علاج الحواجز النفسية للتقريب بين المذاهب الإسلامية عند الإمام الشهيد الصدر(رضوان الله علیه)

الأستاذ الشيخ محمد رضا النعماني [1]

ملخص

جذور الخلاف بين أهل السنة والشيعة تعود في جانبها الأكبر إلى عامل نفسي والإمام الشهيد الصدر رغم قصر عمره الجهادي مارس ألوان الجهود لإزالة هذا الحاجز النفسي. هذه الممارسة نلحظها في خطابه إلى العراقيين وفي استناده إلى مصادر أهل السنة الحديثية والفقهية في دراساته وفي معالجته لقضية على غاية من الحساسية المذهبية مثل قضية فدك.

لا نستهدف بهذا البحث إيجاد حلول ومعالجات للخلافات العقائدية والفقهية والسياسية ۔ الممتدة الجذور عبر التاريخ ۔ بين الفرق والمذاهب الإسلامية من خلال مناقشة علمية وموضوعية لمختلف المواضيع والقضايا التي هي محل خلاف بين المسلمين، والاستدلال على ما هو حق منها والاتفاق عليه ورفض ما عداه.

إن فكرة من هذا القبيل لو أتيحت لها الظروف الموضوعية والأجواء المناسبة لأمكنها أن تزيل الكثير من الخلافات المستعصية بين المذاهب الإسلامية، وهو الاتجاه الذي تبناه الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين(قده) في محاوراته ومؤلفاته كالمراجعات والنص والاجتهاد ومسائل فقهية، والتي حاول فيها معالجة المسائل الخلافية العقائدية والفقهية والتاريخية معتمداً في ذلك على صحاح المذاهب الإسلامية لإثبات أن ما يعتقده أتباع مدرسة أهل البيت له جذور قوية ومتينة في أصول ومصادر المذاهب الإسلامية الأخرى.

ويجب أن نعترف أن أساليب المعالجة والنقاش حتى وإن اتسمت بأعلى درجات الموضوعية والصراحة لا تنتهي إلى الإيجابية المطلوبة؛ لأن جذور الخلاف في أكثر الأحيان جذور نفسية والحواجز تأخذ نفس الطابع. وفي ظل هذا الوضع لا يمكن الوصول إلى ما من شأنه تمهيد الأجواء لبناء الأمة الواحدة المتفقة على الحد المطلوب في رؤيتها العقائدية والفقهية والتاريخية.

ومع ذلك لا يجوز أن تتحطم آمالنا وطموحاتنا في توحيد أمة التوحيد على صخرة اليأس وأن لا نسعى إلى التمسك بحبال الإيمان بالله ورسوله وكتابه في جو نفسي نقي، مصممين فيه على أن ما يمكن أن نتفق عليه من خلال البحث العلمي والمعالجة الموضوعية يجب أن نؤمن ونعمل به حتى وإن خالف قناعاتنا الموروثة. وما لا يمكن أن نتفق عليه لا يجوز أن نجعل منه عقبة في طريق بناء الوحدة الإسلامية في ظل خاتمة الرسالات والنبوات.

إن من الحقائق التي يجب أن لا نغفلها هي أن أحد أهم جوانب مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية جانب نفسي موروث تلقّته الأجيال من دون دراسة أو مناقشة تتيحان التحرر منه والانطلاق من بوتقته نحو جو من التأمل والمعالجة الموضوعية، الأمر الذي أدى إلى تراكم الكثير من الحساسيات التي شكّلت عقبة كبيرة في طريق محاولات التقريب.

ويجب أن لا نغفل أن السياسة لعبت دوراً كبيراً ۔ على امتداد التاريخ ۔ في تعميق الفجوة النفسية بين أتباع تلك المذاهب، فتارة تصوره على أنه خطر يستهدف القضاء على أتباع هذا المذهب أو ذاك وأخرى على أنه عقيدة لا يجوز التنازل عنها وهكذا.

ولو تصفّحنا أوراق التاريخ لوجدنا أن الكثير من الدماء سفكت بسبب سياسات الحكام في إطار تعميق الخلافات المذهبية وإخراجها من إطارها العلمي والفقهي إلى الوضع الأصعب المتمثل بالحواجز النفسية والروحية، وتسخيرها لمصحة الحكام وليس لمصلحة الإسلام والأمة الإسلامية.

وفي هذا البحث المقتضب أحاول أن أستعرض أهم الخطوات التقريبية التي خطاها الإمام الشهيد الصدر(رضوان الله علیه). ومع أن يد الإجرام حرمت منه الأمة في وقت مبكر جداً، فلم يتح له أن يمارس دوره الكامل في تطبيق أفكاره ومشاريعه التي منها توحيد الأمة وتجميع صفوفها. فإن نزراً يسيراً قد عرفناه عن تلك الأفكار والمواقف والتصورات أعطانا رؤية واضحة عن هذا الجانب في موقفه من عملية التوحيد والتمسك بعرى الإسلام والإيمان.

ويجب أن نؤكد مرة أخرى على أنه يجب اعتبار حركة الإمام الشهيد الصدر في هذا المجال حركة تتّسم بأهمية خاصة بحيث يحق لها أن تتصدر الخطوات الإيجابية الأخرى التي بدرت من علماء المسلمين الواعين من السنة والشيعة، وذلك لما يتمتع به الإمام الشهيد الصدر من موقع لدى الشيعة، ولما يمثّل من شموخ وتبحّر في عالم المعرفة الإسلامية والبشرية، وكذلك الظروف السياسية والاجتماعية وأجواء الحوزات والمرجعيات التي قد لا تتقبل انفتاحاً كبيراً بهذه الدرجة.

وحينئذ يجب أن ندخل هذه الحقائق في حسابنا عند دراستنا لخطواته التقريبية الجادة والهادفة بين المسلمين.

إن أهم خطواته العملية ۔ والتي تعتبر رائدة في هذا المجال ۔ يمكن تلخيصها بما يلي:

أولاً _ من الملاحظ أن الإمام الشهيد الصدر لم يقتصر في مؤلفاته على الكتب الشيعية فقط، بل اعتمد كذلك على كتب أهل السنة ومصادرهم معتبراً (الفقه الإسلامي) كياناً واحداً مع ما فيه من تعدد الاجتهاد والمذاهب، فمثلاً اعتمد في كتاب (اقتصادنا) في محاولته لبلورة النظام الاقتصادي الإسلامي على مجموعة من المصادر الإسلامية السنية، منها: كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي[2]. وكتاب (المغني) لابن قدامة[3]، وكتاب (الأُم) للشافعي[4]، وكتاب (المحلّى) لابن حزم[5]، و(المدونة الكبرى)[6] و(مواهب الجليل) للحطّاب[7]، و(نهاية المحتاج) للرملي[8]، و(المبسوط) للسرخسي[9]، و(الفقه على المذاهب الأربعة)[10] وغيرها من المصادر السنية.

ولم يكن(ره) بصدد نقاش الآراء الفقهية للمذاهب الإسلامية، وإنما كان بصدد اكتشاف هيكلية النظام الاقتصادي الإسلامي.

ومع ذلك فنحن لا ننكر أن المصادر وطرق الاستنباط للأحكام الشرعية تختلف بين مدرسة أهل البيت وبين المذاهب الإسلامية الأخرى، سواء في القيمة العلمية للرأي الفقهي أو في قيمة وحجة المصادر الروائية والفقهية، ومع ذلك فإننا على صعيد الواقع ننتهي إلى نتيجة واحدة.

إن هذا اللون من التفاعل الإيجابي والتعامل العلمي يجعل السني يشعر بأن لرأيه الفقهي أهمية وموقعاً عند أخيه الشيعي، وكذلك العكس. فيؤدي في النتيجة إلى روح التفاعل والانفتاح ويعزّز روابط الأخوة ويصدّع من قوة الحواجز النفسية.

ثانياً ۔ أصدر الإمام الشهيد الصدر(رضوان الله علیه) بياناً وجّهه إلى الشعب العراقي (عام 1979م) وكان وقتها محتجزاً من قبل السلطة وذلك قبل استشهاده بعدة أشهر، حمل العبارات التالية:

(أيها الشعب العظيم، إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر..).

(وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمّهم جميعاً..).

وفي مقطع آخر يقول:

فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي.. إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة، ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك.

وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، إن الحكم السني الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل عليٌّ السيف للدفاع عنه إذ حارب جندياً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأول أبي بكر، وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي.

إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة ۔ قبل نصف قرن ۔ بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام..[11]

ومما لا ريب فيه أن هذه الوثيقة تعتبر من أهم الوثائق التي يمكن أن تساهم في معالجة الحواجز النفسية بين أبناء الأمة الإسلامة، وذلك لأن السيد الشهيد الصدر حينما أصدر هذا البيان كان قد صمّم على الاستشهاد في سبيل الله، لإيمانه بأن المرحلة الجهادية والسياسية تتطلب ذلك، وقد فصّلنا ذلك في كتاب (سنوات المحنة وأيام الحصار) الأمر الذي يجعل كل باحث موضوعي يدرك أن الإمام الصدر لم يقصد المجاملة أو المحاباة بل كان يهدف حقاً إلى معالجة مشكلة الفُرقة والتشتت من جانب وتوحيد الأمة في إطار الإسلام من جانب آخر.

وإذا لاحظنا جذور أسباب المشكلة نجد أن أهمها هو الموقف من الخلفاء الراشدين، فالمسلم السني يرى فيهم مثلاً ونموذجاً جسّد القيم والمبادئ الإسلامية، ويرى الشيعي أن اجتهادات بعض الخلفاء أو مواقفهم تنافي الخط الإسلامي الذي يعتقد بصحته ويتمسك به على أساس أنه الخط الذي يمثّل المسيرة النبوية، ويرى مثلاً أن كل اجتهاد في مقابل النص على إمامة أمير المؤمنين علي(ع) اجتهاد مرفوض لا يحمل قيمة دينية، في حين يرى السني أنه جهد علمي اجتهادي للفقيه فان أصاب المجتهد فله أجران وإن أخطأ فله أجر.

وعلى هذا الأساس ۔ وهو الجزء الأكبر من العلة ۔ بدأت الحواجز النفسية تتصاعد وتتعمق مدعومة بجهود الحكام الذين عمّقوها إلى أبعد الحدود وبدأت تنخر في صميم الكيان الإسلامي العام.

وما من شك أن علاج هذه القضية يحتاج إلى زمن طويل وجهود مكثّفة من الطرفين، إلا أن هذا لا يمنع من التوافق على احترام كلا الطرفين لعقيدة الآخر وآرائه السياسية وغيرها والوصول ولو إلى الحد الأدنى من الوفاق والتوحد. وفي هذا الضوء أعتقد أن الإمام الشهيد الصدر سار بهذا الاتجاه، فلم يجعل الاختلافات المذهبية مبرراً لعدم التوحد، فنراه قد اعتبر نفسه وكيانه ملكاً للمسلم السني كما هو للمسلم الشيعي، فيقول: (وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء..).

ويقول: (فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي).

ومما لا شك فيه أن لهذا التخاطب الأبوي والأخوي أثراً إيجابياً فعّالاً في تمزيق الحاجز النفسي وتبديد قوته، فما أجمل أن تجد الأمة ۔ بمختلف مذاهبها ۔ قائداً شيعياً بل علماً من أعلامها يخاطب الجميع بروح الأبوة والأخوة فيقول: أنا لكم جميعاً.

وذكر ثانياً أن الخلاف العقائدي والسياسي في إطار الدين لا يجوز أن يحول دون التعاون والتكاتف في سبيل خدمة الإسلام والدفاع عنه. واستشهد لذلك بمثالين:

الأول ما كان في صدر الإسلام حيث قال: (حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول أبي بكر..).

وذكر مثالاً آخر من التاريخ الحديث وذلك حينما تعرّض الحكم العثماني لضربات الإنجليز فوقف علماء الشيعة إلى جانب الحكم العثماني وأفتوا بوجوب الدفاع عنه؛ لأنه رافع لراية الإسلام فقال: (إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمعهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام..) لماذا؟ لان الهدف (أن نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي).

والموضوعية تقتضي أن نعترف أن هذا الخطاب المفتوح والصريح لا يحل مشكلة الخلافات المذهبية بين المسلمين، ولكنه يشكّل البوابة الكبيرة التي يمكن الدخول من خلالها والقضاء على المشكلة النفسية وفتح آفاق الحوار الموضوعي للاتفاق ولو على الحد الأدنى من الوفاق والائتلاف.

ثم بيّن(رضوان الله علیه) أن من أهم أسباب تعميق الخلافات وتهويلها هو الاتجاهات السياسية والقادة الذين تحكمهم مصالحهم الخاصة فقال:

إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني…

ومن المؤكد أن الإمام الشهيد الصدر قد لا يؤمن بالكثير من اجتهادات الصحابة أو مواقفهم من مختلف القضايا ويعتبرها اجتهاداً في مقابل النص والتي منها: الموقف من قضية النص على إمامة أمير المؤمنين علي(ع) بعد النبي(ص)، فهو يعتقد أنه الوريث الحقيقي للنبي، والحارس الأمين لمسيرة الإسلام من بعده. إلا أن هذا الاعتقاد لم يجعله في موقف الرافض للكيان الآخر، ولم ير في ذلك مبرراً لعدم توحّد الأمة تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) العقيدة التي أجمعت الأمة على الإيمان بها.

ثالثاً _ كَتب السيد الشهيد الصدر(رضوان الله علیه) في أوائل شبابه بحثاً عن فدك أسماه (فدك في التاريخ) عالج فيه قضية فدك علاجاً موضوعياً فريداً.

ولعل أهم ما ميّز البحث في إطار ما نحن فيه من معالجة الحواجز النفسية الأمور التالية:

1۔ لم يستعمل(رضوان الله علیه) عبارات من شأنها جرح عواطف ومشاعر السنة، فنراه يعبّر عن الخلفاء بعبارات مناسبة اعتادوها عند ذكرهم لهم، راجع على سبيل المثال الصفحات التالية من فدك في التاريخ، 26، 44، 59، 73، 150، وهو يريد أن يعبّر عن الأسلوب الأمثل في كيفية التخاطب بعيداً عن كل ما من شأنه تفريق المسلمين أو جرح مشاعرهم أو الإساءة إلى معتقداتهم.

2۔ تعتبر قضية فدك من القضايا الحساسة وتتمتع بأهمية خاصة لدى أتباع أهل البيت. وقد بحث هذا الموضوع ۔ على امتداد التاريخ ۔ الكثير من علماء المسلمين سنة وشيعة.

ومن ملاحظة كل ذلك نجد أن الموقف من فدك متباين حتى لدى الخلفاء أنفسهم، وقد لخّص الإمام الشهيد الصدر ذلك فكتب عنها ما يلي: (فدك قرية في الحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل: ثلاثة. وهي أرض يهودية في مطلع تاريخها المأثور) إلى أن يقول: (وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي فكانت ملكاً لرسول الله(ص) لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ثم قدّمها لابنته الزهراء وبقيت عندها حتى توفي أبوها(ص) فانتزعها الخليفة الأول(رضوان الله علیه) على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة وأصبحت من المصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يومذاك، حتى تولّى عمر الخلافة فدفع فدكاً إلى ورثة رسول الله(ص) إلى أن تولّى الخلافة عثمان بن عفان فأقطعها مروان بن الحكم على ماقيل، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرّح عنها بشيء، ولكن الشيء الثابت هو أن أمير المؤمنين علياً انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان كسائر ما نهبه بنو أمية في أيام خلافتهم..)[12].

ثم إن التاريخ الذي أعقب الخلافة الراشدة وتولّي معاوية بن أبي سفيان ومن بعده من خلفاء آل أبي سفيان يحمل نفس التذبذب في الموقف من فدك، فتارة تُسلّم لورثة الزهراء(ع) وأخرى تنتزع منهم وهكذا.[13]

وبدأ السيد الشهيد الصدر(رضوان الله علیه) دراسة هذه القضية، فعالج جوانبها المختلفة علاجاً تاريخياً وفقهياً وعقلياً وبروح موضوعية من دون جرح للمشاعر أو استفزاز لأحد. وقبل أن يبدأ بالمعالجة اشترط على نفسه وعلى كل مؤرخ وباحث التزام التحرر من القيود التي من شأنها طمس الحقائق أو تشويشها فيقول: (فإذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك مؤرخاً لدنيا الناس لا روائياً يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب فضع عواطفك جانباً، أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فإنه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أميناً، ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج)[14].

عالج الإمام الصدر قضية فدك من الجذور وما أحاط بها من ملابسات وتداخلات سياسية ومواقف قد تعتبر ثأرية، وهو لا يختلف من حيث النتيجة عما عُرف عن موقف أتباع مدرسة أهل البيت من أن فدك كانت نحلة للزهراء فاطمة(ع) وأنها انتزعت منها انتزاعاً.

وقد ناقش فصول الموضوع جميعاً وأشبعها تحليلاً. فمثلاً حين يأتي إلى مناقشة حديث (إني سمعت رسول الله(ص) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنما نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنة)، أو (إنا لا نورّث، ما تركناه صدقة) يناقش الموضوع بعيداً عن كل إثارة أو جرح للعواطف والمشاعر فيتساءل عن (مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول الله(ص) وثباته عليه..)[15]، ولماذا (أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة..)؟[16]

ويعزز هذه الرؤية بـ (أن أبا بكر أوصى أن يدفن إلى جوار رسول الله(ص) ولا يصح ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونياً في الموضوع واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة ۔ إذا كان للزوجة نصيب في الأرض وكان نصيب عائشة يسع ذلك ۔ ولو كان يرى أن تركة النبي(ص) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم، وهب أن البالغين أجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين..؟)[17].

ثم تساءل بروح وجدانية وفقهية عن السبب الذي جعل (الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كنّ يسكنّ فيها في حياة رسول الله(ص) فما عساه يكون سبب التفريق الذي أنتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامة وإبقاء بيوت نساء النبي(ص) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله؟ حتى تُستأذن عائشة في الدفن في حجرتها، أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبي(ص) أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن؟! فلنا أن نستفهم عما أثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بينة عليه ولا ادعته واحدة منهن..)[18].

ثم ناقش صيغ حديث (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) هل تدل على أن تركة النبي حقاً لا تورث، أو أن له مداليل أخرى قد تدل عليه نقاط التخلخل والضعف فيه، وتجعله غير قادر على المواجهة العلمية المعروفة لدى الفقهاء عند معالجاتهم للنصوص الروائية؟

أقول: ليس هدفنا عرض ما جاء في كتاب فدك في التاريخ، بل الهدف هو أسلوب معالجة مشكلة من أهم المشاكل التاريخية والعقائدية علاجاً فقهياً ومنطقياً، محافظاً في ذلك على المستوى الأخلاقي الرفيع والأمانة التاريخية والابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة الأحقاد والعداوات[19].

ولا أعتقد أن أحداً ۔ سنياً كان أم شيعياً ۔ لا يستسيغ هذا اللون من النقاش الموضوعي والمعالجة العلمية، فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها أينما وجدت، والموضوعية هي المقدمة الضرورية التي من دونها تفقد حركة البحث عن الحكمة هديها، وهي في منهج الإمام الشهيد الصدر يجب أن تكون مقرونة بالخُلق الإسلامي الرفيع، ففدك بما ترمز إليه والموقف منها سواء كان إيجابياً أم سلبياً لا يخلق مبرراً لخلافات تخرج عن إطارها إلى حد القطيعة والفرقة الكراهية، ويجب أن تطوّق الخلافات ۔ العقائدية والتاريخية والفقهية وغيرها ۔ ضمن حدودها في ظل احترام الرأي والرأي المقابل.

وأعتقد أن أسلوب الإمام الشهيد الصدر في المعالجة استكمل الشروط الموضوعية والأخلاقية، إضافة إلى ما اتّسم به من شفافية وانفتاح، وفوق ذلك كله الخلق الرفيع الذي من شأنه تحطيم أقوى الحواجز والعقد النفسية التي كانت ولا تزال تشكّل أكبر عقبة في طريق توحيد أمة التوحيد.

هذه إلمامة سريعة ومتقضبة عن خطوات للإمام الشهيد الصدر، وهي وإن كانت مقتضبة ومحدودة بحكم الفترة الزمنية القليلة التي عاشها الشهيد إلا أنها تكشف عن أفق رحب في إطار السعي لتوحيد الأمة الإسلامية.

إن دارسة هذا الجانب من فكر الإمام الشهيد الصدر تحتاج إلى قدر من الشمولية والتوسع، لتكون دراسة مستوفية وشاملة نستقصي فيها جميع الخطوات التي بدرت منه في مجال التقريب وتوحيد الأمة، والمفروض أن يتصدى لذلك أهل الاختصاص والمعرفة؛ لأننا اليوم بأمس الحاجة إلى من يجمع كلمتنا ويوحّد صفوفنا.

[1]. من علماء النجف، يسكن في قم حالياً.

[2]. اقتصادنا، ص 443 و474.

[3]. م. ن، ص 714.

[4]. م. ن، ص 462.

[5]. م. ن، ص 459.

[6]. م. ن، ص 195.

[7]. م. ن، ص 508.

[8]. م. ن، ص 511.

[9]. م. ن، ص 579.

[10]. م. ن، ص 614.

[11]. من بيان مسجل بصوته(رضوان الله علیه).

[12]. فدك في التاريخ، ص 26.

[13]. لمزيد من التفصيل راجع: م. ن، ص 27 ۔ 30.

[14]. م. ن، ص 35.

[15]. م. ن، ص 112.

[16]. م. ن، ص 113.

[17]. م. ن، ص 114.

[18]. م. ن، ص 116 ۔ 124.

[19]. صحيح أن الشهيد الصدر قدّم في كتابه هذا أفضل مَثل على الروح العلمية والموضوعية لمعالجة مسألة حساسة طالما استغلت لإثارة النعرات الطائفية بين السنة والشيعة. غير أنه ارتفع إلى أعظم من هذا المستوى حين لم يتطرق في كل دراساته التالية إلى مسألة خلافية بين المسلمين، بل ركّز على مشتركات الأمة الإسلامية، وما تواجهه من تحديات في مجال العقيدة والمجتمع والاقتصاد ونظام الحكم. وارتفع أكثر في خطابه الأخير إلى الشعب العراقي كما بيّن الباحث. ولذلك لا نستبعد ما رواه بعض تلاميذه أنه أوصى بعدم إعادة طباعة كتاب: فدك في التاريخ. رغم عظمة أسلوب الكتاب في المعالجة.