرائي، هل استطاع أن يوظّف نظريته في المعرفة التوالد الذاتي في دراساته الأصولية؟
نعم، حين ركّز على نوعين من وسائل الإثبات، إثبات الدليل الشرعي.
وهما وسائل إثبات تعبدية ووجدانية قائمتان على نظريته في حساب الاحتمال، التي نظّر لها واستدل لها بشكل مفصّل في الأسس المنطقية للاستقراء والإجماع والتواتر والسيرة، ترجع أسس دليليتها إلى حساب الاحتمال، بل سعى إلى إنزال النظرية من برجها العاجي ومن تعقيدها إلى مستوى المثقفين، حيث كتب (المرسل والرسول والرسالة) الذي يعتبر تطبيقاً للنظرية على أهم المسائل العقائدية. وسعى إلى تطبيقها على الإمامة والإعجاز.[42]
كما أن للشهيد الصدر صولات في مجالات الفلسفة وعلم الكلام ونظرية المعرفة المعهودة أرسطياً ونظرية المعرفة الحديثة في الغرب، كذلك له مناقشات مع أساطين الفلسفة في تفريعاتهم ومصطلحاتهم، راجع على سبيل المثال لا الحصر:
مناقشته لمسألة الجبر والاختيار.
مناقشته في تفسير المعقولات الثانية الفلسفية.
تفسير الخراساني للخير والشر.
المناقشات في الحسن والقبح العقلي على رأي الأشاعرة والإمامية.
مناقشته في تفسير المتأخرين للقضايا المشهورة.
مناقشته في كيفية دلالة المعجزة.
مناقشته في استحالة الدور.
إذ يرى أن نفس عملية الدوران مستحيلة لا أن ما يلزم منه الدور مستحيل، وكأن عملية الدوران ممكنة.
مناقشته في الاستدلال على بطلان التسلسل ببرهان التطبيق مستعيناً بالرياضيات الحديثة.
مناقشته لقاعدة اللطف في بعض المجالات.
أشار الشهيد الصدر إلى مصادر الإلهام للفكر الأصولي، مما يعين الطلاب على الدقة في التعامل مع الأفكار الأصولية وتلك المصادر.[43] عوّد طلابه على الدقة في البحث والتطبيق. لاحظ فصله بين الشروط الشرعية وبين الوضع اللغوي.[44]
وكذلك فصله بين العنوان والمعنون وبين بحث الآلية الذي يراد منه فناء مفهوم في مفهوم آخر، بينما الأول هو فناء العنوان في المصداق الخارجي.
ولاحظ ما قاله من عدم ضرورة التطابق بين عالمي الخارج والذهن دائماً، حيث يرى قيام البرهان على خلافه؛ فإن العرض لحاظه في الذهن يمكن أن يكون مستقلاً عن موضوعه بخلاف واقعه الخارجي حيث هو موجود في موضوعه.
وتظهر دقته أيضاً في تقسيمه للأعراض وفي اكتشاف ملاك جديد للاستحالة، ليس هو الدور بل هو ما يشبه الدور.[45]
وتظهر أيضاً فيما طرحه من بحث عن الحب والبغض.[46]
كذلك يلاحظ نظرية الحفظ الذاتي.[47] وبوضوح كامل نرى دقته عندما يتحدث عن تأثير البحث المنطقي أو الفلسفي على النتائج الأصولية، لاحظ ما ذكره من أثر ملاك حاجة المعلول إلى العلة على مسألة الضد.
كذلك دفعته دقته إلى اكتشاف لوح الواقع الذي ليس هو عالم الخارج ولا عالم الذهن، بل هو عالم الواقعيات غير الذهنية وغير الحسية وقضاياه متحققة بنفسها لا بوجودها الخارجي، كالإمكان والاستحالة والامتناع، ولا يلزم من تحققها منذ الأزل تعدّد واجب الوجود.
ودقته الكبيرة جعلته يناقش في ما طرحه الإصفهاني في أكثر من مورد ومسألة من مباني فلسفية لها تأثيرات على المسائل الأصولية، فهو يناقش في المبنى تارةً وفي البناء أخرى.[48]
حيث يرى الإصفهاني أن الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية تكون تقييدية.
ويناقش أيضاً في أن التسلسل ليس مستحيلاً دائماً، بل هو ممكن في عالم اللحاظ والاعتبار.[49]
ويرى الشهيد أن برهانهم على استحالة التسلسل المسمّى ببرهان التطبيق ليس تاماً، واستفاد من الرياضيات الحديثة في الرد عليه.[50]
كما يناقش في قولهم: إن الاختيار ضروري وليس اختيارياً، فهو يرى إمكان أن يكون اختيارياً، ولا يشترط في الإرادة أن يكون المراد واجباً بالغير، ويرى أن الإرادة بالأمر مراد تكويني للمولى.[51]
وقد ناقش أيضاً خلطهم بين مصطلح الحكمة والفلسفة وبين مصطلحات البحوث اللفظية في مقولتهم الشهيرة: الماهية بما هي هي ليست إلا هي.[52]
وهو غير راضٍ عن إدخال الدقة الفلسفية في الاستظهارات العرفية.[53]
ويرى أن الإلهامات الفطرية هي الأساس في تشخيص الأوضاع اللغوية.[54]
ويتحدث بدقة عن مناشئ خبرة اللغوي.[55]
ونراه يشكّل براهين لمباني معارضيه، كما يظهر ذلك في مباحث الدليل العقلي بشكل جلي.[56] على سبيل المثال لاحظ مباحث الأصول.
وقد جعلته دقته يشكك في كثير مما توارثه الأصوليون. لاحظ ما طرحه من تفسير للرأي في الروايات الناهية عن التفسير بالرأي.[57]
وكذلك فهمه للمتشابه القرآني يدل على دقته واكتشافه لوجود مسلكين: ظاهري وباطني في أصحاب الأئمة جعله ينتصر بالمسلك الظاهري المتوافق مع ظواهر الشريعة.
وتكلّفه دقته أن يبحث عن معاني ومرادات العلماء في مصطلحاتهم.
لاحظ ما بحثه في استناد حجية الإجماع إلى قاعدة اللطف في مباحث في علم الأصول.[58]
ودقته المنهجية ظاهرة للعيان فهو يتحدث مثلاً عن البحوث والأوضاع اللغوية وأنحائها وكيفية تشخيصها.[59]
وفي منهجيته في بحث الدليل العقلي يشير إلى النزاع الشيعي ۔ السني والشيعي ۔ الشيعي في هذا الموضوع، ويدقّق في مصطلحات العقل النظري والعملي، ومصطلحات الحسن والقبح، ومصطلحات عالم الواقع وعالم الخارج، وارتباط بحث الحسن والقبح بالشهرة أو بالواقع وارتباطهما بالمصلحة والمفسدة أو عدم ارتباطهما، وارتباطهما باستحقاق الثواب أو عدم ارتباطهما وعلاقتهما بالتزاحم.[60]
وتجعله دقته يطرح مصطلحات جديدة.
لاحظ ما طرحه من مصطلح أصالة الثبات اللغوية.[61]
وهو ينكر وجود المجعول بالنظرة التصديقية، ويرى أن هذا الإنكار يحلّ مشكلة الشرط المتأخر ويقبله بالنظرة التصورية؛ ليصحّح استصحاب المجعول في الشبهات الحكمية.
وقد دفعته دقته إلى أن يطرح مشكلة المقدمات المفوّتة في التكوينيات قبل التشريعيات، ليشير إلى وجود حل لهذه المشكلة في الوجدان. وهناك إجابات ستة على المشكلة لا تأتي خمس منها في التكوينيات.[62]
ويناقش الشهيد في الفاعلية والفعلية وسقوط التكليف بالطاعة.[63]
فدقته في انتقاء المصطلحات تجعل طلابه دقيقين في التفكير والتعامل مع النصوص.
لاحظ تفريقه بين الضلالة والخطأ في مناقشة رواية (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
وحين يتعرض للتخصيص المنفصل يرى أن المخصصات المنفصلة قد لا تكون ظاهرة واضحة في كلمات الأئمة، ولعلها نشأت من عدم دقة النقل أو من اعتماد الرواة على النقل بالمعنى.[64]
مقارنة سريعة بين تقريرات طلاب الشهيد
صدر إلى المكتبات التقريرات التالية لبحوث الشهيد الصدر:
- بحوث في علم الأصول: آية الله السيد محمود الهاشمي.
- مباحث الأصول: آية الله السيد كاظم الحائري.
- جواهر الأصول: العالم الجليل الشيخ إبراهيم الأنصاري.
- تمهيد في مباحث الدليل اللفظي: العالم الجليل الشيخ حسن عبد الساتر.
وهي كتب مباركة نافعة أعانت طلاب العلم في المراحل المتقدمة على معرفة آراء السيد الشهيد في علم الأصول.
ويعتبر الأخير هو الأسهل عبارة؛ لأنه كما يقول مؤلفه: تعمّد التقيد بكل مثال أو تفريع أو عبارة معبّرة ذكرها الشهيد الصدر.
أما الكتاب الثالث فهو في مباحث القطع، وقد حافظ في كثير من الأحيان على مصطلحات وعبارات ومنهجية الشهيد، وهو خال من التعليقات من قبل المقرر.
أما الكتابان الأولان فهما فضلاً عن ضخامة حجمها وسعة مضامينهما يعبّران عن آراء الشهيد وتعليقات المقررين، والأول هو الأكثر تعبيراً عن آراء الشهيد الأخيرة في قسم كبير من الكتاب، بينما الثاني رغم دقته فهو يعبّر عن الآراء الأولى للشهيد، ورغم ذلك فقد سعى مؤلفه إلى جعله مقارناً بالدورة الأصولية التي لم يحضرها وبما كتبه الشهيد الصدر في الحلقات، وبما نقل إليه بعض طلاب الشهيد الصدر أمثال السيد علي أكبر الحائري، وهو من العلماء الفضلاء ممن استمر في حضور درس الشهيد حتى النهاية.
ملحق
وقفة مع الدكتور حسن حنفي
ظهرت دراسة للدكتور حسن حنفي حول دراسات الشهيد الصدر الأصولية ونشرت أكثر من مرة.[65]
وهناك ملاحظات عديدة على دراسته أسجّل فيما يلي أهمها:
1. طرح بشكل غير مفهوم تعليلاً لتشريع الأصول العملية حيث يقول: إن الطبيعة البشرية لا تعرف الجبر وأحادية الاتجاه؛ لذلك جاء التخيير ضمن الأصول العملية للاستدلال.
2. خلط بين الوضع بمعنى الحكم الوضعي وبين الوضع اللغوي.
3. لم يعرف ما معنى التسامح في أدلة السنن؛ إذ قال: إنه من الاستحسان، والاستصحاب نوع من الاستصلاح.
4. أكد على ما لا يؤمن به الشهيد الصدر في دور الأصول العملية في تحصيل اليقين.
5. فسّر الأصل العملي بأنه اليقين النظري الذي يشير إليه الأصل العملي، وفسّر البراءة بشكل مغلوط حيث اعتبرها يقيناً بالأصل.
وجعل الأساس في تشريعها هو أن الطبيعة خيّرة، وأن الشرّ طارئ على الإنسان، وأن الإنسان بريء بفطرته على نقيض المسيحية، ولا ندري الشريعة المسيحية التي ينتقدها هل هي الشريعة الأصلية أم المحرّفة.
6. عبّر بعبارات نابية عن أساس هام من أسس علم الأصول عند الشيعة وهو عصمة الإمام حيث قال: ما زالت عقيدة الإمام المعصوم قابعة في داخل علم الأصول.
ولعله تصور أن الشيعة يعتقدون عصمة العلماء والفقهاء.
7. أخبار العلاج لم يستطع بحق أن يفهمها مع ذلك خاض فيها؛ لهذا جمع بين أخبار العلاج [الراوندي].
8. لم يدرك ما المقصود بالشك التقديري وفسّره حسب فهمه القاصر وهو معذور.[66]
9. طرح موضوع التطور في الأحكام بشكل يخالف الضرورة، حيث يرى أن المبادئ العامة تتكيف حسب ظروف كل عصر والمصالح لا تثبت بحال.[67]
10. جعل الروايات هي الأساس في إثبات سيرة المتشرعة.[68]
11. لم يدرك المراد من تقسيم الأحكام إلى النفسية وغيرها.
12. في الوقت الذي يصرّح الشهيد برفضه استناد الإجماع إلى قاعدة اللطف يجعلها الدكتور حنفي أساساً لحجية الإجماع.[69]
13. المصطلح الأصولي دقيق ومحدد، ولكن الدكتور حسن حنفي استعمل عبارات غير دقيقة مثلاً:
الأمارات مؤشّرات على اليقين وطريق إليه والأصول العملية اجتهاد في الوصول إلى اليقين.
في حين رؤية المذهب إلى الأصول العملية أنها للتنجيز والتحذير من غير كاشفية تامة.
وقال أيضاً: إن اليقين الذاتي يتطلب موافقة التزامية أي تصديقاً برهانياً ذاتياً واستناداً إليه.[70]
وهنا خلط بين المصطلحات المستعملة في مسائل متباينة، كما أنه ربط بعض المصطلحات بما أسماه بقايا الجوانب العرفانية في أصول فقه الشيعة مثل الجعل والكشف والتنجيز.[71] ومن الواضح أن هذه المصطلحات لم تؤخذ من العرفان.
أدخل مصطلحات عديدة في غير موردها مثل الموسّع والمضيّق والفور والتراخي والأداء والقضاء.
١4. وقد أوّل مصادر الإلهام في علم الأصول بشكل غريب.[72]
١5. جعل حجية التواتر ظنية وجاء بتفسيرات غريبة للسيرة، وطرح تفسيراً غريباً للتعارض المستقر وغير المستقر ولأسبابه وكيفية علاجه، وفسّر الترجيح بالصفات تفسيراً غريباً.
١6. لم يفهم كيفية الاستدلال بالإجماع وملاكها، وهو يرى أن الإجماع يمكن أن يتحول إلى تجربة جماعية مشتركة.
الملاحق
ملحق رقم ١
كشاف بأهمّ المصطلحات التي استخدمها
السيد الشهيد في ثنايا بحوثه الأصولية
استخرجها من بحوثه السيد علي أكبر الحائري في مقدمة الحلقة الأولى.
- العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. يقصد بها القواعد العامة التي يمكن استخدامها في استنباط أحكام شرعية عديدة في أبواب فقهية مختلفة.
- العناصر الخاصة في عملية الاستنباط. يقصد بها القضايا التي تستخدم في استنباط احكام شرعية معيّنة وتتغير من مسألة إلى أخرى.
- الأدلة المحرزة يقصد بها الأدلة التي تكشف عن الحكم الشرعي إما كشفاً قطعياً أو كشفاً ظنياً حكم الشارع باتّباعه وقبوله. وقد وضع السيد الشهيد(قده) هذا المصطلح في مقابل الأصول العملية وهو أوسع من مصطلح الأمارات؛ لأنه يشملها ويشمل الأدلة القطعية معاً.
- الحفظ التشريعي وهو عبارة عن الموقف التشريعي الذي يصدر من المولى لحفظ الملاكات الواقعية المطلوبة له.
- التزاحم في مقام الحفظ التشريعي وقد يعبّر عنه أيضاً بالتزاحم الحفظي، وهو التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه، بحيث يتطلب كل نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر. وقد ذكر أستاذنا الشهيد(ره) هذا النوع من التزاحم في عالم الملاك ۔ بالمعنى الذي جاء في لسان المحقق الخراساني(ره) ۔ بل إنما هو عبارة عن التزاحم في عالم حفظ الملاكات حفظاً تشريعياً. ويمكنك الحصول على توضيح ذلك بصورة أوسع في تقريرات بحثه(ره).
- نظرية القرن الأكيد وهي من النظريات التي أبدعها أستاذنا الشهيد(ره) في علم الأصول، وقد فسّر بها عملية الوضع في بحث الدلالة، وحاصلها أن الوضع عبارة عن اقتران مؤكد بين تصور اللفظ وتصور المعنى يستدعي إثارة أحدهما للآخر في الذهن.
- مسلك حق الطاعة وهو أيضاً من إبداعات أستاذنا الشهيد(ره) في علم الأصول، حيث أسّس هذا المسلك في مقابل مسلك القائلين بقبح العقاب بلا بيان، معتقداً أن من حق الله تبارك وتعالى على العباد أن يطيعوه في جميع التكاليف القطعية والظنية والاحتمالية ما لم يصل إليهم الترخيص من قبله في ترك الاحتياط.
- ترك التحفظ يقصد به ترك الاحتياط.
- القطع الموضوعي تارة يستخدم في مقابل القطع الطريقي وأخرى في مقابل القطع الذاتي. والأول مصطلح قديم جاء في لسان الشيخ الأنصاري والمحقق الخراساني وغيرهما من علماء الأصول(رحمهم الله) كما جاء في لسان السيد الأستاذ الشهيد(ره) تعبيراً عن القطع الذي يحصل للإنسان عند مواجهته لمبرّرات موضوعية لهذا القطع، من دون أن يتأثر بعوامل ذاتية خاصة كالأمراض النفسية أو العواطف الهائجة التي قد تدفع الإنسان إلى الجزم بقضية لا يجزم بها الإنسان المتعارف في الظروف الطبيعية.
- القطع الذاتي يقابل القطع الموضوعي بالمصطلح الحديث الذي جاء في لسان أستاذنا الشهيد(ره) وهو القطع الذي يحصل للإنسان متأثراً بعوامل ذاتية خاصة من دون وجود مبررات موضوعية كافية.
- تنوين التنكير وهو مصطلح النُحاة عبارة عن التنوين (اللاحق لبعض الأسماء المبنية فرقاً بين معرفتها ونكرتها، ويقع في باب اسم الفعل بالسماع كصهٍ ومهٍ وإيهٍ، وفي العلَم المختوم بويه بقياس، نحو: جاءني سيبويهِ وسيبويهٍ آخر) لكن أستاذنا الشهيد(ره) قصد بذلك: التنوين الذي يلحق الاسم النكرة لإفادة قيد الوحدة، مثل: أكرم فقيراً. أي فقيراً واحداً.
- تنوين التمكين وهو في مصطلح النحاة عبارة عن التنوين (اللاحق للاسم المعرب المنصرف إعلاماً ببقائه على أصله، وأنه لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع الصرف، ويسمّى تنوين الأمكنية أيضاً وتنوين الصرف، وذلك كزيدٍ ورجل ورجال). لكن أستاذنا الشهيد(ره) قصد بذلك التنوين اللاحق للاسم المتمكن لا لإفادة قيد الوحدة بل لمجرد الإعلام ببقائه على التمكين، مثل قول القائل: رجلٌ خير من امرأة. قاصداً بذلك جنس الرجل.
- وسائل الإحراز الوجداني يقصد بها الأسباب والطرق التي تُوجب العلم ۔ ولو ضمن شروط معينة ۔ بصدور الدليل من الشارع، وأهمها: التواتر، والإجماع، وسيرة المتشرعة.
- وسائل الإحراز التعبدي يقصد بها الوسائل التعبدية التي تُوجب البناء على صدور الدليل من الشارع، وأهمها خبر الواحد الثقة.
- التعارض المستقر هو التعارض بين دليلين لا يوجد بينهما جمع عرفي، وذلك فيما إذا لم يكن أحد الدليلين المتعارضين قرينة عرفية على تفسير مقصود الشارع من الدليل الآخر.
- التعارض غير المستقر هو التعارض بين دليلين يمكن الجمع بينهما عرفاً بتأويل أحدهما وفق ظهور الآخر، وذلك فيما إذا كان أحد الدليلين المتعارضين قرينةً عرفاً لتفسير مقصود الشارع من الدليل الآخر.
- النسبة الاندماجية.
- التصويب الإمامي.
ملحق رقم ۲[73]
إن سير الأمور وسير الأحداث دائماً ۔ فلسفياً وعقلياً ۔ لا يخلو عن أن يكون خاضعاً لأحد مبدأين:
المبدأ الأول: مبدأ العلية، وهو الذي يسيّر الحوادث، أي أن الأحداث تتكرر وتتغير وتتحرك وتتبدل وفق عللها، وهذا ما قال به الفلاسفة العقليون الذين آمنوا بضرورة العلية؛ وبحجة أن الشيء الممكن ۔ المسمّى بممكن الوجود ۔ نسبته إلى الوجود والعدم على حد سواء، فلا يمكن أن يرجّح جانب الوجود فيه إلا بعلة؛ إذ لو لم تكن هناك علة، إذن كان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ترجيحاً بلا مرجّح وهو مستحيل على حد قول الفلاسفة، ولا نريد أن ندخل في صميم البحث الفلسفي، حيث تعلمون أن الفلاسفة الماديين الجدد أنكروا مبدأ العلية، ولم يؤمنوا إلا بمبدأ التقارن، أي تقارن شيء بشيء، كاقتران النار بالاحتراق، واقتران حركة المفتاح بانفتاح الباب، وما شابه ذلك من دون أن يؤمنوا برابطة العلية بين النار والاحتراق أو بين حركة المفتاح وانفتاح الباب، وافترضوا رابطة العلية هذه شيئاً غيبياً لا يمكن أن يخضع للتجربة، وبما أن الفلاسفة الماديين هم تجريبيون يؤمنون بأن مصدر المعرفة هو التجربة، والتجربة لا تستطيع أن تكشف مبدأ العلية؛ لذا أنكروا هذا المبدأ، وقالوا: إن سير الأمور لا يكون إلا بحفنة من التقارنات والصدف.
ولأستاذنا الشهيد الصدر(قده) في هذه المسألة بحث مفصّل وطريف وممتع في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء، يقول فيه: إن إيماننا بمبدأ العلية لا يقوم على أساس المباني الفلسفية العقلية التي تقول باستحالة الترجيح بلا مرجّح، وأن الممكن نسبته إلى الوجود وإلى العدم على حد سواء، فلابد إذن من علة كي تترجح كفّة الوجود على كفة العدم، بل نضيف إلى ما قاله الفلاسفة العقليون بأن التجربة لوحدها أيضاً كافية لإثبات مبدأ العلية، خلافاً للفلاسفة المحدثين الذين قالوا: إن العلية لا تثبت بالتجربة. وهذا له بحث مفصّل وعميق لا مجال لشرحه هنا، وإجمال قوله(قده) هو أننا حينما تكرر إيجاد شيء ونرى نتيجة تقترن مع ذاك الشيء كما في تكرار إيجاد النار واقتران الاحتراق بها مثله نستكشف من هذا التكرار والتعدد ۔ بحساب احتمالات ۔ نقطة مشتركة ثابتة في كل هذه الأعداد من التجربة، هي العنصر المشترك بين هذه التجارب العديدة، وليس هذا العنصر المشترك إلا العلة؛ إذ لولا أن النار علة للاحتراق لكان هذا التكرار مجرد تجمع صدف دون وجود نقطة مشتركة فيما بينها، وهذا مستبعد جداً بضرب القيم الاحتمالية بعضها في بعض، هذا أحد المبدأين اللذين بالإمكان افتراض سير هذا العالم والأحداث التي نراها على أساس أحديهما.
المبدأ الثاني: الذي يمكن افتراض قيام العالم على أسسه هو مبدأ السلطة والقدرة والسلطنة، وهذا اعتقده أستاذنا الشهيد(ره) مبدأ لظهور العالم، فإيجاد الله(عز) للعالم ليس بالعلية، فإن العلية أمر يستبطن استحالة الانفكاك بين العلة والمعلول، وهذا بدوره يستبطن الجبر، أما الله تبارك وتعالى فهو يفعل ما يشاء وفق إرادته ووفق قدرته وسلطنته، والقدرة شيء والعلية شيء آخر.
الفارق بين القدرة والعلية مبرهن في محله، وفي الجملة، لا شك أننا نحسّ في وجداننا بالفارق بينهما، فهناك فرق ۔ كما مثّل العلماء ۔ بين حركة الحجر الذي يسقطونه من الأعلى وبين حركة الإنسان وهو ينزل من الدرج، هاتان حركتان: حركة الإنسان وهو ينزل من الأعلى إلى الأسفل، وحركة الحجر أيضاً حينما ينزل من الأعلى إلى الأسفل، لكن الوجدان يحكم بوجود فارق جوهري بينهما، ويعتقد كثير من العلماء أن الفارق بينهما هو عبارة عن الإرادة، فالحجر لا يمتلك إرادة، بينما يملكها الإنسان، فالحجر ينزل من الأعلى إلى الأسفل بلا إرادة، بلا شوق، بلا حب، بلا اختيار، أما الإنسان فإنه ينزل من الأعلى إلى الأسفل بإرادة وشوق.
وعلى هذا الأساس امتاز مبدأ الجبر عن مبدأ الاختيار، وأستاذنا الشهيد آية الله العظمى السيد محمدباقر الصدر(قده) يرى أنه لا يُكتفى بهذا المقدار من الفارق؛ لأنه لا يحقّق الاختيار ويخرجنا من عالم الجبر، فأي فرق بين ما يصدر من الإنسان ۔ في حالة الوجل من حركات غير اختيارية ۔ وبين ما يصدر من إنسان آخر اعترته حالة الشوق، فلو كان الأمر كما قالوا، وأن الإرادة تعني أن تعتري الإنسان حالة الشوق والرغبة الأكيدة فيصدر منه العمل الذي اشتاق إليه قهراً، فلا فرق إذن بين ما يصدر من الإنسان في حالة الشوق أو حالة الوجل أو حالة الخجل أو سائر الحالات، فمجرد أن هذا شوق ومحبة ورغبة لا يجعل هذا العمل اختيارياً.
إن المائز والمقياس الحقيقي الذي يفصل بين الجبر والاختيار هو مسألة السلطنة والقدرة وليس مسألة الشوق، ولا يعني هذا الاستغناء عن الشوق والإرادة، فهذا مما لابد منه، فإن الشوق يلازم الاختيار، والإنسان المختار لا يعمل شيئاً إلا بالشوق والاختيار، إلا أن الشوق ليس هو الذي جعل هذا العمل اختيارياً لو لم يكن إلى جانبه القدرة والسلطنة، التي تعني أنه يستطيع أن يفعل ويستطيع أن لا يفعل.
إن كل ما نراه يعود إلى مبدأ السلطنة والقدرة وإرادة الله تبارك وتعالى، وحتى ما نراه من أن النار تحرق، فإن التفكير الفلسفي الاعتيادي المتعارف يقول: إن النار علة للإحراق.
إن الله تعالى خلق العلة وهي النار [مناد] أما عليتها فهي ذاتية بها، ولكن توجد إلى جانب ذلك فرضية أخرى معلولة أيضاً وهي أن تكون قد اقتضت الحكمة الربانية أن يخلق الله تعالى دائماً الإحراق متى ما تتحقق الملاقاة بالنار، وكلا هذين الأمرين محتملان، فالرأي الأول وهو ۔ الرأي الفلسفي ۔ المعروف محتمل، والاحتمال الثاني ۔ الذي طرحه السيد الشهيد الصدر(قده) ۔ وهو أن لا تكون النار علة للإحراق، وإنما شاءت إرادة الله تبارك وتعالى أن تخلق الإحراق متى وجدت النار، وهذا محتمل أيضاً لا ينفيه القانون الفلسفي الذي يقول بأن الممكن نسبته إلى الوجود والعدم على حد سواء ولا يوجد إلا بمرجّح، فصحيح أن الممكن بحاجة إلى مرجّح، ولكن من قال أن مرجحه مبدأ العلية، فلعل مرجحه مبدأ الإرادة، إرادة الله وقدرة الله تبارك وتعالى، فالقانون الفلسفي لا يبطل هذا الاحتمال، وكذلك القانون التجريبي ۔ الذي أشرنا إليه ۔ فإن كثرة التجارب بإشعالنا النار آلاف المرات مثلاً ورؤيتنا ترتّب الإحراق على ذلك يدلّنا على وجود عنصر مشترك فيما بين هذه التجارب العديدة، لكن من قال: إن هذا العنصر المشترك هو عبارة عن العلية، فلعله عبارة عن إرادة الله تبارك وتعالى وقدرته وسلطنته، فهو أراد أن يخلق الاحتراق متى ما صنعنا النار.
ملحق رقم ۳
فقوله تعالى: <وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ..>[74] هو من الإخبارات الغيبية من قبل الله تعالى، وهو مما لم يتحقق لحد الآن.
وفسّرت (الدابة) في بعض الروايات بـ(أميرالمؤمنين(ع))، أي أنها فسّرت بمعناها اللغوي الذي هو كل ما يدبّ على وجه الأرض فيشمل الإنسان.
ولسنا الآن بصدد تفسير ذلك. إلا أن ظاهر هذه الآية المباركة أن ذلك هو من أشراط الساعة ومن علامات القيامة وليس من علامات الظهور؛ إذ أن الظاهر هو أن الله(عز) يخرج تلك الدابة حينما يريد أن ينزل على الناس العذاب، وينتقم من البشرية الظالمة. أما محل الشاهد من هذه الآيات الكريمة فهو قوله تعالى: <وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً>[75] فإن ظاهره غير ناظر إلى يوم القيامة؛ وذلك لأن الله تعالى سوف لا يحشر ۔ في يوم القيامة ۔ من كل أمة فوجاً وإنما يحشر جميع الناس، كما قال تعالى: <وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً>.[76]
وبعد عدة آيات من قوله تعالى: <وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً> يأتي قوله تعالى: <وَ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ>[77] الذي يتكلم عن يوم القيامة.. فذلك اليوم الذي يتم فيه حشر بعض الناس <مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً> يختلف عن هذا اليوم.. فهو ليس بيوم القيامة.
والذي يبدو من هذه الآية المباركة، هو أن هذه الرجعة بعد الموت قد جعلت من أشراط الساعة ومقدمات القيامة.. إضافة إلى ما ورد من روايات تشير إلى أن هذه الآية المباركة لا تشير إلى يوم القيامة.. .
هذا هو معنى الرجعة إجمالاً.
أما بالنسبة للمعنى الذي نؤمن به من رجوع الأئمة(ع) إلى الحياة الدنيا بعد عصر الظهور، ورجوع طائفة من المؤمنين الذين محضوا الإيمان محضاً، وقسم من الكفار والفساق الذين محضوا الكفر أو الفسق محضاً فهو غير موجود في القرآن الكريم، ولكنه وارد في روايات متظافرة بل متواترة.
ويوجد لأستاذنا الشهيد الصدر(قده) تفسير خاص لفكرة الرجعة، ولكنه كان(ره) يذكره على شكل احتمال ونظرية غير ثابتة الصحة، ولم يذكره(ره) كتفسير يقيني الصحة وجزمي الثبوت.
ومحتوى هذه النظرية: أن الرجعة قد لا تعني رجوع أولئك الموتى من عالم البرزخ إلى عالمنا رجوع القهقري، بل الأمر بالعكس؛ إذ أن عالمنا هو الذي قد يرتقي ويقترب إلى العالم الأخروي، فتقلُّ بسبب هذا الاقتراب سعة الحاجب الموجود بين العالمين، وحينئذٍ فإن التعايش مع بعض أولئك الذين هم في عالم البرزخ وعالم الآخرة سيكون ممكناً.
وقد طرح أستاذنا الشهيد(ره) هذا الرأي؛ لأنه كان يقدّر على نحو الاحتمال بأن عالمنا فقط هو عالم المادة، أما العوالم الأخرى ۔ عالم البرزخ وعالم القيامة وعالم الجنة والنار ۔ فإنها ليست بعوالم مادية، وإنما هي ماوراء المادة، عوالم أرواح؛ ولهذا فإن رجوع الموتى حينئذٍ يعني رجوعهم من عالم أسمى إلى عالم أدني، ومن درجة أرفع إلى درجة أوضع، وهذا الرجوع قهقري فلا يقع.
كما أنه(ره) كان يقول ۔ كاحتمال أيضاً ۔ بأن المعاد الجسماني الذي ورد في الروايات والآيات ۔ وكما نعتقد به ۔ قد لا يكون بخصيصته المادية، بل ربما يكون فاقداً لها؛ لأن هذا الميت قد خلع ثوب المادة وذهب إلى عالم أسمى، فلا يعود القهقرى إلى عالم المادة، بل يبقى في عالمه، وسوف ينتهي عالم المادة في يوم القيامة، ويصبح بأجمعه عالماً غيبياً ۔ أي ماوراء المادة ۔ وباقتراب الزمان من موعد يوم القيامة يقترب الناس إلى عالم الآخرة. وبالرغم من أن ساعة الصفر ۔ ساعة النفخ في الصور ۔ تأتي فجأة، إلا أن الاقتراب بين عالم المادة وعالم الغيب ليس بدفعي وإنما هو تدريجي.
وعندما يقترب عالم المادة من عالم الغيب فإن الحاجز الموجود بين العالمين سيصبح خفيفاً ورقيقاً، بحيث يمكن لأفراد عالم المادة أن يتعايشوا مع بعض أفراد عالم الغيب، ويصبح التعايش بين (الماديين) و(الغيبيين) ممكناً إلى حد ما وعلى مستوى معين، فيصحّ ۔ بهذا الاعتبار ۔ أن نقول بأن قسماً من الموتى قد رجع إلى الحياة الدنيا، ويصحّ أن نسمّي حالة التعايش تلك باسم (الرجعة).
هذه النظرية التي كان يطرحها السيد الشهيد الصدر(قده) ۔ كاحتمال ۔ وإن كان يؤيدها ببحث فلسفي وعقلي، لكنها ما زالت لا تحمل مؤيدات مما بأيدينا من آيات وروايات، بل إننا نرى بأن معنى الرجعة لابد وأن يكون هو نفس المعنى المعروف من رجوع الأئمة(ع) وقسم من المؤمنين وقسم من الكفار بوجوداتهم المادية؛ وذلك لسببين رئيسيين:
الأول: أن ما احتمله أستاذنا الشهيد(ره) من أن المعاد الجسماني سيكون عبارة عن رجوع الجسم بشكله الغيبي الفاقد لخصيصته المادية ۔ إن صحّ التعبير ۔ هو خلاف ظواهر الآيات والروايات. وإن تفسيره لغيب يوم القيامة بمعنى (أنه فوق المادة) غير واضح من القرآن الكريم وليس ببارز من الآيات المباركة، بل إن الذي يظهر من بعض الآيات هو خلاف ذلك، ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: <أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ>.[78]
فالله(عز) يخبرنا في هذه الآية الكريمة بأنه قادر على إعادة أدقّ أجزاء بدن الإنسان وهو (البنان).[79]
فظاهر الآية الكريمة ۔ إذن ۔ هو أن هذه العظام نفسها هي التي تجمع، وأن هذا البدن نفسه هو الذي يعاد، بل إن فيها إشارة إلى أن الله تعالى سيحتفظ بمنتهى الدقة الموجودة في خلق الإنسان كدقة البنان مثلاً.
قوله تعالى: <وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ>.[80] حيث إنه ظاهر أيضاً في أن الإحياء سيكون بشكله المادي.
كما أن هناك آيات أخرى ظاهرة في المعاد الجسماني، كالآيات التي تشبِّه حياة البشرية بعد موتها بحياة الأرض بعد موتها، والآيات التي تشبّه رجوع الحياة إلى الميت برجوع اليقظة إلى النائم.
الثاني: أن القرآن الكريم قد أخبرنا عن وقوع الإحياء في سالف الزمان، حيث حكى لنا بأن كثيراً من الموتى قد رجعوا إلى الحياة الدنيا وعاشوا فيها، ونحن لا نشك في أن رجوع أولئك الأشخاص إلى الدنيا وعيشهم كان رجوعاً مادياً وبشكله المألوف لدينا وبالرغم من أن عالم المادة لم يكن قريباً من عالم الغيب وقتذاك.
فكيف يمكن أن نفسر ذلك الإرجاع ۔ إذن ۔ على أساس التفسير الذي احتمله أستاذنا(ره)؟
وإذا كان هذا النوع من الرجوع والإرجاع قد تحقق في أول الزمان وصحّ في العصور القديمة، فإنه يصح أيضاً في الأزمنة القادمة.
ومما أخبرنا القرآن الكريم به بهذا الشأن:
- قوله تعالى: <أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقٰالَ لَهُمُ اللّٰهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيٰاهُمْ>.[81]
فقد جاء في الروايات الواردة في تفسير هذه الآية المباركة، أن هؤلاء كانوا قد فرّوا من الطاعون للنجاة، فأماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم استجابة لدعوة أحد أنبيائه(ع).
- قوله تعالى: <أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا قٰالَ أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اللّٰهُ بَعْدَ مَوْتِهٰا فَأَمٰاتَهُ اللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قٰالَ كَمْ لَبِثْتَ قٰالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قٰالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عٰامٍ فَانْظُرْ إِلىٰ طَعٰامِكَ وَ شَرٰابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلىٰ حِمٰارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظٰامِ كَيْفَ نُنْشِزُهٰا ثُمَّ نَكْسُوهٰا لَحْماً فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ قٰالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ>.[82]
فقد جاء في الروايات الواردة في تفسير هذه الآية بأن هذا الشخص هو عَزير أو عُزير أو إرميا.. وذكرت بأن الله تعالى قد أماته وهو في عمر 50 سنة، وكانت زوجته حاملاً، وعندما أحياه الله سبحانه فقد أحياه بنفس العمر الذي أماته فيه ۔ أي 50 سنة ۔ فلما عاد إلى أهله رأى أن عمر ابنه أصبح مائة عام.
- قوله تعالى:
<وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ>. [83]
***
وهذه الشبهة إنما أثيرت في المنطق؛ لنقض مبدأ عدم التناقض، وفي مثله لا معنى لقبول الاستلزام ونفي الوقوع؛ لأن العدم أيضاً كان محالاً وارتفاعه مع الوجود أيضاً محال، فلابد من إبطال الاستلزام، وهذا ما نورده في مقامين:
المقام الأول: في دفع شبهة التناقض المذكورة، وحاصله أن هذه القضية قضية خبرية حقيقية تنحلّ إلى قضايا ومدلولات لا نهائية، كل قضية منها تقع بنفسها مصداقاً وموضوعاً لقضية أخرى تنطبق عليها؛ لأن كل واحدة منها هي قضية خبرية صادرة عن إغريقي، وإذا دقّقنا في هذه السلسلة اللانهائية من القضايا نجد أن صدق كل واحدة منها يلزم كذب طرفيها: ما قبلها وما بعدها، أي القضية المحكية بها عنها والقضية الحاكية عنها؛ لأن المحمول فيها هو الكذب فإذا كانت صادقة كان محكيّها كاذباً لا محالة كما أن الحاكي عنها كاذبة أيضاً؛ لأنها تحكي كذبها والمفروض صدقها، ويلزم من كذب كل واحدة صدق طرفيها؛ لأنها تحكي كذب القضية السابقة عليها، فإذا كانت كاذبة في هذه الحكاية كان لا محالة ما قبلها صادقة وإلا لم تكن بكاذبة، كما أن ما بعدها الحاكية عن كذبها تكون صادقة لا محالة.
وهكذا نجد أنه لم يلزم من صدق كل قضية كذب نفسها، بل كذب قضية أخرى، ولا من كذبها صدقها بل صدق قضية أخرى. فالخبر الإغريقي الأول إذا كان كاذباً كان نفس هذا الإخبار عن كذبه صادقاً لا محالة، فإذا كان هذا الإخبار بنفسه موضوعاً لقضية أخرى تحليلية مستفادة من كون القضية حقيقية لا خارجية فهناك إخبار آخر عن كذبها وذاك إخبار كاذب؛ لأن المفروض صدق الإخبار الأول عن الكذب، وهو بنفسه مصداق أيضاً لقضية أخرى تحليلية، فهناك إخبار آخر عن كذبها لا محالة وهذا إخبار صادق؛ لأن المفروض كذب الإخبار الثاني التحليلي عن الكذب. وهكذا تكون هذه القضايا التحليلية متسلسلة في الكذب والصدق من دون اجتماعهما على مركز واحد وقضية واحدة.
وأما نفس انحلال هذه القضية إلى قضايا لا نهائية من حيث مضمونها فلا محذور فيه؛ لأن التسلسل إنما يكون محالاً في جانب العلل لا المعلولات هذا في عالم الوجود، فكيف في عالم الواقع وصدق مثل هذه النسب والقضايا التصديقية الواقعية.
ثم إن هناك شبهة تناقض آخر أثاره الفيلسوف المادي راسل، وعلى أساسه بنى لنفسه منطقاً جديداً هو المنطق الرمزي الرياضي، وهي شبهة أن الكلي الذي لا يصدق على نفسه هل يصدق على نفسه أو لا؟ فإن قيل: يصدق يلزم منه أن لا يصدق على نفسه؛ لأن المحمول فيه ذلك، وإن قيل: لا يصدق على نفسه لزم أن يكون صادقاً على نفسه؛ لأن انطباق عدم الصدق على واقعه ضروري، فيكون واجداً لمحمول نفسه وهو معنى الصدق.
والجواب أن قيد (لا يصدق على نفسه) من القيود الثانوية وليست الأولية، بمعنى أنه لابد من افتراض عنوان كلّي في المرتبة السابقة على نفس عنوان الصدق وعدمه لكي يلحظ فيه الصدق وعدمه، فإذا أريد بهذا العنوان نفس عنوان الكلي فهو يصدق على نفسه، وإن أريد الكلي المقيد بأنه لا يصدق أي هذا المفهوم المقيد، فهذا القيد من القيود الطولية نظير أن يقول المتكلم: إخباري هذا كاذب. ويقصد شخص هذا الإخبار فكما أن هذا الكلام لا محكي له أصلاً بل قضية مفرغة كذلك المقام، ولهذا نجد أنه لا معنى لملاحظة الصدق وعدم الصدق سواءً في عنوان المفهوم الذي لا يصدق على نفسه أو في عنوان المفهوم الذي يصدق على نفسه؛ لأن كليهما عنوانان ثانويان طوليان بالمعنى المتقدم.
المقام الثاني: في حل الإشكال في مقامنا فنقول: إذا تعاملنا مع النهي عن اتّباع المتشابه معاملة القضايا الحقيقية المنحلة إلى ما لا نهاية من قضايا يكون مدلول كل واحدة منها عدم حجية القضية السابقة عليها، وحينئذ يلزم من حجية كل منها التعبد بمفادها الذي هو عدم حجية التي قبلها لا عدم حجية نفسها.
نعم، لو كانت القضية خارجية أو حقيقية وادّعينا القطع بعدم الفرق بين عدم حجية التي قبلها وعدم حجية نفسها، فسوف تتشكل دلالة التزامية على عدم حجية نفسها أيضاً، فقد يقال: يلزم المحذور، وهو أن حجيتها يستلزم عدم حجيتها.
إلا أن الصحيح عدم الاستلزام أيضاً؛ لأن الذي يلزم من حجية هذه الدلالة هو التعبد بمفادها لا ثبوت مفادها حقيقة، فإن الحجة قد تخطئ، وهذا يعني أن لازم حجيتها ثبوت عدم حجية الدلالة التي قبلها، وبالملازمة عدم حجية نفسها تعبداً لا حقيقة، فلم يلزم من حجيتها عدم حجيتها، بل من حجيتها واقعاً التعبد بعدم حجيتها ظاهراً، وهذا ليس بمحال وإن كان لغواً؛ إذ لا معنى لجعل حجية تستلزم نفيها ظاهراً، إذ يستحيل أن تصل مثل هذه الحجية.
الثاني: ما يقتضيه النظر الدقيق في فهم الآية الكريمة وهي قوله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ في الْعِلْمِ>[84] فلقد قسّمت فيها الآيات القرآنية إلى قسمين: محكمات ومتشابهات، ثم عابت على أهل الزيغ والهوى من اتّباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والتأويل، وقد استفيد منه النهي عن اتّباع المتشابه، حيث اعتبرت ذلك طريقة أهل الزيغ وإلا فلا نهي صريح عن اتّباع المتشابه، ولكن من الواضح أن المتفاهم عرفاً من هذا التعبير ۔ بعد تلك القسمة الثنائية ۔ أن النظر إلى الذين يختصون باتّباع المتشابهات ويلتقطونها ويفصلونها عن المحكمات ابتغاء الفتنة والمشاغبة وتشويش الأذهان من خلال ذلك التشابه كما هو شأن من يريدون الفتنة والمشاغبة، فظاهر الآية على هذا النهي عن مثل هذه الفتنة التي تكون بالاقتصار على المتشابهات والتركيز عليها من دون الرجوع إلى المحكمات التي هنّ أم الكتاب.
وقد ورد في تفسير الآية أنها نزلت في نصارى آل نجران الذين كانوا يشنّعون على المسلمين ببعض المتشابهات الواردة في حق عيسى، وأن له حالة فوق البشر وأنه روح منه سبحانه؛ بغرض الفتنة والوصول إلى ما يزعمونه إفكاً وكفراً، وأين هذا من حجية الظواهر القرآنية بعد مراجعة المحكمات لغرض اقتناص المراد منها؟
الثالث: ما ذكره المحققون من علماء الأصول من المنع عن شمول المتشابه للظاهر، فإن مجرد قابلية اللفظ لأن يستعمل في كل من المعنيين لا يجعله متشابهاً إذا كان واضحاً بيّناً في أحدهما؛ لكونه المعنى الحقيقي دون الآخر، بل لابد من تساوي نسبة دلالة اللفظ إلى كل منهما وتقاربهما ليصدق عليه المتشابه، وهذا لا يكون إلا في المجمل.
وهذا الكلام لا ينبغي الشك فيه، إلا أن هناك بحثاً ينبغي استيعابه، وهو أن المتشابه ماذا يراد به في الآية الكريمة، التشابه والإجمال في المفهوم والمدلول الاستعمالي للفظ أو التشابه في المصداق، بمعنى عدم معروفية المصداق مع وضوح المدلول المستعمل فيه اللفظ في نفسه؟ والتمسك بالآية استدلالاً وجواباً مبني على إرادة التشابه المفهومي إلا أن هذا الافتراض في نفسه بعيد لأمرين:
- تصريح القرآن نفسه بأن آياته إنما نزلت بياناً وتبياناً وهدىً ونوراً بل بلسان عربي مبين، وهذا لا ينسجم مع فرض التشابه المفهومي والإجمال.
- وجود قرائن في نفس الآية تنفي إرادة هذا المعنى، وذلك قرينتان:
إحداهما: التعبير (الاتباع) في قوله تعالى <فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ>، فإن الاتباع لا معنى له إذا أريد المتشابه المفهومي؛ إذ ذلك فرع وجود مدلول ظاهر يتعين فيه اللفظ، ومع التشابه المفهومي لا مدلول ليتّبع، وهذا بخلاف ما لو أريد التشابه المصداقي بمعنى أنهم يتبعون الآيات التي مصاديقها الخارجية متشابهة لا تناسب مع المصداق الواقعي الغيبي الذي ينطبق عليه مفهوم الآية، فمثلاً كلمة الصراط في <اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ>[85] أو العرش والكرسي في الآيات الأخرى التي مدلولها اللغوي واضح لا تشابه فيه إلا أن مصاديقه الخارجية سنخ مصاديق لا تنسجم أن تكون هي المقصودة في هذه الآيات، فمن في قلبه زيغ يتّبع مثل هذه الآيات ليطبّقها على مصاديقها الخارجية المتشابهة ۔ وهذا التطبيق عبّر عنه بالتأويل من الأول كما في تأويل الرؤيا وتطبيقه على مصداقه الواقعي ۔ ابتغاء الفتنة وتشويش العقائد والأفكار.
الثانية: كلمة التأويل في قوله تعالى: <ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ> فإن المتشابه لو أريد به المتشابه المفهومي، فيكون معنى التأويل حمله على خلاف معناه ومفهومه، ومن الواضح أن هذا غير صادق إلا في حق الظاهر لا المتشابه الذي يتساوى المعنيان فيه. وهذا بخلاف ما لو أريد من التشابه المصداقي ويكون معنى التأويل الجري والتطبيق على المصاديق.
والحاصل ظاهر الآية إرادة التشابه المصداقي، بمعنى أن هناك أناساً في قلوبهم زيغ فيتبعون الآيات التي مصاديق مداليلها المفهومية في الخارج لا تنسجم مع واقع مصاديقها؛ لأن هذه من عالم الشهود والمادة وتلك من عالم الغيب، فيطبّقونها على المصاديق الخارجية الحسية، باعتبار عدم معروفية تلك المصاديق الغيبية وعجز الذهن البشري عن إدراكها في هذه النشأة، ويحاولون بذلك إلقاء الشبهة والفتنة والبلبلة في الأذهان، وهذا مسلك عام في فهم وتفسير الآيات المتشابهة، وعلى ضوء هذا يتضح أن الآية أجنبية عن محل الكلام بالمرة.
لا يقال: إذا كانت المصاديق الخارجية غير معقولة فلا محالة يكون ذلك قرينة على إرادة معنى آخر مجازاً فيكون من التشابه المفهومي.
فإنه يقال: لا موجب لرفع اليد عن ظهور استعمالها في مداليلها اللغوية والعرفية، وعدم المعقولية لا يقتضي ذلك، وإنما يقتضي أن يكون تطبيق المفاهيم المذكورة على تلك المصاديق الواقعية الغيبية فيه نوع من العناية نظير المجاز السكّاكي، فإن هذا هو مقتضى تقريب الإنسان حسّي النشأة والنزعة إلى عالم الغيب لا استعمال اللفظ ابتداءً في معانٍ غيبية غير مفهومة بل غير قابلة للفهم أحياناً، فإن هذا لا يكون استعمالاً أصلاً مع أنه لا إشكال في أن الآيات القرآنية مستعملة في معانيها المفهومية المحددة عند السامعين لها على حد الكلمات العربية الأخرى.
ومن مجموع ما ذكرناه في هذا الجواب بالإمكان استخلاص جوابين آخرين كما يلي:
الرابع: أن الاستدلال بالآية مبني على حمل التشابه على التشابه بلحاظ المفهوم والمدلول الاستعمالي، مع أنك قد عرفت أن المراد هو التشابه بلحاظ عالم المصاديق والتطبيق.
الخامس: لو سلّم إرادة المتشابه بحسب المفهوم، فما في ذيل الآية من قوله تعالى: <ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ> دليل على أن المنهي عنه هو اتّباع المتشابه بنحو التأويل، فلو كانت الآية شاملة للظاهر القرآني كان دليلاً على النهي عن المعنى التأويلي لها، وهو الحمل على خلاف الظاهر لا اتّباع الظاهر نفسه.
السادس: لو قطع النظر عن كل ذلك وسلّم الاستدلال فغايته إطلاق الآية للعمل بالظواهر، فيقيّد بما دل من الروايات على حجية الظواهر القرآنية ولزوم الرجوع إليها؛ لكونها أخص منها كما هو واضح.
السابع: وهو جواب جدلي على علمائنا الأخباريين الذين بنوا على عدم حجية ظواهر الكتاب تمسّكاً بمثل هذا الاستدلال أو غيره، والتزموا أيضاً بقطعية ما في الكتب الأربعة من الروايات، ولعل أحد الدواعي على إلغائهم حجية الظواهر القرآنية فتح الباب على مصراعيه لتقبل الروايات المنقولة عنهم: في تفسيرها أو تأويلها بقطع النظر عن أسانيدها وعن تحكيم القرآن عليها، فإنه لمثل هؤلاء نقول بأنه يجب الرجوع في العمل بشخص هذا الظهور القرآني إلى الروايات الواردة في تفسيره، وبمراجعة الكتب الأربعة نجد أنه قد ورد في الكافي عن شيخه الحسين بن محمد عن معلّى بن محمد، عن محمد بن أورمة، عن علي بن حسان، عن عبدالرحمن بن كثير، عن أبي عبدالله(ع) في قوله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ>[86] قال:
أميرالمؤمنين(ع) والأئمة <وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ> قال: فلان وفلان <فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ> أصحابه وأهل ولايتهم <فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ في الْعِلْمِ> أميرالمؤمنين والأئمة(ع).[87]
ومثل هذه الرواية على طريقتنا لا يعمل بها؛ لأنها مخالفة للكتاب من جهة، وغير تامة سنداً من جهة أخرى، ولا يكفي مجرد نقلها في الكتب الأربعة.
أما المخالفة مع الكتاب فلما سوف يأتي في بحوث التعادل والتراجيح من أن كل رواية تكون مخالفة لكتاب الله سبحانه زخرف باطل لم يقله الأئمة(ع)، وأي مخالفة أشدّ من مثل هذه التأويلات الباطنية التي لا يمكن تطبيقها بوجه من الوجوه مع الكتاب الكريم.
وأما ضعف السند، إذ ليس في سندها من ثبتت وثاقته إلا الكليني(قده) وشيخه الحسين بن محمد، وأما الباقين فعبدالرحمن بن كثير قد ذكر النجاشي أنه كان يضع الحديث، وحسان الهاشمي قال عنه: إنه ضعيف جداً، وأنه ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد الاعتقاد. وفي الخلاصة: فاسد ضعيف، رأيت له كتاباً في تفسير القرآن ليس له صلة بالإسلام. ومحمد بن أورمة قال النجاشي: حكى جماعة من شيوخ القميين عن الحسن بن وليد أنه طعن عليه بالغلو. وقال الشيخ: إنه ضعيف وروي عن القميين أيضاً رميه بالغلو حتى دسّوا إليه من يفتك به ۔ مما يعني أنهم استحلّوا دمه ۔ ومعلّى بن محمد ذكر النجاشي أنه مضطرب الحديث والمذهب، وقد نقل العلامة عن ابن الغضائري أن حديثه نعرفه وننكره.
وهذه الرواية وغيرها من أمثالها خير دليل وشاهد عند المنصف على أن ليس كلما يتواجد في الكتب الأربعة بصحيح ولا أصحابها يلتزمون بذلك، وإنما كان غرضهم تدوين الحديث؛ ولهذا كانوا يروون فيها المتناقضات فلابد من إعمال قواعد السند في الأخذ برواياتها.
الوجه الثاني: الاستدلال بجملة من الروايات التي يدعى دلالتها على عدم حجية القرآن الكريم، وهي طوائف ثلاث:
الأولى: ما دل على اختصاص فهم القرآن الكريم بأهل بيت العصمة؛ لأنه لا يفهمه إلا من خوطب به ولم يخاطب به إلا هم.
وهذه الطائفة لا إشكال في وضوح دلالتها على المطلوب، فإن حصر فهم القرآن بجماعة مساوق لإسقاط حجية فهم الآخرين، ولو كان فهماً عاماً الذي هو الظهور وإلا لم يكن محصوراً بهم، بل هذه الطائفة لو تمّت تسقط الدلالات القرآنية الصريحة أيضاً ولا تختص بالظواهر؛ لأن ما حصر فهمه بأهل البيت(ع) كل الكتاب لا قسم منه إلا أن الاستدلال بهذه الطائفة غير تام لعدة وجوه:
أولها: أنها معارضة للسنة القطعية المتواترة الحاكية لقول المعصوم وفعله وتقريره، مما يدل على مرجعية القرآن للمسلمين وإحالتهم إليه في مقام اقتناص المعاني، بل السيرة العملية للنبي(ص) والأئمة ۔ مضافاً إلى أحاديثهم الصريحة التي ترجع المسلمين إلى القرآن الكريم ۔ ثابتة ثبوتاً قطعياً بنحو يقطع معه ببطلان مفاد هذه الطائفة، بل حديث الثقلين وأمثاله الذي هو مدرك الرجوع إلى أهل البيت ومرجعيتهم كالصريح في عرضية مرجعية الكتاب الكريم للعترة وإلا كان المرجع واحداً وهو العترة وكان الكتاب الكريم مجرد كتاب معمّيات وألغاز، إلى غير ذلك من أدلة الإرجاع والإحالة إلى الكتاب المنقولة عنهم(ع) والتي تدل دلالة قاطعة لا شك فيها على أن القرآن مرجع مباشر للمسلمين.
ثانيها: أن هذه الطائفة لا تصلح للردع عن العمل بالظهورات القرآنية؛ لأن الردع عن ارتكاز من هذا القبيل وفي موضوع له هذه الأهمية والخطورة العظيمة لا يكفي فيه صدور أربع روايات، بل لو كان هناك ردع عن العمل بالقرآن ۔ الذي كان هو المصدر الأساسي لكل المعارف الإسلامية طيلة تاريخ الإسلام ۔ لكان واضحاً معروفاً.
ثالثها: أنها ضعيفة سنداً جميعاً، فإن أوجدت عند أحد احتمال الردع فهو مسبوق بالإمضاء، فيجري استصحاب بقاء الحجية الثابتة في أول الشرع بالنحو الذي تقدم شرحه.
ومما يؤكد بطلان هذا المفاد أن رواة هذه الروايات توجد ظاهرة مشتركة فيما بينهم هي ظاهرة الباطنية، ومحاولة تحويل النظر من ظاهر الشريعة إلى باطنها، ومن تتبع في أحوال المنتسبين إلى الأئمة(ع) وجد أن هناك اتجاهين فيما بينهم:
أحدهما: الاتجاه السائد في فقهاء الأصحاب الذي كان يمثل ظاهر الشريعة والذي هو واقعها أيضاً، وكان يتمثل في زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهم.
والآخر: اتجاه باطني كان يحاول دائماً أن يلغز في القضايا ويحوّل المفهوم إلى اللامفهوم، وفي أحضان هذا الاتجاه نشأ الغلو، وحيث لم يكن لهم مدارك واضحة اتجهوا إلى تأويل القرآن واستخراج بطون له، فمثل سعد بن طريف الواقع في سند هذه الروايات كان له اتجاه باطني وقد قال: إن الفحشاء رجل والمنكر رجل والصلاة تتكلم في تفسير قوله تعالى: <إِنَّ الصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ>[88] ونحو ذلك من الغرائب.
وجابر يزيد الجعفي هو الذي ينسب إليه أنه يقول: دخلت على أبي جعفر(ع) وأنا شاب فناولني كتاباً وقال: هذا علم لك وحدك لا تظهره على الناس وإلا كانت عليك لعنتي، وكتاباً آخر لا أظهره إلا بعد هلاك بني أمية.
ونقل أيضاً عنه أنه قد سمع من الباقر(ع) سبعين ألف حديث لا يمكنه أن يقول شيء منها لأحد. ونحو ذلك من الأمور التي تتجه إلى تركيز هذه المعاني، وهي كلها أجزاء من قضية كلية حاولها الغلاة المنحرفون، وهي صرف الأنظار من ظاهر الشرع إلى باطن لا معنى له.
ولهذا نجد أن أمثال هذه الأمور لم ينقل شيئاً منها فقهاء أصحاب الأئمة الذين كانوا حملة فقههم وفكرهم وتراثهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهم، أفلم يكن الأولى ۔ لو كان هناك ردع عن العمل بظواهر القرآن ۔ من أن يبيّن ذلك الردع إلى هؤلاء الفقهاء الأجلّاء وتصل إلينا تلك الردوع عن طريقهم، فإنهم أولى بذلك وهم مورده ومحتاجون إليه، كل ذلك يوجب الاطمئنان بأن هذه الطائفة من الروايات موضوعة ولا محصل لها أو لابد من تأويلها وصرفها إلى معان أخرى غير حجية الظواهر القرآنية.
الطائفة الثانية: ما يدل على عدم جواز الاستقلال بتفسير القرآن والاستغناء عن الأئمة(ع) في التوصل إلى واقع المراد الإلهي منها، كما كان شأن العامة، وهذا المفاد لا إشكال في ثبوته بل قطعيته عندنا، فإن القرآن أحد الثقلين لا كلاهما، وظهوراته إنما تكون حجة بعد الفحص عن المفسر والمخصّص في الثقل الآخر، إلا أن هذا المطلب أجنبي عن محل بحثنا وهو حجية الظواهر القرآنية بعد الفحص وعدم وجدان التخصيص، فإن هذا لا يعني الاستقلال بالقرآن بوجه من الوجوه.
الطائفة الثالثة: ما نهت عن تفسير القرآن بالرأي وأن مَن فعله فقد كفر أو هوى.
والاستدلال بها موقوف على دعوى أن حمل اللفظ على ظاهره تفسير بالرأي. ومن هنا استشكلوا عليه بأن هذا ليس تفسيراً؛ إذ التفسير هو كشف القناع وإزالة الستر والظاهر ليس مستوراً، ولو سلّم أنه تفسير فليس بالرأي، إذ المراد منه الرأي والاجتهاد الشخصي لا التفسير بما يفهمه الناس نوعاً بحسب قواعد العرف واللغة.
وهذا جواب صحيح، ولكن قد يقابل بشبهة هي أن الظهورات أحياناً تقتنص بعد التدبر والتأمل وإعمال الرأي، خصوصاً إذا كان ظهوراً سياقياً أو على أساس إعمال نكات ومناسبات، إذ الظهور لا يكون واضحاً ساذجاً دائماً، بل قد تحتاج إلى ألمعية ونباهة للتوصل إليه وإعمال دقة ورأي، ومن هنا اختلف فهم العلماء عن العوام، واختلفت أنظار الأعلام فيما بينهم أيضاً حسب اختلاف درجات علمهم وفطنتهم، فيصدق في مثل ذلك أنه تفسير بالرأي.
والجواب أن الدقة وإعمال الرأي المذكور في التوصل إلى الدال لا المدلول أو التفسير، بمعنى أن الألمعية والتدبر يؤثران في الاستيعاب للنكات والالتفات إلى الخصوصيات التي تعطي للكلام ظهوراً في المعنى، بحيث لو شرحها للآخرين وألفتهم إليه لسلّموا بالظهور في ذلك المعنى، وهذا ليس تفسيراً بالرأي.
ثم إن هناك احتمالين آخرين في المراد بالتفسير بالرأي في قبال الاجتهاد الشخصي:
الأول: أن يراد به إعمال الجانب الذاتي في التفسير في قبال الجانب الموضوعي، أي تحكيم موقف مسبق على النص القرآني ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرأي المتبنى والمرغوب للمفسر، فإنه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كل منها أن يستدل بالقرآن على مذهبه ورأيه، وهو استغلال للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال.
والحاصل المراد التفسير بما يرغبه الإنسان وما توافق مصلحته لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه، وهذا من أشنع الأعمال وجدير أن يعبّر عنه بالكفر والهوى؛ إذ هو مساوق مع تحريف الحقائق والدلائل وبالتالي عدم الإيمان بمرجعية القرآن الكريم.
والفرق بينه وبين الاجتهاد الشخصي أن الاجتهاد الشخصي قد يكون موضوعياً، أي على أساس البرهان والدليل العقلي كما في تفاسير المعتزلة بخلاف هذا المسلك في تفسير القرآن. وهذا رأي ذهب إليه أكثر المسلمين في مقام فهم هذه النواهي، وهذا الاحتمال لو لم يحصل القطع بإرادته على ضوء بعض الشواهد والقرائن فلا أقلّ من أنه محتمل قريباً في جملة منها.
الثاني: أن يراد بالرأي المدرسة الفقهية المعاصرة لعصر الصادقين، وهو الاتجاه الذي بني على العمل بالتخمينات والظنون الناشئة منها كالقياس والاستحسان والاستصلاح، فإنه كان قد بدأ انقسام خطير بين المسلمين إلى اتجاهين ومدرستين: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فمن المحتمل قوياً أن يكون المراد بالرأي هنا هذا المعنى، ولا أقلّ من احتماله وهو كافٍ في الإجمال، وهذا المعنى وإن كان اصطلاحياً نقل إليه اللفظ عن معناه اللغوي إلا أن أصالة عدم النقل لا تجري في أمثال المقام على ما سوف يظهر.
وهذا الاحتمال قريب روحاً مع الأول؛ لأن إعمال الظنون يستبطن لا محالة جانباً ذاتياً غير موضوعي، وهو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر في مقام التفسير بلا دليل وعلم وهو نحو من الذاتية في التفسير.[89]
ملحق رقم 4
إن الفكر العلمي مر بعصور ثلاثة:
الأول: العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد، وينتهي بظهور الشيخ.
الثاني: عصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت وتحدّت معالم الفكر الأصولي، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي، ومن رجالاته الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة والشهيد الأول وغيرهم من النوادر.
الثالث: عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحت في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متظافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.
وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة.
في هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة:
ويمثّل الجيل الأول في المحققين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد، كالسيد مهدي بحرالعلوم المتوفى سنة 1213 هـ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1227 هـ، والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى سنة 1230 هـ، والسيد علي الطباطبائي المتوفى سنة 1221 هـ، والشيخ أسد الله التستري المتوفى سنة 1231 هـ.
ويمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء، كالشيخ محمد تقي بن عبدالرحيم المتوفى سنة 1248 هـ، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة 1245 هـ، والسيد محسن الأعرجي المتوفى سنة 1227 هـ، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة 1245 هـ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة 1266 هـ، وغيرهم.
الشيخ مرتضى الأنصاري الذي ولد بُعيد ظهور المدرسة الجديدة عام 1214 هـ وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها، وقدّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها.
ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.
ولا يمنع تقسيمنا هذا لتاريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها وموجّهها.
وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاري(قده) المتوفى سنة 1281 رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم.
ملحق رقم 5
عطاء الفكر الأصولي وإبداعه
وبودّي أن أشير بهذا الصدد إلى حقيقة يجب أن يعلمها الطالب ولو بصورة مجملة، حيث لا يمكن توضيحها والتوسع فيها على مستوى هذه الحلقة.
وهذه الحقيقة هي أن علم الأصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله الأصيل ۔ أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ۔ بل كان له إبداع كبير في عدد من أهم مشاكل الفكر البشري؛ وذلك أن علم الأصول بلغ في العصر العلمي الثالث ۔ وفي المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورة خاصة ۔ قمة الدقة والعمق، ووعي بفهم وذكاء مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال، وبحثها متحرراً من التقاليد الفلسفية التي تقيّد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون، إذ كان يسير في خط مرسوم ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامة للتفكير الفلسفي، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار وللمسلّمات الأساسية في الفلسفة، بالدرجة التي تجعل هدفه الأقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها، وبينما كان البحث الفلسفي على هذه الصورة كان البحث الأصولي يخوض بذكاء وعمق في درس المشاكل الفلسفية متحرراً من سلطان الفلاسفة التقليديين وهيبتهم.
وعلى هذا الأساس تناول علم الأصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتصل بأهدافه، وأبدع فيها إبداعاً أصيلاً لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي؛ ولهذا يمكننا القول بأن الفكر الذي أعطاه علم الأصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدة من الفكر الذي قدمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات.
وفيما يلي نذكر بعض تلك الحقول التي أبدع فيها الفكر الأصولي:[90]
- في مجال نظرية المعرفة، وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها.
فقد امتد البحث الأصولي إلى مجال هذه النظرية، وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وقد عرفنا سابقاً كيف أن التيار الحسّي تسرّب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الأوروبية إلى ذلك الوقت.
- في مجال فلسفة اللغة، فقد سبق الفكر الأصولي أحدث اتجاه عالمي في المنطق الصوري اليوم، وهو اتجاه المناطقة الرياضيين الذين يردّون الرياضيات إلى المنطق والمنطق إلى اللغة، ويرون أن الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلّل اللغة ويفلسفها بدلاً عن أن يحلل الوجود الخارجي ويفلسفه؛ فإن المفكرين الأصوليين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي، وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الأصول إلا دليلاً على هذا السبق.
ومن الطريف أن يكتب اليوم (برتراند راسل) رائد ذلك الاتجاه الحديث في العالم المعاصر محاولاً التفرقة بين جملتين لغويتين في دراسته التحليلية للّغة وهما: (مات قيصر) و(موت قيصر) أو (صدق موت قيصر) فلا ينتهي إلى نتيجة، وإنما يعلّق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين فيقول: (لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجاً مقبولاً).[91]
أقول: من الطريف أن يعجز باحث في قمة ذلك الاتجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الأصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق في دراساته الفلسفية التحليلية للّغة ووضع له أكثر من تفسير.
- وكذا نجد لدى بعض المفكرين الأصوليين بذور نظرية الأنماط المنطقية، فقد حاول المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني في الكفاية أن يميّز بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي بما يتّفق مع الفكرة الرئيسية في تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الأصولي قد استطاع أن يسبق (برتراند راسل) صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا فقام بمناقشتها ودحضها وحل التناقضات التي بنى (راسل) نظريته على أساسها.
- ومن أهم المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي للّغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنها تعبّر عن شيء موجود، فماذا نقصد بقولنا مثلاً: (الملازمة بين النار والحرارة) وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة أو معدومة؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة؟ وإذا كانت معدومة ولا وجود لها فكيف نتحدث عنها؟ وقد درس الفكر الأصولي هذه المشكلة متحرراً عن القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم، فأبدع فيها.
ملحق رقم 6 [92]
(مسألة ۔ 2) لا إشكال في نجاسة الغلاة والخوارج والنواصب. وأما المجسّمة والمجبّرة والقائلون بوحدة الوجود من الصوفية، إذا التزموا بأحكام الإسلام، فالأقوى عدم نجاستهم، إلا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم من المفاسد.
لا شك في أن الاعتقاد بمرتبة من الثنائية، التي توجب تعقّل فكرة الخالق والمخلوق، مقوّم للإسلام؛ إذ بدون ذلك لا معنى لكلمة التوحيد، فالقول بوحدة الوجود إن كان بنحو يوجب عند القائل بها رفض تلك الثنائية فهو كفر، وأما إذا لم ير القائل تنافياً بين وحدة الوجود ومرتبة معقولة من الثنائية المذكورة فلا كفر في قوله ولو فرض ثبوت التالي واقعاً.
وتوضيح الحال في ذلك: أن مفهوم الوجود المنتزع من الخارج تارة يقال بأن منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعاً في القضية الحملية، التي يكون مفهوم الوجود محمولاً فيها، وهذا معناه القول بأصالة الماهية. وأخرى يقال بأن منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك، وتكون الماهية بدورها منتزعة عن تلك الحقيقة أيضاً، وهي سنخ حقيقة لو أمكن تصورها مباشرة لكان ذلك مساوقاً للتصديق بوجودها وطارديتها للعدم، وهذا قول بأصالة الوجود.
وعلى الأول: لا إشكال في التكثر لتعدد الماهيات. وأما على الثاني فتارة يقال: إن نسبة مفهوم الوجود إلى تلك الحقيقة نسبة الكلي إلى الفرد بنحو تتكثر الأفراد، أو نسبة العنوان إلى المعنون مع وحدته. فعلى الأول، يكون مفهوم الوجود ذا مناشئ انتزاع متعددة بعدد أفراده وعلى الثاني تثبت وحدة حقيقة الوجود.
وعليه فتارة يقال بأن هذه الحقيقة مختصة بالله تعالى، وأن موجودية غيره بالانتساب إليه لا بوجدانه للحقيقة نفسها، وهذا قول بوحدة الوجود وتعدد الموجود.
وأخرى يقال بأن تلك الحقيقة لا تختص بالواجب تعالى، بل كل الموجودات ذاقت طعمها، فهذا قول بوحدة الوجود والموجود.
وعليه فتارة يقال بفارق بين الخالق والمخلوق في صقع الوجود، نظير الفارق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في صقع الماهيات. وأخرى يرفض هذا الفارق، ويدّعى أنه لا فرق بينهما إلا بالاعتبار واللحاظ؛ لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب، وإن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن. والاحتمال الأخير في تسلسل هذه التشقيقات هو الموجب للكفر، دون الاحتمالات السابقة، لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية.
(مسألة ۔3) غير الاثنا عشرية من الشيعة، إذا لم يكونوا ناصبين ومعاندين لسائر الأئمة، ولا سابّين لهم طاهرون.
المعروف بين فقهائنا طهارة المخالفين، لانحفاظ أركان الإسلام فيهم، وانطباق الضابط المبيّن للإسلام في الروايات عليهم، كما في رواية سماعة، عن أبي عبدالله(ع) قال: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله(ص)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس) [الكافي للشيخ الكليني، ج ۲، ص25]. هذا مضافاً إلى أنه لم يقم دليل على نجاسه من ينتحل الإسلام من الكفار، فضلاً عن المخالفين.
وأما محاولة إثبات نجاستهم، فهي بدعوى كونهم كفاراً، وقيام الدليل على نجاسة الكافر مطلقاً. والكبرى ممنوعة كما تقدم. وأما الصغرى فقد تقرّب بثلاثة أوجه:
الأول: كون المخالف منكراً للضروري؛ بناءً على كفر منكر الضروري..
ملحق رقم ۷ [93]
<إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً>.[94] فهل كان يقصد الإرادة التشريعية أو الإرادة التكوينية؟ فإن كان يقصد بها الإرادة التشريعية فإن الآية ۔ إذن ۔ لا تدلّ على العصمة أولاً، ولا تكون مختصة بأهل البيت(ع). ثانياً، أما أنها لا تدل على العصمة فلأن الإرادة التشريعية ۔ كما قلنا ۔ قد تنّفك وتتخلف عن المراد، فلا تكون مطابقة للمراد دائماً، فلا تثبت العصمة. وأما إن كان المقصود بها هو الإرادة التكوينية من قبيل <إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ>[95] فإن هذه الإرادة لا تتخلف عن المراد، فإذا كانت إرادة الله التكوينية قد تعلّقت بطهارة أهل البيت وابتعادهم عن الرجس فإن هذا يعني أنهم المبتعدون عن الرجس حتماً، وأنهم مطهّرون حتماً؛ إذ لا يمكن أن تتخلف إرادة الله التكوينية عن الطهارة، ومجبورون عن الابتعاد عن الرجس؛ لأن الله أراد لهم إرادة تكوينية، وما أراده الله إرادة تكوينية فإنه كائن حتماً، وبذلك نرجع إلى الجبر مرة أخرى، وهذا معناه أن عصمة أهل البيت إذن ليست شرفاً أو مدحاً لهم؛ لأن العصمة لم تكن باختيارهم، وإنما كانت بإرادة الله تعالى كإرادته للبشر أن يكونوا بشراً وإرادته للحجر أن يكون حجراً. هذا هو الإشكال الكامن في الاستدلال بهذه الآية المباركة.
وقد كان أستاذنا الشهيد الصدر(قده) يُجيب على هذا الإشكال قائلاً بأن هناك إرادة ليست تكوينية ولا تشريعية، وإنما هي قسم ثالث من الإرادة من سنخ ما يقول المعلم لطلابه: أريدكم أن تكونوا علماء وأريد أن أصنع منكم علماء أو فقهاء مثلاً، فهذه الإرادة ليست تكوينية وليست تشريعية ومجرد أمر ونهي تشريعيين بأن يأمرهم أن يكونوا علماء، وإنما تعني أن هذا المعلم يريد أن يهيّئ ما بيده من المقدمات التي ستؤدي بهؤلاء الطلاب إلى أن يتخرجوا أو يصبحوا علماء، ومما لا شك فيه أن هذا يكون بمحض اختيارهم وليس بالجبر، فالمعلم يُلقي على طلابه الدروس الدقيقة، ويوفّر مناخ الدرس والفهم لهم، فيصبحون بذلك علماء، وسوف تكون إرادة المعلم هذا مطابقة للواقع حينما يكون قادراً على توفير كل المقدمات لطلابه، فيصبحون علماء فعلاً، ويرى أن هذه الإرادة لم تكن تشريعية ولم تكن تكوينية ۔ بمعنى إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ۔ وإنما هي إرادة بمعنى أنه أراد أن يُحقق المقدمات التي تنتهي إلى النتيجة، وهي أن هؤلاء الطلاب يصبحون علماء، ولكن هذه النتيجة تنتهي بمحض اختيار الطلاب وقدراتهم وبإرادتهم.
والآية الشريفة السابقة الذكر هي من هذا القبيل ومن هذا المستوى، فقوله تعالى: <إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ> يعني أن الله تبارك وتعالى أراد أن يوفّر كل المقدمات الدخيلة في صيرورة أهل البيت طاهرين وبعيدين عن الرجس، ولم تكن مجرد إرادة تشريعية ولا هي تكوينية من قبيل <كُنْ فَيَكُونُ> ولمّا كان الله تعالى قادراً على تهيئة كل المقدمات الدخيلة في العصمة، وأنه يريد تهيئة إرادة تكوينية فإن هذه المقدمات لا تتخلف عن مراده، فتتحقق حتماً، وبذلك يصبح أهل البيت طاهرين مطهّرين ومبتعدين عن الرجس بمحض إرادتهم واختيارهم، فالآية الشريفة ۔ إذن ۔ تدل على عصمة أهل البيت(ع)، وكان ذلك بمحض اختيارهم.
وقد يُستشهد لما أفاده أستاذنا الشهيد(ره) من أن الإرادة هنا ليست تشريعية ولا تكوينية، بل هي بالمعنى الثالث الذي شرحناه، وهو أنه لو أريدت بها الإرادة التكوينية لزم الجبر وهو باطل، ولو أريدت بها الإرادة التشريعية كان المناسب أن يقال: يريد الله أن تبتعدوا عن الرجس وتتطهّروا، لا أن يقول: <إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ>، ذلك لأنه في باب الإرادة التشريعية يُسند الفعل إلى العبد والإرادة إلى الله فيقال: يريد الله لعباده أن يصلّوا ولا يقال: يريد الله لنا أن يجعلنا مصلّين.
ملحق رقم ۸ [96]
إنه لا حاجة لنا في مقام إثبات النبوة إلى الاستدلال بقبح التضليل الذي عرفت عدم تماميته، بل النبوة تثبت بحساب الاحتمالات ومن لجوء إلى قبح التضليل من عدة وجوه:
الوجه الأول: دلالة المعجز على ذلك في ذاته وبغض النظر عن قبح التضليل، وتوضيح ذلك أن المعجز عبارة عن خرق نواميس الطبيعة وقوانينها، فأولاً نثبت بالتجربة وحساب الاحتمالات أن شيئاً ما من قوانين عالم الطبيعة، فمثلاً قد دل حساب الاحتمالات على أن سكوت الحصى ليس من باب الصدفة كسكوت الإنسان أحياناً، بل هو بمقتضى قوانين الطبيعة، فتسبيح الحصى خرق لقوانين الطبيعة ويكون بالتدخل من وراء عالم الطبيعة، إذن فهذا دليل على أن صاحب الإعجاز ارتبط بما وراء عالم الطبيعة وبخالق الطبيعة للتوصل إلى الإعجاز، وأن بارئ الطبيعة قد فتح باباً مباشراً لنفسه على صاحب المعجز حول ما ادّعاه، وبعد ذلك نقول: إننا لا نحتمل كذب أو اشتباه هذا الذي انفتح أمامه هذا الباب حول مدعاه في دعواه[97] وبهذا تثبت صحة دعواه.
الوجه الثاني: أن يستقرئ بحسب التاريخ والزمان الحاضر المجتمعات المختلفة الكثيرة؛ لتحصيل القطع بالتجربة على أنه لا ينبغ أحد في مجتمع ما ولا يفوق ذاك المجتمع في الفهم والذكاء إلا بنسبة خاصة وتحت مستوى معين من الفرق، ثم يلاحظ المجتمع الذي نبغ فيه النبي(ص)، ويُرى ما جاء به من أحكام وأفكار في شتى الميادين، ويلاحظ أنها تفوق بدرجات كثيرة على أعلى درجات الذكاء الممكن لنابغة ينبغ في ذاك المجتمع بحسب الطبع البشري ۔ وإن كان من المحتمل علو ذكائه إلى حد تلك الأحكام والأفكار بلحاظ نبوته ۔ فيثبت بذلك أن تلك الأحكام والأفكار ليست له، إن هي إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى.
هذا أساس لبرهان صحيح على النبوة يؤثّر في النفوس أكثر وأشد من تأثير البرهان الكلامي المعروف ثبّتناه هنا بأمل أن يوفّق الله تعالى بعد هذا شخصاً لبيان إثبات النبوة على هذا الأساس مع ما يحتاج إليه من مزيد تتبع وتنقيح.
الوجه الثالث: ملاحظة أحوال الرسول(ص) وأمانته وصدق لهجته، وخلقه العظيم واستقامته في أمره وصموده أمام المحن والمصائب التي كانت تكفي لرفع يد الكاذب عن كذبه، وعلوّ همته بدرجة لو وضعت الشمس في يمينه والقمر في يساره وجعل سلطاناً على وجه الأرض لما رفع اليد عن دعوته، فلا يعقل أن تكون دعوته استطراقاً إلى كسب المال والجاه وما أشبه ذلك. فمن لاحظ كل هذا وما إليه حصل له القطع ۔ إذا كان سليماً في فطرته وعقله ۔ بنبوته(ص).
هذا تمام الكلام في البحث النقضي عن إنكار الحسن والقبح أشعرياً أو أخبارياً.
ملحق رقم 9[98]
الطائفة الثالثة: ما نهت عن تفسير القرآن بالرأي وأن من فعله فقد كفر أو هوى.
والاستدلال بها موقوف على دعوى أن حمل اللفظ على ظاهره تفسير بالرأي. ومن هنا استشكلوا عليه بأن هذا ليس تفسيراً؛ إذ التفسير هو كشف القناع وإزالة الستر، والظاهر ليس مستوراً، ولو سلّم أنه تفسير فليس بالرأي؛ إذ المراد منه الرأي والاجتهاد الشخصي لا التفسير بما يفهمه الناس نوعاً، بحسب قواعد العرف واللغة.
وهذا جواب صحيح، ولكن قد يقابل بشبهة هي أن الظهورات أحياناً تقتنص بعد التدبر والتأمل وإعمال الرأي، خصوصاً إذا كان ظهوراً سياقياً أو على أساس إعمال نكات ومناسبات؛ إذ الظهور لا يكون واضحاً ساذجاً دائماً، بل قد تحتاج إلى ألمعية ونباهة للتوصل إليه وإعمال دقة. ورأي ومن هنا اختلف فهم العلماء عن العوام واختلفت أنظار الأعلام فيما بينهم أيضاً حسب اختلاف درجات علمهم وفطنتهم فيصدق في مثل ذلك أنه تفسير بالرأي.
والجواب أن الدقة وإعمال الرأي المذكور في التوصل إلى الدال لا المدلول أو التفسير، بمعنى أن الألمعية والتدبر يؤثّران في الاستيعاب للنكات والالتفات إلى الخصوصيات التي تعطي للكلام ظهوراً في المعنى، بحيث لو شرحها للآخرين وألفتهم إليها لسلّموا بالظهور في ذلك المعنى، وهذا ليس تفسيراً بالرأي.
ثم إن هناك احتمالين آخرين في المراد بالتفسير بالرأي في مجال الاجتهاد الشخصي:
الأول: أن يراد به إعمال الجانب الذاتي في التفسير في قبال الجانب الموضوعي، أي تحكيم موقف مسبق على النص القرآني، ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرأي المتبنى والمرغوب للمفسر، فإنه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كل منها أن يستدل بالقرآن على مذهبه ورأيه وهو استغلال للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال.
والحاصل المراد التفسير بما يرغبه الإنسان وما توافق مصلحته لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه، وهذا من أشنع الأعمال وجدير أن يعبّر عنه بالكفر والهوى؛ إذ هو مساوق مع تحريف الحقائق والدلائل، وبالتالي عدم الإيمان بمرجعية القرآن الكريم.
والفرق بينه وبين الاجتهاد الشخصي أن الاجتهاد الشخصي قد يكون موضوعياً، أي على أساس البرهان والدليل العقلي كما في تفاسير المعتزلة، بخلاف هذا المسلك في تفسير القرآن. وهذا رأي ذهب إليه أكثر المسلمين في مقام فهم هذه النواهي. وهذا الاحتمال لو لم يحصل القطع بإرادته على ضوء بعض الشواهد والقرائن فلا أقلّ من أنه محتمل قريباً في جملة منها.
الثاني: أن يراد بالرأي المدرسة الفقهية المعاصرة لعصر الصادقين، وهو الاتجاه الذي بني على العمل بالتخمينات والظنون الناشئة منها كالقياس والاستحسان والاستصلاح، فإنه كان قد بدأ انقسام خطير بين المسلمين إلى اتجاهين ومدرستين: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فمن المحتمل قوياً أن يكون المراد بالرأي هنا هذا المعنى ولا أقلّ من احتماله، وهو كافٍ في الإجمال، وهذا المعنى وإن كان اصطلاحياً نقل إليه اللفظ عن معناه اللغوي إلا أن أصالة عدم النقل لا تجري في أمثال المقام على ما سوف يظهر.
وهذا الاحتمال قريب روحاً مع الأول؛ لأن إعمال الظنون يستبطن لا محالة جانباً ذاتياً غير موضوعي، وهو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر في مقام التفسير بلا دليل وعلم، وهو نحو من الذاتية في التفسير.
ملحق رقم ۱۰ [99]
الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق(ع)
تفضل سماحة المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ محمد باقر الصدر فخصّ نشرتنا بشرح وافٍ لنظرية الفهم الاجتماعي للنص، ومحتوى هذا الفهم ودوره في استنباط الحكم؛ ننشره لأهميته الخاصة.
هيئة التحرير
أكبر الظن أنها أول مرة أقرأ فيها لفقيه إسلامي، من مدرسة الإمام الصادق(ع) أوسع نظرية لعنصر الفهم الاجتماعي للنص يعالج فيها بدقة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي ۔ اللفظي للنص، والمدلول الاجتماعي، ويحدد للمدلول الاجتماعي حدوده المشروعة.
وبالرغم من أن الفقهاء في ممارستهم للعمل الفقهي ومجالات الاستنباط من النص، يدخلون عنصر الفهم الاجتماعي ويعتمدون عليه في فهم الدليل إلى جانب العنصر الآخر الذي يمثّل الجانب اللفظي من الدلالة، غير أنهم لا يبرزون في الغالب الجانب اللفظي من عملية فهم الدليل والجانب الاجتماعي بوصفهما جانبين متميزين لكل منهما ملاكه وحدوده، بل يبرز الجانبان في مجالات تطبيقهم مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور.
كانت المرة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنص، هي حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدد الخالد (فقه الإمام الصادق) الذي وضعه شيخنا الحجة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان.
فقد قرأت في هذا الكتاب الجليل التأكيد على عنصر الجانب الاجتماعي من فهم الدليل والتمييز بينه وبين الجانب اللفظي الخالص في مواضع عديدة منه.
ولكي نشرح فكرة الكتاب عن الفهم الاجتماعي للنص ونعرف محتوي هذا الفهم ودوره في استنباط الحكم من النص، يجب أن نتحدث في البداية عن الظهور.
حجية الظهور
من الأمور المتفق عليها بصورة مبدئية في علم الأصول المبدأ القائل بحجية الظهور، وهو المبدأ الذي يحتّم أن نفسّر كل خطاب شرعي على ضوء ظهوره ما لم توجد قرينة على الخلاف. والظهور – كما تقرره البحوث الأصولية التي تدرس هذا المبدأ – عبارة عن..
ملحق رقم ۱۱
تفسير المعجزة على ضوء المنهج الجديد
استعرض السيد الصدر ما ذكره التاريخ من كثير من القوانين الطبيعية التي عُطّلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض، ففلق البحر لموسى، وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد(ص) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربّص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم. كل هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.
وقد يمكن أن نُخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلما توقّف الحفاظ على حياة حجة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمّته التي أعِدّ لها، تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أعدّ لها ربانياً فإنه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.
ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدّد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟
والجواب أن العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي. وتوضيح ذلك أن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يُستدل بهذا الاطّراد على قانون طبيعي، وهو أنه كلما وُجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها؛ لأن الضرورة حالة غيبية لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكّد أن القانون الطبيعي ۔ كما يعرّفه العلم ۔ لا يتحدث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أن كل ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالأخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدّي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنّا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظّم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة.[100]
تطبيق نظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الإمامة
يبيّن السيد الصدر تطبيقاً لنظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الإمامة في عقيدة الإمامية، يقول:
والإمامة المبكرة ظاهرة تحتاج إلى تفسير، فالإمام محمد بن علي الجواد(ع) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره، والإمام علي بن محمد الهادي(ع) تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره، والإمام أبو محمد الحسن العسكري(ع) والد القائد المنتظر تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي(ع) ونحن نسمّيها ظاهرة؛ لأنها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي(ع) تشكّل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة.
ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية:
أ۔ لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ، التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ويدعمها النظام الحاكم، كإمامة الخلفاء الفاطميين وخلافة الخلفاء العباسيين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أسس روحية وفكرية.
ب ۔ إن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين: الباقر والصادق(ع) وأصبحت المدرسة التي وعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكّل تياراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتى قال الحسن بن علي الوشاء: إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ كلهم يقولون: حدّثنا جعفر بن محمد.
ج ۔ إن الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثّله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي ۔ تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة شروط شديدة؛ لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان أعلم علماء عصره.
د ۔ إن المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة؛ لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل، وسجن من سجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفرضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده.
هـ ۔ إن الأئمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كل واحد من الأئمة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمّون الديار المقدسة من كل مكان لأداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.
و۔ إن الخلافة المعاصرة للأئمة(ع) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة أنفسهم على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.
.. والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتاريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة أو واجه فيه الصبي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.
وهذا معنى ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت(ع) وليست مجرد افتراض، كما أن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات والزعامات الربانية، ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت(ع) يحيي(ع) إذ قال الله(عز): <يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً>.[101]
بعد هذه الاقتباسات من أفكار وآراء الإمام الشهيد الصدر في تفسير المعجزة وتطبيق نظريته في المعرفة نقارن رأي الشهيد الصدر في تفسير المعجزة بالآراء التالية التي تبنّاها جملة من عباقرة الفكر والفلسفة الأوروبية والتي أخذناها من الموسوعة الفلسفية للدكتور بدوي:
- ليبنتس: إن المعجزة تندرج في النظام العام للكون [وهي ليست مضادة] للحادث الطبيعي إلا في الظاهر وبالنسبة إلينا نحن.
- ارنست رنيان: إن مجرد قبول الخوارق هو خروج على العلم.
- دايفيد هيوم: إن قوانين الطبيعة تقررت وثبتت بالتجربة الثابتة المطردة، لكن القول بالمعجزات معناه إنكار القوانين الطبيعية. إذن المعجزات مستحيلة.
- جون استيورات مل: إن أطر أو مجرى الطبيعة وهو أمر مشاهد بالتجربة يدلّ على أن الكون محكوم بقوانين عامة لا بتدخلات خاصة، فثم إذن ضد المعجزات (عدم احتمال) لا يمكن موازنته إلا باحتمال قوي جداً ناجم عن ظروف خاصة للحالة موضوع البحث.
- جون لوك: المعجزة عملية محسوسة لكنها لما كانت فوق فهم المشاهد. وفي رأيه مضادة للمجرى المقرر للطبيعة فإنه يعتقد أنها إلهية.
- سبينوزا: المعجزة هي فعل للروح التي تستفيد على نحو أكمل من المعتاد وتعزّز مؤقتاً شطراً من ثرواتها ومواردها العميقة، المعجزة حادث لا نستطيع تفسيره ومعرفة علته الطبيعية بواسطة مثال آخر معروف.
ملحق رقم ۱۲ [102]
مصادر الإلهام للفكر الأصولي
لا نستطيع ۔ ونحن لا نزال في الحلقة الأولى ۔ أن نتوسّع في دراسة مصادر الإلهام للفكر الأصولي، ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الأصولي وتمدّه بالجديد تلو الجديد من النظريات؛ لأن ذلك يتوقف على الإحاطة المسبقة بتلك النظريات، ولهذا سوف نلخّص فيما يلي مصادر الإلهام بصورة موجزة:
- بحوث التطبيق في الفقه: فإن الفقيه تنكشف لديه من خلال بحثه الفقهي الطبيعي مشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الأصول عندئذ بوضع الحلول المناسبة لها، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيراً ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها.
ومثال ذلك أن علم الأصول يقرر أن الشيء إذا وجب وجبت مقدمته، فالوضوء يجب مثلاً إذا وجبت الصلاة؛ لأن الوضوء من مقدمات الصلاة، كما يقرر علم الأصول أيضاً أن مقدمة الشيء إنما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشيء، ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب، فالوضوء إنما يجب حين تجب الصلاة ولا يجب قبل الزوال؛ إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجباً قبل أن يحلّ وقت الصلاة وتجب.
والفقيه حين يكون على علم بهذه المقررات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذاً جديراً بالدرس، ففي الصوم يجد مثلاً أن من المقرر فقهياً أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقه أن المكلف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصح صومه؛ لأن الغسل من الجنابة مقدمة للصوم، فلا صوم بدونه، كما أن الوضوء مقدمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء.
ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقررات الأصولية، فيجد نفسه في تناقض؛ لأن الغسل وجب على المكلف فقهياً قبل مجيء وقت الصوم، بينما يقرر علم الأصول أن مقدمة كل شيء إنما تجب في ظرف وجوب ذلك الشيء ولا تجب قبل وقته.
وهكذا يُرغِم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديد النظرية الأصولية ويتأمل في طريقة للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولّد أفكار أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحددها أو تعمّقها وتشرحها بطريقة جديدة تتفق مع الواقع الفقهي.
وهذا المثال مستمد من الواقع، فإن مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشّفت من خلال البحث الفقهي، وكان أول بحث فقهي استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر وإن لم يوفّق لعلاجها.
وأدّى اكتشاف هذه المشكلة إلى بحوث أصولية دقيقة في طريق التوفيق بين المقررات الأصولية السابقة والواقع الفقهي، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث المقدمات المفوّتة.
- علم الكلام: فقد لعب دوراً مهماً في تموين الفكر الأصولي وإمداده، وبخاصة في العصر الأول والثاني؛ لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الأصول يشقّ طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه.
ومثال ذلك نظرية الحسن والقبح العقليين، وهي النظرية الكلامية القائلة بأن العقل الإنساني يدرك بصورة مستقلة عن النص الشرعي قبح بعض الأفعال كالظلم والخيانة وحسن بعضها كالعدل والوفاء والأمانة، فإن هذه النظرية استخدمت أصولياً في العصر الثاني لحجية الإجماع، أي أن العلماء إذا اتفقوا على رأي واحد فهو الصواب، بدليل أنه لو كان خطأ لكان من القبيح عقلاً سكوت الإمام المعصوم عنه وعدم إظهاره للحقيقة، فقبح سكوت الإمام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه.
- الفلسفة: وهي لم تصبح مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلا في العصر الثالث تقريباً، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام، وانتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدرالدين الشيرازي المتوفى سنة ۱۰5۰ هـ، فإن ذلك أدّى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدرالدين الشيرازي.
ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة تعلّق الأوامر بالطبائع والأفراد، الأمر الذي لا يمكننا فعلاً توضيحه.
- الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكر الأصولي، فإن الأصولي قد يعيش في ظرف معين فيستمد من طبيعة ظرفه بعض أفكاره.
ومثاله أولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأول ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسّراً لهم في جلّ ما يواجهونه من حاجات وقضايا، نتيجة لقرب عهدهم بالأئمة(ع) وقلة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبياً، فقد ساعد ظرفهم ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوروا أن هذه الحالة حالة مطلقة ثابتة في جميع العصور. وعلى هذا الأساس ادّعوا أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً، ما دام الإنسان مكلّفاً والشريعة باقية.
- عامل الزمن: وأعني بذلك أن الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلما اتسع وازداد تجدّدت مشاكل وكلّف علم الأصول بدراستها، فعلم الأصول يمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.
ومثال ذلك أن الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور، ولا يتيسر الاطلاع المباشر على صحتها كما كان ميسوراً في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأول، فبرزت أهمية الخبر الظني ومشاكل حجيته، وفرضت هذه الأهمية واتساع الحاجة إلى الأخبار الظنية على الفكر العلمي أن يتوسع في بحث تلك المشاكل ويعوّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرعي يدلّ على حجيتها وإن كانت ظنية، وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أول من توسّع في بحث حجية الخبر الظني وإثباتها.
ولمّا دخل العلم في العصر الثالث أدّى اتساع الفاصل الزمني إلى الشك حتى في مدارك حجية الخبر ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهل العصر الثاني، فإن الشيخ استدل على حجية الخبر الظني بعمل أصحاب الأئمة به، ومن الواضح أنا كلما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً والاطلاع على أحوالهم أكثر صعوبة.
وهكذا بدأ الأصوليون في مستهل العصر الثالث يتساءلون هل يمكننا أن نظفر بدليل شرعي على حجية الخبر الظني أو لا؟
وعلى هذا الأساس وجد في مستهل العصر الثالث اتجاه جديد يدّعي انسداد باب العلم؛ لأن الأخبار ليست قطعية، وانسداد باب الحجة؛ لأنه لا دليل شرعي على حجية الأخبار الظنية، ويدعو إلى إقامة علم الأصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد، كما يدعو إلى جعل الظن بالحكم الشرعي ۔ أي ظن ۔ أساساً للعمل، دون فرق بين الظن الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصاً على حجية الخبر يميّزه عن سائر الظنون.
وقد أخذ بهذا الاتجاه عدد كبير من روّاد العصر الثالث ورجالات المدرسة التي افتتحت هذا العصر كالأستاذ البهبهاني وتلميذه المحقق القمي وتلميذه صاحب الرياض وغيرهم، وبقي هذا الاتجاه قيد الدرس والبحث العلمي حتى يومنا هذا.
وبالرغم من أن لهذا الاتجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني فقد صرّح المحقق الشيخ محمد باقر بن صاحب الحاشية على المعالم بأن الالتزام بهذا الاتجاه لم يعرف عن أحد قبل الأستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته، كما أكد أبوه المحقق الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم أن الأسئلة التي يطرحها هذا الاتجاه حديثة ولم تدخل الفكر العلمي قبل عصره.
وهكذا نتبين كيف تظهر بين فترة وفترة اتجاهات جديدة، وتتضخم أهميتها العلمية بحكم المشاكل التي يفرضها عامل الزمن.
- عنصر الإبداع الذاتي: فإن كل علم حين ينمو ويشتد يمتلك بالتدريج قدرة على الخلق والتوليد الذاتي، نتيجة لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره.
ومثال ذلك في علم الأصول بحوث الأصول العملية وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية، فإن أكثر هذه البحوث نتاج أصولي خالص.
ونقصد ببحوث الأصول العملية تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الأصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلاً على الحكم وظل الحكم الشرعي مجهولاً لديه.
ونقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام ما يقوم به علم الأصول من دراسة الروابط المختلفة بين الأحكام، من قبيل مسألة أن النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها أو لا؟ إذ تدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده وهل يفقد أثره في نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراماً أو يظلّ صحيحاً ومؤثّراً في نقل الملكية بالرغم من حرمته؟ أي أن العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة تضاد أو لا؟
[1]. إبراهيم: 27.
[2]. العبقرية والإبداع والقيادة، دين كيث سايمنتن.
[3]. مباحث الأصول، ج 1.
[4]. بحوث في علم الأصول، ج 1.
[5]. مجلة التوحيد، العدد 33، ص 141.
[6]. المعجم الفلسفي، صليبا، مادة (أسلوب).
[7]. معجم مصطلحات الأدب، ص 542.
[8]. أصول البحث، ص 211۔212، د. عبدالهادي الفضلي، بتصرف.
[9]. راجع الملحق رقم1.
[10]. راجع مقدمة الحلقة الأولى لإبراز التدرّج في العرض والبيان.
[11]. البقرة: 256.
[12]. بحوث في علم الأصول، ج 5، ص 9.
[13]. م. ن، ج 1، ص 10.
[14]. راجع بحوث في علم الأصول، الهاشمي، ج 1، ص 32.
[15]. م. ن، ص 64.
[16]. قارن غاية الفكر، ص 20.
[17]. راجع: م. ن، ص 15.
[18]. م. ن، ص 58.
[19]. م. ن، ص 11.
[20]. م. ن، ص 98.
[21]. م. ن.
[22]. م. ن، ص 120 – 123.
[23]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 331.
[24]. م. ن، ص 278. ولاحظ أيضاً المعالم الجديدة، ص 102 والملحق2 من نفس الكتاب.
[25]. لاحظ بحث الدليل العقلي.
[26]. لاحظ الملحق 3.
[27]. لاحظ الملحق الخاص بتاريخ وعصور علم الأصول.
[28]. راجع الملحق رقم 5.
[29]. راجع الملحق رقم 6.
[30]. راجع الملحق رقم 7.
[31]. بحوث في علم الأصول، ج 2، ص 199.
[32]. مباحث الأصول، ج 4.
[33]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 477.
[34]. راجع الملحق رقم 8.
[35]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 32.
[36]. لاحظ الملحق رقم 9.
[37]. لاحظ الملحق رقم 10.
[38]. اخترنا لك، الرقم 1، ص 60.
[39]. لاحظ الملحق رقم 10 وكذلك اقتصادنا، ص 390.
[40]. لاحظ مباحث في علم الأصول، ج 1، ص 356.
[41]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 284 ۔ 285.
[42]. راجع الملحق رقم 11.
[43]. لاحظ الملحق رقم 12.
[44]. بحوث في علم الأصول، ج 1، ص 235.
[45]. م. ن، ج 2، ص 366.
[46]. م. ن، ج 1، ص 117 ۔ 118.
[47]. م. ن، ج 2، ص 354.
[48]. مباحث في علم الأصول، ج 2، ص 242.
[49]. بحوث في علم الأصول، ج 2، ص 245.
[50]. م. ن، ج 4، ص 134.
[51]. م. ن، ج 2، ص 353 ۔ 254.
[52]. لاحظ بحوث في علم الأصول، ج 2، ص 326.
[53]. م. ن، ج 1، ص 364.
[54]. م. ن، ج 4، ص 326.
[55]. مباحث علم الأصول، ج 4، ص 266.
[56]. م. ن، ج 1، ص 536.
[57]. لاحظ م. ن، ج 4، ص 140.
[58]. م. ن، ص306.
[59]. م. ن، ص 299.
[60]. راجع بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 46 وكذا مباحث الأصول، ج 1.
[61]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 292.
[62]. لاحظ م. ن، ج 2، ص 207 – 210.
[63]. بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 193.
[64]. م. ن، ج 3، ص 363.
[65]. لاحظ مجلة المنهاج، العدد 17.
[66]. بحوث في علم الأصول، ص 161.
[67]. م. ن، ص 163.
[68]. م. ن، ص 164.
[69]. بحوث في علم الأصول، ص 158.
[70]. م. ن، ص 159.
[71]. م. ن، ص 158.
[72]. م. ن، ص 165.
[73]. الإمامة وقيادة المجتمع، السيد كاظم الحائري، ص 120۔123.
[74]. النمل: 82.
[75]. النمل: 83.
[76]. الكهف: 47.
[77]. النمل: 87.
[78]. القيامة: 3 ۔ 4.
[79]. إذ أن المتخصصين في فسلجة الإنسان يقولون: إن بنان الإنسان هو أدقّ أجزاء البدن بما يحتوي من نقوش دقيقة.. ويقولون بأن هذه النقوش تختلف ۔ رغم دقّتها ۔ من شخص لآخر. وبسبب هذا الاختلاف الذي يؤدي إلى عدم وقوع الخلط والاشتباه بين إبهام شخص وآخر، فقد جعلوا البصمة بدلاً عن الإمضاء في بعض القضايا ذات الأهمية الخاصة، واستخدموها كوسيلة مهمة من وسائل التحقيق.
[80]. يس: 78 ۔ 79.
[81]. البقرة: 243.
[82]. البقرة: 259.
[83]. البقرة: 55 ۔ 56.
[84]. آل عمران: 7.
[85]. الفاتحة: 6.
[86]. آل عمران: 7.
[87]. أصول الكافي، ج ۱، ص 414، دارالكتب الإسلامية والطبعة الثالثة.
[88]. العنكبوت: 45.
[89]. بحوث في علم الأصول، السيد محمود الهاشمي، ج 4، ص 278۔287.
[90]. هذه النماذج لا يطلب تدريسها بالتفصيل وإنما يكتفي المدرس ۔ إذا رأى مجالاً ۔ بالإشارة إلى بعضها، وسوف نستعرضها بصورة أوضح في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
[91]. أصول الرياضيات، ج 1، ص 96، ترجمة الدكتور محمد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد الأهواني.
[92]. بحوث في شرح العروة الوثقى، السيد محمدباقر الصدر، ج 3، ص 394۔396.
[93]. الإمامة وقيادة المجتمع، السيد كاظم الحائري، ص 80۔82.
[94]. الأحزاب: 33.
[95]. يس: 82.
[96]. مباحث الأصول، السید کاظم حائري، القسم 2 ج1، ص 510۔511.
[97]. أفاد أستاذنا الشهيد(ره) أن عدم الاحتمال هذا أو قل الجزم بصدق تمام مدّعى صاحب الإعجاز الذي أقام الإعجاز بعنوان إثباته ۔ بعد ما ثبتت معجزيته بحساب الاحتمالات كما عرفت ۔ يمكن تصعيده إلى مستوى ضمان الحقانية، بدعوى أنها قضية بديهية التصديق بعد استيعاب تمام أطرافها تصوراً، قال: إنه لا مجال الآن لتحقيق وبيان ذلك.
أقول: بل الظاهر أن هذا أيضاً نتيجة حساب الاحتمالات الذي هو الباب الوحيد للتطرق إلى عالم الخارج كما مضى، وهذا شبيه تماماً بما يتّفق من أنه يصلنا رسول من قبل شخص، ويبلّغنا رسالته، ونطالبه بعلامة على الصدق، فيُرينا علامة نعلم أنها لم تكن توجد إلا عند المرسِل، وأنه لا داعي له لإعطائه إلى أحد إلا بعنوان وضع العلامة. (مباحث الأصول للحائري، القسم الثاني من ج١، ص5١٠-5١١)
[98]. بحوث في علم الأصول، السید محمود الهاشمي، ج4، ص 286۔287.
[99]. ومضات، السید محمدباقر الصدر، ص 185۔186.
[100]. بحث حول المهدي، الإمام الشهيد الصدر.
[101]. مريم: 12.
[102]. المعالم الجديدة للأصول، السید محمدباقر الصدر، ص 113۔118.