المنهاج التربوي حسب منظور الإمام الصدر

إلهام باقر

المدخل

إن التربية الإسلامية ومعرفة أفكارها وتصوراتها والوعي بأساليبها وعملياتها ضرورة حضارية وشرعية، فمن الوجهة الحضارية يعتبر نمو المجتمع وتخلفه، آماله وتطلعاته، منوطة بأبنائه، والأبناء هم أولئك الأطفال الذين تلقّوا التربية السليمة على يد الآباء، وأولئك الطلاب الذين تربّوا على يد المعلمين، وأولئك المواطنون الذين تم إعدادهم ليكونوا صالحين، بل قد يتولى فرد تلقى تربية حسنة أو سيئة إنقاذ أو إفساد أمة بأكملها.

أما من الوجهة الشرعية فالإسلام رسالة جاءت لتربي الإنسان[1]، فهو موجود يقبل التكامل ۔ في نظر الإسلام ۔ فيما لو تم الاستفادة من الطاقات الداخلية للفرد والإمكانات الخارجية، والكمال هو السعادة الحقيقية التي يسعى كل إنسان إليها ويتكامل الإنسان بالتربية، فبعد أحد عشر قَسماً عظيماً وجليلاً يقول تعالى: <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها>.[2]

والتعليم الذي يزوّد العقل بالعلم والمبادئ والقيم ليس بقادر على إصلاح شيء من الفساد الأخلاقي والسلوكي للفرد، ولم يستطيع التقليل من الشرور والجرائم في المجتمع إذا لم يساعد في ازديادهما، أما التربية فلها الفضل في إصلاح الفرد والمجتمع، بل والرقيّ به في مدارج القيم والكمالات الإنسانية، وعلى هذا الأساس كانت التربية هدفاً للأنبياء جميعاً، جاء في التنزيل: <يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ>.[3]

ومن المؤسف أن نجد اليوم أن التربية الإسلامية مع ضرورتها ما تزال ميراثاً بحثياً غير مستقل، وبلا علماء متخصصين فيها يبذلون الجهد لدراسة موضوعاتها، كما لا تزال لا تأخذ من مؤسساتنا التعليمية والثقافية إلا قليلاً من الاهتمام.

التربية في التعريف

إن التربية عند أغلب المربين على اختلاف مدارسهم الفكرية والتربوية عبارة عن تفعيل القيم الخلقية في الواقع العملي لحياة الفرد، بحيث تغطّي كل علاقاته المختلفة، وبها يصبح الإنسان إنساناً، فالإنسان لا يولد في البداية ذا أخلاق، وأن الطريقة التي يصبح بها ذا أخلاق تتعلق بالتربية التي تلقّاها[4].

أما الأخلاق فلقد اختلفت الرؤى حول القيم الخلقية باختلاف الأطر المعرفية للتربية، فهناك من يرى أن قيمة الأخلاق مصدرها ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، والذي قد يختلف من واحد لآخر، فليس هناك أخلاق قيمية ثابتة ۔ في نظر هؤلاء ۔ وآخرون ذهبوا إلى أن التغيرات الاقتصادية تقوم بتغيير الأخلاق، فإن الأخلاق في عصر العبيد غير الأخلاق في مرحلة الفلاحة، وأن الأخلاق في عصر البداوة غير الأخلاق في عصر الحضارة.

ورأى البعض الآخر أن اشتراك المنافع مصدر للقيمة الخلقية، يقول راسل: (أنا لا أسرق بقرة جاري؛ لأنني إذا فعلت ذلك سيقوم جاري الآخر بسرقة بقرتي).

ويرى أرسطو أن القيمة الخلقية هي في الفعل الصادر من الإحساس بحب الآخرين. ويرى أفلاطون أنه عدالة القوى والغرائز في حد الإفراط والتفريط.

أما المقياس الخلقي عند الإمام الصدر فهو في إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة للوصول إلى رضا الله[5].

ويرى الشهيد المطهري أن الفعل الخلقي في الفعل الذي يكون هدفه تحصيل رضا الله تعالى سواء كان الأثر الذي ينشأ منه في هذه الدنيا هو إيصال النفع إلى الغير أو أي شيء آخر.[6]

المنهاج التربوي

يعني المنهج التربوي ۔ أي منهج ۔ بإعداد وتشكيل الفرد البشري منذ ميلاده وحتى الموت، في ضوء النظرية التي تحددها الجماعة القائمة على أمر التربية، والتي ينتمي إليها الفرد بهدف تحديد معالم شخصيته وفقاً لنظرية معينة تتفق وفلسفة هذه الجماعة من أجل تحقيق أهدافها الحياتية.

والمنهج التربوي يرتكز على محورين:

1 ۔ النظرية التربوية.

2 ۔ العملية التربوية.

  1. النظرية التربوية

إن النظرية عبارة عن نسق من الأفكار والافتراضات التي تتصل بميدان ما، والنظرية التربوية تحدد:

۔ حقيقة الوجود.

۔ والمصدر المعرفي للإنسان.

۔ والبناء السيكولوجي للإنسان.

۔ والقيم الخلقية.

  1. العملية التربوية

إن المربي أو الجماعة القائمة على أمر التربية في استخدامه للنظرية التربوية لإعداد وتشكيل الفرد يطلق عليه العملية التربوية، وتتألف من العناصر التالية:

1 ۔ المربي.

2 ۔ النظرية التربوية.

3 ۔ الفرد ۔ الأمة.

إن المنهج التربوي يرتكز في العادة على التصورات والرؤى لحقيقة الكون، حيث إن الأيديولوجية تحدد للفرد علاقاته بالعالم الموضوعي وارتباطه به، وتعطي القيمة الخلقية للسلوك وكونه سوياً أو غير سوي. وتعيّن الوسائل والميادين التي بها يتم إعداد الفرد وتنشئته.

ويسود عالم اليوم اتجاهان فكريان في تفسير حقيقة الكون، عليه قامت المناهج التربوية واختلف مدارسها، وهما:

1 ۔ الاتجاه المادي.

2 ۔ الاتجاه الإلهي.

الاتجاه المادي ونظريته التربوية

إن رؤى النظرية التربوية للاتجاه المادي في تفسيرها لحقيقة الوجود تعتبر أن المادة المحسوسة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهي السبب العام لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيه الشعور والإدراك، واعتبروا التجربة هي المقياس الأساس لتمييز الحقيقة، ورفضوا الإيمان بوجود خالق لم تتقدمه علة، ما دام ۔ في نظرهم ۔ مناقضاً لقانون العلية الذي استنبطوه من التجربة والاستقراء العلمي للكون.

وسادت المعرفة التجريبية القائمة على الحواس وتطبيقاتها التربوية في أوروبا، نتيجة الخصومة التي احتدّت بين الكنيسة وبعض العلماء، فالكنيسة كانت تخنق أنفاس العلماء وتنكّل بكل من يدعو إلى الإصلاح العلمي والاجتماعي من خلال إقامة محاكم التفتيش، فساقت للمحاكم (300000) عالم، وأحرقت منهم (32000) وكان منهم العالم الطبيعي (برنو) وقد نقمت منه آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وقد حكمت عليه المحكمة بالحرق حياً، وحكمت على آخر بالإعدام لقوله بحركة الأرض حول الشمس.[7]

أما المصدر المعرفي للإنسان، فإن الإنسان ۔ في نظرهم ۔ يولد خالياً من كل معرفة فطرية ويبدأ وعيه وإدراكه بابتداء حياته العملية، ويتسع علمه كلما اتسعت تجاربه، وتتنوع معارفه كلما تنوعت تلك التجارب، أما تفكير الفرد فإنه يعتمد على الطريقة الاستقرائية في الاستدلال بالصعود من الجزئي إلى الكلي.

أما الاتجاه السيكولوجي للإنسان، فلا يقرّ أصحاب الاتجاه المادي بأية قصدية متأصلة في طبيعة الفرد، وإن الإحساسات والمشاعر ما هي إلا مؤثرات يتلقاها الفرد من بيئته.

القيم الخلقية، إن القيمة الأخلاقية مصدرها المحيط، بعد أن أقرّت المدرسة بالنظرية المادية لحقيقة الكون، فإن السلوك المنحرف عن قيم المجتمع الخلقية سوف يعاقب عليه الفرد بالنقمة أو الضحك عليه، وهكذا يتعلم الفرد علم الأخلاق من مجتمعه، فهو يتعلم أن يكون شريفاً كما يتعلم أن يكون مهذباً؛ لأن مجتمعه يريد أن يكون كذلك.

والفرد في ظل مدرسة التربية الحديثة سوف يندفع إلى كل سلوك يوفّر له مصلحته الخاصة فقط، ما دام لا يقرّ بوجود حياة إلا الحياة المحدودة، فهو يجهد في اكتشاف دواء لعلاج آلاف المرضى متى ما وفّر له بيع الدواء الأرباح الطائلة، ومستعدّ لاكتشاف الأسلحة الكيمياوية والجرثومية لقتل الآلاف من الناس، حين توفّر له الأرباح الطائلة أيضاً، ففي كلا الأمرين لا يخرج السلوك عن القيم الخلقية في نظر الاتجاه المادي لمدرسة التربية الحديثة.

المدارس التربوية للاتجاه المادي

إن المدارس التربوية التي تبنّت الفلسفة المادية في تفسيرها للكون هي:

1 ۔ مدرسة التربية الحديثة.

2 ۔ المدرسة الماركسية.

1 _ مدرسة التربية الحديثة.

يعود استعمال مصطلح التربية إلى نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي مونتاي حامل لوائها[8]، وتعرّف التربية بأنها: تلاؤم الفرد مع القيم الأخلاقية التي يفرضها المحيط عليه، وتقرّ بنسبية الأخلاق، فلا توجد قيمة خلقية محددة لنوع من الممارسات والأفعال في نظرهم، وعلى هذا الأساس تكون العملية التربوية لأصحاب هذه المدرسة هي طرق ووسائل وليس منهجاً، وإن نجاح العملية التربوية يكمن في كمال الوسائل التي يستخدمها المربي من أجل التلاؤم مع المحيط وليس كمال المنهج.

أما غاية التربية في هذه المدرسة فهي لأصالة الفرد، حيث ترى أن لابد لوسائل التربية من أن تسخّر لخدمة الفرد ومصلحته، ونادوا بتحرر الفرد في المجال الشخصي والاجتماعي، وتعني الحرية الشخصية تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف ألوان الضغط والتحديد، وعلى هذا الأساس رفضوا سلطة الوالدين في الأسرة واقتصروا على تغذية الولد وحمايته من الموت فقط، ورفضوا سلطة المعلم في المدرسة وجعلوها في التوجيه من خلال اللاتوجيه واعتماد مقولة: دعه يعمل، حيث إن في النشاط الحر يمكن معرفة الولد ۔ في نظرهم ۔ ورفضوا الحكومة المتسلطة ودعوا إلى دولة مهمتها توفير حرية الفرد المطلقة.

أما التعليم فهو في سهر المربي (المعلم) على تفتّح الطفل فقط وليس فرض منهاج دراسي معين عليه، والمقصود بتفتّح الطفل ليس في استعداداته الفطرية بعد أن رفضتها في تصورها حول سيكولوجية الإنسان، بل في قدرته على التلاؤم والتبادل مع المحيط والواقع، ويرون أيضاً أنه يتحتم على التعليم أن يتخلص من البرامج والامتحانات كي يتحرر الطلاب وجدانياً[9]، ويعارضون العقوبة والمكافآت حيث إن الجزاء ينطوي على (سلطة) تفرضه في وقت يدعون فيه إلى التحرر المطلق، ويرى كارل رورجرز:

أن على الطلبة أن يتحرروا من قلقهم، ذلك القلق الذي ينتج خاصة من السلطة التي يمارسها المعلمون والتي نرضخ لها، وعندما يتخلص الطلبة من قلق الطاعة أو القيادة يستطيعون حينئذ القيام بالتبادل والتلاؤم مع المحيط؛ لأنهم متحررون[10].

التربية الكلاسيكية

إن التربية الحديثة قامت على أساس ردة الفعل على التربية الكلاسيكية التي يؤمن بها علماء القرون الوسطى في أوروبا، حيث إنهم كانوا يرون أن التربية عبارة عن تدريب الملكات أو إيجاد فضائل في الإنسان على شكل ملكات، حيث إن أثر التدريب على الولد كمثل أن تسحب غصن شجرة إلى الأسفل، ففي المرة الأولى لا يطاوعك ويرجع إلى مكانه بمجرد خروجه من يدك ولكنه بالاستمرار سوف يأخذ حالته الجديدة ويستقر عليها، وكذلك الولد بالتدريب يمكن إلزامه الفضيلة، والفضيلة ۔ في نظرهم ۔ هي الخضوع والطاعة للكنيسة، والتدريب ۔ في العادة ۔ يحتاج إلى قوة متسلطة انعكست في عمليتهم التربوية في ضرورة أن يمثّل الوالدان والمعلم والحكومة القوة المتسلطة.

والتعليم في نظر هؤلاء نوع من التدريب أيضاً، يكفي الطالب فيه الانتباه والاجتهاد، ويدعم نظام التعليم بالعقوبات الصارمة والمكافآت لمساعدة الطلاب على اكتساب الملكات، فإذا عجز المربي عن تدريب الولد من استخدام الإجبار والضغط فهذا يعني أنه ۔ المربي ۔ أمام إرادة سيئة يجب سحقها.

والمجتمع الذي ينضوي في عضويته أفراد لم يكتسبوا الفضائل لتسلط الأفكار الاستحواذية عليهم فهم يتعرضون للضرب أو الرجم أو الحرق؛ لظنّ المربين أن هؤلاء قد تسلطت على أرواحهم الشياطين، وحتى يبينوا للأرواح الشريرة التي دخلت أجسادهم أن جسده ليس بالمكان المريح لهم، وكانوا رجال الكنيسة يقومون عادة بهذه الأعمال لظن الناس بأنهم أكثر قداسة للقيام بهذه الأعمال.[11]

2ـ المدرسة الماركسية

إن المدرسة الماركسية تشترك مع مدرسة التربية الحديثة في تصورها المادي للحياة وتمتاز عنها بنظرة فلسفية للوجود، وتختلف عنها في جوانب تربوية أخرى. فالأخلاق في نظر الماركسية هي تضحية الفرد بمصالحه الذاتية ومكاسب حياته المادية المحدودة في سبيل المصلحة العامة، حيث يعتقد علماء التربية لهذه المدرسة أن حب الفرد لذاته ليس ميلاً طبيعياً وظاهرة غريزية في النفس، وإنما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية.

إن العملية التربوية لأصحاب هذه المدرسة يتمحور حول محو الدافع الذاتي في الفرد وحبّه لمصالحه الخاصة، وتحويله إلى حب الجماعة ومصالحها، ومن أجل إنجاح العملية التربوية هذه احتاجوا إلى ضرورة أن تحتكر الدولة جميع وسائل الإنتاج وإدارتها وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وحتى يمكن للدولة أن تقوم بهذا الأمر، فلابد أن تتمتع بقوة متسلطة تمسك بزمام المجتمع بيد حديدية حتى يزول في الفرد تفكيره الذاتي وحبه لمنافعه، والذي هو إرثه من النظام الرأسمالي ۔ حسب تصورهم ۔ حينما تحلّ المعجزة بالقضاء على حب الذات من خلال إلغاء الملكية الفردية، وتحويله إلى حب الجماعة، حينذاك تمحى الدولة وكذلك العائلة بعد أن استنفذت أغراضها التربوية في استخدام القوة بإلغاء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج.

الاتجاه الإلهي

إن أصحاب الاتجاه الإلهي يقرّون في نظرتهم للكون بأن وراء العالم المحسوس وغير المحسوس خالق. وإن المصدر المعرفي للإنسان هو أن الإنسان تولد معه مجموعة من المعارف الضرورية أو البديهية التي تذعن لها النفس دون أن تطالب بدليل أو برهان على صحتها، مثل مبدأ العليه، وأن كل معلول لا ينفك عن علته، وعدم اجتماع النقيضين، وأن النتائج تأتي من مقدمات، وكل متغير حادث، كما وأن هناك معارف نظرية تستند إلى المعارف الضرورية في الحكم على صحتها مثل أن المادة حادثة.

البناء السيكولوجي للإنسان

يرى علماء المسلمين أن في الوجود الإنساني جانب أصيل يتميز به عن المخلوقات الأخرى فلا يقبل التغيير، بل يقبل التنمية أو التهذيب وهو الفطرة، واختلفت مدرسة أهل البيت عن مدرسة الخلفاء في تحديد طبيعة البشر ونسبتها إلى كل من الخير والشر، فمدرسة أهل البيت تذهب بالقول إلى أن طبيعة البشر فطرت على الخير ولا تصير إلى الشر إلا بانحرافات وتغطيات راجعة لإرادة الفرد نفسه، حيث إن فطرته تدفعه نحو كماله وسعادته، أما مدرسة الخلفاء فهي ترى فيه ثنائية للخير والشر.

أما المسيحية فترى أن طبيعة الفرد شريرة تبعاً لخطيئته الأصيلة ۔ أكل التفاحة في الجنة ۔ وأن خلاصه يكمن في التخلي والخضوع والتوبة، ولا يمكن إلا باستخدام القوة لترسيخ القيم والمعارف التي تنفر منها طبيعته المنحلّة، وأن بيت المترهبين أفضل مؤسسة لذلك؛ لأنهم يروّضونه جيداً.

القيم الخلقية

إن السلوك السوي ۔ حسب نظر أصحاب الاتجاه الإلهي ۔ على اختلاف أفكارهم وعملياتهم التربوية لا يتعدى الأفعال التي يتوسّم الفرد فيها رضا الله سبحانه.

المنهاج التربوي عند علماء المسلمين القدامى

يعتقد العلماء القدامى ۔ كما اعتقد أفلاطون ۔ بأن النفس لها أربع قوى:

قوة عقلية ملكية: بها يدرك الحقائق ويميّز بين الخير والشر ويأمر بالأفعال الخلقية وينهى عن الأفعال الذميمة.

قوة غضبية سبعية: تدفعه نحو الغضب حين تتمرد القوة الشهوية والوهمية على أوامر القوة العاقلة، وقد تدفعه أيضاً نحو السبّ والضرب والاعتداء على الآخرين.

قوة شهوية بهيمية: بها يندفع نحو المأكل والمشرب والجنس، وفائدتها بقاء البدن لأجل الحصول على الكمال.

قوة وهمية شيطانية: وبها يدرك المعاني الجزئية ويستنبط الحيل والمكر للوصول إلى الأهداف والمقاصد السليمة، أو يحتال ويخادع الآخرين.

والتربية ۔ في نظر أولئك ۔ تتمحور في الالتزام بالفضيلة التي هي حد الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، على شكل سجية أو ملكة، وما لم تكن الفضيلة على صورة سجية فهي حالة وليست فضيلة؛ لأنها أمر زائل، فلابد أن تكون ملكة ليغدو زوالها أمراً صعباً.

ويرون أن النفس في القوة العقلية تشارك الملائكة، وفي القوة السبعية تشارك السباع، وفي القوة البهيمية تشارك البهائم، وفي القوة الوهمية تشارك الشياطين.

والسلوك الصادر من تلك القوى يجعل الإنسان يشارك أصحابها، بل إن غلبة سلوك معين في مناشط حياته يجعله منتمياً إلى ذلك النوع، فلو غلبت السلوكيات الشهوية كالأكل والشرب والجماع كان بهيمياً في الجوهر وإنساناً في المظهر، وإن غلبت سلوكيات القوة الغضبية حيث يسعى بكل جهده نحو المناصب والوجاهات أو يشتم ويعتدي على الآخرين كان سبعاً في الجوهر وإنساناً في المظهر وهكذا. وإن كانت القوة العاقلة هي الغالبة في سلوكه كان في عداد الملائكة.

والعقل يأمر القوى الثلاث على الاقتصار بقدر الضرورة، بأن يكتفي من الغداء بما يحفظ وجوده، ومن الجماع على يحفظ نوعه ونسله، وهكذا يأمر العقل بالاعتدال على حد الوسط وهي الفضيلة، فالشجاعة فضيلة وهي حد الوسط بين التهور والجبن، والعفة فضيلة وهي حد الوسط بين الشره والجوع، ولو استجابت القوى الثلاث لإشارة العقل صلحت النفس <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها>، وإذا لم تستجب القوى لأوامر العقل، تهلك النفس <وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها>.

والإنسان هو المربي لنفسه ۔ في نظرهم ۔ بالاجتهاد في امتلاك الفضائل التي هي الأوساط بين حد الإفراط والتفريط، على شكل سجية أو ملكة، جاء في التنزيل <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا>[12]، يقول (ابن مسكويه) وهو أستاذ في علم الأخلاق:

إني تنبهت عن نوم الغفلة بعد الكبر واستحكام العادة، فتوجهت إلى فطام نفسي عن رذائل الملكات وجاهدت جهاداً عظيماً حتى وفقني الله لاستخلاصها عما يهلكها، فبادروا إلى تهذيب نفوسكم قبل أن يصير الرئيس مرؤوساً والعقل مقهوراً فيفسد جوهركم وتمسخ حقيقتكم.[13]

وأخيراً فإن العملية التربوية عند القدامى تنحصر بتشكيك السجية.

وعند علماء أوروبا الحديثة تتمحور في مقولة (دعه يعمل) بإطلاق الحرية الشخصية، فلا ينبغي أن تتحكم به أي قدرة وقوة، والتعويد في نظرهم قوة تسلب حريته، يقول (روسو) في كتاب (إميل) ناقداً نظام الملكات التربوي: (إن الطفل يأتي أسيراً ويخرج منها أسيراً).

والتربية في نظر علماء أوروبا الوسطى هي في اكتساب الفضائل ورسوخها فيه على شكل ملكة، واختلفوا مع النظام التربوي عند علماء المسلمين القدامى في مفهوم الفضيلة فقط.

والتربية في النظام الاشتراكي الماركسي هي في إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ ولذا احتاجت عمليتهم التربوية إلى قوة متسلطة تلغي الملكيات الفردية لتصورهم بأنها السبب في ظهور حب الذات، إرثه من النظام الرأسمالي.

وللإمام الصدر رؤيته الخاصة في التربية، نأتي إليها في الفصل القادم إن شاء الله.

الإمام الصدر ومنهاجه التربوي

تمهيد

هناك اتفاق على أن العالم كله يواجه أزمة تربوية، تتخذ أشكالاً متعددة هنا وهناك، بل إن العالم المتقدم يعاني من تلك الأزمة بصورة أشد، حيث تزداد الهوّة بين حجم المعارف العلمية المتيسرة ومقدار ما تحققه تلك المعرفة من سعادة وسمو أخلاقي وإنجازات إنسانية عالمية غير أنانية أو مدمّرة للإنسان، وما تشير إليه اتجاهات الفكر وأزمات الإنسان المعاصر تؤكد ميلاً واتجاهاً ناقداً لإطار الفكر الغربي والشيوعي ۔ على حد سواء ۔ والتبشير بحلول تحاول التخفيف من قهر الإنسان في ظل حضارة مادية، حصرت الإنسان في الإنتاج وقوى الإنتاج، بل ودراسة الإنسان نفسه كمادة.

ومن هنا تبدو الحاجة ماسة وقائمة لأي عمل تربوي رشيد، بهدف الارتقاء بالإنسانية روحياً ومادياً… ومع الأسف أننا لا نكاد نجد ولحد الآن عند أغلب مفكرينا التربويين ۔ مع قلتهم ۔ نزعة للخروج من أسر النظرة المعرفية المادية، في محاولة لبناء نظرية تربوية تنسجم مع الإطار المعرفي الأيديولوجي الإسلامي، وتنسجم مع الإنسان المعاصر ومع معطيات الأمة الإسلامية… وإذا كنا بحاجة إلى الاستفادة من منجزات الأمم العلمية والتقنية ۔ كما يرى روّاد المجتمع المدني ۔ فإننا غير ملزمين بالأخطاء التربوية التي وقعت فيها والتي أنتجت الإنسان ذو البعد الواحد والإنسان المستهلك والإنسان المغترب.

إن الخروج بنظرية معرفية تربوية أصيلة ضرورة باتت حضارية وشرعية حتى نستطيع على ضوئها بناء الأفراد والمجتمع الصالح، ويمكن على ضوئها تقويم المناهج التي تقدّم للناشئة، وبها يمكن ممارسة عملية النقد للمناهج المادية المختلفة.

إن من خلال استقراء كتب الإمام الصدر يتلمس الباحث عن علم التربية ومنهجه الأصيل نفحات هنا وهناك، يمكن جمعها والخروج بها كمنهج تربوي يحتاج إلى كثير من التأمل والمناقشة في التخصصات العلمية المتعددة، لقصوري من استيفاء المطالب العلمية الدقيقة التي زخرت بها كتبه الشريفة والله من وراء القصد.

لقد مر بنا آنفاً أن المنهاج يرتكز على محورين أساسيين هما:

1۔ النظرية التربوية.

2۔ العملية التربوية.

1ـ النظرية التربوية

يرى الإمام الصدر[14](قده) أن مسألة تكوين مفهوم عام عن العالم يحتلّ مركزاً رئيساً في العقل البشري، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به، وأن من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية مبدأ العلية القائل إن لكل شيء سبباً، وهو من المبادئ العقلية الضرورية، وإن سر احتياج الأشياء إلى أسبابها هو أن الحقائق الخارجية التي يجري عليها مبدأ العلية ليست في الواقع إلا تعليقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوّم لكيانها ووجودها، ومن الواضح أن الحقيقة إذا كانت حقيقة تعليقية ۔ أي كانت عين التعلق والارتباط ۔ فلا يمكن أن تنفك عن شيء تتعلق به وترتبط به ذاتياً، فذلك الشيء هو سببها وعلتها؛ لأنها لا يمكن أن توجد مستقلة عنه.

المصدر المعرفي للإنسان

ويرى الإمام الصدر أن المصدر المعرفي للإنسان ليس التجارب الخارجية كما يرى الفلاسفة الماديون، فالعلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون إقامتها على أساس التجربة الخالصة هي بنفسها تحتاج إلى أصول عقلية أولية سابقة على التجارب. وليس الحجر الأساسي للمعرفة هو المعلومات والمعارف العقلية الأولية كما يرى العقليون؛ حيث إن المعلومات الأولية إذا كانت عقلية ضرورية فكيف يمكن أن يفسر عدم وجودها مع الإنسان منذ البداية وحصوله عليها في مرحلة متأخرة عن ولادته.

ويرى(قده)[15] أن النفس الإنسانية تنطوي بالقوة على تلك المعارف الأولية التي يراها العقليون وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.

البناء السيكولوجي للإنسان

يرى الإمام الصدر أن حب الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، وحب الذات يعني حبه للذة والسعادة لنفسه وبغضه للألم والشقاء لذاته. وحب الذات يدفع الإنسان إلى نشاطات مادية الفائدة منها حفظ وجوده، ويشترك بذلك مع نشاطات الحيوان.

وحب الذات أيضاً يدفعه نحو نشاطات معنوية الفائدة منها الوصول إلى الكمال. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة، مادية كالتذاذه بالطعام والشراب، أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي.

وهذه الاستعدادات التي تهيّء الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة تختلف درجاتها عند الأشخاص وتتفاوت في مدى فعليتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل التربية التي تؤثّر فيه، فبينما نجد أن بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد أن ألواناً أخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان وتنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها، وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادت، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية، الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً ولم تتم له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية فأصبح يلتذّ بالقيم الخلقية ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلها[16].

القيم الخلقية

يرى الإمام الصدر أن المقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال إنما هو بمقادر ما يقدّم الفرد من المصلحة العامة على المصلحة الفردية الخاصة ابتغاءً لوجه الله[17]، يقول(قده):

وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان؛ لأن كل عمل من أجل الله فإنما هو من أجل عباد الله، لأن الله هو الغني عن عباده، ولمّا كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيّز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك.[18]

2ـ العملية التربوية

إن التربية في منظور الإمام الصدر هي تنمية الاستعدادت المعنوية الإنسانية وإخراجها من القوة إلى الفعل، والمربي الذي يتم تعيينه من قبل الله، الوحيد القادر على التنمية، فيما لو قدّم الفرد له الطاعة والتسليم المتمثل بعبادة التولي والتبري، ونشير إلى العملية التربوية بشيء من التفصيل، ونبتدئ بمعرفة (النفس الإنسانية) التي هي موضوع العملية التربوية في رأي الإمام الصدر حيث يقول(قده): (متى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً، يجب أن نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات)[19]، أما موضوع التربية عند أصحاب الاتجاه المادي فهو (السلوك).

حب الذات

كل إنسان يسعى نحو نيل اللذة وتجنب الألم بدافع حب الذات، فاللذة للإنسان كالماء للعطشان ينشدها أينما كان ويبذل للوصول إليها ما بوسعه من طاقة وجهد، وعلى هذا الأساس نجد فرداً يضع حداً لحياته بالانتحار إذا وجد أن تحمّل ألم الموت أسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.

اللذة والألم

ويرى الإمام الصدر أن الإنسان يعيش الحاجة إلى أمور مختلفة، مجموعة من تلك الحاجات لا تتغير ولا تتبدل على مر الزمان وتغيّر المكان مثل الحاجة إلى الطعام والماء.. إلى آخره. ومجموعة من الحاجات تتغير وتتبدل حسب الزمان والمكان كالحاجة إلى الكهرباء والشاي.

والحاجات الثابتة نوعين: الحاجات العضوية (البيولوجية) وهي الحاجات المادية المشتركة مع حاجات الحيوان كالحاجة إلى الطعام والجنس والهواء والنوم.. إلى آخره.

الحاجات المعنوية الإنسانية (السيكولوجية) وهي التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، مثل الحاجة إلى الاطلاع والمعرفة والحاجة إلى المحبة والحاجة إلى الاحترام وإلى الانتماء.. إلى آخره.

كما وأن شعور الفرد باللذة مصدره إرواء الحاجات المختلفة. وأن شعوره بالألم مصدره عدم إرواء حاجاته المختلفة.. مثل:

إرواء الحاجة إلى الطعام ! لذة الشبع

إهمال الحاجة إلى الطعام ! ألم الجوع

إرواء الحاجة إلى الاحترام ! لذة العزة

إهمال الحاجة إلى الاحترام ! ألم الذلة

كما وأن إرواء الحاجات العضوية (المادية) مفيد في توفير البقاء، وأن إرواء الحاجات المعنوية مفيد في توفير الكمال. وحب الذات يدفع بالإنسان نحو توفير البقاء والكمال معاً ما دامت في إرواءها تتحقق اللذة وفي إهمالهما يتحقق الألم.

ومن الجدير ذكره أن الإنسان لو تخير بين لذتين، كلذة الشبع أو لذة العزة.. وبين ألمين كألم الجوع أو ألم الذلة.. فإنه سوف يختار لنفسه اللذة في أعلى مراتبها وهي السعادة، ويتجنب الألم في أشد درجاته وهو الشقاء، والشعور باللذة والألم يتعلق بنمو الحاجات في النفس.

نمو الحاجات في النفس

إن الحاجة إلى الطعام تنمو في النفس قبل نمو الحاجة إلى الجنس الآخر، والحاجة إلى الأمان تنمو في النفس قبل الحاجة إلى الانتماء… وبشكل عام فنمو الحاجات العضوية يسبق نمو الحاجات المعنوية، بل بالأحرى أن نمو الحاجات العضوية (المادية) تنمو كالنباتات البّرية بعكس الحاجات المعنوية (الإنسانية) فهي لا تنمو إلا بالرعاية والعناية مثل النباتات المنزلية التي تحتاج إلى فلّاح يرعاها ويتعهدها بالتنمية، وكذلك الحاجات المعنوية… ولكن الإنسان يجهل في بادئ الأمر أن نمو حاجاته المعنوية تحتاج إلى (مربي) يتعهدها بالتربية والتنمية.

أثر السلوك في نيل اللذة وتجنب الألم

إن الإنسان وجد أن شعوره بالحاجة ۔ ومصدره نمو الحاجة في نفسه ۔ ضروري في دفع الجوارح وتحريكها للقيام بعمل ما الهدف منه إشباع تلك الحاجة لنيل اللذة وتجنب الألم، فإن إزاء كل حاجة دافع نفسي، وأمام كل دافع نفسي سلوك[20] مثل:

الحاجة إلى الطعام ! دافع الجوع ! تناول الطعام ! لذة الشبع

الحاجة إلى الماء ! دافع العطش ! شرب الماء ! لذة الارتواء

الحاجة إلى الاطلاع والمعرفة ! دافع معرفة الحقيقة ! طلب العلم ! لذة العلم

الحاجة إلى الاحترام ! دافع احترام الذات ! الجهاد ! لذة العزة

فإن السلوك ضروري لنيل اللذة وتجنب الألم، فوجود الطعام قرب الجائع لا فائدة منه في دفع ألم الجوع والشعور بلذة الشبع إلا بتناول الطعام (السلوك) وكذلك في كل إدراك أو شعور بالحاجة سواء كانت مادية أو معنوية. وما دام الإنسان يندفع بغريزة حب الذات إلى النشاط أو السلوك الذي يوفّر له اللذة في أعلى مراتبها ويبتعد عن الألم في أشد درجاته، ولأن إرواء الحاجات المادية وحدها لا لذة فيه بدون إرواء الحاجات المعنوية، فالإنسان يشعر بالضجر والسأم في حياته فيما لو انفرد بإرواء حاجاته المادية وتوفّر له البقاء، لذا يسأل لماذا خُلقت، لماذا نعيش؟

أما لو توفّر له إرواء حاجاته المعنوية وحصل على الكمال، فلا يشعر بالضجر ولا تتبادر في ذهنه تلك الأسئلة، ما دام قد حصل على اللذة المنشودة، ولكن معرفة السلوك الذي يروي الحاجات العضوية سهل ومتيسر، فلا يختلف بنو البشر فيه، فالجميع يأكل ويشرب وينام و… ولكن معرفة السلوك الذي يروي الحاجات المعنوية، كيف السبيل إليه؟

إن دافع الحاجة إلى الاطلاع والمعرفة أو ما يسمّى بدافع معرفة الحقيقة، هو أول دافع يستيقظ في الطفولة الباكرة من الدوافع المعنوية، ولقد اكتشف علماء النفس ومن بينهم العالم السويسري (بياجيه)[21] أن الطفل بين الشهر الخامس والسابع يقوم بإزاحة الغطاء عن وجهه ليطّلع على ما حوله، ويقوم بين الشهر الثامن والعاشر بالبحث عن شيء مخفي تحت الستار أو في الدولاب، وفي الشهر الحادي عشر يقوم بوضع الأشياء في أماكن متعددة ليعود ويبحث عنها فيما بعد، وفي الرابعة من العمر تظهر الحاجة إلى الاطلاع والمعرفة على شكل الأسئلة اللامتناهية عن الأشياء، فهو يسأل من أين أتيت ومن صنعني؟ وهكذا الحال في أبناء الخامسة. أما ابن السادسة فيبدأ بنفسه اكتشاف القدرة الإنسانية وهو يستوعب معنى أن تكون هناك قوة قد صنعته مثلما قالوا له في سن الرابعة، وفي سن السابعة يكون أكثر نضجاً، فهو يسأل ويطالب بمزيد من البراهين[22].

وفي بلوغه مرحلة المراهقة وهي محطة تحوّل كبرى في حياته المعنوية، فالمراهق غير مستعد لقبول المعتقدات الموجودة عند والديه والمحيطين حوله قبولاً أعمى[23]، بل يبدأ بالبحث بنفسه عن حقيقة وجوده وارتباطه بالكون وعن أجوبة تساؤلاته الفطرية: من أين وإلى أين ولماذا نعيش، وهذه هي الحركة الجوهرية التي هي الأساس في معرفة الإنسان كما بيّنا سابقاً في نظر الإمام الصدر.

ومن خلال السير الفكري في الوجود يكتشف الفرد أن وجوده هو تعلّق وارتباط بالعلة الموجودة له[24] ويكتشف الحقيقة المطلقة، ولكن البعض لا يتوصل إلى معرفة علة وجوده، والسبب في رأي الإمام الصدر[25]:

1 ۔ الحكومة الطاغوتية المتسلطة باستخدامها أساليب التضليل والخداع عبر وسائل الإعلام والتعليم، حيث يفقد الفرد حريته الفكرية واستقلالية عقله وينخرط مع تفكير الدولة القائمة، جاء في التنزيل: <وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا>.[26]

2 ۔ العادات الاجتماعية التي تعطي للفرد أفكاراً معلّبة جاهزة بديلة عن النتائج التي من المفروض أن يتوصل إليها عبر عملية التفكير؛ ذلك لأن المجتمع عقلاً جميعاً يسيطر على أفراده، جاء في التنزيل: <إذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ>.[27]

إن الفرد يسعى بفطرته نحو نيل اللذة وتجنب الألم، وحين يجد نفسه عاجزاً عن إرواء حاجاته المعنوية لنيل اللذة ودفع الألم في عدم إروائها يلجأ إلى قوة تحقق له الإرواء ولو بشكل نسبي، فالعطشان يندفع إلى شرب الماء الآسن إذا افتقد الماء الزلال، تقول عالمة النفس دوريس أورلم:

إن الكثير من الناس يفضّلون عدم التفكير في الدين إطلاقاً ويرضيهم فيها يبدو أن يعيشوا على سطح الحياة فقط، ومع ذلك فإنهم إذا ما واجهوا أزمة لجأوا شاعرين أو غير شاعرين إلى قوة خارقة لتقدّم لهم العون والحماية، ولقد قيل بحق: إنه لو لم يكن الله موجوداً لدفعت الإنسانية حاجاتها إلى اختراع إله.[28]

إذن الحاجة إلى الاطلاع والمعرفة يكون دافعه البحث عن الحقيقة، وتكون هذه الحقيقة على نوعين: حقيقة مطلقة وهي الذات المقدسة (الله)، وحقيقة نسبية وهي تتمظهر في الحزب أو العلم أو العشيرة أو الحاكم.[29]

إن السىر الفكري الذي يوصل الإنسان إلى معرفة الحقيقة المطلقة وهو الله، سوف يجد الله عنده ما يحتاجه لبلوغ السعادة وتجنب الألم، وهو الهدف الذي ينشده كل إنسان بفطرته وهو حب الذات كما بيّنا سابقاً.

لقد ذكرنا آنفاً أن الحاجة تدفع الفرد نحو سلوك الغرض منه إشباع تلك الحاجة، وإذا كان الفرد قد استفاد من علوم وتجارب بني البشر في معرفة السلوك الذي يروي الحاجات العضوية لبلوغ لذة البقاء، لكنه متحير.

في معرفة السلوك الذي يروي حاجاته الإنسانية أو المعنوية لبلوغ لذة الكمال، فالفرد لا يقف مكتوف اليد أمام آلامه النفسية في الجهل بإرواء حاجاته المعنوية؛ لذا يندفع نحو قوة حقيقية أو نسبية تتكفل له بتحديد السلوك الذي يروي به حاجاته، هذا السلوك المستمد من الله أو العشيرة أو الحزب أو العلم أو الحاكم… والفرد الذي وجد الحقيقة المطلقة بسيره الفكري سوف يقف متسائلاً عن السلوك الذي يحدده الله له، وسوف يحده عند المربي الذي تم تعيينه من قبل الله سبحانه وهو (ولي الأمر)، وبهذا الشكل رفض الإمام الصدر مقولة الأصولي (قبح العقاب بلا بيان)، فالفرد لا يقف منتظراً للسلوك الذي يحدده الله له، بل يندفع بالسؤال عن السلوك المحدد، ما دام السلوك ضروري لنيل اللذة وتجنب الألم كما تبيّن لنا آنفاً، وبهذا الشكل تبتدئ العملية التربوية بتحديد السلوك.

أثر السلوك في التنمية

إن السلوك الذي عيّنه الله سبحانه لإرواء الحاجات المعنوية يتمثل في أمرين حسب منظور الإمام الصدر:

1 ۔ مسؤولية الخلافة.

2 ۔ العبادات المفروضة.

1 _ مسؤولية الخلافة

إن الخلافة مسؤولية شرّف الله بها الإنسان على الأرض واستحق بذلك أن تدين له بالطاعة كل قوى الكون المنظور وغير المنظور[30]. جاء في التنزيل: <أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ>[31]، وجاء أيضاً: <وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ>.[32]

والخلافة تعني مسؤولية إعمار الأرض اجتماعياً وطبيعياً، ومن أكبر مصاديق إعمار الأرض اجتماعياً مواجهة الظلم والاستبداد والقهر وإقامة العدل والتسلط، جاء في الوصية العلوية: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً).

ويقرّ علماء النفس بأن الفرد يجد في تحمل المسؤولية قيمة ذاته ووجوده الإنساني، بشرط أن تكون المسؤولية غير مفروضة عليه وله حرية الاختيار، فلا تكون مثل مسؤولية الحيوانات والأجراء والعبيد، ولابد أن تكون ملائمة لطبيعته الإنسانية.

يقول الإمام الصدر:

إن المسؤولية ۔ الخلافة ۔ تعني أن الإنسان كائن حر، إذ بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يستنتج من جعل الله خليفة على الأرض أنه يجعل الكائن الحر المختار الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يحدد ما يحققه من هذه الإمكانات.[33]

والخلافة مسؤولية ملائمة لطبيعته الفطرية؛ لأن فيها خدمة البشرية، فالفرد لا يشعر بإنسانية إلا من خلال القيام بعمل ترجع فائدته لمصلحة المجتمع.

والفرد لا يمكنه القيام بمسؤولية الخلافة التي تروي الحاجات المعنوية إلا من خلال طاعة المربي ۔ ولي الأمر ۔ للأحكام الولائية، فولي الأمر مرجع للأحكام الشرعية والولائية، إضافة إلى الفكرية ۔ كما سيأتي بيانه ۔ فمواجهة الظلم ونصرة المستضعفين واجبة على كل مكلف، ولكن تفصيلات المواجهة والتخطيط لها، وهل الأفضل في هذا الوقت المواجهة مع هذا الظالم أم هذا، وهل نصالح اليوم أم نواجه من أجل إعلاء كلمة الله؟ وكل هذه التفصيلات لابد من الرجوع إلى قيادة سياسية واجتماعية تمثّلت في (ولي الأمر) وهو المربي في رأي الإمام الصدر[34].

كما أن تحمل مسؤولية الخلافة سلوك ينمّي الدوافع المعنوية أيضاً، يقول الإمام الصدر:

إن السلوك وفقاً لغريزة أو ضدها هو الذي ينمّي تلك الغريزة ويعمّقها أو يضمرها ويخنقها، فبذور الهمة والشفقة تموت في نفس الإنسان من خلال سلوك سلبي وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين.[35]

إن تحمل مسؤولية الخلافة تحقق في ذاته ۔ الفرد ۔ صفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له، وهي مؤثرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة، فقد جاء في الحديث الشريف: (تشبّهوا بأخلاق الله)[36].

وكلما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسّد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظالم والجبروت، سجل بذلك انتصاراً في مقاييس الخلافة الربانية، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي إلا بانتهاء شوط الخلافة على الأرض[37].

<يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ>.[38]

ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين: أحدهما الجهاد الأكبر من أجل أن يكون المستضعفون أئمة وينتصروا على شهواتهم ويبنوا أنفسهم بناءً ثورياً صالحاً.. . والآخر الجهاد الأصغر من أجل إزالة المستغلين والظالمين عن مواقعهم، وتسير العمليتان في ثورة الأنبياء جنباً إلى جنب، فالنبي ينتقل بأصحابه دائماً من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر، بل إنهم يمارسون الجهادين في وقت واحد[39].

2 _ العبادات المفروضة

يرى الإمام الصدر أن العبادات تقوم بدور كبير في تربية الفرد وقدرته على تحمل مسؤولية الخلافة؛ لأن العبادات أعمال يقوم بها الإنسان من أجل الله ولا تصحّ إذا أداها العابد من أجل مصالحه الخاصة، ولا تسوغ إذا استهدف من ورائها مجداً شخصياً وثناءً اجتماعياً وتكريساً لذاته في محيطه وبيئته، بل تصبح عملاً محرّماً يعاقب عليه العابد؛ كل ذلك من أجل أن يجرّب الإنسان من خلال العبادة الإحساس بالمسؤولية وتجاوز الذات، فيأتي العابد بعبادته من أجل الله سبحانه وفي سبيله، وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الناس؛ لأن كل عمل من أجل الله إنما هو من أجل عباد الله، فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً، وكلما جاء سبيل الله في الشريعة أمكن أن يعني ذلك تماماً سبيل الناس أجمعين، وقد جعل الإسلام أحد مصارف الزكاة وأراد به الإنفاق لخير الإنسان ومصلحته، وحثّ على القتال في سبيل المستضعفين من بني الإنسان وسمّاه قتالاً في سبيل الله.[40]

المربي

إن المربي القادر على تنمية الاستعدادات والدوافع الإنسانية المعنوية هما:

1 ۔ الوالدان: ويكون تأثيرهما في الأبناء في مرحلة الطفولة الأولى، والتي تمتدّ منذ الزواج وحتى سن السابعة من العمر، تأثيراً كاملاً فيما لو امتلكا الوعي بالأساليب التربوية، ثم يضعف تأثيرهما التربوي على الأبناء بعد السابعة من العمر شيئاً فشيئاً، حتى يتوقف عن سن الواحد والعشرين، جاء في النصوص الشريفة: (احمل صبيّك تأتي عليه ست سنين، ثم أدّبه في الكتاب ست سنين، ثم ضمّه إليك سبع سنين فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح وإلا فخلِّ عنه).

2 ۔ ولي الأمر: تبيّن لنا آنفاً مسؤولية تساهم وبشكل كبير في تنمية الاستعدادات الإنسانية المعنوية.

فالمسؤولية سلوك يندفع إليه الفرد عادة لإرواء الحاجة لبلوغ اللذة، فالسلوك الملائم للطبيعة الفطرية هو الذي ينمّي الغريزة ويعمّقها لتظهر في شعوره وبشكل أشد مما كانت عليه من جهة، ويبلغ اللذة في إرواء حاجته من خلال ذلك السلوك.

ولأهمية الخلافة، ومن أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة، وهي التشبّه بأخلاق الله من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له[41]، كان لابد من التدخل الرباني لتوجيه الإنسان وهديه، وإلا كان خلقه سبحانه عبثاً، يقول الإمام الصدر:

إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل.[42]

هذا التدخل الرباني تمثّل بتعيين المربين الذين لا تخلو الأرض منهم وهم:

1 ۔ الأنبياء صلوات الله عليهم

2 ۔ الأئمة الذين يعتبرون امتداداً ربانياً للنبي في العملية التربوية.

3 ۔ الولي الفقيه الذي يعتبر امتداداً رشيداً للنبي والإمام في العلمية التربوية.[43]

والعملية التربوية يتمثل دورها المشترك بين أصناف المربين الثلاثة فيما يلي:

1 ۔ استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها.

2 ۔ الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها.

3 ۔ التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابىر الممكنة من أجل سلامة المسيرة.

إن أساس نجاح المربي في العملية التربوية ۔ حسب منظور الإمام الصدر ۔[44] في أن يتولى قيادة المجتمع، فيكون مقنّناً للمجتمع وفي كل الميادين، وهذا هو أسلوب التربية الشاملة الكاملة الذي اتجه إليه الإسلام.

النظام السياسي

إن الفرد سواءً أكان مدنياً بالطبع[45] أو تدفعه الحاجة إلى الاجتماع[46]، كان لابد من العيش في مجتمع كبير يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه، ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات، وقد يقيم معه علاقات بالحقول الأخلاقية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فالمجتمع ۔ في رأي الإمام الصدر ۔ أكثر تأثيراً في الفرد من أبيه الذي ولد منه، ولهذا قد يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد[47].

ومن هنا جاءت الحاجة إلى ضرورة تولي (المربي) زعامة المجتمع بنفسه حتى يمكن أن يستكمل الشرط الأساسي للتربية في نظر الإمام الصدر، ويقول الفيلسوف الأمريكي ديووي: (إن العمل السياسي ليس فعالاً إلا بقدر ما يكون تربوياً، أي بقدر ما يعدّل المواقف الفكرية والأخلاقية)[48]، وهذا ما صنعه رسول الله حيث أنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه، ووقف(ص) يخطّط لهذا المجتمع ويبني العلاقات داخل الإطار الاجتماعي، علاقته مع بقية أبناء مجتمعه، علاقته في مختلف المجالات والحقول الاجتماعية والشخصية.

ولا شك أن رسول الله(ص) لو كان قد امتد به العمر أو كان قد امتدت العملية التربوية من بعده على يد المعصومين من أهل بيته من أمير المؤمنين وأولاده، إذن لقدّر للتجربة والتربية أن تؤتي ثمارها بشكل عجيب، هذه الثمار نقرأها الآن بعنوان المعجزات والكرامات من أحوال الناس بعد ظهور الحجة(عج) وتلك المعجزات والكرامات ليست معجزات وكرامات وإنما هي نتيجة تربية، هل يمكن أن يبلغ المجتمع البشري إلى مستوى من التعاون والتعاضد، إلى مستوى من التوحد والترفع، بحيث يستغني عن النقد، عن التعبير المادي القاسي جداً في حياة الإنسان، الروايات وقعت تقول بأن هذا سوف يحدث في عهد الحجة، ونتيجة هذه التربية المخططة على يد الرسول(ص) ويد الخلفاء المعصومين من أهل بيته[49]، ولكن تهدّم بعد وفاة رسول الله(ص) عنصر مهم من عناصر العملية التربوية، وهو عنصر المربي من خلال هدم قيادته للمجتمع، يقول الإمام الصدر:

أنا لا أدري هل المسلمين وقتئذ كانوا يتصورون عمق هذا الانحراف بعد هذا؟ أكبر الظن أنهم لم يكونوا يتصورون، في بداية الأمر كانوا يتصورون أن المسألة مسألة انحراف في حكم من أحكام الله لا أكثر، إن الله تعالى قال اجعلوا علياً وهم جعلوا أبابكر، أما في باقي الجهات بقي الوضع على حاله، بقيت الصلاة على حالها، بقيت الزكاة تحببى، بقي الفقراء يعطَون من الزكاة، بقي كتاب الله يُقرأ في المساجد، بقيت الجماعات تقام ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً، بقي بيت الله الحرام يُحجّ إليه بعشرات الألوف، بقيت الجيوش، بقي المرابطون للجهاد يفتحون بلاد الله بلداً بعد بلد. إذن، لم يتغير شيء إلا أن شخصاً كان اسمه علي بن أبي طالب(ع) ۔ هو أفضل وأكمل وأعدل وأورع من أبي بكر ۔ أُقصي في المقام.. وجعل مكانه أبوبكر، لا أكثر من هذا المقدار.[50]

وأخيراً إن الدولة الإسلامية ۔ ونقصد بها النظام السياسي الذي يتولاه ولي الأمر ۔ تقوم بوظيفتين في مجال التربية حسب منظور الإمام الصدر:

1 ۔ تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطبعها.

2 ۔ مراقبته من خارج وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً[51].

التسليم

إن تأثير ولي الأمر التربوي على الفرد لا يتم إلا بالطاعة والتسليم، جاء في التنزيل: <فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً>.[52]

وعلى هذا الأساس اهتمت مدرسة أهل البيت بهذا الأمر، ونظّمت علاقة الفرد بولي الأمر من خلال عبادة التولي والتبري والتي هي على رأس العبادات التي تنظّم سلوك الفرد ومناشطه الحياتية، ومن لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وأيتم من اليتيم من انقطع عن إمامه، (ولو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان على الله جل وعز حق في ثوابه)[53].

غاية العملية التربوية

إن كل منهاج تربوي لابد أن يحدّد الغاية من عمليته التربوية هل للفرد أم المجتمع، وبمعنى آخر هل أن الفرد ومصالحه هو القاعدة في العملية التربوية أم المجتمع؟ واختلفت المناهج التربوية في تحديد الغاية بين الفرد والمجتمع.

إن العملية التربوية للإمام الصدر تتميز في التوازن بين المصالح الفردية والمصلحة الاجتماعية، فليس الفرد ومصالحه غاية العملية التربوية، وليس المجتمع ومصالحه هو الشيء الوحيد التي تنظر إليه العملية التربوية، وليس كل ما تفرضه المصلحة الخاصة جائز وخلقي، وكل ما تفرضه المصلحة العامة فهو واجب وضروري، بل المقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال إنما هو بمقدار ما يخدم الآخرين للوصول إلى رضا الله سبحانه، <إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً>.[54]

ويرى الإمام الصدر أن هناك تعارضاً بين المصالح الفردية والاجتماعية؛ لأن الفرد إنما يتحرك وفق غريزة حب الذات التي تدعوه إلى تقديم مصلحته الفردية على المصلحة الاجتماعية، غير أن هناك مصالح اجتماعية وأهداف عامة تخضع للمصلحة العامة التي يعود نفعها على الجماعة وبالتالي على الفرد باعتباره جزء منها، وهذه المصالح هي التي تحقق استقرار المجتمع.

وجاء الإسلام ليحلّ هذا التناقض الذي واجه الفرد من خلال الفهم الواقعي للحياة، فالإسلام ركّز وبشكل مستمر على التفسير الواقعي للحياة وإعطائها المظهر الصحيح واعتبار الحياة الدنيا ممر إلى حياة أخرى هي الحياة الواقعية، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن يعمل في هذه الدنيا للأخرى يربحهما جميعاً، والعمل في الدنيا لضمان الربح في الأخرى يتمحور حول الأعمال في سبيل الله، ووضع الله العمل في سبيله هو التعبير التجريدي ۔ في نظر الإمام الصدر ۔ عن السبيل لخدمة الإنسان؛ لأن كل عمل من أجل الله إنما هو من أجل الإنسان؛ لأن الله هو الغني عن عباده، ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص، لا قرابة له لفئة ولا تحيّز له إلى جهة، كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء، فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً[55].

وبهذا الشكل تم التوازن في العملية التربوية بين مصلحة الفرد والمجتمع، فالفرد ليس آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، والمجتمع ليس هيئة قائمة لحساب الفرد.

غاية التربية في العملية التربوية للمدرسة الماركسية

ترى هذه المدرسة أن المجتمع غاية عمليتها التربوية، وأن المقياس الخلقي للأعمال التي توفّر المصلحة العامة، وعليه تربّى الفرد على أن يدفع كل جهده للمجتع، فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته، ورأت العملية التربوية أن تتكفل الدولة بالقضاء على النزعة الفردية في الإنسان من خلال خنق أنفاس الرأسمالية بإعطاء الحكم الديكتاتوري للعمال.

ويردّ الإمام الصدر على هذه النظرية التربوية التي تتبنى فلسفة مادية للحياة ولا تعترف بالمثل والقيم المعنوية، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة، يقول الإمام الصدر:

لو أخذ الإنسان المادي يفكر تفكيراً اجتماعياً ويعقل مصالحه بعقلية جماعية وذابت في نفسه جميع العواطف الخاصة والأهواء الذاتية ولا يبقى في الميدان إلا العملاق الاجتماعي الكبير ۔ كما ترى العملية التربوية للمدرسة الماركسية ۔ ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادي الذي لا يؤمن إلا بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها إلا اللذة المادية يحتاج إلى معجزة، والشيوعيون ينتظرون اليوم الذي يقضي فيه المعمل على المصلحة الخاصة ويخلقه إنساناً مثالياً في أفكاره وأعماله وإن لم يكن يؤمن بذرّة من القيم المثالية والأخلاقية.

غاية التربية في العملية التربوية للمدرسة التربوية الحديثة في أوروبا

قامت هذه المدرسة على أن المقياس الخلقي للأعمال التي توفّر المصلحة الفردية، فالفرد فيها هو الغاية في التربية، وبأن مصالح الفرد الشخصية تكفل ۔ في نظرهم ۔ مصلحة الجميع، ويرون أن مهمة الدولة حماية مصالح الأفراد الشخصية ولا يجوز لها أن تتعدى حدود هذه المهام، ويرون أن المصلحة الشخصية تحقق المصلحة الاجتماعية، فإن الإنسان حيث يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية باعتباره جزء من المجتمع الذي سعى في سبيله، وحين ينقذ حياة شخص تعرض للخطر فقد أفاد نفسه؛ لأن حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للمجتمع فيعود عليه نصيب منها.

يقول الإمام الصدر[56] في الردّ على هذه التربية: تصور بنفسك إن كانت الدولة توفّر للفرد حرياته وتقدّسه بغير تحفّظ ولا تحديد، وأن المقياس العملي لكل فرد في الأمة هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة، فكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة العامة بالفرد كافياً لتوجيه الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخلقية؟ مع أن كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، وإذا اتفق إن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع فكثيراً ما يزاحم هذا النفع الضئيل الذي لا يدركه الإنسان إلا في نظرة تحليلية بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية، فيطيح في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي.. . فكما أن المصلحة الشخصية تدفع الفرد إلى بذل الجهد لاكتشاف دواء مرض خطير ينقذ بذلك الملايين من المرضى ليحصل على امتياز يتيح له أن يبيعه ويربح الملايين، ولكن من يضمن للمجتمع ۔ في ظل التربية هذه ۔ أن لا يكتشف وبنفس الدافع الفردي وسائل الدمار إذا وجد سوقاً تشتري فيه هذه الوسائل وتدرّ عليه بأرباح أوفر من ذلك الدواء؟

[1]. أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ص 120.

[2]. الشمس: 9 و10.

[3]. آل عمران: 164.

[4]. فلسفة التربية، أوليفيه ربُول، ترجمة جهاد نعمان، منشورات عويدات، 1986، ص 128.

[5]. فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار الكتاب الإسلامي، طهران 1410 ق ۔ 1981م، ص 45.

[6]. التربية والتعليم، الشهيد المطهري، دار الهادي، بيروت، 1413 ۔ 1993، ص 86.

[7]. التكامل في الإسلام.

[8]. التربية الحديثة، انجيلا ميديسي، ترجمة علي شاهين، منشورات عويدات، 1986، ص 14.

[9]. فلسفة التربية، 62.

[10]. م. ن، 67.

[11]. المدخل إلى علم النفس، عبد الرحمن عدس، الطباعة العربية لدار جون وايلي، 1986، ص 380.

[12]. العنكبوت: 69.

[13]. جامع السعادات، الشيخ النراقي، منشورات جامعة النجف، 1383 ۔ 1963، ج 1، ص 47.

[14]. فلسفتنا، ص 320.

[15]. م. ن، ص 88.

[16]. م. ن، ص 38.

[17]. م. ن، ص 42.

[18]. الفتاوى الواضحة، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1401 ۔ 1981، نظرة عامة في العبادات.

[19]. فلسفتنا، ص 38.

[20]. كيف نحصل على السعادة ونتجنب الألم، إلهام باقر، طهران 1999، ص 23.

[21]. المدخل إلى علم النفس، ص 198.

[22]. سلوك الطفل، فرانيسي ايلغ، ترجمة فاخر عاقل، دار طلاس، سوريا، 1992، ص 600.

[23]. رحلة عبر المراهقة، ص 234.

[24]. فلسفتنا، ص 319.

[25]. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ، ص 151.

[26]. الأحزاب: 67.

[27]. الأنبياء: 52 و53.

[28]. رحلة عبر المراهقة، ص 234.

[29]. الفتاوى الواضحة، نظرة عامة في العبارات.

[30]. م. ن، ص 13.

[31]. لقمان: 20.

[32]. البقرة: 34.

[33]. خلافة الإنسان، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1399 ۔ 1979، ص 17.

[34]. الفتاوى الواضحة، نظرة عامة في العبادات.

[35]. الفتاوى الواضحة، ص 713.

[36]. خلافة الإنسان، ص 21.

[37]. م. ن، ص 22.

[38]. الانشقاق: 6.

[39]. خلافة الإنسان، ص 40.

[40]. الفتاوى الواضحة، ص 267.

[41]. خلافة الإنسان، ص 21.

[42]. فلسفتنا، ص 48.

[43]. م. ن، ص 26.

[44]. أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 133.

[45]. رأي الشهيد المطهري.

[46]. رأي العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان.

[47]. أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 121.

[48]. فلسفة التربية، ص 112.

[49]. أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 122.

[50]. أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، 122.

[51]. فلسفتنا، ص 50.

[52]. النساء: 65.

[53]. أصول الكافي، باب دعائم الإسلام، الحديث رقم 5.

[54]. الإنسان: 9.

[55]. الفتاوى الواضحة، ص 716.

[56]. فلسفتنا، ص 50.