الإمام الشهيد الصدر بين الذكرى والذاكرة

السيد هاني فحص

لأن يكون ذكرى أن يخطر متوجهاً أو يتوهج عابراً يُلمّ ولا يقيم ولأن يكون ذاكرة أن يقيم، أي يستوطن، أي يحضر فينا فيهدي ويرعى ونحضر فيه فنرى ونستهدي فنهدى ونستشرف ونستقبل، أي في خلاصة: أن يكون ماضياً نستقبله أيضاً.

وبين أن يكون الإمام الشهيد ذكرى أو يكون ذاكرة مسافة ما بين الوفاء المحمود في كل حال، وبين الإحياء الذي يقتضي إضافة إلى معرفته أو المعرفة به، تجعل الغياب اعتباراً وحسب، واقعة مادية ليس إلا، وتجعل الماضي زمناً ليس إلا، إذ ذاك إذ نحيي نستعيد لا لنقف، بل لنمشي ونواصل، لا نحتفل ولا نحتفي فرحاً ولا حزناً، أو نحزن ونفرح وننهمك، تأتلف ورشتنا، عمالاً ومعلمين، زملاء للعالم الشهيد أو الشهيد العالم، أو الشاهد في حاليه.. وتلامذة مراميك في الصرح وشرفات له على الغد، سدى ولحمة، للعلم والدم، للصبر والحبر.. <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ>.

إذن لنكن أفقه فنراه فينا ونرانا فيه، آيةً تفضي إلى آية وآية تفسّر آية.. . فإن نسخت آية أو أُنسئت كان لها مما بعدها ما يمثلها أو أحسن منها.. . وإذ نستوعبه ونتجاوزه من دون أن ننتخطاه، إذ نضيف إليه مما كان يطمع إليه، نثلج صدر الصدر الذي لا ترتاح روحه إلا في صدورنا.. . فلنتسع له إيماناً ومعرفة وأسئلة.. كفاء سعته في كل ذلك.. ولنسهر معه.. ولينهض بنا ولننهض به ومعه.. فالشهداء يموتون كي يفرغوا للسهر.. عمت صباحاً ومساءً أيها الناهض فينا، عمتم صباحاً ومساءً أيها الناهضون به وفيه.

آخر ما علّم الشهيد الصدر ذلك السياق التوحيدي القرآني رواية ورؤية، ذلك النفاذ من تعدد السياق الخارجي في الكون والقرآن إلى وحدة السياق الداخلي، من الكثرة إلى الوحدة، حيث لا تبقى الكثرة وصفاً أو مشهداً أو مقاماً مقابلاً للوحدة وتمسي شرطها بنحو ما، فالمتعدد هو الذي يتوحد أو يتحد والواحد هو الذي يسري في المتعدد وجوداً وحركة، وإلا كان الإلغاء المتبادل بين المختلفات هو السائد، وكان الخراب.. بينما الاختلاف آيات من آيات الواحد ودليل نظم وتدبير وحكمة في نهجه، نصاً ومسلكاً متفرعين عن معرفة، تشفّ أحياناً حتى تلتبس بطيف من لدنية، تختلط أصوات الأنبياء، لا تختلط تتجاسر وتتعامد وتتشارط فتتوحد في بناء سمفوني تفضي فيه نبرة إلى نبرة ويمهّد إيقاع لإيقاع وجرس لجرس ومنحن لمنحن، في مسار تصاعدي يتمايز درجة درجة ثم لا يلبث أن يتمايز ويمتاز نمطاً، حتى يصل خط النمو إلى الذروة، إلى الإسلام رسالة ورسولاً وأمة وسطاً وشاهدة، بما هو الوسط موقع معرفي وبما هي الشهادة استحقاق مشروط بالمعرفة أولاً ودائماً.

يقول(رضوان الله علیه):

الإسلام كرسالة شاملة كاملة عامة للحياة، جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل، ومن ناحية استعداده لتقبّل وعي توحيدي صحيح كامل شامل، ومن ناحية تحمله لمسؤولية أعباء الدعوة. ونحن باستقراء تاريخنا المنظور، منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا لا نجد أي تغير.. لا في مدى اتساع الوعي التوحيدي عند الإنسان ولا في اتساع التحملات الأخلاقية في أعباء الدعوة.[1]

وتشتبك عيناه بالذروة التي هي في يقين العارفين غير ذات حد أو رسم، هي فرضية إيمانية ومعرفية مسكونة بالسؤال وفرضية أخرى.. وهكذا حتى لا يشبع طالب العلم، فإن استشعر شبعاً أو توهّمه فقد جهل.. . ويمضي ارتقاء نحو الذروة أو إلى الذُرى دون أن يقع مرة في قياس مسافة قطعها بين السفح والذروة، ولو قاس حاله في فلسفتنا أو حالنا معها إلى حاله أو حالنا قبلها لما انتهى إلى (الأسس المنطقية للاستقراء).. . ولو كان فعل، أي قاس إذن لكان كفّ عن السهر والصبو إلى الجُلّى ومكابدة الطريق ولكان استظل ظله.. وكثيرون قبله وبعده لم يبلغوا شوقه ولا شأوه، اعتراهم وهم الوصول وأعراضه فما وصلوا، قعدوا في بيت معارفهم يطعمون ويطعِمون مدخراً، فلا يستزيدون ولا يزيدون الطاعمين إلا بعضاً من أود، لا ينهض باستحقاقات الحاضر أو تحديات المستقبل ومتطلبات سلامة الروح، علاجاً ووقاءً.

ظلّت الذروة شاغلة ومشتبك بصره وبصيرته حتى شارفها.. وهمّ أن يبارحها إلى ذروة أخرى.. وحين همى هتّان دمه، اتكأ على دمه، صارت الذرى ملعبه، وصل، أغمض عينيه على فرح الوصول، وبلغنا بوصوله وادي الأحزان، ولكن خصوبة الحبر والدم أنبتت لنا عشباً يضوع فرحاً، كأنما هي <جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ>.. أنذرتنا أن نرعى ونسقي ونحرس ونقطف، وأن لا يكون مثلنا معه وفيه <كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا>.

وكان لابد لنا أن نقابله حباً، أخذاً وعطاءً، استزادة وزيادة، والعلم ينمو على الإنفاق، على التبادل، وأن نسرح في فضاءاته نقطف أقماراً من دفاتره، تؤنس وحشتنا وتضيء عتمتنا.. وأشرعنا يراعته مهمازاً وأسرجنا دفاتره خيلاً لمضاميرنا.. . فهل لنا بعد أن نضيف فرحاً إلى فرحه بالوصول أو إلى فرحنا حزناً أو فرحاً.. وهل يرضى؟ ويبقى الحزن والفرح مشروعاً.. في يومه.. في يومك نعلن فرحنا بحبرك وحزننا لدمك، ولا نرى فرقاً بين الجمر والدم، بين الحضور والشهود، بين الفرح والحزن، إلا بما هو المتعدد مقامات لتجليات الواحد.. ونسميك ذاكرتنا.. بما هي الذاكرة رؤية للحاضر ورجاء في الآتي. ونهتم أن نلتئم ونلتمّ فيك وبك، نتعلم ونعلّم، نتوحد معك نهجاً وهمّاً ومسلكاً في إنكار الذات حتى سطوعها، نتعلم أن نكيّف قدر الوسع، نجتهد على أصولنا، ونتكيف مقدرين للضرورات بمقدارها، لا أكثر ولا أقل.. .

إذن نحن أبناء زماننا أيضاً، نشاكله ويشاكلنا.. ولكن ذاكرتنا ليست واقعة أو فكرة أو قيمة انقضت وانقطعت، إنها شرط وجود وحيوية واتساق ومعاصرة.. . فإن عم ظلم أو جور أو انحراف أو استبداد أو انحطاط أو استحواذ من الداخل أو الخارج، تكيّفنا ريثما تبلغ الثمرة يناعها أو يبلغ الهدي محله وتكيفنا شكلاً؛ لأن مضاميننا هي احتياطيّنا الذهبي، وبمقدار يحفظ الوجود، انتظاراً لتحقيق كمالاته الواجبة على تراخ وفاصل يطول ويقصر، بين زمان الواجب وزمان الوجوب، وعلى يقين منا بأن الإسلام أصل أصيل، فإن منع مانع وامتنع، وكمن وقلّل من التعرض انتظاراً لسانحة.. . فإن لم تسنح بقي القلب وبقيت العين على انتظار المنتظر(عج) و(من وثق بماء لم يضمأ) ونحن بذلك لا نحيل الحاضر على المستقبل، ولكننا لا نزرع إلا في أرضنا.. وهذه الثورة وهذه الدولة شاهدنا.

يقول الإمام الصادق(ع): (عزّت السلامة حتى لقد خفي مطلبها، فإن تكن في شيء فتوشك أن تكون في الخمول، وإن طلبت في الخمول ولم توجد فتوشك أن تكون في التخلي، وليس كالخمول فإن طلبت في التخلي ولم توجد فتوشك أن تكون في الصمت وليس كالتخلي، فإن طلبت في الصمت ولم توجد فتوشك أن تكون في كلام السلف الصالح) و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء).. وإلا فلماذا قتلوه؟ من الذي كان خائفاً في الطف؟ يزيد وابن زياد وابن سعد أم الحسين؟ (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة) و(إذن لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا).. و(يا أباذر خفتهم على دينك وخافوك على دنياهم).. وهكذا تتعدد وتتلون مستويات الاختيار الإيماني ويأتي الاختيار دائماً من الداخل، من سلطة في الداخل، من اليقين.. .

وإن سنحت السانحة.. كما حدث يوم أن عاد الإمام الخميني إلى طهران ليفتتح محطة في تاريخ مستأنف.. وكان التكيف شكلاً قبلها للشهيد الصدر في محبسه، قد أغرى أهل الغواية ومن يرتدون الدين مقلوباً، أن يوغلوا في صمته تجريحاً وفي بره نكراناً.. . إن سنحت رأينا إلى ما فيها من ضيق أو سعة، فإن ضاقت لم نعمَ ولم نكتف بما تيسر من عدل نسبي وأبقينا الباب مفتوحاً، ورحنا بأهلية وجدارة، نراكم فعلنا حتى يغلب العدل وتكون الغلبة بشارة بالسيادة، وتتخافق الرايات في صقع أو أصقاع من ديار الإسلام، آمنة مطمئنة، يمسي العدل انتزاعاً واستحقاقاً يصعب نزعه، ولا يكون منّةً منغَّصة، أو منحة أو هبة من غير ذي رحم يسهل استردادها.

وإن كانت السانحة ذات سعة ومفتوحة على احتمالات العدل الذي يفي بمترتبات الصبر والحق والعناء والحرمان، خضنا إليها الغمرات، لا نبالي بالكم إلا أن يؤول إلى كيف فيهدّد الوجود أو الوحدة، وحدة الأمة التي تضارع وجودها ۔ صلح الحسن مثلاً غير حصري ۔ طالما أن العدل هو الغاية، والعدل في مفهومنا هو أكثر بكثير من توزيع الناتج المادي كفاء الجهد والحاجة، إنه الانسجام الذي يشترط الحرية والإيمان الذي يُعتق، والذاتية التي تُحفَظ، والذي يقرأ التاريخ سنناً أشد مرونة من القوانين وإحكاماً من التجاريب، يقرأه شرعاً مفتوحاً على المستجد في المعرفة وفي الحياة، يرى السنن متعددة في مساوقتها لمجراها الزماني، بشراً وأحداثاً وأحوالاً، فرصاً ومصاعب، ويراها متحدة مصدراً وغاية ومساراً، وإذ يقرأ تاريخ الوحدة على مفاتيح التوحيد يقرأ التجزئة، يرى الوحدة أصلاً ويرى إلى الثوابت، ويقف ملياً عند الخصوصيات المتغيرات، يصنّفها بين سهل وصعب وأصعب، لا يرى محالاً إلا التناقض، يرى الخصوصية من داخلها، من داخل تاريخها الذي يستلزم تاريخاً للتغيير فيختار كيف يقارع ومن ومتى وأين… يحدّد الأولى على سلم أولويات.

والخصوصيات التي تتفرع من التجزئة وتاريخها وثقافتها، ومن تداعيات ابتعاد الجزء عن سياق الكل، تكاد تبدو وكما لو كانت نوعية، وإنها وإن تكن غير ذلك استناداً إلى الإسلام، حيث الكل إلى واحد والوحدة في عين الكثرة، كما الكثرة في عين الوحدة، فإنها ۔ أي التجزئة ۔ تستدعي تنويعاً في التعاطي معها نفياً وتغييراً، وإلا وقعنا فيما وقع فيه آخرون من قياس على غير علة في التاريخ الحديث.

فالتوحيد على غير وعي أو غير نضج في موجباته، يحوّل المتعدد من استقطاب الوحدة إلى استقطاب الانفصال، ومن لا يحسن توحيد المتعدد في موعده، يؤسس للتقابل الحاد ما بين مستويات الموحّد قسراً وهذا يستلزم عنفاً ما، مباشراً أو غير مباشر، وإن لم يستلزمه كان مقدمة له على كل حال.. وتجربة المنظومة الاشتراكية في بداياتها وآلياتها ومآلاتها شاهد على الخداع الذي انكشفت؛ لأنه معاندة للسنن ومخالفةً للطبيعة.

أردت أن أنتهي إلى القول بأن السيد الشهيد لم يكن مستعجلاً بشأن العراق، وأن تريّثه في الخطاب السياسي كان له معادل موضوعي ذو ملمحين: الأول تمثّل في تباعده اللطيف، غير الارتدادي أو العدواني عن الإطار إلى الحالة، عن الحيز إلى الفضاء، رأى في المرجعية التي كان قد أصبح أهلاً لها، وفي نيابة الإمام نظاماً وتنظيماً وافياً وأكثر ملاءمة وجدوى. رآها شرطاً للتوحد والاتحاد والاعتصام، ودرءاً لمخاطر الانفصال النخبوي، الخطر الذي يرصد تشكيلاتنا الحزبية، وسوف يبقى يرصدها طالما بقينا كسالى، لا نقرأ حالنا وعلائقنا ومكوناتنا لنتدبر لها الإطار التنظيمي المطابق أي غير المستنسخ.. .

تباعد إذن من دون استقالة من أعباء النخبوية بمضمونها الريادي ۔ أي الطليعة المتصلة والأمثولة والقدوة ۔ (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه) إنه المضمون الريادي المضبوط بالشرع الذي يقتضي مسافة ما، تضطر إليها النخبة الإسلامية اضطراراً وظيفياً من دون إخلال بأخلاقيات التواصل ومقدار التمثل الواجب بين الحاكم والمحكوم، وبين الراعي والرعية عموماً، وبين العالم والمستعلم، وبين المرجع والمقلد، بل وتصبح المسافة المحددة بدقة ومحبة ورحمة ومسؤولية ومرونة، ضماناً لهذه الأخلاقيات.

خرج أمير المؤمنين(ع) من مسجد الكوفة فتبعه المصلون فالتفت إليهم في بعض الطريق وقال: أبكم حاجة؟ قالوا: لا.. قال: من لم تكن به حاجة فلينصرف، فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة للقلوب، تفسد قلوب الأتباع بالمذلة والهوان، وتفسد قلوب المتبوعين بالأنانية والكبرياء.

والشهيد الصدر يميّز بين مستويين من اهتمام الأئمة وعملهم (المستوى الأول هو محاولة تسلّم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، إرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لأجل أن تكتمل العناصر الثلاثة: الأمة والمجتمع والدولة). والمستوى الثاني الذي عمل عليه الأئمة(ع) كما يقول(رضوان الله علیه):

هو تحصين الأمة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، وإعطاؤها من المقومات القدر الكافي لكي تبقى وتقف على قدميها وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة، بقدم راسخة وبروح مجاهدة وإيمان ثابت.

ولعله رأى إلى اهتمامات الأئمة(ع) وما انشغلوا في زمن الغلبة، غلبة الخصم أو الضد أو النقيض أو المختلف من شؤون الدعوة، علماً ومسلكاً، مما جعلهم حالة في الأمة، في العمق والأفق، استعصت على الإلغاء حتى في أضيق الظروف، وجعل الإمامية الاثنا عشرية نزوعاً دائماً نحو الداخل، نحو المعنى، بينما انتهت الفرق التي غلبت الخطاب السياسي والشأن السياسي مفصولاً عن سياقه المعرفي ونصابه القيمي، على دعوة التوحيد والوحدة إلى الخروج الصريح، أو المداور، فانتهت تلك الفرق من خلال الأطر والتشكيلات المرصودة بالانفصال منهجياً إلى حالة تلفيقية فقدت معها المعايير اللازمة لوعي الهوية وتثبيت الثابت فيها وتحكيمه في انفتاحها على المستجد، واستعاضت بالباطن المبهم عن الداخل المكثف، في محاولة للتعويض عن القطيعة، فاتسمت بالذرائعية التي تتسع إلى حد الفصام الكامل والتماهي مع النقيض.

في إيران كان نظام المرجعية وتنظيمها الطبيعي بروحه الجامعية ۔ من الجامع ۔ هو الرحم التي تخلق داخلها الخطاب السياسي الملائم لظروفه وفرصه والمطابق لموجباته، مما جعل انقلابيته لحظة من لحظاته، مشروعة وحضارية، ولم يفقد هذا الخطاب مصداقيته بعد إنجاز الانقلاب، كما هو المستقر في الذاكرة الثورية الحديثة، بل أخذت وتائر تكوّن وتكوين الظواهر السياسية والثقافية تميل إلى التقارب في سرعتها، والتكامل بين محمولاتها وثمراتها… وعندما حاولت الأطر الحزبية أن تحتضن هذا الخطاب ليمسي شأنها شبه الحصري، أعاد إلى الذاكرة والوعي ثابتاً إسلامياً مؤدّاه أن الإسلام هو الأمة، وأن تأطيره وتحزيبه مقبول في حدود أن لا يؤسس للشقاق والانشقاق.

وهذا يستدعي استبطاناً جديداً أو متجدداً للمعايير في العقيدة والشريعة والتاريخ، والتوحيد والوحدة أولها وأهمها، كما أن أي إطار تشكيلي أو اختزالي إذا ما كان آتياً من الخارج الذاكرة، بما هي شرع وتاريخ ونظام أفكار وقيم وحراك اجتماعي وحيويات نشطة فإنه يكون قسرياً وقاصراً، مفروضاً فرضاً وغير ملائم، معاقاً ومعقياً، وتفادياً لذلك لابد من قراءة عناصر الوعي في حركة التاريخ الإسلامي، تأسيساً في فجر الدعوة واستمراراً حتى الآن، مع الاستبعاد الكامل لاحتمالات الفوضى والعفوية، على أن الوعي الإسلامي وعي مغاير، لأنه يأتي من عقيدة مغايرة ومنهج مغاير ومقاصد مغايرة ومنظومة أفكار وإلزامات والتزامات مغايرة، ما شأنه أن يرسّخ القناعة بأن القطع مع الأطر الحديثة، شكلاً ومضموناً وعمارة وهيكلية وآليات نمو، هو طريق السلامة في المستوى التنظيمي.

عندما نقول: إن الشهيد الصدر ذاكرة، أو مفصل في الذاكرة العامة، فإننا ندعو إلى التئام الذاكرة واتساقها بمطابقة المفصل على المفصل، مضموناً ونهجاً، ندعو في الأطراف الإسلامية البعيدة عن الحواضر ومرجعياتها المباشرة إلى حالة مرجعية مركبة، لها قوانينها الخاصة في الاتصال والانفصال، والحركة الراشدة بين الموضوعات والأحكام، بين الخصوصيات والقواعد العامة، مع الحذر الشديد من التباس الاتصال بالانفصال عندما يكون الاتصال قائماً على وهم بإمكانية الاختزال، اختزال الجماعة المتنوعة على أساس الوحدة، في فئة ذات بعد واحد، لا يلبث بالمزيد من التخريب أن يتحول إلى أبنية متصارعة، علماً بأن الانفصال المدروس والمحدود يمكن أن يكون فرصة مرنة للتواصل المجدي، أي يكون الانفصال ذا بعد وظيفي، ولا ينبغي أو لا يجوز أن نقع في وهم أن القنوات السائدة ۔ والتي استعرناها على غير مثال في تاريخنا ونظام اجتماعنا ۔ يمكن أن تكون موصلة فعلاً أو دائماً، إنها تصل وتوصل ثم لا تلبث أن تنسد أو تنكفئ.. .

وقد كنا نحاذر من التصميم في توصيف التجارب الحزبية على المستوى العالمي، إلى أن انتهت التجارب الحزبية في الشرق كما في الغرب إلى انكشافاتها المنهجية وانسداداتها المعروفة، فتبيّن لنا أن خلاصتنا ومحاذيرنا قابلة للتعميم، غاية الأمر أنه كان بإمكاننا أن نكون، بسبب الإسلام، ومطابقة العقيدة وموجبات الشريعة وأنظمة أدائها، لأطروحتنا في الاجتماع السياسي والعلائقي، كان بإمكاننا أن نبقى في منجاة من استحقاقات الاختزال الحزبي وتداعيات انهياره النظري والعملي.

إن المرجعية من دون سجن لحركيتها في مفهوم ونمط واحد جامد هي إطار بذاتها ومنها تتفرع القنوات منطبعة بسماتها وشروطها الداخلية مسكونة بهواجسها. في الجمع والرعاية والتكامل، ولا يمكن للمرجعية أن تكون في موقعها الحقيقي حتى لو كانت متصدرة لقمّة الخط البياني لإطار من نوع آخر، مهما تكن جرعة الإسلام فيه مكثفة، إنها ۔ أي المرجعية ۔ تضع نفسها حينئذ، في سياق جدل لا يناسبها، وبالتالي تصبح عرضه لمصادرات ظالمة لها ولجماعتها وللأمة.. .

يقول الإمام الصادق(ع): (الإمامة هي المفترق للطرق وعندها اجتماع ذلك الافتراق وأما السلطة فهي مكان اجتماع يمضي إلى افتراق). ولا نريد من هذا الشاهد أو الدليل أن نذهب إلى استبعاد السلطة، بل إلى ضرورة إبقائها مضبوطة بمرجعيتها وتحت سقفها؛ لأن المرجعية هي قوامنا، بينما السلطة هي إحدى وظائفنا، وقد تكون من أهم هذه الوظائف، أو أهمها في لحظة تاريخية معينة، ولكنها لن تتعدى موقعها كفرع لابد أن يبقى محكوماً بموجبات الأصل، أعني الدعوة.

الملمح الثاني في ما قلنا: إنه المعادل الموضوعي للتريث في الخطاب السياسي، في مرحلة هامة من حياة الشهيد الصدر، تمثّل في التفاته إلى أهمية الضمانة العلمية لمصداقية الخطاب السياسي، لقد كان من الأساس ومنذ بداية حياته العلمية في هذا الوارد وهذا السياق، ولعل ذلك هو ما جعله يقرأ المرحلة ومؤشراتها ومستلزماتها قراءة متأنية، رأى إلى إشكاليات المشروع الثقافي الاستعماري التدميري بلونيه، وقد آذنت بانكشاف فقرر أن لغة الدفاع عن الإسلام إذا ما استمرت منفردة فإن من شأنها أن تمضي إلى منطقة فراغ، فأخذ أهبته للهجوم وإن كانت مرحلة الدفاع في الماضي قد شابها شيء من الهجوم، فإنه كان ذا طابع تنديدي أو تشهيري، استهدف إيقاظ حالة من الممانعة على قاعدة العصبية النافية شكلت معتصماً ضرورياً، فإن هجومية السيد الصدر كانت ذات طابع تأسيسي ۔ على الإسلام دائماً ۔ وعلى المستويات كافة، من المستوى الفلسفي إلى مستوى النظر الاقتصادي، أسس السيد الشهيد لأطروحة إسلامية موجبة بين سلبيتي الشرق والغرب.

طوال المرحلة التي سبقت تصديه للمرجعية وشؤونها كان خطابه السياسي يستمد مصداقيته من نصه العلمي يتولد منه ويتفرع عنه، فدشّن بذلك حالة من الوعي السياسي كان من شأنها أن توقظ أو تبعث أشواقاً وطموحات عادلة ومشروعة وأن تلغي تاريخاً في الإحباط والكبت والإحساس بأن الاحتراف العلمي المحايد لم يعد يفي ۔ على غناه وأهميته ۔ بموجبات استشعار الفراغ وأحياناً الإحساس باللاجدوى لدى قطاع الشباب. وفي لحظة ما، زمن توفّره على (الأسس المنطقية للاستقراء) كان قد اطمأن إلى زرعه وأراد أن يرفع من الإنتاج وتيرةً ونمطاً دخل في مرحلة تأصيل الأصول وإعطاء الجواب الأخير على الأسئلة الأولى والأساس.

يقول(رضوان الله علیه) ملخصاً همّه في الكتاب:

وهكذا نبرهن على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ۔ من وجهة النظر المنطقية للاستقراء ۔ الفصل بينهما، وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع.[2]

وفي هذا الكلام استحضار لموضوعة في الجدل المنهجي بين الغزالي وابن رشد، يعيد من خلاله السيد الشهيد تشكيل ابن رشد على معطيات علمية مستجدة.. . وفي هذه المرحلة أصبح الخطاب السياسي لديه أبعد عن المباشرة، أي أصبح فكراً سياسياً أقل انشغالاً بالحدث وبالراهن، لقد انكفأ في اتجاه التاريخ مستقرئاً وفي اتجاه القرآن مستطلعاً، كان انكفاء إلى الإمام وتأصيلاً للحظات السياسي وليس انسحاباً منه أو استقالة.. . لقد أتى ذلك متزامناً مع نجاح الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني رضي الله عنه وأرضاه، والتي جعلت الخطاب السياسي الإسلامي أشد سطوعاً واكتمالاً وخصباً واتصالاً بالأصول والجذور، وأصبح من الضروري العودة إلى انتزاع الدليل، دليل المستقبل، دليل السلوك، الدليل المعرفي للنهوض والشهادة من خلال القرآن وحركة القرآن في أسرار الكون والتكوين والمعرفة والتاريخ.

ثانية: ندعو إلى التئام الذاكرة.. والإبقاء على العلم في مقامه وسطوته وسلطته من دون خوف، فلنا في العلم الإسلامي ومنازعه الداخلية المكونة وفي علم أهل البيت ضمانة أخلاقية تصون سطوة العلم من أن تتحول إلى انفصال وقمع واستعلاء.. . إننا بحاجة إلى النص العلمي الذي لا يبالغ في الطمأنينة ولا في القلق، يطمئن ويطمئن بقدر، ويَقلق من دون أن يُقلق، بقدر ما يثير الأسئلة ويبعث على تدبر الأجوبة ويفتح الحوار ويتيح تعارفاً وتثاقفاً وتكاملاً بين العارفين وبين حقول المعرفة من أجل أن تعود فتسود فينا وبيننا ذهنية علمية متشبثة بغائيتها على شرط الحرية، تكون مرشدنا في التعاطي مع الناس والأحداث، مع العامة والخاصة، مع المتفق والمختلف، مع الراهن والمرتجى، مع الحالة أي حالة وتاريخها ومؤشراتها واحتمالات مآلاتها…

وليس هذا منّي دعوة إلى المصادرة على النص السياسي المباشر، بل هي الدعوة إلى جعل هذا النص صادراً من مصدره ذاهباً راشداً إلى مورده، وإلا فإن الحالة النضالية التي أنجزناها في لبنان والتي رغبنا في إنجازها على تعقيدات أبلغ في العراق، فأنجزنا كثيراً وبقي علينا الكثير من الإنجاز والنقد والمراجعة ضماناً للمتابعة.. هذه الحالة لابد من أن نحتاط ونحيطها بكل أسباب الوقاية من أن تصاب بالحمّى، والعلم والمنهج العلمي التكاملي هو من أهم الأسباب على تسليم ضروري منا بأن السبب الأهم وهو الإيمان متحقق دوماً، وإن كان يحتاج إلى تفقد وتعاهد دائم حتى لا يتراجع رصيده بالاستهلاك.. وذلك يقتضي أن لا تكون حالتنا العامة ۔ نضالاً وسياسة ۔ تنمو طبق المتواليات الهندسية بينما ينمو رصيدنا العلمي والمعرفي طبق المتواليات الجبرية… ولابد أن يضارع نشاطنا العلمي دمنا ويفيض عنه ومنه رؤية وعمقاً وغزارة، حتى يهديه ويحرسه.. وإذا كان مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء فإن لدم الشهداء فضلاً محفوظاً يحفظه المداد ليعود فيحفظ المداد.. على أن مائزنا المسلم والثابت.. هو المعرفة أولاً والمعرفة أولاً وبالذات…

على أن بقاء المعرفة والعلم بكل مستوياتهما شأناً حصرياً من شأنه أن يفارق بين المرجوّ والمتحصل أو المحصول.. . من هنا يدعو إلى الترشح أو الترشيح أو الرشح العلمي، منهجاً وإنتاجاً وبحثاً وتعليماً وتدريباً وتسديداً وحفظاً ومراكمة وإثارة للحوافز، فعل الشهيد الصدر الذي كان حريصاً على الخروج من فرادته إلى حالة توازيه علماً وتتكامل معه عملاً. ولنا من طريقة إعداده لتلاميذه ووكلائه وشروط هذا الإعداد مثال يحتذى، لا يحتذى وحسب لأنه قابل للتطوير والوصول به إلى نهاياته المحمودة والمطلوبة.

لقد بلغ الشهيد الصدر ذروة ألقه وتقواه وغيريته الرسالية عندما ذاب في الإمام الخميني ودعا إلى الذوبان فيه، على أن الذوبان ليس هو التلاشي.. هو الاندماج في البحر، هو الاعتصام من النجاسة.. ومن قال: إن الوحدة إلغاء لأجزائها؟ من قال: إن الجزء يستطيع أن يحيا بعيداً عن الكل، التجزئة موت، يقول أبو الحسن العامري:

الكلي مفتقر إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجوداً بل لأن يصير بديمومته محفوظاً.

من قال: إنه مات.. من توحّد لم يمت.. ولكن لا تشعرون، من قال: إن قاتليه أحياء.. أموات ولكنهم لا يشعرون.

ملاحظة: يمكن الاكتفاء في الإلقاء من أول الصفحة السابعة.

[1]. أئمة أهل البيت(ع) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية، محمد باقر الصدر، ص 100.

[2]. الأسس المنطقية للاستقراء، محمد باقر الصدر، ص 578.