محمد سعيد الأمجد
توطئة
يتميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والرؤى الوضعية بنظرة فلسفية للعبادات ترتكز على ترابط بُنيوي بينها كطقوس وشعائر ومناسك وبين إشعاعاتها المختلفة في الواقع.
ويتشكل من العبادات بكافة أنواعها طيف حركي ذو طاقة روحية عالية تنبسط على مناحي الحياة المختلفة، وتصطدم بالواقع الفاسد فتغيّره لصالح الجماعة الخيرة، ابتداءً بصدور طاقة الفرد المتمخضة عن اتصاله بمصدر الغيب المطلق، ذلك الاتصال الذي تترجمه العبادة وتجسّده الشعائر وتنتجه الفعاليات الإسلامية بشتى ألوانها، وانتهاءً بتكتّل هذه الطاقات الفردية على شكل حزمة جماعية (أمة) ذات منجز تاريخي كبير يتحرك بطاقة إشعاعية عالية وفق قصدية الإصلاح والبناء والإبداع والارتقاء بمستوى الوعي لدى الفرد والجماعة، الأمر الذي يوضّح لنا محورية الدور العبادي للدين في نهضة الأمة الإسلامية والانعتاق من مشاريع التغييب والتخريب الحضاري والتهميش في الهوية والانتماء.
وهذا على عكس المركوز في الأذهان من هامشية الدور العبادي حينما ينظّر المفكرون إلى الأديان البشرية والاعتقادات الإنسانية القاصرة المرتبطة بعجز الإنسان ومحدودية قدرته، وهو رؤية تصحيحية موازنة للمرئي من سلوك العابدين المنتمين إلى أديان إلهية منسوخة، انحرفت عن المسار الحقيقي لهدفيتها واتخذت شكل الرهبنة والانعزال عن الواقع، وعاشت في أوهام رموزها طقوساً فارغة المحتوى خاوية المضمون قصيرة الأبعاد. والمعنى الكبير الذي يشعّ من هذه النظرة الحضارية والحركية للعبادة دائماً بحاجة إلى ذهنية علمية وقدرة فكرية تتجاوز السائد والموروث من النظرة إلى العبادة والدين عموماً، حتى تستكشف هذا البعد الحيوي وتنظّر لهكذا فهم بما يتلاءم مع الخصوصيات الحاضرة ومستجدات العصر.
وهكذا، كان لمفكرنا الإسلامي الكبير الشهيد محمد باقر الصدر(قده) نظرة تفصيلية بهذا الصدد، عرضها في كتابه (نظام العبادات في الإسلام) بعرض رائع، كما أشار لخطوطها العريضة في غضون كتاباته الأخرى، ولأهمية الموضوع في حياتنا المعاصرة الضاجّة بالصراع المتعدد الجوانب والاتجاهات والذي ينعكس على شكل تكلّسات تتراكم فوق روحية ونفسية الإنسان المسلم وتحجزة عن الإبداع والنهضة، رأينا أن نستعرض أهم مرتكزات نظرة الشهيد الصدر إلى العبادات في الإسلام وفلسفتها التي تكاد تكون الأولى من نوعها من حيث الصياغة والطرح مستمدةً إطارها الواعي من عبقرية هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير الذي خلّف لنا منجزاً فكرياً هائلاً أعاد للرؤية الإسلامية نصابها الواقعي المعاصر، ومنحها بعدها الحيوي المتجدد عبر العصور.
حقيقة العبادة في نظر الشهيد
ينظر الشهيد الصدر(قده) إلى العبادة بأنها مركب من قضيتين أساسيتين اختزلهما شعارها الرئيسي (لا إله إلا الله)، وهما الشدّ والرفض.. . الشدّ بمعنى الانحياز إلى أحد الأطراف التي تتجاذب الإنسان، وهو طرف الحق المطلق (الله تعالى) الجامع لصفات الجلال والكمال والمصدر لكل فضيلة وجمال، كانتصار ذاتي وفتح روحي كبير في خضمّ معركة الأطراف الأخرى التي تشدّه إلى عالم الأرض والتراب الغرائز الحيوانية، والتي تؤدي أيضاً إلى انحسار وجود الإنسان وتضاؤل دوره في الحياة وانهيار قدرته الحركية على الصنع والبناء والتمدن.
تتجاذب الإنسان مجموعة من الخيوط والعلائق والصلات والجذور كالمال والشهوة والخوف من السلطان وحبّ البنين والذرية والجاه والشهرة وملاذّ الحياة الأخرى، وتدعوه ببريقها إلى الإكثار منها والانغماس في تضاعيفها وأشكالها، فيما تكون خسارة ذلك هو الانفصال عن تحقيق النصر والظفر بعالم أخروي عظيم وانقلاب ذلك وبالاً شديداً عليه يجعله في شقاوة دائمة ومسؤولية مستمرة.. وهو مع هذا ضعيف القوى قليل المقاومة لهذه العلائق، ولكنه زوّد بقدرة عقلية خارقة وروحية عالية، يتمكن من استثمارها لعقلنة التعامل مع هذه العلائق والاقتصار على النصيب الذي يحقق له السعادة في الدنيا والفوز بالعالم الآخر.
ومن هنا فقضية الشدّ تعني ۔ في تحليل الشهيد ۔ الدعوة العبادية من مشرّعها لإعمال تلك القدرة العقلية والروحية من أجل اللجوء إلى المطلق الحق الذي لا عجز فيه ولا انتهاء لقدرته، وهذا هو المؤمّن للإنسان من الضياع والانهيار في معركة تجاذب الأطراف، والمحفّز له على الانتصار عليها من خلال الاتصال بعالم الغيب ومصدره والاستعانة بأخلاقيته وإطلاقه في الخروج من تشابك العلائق الدنيوية واشتجار الجذور المادية إلى حيث المطلق عن الماديات والنقوص، وهذا أحد أوجه الشعار الرئيسي للعبادة (لا إله إلا الله).
أما وجهه الآخر وشقّه العبادي المكمل فهو رفض كل مطلق مصطنع، وهذا يستدعي نزع كل الجذور الجذابة الأخرى من الطاغوت والهوى وملاذّ الحياة، وإعلان الحرب ضدها والتمرد عليها روحياً وسلوكياً، وهنا تتوحد طاقة الإنسان وقدراته في ولاء واحد وتصبّ في معين ولائي واحد، فتتشكل على إثره طاقات الأفراد طيفاً حركياً وجماعياً واحداً، ويتكون هيكل لبناء اجتماعي رصين متماسك يبني الحياة ويصمد أمام مشاريع التذويب الثقافي والحضاري، وهذان العنصران: الشدّ والرفض هو الذي أثبتت كفاءته المسيرةُ البشرية في تصوير محورية الجانب العبادي للمسيرة الإسلامية، وهذه الفلسفة العبادية هي التي تحركت في واقع الحياة الإنسانية لتنتج المجتمع المنشود خلافاً لتلك النظرات التجزيئية التي أغفلتها، فراحت نهباً للآلهة المتعددة والأرباب المتفرقين، وبهذا الصدد يقول الشهيد:
نحن إذا لاحظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد: لا إله إلا الله نجد أنها قرنت بين شد المسيرة الإنسانية إلى المطلق الحق ورفض كل مطلق مصطنع، وجاء تاريخ المسيرة في واقع الحياة على مر الزمن ليؤكد الارتباط العضوي بين هذا الرفض وذلك الشد الوثيق الواعي إلى الله تعالى، فبقدر ما يبتعد الإنسان عن الإله الحق ينغمس في متاهات الآلهة والأرباب المتفرقين.[1]
وهذه الفلسفة العبادية المرتكزة على مفهومي الشد والرفض ليست مكسباً فردياً أو نفسياً أو ذوقياً كما هو دأب العبادات ومفهومها في المنظور غير الإسلامي ۔ وسنتعرض للمقارنة وفق نظر السيد الشهيد فيما بعد ۔ بل هو مكسب اجتماعي إنساني يؤدي إلى إنقاذ المسيرة البشرية من الضياع والانكسار كما هو ۔ حسب التحليل الصدري ۔ يفجّر طاقات الأمة ويدفعها للنهوض:
فالرفض والإثبات المندمجان في لا إله إلا الله هما وجهان لحقيقة واحدة وهي حقيقة لا تستغني عنها المسيرة الإنسانية على مدى خطها الطويل، لأنها الحقيقة الجديرة بأن تنقذ المسيرة من الضياع وتساعد على تفجير كل طاقاتها المبدعة، وتحررها من كل مطلق كاذب معيق.[2]
عقلنة النظرة إلى العبادة
وقد تختل معادلة هذه الفلسفة عند الإنسان المسلم، فيغوص في أجواء أحد طرفيها (الشد) لما يمتلكه هذا الطرف من جذابية وروحية يأوي إليها الإنسان في خضمّ تصارع العالم المادي حوله فيكون مأواه الوحيد وينعزل عن الطرف الآخر للمعادلة (الرفض) والذي يعني فيما يعينه المشاركة في صنع القرار وبناء الحياة ومقاومة التخريب، وهذا عند الشهيد الصدر(قده) موقف سلبي يؤدي إلى اختلال مفهوم العبادة الحقيقي وينتج بوار الأرض وعرقلة إعمارها فيما كُلّف الإنسان ۔ وفق قصدية خلقته ۔ بالاستخلاف والإعمار والبناء والإصلاح والكلاح من أجل الفوز بالعالم الآخر السعيد الذي لا ينتهي: <يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ>[3]، <إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً>.[4]
فـ (نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات، يتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل، إذا فصلت الأرض عن السماء)[5] بل لابد أن تكون النظرة إلى السماء مقارنة للنظرة إلى الأرض في المفهوم الإسلامي، إذ أن أية عملية فصل مقصودة أم غير مقصودة تؤدي إلى تضييع جوهر العبادة وحقيقتها البنّاءة الفاعلة، (وأما إذا أُلبست الأرض إطار السماء، فأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرّكة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الأقتصادي)[6].
وهذه الموازنة والعقلنة لمفهوم العبادة المشعّ على الأرض والحياة مما تفرّد باستكشافه مفكرنا الشهيد(قده) بل ربط في كتاب آخر بين مفهوم أوسع من العبادة وهو الالتزام والعدل والاستقامة وبين ازدهار الأرض مستوحياً ذلك الربط من الآية الكريمة: <وَأَن لَوِ استَقاموا عَلَى الطَّريقَةِ لَأَسقَيناهُم ماءً غَدَقاً>[7]، قائلاً:
أما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثّل وتجسّد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وكلما استطاعت أن تستوعب قيم العدالة، أن تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، كلما وقع ذلك، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء.[8]
ومن الطبيعي أن هذه المعادلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعبادة لأن مصدر هذه المعادلة ومحققها الخارجي هو الحق المطلق الذي يتصل به الإنسان العابد وينشدّ إليه في حركته العبادية، كما أن تحقيق العدالة والابتعاد عن ظلم الإنسان هو منتجٌ واع وأثر مباشر للاستمرار على التربية الروحية والنفسية التي تعكسها العبادة في العالم الخارجي والسلوكي للإنسان العابد.
شمولية النظرة
استنتج الشهيد الصدر(قده) من منظومة الفكر الإسلامي مفهوماً كلياً شاملا للعبادة باستيحائه من قاعدة أن كل عمل يقوم به الإنسان المسلم لوجه الله يعتبر عبادة.
وهكذا يرتقي بالإسلام ۔ وفق التوسعة المفهومية ۔ من الإطار الروحي الضيّق إلى انبساط المفهوم العبادي على مجمل علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع، فيؤدي إلى التكاملية بين الروح والمادة، إذ كما لا يمكن ۔ في نظر الشهيد الصدر ۔ طرح مفهوم العبادة من وجهة نظر روحية كذلك لا يمكن جعل العلاقة بين الإنسان ومجتمعه مادية بشكل محض، بل لابد من صيرورتها ذات طابع روحي أيضاً وإن كانت تلك العلاقة تجري في عالم المادة، وذلك من خلال فلسفة القاعدة المذكورة وترجمتها إلى واقع حي معطاء.
فالإسلام في نظر الصدر يؤكد على المقاصد، ولا ينظر إلى العبادة مجردة عن الغايات والأهداف فالتأكيد على البعد الاجتماعي للعبادة ليس بعداً أجنبياً أضيف في صورة إطلاق شعارات جديدة على العبادات، بل هو عنصر جوهري مقصود من قبل الشارع.[9]
وفائدة هذه الشمولية المستوحاة من الفكر الإسلامي ووضوحها لا يعني تفريغ العبادة من محتواها الروحي وجعلها في قالب اجتماعي مادي ينأى بها عن مضمونها الأساس الذي شُرّعت من أجله وهو تربيه الفرد معنوياً وروحياً، كما لا يتنافى مع مفروضية العبادة على المسلمين من حيث هي حركات وطقوس وشعائر موقوفة وثابتة، لأن هذا الانبساط المفهومي على الحياة الاجتماعية يؤكد التعبد المفروض ويربطه بشمولية الإسلام ومنهجيته في توحيد الأمة واستمراريتها عبر التاريخ.[10] بالأضافة إلى ما تحدثه هذه التوسعة في مفهوم العبادة من توق جماهيري وتطلّع شعبي لممارسة القيم الإسلامية والمبادئ السلوكية والأخلاقية في الواقع، ما دام كل عمل حتى لو لم يكن مطلوباً ومفروضاً هو عبادة إذا اقترن بالنية وقصدية التقرب إلى الحق المطلق، فتتحول الأعمال كلها حتى العادية التي لم تعتد الأمم والشعوب والأديان الأخرى على الاكتراث بها، إلى شعلة من النشاط والبذل والعطاء في المجتمع الإسلامي.
العبادات من الثوابت
لقد اهتم السيد الشهيد الصدر بقضية الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية، وتمكن من خلالهما إعادة صياغة النظريات الفقهية والأصولية والعقائدية، فكان الثابت والمتغير هو مادته الأساسية في الدعوة إلى التجديد المنهجي في التفكير، ومن هنا انطلق في صياغة النظرية الأقتصادية والفلسفية في الإسلام ومنح الرؤية الإسلامية صفة التجدد ومواكبة العصر بكل تعقيداته ومستجداته.
وحينما يتطرق إلى العبادات وإكمالاً لصياغة فلسفتها، يصنّفها الشهيد الصدر في الثابت من الشريعة الإسلامية، إذ يقول:
نظام العبادات في الشريعة الإسلامية يمثّل أحد أوجهها الثابتة التي لا تتأثر بطريقة الحياة وظروف التطور المدني في حياة الإنسان إلا بقدر يسير، خلافاً لجوانب تشريعية أخرى مرنة ومتحركة يتأثر أسلوب تحقيقها وتطبيقها بظروف التطور المدني في حياة الإنسان كنظام المعاملات والعقود.[11]
ويفلسف ذلك بأن العبادة تعالج حاجة ثابتة، فلابد أن يكون العلاج ثابتاً، لأن العبادة ۔ في تحليله ۔ هي سير نحو المطلق الذي يحتاجه العابد النسبي دائماً، فالشريعة حينما تأمر المكلف بالحج والصوم والصلاة وغير ذلك إنما تأمره بقصدية الاتصال بذلك المطلق الذي لا يعتريه نقص أوحاجة ولا يحتويه حد أو رسم، كلجوء إلى مصدر قوي يعينه على الانتصار في معركة الملذات والوساوس والقوى التخريبية التي يقودها الشيطان، ولا يمكن للإنسان التخلي عن هذا الركن القوي (المطلق)، والاعتداد بنفسه وقواه المحدودة، إذ النتيجة ستكون: إما الانهيار والهزيمة في تلك المعركة، وإما التحول إلى أداة طيّعة بيد تلك القوى التخريبية. ولهذا فُرضت العبادات على الإنسان بمختلف أزمانه وأطواره وحالاته، فتكون العبادات ۔ كما عللها الشهيد ۔ هي واجب شرعي يلبّي حاجة وجودية وضرورة كونية يحس بها الإنسان بحكم إنسانيته أي بحكم فطرته.[12]
وهذا الثبات الذي يركّز عليه الصدر في صياغته الفلسفية للعبادات يلوّح لنا بالفرق بين ثباتها كتشريع موقوف على صيغها المشرّعة وبين ثبات غيرها المدعى من العبادات التي تلزم بها فلسفة الأديان الوضعية وحتى الكتابية المنسوخة، فكون الصلاة في الصبح ركعتين وفي المغرب ثلاثاً وفي الظهر والعصر والعشاء أربعاً منذ عصر التشريع ولحد يومنا هذا يدعو إلى مساءلة باقي الأديان: هل أنها حافظت على مثل هذا الثبات؟ بالطبع لا، لأنها تصوغ العبادات وفق قوالب بشرية قاصرة محدودة غير مدركة لطبيعة العبادة ومضمونها التربوي، فهي تستخدمها كحاجة نفسية مالئة للفراغ الروحي الذي يعاني منها الإنسان المضطهد أو أفيون يغيب فيه الذهن والجسد منهزمين من معركة الحياة. بل قد تؤلّه الإنسان وتعتبره وسيلة للتقرب إلى الله، أما الدين الإسلامي فيعتبر التشريع الذاتي محرّماً، ويُبقي صياغة واحدة للعبادات يشرّعها المطلق الأقدر على تشخيص ما يلائم احتياجات الإنسان على مر العصور.
نظرة مقارنة
إن النظرة الشمولية التي صاغها الشهيد الصدر من مصادر الفكر الإسلامي والتي تجعل حياة الإنسان وتحركاته وأعماله كلها ذات مفهوم عبادي، تجعلنا نذعن بطريقة تلقائية بروعة الخطة الإلهية الرامية إلى تحريك القيم والمبادئ والاعتقادات في واقع الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، فتكون العبادات هي المحرّك الأساس لتلك القيم في الواقع لأنها تتيح للإنسان الاتصال بعالم الغيب وتدعوه بشكل روحي لإعلان عبوديته لله، تلك العبودية التي تكتنز سر التحرر والانعتاق من كل قيد، وكلما ازداد الإنسان عبودية ازداد اقتراباً من الباري عزوجل، وازداد امتثالاً وطاعة له، وهذا بطبيعة الحال يستدعي الالتزام بتلك المنظومة القيمية والحركية بشكل أكبر وأشد لأنها ۔ ببساطة ۔ محبوبة ومطلوبة من قبل المعبود المطلق الحق.
ومن هذا الفهم ينطلق الشهيد الصدر في جولة مقارنة بالفكر والفلسفة الوضعية، إذ أن خلوّها عن هذا الاتصال المنتج بالقوة المطلقة يجعلها باحثة بشكل مستمر عن وعاء لقيمها وعواطفها، فبدلاً من أن تؤلّه الله سبحانه تؤلّه الإنسان أو التاريخ، فتقع فريسة الاستنتاجات المدمّرة التي تُنهي قدرتها الذاتية وتفقدها عقلانية النظرة إلى التاريخ ووعيه المطلوب، فمفاهيم الفلسفة الغربية لا تطيق أن تشكّل قالباً لما تزخر به العبادات من عواطف وقيم وعقلانية صارمة ووعي بحركة التاريخ.[13]
يقول الشهيد:
وفي ذلك – أيضاً – تختلف الشريعة الإسلامية عن اتجاهين دينيين آخرين، هما:
أولاً: الاتجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.
وثانياً: الاتجاه إلى حصر الحياة في إطار ضيّق من العبادة كما يفعل المترهبون والمتصوفون.[14]
وهو بذلك يشير إلى الثقافات الدخيلة في الفكر الإسلامي والتي أنتجتها حملات الغزو الثقافي والعسكري لبلاد المسلمين، ولقّنتها عبر وعاظ السلاطين للأمة، بقصد إقصاء عباداتها عن البعد الحركي في الحياة وتفريغها عن المضمون السياسي لئلا ينمو في دواخلها الحس النقدي والنزعة إلى مشاركة الإنسان العابد المتدين في صياغة القرار السياسي، وهذا الفصل يؤمّن للمستعمرين والمستبدين تمرير مشاريعهم واستعباد الأمة.
فتكون الصياغة الصدرية الفلسفية للعبادات أشبه بالكشّاف الذي يعرّي ضيق هذه النظرات وعقم إنتاجها بل خروجها عن المفهوم العبادي الحقيقي الذي يريده الله تعالى كحل ناجع للأزمات والإشكاليات المصيرية التي تواجهها الأمة الإسلامية في مسيرتها.
مشكلة المطلقات المصطنعة
قلنا إن الشهيد الصدر يربط بشكل مستمر بين وجود مطلق يحرّك الإنسان المسلم نحوه وبين مداليل ذلك التحرّك في جوانب الحياة المختلفة، ويؤكد هنا أنه لابد من وجود مطلق، (فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرّك عشوائي كريشة في مهبّ الريح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها، وما من إبداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مر التاريخ، إلا وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق والالتحام معه في سير هادف).[15]
ولكن الإنسان لغفلة أو إجبار أو تمويه أو طمع أو حالة نفسية أو ظرف اجتماعي يصطنع إلهاً مطلقاً يستمده من واقع الحياة ويعتبره مثله الأعلى ويسبغ عليه صفة الدين والعبادة والخضوع. ويحلّل السيد الشهيد هذه الظاهرة بأنها تصورات بشرية محدودة تشكّل أدياناً مجزّئة تتحول عنده إلى مطلقات وهمية تحل محل دين التوحيد القادر على استيعاب البشرية بأبعادها. وعن النتائج المتمخضة عن هذه المثل المنخفضة والمطلقات الوهمية يتحدث السيد الشهيد بعد أن يعتبرها عبادة في جوهرها تؤدي إلى محدودية في كل شيء وقصور عن استيعاب الحياة:
المجتمعات والأمم التي تعيش هذا المثل الأعلى المنخفض المستمر من واقع الحياة، قلنا بأنها تعيش حالة تكرارية، يعني أن حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية، وهذه الأمة تأخذ بيدها ماضيها إلى الحاضر، وحاضرها إلى المستقبل، ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنما مستقبلها هو ماضيها.[16]
ومن الطبيعي حينما تتفشّى هذه الظاهرة (المطلقات الوهمية والمثل العليا المنخفضة) في المجتمع، يتداعى المجتمع ۔ حسب التحليل الصدري ۔ أو يذوب في بوتقة ثقافات وأفكار الآخرين، إذ أن هذه المطلقات المصطنعة ليس فيها مادة تبعث العابد على المقاومة ومواجهة الآخر، لأنها (وليدة ذهن الإنسان العاجز أو حاجة الإنسان الفقير أو ظلم الإنسان الظالم، فهي مرتبطة عضوياً بالجهل والعجز والظلم، ولا يمكن أن تبارك كفاح الإنسان المستمر ضدها).[17]
ثم يدخل الشهيد في تحليل ومراقبة أوضاع الأمة التي تتمسك بمثل من هذا القبيل، ويتوغل في المشاهدة فيرى أن غياب الوعي بالعملية العبادية وفقدان المثل الأعلى الحقيقي المطلق، يؤدي إلى فقدان الأمة لولائها حتى لمثلها المنخفض تدريجياً؛ لأن محدوديته يؤدي إلى فقدان فاعليته وقدرته على العطاء، بعد أن يصبح نسخة من الواقع، عاجزاً عن تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل، وعليه سوف تتمزق القاعدة الجماهيرية الواسعة وتتمزق وحدتها، وتكون كما وصفها القرآن الكريم: <بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ>.[18]
وفي هذا التحليل ربط واع ودقيق للعبادة بالعملية التغييرية وسبل تطويرها وتعويقها تبعاً للمثل الذي تتمثله الأمة في حركتها العبادية وهذا مما تتفرد به فلسفة العبادات في الإسلام دون غيره من الأديان، كما أنه مما تتفرد به الصياغة الصدرية دون غيرها.
الإبداع اللامتناهي للعبادات
تحليل الشهيد الصدر للعبادات في إطار معرفي علمي آخذ بنظر الاعتبار حل إشكالية التناقض بين النص والعقل، يجعل من الربط بين العبادة والإبداع في الحياة قضية تتجاوز مسألة الوجوب الشرعي وتنطلق في آفاق إبداعية قصيّة ومديات لا حد لها، فهي بالإضافة إلى وجوبها الشرعي قضية ضرورية تفجّر طاقات الشعوب وتستجلي وعيها المطلوب بحركة التاريخ.
ويوضّح الشهيد ذلك في كتابه (المدرسة القرآنية) الذي يضم مجموعة من البحوث حول التفسير الموضوعي وعناصر المجتمع والسنن التاريخية في القرآن الكريم، بأن الارتباط العبادي بعالم الغيب المطلق عن الحدود والقيود هو ارتباط النسبي صاحب الذهن المحدود بالمطلق علماً وقدرة وعدلاً، وهذا يعني أن اقتراب الإنسان نحوه بالعمل العبادي هو اقتراب نسبي؛ لأن المحدود لا يصل إلى المطلق، وهكذا تكون هنالك فسحة ممتدة بين الإنسان ومثله الأعلى، أي أنه ترك مجال الإبداع إلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إلى اللانهاية، باعتبار أن الطريق الممتد طريق لانهائي[19].
وبعد هذا التحليل، فمن المتيسر معرفة كنه ذلك الكدح العبادي للأمة نحو مثلها الأعلى المطلق، ومدى حدود تأثيره في واقع الأمة الإسلامية ومواجهتها لقضايا النهضة والدفاع عن هويتها، فالأمة الإسلامية بخطر دائمي من قبل المشاريع التخريبية الأخرى، والعراقيل دائماً أمام خطاها، فالمؤثر على استمراريتها ومقاومتها أو انهيارها وانحسارها هو ما يقرره السيد الشهيد من وعيها بالعمل العبادي والنظرة إليه بما هو سير نسبي مستمر لا نهاية له، وهذه اللانهاية تفرض على المتدين العابد الإنسان إبداعاً لا متناهياً، وإذا كان هذا هو حال الأفراد، فحال الأمة هو حال من يمتلك حافزاً قوياً يدعوها باستمرار إلى التفاعل والالتزام بمتطلبات السير الضروري نحو النهضة وتطلبات واقعها الراهن.
فهذا الطرح الشمولي والعميق لفلسفة العبادات في الإسلام، يلقي الضوء للمسلم وغيره على مدى قدرة النص للتفاعل مع الواقع الحديث الذي تعيشه الأمة بكل تعقيداته، خلافاً لأولئك الذين يتخذون مُثلاً منخفضة ومطلقات وهمية، إذ تدور رحى إبداعاتهم حول نفسها، فالإنسان ذو ذهن قاصر وقدرة محدودة ومثلهم المنخفضة ذات محدودية أيضاً، فسوف لن تكون هنالك نتيجة غير انتهاء القدرة الحركية وانهيار لوجود الجمعي لها، وتحطّم المثل لديها، وبالتالي سوف ينحسر دورها من حركة التاريخ الصارمة ذات السنن والقوانين الطبيعية.
معوقات الارتباط التفصيلي بالله سبحانه
في كتابه (المحنة) يتعرض السيد الشهيد إلى الارتباط التفصيلي بالله سبحانه والدافع الشعوري بذلك الارتباط الذي يحرّك سلوك الإنسان ويبعثه إلى تحمل المشاق، و(كل هذا التحمل يكون في اللحظة الأولى قائماً على أساس شعور تفصيلي يشدّه إلى الله تعالى، يشعر بأن هذه القوة هي التي تجذبه وتنتزعه من أهله ووطنه وبلده، ومن أحبته لكي يهاجر إلى الله..) وسواء كانت تلك الهجرة لطلب العلوم الدينية أو لممارسة العمل الجهادي أو ما شابه ذلك من الممارسات التي تعكس الشعور التفصيلي بالله تعالى ۔ وهو ناتج العمل العبادي وخلاصته ۔ في الواقع.. لابد من توفر تلك الجذوة المقتبسه من العبادة والاتصال بالله وإبقائها مشتعلة في داخل الإنسان الرسالي حتى تعمل على إضاءة الطريق له بشكل مستمر في تضاعيف حركته في الواقع ومواجهاته مع صعوباته وإشكالياته.
وفي الحياة يواجه جواً آخر غير الجو العبادي الذي كان يعيشه في أعماله العبادية، وقد يكون هذا الجو مجموعة من العلوم (الفقه والأصول وغير ذلك) وهي ۔ في تحليل الشهيد ۔ لا تتعدى كونها أفكاراً ومفاهيم لا تغذّي الشعور الروحي بل تغذّي عقله، وهذا يستتبع حدوث فراغ نفسي كبير يعمل على تمييع جذوة شعوره التفصيلي الأول بالله سبحانه، والذي جاء عبر تاريخ طويل من العبادة والمجاهدة في تربية النفس والتمرّس على الالتزام والطاعة؛ لأنه في غضون حركته في الحياه غالباً ما يفتقد ما يغذّي شعوره الأول نظرياً أو عملياً.
وهكذا، فما يمضي على الإنسان العابد الرسالي برهة من الزمن حتى تكون جذوة ذلك الشعور التفصيلي قد انطفأت بعد أن تكون قد تحولت إلى ارتكاز ۔ حسب التعبير الصدري ۔، فيختفي ذلك الشعور وتتراكم عليه مشاعر أخرى لا ترتبط بالله، يستوردها من أهواء البيئة ومن طبيعتها وملابساتها وتعقيداتها، ويعبر السيد الشهيد عن هذه النتيجة تعبيراً قرآنياً رائعاً، إذ يجعله مصداق نسيان الله لمن نسيه <نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ>.[20]
ثم ينزل السيد الشهيد إلى الواقع ليحقق الدليل على ذلك الغياب الشعوري المقصود والارتباط التفصيلي المنشود، ونتائجه المتمثلة بمأساوية المشهد الإسلامي آنذاك وغربة الذات والهوية في خضمّ تصارع الواقع الضاج بالتيارات والأفكار الوضعية التي رافقت هيمنة استعمارية على بلاد المسلمين.
ويقارن ذلك بالسلوك العبادي ۔ الحياتي لأئمة أهل البيت(ع) الذين هم رموز الفكر الإسلامي ومصادر تشريعه، فبالرغم من الحصار السياسي وأعمال الدعاية المضادة لهم وترويج الأفكار المعاكسة لنهجهم وعمليات فصل قواعدهم الشعبية عنهم.. تجد أن الميول الشعبية بكافة اتجاهاتها تسير إليهم بشكل تلقائي لا إلى الحكام والمتنفذين بحيث ينفرج الناس للإمام على بن الحسين (السجاد)(ع) حينما يريد استلام الحجر الأسود في الحج، ولا ينفرجون للسلطان، ذلك أن الإمام السجاد(ع) كان يعيش العبادة ارتباطاً تفصيلياً، لا فصل فيه بين العبادة والحياة، وكان يعيش حالة الذكر والاتصال بالمطلق الحق في كل حركاته وسكناته وحالاته.
ثم يتساءل السيد الشهيد: لماذا يستجيب الله دعاء ذلك الإنسان الذي لم يعش الارتباط التفصيلي به في حالته الطبيعية قبل أن يقع في المحنة! لماذا يستمع إلى لسان لم يلهج بذكر الله وإلى قلب لم تنبض بحب الله وإلى يدين لم تتحرك في طاعة الله!!! [21]
وهو تساؤل رائع يفتح لنا نافذة يدعونا من خلالها إلى تحشيد القوى وتعبئة الوجودات مرتبطين ۔ أثناء ذلك كله ۔ بالله ارتباطاً تفصيلياً يستنزل من مصدر العدل والرحمة والقوة والجمال ما يبعث فينا القدرة على تجاوز الصعاب والنهوض بالواقع وصياغة خارطة المستقبل.
وهذه هي المعادلة الطبيعية التي سنّها الله تعالى في حركة التاريخ والأمة، وما العبادة ۔ في نظر الشهيد ۔ إلا أُسّ تلك المعادلة، والذي يعني الوعي به تفعيله في كل أطوار ومراحل الحركة الاجتماعية والسياسية في واقع المسلمين، ولا يمكن حصر العمل العبادي في نطاق ضيّق وإطار محدود يتمثل بمجموعة الطقوس والفروضات والشعائر والأدعية والأذكار التي تلهج بها ألسنة الناس وتمارسها جوارحهم بدون أن تكون ذات مضمون حركي واسع في واقعهم ومؤثر في نهضتهم. والحمد لله رب العالمين.
[1]. نظام العبادات في الإسلام، ط منظمة الإعلام الإسلامي، 1404هـ ، ص 21.
[2]. م. ن.
[3]. الانشقاق: 6.
[4]. البقرة: 30.
[5]. مقدمة اقتصادنا، ط دار الفكر، 1984م.
[6]. م. ن.
[7]. الجن: 16.
[8]. المدرسة القرآنية، ط دار التعارف للمطبوعات، 1981م، ص 226.
[9]. فلسفة الصدر للدكتور محمد عبد اللاوي، ط دار الإسلام 1999م، ص 133.
[10]. م. ن.
[11]. الفتاوى الواضحة، ص 704.
[12]. فلسفة الصدر للدكتور اللاوي، ص 122.
[13]. نظام العبادات في الإسلام، ص 145، مصدر سابق.
[14]. الفتاوى الواضحة، 724.
[15]. م. ن، ص 808.
[16]. المدرسة القرآنية، ص 159.
[17]. الفتاوى الواضحة، ص 710.
[18]. الحشر: 14.
[19]. المدرسة القرآنية، ص 183 ۔ 184.
[20]. التوبة: 67.
[21]. انظر كراس المحنة، ط۔ مؤسسة الرسالة الإسلامية، 1404، ص 58 ۔ 66.