سامي الخفاجي
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة والسلام على سید الخلق أجمعین من الأولین والآخرین محمد المصطفى الصادق الأمین وأهل بیته الطیبین الطاهرین.
وبعد فهذه هیکلیة البحث:
العنوان: (التجدید في منهج التفسیر عند الإمام الشهید)
- مقدمة: في بیان بعض جوانب شخصیة الإمام الشهید(قده).
- تمهید: ویشتمل على لمحة عن التفاسیر السابقة: تاریخها وتطورها وأنواعها.
- تنوع التفسیر عند الإمام الشهید(قده).
- اتجاهان لحرکة التفسیر في الفکر القرآني.
- التفسیر التجزیئي بنظر الإمام الشهید، حقیقة هذا التفسیر.
- التفسیر التجزیئي: تاریخه وتطوره.
- خصائص التفسیر التجزیئي: الخصائص الإیجابیة، الخصائص السلبیة.
- الحاجة إلى التفسیر التجزیئي.
- التفسیر الموضوعي التوحیدي بنظر الإمام الشهید(قده) حقیقة هذا التفسیر.
- دور التفسیر الموضوعي وأهمیته.
- مقارنة بین الدارسات القرآنیة والدراسات الفقهیة.
- خصائص التفسیر الموضوعي التوحیدي.
- أوجه التباین بین الاتجاهین التجزیئي والموضوعي.
- ضرورة التفسیر الموضوعي في عصرنا الحالي.
- مبرر عملي لاختیار التفسیر الموضوعي عند الإمام الشهید.
المقدمة
شخصیة الإمام الصدر ذات أبعاد مترامیة الأطراف عمیقة الأغوار، یظل المتأمل المنصف منبهراً في عظمتها وسعتها وعمقها وأصالتها وترامي آفاقها.
فلو شئت الحدیث عن الجانب الفکري في شخصیة هذا الإمام الشهید، لوقفتَ متحیراً في عمق فکره وجِدَته وإبداعه وإحاطته ونبوغه وجمعه لمختلف العلوم: تفسیراً وحدیثاً وفقهاً وأصولاً وأدباً ومنطقاً وفلسفة واقتصاداً وتاریخاً وغیرها. فهو مفکر موسوعي وعبقري مبدع بمعنى الکلمة.
ولو شاقَك الحدیث عن أخلاقه وروحانیته وعبادته وعرفانه لوجدته قمة من قمم الإخلاص والتضحیة والانقطاع إلى الله تعالى وذکره المتواصل ونکران الذات والتواضع والتفاني في الله سبحانه وحبه له إلى حد العشق والهیام.
وفي ذلك یقول(ره):
حب الله سبحانه أساس کل کمال، فحب الله هو الذي یعطي للإنسان الکمال والعزة والشرف والاستقامة والنظافة والقدرة على مغالبة الضعف في کل الحالات[1].
ویقول(ره):
أما حب الله وحب الدنیا معاً فلا یجتمعان في قلب واحد، فلنمتحن قلوبنا لنرى هل تعیش حب الله أو تعیش حب الدنیا؛ فإن کانت تعیش حب الله زدنا ذلك تعمیقاً وترسیخاً، وإن کانت ۔ نعوذ بالله ۔ تعیش حب الدنیا حاولنا أن نتخلص من هذا الداء الوبیل [2].
ویقول:
فلیکن همنا أن نعمل للآخرة، أن نعیش في قلوبنا حب الله بدلاً عن حب الدنیا[3].
ولو رُمتَ التعرف على الجانب السیاسي من شخصیة هذا الإمام، لوجدت هموم الأمة الإسلامیة جمعاء قد ازدحمت في قلبه الکبیر، فاسمعه یقول:
أنا ۔ حینما مر بالعراق المد الأحمر الشیوعي ۔ کنت ألف مرة ومرة أمتحن نفسي، أوجه إلى نفسي هذا السؤال: إني أنا الآن أشعر بألم شدید؛ لأن العراق مهدد بخطر الشیوعیة، لکن هل إني سوف أشعر بنفس هذا الألم وبنفس هذه الدرجة لو أن هذا الخطر وُجّه إلى إیران بدلاً عن العراق، لو وجه إلى باکستان.. لو وجه إلى بلد آخر من بلاد المسلمین.. هل سوف أشعر بنفس الألم..؟ أمتحن نفسي لأرى أن هذا الألم الذي أعیشه لأجل تغلغل الشیوعیة في العراق، هل هو لأجل خبز سوف ینقطع عني؟ أو لمقام شخصي سوف یتهدم؟ .. فهل إن ألمي لأجل أن هذه المصالح الشخصیة أصبحت في خطر؟ .. وأما إذا کان ألمي لله تعالى… فحینئذٍ سوف أرتفع عن حدود العراق وإیران وباکستان، سوف أعیش لمصالح الإسلام، سوف أتفاعل مع الأخطار التي تهدد الإسلام بدرجة واحدة، دون فرق بین العراق وإیران وباکستان وبین أي من أرجاء العالم الإسلامي الأخری[4].
هکذا تراه(ره) یعیش هموم الأمة الإسلامیة بکل أبعادها، ویتفاعل معها إلى أقصى درجات التفاعل؛ یتعرف أسبابها وعواملها وآثارها وکیفیة الوصول إلى حلول لمشاکلها، وتبقى هذه الهموم تعیش في أعماقه لا تلهیه همومه الخاصة عنها، بل تکاد تجزم أن همومه الخاصة هي هموم الأمة الإسلامیة، فقد أفنى وجوده في أمته وإسلامه في أروع صورة من صور الفناء في الله ونکران الذات، فاسمعه یقول داعیاً: (اللهم ذکّرنا بذلك حتى تجعل ألمنا دائماً لله، لا لأنفسنا، للإسلام لا لمصالحنا، للکیان العام لا لوجودنا)[5].
ولا یستطیع واحد منا ۔ مهما أوتي من قوة البیان ودقة الفکر ۔ أن یستوعب جوانب شخصیة هذا الإمام الشهید تحلیلاً وتقییماً وسبراً لأعماقها وإحاطة بآفاقها، حتى تجتمع ثلة من خیرة العلماء والمفکرین والکتاب والبحاثین في مؤتمر عالمي، یتطارحون فیه فکر هذا الإمام العملاق النابغة وشخصیته الفذة وأبعادها الواسعة.
وقد قمت بهذا البحث ۔ بمقدار جهدي القاصر ۔ في توضیح منهج شهیدنا الإمام الصدر(ره) في التفسیر، وما قدمه في ذلك من تجدید وإبداع، وأهمیة التفسیر الموضوعي الذي ابتکره واختاره ووضع أسسه، وسار فیه بعض الخطوات بمقدار ما فسحت له المجال الأعباءُ الثقال التي ینوء بها، والظروف القاسیة التي ما فَتِئت تضغط علیه بلا هوادة.
عسى الله سبحانه أن یوفق الجمیع لخدمة الدین الحنیف، وتعظیم شعائره المقدسة، في الغوص إلى أعماق هذه الشخصیة الإسلامیة العظیمة، وسبر أغوارها، والکشف عن أسرارها؛ لتکون نبراساً مضیئاً تستنیر به الأمة وأجیالها، وقدوةً لها في حاضرها ومستقبلها. والله هو المسؤول للأخذ بأیدي الجمیع لما فیه رضاه سبحانه، ورفع رایة الإسلام عالیةً خفّاقةً على أرجاء الأرض.
تمهید: لمحة عن التفاسیر السابقة والمفسرین
منذ نزل هذا القرآن العظیم، وهو محل اهتمام المسلمین وأعدائهم؛ لعلو شأنه وعظیم أثره في النفوس وغزارة علومه وعمق معانیه وجلالة أهدافه وإعجاز بیانه، لکن اختلفت مقاصد المؤمنین في اهتمامهم به عن مقاصد أعدائهم، فالمؤمنون حیث اتخذوه نبراساً وهدى إلى سبیل ربهم وسعادتهم في حیاتهم الدنیا وفي الدار الآخرة؛ لذلك انکبوا علیه درساً وتلاوة وفهماً وإفادة.
وأما الأعداء فحین وجدوه مصدر قوة لا حدود لها بالنسبة لأتباعه، وهو لشدة وضوح إعجاز وربانیة مصدره یزعزع قواعد جمیع الأدیان المحرّفة والأفکار الباطلة؛ لذلك کان مصدر قلق شدید بالنسبة لأعدائه، فاهتموا به من أجل محاربته بکل الوسائل الخبیثة والأباطیل المزخرفة، ولکن باءت جمیع جهودهم بالفشل الذریع، وبقي القرآن شامخاً یتحدى الزمن، ویلوي سواعد الدهور بإعجازه وقوة بیانه حججه. قال تعالى: <قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً>[6].
ومن جراء هذه الاهتمامات المؤیدة والأخرى المضادة عبر القرون المتطاولة نتج کمٌّ هائل من المؤلفات الواسعة في مختلف علوم القرآن، من تفسیر وتأویل وأسباب نزول وعلوم قراءة وتجوید ولغة ونحو وبلاغة وإعجاز وفقه وأخلاق وفلسفة وکلام ورد شبهات ودفع نقود… إلى غیر ذلك من الفنون والعلوم.
والتفسیر من بین هذه العلوم کان له الخطوة عند العلماء والاهتمام البالغ. وقد بدأ التفسیر على ید الرسول الأعظم(ص) منذ أول نزوله؛ لیبیّن للناس مقاصده الجلیلة ومعانیه العالیة وبطونه العمیقة. قال تعالى: <وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ>[7].
وجاء الأئمة(ع) والصحابة من بعده(ص) لینقلوا للناس الأحادیث النبویة المفسرة وأسباب النزول، ویشرحوا ما استبهم من آیاته، ویبینوا تأویله ویکشفوا عن بطونه.
وأول من عُرف بالتفسیر من الأئمة والأصحاب هو الإمام علي بن أبي طالب(ع) باب علم رسول الله(ص) وأعلم المسلمین على الإطلاق بکتاب الله وتفسیره وتأویله. ومن بعده تلمیذه حبر الأمة ابن عباس(ع)، وقد کثرت الروایة عنه في مجال التفسیر، ثم عبدالله بن مسعود، وهو تلو ابن عباس في کثرة الروایة في التفسیر.
وکثر المفسرون في التابعین، وفي عهدهم بدأ تدوین التفسیر. وأول المؤلفین من التابعین وأعلمهم بالتفسیر هو سعید بن جبیر (ت64ق)، ثم إسماعیل بن عبدالرحمن الکوفي المشتهر بالسدّي (ت127ق)، ثم محمد بن السائب (ت 146ق) وله تفسیر کبیر، ومنهم أبوحمزة الثمالي أحد أصحاب الإمام زین العابدین(ع)، ثم أبوبصیر الأسدي أحد أصحاب الإمام أبي عبدالله الصادق(ع).
وهکذا تستمر سلسلة المفسرین في التابعین وتابعیهم وتابعي تابعیهم إلى یومنا هذا[8]؛ أفواج لا تحصى کثرة من العلماء والمحققین والمحدثین والفلاسفة والمتکلمین والأدباء؛ کل أدلى بدلوه في تفسیر کتاب رب العالمین، وغلب على تفسیره ما غلب على ذوقه وشُغف به من فن، فالنحوي اصطبغ تفسیره بعلمه، وملأه بمسائل النحو وقواعده والإعراب ووجوهه، ومثاله تفسیر الزجّاج والواحدي وأبي حیان.
والفقیه طغى على تفسیره ما برع فیه من فقه وأصول، فشحنه بالمسائل الفقهیة وأدلتها ونقضها؛ حتى تجد کتابه کتاب فقه لا تفسیر، کما صنع القرطبي والجصاص في تفسیرهما.
وهکذا حال الفیلسوف والمتکلم وعالم البیان والمحدث، کالرازي في التفسیر الکبیر والزمخشري في الکشاف والثعلبي في تفسیره[9] وغیرهم.
نعم، هناك من المفسرین من تعددت جهات اهتمامه في تفسیره، کالشیخ الطوسي في التبیان، والعلامة الطبرسي في مجمع البیان، فتجد اللغة والإعراب وسبب النزول إلى جنب الأقوال في تفسیر الآیة وبیان معناها، من غیر تطویل مملّ ولا إیجاز مخلّ[10].
وبرع في المتأخرین العلامة الطباطبائي في میزانه، فقد تمیز تفسیره بمزایا عدیدة: منها تفسیر القرآن بالقرآن، والاعتماد على السیاق کثیراً، والاستعانة بالسنة في أبحاث روائیة مستقلة، وبیان أسباب النزول، کما حارب الإسرائیلیات، وأخذ من اللغة والنحو والبلاغة بقدر ما یساعد في توضیح الآیة وتفسیرها، کما ناقش المفسرین، ورجح بین آرائهم على الأسس التي اعتمدها قرآنیة وعقلیة. هذا کما عقد في تفسیره بحوثاً معمقة فلسفیة واجتماعية وأخلاقية وعقائدية[11].
حتى جاء دور الإمام الشهید الصدر(ره) فکان له في التفسیر منهج آخر متفرد في بابه یلبي حاجة عصره، قد أبدع في وضع أسسه وأتقن قواعده، کما هو شأنه في کل علم وفن یطرقه، یمضي صُعُداً من حیث انتهى مَن سبقه من العلماء الأفذاذ، فیکمّل خطواتهم بخطوات جدیدة صاعدة، ویجدد نظریاتهم أو یحدث نظریات سدیدة رائدة.
ونحن في بحثنا هذا نحاول تسلیط الضوء على منهج إمامنا الشهید الصدر(ره) في التفسیر بمقدار الجهد، وعلى الله توکلي.
ولم نلتزم بطرح منهجه(ره) وفق التسلسل الذي طرح به فکرته في مقدمة دراسته القرآنیة[12]؛ حیث إنه(ره) طرحها کمقدمة لدراسته لا کدراسة مستقلة، وقد قسّمنا البحث إلى قسمین رئیسیین: الاتجاه التجزیئي في التفسیر، والاتجاه الموضوعي التوحیدي، ثم قمنا بدراسة کل واحد منهما، وتجمیع ما طرحه الشهید(ره) من أفکار حوله خلال مقدمته في مواضیح محددة وتحت عناوین مستحدثة.
نسأله تعالى التوفیق والتأیید لکل سالك سبیل رضاه سبحانه وتسدید خطاه على صراطه المستقیم وفي خدمة دینه القویم إنه نعم المولى والمعین.
تنوع التفسیر وتعدد مذاهبه
ذکر السید الشهید(ره) بعض أنواع التفسیر[13] بشکل سریع؛ کمقدمة للحدیث عن اتجاهین في التفسیر رئیسیین یرید تفصیل الکلام حولهما، هما الاتجاه التجزیئي في التفسیر والاتجاه الموضوعي التوحیدي. فذکر من أنواع التفسیر:
- التفسیر اللفظي الأدبي والبلاغي.
- التفسیر الذي یهتم بجانب الممحتوى والمضمون.
- التفسیر بالمأثور عن المعصومین(ع) والصحابة والتابعین.
- التفسیر العقلي الذي یعتمد العقل في فهم کتاب الله سبحانه.
- التفسیر المتحیز الذي یطبّق النص القرآني على مواقف مذهبیة مسبَقة.
- التفسیر غیر المتحیز الذي یطبّق الرأي على القرآن ۔ لا العکس ۔ ویستنطق القرآن.
وهذه ۔ في الواقع ۔ هي أهم أنواع التفاسیر، بل تستبطن الأنواع الأخرى، کالتفسیر الفلسفي والصوفي والفقهي وغیرها.
ولا شك في أن تعدد التفاسیر کان نتیجة لاختلاف الانتماءات المدرسیة والمذهبیة وتعددها بالنسبة للمفسرین، وتباین اهتماماتهم وتفاوت اتجاهاتهم، ونتیجة لانفتاح المسلمین على ثقافات الأمم الأخرى، کالثقافة الفارسیة والثقافة الیونانیة وغیرهما، ودخول کثیر من الأمم في الدین الإسلامي، وتوسع ثقافة المسلمین وآفاق تفکیرهم، وتلاقح الثقافة الإسلامیة مع الثقافات الجدیدة المنفتَح علیها.
اتجاهان في حرکة التفسیر في الفکر القرآني
المهم عند الإمام الشهید(ره) وهو یقدم أطروحته الجدیدة في الدراسة القرآنیة الرائدة، أن یُبرز اتجاهین ومنهجین في حرکة التفسیر تمخض عنهما الفکر الإسلامي في نموه وتطوره؛ لیدخل بعد ذلك في دراسته القرآنیة الأرقى. والاتجاهان هما:
- الاتجاه التجزیئي في التفسیر.
- الاتجاه الموضوعي التوحیدي في التفسیر.
ونورد هنا قبل الخوض في تفاصیل هذین المنهجین عبارتین للإمام الشهید(ره) توضحان مراده من هذین الاصطلاحین من کتابه (السنن التاریخیة في القرآن):
أما عبارته في بیان مراده من التفسیر التجزیئي فهي:
ونعني بالاتجاه التجزیئي: المنهج الذي یتناول المفسر القرآن الکریم ضمن إطاره آیة فآیة وفقاً لتسلسل تدوین الآیات في المصحف الشریف[14].
وأما عبارته في توضیح مراده من التفسیر الموضوعي فهي:
هذا الاتجاه.. تقوم فیه الدراسة القرآنیة على أساس الموضوعات في حقول العقیدة والاجتماع وغیرهما[15].
وسنوضح مراده(ره) من کلا الاصطلاحین في المکان المناسب بشکل أکثر تفصیلاً.
التفسیر التجزیئي بنظر الإمام الشهید
حقیقة هذا التفسیر: الاتجاه التجزیئي في التفسیر یکتفي بإبراز المدلولات التفصیلیة للآیات القرآنیة الکریمة من دون ترکیب عضوي بین مدالیل هذه الآیات، بل یترکها في حالة تناثر وتراکم عددي، ومن دون اکتشاف وجوه الارتباط بین هذه المجامیع من الأفکار المتراکمة عددیاً.
والتسمیة جاءت من تجزئة القرآن مقطعاً مقطعاً وآیة آیة، وتفسیره جزءاً جزءاً، فتصبح معانیه وأفکاره ۔ تبعاً لهذه الطریقة في التفسیر ۔ متناثرة لا ینتظمها سلك جامع، ورکاماً فکریاً غیر مترابط عضویاً.
ولا تعني التجزیئیة في التفسیر هذه عدم الاستعانة على فهم المقطع القرآني والآیة الشریفة محل البحث بآیات أخرى أو بأحادیث وروایات وردت في المقام تلقي ضوءاً کاشفاً عن معنى تلك الآیة أو ذلك المقطع المطلوب شرحه وإیضاحه.
بل المفسر التجزیئي یستعین بالآیات والأحادیث النافعة في المقام، إلا أن قصده من هذه الاستعانة منحصر في الکشف عن معنى الآیة ودلالتها اللفظیة، ولیس هدفه من الاستعانة بالآیات والأحادیث اکتشاف الترکیب العضوي لمجموعة الأفکار القرآنیة، بل غرضه الوحید هو فهم مدلول ذلك المقطع القرآني المطروح للبحث بکل الوسائل المتاحة.
فالمفسر بالطریقة التجزیئية هدفه تجزیئي کطریقته، وحصیلة عمله کمٌّ کبیر من المدالیل القرآنیة لم یلاحظ فیه وجه الترابط العضوي، ولم تُکتشف من خلاله نظریة قرآنیة في مجال من مجالات الفکر والحیاة، بل تجد تراکماً عددیاً فحسب لأفکار ومعلومات قرآنیة متناثرة.
التفسیر التجزیئي تاریخه وتطوره
بدأ التفسیر في عصر الصحابة والتابعین في أول نشأته، على شکل شرح تجزیئي للآیات الشریفة وتفسیر لفظي لبعض مفرداتها؛ بحسب الحاجة التي تزداد کلما ابتعد الناس عن عصر نزول القرآن الکریم؛ حتى بلغ الذروة في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع.
ومن أمثلته تفسیر ابن ماجة القزویني وتفسیر ابن جریر الطبري والأشج أبي سعید بن راهویه وغیرهم من علماء هذا القرن الذین بلغ هذا المنهج من التفسیر على أیدیهم غایته.
فالبعد الزمني کان یترك ظلاله الداکنة على کثیر من ألفاظ کتاب الله تعالى عند أکثر الناس، فتصبح معانیها عندهم غامضة غائمة تحتاج إلى بیان وإیضاح. وکانت التفاسیر اللفظیة تزداد اتساعاً، تبعاً لاتساع رقعة الغموض والتعقید لألفاظ الکتاب العزیز في أذهان الناس، حتى خرجت لنا موسوعات في التفسیر اللفظي تبدأ من أول القرآن الکریم حتى آخر سورة منه آیةً آیةً؛ باعتبار أن التعقید اللفظي أخذ یعترض کثیراً من ألفاظ الکتاب المجید تدریجاً؛ بسبب عوامل البعد الزمني، ودخول کثیر من الأمم غیر العربیة في الإسلام وامتزاجهم بالعرب وحدوث أوضاع جدیدة نتیجة لتمازج الثقافات والتجارب الإنسانیة المتعددة.
واستمر هذا المنهج التجزیئي للتفسیر مهیمناً على الفکر الإسلامي طیلة ثلاثة عشر قرناً؛ حتى وجدناه کثیراً ما صار تکراریاً مع بعض التوسع أو الإیجاز، والعنایة ببعض الجهات دون بعض بحسب میول المفسرین وما یتوخّونه من أهداف في تفاسیرهم.
هذا ولکن تجد بعض المفسرین التجزیئیین قد زین تفسیره ببعض الدراسات والبحوث القرآنیة؛ قد تُسمى تفسیراً موضوعیاً؛ کأسباب النزول أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن وأمثالها، ولکنها لیست من التفسیر الموضوعي بحسب مراد السید الشهید(ره)، الذي یقصد منه الدراسة القرآنیة التي یکون محورها موضوعاً من موضوعات الکون والحیاة والإنسان، والتي تهدف إلى إعطاء نظریة قرآنیة إزاء ذلك الموضوع، بعد الاستفادة الصحیحة من تجارب الفکر الإنساني المتنامیة وتوحیدها مع الفکر القرآني.
وتلک الدراسات القرآنیة لیست على هذا المنهج، بل ما هي إلا تجمیع عددي لقضایا طُرحت في التفسیر التجزیئي بینها بعض التشابه والتوافق.
والاتجاه التجزیئي للتفسیر ۔ کما مر قریباً ۔ ظل سائداً ومهیمناً قروناً مدیدة، وکان من أسباب ذلك نشوء علم التفسیر في أحضان علم الحدیث، ولم یکن إلا أحد شُعبه؛ حیث إن المفسر کان یعتمد اعتماداً شبه کلي على الروایة والحدیث، إلا بعض الموارد القلیلة التي یستضيء فیها ببعض البیانات اللغویة والشواهد الأدبیة والتاریخیة، فکان المفسر یدور ضمن هذه الحدود لا یتعداها؛ من دون أن یقوم بدور مبدع، ولا یحاول استکشاف الأبعاد القرآنیة التي تکمن وراء المدالیل اللغویة للألفاظ، والنظریات الإسلامیة التي یمکن استنباطها بفکر اجتهادي رصین؛ من خلال المدلولات القرآنیة المتناثرة في الکتاب العزیز والأحادیث الشریفة، التي تلقي أضواء نافعة في المقام، والاستفادة من نتاج الفکر الإنساني وتجاربه.
خصائص التفسیر التجزیئي
یمکننا تصنیف خصائص التفسیر التجزیئي إلى خصا ئص إیجابیة وأخرى سلبیة:
الخصائص الإیجابیة
- کشف التفسیر التجزیئي عن معاني الآیات القرآنیة ومدالیل ألفاظها، بصورة مستوعبة لجمیع سور القرآن الکریم وآیاته من سورة الفاتحة إلى سورة الناس؛ مستعنیاً في ذلك بالقرآن نفسه، وبالأحادیث والروایات وأسباب النزول، وبالشعر العربي والنحو والبلاغة، وبالکلام والفلسفة، وبکل الوسائل المتاحة؛ حتى اجتمعت لدینا من کل ذلك ثروة أدبیة وعلمیة وعقلیة هائلة، أغنت الفکر العربي والإسلامي وأثْرته بتألیفات وموسوعات لا حصر لها في مختلف العلوم والآداب.
- المفسر التجزیئي ینال شرف صحة القرآن المجید من فاتحته إلى خاتمته، من بسملة الحمد وحتى آخر آیة من سورة الناس، وهو شرف عظیم لا یناله إلا الأقلون بسبب حاجته إلى فترة زمنیة طویلة جداً، هذا بعد أن یکون المفسر التجزیئي قد قضى شطراً من عمره في تحصیل مقدمات علمیة کثیرة تعینه على الخوض في تفسیر کتاب الله العزیز، ومن هذه المقدمات: اللغة والأدب والنحو والبلاغة وعلم القراءة وأسباب النزول والفقه والکلام وغیرها.
الخصائص السلبیة
- دور المفسر التجزیئي سلبي ۔ على الأغلب ۔ فهو مستمع فقط، لا یحاور القرآن ولا یستنطقه؛ ولا یطرح علیه افتراضات وأسئلة یطلب منه الإجابة علیها. بل یحاول المفسر التجزیئي أن یفهم مدلولات ألفاظ القرآن الکریم ومعاني آیاته، ویسجلها في تفسیره من دون أن یستفید منها رأیاً متکاملاً وفکراً شاملاً في ناحیة من مناحي الحیاة والکون؛ لأنه لا یملك اجتهاداً مبدعاً یستکشف الأفکار المتکاملة من خلال الآیات القرآنیة المتفرقة.
- التفسیر التجزیئي یبدأ بالقرآن وینتهي به، فهو عملیة مقطوعة عن الواقع وعن التراث الإنساني الفکري والتجریبي، وذلك لوقوفه عند مدلولات الآیات الکریمة، وتحلیلها تحلیلاً لفظیاً، وتفصیل معانیها مقطعاً مقطعاً من دون ربط بین مدالیلها، ولا تفاعل مع الواقع الإنساني والکوني.
- الاتجاه التجزیئي للتفسیر أعاق الفکر الإسلامي القرآني عن التکامل والنمو، وجعله متسماً بالجمود والحالة التکراریة والرکود قروناً کثیرة. هذا والسبب في کون الطریقة التجزیئیة معیقةً للفکر الإسلامي القرآني عن الانطلاق والتکامل، هو أن التفسیر التجزیئي یدور في فلك الألفاظ القرآنیة، ولا یتخطاها إلى الحیاة لیتفاعل مع معطیاتها، وینطلق في آفاقها من خلال القرآن العظیم نحو المطلق نحو الله خالق الکون والحیاة والإنسان، بل هو محدد بحدود المدلولات اللفظیة لآیات الکتاب الحکیم لا یتعداها ولا یتجاوزها، ومع مرور الزمن ۔ خصوصاً في الفترة ما بعد الشیخ الطوسي ۔ أصبحت هذه الطریقة في التفسیر عملیة تکراریة واجتراریة لا جدید فیها في الأغلب؛ مما أدت إلى جمود الفکر الإسلامي القرآني ورکوده ردحاً مدیداً من الزمن.
هذا بخلاف المفسر الموضوعي الذي ینطلق مع الکون والحیاة في تطورها وتجددها، ویدمج التجربة البشریة بالفکر القرآني بعد استفتاء القرآن في مدى قبولها.
- والنزعة التجزیئیة في التفسیر المبنیة على التجمیع العددي للأفکار القرآنیة المتناثرة، أدت إلى ظهور المذاهب المتناقضة، فتجد الجمیع ۔ مع اختلافهم وتنازعهم ۔ یبررون مذهبهم ویؤیدون آراءهم بهذه الآیة أو تلك، فهم یستندون إلى القرآن الکریم في تناقضهم الفکري والفقهي والمذهبي؛ باعتبارهم أخذوا الآیة أو المقطع القرآني بصورة معزولة عن أخواتها من الآیات والمقاطع القرآنیة الأخرى، معتمدین على التجمیع العددي للمعارف القرآنیة، ولم ینصب اهتمامهم على استکشاف النظریة القرآنیة في المسألة المتنازع علیها؛ مما أدى ذلك إلى تکریس التناقض المذهبي بین المسلمین وتبریر نزاعاتهم واختلافاتهم.
الحاجة إلى التفسیر التجزیئي
لا شك في أن الحاجة إلى التفسیر التجزیئي لا زالت قائمة، فهو یخدم القرآن في فهم آیاته ویکشف عن غوامضها، فالناس جمیعاً بحاجة إلى هذا النوع من التفسیر، حتى التفسیر الموضوعي لا یستغني عن خدمات التفسیر التجزیئي من أجل الکشف عن مدالیل الآیات التفصیلیة التي یحتاجها في تکوین النظریة القرآنیة، وحین یحتاج التفسیر الموضوعي إلى فهم آیةٍ ما لها دخل في موضوعه، فإنه سیجد تفسیرها في مختلف التفاسیر، ویجد ما حولها من أحادیث وروایات وما قیل في استکشاف معناها؛ وبذلك یستطیع التعرف على مدخلیتها في بحثه الموضوعي، وأي موضع مناسب لها من موضوعه ویضعها في مکانها الصحیح.
وهنا نشیر إلى أن هناك تفاعلاً بین الاتجاهین للتفسیر، فبعد أن عرفنا حاجة التفسیر الموضوعي للتفسیر التجزیئي في فهم الآیات ومدالیلها التفصیلیة، فإن المفسر التجزیئي قد یجد ۔ بل کثیراً ما یجد ۔ أثناء عمله في التفسیر بعض الحقائق القرآنیة في مجال من مجالات الکون والحیاة والإنسان فیسجلها في الأثناء.
وهذا یعني أنه لیس هناك فصل تام بین الاتجاهین، بل هناك تلاقٍ بینهما وتلاقح، على الرغم من بقائهما مختلفین هدفاً ونتیجة وأسلوباً کما هو واضح.
التفسیر الموضوعي التوحیدي بنظر الإمام الصدر(ره)
حقیقة هذا التفسیر: في البدء نحاول توضیح مقصود السید الشهید من هذا الاصطلاح ومن هذه التسمیة کما وردت في دراسته القرآنیة الرائدة:
الاتجاه الموضوعي في التفسیر هو المنهج الذي تقوم فیه الدراسة القرآنیة على أساس الموضوعات في حقول العقیدة والاجتماع وغیرهما.
ویهدف التفسیر الموضوعي إلى تحدید موقف نظرى للقرآن الکریم ۔ وبالتالي للرسالة الإسلامیة ۔ من ذلك الموضوع من موضوعات البحث في الحیاة أو الکون أو الإنسان[16].
فالتفسیر الموضوعي لا یرتضي إعطاء المعاني القرآنیة ککم معرفي لا یربط بینها وجه جامع، بل یحاول استکشاف مرکّب نظري قرآني تأخذ فیه کل معرفة من تلك المعارف القرآنیة مکانها الصحیح وموقعها المناسب، فنحصل بذلك على نظریة قرآنیة في ذلك الموضوع کالنبوة أو المذاهب الاقتصادي أو سنن التاریخ أو غیرها.
وعلیه فالتفسیر الموضوعي أرقى من التفسیر التجزیئي بدرجة ومتقدم علیه بخطوة.
ثم إن الموضوعیة هنا لا یُقصد منها ما یقابل التحیز، فالباحث أو البحث المتحیز یقال عنه: إنه لیس موضوعیاً، لکن هذا المعنى لیس هو المراد من الموضوعیة هنا؛ لأنها بهذا المعنى ترادف الأمانة والنزاهة في البحث، وهو أمر مطلوب في کلا منهجي التفسیر.
بل یراد من اصطلاح (الموضوعي) هنا أن یبدأ التفسیر من الموضوع والواقع الخارجي وینتهي بالقرآن الکریم.کما یراد منه کذلك: أن التفسیر الموضوعي یبحث في موضوع محدد من خلال مجموعة آیات تتناول ذلك الموضوع.
ویراد من التفسیر التوحیدي أنه تفسیر یقوم بالتوحید بین التجربة البشریة والقرآن الکریم في سیاق بحث واحد؛ لیخرج منه إلى مفهوم قرآني یحدد موقف الإسلام من تلك التجربة البشریة أو المقولة الفکریة التي طرحها على القرآن الکریم لیستنطق رأیه فیها.
وهو توحیدي کذلك باعتباره یوحد مدلولات مجموعة من الآیات في مرکب نظري واحد ونظریة قرآنیة محددة في موضوع محدد.
دور التفسیر الموضوعي وأهمیته
بعد أن عرفنا حقیقة التفسیر الموضعي نستطیع أن ندرك بسهولة أهمیة هذا التفسیر ودوره في تطویر الفکر الإسلامي القرآني؛ بحیث یواکب تطور الحیاة، ویصوغ النظریات الإسلامیة التي تنتظم في طیاتها کل مناحي الحیاة والمجتمع الإنساني في جمیع مراحل نموه وتطوره، ویکون لها القیمومة على جمیع نظریات الفکر البشري في الوجود والحیاة والإنسان، ویوجهها في المسار الصحیح؛ لذا یجب على المفسر ۔ بحسب منهج الإمام الصدر(ره) ۔ أن یکون مضطلعاً ۔ إضافة إلى إحاطته بالتفسیر التجزیئي للقرآن العظیم ۔ أن یکون مضطلعاً بتجارب البشریة وفکرها وتراثها الذى بین یدیه؛ لیطرح حصیلة ذلك کله على کتاب الله الحکیم ویحکمه فیها، ولیحدد موقف الإسلام من التراث البشري في مختلف حقول المعرفة، ومن التجارب والنظریات الحدیثة في جمیع مجالات الحیاة والفکر والمجتمع.
فالمفسر الموضوعي یستوعب تجارب الفکر الإنساني العقائدیة والاجتماعية والکونیة، لا لیدین بها ویصوغ أفکاره وحیاته على ضوئها؛ فهي أفکار وتجارب بشریة عرضة للخطأ والصواب، بل لیعرضها على القرآن الحکیم لیبدي رأیه فیها؛ هل یرفضها جملة وتفصیلاً، أو یقبل بعضها دون بعض ویکملها بنظراته السدیدة. فالمفسر الموضوعي یستفید من التجربة البشریة لا یلغیها، ویستنطق القرآن ویستلهمه الصواب في استنباط النظریة الإسلامیة في الموضوع المبحوث؛ والذي أبدى الفکر البشري رأیه فیه ووضع نظریة خاصة به. وبذلك یتفاعل الفکر الإسلامي مع الفکر البشري في عملیة خلاقة مبدعة تعطي للحیاة دفعات في طریق الحق والعدل والخیر نحو الهدف المطلق، الذي لا یقف عند حدود طاقة الفکر البشري ومحدودیته؛ من خلال کلام الله وکلماته التي لا تنفذ: <قُلْ لَوْ كٰانَ الْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً>[17].
وعلى ضوء هذه النظریات القرآنیة المستوعبة والنظریات الثاقبة للتفسیر الموضوعي القیمة على الفکر البشري، یحدد المسار الصحیح للبشریة في الحیاة، والعقائد الحقة التي یجب أن تُعتنق وتسود في المجتمع الإنساني، والحدود التي تؤطر اتجاهات الواقع البشري. ومن هنا یکون التفسیر الموضوعي نبعاً ثرّاً لا ینضب للفکر الإسلامي المتفاعل مع الحیاة، وموجهاً لها في الاتجاه المستقیم، لا تحدده اللغة ۔ کما في التفسیر التجزیئي ۔ في المدلولات اللفظیة لآیات الذکر الحکیم، بل ینطلق ۔ نحو المطلق ۔ من خلال کلمات الله التي لا تنفذ في عطاء دائم متجدد، وانطلاقة لا تقف لصیاغة المفاهیم الإسلامیة السلیمة، والنظرات الربانیة الهادیة لتحقیق المجتمع المسلم، وتعبید الإنسان لله على ظهر هذا الکوکب؛ لیکون خلیفة له في الأرض، وقائماً بواجبات الخلافة الربانیة کما أرادها له سبحانه.
مقارنة بین الدراسات القرآنیة والدراسات الفقهیة
هذه المقارنة سوف تنفعنا في إعطاء فکرة أوضح عن الاتجاه التجزیئي في التفسیر والاتجاه الموضوعي فیه وخصوصاً عن الأخیر؛ حیث إن الدراسات الاستدلالیة الفقهیة هي في أکثر جوانبها تفسیر للأحادیث الشریفة الواردة في المواضیع الفقهیة، هذا باستثناء البحوث الرجالیة والسندیة وما یماثلها.
والقدر الأکبر من کتبنا الفقهیة تناولت شرح الأحادیث الشریفة بعد أن صنفت الفقه إلى أبواب وفق وقائع الحیاة، ودرست کل حدیث یمتّ إلى ذلك الباب بصلة درساً مستفیضاً؛ من أجل استنباط الحکم الشرعي وتحدید موقف الإسلام من تلك الوقائع الحیاتیة، فکانت الدراسات الفقهیة بحق تمثل الاتجاه الموضوعي في تفسیر الأحادیث.
لکن هناك إلى جنب الکتب الفقهیة الاستدلالیة الموضوعیة ۔ وهي الأکثر بین کتبنا الفقهیة ۔ توجد مجموعة من الکتب الفقهیة تناولت الأحادیث بالشرح والتفسیر وفقاً للمنهج التجزیئي في تفسیر القرآن الکریم؛ حیث فسرت الأحادیث الشریفة حدیثاً حدیثاً، وتناولتها بالدرس دلالة وسنداً ومتناً بصورة تجزیئیة واضحة. وهذا ما صنعه شراح الکتب الحدیثیة الأربعة وشراح الوسائل.
وأفضل مثال على التفسیر الموضوعي للحدیث کتاب (الجواهر)، وهو موسوعة فقهیة کبرى شرحت أحادیث الکتب الأربعة على النهج الموضوعي، وصنفتها تصنیفاً موضوعیاً وفقاً لحاجة عصر المؤلف: کتاب البیع، کتاب المضاربة، کتاب إحیاء الموات، کتاب النکاح، کتاب الطلاق، کتاب الإرث… إلى آخر المواضیع الفقهیة، جمع في کل باب ما یخص ذلك الباب من الروایات وقام بشرحها وربط بعضها ببعض والمقارنة بینها لیخرج من تلك الدراسة المستفیضة المعمقة بنظریة محددة في واحد من مواضیع الحیاة، ویعطي الحکم الشرعي الذي یخص المسألة الحیاتیة المطروحة.
ولو أنه قام بشرح الأحادیث بصورة تجزیئية لما استطاع الوصول إلى تحدید النظریات الإسلامیة في وقائع الحیاة وإعطاء الأحکام الشرعیة في المسائل المبحوثة، ولأنتج لنا کماً متراکماً من المعارف المتناثرة لا تمثل نظریة متکاملة في أي مجال من مجالات الحیاة، کما هو الحال في التفسیر التجزیئي للقرآن الکریم.
فاستنباط الحکم الشرعي والنظریة الإسلامیة في أیة واقعة من الوقائع، لا یمکن أن یتم بدراسة الأحادیث الشریفة بصورة مفککة ومجزأة حدیثاً حدیثاً کلاً على حدة، من دون دراستها دراسة موضوعیة جامعة مستوعبة تتضح من خلالها خیوط تلك النظریة، ویبرز على ضوئها الحکم الشرعي في تلك الواقعة محل البحث.
وهذا المنهج الموضوعي أو الاتجاه التوحیدي في الفقه؛ حیث إنه هو المنهج السائد المنتشر في الأعم الأغلب من الدراسات الفقهیة، ومنذ وقت بعید ومبکر، أدى إلى بلوغ الفکر الفقهي درجة عالیة من التطور والتکامل والنمو، وکان عاملاً مهماً من عوامل الإبداع والإثراء في الدراسات العلمیة الفقهیة.
بینما کان المنهج التجزیئي في التفسیر عاملاً رئیسیاً في إعاقة الفکر القرآني عن النمو والتکامل واتسامه بالرکود والجمود؛ حیث إن هذا النهج في التفسیر ظل مهیمناً على ساحة الفکر القرآني طیلة ثلاثة عشر قرناً، مما أدى إلى بعثرة کثیر من الجهود الجبارة المبذولة في مجال التفسیر، وجعلها تدور حول محور الألفاظ لا تتخطاها إلا قلیلاً، من غیر إبداع وإثراء، بل في حالة هي أقرب إلى التکرار والمراوحة في مکان واحد.
ولایمنع ذلك من قیام بعض المفسرین بدراسات قرآنیة لبعض المواضیع لا ترقى إلى التفسیر الموضوعي المتوخى، بل هي تجمیع لأفکار من التفسیر التجزیئي بینها بعض التقارب والتشابه، وقد سبق الکلام في هذا الأمر.
وعلیه ینبغي ۔ من أجل إثراء وتعمیق وتطویر الدراسات القرآنیة ۔ أن نستهدي في تفسیر القرآن الکریم بالمنهج الفقهي الموضوعي؛ لمواکبة تطور الحیاة واستیعاب تجارب الفکر البشري والاستفادة منه بعد عرضه على القرآن الکریم؛ من أجل استکشاف نظریات قرآنیة إسلامیة متکاملة في شتى حقول المعرفة، والدفع بالدراسات القرآنیة في سُلم التکامل والنمو على نمط الدراسات الفقهیة الموضوعیة، التي قطعت شوطاً کبیراً في التوسع والعمق والرقي، والتي کان للنهج الموضوعي أثره الکبیر في تطویرها وتکاملها.
هذا ولکن الاتجاه الموضوعي للدراسات الفقهیة لم یستنفد أغراضه وطاقاته، بل لا تزال أمامه آفاق وأعماق علیه استیعابها أفقیاً وعمودیاً، ویجب ألا تتوقف عملیة النمو والتکامل في هذه الدراسات الفقهیة عند المدى الذي بلغته في عهد الشیخ الطوسي(ره) والمحقق الحلي(ره)، فالأبواب المبحوثة فقهیاً في ذلك العهد تمثل ذلك الواقع المحدود، وتفي بحاجة ذلك العهد وتلبي متطلباته، ولم تتخلف عن مستوى تطوره، ولکن الحیاة لم تتوقف عند ذلك الحد، بل استمرت تنمو باطراد واتساع، فکان من الظروري للدراسات الفقهیة أن تواکب تطور الحیاة وتعالج مشاکلها المستجدة، وأن تتوسع أفقیاً لتستوعب الأبواب الجدیدة بحقولها المتنوعة في بحوثها الفقهیة الاستدلالیة من خلال المصادر التشریعیة الإسلامیة؛ لکیلا یتخلف فقهنا الإسلامي عن رکب الحیاة في هذا العصر.
هذا من الناحیة الأفقیة وسعة المساحة، أما من الناحیة العمودیة والعمق النظري فیجب على المنهج الفقهي الموضوعي أن یغوص إلى الأعماق في مصادر الفقه الإسلامي، وأن ینفذ من خلال البناء العلوي لفقهنا الإسلامي والأحکام الفقهیة التفصیلیة في مجالات الحیاة؛ لیصل إلى النظرة الإسلامیة الکلیة والنظریات الفکریة الأساسیة لدیننا؛ بعملیات اجتهادیة معمقة رائدة في جمیع أبواب الحیاة المعاصرة وجوانبها المتعددة والمتنوعة، کالمجال الاقتصادي لاستکشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي ترتبط به کافة التشریعات الاقتصادیة الإسلامیة التفصیلیة، والمجال الاجتماعي کتنظیم الأسرة وعلاقات الرجل مع المرأة؛ حیث ترتبط بنظریات إسلامیة أساسیة تمثل القواعد الفکریة لهذه التشریعات والتنظیمات التفصیلیة، ولابد من أجل استکشافها من التوغل في العمق عمودیاً في الأحکام الفقهیة المنظمة لکافة المجالات الحیاتیة.
وبهاتین العملیتین الفکریتین أو بهذین النمطین من العملیات الاجتهادیة ۔ الأفقیة والعمودیة ۔ یمکن لفقهنا الإسلامي أن یستوعب مستجدات الحیاة، ویواکب تطورها المطرد بکل جدارة واقتدار.
وبعد ما عرضناه من المقارنة بین الدراسات الفقهیة والدراسات القرآنیة، ومن أثر الاتجاه الموضوعي في بحوث الفقه الإسلامي سعةً وعمقاً، نستبین بوضوح ما للاتجاه الموضوعي في التفسیر من فضل على الاتجاه التجزیئي، فالأول أعمق نظرة وأوسع أفقاً من الثاني؛ لانطلاق الاتجاه الموضوعي من الحیاة وتطوراتها ومن الواقع ومتطلباته إلى القرآن العظیم وآفاقه اللامتناهیة، هذا بعد استفادته من معطیات التفسیر التجزیئي. بینما یدور الاتجاه التجزیئي في دائرة الألفاظ والمدلولات اللغویة للآیات الکریمة آیة فآیة من دون استکشاف وجه جامع بینها.
کما أن الاتجاه الموضوعي دائم العطاء والإبداع؛ لمواکبته التجربة البشریة المتنامیة باطراد، وأخذه لمعطیاتها وطرحها على القرآن الحکیم مستنطقاً إیاه ومستفتیاً رأیه فیها؛ لیخرج المفسر الموضوعي بنظریات قرآنیة إسلامیة عمیقة مستوعبة في مختلف مجالات الحیاة والموضوعات الاجتماعية والفکریة المتنوعة.
خصائص التفسیر الموضوعي التوحیدي
من خلال ما سبق طرحه حول نمطي التفسیر یمکن استخلاص عدة خصائص للتفسیر الموضوعي ومزایا یمتاز بها عن سابقه ۔ التفسیر التجزیئي ۔ وإلیك هذه الخصائص بإیجاز:
1. التفسیر الموضوعي یبدأ من واقع الحیاة ومن تجارب الفکر الإنساني وینتهي بالنص القرآني؛ موحداً بین التجربة البشریة وبین القرآن الکریم.
2. عملیة التفسیر الموضوعي حوار مع القرآن یطرح بین یدیه موضوعاً معیناً مشبَعاً بالتجارب والأفکار البشریة؛ لیستنطقه ویسأله رأیه حول ذلك الموضوع محاولاً اکتشاف النظریة القرآنیة التي تعالجه.
3. التفسیر الموضوعي دائم العطاء وفي حالة تطور مستمر، ومفجر لطاقات الفکر الإسلامي القرآني، وعطاؤه لا ینفد؛ لأن القرآن کلام الله، وکلمات الله لا تنفد، فالمصدر مطلق غیر محدود.
4. التفسیر الموضوعي یحاول أن یولّد فهماً إسلامیاً قرآنیاً صحیحاً، وصیاغة المفاهیم الإلهیة الهادیة للمجتمع البشري إلى صراط الله المستقیم؛ لإقامة المجتمع المسلم العابد في هذه الأرض.
5. التفسیر الموضوعي یحاول الوصول إلى مرکّب نظري قرآني ونظریات إسلامیة قرآنیة تجد فیها کل معلومة قرآنیة مکانها المناسب والصحیح منها.
أوجه التباین بین الاتجاهین
هناك وجوه تباین وافتراق کثیرة بین الاتجاهین ۔ الموضوعي والتجزیئي ۔ للتفسیر، أصبحت واضحة من خلال حدیثنا السابق حول هذین المنهجین، وقد تبینت بوضوح من خلال الکلام حول خصائص کل منهما، ولا نرید هنا أن نکرر الحدیث عنها. بل نرید فقط أن نرکّز على فارقین أساسیین من هذه الفوارق، یمثلان ما بین المنهجین من اختلاف کبیر في الدور المُناط بکل منهما، کما یظهر السبب الذي جعل الطریقة التجزیئیة عائقاً عن تطور الفکر القرآني ونموه وتکامله؛ حیث سادت هذه الطریقة في هذا الصعید قروناً طویلة، وعلى العکس کان تأثیر المنهج الموضوعي على الصعید الفقهي؛ حیث ساد هذا المنهج في هذا الصعید منذ أیام نشأته الأولى:
الفارق الأول: هو أن دور المفسر التجزیئي سلبي غالباً بالنسبة للتفسیر؛ حیث یأخذ المقطع القرآني أو الآیة الشریفة المراد تفسیرها بذهن خالٍ من کل فکر مسبَق، ویحاول فهم النص من خلال ألفاظه وقرائنه الحافة به سواء کانت متصلة أو منفصلة، من دون أن یکون له أي دور إیجابي، فلایطرح على القرآن فکراً یرید تصحیحه أو موضوعاً یستفتیه فیه، فدوره سلبي بحت، یجلس بین یدي النص مستمعاً من دون حوار أو تساؤل، ولیس له من آلة تعینه على فهم النص سوى آداب اللغة وأسالیبها وبعض العلوم التي اضطلع فیها. فالتفسیر التجزیئي عملیة منعزلة عن الحیاة، مقطوعة عن الواقع وعن حصیلة تجارب الفکر الإنساني في الکون والمجتمع.
أما المفسر الموضوعي فبخلافه، فهو ینطلق من الواقع لا من النص، یأخذ موضوعاً محدداً من مواضیع الکون أو الحیاة أو المجتمع، بعد إحاطته بالفکر البشري الذي تناول هذا الموضوع بالدرس والتحلیل والتجریب، وکوّن حوله نظرة أو نظریة محددة، فیطرح المفسر الموضوعي هذه الأفکار البشریة على القرآن الحکیم؛ لیتعرف على حکمه ورأیه فیها ویکتشف موقفه منها، ویحاول تکوین نظریة قرآنیة حول ذلك الموضوع المطروح.
وعلیه فالتفسیر الموضوعي عملیة حوار مع القرآن الکریم، یطرح فیها أسئلة یرید منه الجواب علیها، ویستنطقه فیما یطرحه علیه من مواضیع. فدور هذا المفسر دور إیجابي هادف یطمح إلى استکشاف حقائق الحیاة والکون.
وما أجمل حدیث أمیرالمؤمنین(ع) حول القرآن الکریم إذ یقول:
ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ینطق، ولکن أخبرکم عنه: ألا إن فیه علم ما یأتي والحدیث عن الماضي ودواء دائکم ونظم ما بینکم[18].
فالتفسیر الموضوعي عملیة استنطاق وحوار مع القرآن الکریم، لا عمل سلبي لا دور فیه للمفسر سوى الاستماع للنص بدون خلفیة مسبَقة أو أفکار جاهزة، بل هو عملیة التحام بین القرآن والواقع، ابتداءً بالواقع وانتهاءً بالقرآن القیم على هذه الحیاة وهذا الإنسان؛ لیستکشف النظرات الربانیة المحدِدة لاتجاهات المجتمع البشري وأفکاره وسلوکه.
والفارق الثاني: هو أن التفسیر الموضوعي متقدم على التفسیر التجزیئي بخطوة ومترق علیه بدرجة، فهو لا یقنع بالتفسیر اللفظي للقرآن الکریم، ولا یتوقف عند فهم المدالیل التفصیلیة للآیات الشریفة، بل یمضي قدُماً لیتجاوز هذا القدر من العطاء القرآني الذي لا ینضب؛ لیستخلص نظریات قرآنیة متکاملة حول شتى المواضیع المطروحة في مختلف المجالات العقائدیة والفکریة والاجتماعية؛ تحتل کافة المدالیل القرآنیة الجزئیة المتناثرة مکانها الصحیح المناسب من تلك النظریات القرآنیة، وتُحَل بها جمیع الإشکالات المثارة، وتجاب الأسئلة التي حار فیها الفکر البشري من قبل.
ضرورة التفسر الموضوعي في عصرنا الحالي
قلنا: إن التفسیر الموضوعي یرفد الفکر الإسلامي بالنظریات الأساسیة في مختلف حقول المعرفة العقائدیة والحیاتیة، وهذه الفائدة لا یمکن تحصیلها من التفسیر التجزیئي، الذي ینثر المعارف القرآنیة نثراً من غیر ربط عضوي ولا جامع ینتظم شتاتها.
وهنا قد یُتساءل: ما هي ضرورة البحث عن النظریات الأساسیة القرآنیة؟ ألم یتم إعطاء الفکر القرآني في عصر النبي(ص) على النحو التراکمي، من دون إبراز للنظریات العامة التي تجمع شتات هذه المعارف القرآنیة؟ ما الحاجة إلى استخلاص الأنظار الأساسیة في التوحید والنبوة وفي سنن التاریخ والتغییر الاجتماعي وفي المجتمع الإسلامي والاقتصاد الإسلامي وأمثال ذلك؟
فنقول جواباً على هذا التساؤل: إذا أمکن الاستغناء عن البحث لاستخلاص النظریات الأساسیة في عصر النبي الأکرم(ص)، فإنه غیر ممکن في عصرنا هذا البعید کل البعد عن مناخ ذلك العصر، وعن أطره الفکریة والروحیة والتربویة والاجتماعية، وعن القواعد الإسلامیة الإلهیة التي أسس الرسول الأعظم(ص) مجتمعه علیها؛ حیث کان المسلم في ذلك المجتمع یدرك تلك القواعد النظریة من خلال معایشته الدائمة للتطبیقات المعصومة لتعالیم السماء على ید الرسول الکریم(ص)، ویفهم النظریات الأساسیة بصورة إجمالیة ارتکازیة من خلال سلوك النبي(ص) والمناخ القرآني العام؛ حتى لو لم یُلق النبي الأکرم تلك النظریات والقواعد الفکریة الأساسیة على مجتمع الصحابة على شکل صیغ عامة، فإن الفهم الإجمالي الارتکازي لتلك النظریات کان یغني عن التصریح بها، وکان قد شید في عقلیة ذلك المجتمع أعماقه مقاییس دینیة روحیة للتقییم.
وهذا الأمر مفقود في عرصنا الحالي جملةً وتفصیلاً، فکانت الحاجة إلى الدراسات الموضوعیة القرآنیة لاستکشاف النظریات الأساسیة حاجة واقعیة ماسة، خصوصاً مع هذا التطور الفکري والثقافي وظهور النظریات الحدیثة في مختلف مجالات الحیاة والکون والمجتمع؛ حیث أصبح الإسلام مطالَباً ۔ على ید علمائه ومفکریه ۔ بتقدیم بدائله الفکریة ونظریاته الإلهیة في مواجهة الثقافة الغربیة الحدیثة وتحدیاتها، وإبداء رأیه فیها قبولاً أو رفضاً أو تصحیحاً، وأن یکشف عن کنوزه الثمینة وأسراره المصونة، ویعلنها للملأ من المفکرین والمثقفین لیتبینوا أحقیة الإسلام بالقیمومة على المجتمع البشري في جمیع أدواره ومراحل نموه ورقیه.
ویمکن أن نمثل توضیحاً لاستغناء عصر الصحابة عن مثل هذه الدراسات القرآنیة لاستکشاف النظریات الأساسیة، وحاجة عصرنا الملحة لمثل هذه الدراسات التي لا غنى عنها الیوم بمثالین:
الأول: هو حالة أبناء اللغة الذین عاشوا عرفها وقواعدها وتشرّبوا في أعماقهم معانیها ومدالیلها، فهم یدرکون المدلولات الصحیحة لمفردات تلك اللغة بلا عناء، ویمیزون الاستعمالات السلیمة لها ضمن الترکیبات اللغویه القویمة من الاستعمالات المخلوطة.
وهکذا کانت حالة العرب قبل أن تلتاث ألسنتهم بالأعاجم، ویفقدوا تدریجاً أصالتهم اللغویة، ویبتعدوا عن عرف لغتهم العربیة، لم یکونوا یحتاجون إلى علوم اللغة العربیة من صرف ونحو وبلاغة وأمثالها، بل کانت جمیع تلك القواعد اللغویة مرکوزة في أذهانهم بشکلٍ إجمالي یغني عن کل دراسة لاستکشاف تلك القواعد، بل کانت دراسة القواعد العربیة تعتمد کثیراً على مشافهة أهل العرف العربي الصحیح غیر المتأثر بالثقافات واللغات غیر العربیة.
وهذه الحالة أشبه بحالة المجتمع الإسلامي المعاصر للنبي الأکرم(ص) الذي عاش الجو والمناخ الذي أوجده الرسول الأعظم(ص)، وتشرّب الإسلام ۔ قواعد وتفاصیل ۔ من خلال سلوکه وتطبیقاته(ص) وآیات القرآن النازلة توّاً، فمثل هذا المجتمع في غنى عن الدراسات الکاشفة عن النظریات الأساسیة بعد أن تشرّبها في أعماقه ووجدانه.
أما حالة مجتمعنا المعاصر فهي کحالة أبناء اللغات غیر العربیة الذین یریدون فهم العرف اللغوي العربي وهم یعیشون خارجه، وکذا حالة العرب بعد أن فسدت ألسنتهم وابتعدوا عن لغتهم، فصاروا أشبه بالأعاجم في حاجتهم إلى تعلم اللغة العربیة ودراسة علومها وقواعدها ومدلولات مفرداتها وتراکیبها؛ لأنهم ابتعدوا عن نقائهم اللغوي وشابته الشوائب الغریبة؛ مما جعلهم لا یفهمون لغتهم إلا تعلماً ودراسة، وکان لابد لهم من أن یوغِلوا في أعماق نصوص لغتهم الأصیلة لاستکشاف قواعدها ونظریاته العامة.
وکذلك الحال بالنسبة لمجتمعنا الحالي الذي اغترب عن إسلامه وقرآنه، والتاثت ثقافته وأفکاره بالثقافات الغربیة والأفکار الغریبة، مما جعل الإسلام غریباً بین أهله لا یفهمون أحکامه التفصیلیة فضلاً عن قواعده النظریة، وقد غزتهم الأمم ۔ شرقیة وغربیة ۔ بأفکارها ونظمها وثقافاتها ومدنیتها، فوقف المسلم الجاهل حائراً أمام تحدیاتها خائراً تحت ضرباتها مبهوراً بأضوائها.
فکان لزاماً على علماء هذه الأمة المنکوبة ومفکریها وروادها، أن یقوموا بدورهم التاریخي وواجبهم الإلهي في تسلیح مجتمعهم المسلم بالفکر الإسلامي الأصیل، ویقارعوا الفکر الوافد الهزیل بالحجة الدامغة، ویستکشفوا نظریات الإسلام الأساسیة الشامخة بالدراسات القرآنیة الموضوعیة، ویطرحوها بین أیدي أبناء هذه الأمة لتکون مشعلاً هادیاً لها، ویتعرفوا من خلالها على موقف الإسلام من أفکار العالم الغربي ونظریاته سلباً أو إیجاباً، ولتلتحم المعرفة البشریة المتنوعة والتجارب الإنسانیة النافعة بالفکر الإسلامي القرآني بعد استبعاد أخطائها ومنافیاتها، ولیواکب الفکر القرآني الإسلامي تطور الحیاة والتجربة البشریة في مختلف الحقول والمجالات.
وعلیه فالتفسیر الموضوعي ۔ وبناء على ما مر ۔ هو الأفضل والأثرى فکراً والأعمق بحثاً والأکثر تلبیة لحاجة الواقع المعاصر.
وهذا لا یعني إلغاء التفسیر التجزیئي واستبداله بالموضوعي، بل هو سیر تکاملي، وإضافة بحث إلى بحث، والاستفادة من کلا الاتجاهین، وتتمیم التفسیر التجزیئي بالدراسات القرآنیة الموضوعیة، التي هي خطوة متقدمة بالنسبة للاتجاه الأول.
مبرر عملي لاختیار التفسیر الموضوعي
للإمام الصدر(ره) مبررات عدیدة لاختیار هذا الاتجاه في التفسیر ۔ مبررات موضوعیة وفکریة ۔ استعرضناها فیما مر من الحدیث وأشبعناها بحثاً.
وبقي مبرر آخر أطلق علیه السید الشهید(ره) (المبرر العملي) وإلیك نص عبارته في عرض هذا المبرر:
وأود الآن أن أذکر مبرراً عملیاً لهذا الإیثار، هو أن شوط التفسیر التقلیدي طویل جداً؛ لأنه یبدأ من الفاتحة وینتهي بسورة الناس، وهذا الشوط الطویل بحاجة من أجل إکماله إلى فترة زمنیة طویلة أیضاً.. نحن نشعر بأن هذه الأیام المحدودة المتبقیة لا تفي بهذا الشوط الطویل؛ ولهذا کان من الأفضل اختیار أشواط أقصر، نستطیع أن نکملها في رحاب القرآن الکریم.
ومن هنا سوف نختار موضوعات متعددة في القرآن المجید، ونستعرض ما یتعلق بکل موضوع منها، وما یمکن أن یلقي علیه القرآن من أضواء. وسوف نحاول أن یکون البحث مضغوطاً بقدر الإمکان؛ لکي نستوعب أکبر عدد من المواضیح المهمة، فنقتصر على الأفکار الأساسیة والمبادئ الرئیسیة بالنسبة إلى کل موضوع[19].
ومع کل هذا الضغط في البحث والاقتضاب، فلم یستطع(ره) أن یقدم لنا في التفسیر الموضوعي غیر موضوع واحد هو (سنن التاریخ في القرآن الکریم) حیث عجل علیه الفکر العالمي ۔ الذي استنفر الإمام الصدر(ره) کل طاقته لمحاربته ۔ فأوعز إلى عمیله طاغیة العراق بالتخلص منه(ره)، فلم یتأثم ولم یتأخر عن تنفیذ أمره، فقضى علیه مظلوماً شهیداً محتسباً، وذهب إلى ربه راضیاً مرضیاً، مخلفاً لنا على قصر عمره الشریف کنوزاً من الفکر الأصیل الثاقب والدراسات الإسلامیة المعمقة في مختلف الحقول، کانت ولا تزال سیفاً بتّاراً مسلطاً على رقاب الأعداء ومشعلاً وضاءً بید المؤمنین لیواصلوا المسیر بثبات وبصیرة.
وشعوره(ره) بقصر عمره الشریف کان عمیقاً، وقد تکررت منه الإشارة إلیه، خصوصاً في المحاضرة الأخیرة من محاضرات بحثه في السنن التاریخیة في القرآن حیث یقول:
أبي لم یعش في الحیاة أکثر مما عشت حتى الآن، أخي لم یعش في الحیاة أکثر مما عشت حتى الآن، أن الآن استوفیت هذا العمر، من المعقول جداً أن أموت في السن الذي مات فيه أبي وأخي[20].
ولکنه(ره) استشهد ولم یمت، ولن یموت في قلوب المؤمنین، بل سیبقى فیها نبضاً فکریاً وحیاة روحیة وروحاً خالصة لله، ومثالاً أعلى للفناء في الله، وقدوة مثلى في العلم والجهاد والتضحیة حین یتمحض جمیع ذلك لله تعالى، وحین یستوعب هذا الإخلاص والتفاني في الله العمرَ کله.
فسلام على سیدنا الشهید الصدر(ره) یوم ولد، ویوم طلب العلم وجاهد، ویوم التحق ببارئه شاهداً وشهیداً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین.
[1]. المدرسة القرآنیة، السنن التاریخیة في القرآن، ص 167.
[2]. م. ن، ص 163.
[3]. م. ن، ص 171.
[4]. المحنة، ص 28 ۔ 29.
[5]. م. ن، ص 28.
[6]. الإسراء: 88.
[7]. النحل: 44.
[8]. کلمة في التفسیر، أحمدرضا، مجمع البیان، ج1، ص 27 ۔ 30.
[9]. م. ن، ج1، ص 24.
[10]. م. ن، ج1، ص 25.
[11]. المیزان، ج1، ص 11 ۔ 17.
[12]. المدرسة القرآنیة السنن التاریخیة في القرآن، ص 27 ۔ 45.
[13]. م. ن، ص 27 ۔ 28.
[14]. م. ن، ص 28.
[15]. م. ن، ص 30.
[16]. السنن التاریخیة في القرآن، ص 30.
[17]. الکهف: 109.
[18]. نهج البلاغة، خطبة 158.
[19]. السنن التاریخیة في القرآن، ص 45.
[20]. م. ن، ص 171.