التجديد الكلامي عند باقر الصدر

دراسة تحليلية تستهدف الكشف عن أوجه التجديد والإبداع منهجياً ومفاهيمياً في دراسة أصول الدين عند باقر الصدر

الأسعد بن علي التونسي

مقدمة

في السنوات الأخيرة وبشكل غير متوقع ظهر من ينتصر الليبرالية الرأسمالية ويدعي أنها أرقى مراحل الصراع الأيديولوجي: لقد حدث ذلك سنة 1989 حين كتب فوكاياما فرنسيس مقالاته حول (نهاية التاريخ؟)[1] وهو لا يقصد نهاية الأحداث بل يقصد أن منتهى التطور الأيديولوجي هي الليبرالية وأن البشرية بلغت أوج الأنظمة السياسية الرأسمالية (فعدد الخيارات التي تواجهها البلدان في تحديد كيفية تنظيمها السياسي والاقتصادي قد قل كثيراً مع الزمن ومن بين النماذج المختلفة التي ظهرت في تاريخ الإنسان بدءاً بالأنظمة الملكية والأرستقراطية وصولاً إلى الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية الفاشية والشيوعية في عصرنا فإن الشكل الوحيد الذي استمر صامداً حتى نهاية القرن العشرين كان الديمقراطية الليبرالية.. وبعبارة أخرى ليست المحاولة الليبرالية هي التي تبدو منتصرة بقدر ما هي الفكرة الليبرالية أي أنه بالنسبة لقسم كبير جداً من العالم ليست هناك أيديولوجية تدعي الشمولية حالياً تكون في موقع يمكنها من منافسة الديمقراطية الليبرالية)[2] حتى الإسلام الذي يقر بأنه يمثل نظاماً أيديولوجياً متماسكاً ولكنه لا يعترف له بالقدرة على المنافسة خارج الحدود الجغرافية والتاريخية للعالم الإسلامي. يقول: (صحيح أن الإسلام يشكل أيديولوجية متماسكة شأن الليبرالية والشيوعية وله نظامه الأخلاقي الخاص وعقيدته الخاصة في العدالة السياسية والاجتماعية فدعوة الإسلام هي ذات طابع شمولي وهي تتوجه إلى جميع الناس.. وبالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في تجدده الحالي إلا أن هذا الدين لا يبدو أنه يمارس أية جاذبية خارج الأصقاع التي كانت إسلامية ثقافياً منذ بداياتها فقد ولى زمن الغزو الثقافي للإسلام كما يبدو أنه يستطيع استعادة بلدان فلتت منه لفترة لكنه لا يقدم أبداً الإغراءات لشبيبة برلين وطوكيو وموسكو إذا كان هناك مليار من الناس تقريباً ينتمون للثقافة الإسلامية – أي خمس سكان العالم – فإنهم لن يتمكنوا من منافسة الديمقراطية الليبرالية في عقر دارها في مجال الأفكار).[3]

لقد غاب عن فوكاياما.. وهو يعلن عن نهاية (تاريخهم) ويناقش النظرية الإسلامية من منظور وضعي أنه غير قادر على تفهم ما لهذه المدرسة من عمق وامتداد وتأصل في النفوس والآفاق.. غاب عنه أنه وفي نفس اللحظة التاريخية ذاتها – مع مطلع القرن الخامس عشر للهجرة – يولد التاريخ ويبدأ من المنظور الإسلامي في دورة حضارية جديدة مع قيام الثورة الإسلامية المباركة في إيران وبلوغ الفكر الإسلامي مرحلة متقدمة من النضج والتكامل. لقد غاب عن فوكاياما أن (المدرسة الإسلامية) لا تنطلق كالليبرالية من معطيات ظرفية ولا تضخع في أصولها الفكرية الاعتقادية إلى التاريخ.. بل هي تستوعب التاريخ لأنها تستند إلى مرجعية خارج التاريخ (الوحي الإلهي) وإن كانت في نضالها اليومي وصراعها الاجتماعي تخضع لنواميس التاريخ وقوانين الحركة.. . إن مضامين المدرسة الإسلامية فوق التاريخ لكنها تاريخية في حركتها ومسيرتها.. . لقد غاب عنه أن الارتباط بالمطلق يعطي لهذه المدرسة قدرة على التجديد والتكيف في كل لحظة زمنية وفي كل فضاء تاريخي وفي كل موقع جغرافي فلا.. تأخذه الطمأنينة.. ولا يغرّنه.. واقع المسلمين الراكد.. .

إن نهاية التاريخ التي يتنبأ بها (مسيلمة) الليبرالية الجديدة.. هي نهاية التاريخ المنقطع عن الله(عز) ولكنها بداية للتاريخ الذي يندمج فيه الإنسان من جديد في الكون مع الله وبالله جل جلاله.. .

بدأ التاريخ في المشرق.. وأذن التاريخ بنهايته في الغرب نهاية تمخضت في تحولات سياسية خطيرة عرفها المعسكر الاشتراكي.. ولا نزال نترقب تمثلاتها في المعسكر الرأسمالي.. بدأ التاريخ في المشرق بعودة الوعي وعودة الإسلام يقود الحياة إلى آفاق مستقبلية رحبة.. ويؤسس لنظم فكرية وثقافية وحضارية شاملة.. تخلص الإنسان والمجتمع.. وتبشر بحياة سعيدة عادلة.

لقد ساهم في صنع هذه اللحظة التاريخية العظيمة من فجر هذه الأمة رجالات كثر.. يشمخ على رأس قائمتهم.. (محمد باقر الصدر(قده)) الذي استشهد ليمنح كيان الأمة الإسلامية نفخة من روحه الطاهرة.. فيشارك إلى جانب آخرين في بعث الحياة في هذا الكيان.

لقد مثّل باقر الصدر نموذجاً متميزاً من منظّري الساحة وعَلماً بارزاً في سماء نهضتها الفكرية وانبعاثها الحضاري.

وبعد عقدين من رحيله لا يزال إنتاج باقر الصدر يشكل نسيجاً متماسكاً مدرسة إسلامية متكاملة الأبعاد.. وبالرغم من التطورات الثقافية والفكرية التي عرفها العالم منذ استشهاده إلا أن مشروعه الفكري لا يزال يمثل من عناصر القوة والجدية ما يبقيه حاجة مستمرة إلى قراءة جديدة.. حتى نحسن تمثله وتشييد البناء التام لهذه الدراسة استناداً إلى الأسس التي أرساها.. .

وقع فكر باقر الصدر موضوعاً للعديد من البحوث والدراسات التي حاولت استكشاف مناحي التجديد ونقاط القوة والإبداع في هذا العطاء.. إلا أن هذه الدراسات بقيت تعاني من نقائص عدة أهمها:

أ) تمركزها حول بعض القضايا والمسائل دون غيرها.

ب) انشداد هذه البحوث منهجياً إلى آليات ومناهج تجاوزها باقر الصدر وطرح آليات بديلة لها فإلى متى ندرس فكر باقر الصدر تجزيئياً في الوقت الذي اكتشف هو المنهج الترابطي الموضوعي؟ وإلى متى نبقى مشدودين إلى المنطق الأرسطي في تحليل أفكاره.. متغافلين عن نظريته في المعرفة والمذهب الذاتي؟

وفي دراستنا هذه نحاول تخطي هذين القصورين فاخترت موضوع التجديد الكلامي عند باقر الصدر لأنه في حدود اطلاعي القاصر لا توجد دراسة مستوفية تستوعب البحث العقائدي عند الشهيد الصدر وإن تعرضت بعض البحوث لبعض كتابات الصدر العقائدية.. لكن التجديد الكلامي بهذا العنوان لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال دراسة موضوعية لجميع أصول الدين.

ولابد من الإشارة إلى أن الدراسة تطغى عليها الصبغة التحليلية وهذا ما يبرر التصاقها الشديد بكلمات باقر الصدر حتى نقترب أكثر فأكثر من الموضوعية التي تنقل أفكاره وإبداعاته.

ولم تركّز الدراسة على المقارنة بين أفكار باقر الصدر وغيره من المفكرين الطليعيين الذين يلتقي معهم في كثير من النقاط – خاصة محمد حسين الطباطبائي والشهيد مطهري – إلا في مواضع قليلة لأن الهم الأول كان الكشف عن نقاط خفية في فكر الرجل ومكامن التجديد والإبداع لديه في الطرح الكلامي فلم نلتفت إلى المقارنات إلا قليلاً.. حتى لا نشوش على الهدف المركزي.

أما البعد النقدي فهو غائب تماماً عن الدراسة. وإن كنت أعتقد بضرورة قراءة مشروع الصدر قراءة نقدية تساهم في استكمال بناء المشروع وتدارك أوجه النقص فيه.. إلا أن أمرين اثنين حالا دون ذلك:

أولاً: أن القراءة النقدية العلمية السليمة هي التي تقع في مرحلة تم فيها تحليل المشروع فالنقد مرقى فكري أعلى من التحليل والتمثل وأنا أعتقد أن هذا المرقى الأخير لم نبلغه أو لم نتجاوزه على الأقل خاصة في مستوى المجال الذي تم اختياره (التجديد الكلامي).

أما ثانياً: فإن القراءة النقدية تستوجب مستوى علمياً وإحاطة تفصيلية دقيقة بكامل المشروع الفكري لباقر الصدر.

في ضوء هذه الأهداف والأسس تتكون بنية البحث إضافة إلى هذه المقدمة في ثلاثة فصول:

الفصل الأول: يقدم نبذة عن تاريخ علم الكلام والمرحلة التاريخية التي ينتمي إليها باقر الصدر.

الفصل الثاني: التجديد المنهجي والنقلات التي أحدثها باقر الصدر.

الفصل الثالث: المضامين والأفكار الاعتقادية في ضوء المنهج الجديد… الفصل الأول: مراحل علم الكلام

تزداد البحوث والدراسات حول المعرفة، أدواتها، مصادرها وتطورها أهمية يوماً بعد آخر. ولا يزال الفكر الإسلامي يتلمس طريقه في اتجاه طرح نظريات شتى في مختلف مجالات الفكر قصد أسلمة المعرفة وصياغة التصور الإسلامي الأصيل، ولا يخفى ما تمتاز به المدرسة الإسلامية من تنوع وثراء يؤهلها للعب هذا الدور ولعل منشأ هذا التنوع يعود إلى أمرين أساسيين:

أولاً: تعدد مصادر المعرفة في المنظور الإسلامي.

ثانياً: ظهور اتجاهات معرفية متنوعة في تاريخنا الفكري.

فالرؤية الإسلامية العامة لا تلغي دور العقل كما أنها تقر بدور الحس والتجربة فهي تزاوج بين المحسوسات والمعقولات وإن كانت تختلف مع التجريبيين والحسيين في حدود الحس والتجربة كما تفترق عن الاتجاهات العقلية في مدى دور العقل وطبيعة البديهيات التي يختزنها.

ومن جهة أخرى تؤمن المعرفة الإسلامية بالوحي كمصدر إلهي فوق بشري يهدينا لمعرفة معصومة في جذورها بشرية في فهمها والتعاطي معها وهذا نبع يثري التراث الإسلامي ويمنحه دفعة تفتقدها كل الاتجاهات الوضعية. ومن سنخ الوحي يقوم الإلهام كأداة معرفية تستند إلى تزكية النفس ومجاهدتها في الإعراض عن دواعي الطبيعة ومتطلبات الهوى لبلوغ مراتب عالية في السير والسلوك.

إن هذا التنوع في أدوات المعرفة ووسائلها ساهم بفعالية في الثراء الفكري والمذهبي للتراث الإسلامي. ومن صميم هذا التنوع المعرفي انبثقت كل العلوم الإسلامية. فالحديث كان تدويناً للنص النبوي الذي يمثل التفسير والتحليل الوافي للوحي وهو الوجه الآخر للنص القرآني التي تحوم حوله كل علوم القرآن في أحضان الحديث نشأ الفقه وتكامل وتطور وكذا علم أصول الفقه الذي انبثق بدوره عن الفقه كمجال لدراسة القواعد العامة والمشتركة في استنباط الأحكام الشرعية.. إلخ.

هذا التنوع في مصادر المعرفة كان عاملاً مهماً في تعدد المناهج المعرفية في فكرنا الإسلامي والتي يرجعها البعض إلى ثلاثة اتجاهات أساسية:

أ ۔ المنهج الفلسفي بشقيه الإشراقي والمشائي.

ب ۔ المنهج الكلامي.

ج ۔ المنهج العرفاني.

ويضيف البعض منهجاً رابعاً معتبراً إياه مكملاً للثلاثة السابقة: مدرسة الحكمة المتعالية التي توحد بين (القرآن والعرفان والبرهان) في الوصول للمعرفة.[4] فالمنهج الكلامي قسيم للمنهج الفلسفي المشائي والمنهج العرفاني وهذا النهج يستند إلى جملة من الضوابط التي حددها تراث هذا العلم فالكلام هو العلم الذي يبحث عن أصول دين الإسلام على النحو الذي يحدد ما هو من أصول الدين وكيف وبأي دليل يتم إثباتها مع الردود على الشكوك والشبهات التي تردّ عليه.[5] فالتعريف السابق يحدد المهمات الأساسية لعلم الكلام:

أولاً: تحديد أصول الدين.

ثانياً: إثباتها بالدليل.

ثالثاً: دفع الشبهات التي تثار حولها.

ولما كان المتكلم لا ينطلق في بحثه مجرداً عن أي معتقد أو خلفية مسبقه بل هو يبدأ متسلحاً بمعتقداته ومتبنياته، اتسم النهج الكلامي بالنزعة الجدلية التي تسعى لإثبات المعتقد الديني بالدليل مقابل الاتجاه الفلسفي الذي يتحرك عبره الفيلسوف حراً من كل التزام مسبق بأية فكرة أو مضمون (فالمتكلم بعكس الفيلسوف يعتبر نفسه متعهداً بالدفاع عن حريم الإسلام والبحث الفلسفي بحث حر أي أن هدف الفيلسوف ليس معيناً سلفاً بأن يدافع عن عقيدة ما ولكن هدف المتكلم محدد سابقاً)[6]، ولكن رغم ذلك تأثر علم الكلام وتفاعل مع الاتجاهات المعرفية الأخرى فاكتسب البحث العقائدي أحياناً نزعة عرفانية (الغزالي مثلاً) وفلسفية أحياناً أخرى (الخواجة الطوسي). وأوغلت بعض الاتجاهات الحرفية فحاربت علم الكلام واعتبرته بدعة كالحشوية والسلفية وبعض أئمة مذاهب الفقه.

إن موضوع علم الكلام وخطورته هما اللذان بوَّآه المكانة السامية في تاريخنا الثقافي. فإن كان شرف العلم كما يقول القدماء بشرف المعلوم فلا علم فوق الكلام لأنه يتعلق بالذات الإلهية المقدسة وصفاتها وأفعالها بالمعنى العام للفعل الذي يتضمن النبوة والمعاد كتجليات للفعل الإلهي.

وإن كان جل العلوم الإسلامية الأخرى تقوم على النص القرآني والنبوي وكلمات المعصومين فإن علم الكلام هو الذي يتكفل إثبات هذا النص بإثبات أصل التوحيد وأصل النبوة.

وفي زماننا الحاضر لم يفتقد (علم العقائد) أهميته البتة. بل عززتها الحاجة الفطرية المتأججة لدى الإنسان لامتلاك رؤية كونية عامة تضيء له الدرب وتفتح أمامه الآفاق بالإجابة عن أهم الأسئلة الكبرى التي تقلقه من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟

لقد تعمقت هذه الحاجة عبر التاريخ.. خاصة بعد احتكاك المسلمين مع الشعوب الأخرى ودياناتها وبعدما انخرطوا في الصراع المذهبي والديني سواء داخلياً أو مع المعتقدات الأخرى.

ولكن هل بلغ علم الكلام من النضج ما يؤهله لمواكبة تحديات العصر ومتطلبات الزمان؟ وهل كان في تاريخه دوماً في مستوى هذه المسؤولية التي تعهد بأدائها والذب عنها؟

إن استقراء تاريخ هذا العلم يعكس مداً وجزراً، إقبالاً وإدباراً.. حيث لم يكن دائماً في مستوى الحاجة الماسة للمسلمين في الذب عن الدين والمبدأ والوحي والمعاد.. لقد شهد تاريخ هذا العلم فترات ازدهار وتقدم كما عرف انتكاسات موضعية لم تفقده على (كل حال).. تكامله في اتجاه عام تصاعدي…

وإن محاولة تحقيق هذا التاريخ تواجه صعوبات جمّة لأن خصوصيات المذاهب والمدارس الكلامية المختلفة تحول دون أن نرسم تاريخاً واحداً حيث اختلفت مراحل كل تيار عن بقية المدارس واكتسبت كل مدرسة طابعاً وتكاملاً يميزها عن المدارس الأخرى.

ولذلك سنحاول أن نحدد الملامح الكبرى العامة لتاريخ هذا العلم والتي تشترك فيها تقريباً كل الاتجاهات الكلامية من أشاعرة ومعتزلة وإمامية.. إلخ. وإذ نحن نحاول أن نعطي منحى عاماً لكل المدارس الكلامية لابد أن نشير إلى أن ازدهار هذا العلم بتعدد فرقه ومذاهبه كان مصاحباً لازدهار الإسلام (وانحط علم الكلام حين جمد فكر المسلمين.. وحين أغلق باب الاجتهاد).[7]

وأهم المراحل هي:

المرحلة الأولى: مرحلة الجذور التأسيسية الأولى

إن نزول الوحي الإلهي على قلب رسول الله(ص) كان إيذاناً ببدء الرسالة الخاتمة وكذلك إيذاناً بتحول كبير في التصور العام للإنسان والحياة والعالم. لقد رسمت الآيات الأولى من سورة العلق منهجاً جديداً في رؤية الكون ورسالة الإنسان. إنها تؤسس لقراءة مزدوجة قراءة في عالم الطبيعة: والاستفادة مما تزخر به من قدرات وإمكانات وقراءة باسم الله بمعنى منفتحة على ما يزخر به الغيب من مواهب وعطاءات.. إنه التوازن الدقيق بين مستلزمات عالم الطبيعة وعالم الغيب.[8]

إن النص القرآني هو الذي أسس لنشوء علم الكلام لأنه بما تضمنه من حقائق عن علم الله وقدرته وحياته عن النبوة والمعاد والإمامة وجه الأنظار إلى مثل هذه القضايا إضافة إلى إلحاحه الشديد على وجوب النظر والفكر والتأمل وإقامة البرهان والجدل بالتي هي أحسن… لقد احتلت هذه المطالب مساحة كثيفة فاق القرآن بها ما تضمنته الكتب السماوية الأخرى.

ولكن لما كان في تاريخ كل دين يمر بمرحلة تتسم بالتسليم والانقياد القلبي بعيداً عن المناقشة والجدال في تفاصيل العقيدة قبل بلوغ مرحلة التدقيق والتمحيص العقليين والتخصص في المناظرة والجدل، لم تبرز هذه المسائل فجر الرسالة في نطاق علم خاص لأن العقائد زمن الرسالة ونزول القرآن كانت تواكب المسيرة والدعوة ويعيشها الناس حياة وحركة لا جدال وفرضيات.. من هنا لم تكن الحاجة ملحة لصياغة نظرية لمسائل علم قائم بذاته.

فمرحلة التأسيس تقوم على اعتبار أن القرآن هو المنطلق لنشوء هذا العلم سواء من جهة المضمون أو من جهة المنهج. والزمخشري يقرر هذه الحقيقة حيث يذهب أن الإغماض في القرآن وتشابه بعض معانيه هو السر في دفع المسلمين للبحث والنظر والتفكير والاستنباط (ولو كان كله (القرآن) محكماً لتعلق الناس بسهولة مأخذه ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز من الثابت على الحق والمتزلزل فيه ولما في تقادح العلماء واتباعهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمّة ونيل الدرجات عند الله).[9]

ثم إن القرآن لا يخلو من آيات بديعة في مجادلة المشركين وأتباع الديانات الأخرى ونقض مزاعمهم مما شجّع المسلمين أكثر فأكثر على بلورة هذا العلم وتأسيسه. إضافة إلى ما نقله الحديث من محادثات الرسول(ص) مع اليهود والنصارى والمشركين واحتجاجاته عليهم. ولا يخفى على كل منصف الأثر البالغ للإمام علي(ع) يقول الشهيد مطهري(رضوان الله علیه):

إن البحث الاستدلالي بخصوص الأصول الإسلامية قد نشأ من القرآن الكريم كما في أحاديث الرسول(ص) وخطب أمير المؤمنين(ع) تعقيباً وتفسيراً وإن اختلفت صياغة وأسلوب هذه المباحث عن صياغة وأسلوب المتكلمين فيما بعد.[10]

المرحلة الثانية: مرحلة النشوء والنمو

تتجاهل الدراسات عادة مرحلة (الإرهاصات)، (المرحلة السابقة)، وتؤرخ لعلم الكلام انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة على يد بعض الرموز كمعبد الجهني وغيلان الدمشقي اللذين دافعا عن اختيار الإنسان مقابل اتجاهات ظهرت تنظّر للجبر، ولكن التحقيق أن مسألة الجبر والاختيار التي شكّلت في فترة ما محور المباحث الكلامية هي ضمناً مسألة القضاء والقدر بمعنى أن القضية من جهة ارتباطها بالإنسان عنوانها الجبر والاختيار ومن جهة علاقتها بالله(عز) تعنون بالقضاء والقدر وعن هذه المسألة تتفرع قضية العدل وذلك لوضوح العلاقة بين الجبر والظلم والعدل والاختيار وينجر عنه بحث الحسن والقبح الذاتيين فالمستقلات العقلية ومسألة تعليل أفعال المولى بالأغراض وشيئاً فشيئاً يتسلسل البحث إلى التوحيد في الأفعال ثم التوحيد في الصفات ثم تشعبت بعد ذلك أكثر فأكثر المسائل الكلامية.[11]

ولقد ساهم في هذا التطور اختلاط المسلمين نتيجة للفتوحات مع غيرهم من الأمم وأرباب الملل والنحل وتعرفهم على معتقدات هؤلاء ومناظرتهم لأحبارهم وكهنتهم وممثلي دياناتهم.

وفي هذه المرحلة ظهرت الفرق الكلامية كالأشعرية المرجئة والمعتزلة ويعتقد العديد من الباحثين أن هذه المرحلة شهدت أيضاً انتقال علم الكلام من الشفوية إلى (الكتابية) فيذكرون كشاهد على ذلك رسالة محمد بن الحنفية (ت 100هـ) ورسالة الحسن البصري (ت 110هـ) ورسالة عمر بن عبدالعزيز (ت سنة 101هـ).

ولقد سجل ابن النديم صاحب الفهرست بعض أصحاب أئمة أهل البيت(ع) ممن دونوا في علم الكلام فذكر في هذا المضمار علي بن إسماعيل بن ميثم التمار وله كتاب الإمامة وكتاب الاستحقاق كما صنف هشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق(ع) كتاب الإمامة، كتاب الدلالة على حدوث الأشياء، كتاب الرد على الزنادقة.. إلخ.[12]

وهكذا تؤكد لنا مرحلة الإرهاصات وهذه المرحلة تأصل علم الكلام في بيئته الإسلامية وتتهاوى مزاعم بعض المستشرقين ممن حاولوا إرجاع علم الكلام إلى مرحلة ما بعد دخول الفلسفة اليونانية إثر عصر الترجمة حيث شق عليهم نسبة هذا السبق الإبداعي للمسلمين والمكسب الحضاري في تاريخهم. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي(قده):

وليس الأمر على ما ذكره بعضهم أن التكلم ظهر وانشعب في الإسلام إلى الاعتزال والأشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم وآرائهم في الرويات قبل ذلك.[13]

ولا ينقضي العجب من الشيخ المظفر على جليل قدره وعظيم شأنه حين يسقط في نفس الشبهة التي أثارها هؤلاء المستشرقين فيقول:

أما علم الكلام فلا يشبه الفلسفة لأنه إنما نشأ عند المسلمين لرد عادية الفلسفة المهاجمة خوفاً من أن تؤثر على العقيدة الإسلامية أو ما يرونه عقيدة إسلامية.[14]

ويقول في موضع آخر:

لما هاجمت الفلسفة أفكار المسلمين وأوجبت اضطرابهم وتبلبلهم وقد كان الناس في السابق يقدسون الفلسفة ويتلقون أفكارها كوحي منزل نشأ من ذلك حالة من الازدواجية تدعو إلى التوفيق مهما كلف الأمر بين ما جاء به الإسلام وما جاءت به الفلسفة ولو بتأويل ما جاء به الإسلام لصالح ما جاءت به الفلسفة في الحالة التي يوجب فيها تعارض وتغاير بين الاثنين فنشأت مذاهب ومدارس فكرية مختلفة متناحرة نتج عنها فتن كثيرة سالت فيها دماء كثيرة.[15]

المرحلة الثالثة: مرحلة اكتمال النمو  

هي التي أعقبت عصر الترجمة الذي بدأ مع المنصور العباسي (137 ۔ 158هـ) وبلغ ذروته مع المأمون العباسي (198 ۔ 218هـ). لقد استفاد المتكلمون من ترجمة الفلسفة وإشكالات الفلاسفة وآرائهم فقد (كانت العرب بعيدة عن التفكير الفلسفي حتى شاهدت نموذجاً منها في ترجمة بعض الكتب الفلسفية اليونانية المترجمة إلى العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وبعدها ترجمت كتب متعددة في أوائل القرن الثالث الهجري من اليونانية والسريانية وغيرها إلى العربية وآنذاك أصبحت طريقة التفكير الفلسفي في متناول أيدي العموم).[16]

وساهمت حركة الترجمة في انتشار الفلسفة مما دفع التفكير الديني عند المسلمين لمحاولة التوفيق بين معطيات الفلسفة والمضامين الاعتقادية كما دفعهم للذب عن العقيدة ودفع شبهات المنكرين وإشكالات المعاندين فكان عصراً ذهبياً للكلام رغم كل ما شابه من صراعات خرجت عن حدها المعقول من الجدال الفكري والمذهبي الصرف بل اتخذت أبعاداً سياسية خطيرة أضفت على الصراع حالة من التعصب المقيت لا تتحمل التعدد والتنوع وترنو لإقصاء الطرف الآخر ولو بقوة السلاح.

المرحلة الرابعة: مرحلة الجمود النسبي

بعد التطور والازدهار الذي شهده علم الكلام في العصر السابق حل دور الجمود مع حلول القرن الرابع للهجرة حيث جمد الناس على الأساليب الموروثة جموداً أخرجه عن كونه علماً. وانفصل بذلك علم الكلام عن التفكير العميق. وفي هذه الفترة مات الاعتزال ولكن ظهور أسماء لامعة في القرن السابع للهجرة أعاد لعلم الكلام تألقه وإشعاعه فكان الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 672هـ) والعلامة الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726هـ) اللذان أعادا التزاوج بين الفلسفة وعلم الكلام بعدما انفصلا في فترة الجمود مما أثر على الاتجاه الكلامي في المذاهب الأخرى أيضاً، وأضحت منهجية الطوسي في التجريد هي أساس البحوث الكلامية. حتى أن عضد الدين الإيجي وتلميذه التفتازاني في كتابيهما المواقف والمقاصد نظراً إلى التجريد. يقول الشهيد مطهري:

وقد أبدع الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم والفيلسوف المتبحر بكتابه تجريد الاعتقاد النص الكلامي الأكثر إحكاماً وكل متكلم أتى بعده شيعياً كان أم سنياً قد اعتمد هذا المتن. والخواجة نصير الدين قرّب الكلام إلى حد كبير من أسلوب الحكمة الجدلية إلى أسلوب الحكمة البرهانية وفي فترات لاحقة فقد الكلام أسلوبه الجدلي كلياً وانضوى تحت لواء الحكمة البرهانية.

والفلاسفة الشيعة المتأخرون عن الخواجة طرحوا المسائل الكلامية الضرورية في الفلسفة وبحثوا فيها وحللوها بالاسلوب والمنهج الفلسفي فوفقوا أكثر من المتكلمين الذين اعتمدوا الأسلوب القديم، فصدر المتألهين أو الحاج السبزواري مثلاً ولو أنهما لم يعدّا في زمرة المتكلمين فإن لهما أثراً حضورياً يفوق أي أثر حضوري لأي متكلم.[17]

المرحلة الخامسة: مرحلة الجمود والتقليد

مع ضعف الأمة الإسلامية وتخليها عن روح البحث والإبداع إلى التقليد والاكتفاء باتباع السلف واجترار تراثهم وإنشاء الشروح والحواشي على مؤلفات الأولين ومصنفاتهم كان لابد أن تتجمد الذهنية الإسلامية عموماً والكلامية خصوصاً رغم الرفض القرآني الحاسم لنزعة التقليد الأعمى والتحجر على أمجاد الآباء.. <وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ>.[18] وقوله تعالى: <إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىٰ مِمّٰا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبٰاءَكُمْ قٰالُوا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ>.[19]

لقد امتدت هذه الحقبة قروناً طويلة استمرت إلى نهاية القرن التاسع عشر ميلادي ومطلع القرن العشرين (لقد انقضت قرون عديدة قبل أن يظهر في الإسلام كتاب جديد في علم الكلام ذلك أن المؤلفات في هذا العلم ترجع إلى القرنين الثالث والرابع الهجري وما صنف بعد ذلك لم يكن إلا استئنافاً للتي وردت في تلك المؤلفات السابقة).[20]

المرحلة السادسة: مرحلة الانبعاث وعودة الوعي

لقد اقترنت دعوات الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بنداء لإحياء الفكر الديني فزعماء الإصلاح أدركوا جيداً أن الجمود العقائدي والتقليد الفكري أحد الأسباب الأساسية لتخلي الأمة عن ريادتها الحضارية للعالم وتخلفها عن ركب الأمم الأخرى. ويمكن اعتبار الأفغاني وعبده وأمثالهما من رواد هذه المرحلة لأنهم حاولوا نقد الفكر الديني من الداخل وتحليل أبعاد الأزمة متجاوزين الأطر التقليدية الضيقة في التعاطي مع العقيدة.

وجمال الدين الأفغاني في رسالته (الرد على الدهريين) يقدم الدين في عقائده الأساسية والخصال التي كرّسها كسبيل وحيد لحياة اجتماعية تستند إلى بناء متين وأساس مدني محكم وأن إنكار الدين لا يقود المجتمع إلا إلى الانحلال والضعف ويستقرئ جملة من المجتمعات التي شهدت صعوداً في مرحلة من حياتها لكنها شهدت تقهقراً يرى الأفغاني أن سببه تأثر هذه المجتمعات بالأفكار الدهرية مما هدّ الأسس الاعتقادية التي يبثها الدين في المجتمع وهي الإيمان بأن (الإنسان ملك على الأرض وأن الأمة التي ينتمي إليها أشرف الأمم، وثالثاً: الإيمان بالآخرة وأن هذه الدنيا ليست إلا لاستحصال كمالات إلهية أرفع للروح إلى عالم أرفع وأوسع).[21]

وفي رسالة التوحيد أبرز محمد عبده أبعاداً جديدة للتوحيد سواء على مستوى تطهير العقول من الأوهام والخرافات أو ضمان حرية الإنسان وتحريره من كل سلطة قائمة. كما أنه رأى في التوحيد حرباً على التقاليد واقتلاعاً لأصول التقليد كما قرأ فيه معاني التوحيد لصفوف الأمة ولمّ شملها مقابل الشرك الذي يختزن كل معاني التمزق والتفرقة الاجتماعية كما أنه بحث في الرسالة قضايا لها مساس بحياة الفرد والناس فأشار إلى الحاجة إلى الدين ودَفَع شبهات في المقام وتحدث عن إمكان الوحي ووقوعه ورسالة النبي محمد(ص) وخصائصها وسرّ انتشارها السريع وأجاب عن إشكالية: النهضة الإسلامية في ضوء امتلاك كل مقومات النهوض المتمثلة في الرسالة الإسلامية.[22]

من بين الأعمال التي اعتبرت رائدة في هذه المرحلة الأخيرة إحياء الفكر الديني لمحمد إقبال الذي رفع في مقدمته لواء التجديد حيث يقول (حاولت في هذه المحاضرات.. بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً آخر يعني الاعتبار المأخوذ في فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة).[23]

لكن يبدو أنه ركّز على جانب واحد وهو ما يسميه بالتجربة الدينية والأبعاد النفسية للتدين. ويكون العنوان (إحياء الفكر الديني) شعاراً يفتقد إلى مضمون وبرنامج حقيقي شامل للتجدد.

رغم عمق هذه المحاولات وغيرها في قراءة العقيدة الإسلامية في ضوء ثقافة العصر والمستوى الفكري للمرحلة ونتاجها العلمي والنفسي والفلسفي والخروج من طوق الجمود والتخلف الذي حاصر الفكر الإسلامي قروناً طويلة مكرساً فهم الآباء الذي اكتسب إطلاقاً زمانياً، إلا أن هذه المحاولات بقيت قاصرة عن إحداث نقلة حقيقية في منهج علم الكلام إلى أن ظهرت محاولات أخرى تعدّ حقاً خطوات جبارة على طريق النهضة والتجديد وبرزت في هذا الاتجاه أسماء لامعة لعبت دوراً بارزاً على هذا الصعيد منها: السيد محمد حسين الطباطبائي(قده) والشهيد مرتضى مطهري(قده)كرائدين مهمين من رواد مرحلة الانبعاث وعودة الوعي.

وبين هؤلاء الرواد يبرز محمد باقر الصدر الذي يلتقي معهم في هذا المضمار لكنه يمتاز بأنه أسس لنقلات منهجية خطيرة خاصة على مستوى نظرية المعرفة حيث إنه بنى لنفسه نظرية خاصة في المعرفة (المذهب الذاتي) طبقها على العديد من المسائل في علم الكلام في بحوثه المتفرقة وهي مميزة يفتقدها غيره من المجددين.

إن باقر الصدر رغم عدم امتلاكه أثراً متكاملاً لتجديد المنهج الكلامي وطرق مسائله وفق منظوره الجديد لكن ما تركه من نتاج عقائدي متناثر في مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العديدة يشكل أرضية صلبة لنقد المنهج القديم وصياغة النهج الجديد وقراءة لأصول الدين من وجهة نظر مبتكرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.

لقد تحولت لوحة أصول الدين في منهج الصدر إلى نظريات متكاملة في الثورة والتغيير الاجتماعي والقيادة والخلافة والحياة.

ولكن ما هي أهم النقلات المنهجية التي أسسها باقر الصدر؟

وما هي المضامين الجديدة لأصول الدين في ضوء هذه المنهجية الجديدة؟

هذا ما سيحاول الفصل الثاني والثالث الإجابة عنه إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني: معالم التجديد المنهجي عند باقر الصدر

لا يكتفي المجددون الحقيقيون عادة بطرح مفاهيم جديدة وتصورات غير مسبوقة ومضامين مستحدثة وفق ما تحتاجه الساحة الفكرية أو على أساس عملية استشرافية لمعالم المستقبل وتحديات التقدم الإنساني.

بل إن هؤلاء المجددين يحدثون نقلات منهجية تحقق قفزة نوعية وربما تحدث تحولات معرفية كبرى تمكّن الأجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن كل الأساليب التي سلكها الأولون.

إن كبار المجددين من العلماء والفلاسفة في كل ميدان هم الذين استطاعوا فعلاً إحداث مناهج جديدة لا الذين أتوا بمعارف مبتكرة فقط.

ففي مجال الفلك ما كان ل۔(كوبرنيك) أن يعرف هذه الشهرة لولا القطعية المعرفية التي أحدثها مع النظرية الفلكية القديمة وطرحه رؤية جديدة.. و(ديكارت) في مجال الفلسفة ما كان ليصبح علماً بارزاً وعلامة لمرحلة جديدة في تاريخ التفكير الفلسفي لو لم يكن صاحب منهج جديد.. وكذلك (أنشتاين) في الفيزياء لولا ثورته الكبرى على فيزياء نيوتن وتأسيسيه لنظريته النسبية التي قلبت الفيزياء رأساً على عقب.

وفي هذا السياق وفي مجال البحث العقائدي يتجلى إبداع (محمد باقر الصدر) في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجية كبرى من شأنها أن تسهم في إرساء أسس جديدة لعلم عقائدي جديد.

لقد التفت إلى هذه القدرة الإبداعية للصدر (شبلي ملاط) في دراسته تجديد الفقه الإسلامي حيث يقول (لقد اكتشفنا في كتابات باقر الصدر وأقواله نظاماً يستمد قوته كما كل النظم لا من الإجابات المحددة القادرة على توفرها وإنما من المجالات التي يفتحها).[24]

وباستقراء الإنتاج الكلامي والعقائدي للسيد محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه يمكن أن نستكشف خمس نقلات منهجية أساسية:

أولاً: من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذاتي.

ثانياً: من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي.

ثالثاً: من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي.

رابعاً: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع.

خامساً: من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية.

النقلة المنهجية الأولى: من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتي

في كتاب (فلسفتنا) تبنى باقر الصدر النظرية الأرسطية في المعرفة حيث سلّم بالبديهيات الست وضرورة مبدأ العلية ومسألة بداهة الواقع الخارجي لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري وخاصة الكلامي الذي تأثر بالمباحث المنطقية والفلسفية إثر ترجمة التراث اليوناني. واتخذ طابعاً جدلياً وتطرف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الأرسطي حتى سقط في التجريد المطلق والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.

لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويل بأطروحته المتميزة: (الأسس المنطقية للاستقراء) والذي قال عنها باقر الصدر نفسه: (إنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة).[25]

ليس كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، كما قد يوحي عنوانه دراسة لمشكلة الاستقراء فحسب وحل لقضية التعميم الاستقرائي وإنما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر: المذهب الذاتي في المعرفة: إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجريبي والمذهب العقلي ولمعرفة تمايز هذا المذهب لا بأس أن نقارن بين هذا الاتجاه الجديد وبين هذين المذهبين الكبيرين. وسنحرر هذه المقارنة في النقاط التالية:

أولاً: تحديد مصدر المعرفة: فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي حول وجود قضايا وإدراكات قبلية التي تمثل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.

ثانياً: يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي. فالمذهب العقلي يستند في هذا التعميم إلى مبادئ ثلاثة: مبدأ السببية ومبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار ومبدأ أن الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة ويعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة ومستقل برهانياً عن مبدأ السببية ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القياس حسب المنطق العقلي ينطلق باقر الصدر ليشيّد نظريته في المعرفة.

ثالثاً: إن المذهب العقلي يؤمن أساساً بالتوالد الموضوعي في المعرفة والقياس هو العمدة في الاستدلال وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا وكبراه أن الصدفة لا تتكرر باستمرار.

والتلازم الموضوعي يعني أنه اعتماداً على التلازم بين قضية وأخرى أو بين قضية ومجموعة قضايا أخرى يمكن أن تحصل معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضية أو القضايا التي تستلزمها. مثال ذلك من قولنا: (سقراط إنسان) و(كل إنسان فانٍ) نستنتج أن (سقراط فان) فهذا توالد موضوعي لأنه ناشئ عن التلازم بين الجانب الموضوعي للمقدمات والجانب الموضوعي للنتيجة. (فالتوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي لأن النتيجة دائماً ملازمة للمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قياسية).[26]

أما التوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي أنها الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا فهي تؤمن بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج دون تلازم في الجانبين الموضوعيين والمقصود من الجانب الذاتي الإدراك. في حين أن المنطق الأرسطي يعتبر أن هذا التلازم الذاتي دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة وهكذا حاول المنطق الأرسطي أن يفسّر كل معارفنا بأنها إما أن تكون أولية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي. أما المذهب الذاتي فيؤمن: بوجود معارف أولية تمثل الجزء العقلي القبلي من المعرفة (مبدأ عدم التناقض). وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي (مثال ذلك نظريات الهندسة التقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة) وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي (التعميمات الاستقرائية) وهي تهم أكثر معارفنا.

ولا يتوهم أن المذهب الذاتي يتفق كلياً مع المذهب الأرسطي في المعارف القبلية. إنهما يتفقان من حيث المبدأ والإقرار بوجود هذه المعارف القبلية ولكنهما يختلفان من جهتين:

أ ۔ طبيعة المعارف الأولية.

ب ۔ ضرورة كونها يقينية.

في الجهة الأولى يناقش باقر الصدر في أطروحته الرائدة (الأسس المنطقية للاستقراء) البديهيات التي آمن بها المنطق الأرسطي والتي أرجعها إلى ست: يقول الصدر (إن القضايا التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد وتبعاً للمرحلتين التي حددتهما للدليل الاستقرائي)[27] ولابد من الإشارة هنا أن باقر الصدر يفرّق بين الحس الظاهر والحس الباطن ويرى أن قضايا القسم الأخير أولية وما نفى بداهته هو الحس الظاهر:

ولا شك في أن القضايا المطلوب إثباتها بالحس الباطن أولية لأن الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسي يتصل بصورة مؤكدة بمدلول القضية المطلوب إثباتها بهذا الحس مباشرة وأما القضايا المطلوب إثباتها بالحس الظاهر فهي تختلف عن قضايا الحس الباطن لأننا بالحس الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي أي أن هناك حينما أرى البرق برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر.[28]

أما القضايا الأولية والفطرية التي تمثل البقية الباقية على لائحة البديهيات الأرسطية التي يدركها العقل مستقلاً عن الحس والتجربة، فإن باقر الصدر وإن كان لا ينكر قبليتها لكنه يثبت أنه بالإمكان الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء.

إن باقر الصدر لا يستثني في إمكان الاستدلال استقرائياً على (البديهيات) إلا مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمال (وفيما نؤكد أن بالإمكان تنطبيق الاستدلال الاستقرائي على كل الأوليات الأرسطية إلا في حدود هذين الاستثنائين – ما سبق الإشارة إليهما – لا نعني بذلك أن تلك القضايا استقرائية فعلاً وليست قبلية وإنما نعني أن بالإمكان نظرياً أن نفسرها على أساس الطريقة التي حددناها للاستدلال الاستقرائي ولا ينفي هذا أن تكون قضايا أولية قبلية).[29]

وتعليل هذا الاستثناء للمبدأين المشار إليهما يرجع إلى أن مبدأ عدم التناقض لابد أن يفترض ثابتاً وإلا لما أمكن للطريقة الاستقرائية أن تقوم لها قائمة لأنه لا يمكن حينئذ أن تجمع القيم الاحتمالية على محور واحد لأن هذا المجتمع على محور واحد يعني نفي نقيض كل قيمة احتمالية وهذا لا يتحقق إلا إذا قبلنا باستحالة اجتماع النقيضين أما إذا قبلنا باجتماع النقيضين وأنكرنا مبدأ عدم التناقض فلا يمكن تجميع القيم الاحتمالية على محور واحد. وأما استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال فواضح… أما الجهة الثانية فنبحثها في النقطة الرابعة الآتية.

رابعاً: إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأولية يقينية: فهو يُرجع بداية المعرفة إلى قسمين: أحدهما: المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال. والآخر: نفس الخبرة الحسية بالموضوعات. فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسية والسحاب في السماء هو موضوع هذه المشاهدة ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أولية وليست مستدلة وأما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلة بطريقة استقرائية ومع تمسك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية. لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية ويتصور المذهب الذاتي المعرفة الأولية احتمالية في مجالين:

المجال الأول: مجال الخبرة الحسية

والثاني: مجال القضايا العقلية الأولية التي يكون ثبوت المحمول فيها للموضوع ثبوتاً مباشراً دون حد أوسط. هذه القضايا التي لا يمكن إثباتها باستنباط عقلي قد تكون متقدمة بدرجة عالية من التصور وكذلك بدرجات أقل (وما دامت بعض المعارف الأولية بالإمكان أن تحصل بقيم احتمالية في البداية فمن الممكن تنمية هذه القيم الاحتمالية وفقاً لنظرية الاحتمال فكلما وجدت احتمالات تتضمن تلك المعرفة الأولية ازدادت قيمتها الاحتمالية).[30]

هذا تمام الكلام في تحديد الفوارق بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي أما أهم الاختلافات بين الأخير والمذهب التجريبي فهي:

أولاً: إن المذهب الذاتي – كما رأينا – يؤمن بمعارف عقلية قبلية في حين ينكر التجريبيون كل معرفة غير نابعة من الحس والتجربة فهم يعتقدون أن التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يموّن الإنسان بكل ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري ولا توجد لدى الإنسان أي معارف قبلية بصورة مستقلة عن التجربة وحتى ما يبدو في أعلى درجات التأصل في النفس البشرية من قضايا الرياضة والمنطق نظير 1 + 1 = 2 يرجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مر الزمن).[31]

وفي ضوء تلك فإن بدايات المعرفة عند التجريبيين جزئية فلا مجال لنلتقي بقضية كلية تتجاوز نطاق الخبرة الحسية المباشرة.

ويناقش الصدر المذهب التجريبي في قاعدته هذه مناقشة تفضح تهافتها:

يلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في إيمان التجريبيين بمذهبهم القائل إن التجربة هي المصدر الأساسي لكل المعارف البشرية لأن هذا القول نفسه قضية يعمم فيها الحكم على كل معرفة فهل هذه القضية مستمدة من مصدر قبلي بصورة مستقلة عن التجربة أو أنها مستمدة من التجربة كأي قضية أخرى؟ فإن افترض المذهب التجريبي أنها مستمدة من مصدر قبلي فقد اعترف على هذا الأساس بكذبها وبوجود معرفة قبلية وإن افترض أنها تقوم على أساس التجربة والخبرة الحسية فيجب أن يعترف بأنها قضية محتملة فقط ولا يمكنه أن يؤكدها تأكيداً كاملاً؛ لأنه يرى أن أي تعميم لمعطيات الخبرة والتجربة لا يمكن أن يحظى إلا بدرجة احتمالية من التصديق وهذا يعني أن التجريبيين يحتملون أن المذهب العقلي على حق.[32]

ولذلك فإن المذهب التجريبي يتحير في ضبط الفوارق بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا الرياضيات ففي النوع الأول لا يستطيع المذهب التجريبي أن يبرر التعميم الاستقرائي لأنه – كما بين الصدر هذا التعميم – قائم على أساس مصادرات حساب الاحتمال وهذا ما لا يعترف به المذهب التجريبي.

ومن جهة أخرى: إن أي موقف يتخذه المذهب التجريبي للتمييز بين قضايا الرياضيات والقضايا الطبيعية يكون محرجاً له: فإن أقر بأن هناك فوارق وأن قضايا الرياضة لها امتيازها الخاص وتعيينها فإن هذا لا يمكن التسليم به إلا على أساس أنها ليست استقرائية وأنها عقلية قبلية.

وإن أنكر التمايز بينها فإن هذا خلاف الوجدان وثبوت الاختلاف بين النوعين من القضايا إذ (أن اليقين بالحقيقة الرياضية يصل منذ اللحظة الأولى من إدراكها إلى درجة كبيرة لا يمكن تجاوزها بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعية يزداد باستمرار كلما تظافرت التجارب وأكدت صدق القضية وموضوعيتها).[33]

ثانياً: هذا الفارق الأول وأما الفارق الثاني أن قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينية بدرجة لا يمكن أن نتصور إمكان الشك فيها بينما يمكن أن نشك في القضايا الطبيعية مهما كنا متأكدين من صدقها.

وثالثاً: إن قضايا العلوم الطبيعية لا تتجاوز حدود التجربة بمعنى إذا تصورنا عالماً آخر غير عالمنا فإن هذه القضايا ليست بالضرورة صادقة هناك.

ولكن القضايا الرياضية والمنطقية تتجاوز كل عالم نتصوره فـ 1 + 1 = 2 صحيحة في أي عالم نتصوره فالتعميم يتعدى العالم الذي نعيشه.

لما واجه المذهب التجريبي هذه المشكلة (التفريق بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية) اضطر إلى قبول نفي الفوارق وصارت حينئذ المعارف الرياضية احتمالية وثبت بذلك فشل المذهب التجريبي في تفسير المعرفة البشرية. من هنا حاول المنطق الوضعي تفسير الفروق بين هذين النوعين من القضايا (الرياضية والطبيعية) على أساس التفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا التكرارية، فالقضية الإخبارية كل قضية تمنحنا علماً جديداً ويكون وصف الموضوع بوصف ما غير مستبطن في الموضوع نفسه، أما القضية التكرارية فهي القضية التي لا تضيف علماً جديداً بل يكون المحمول تكرار لعناصر الموضوع بعضها أو كلها وهكذا.. فالقضايا الرياضية ترجع إلى القضايا التكرارية والقضايا الطبيعية إخبارية. وإن كان الوضعيون ميزوا بين قضايا الرياضة البحتة والقضايا الرياضية التطبيقية من قبل هندسة أقليدس فالأخيرة إخبارية أما الرياضية البحتة فهي تكرارية وكذلك يقينية لأنها خالية عن الإخبار.

وناقش (باقر الصدر) هذه المحاولة بأن افترض كون القضايا الرياضية البحتة تكرارية كلها لا يكفي لحل المشكلة ولأنه يبقى السؤال قائماً: لماذا اليقين والضرورة في القضايا التكرارية؟ ويركّز الصدر على مبدأ عدم التناقض الذي هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكرارية فكيف يفسر المذهب الوضعي الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ؟ من الطبيعي أنه لا يمكن تفسير المبدأ إنه قضية تكرارية لأن المبدأ لا يعبر عن نفسه بقضية إخبارية فهو يحكم بالاستحالة:

اجتماع النقيضين مستحيل وهذه الاستحالة لا تستخرج من نفس مفهوم اجتماع النقيضين لأنها ليست من عناصر هذا المفهوم.[34]

ولم يكتف المذهب الوضعي بالقول بأن التجربة والحس هي المصدر الوحيد للمعرفة بل ذهب إلى أن القضية التي لا تخضع للخبرة الحسية ليست فقط غير ممكنة الإثبات بل هي ليست قضية من الناحية المنطقية فلا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب وعلى هذا الأساس رفض المنطق الوضعي مبدأ السببية وقدم مبرراً منطقياً لذلك باعتبار أنها قضية خاوية ولا معنى لها.

ولربط معنى القضية بالخبرة الحسية أسس المذهب الوضعي ثلاثة مواقف:

الموقف الأول: أن كل مفردة لها مدلولاً في خبرتنا الحسية ليس لها معنى.

الموقف الثاني: لابد أن تكون القضية في صدقها تعطينا خبرة حسية مختلفة عن الخبرة الحسية التي تعطيه كذب القضية.

الموقف الثالث: القضية التي لها معنى هي التي يمكن التحقق من صدقها. فالقضية التي لا يمكن أن نتحقق ونتأكد من صدقها وكذبها ليس لها معنى.

ولقد ناقش باقر الصدر الموقف الثاني والثالث بينما تعود مناقشة الموقف الأول إلى نفس مناقشة النظرية التجريبية العامة.[35]

هذه أهم المقارنات بين المذهب الذاتي من جهة والمذهب العقلي والتجريبي بما فيها الاتجاه الوضعي.

ومن المهم ونحن نتحدث عن نظرية المذهب الذاتي كنقلة منهجية في المبحث الكلامي أن نشرح بأكثر عمق طريقة التوالد الذاتي للمعرفة.

ذكرنا سابقاً أن المذهب الذاتي يرى أن أكثر معارفنا تتوالد بطريقة ذاتية لا موضوعية وهذا التوالد يمر بمرحلتين: مرحلة موضوعية ومرحلة ذاتية: (إن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين).[36]

والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين:

المرحلة الأولى: يعتمد فيها المنهج الاستنباطي والمرحلة الثانية: يعتمد طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين.

ففي المرحلة الأولى يقوم (الدليل الاستقرائي) على أساس التوالد الموضوعي للفكر وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية في الدليل الاستقرائي لأن الدليل في هذه المرحلة يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر التي يحددها المنطق الصوري والدليل الاستقرائي في هذه المرحلة ينمي احتمال التعميم الاستقرائي ويصل به إلى أعلى درجة من درجات التصديق الاحتمالي مستنتجاً تلك الدرجة بطريقة استنباطية من المبادئ والبديهيات.[37]

ولذلك اعتبر باقر الصدر أن درجة الاحتمال المبرهن عليها في هذه المرحلة قضية مستنبطة ودرس في (الأسس) خطوات هذه المرحلة وشروطها مستدلاً على أن التعميم الاستقرائي في هذه المرحلة الأولى لا يحتاج إلى مصادرات إضافية سوى مصادرات نظرية الاحتمال نفسها ويحتاج إلى افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقة السببية بمفهومها العقلي (استحالة الصدفة) (وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي أي إثبات مسبقاً لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرر للرفض).[38]

ولأجل ذلك لا يصلح الدليل الاستقرائي في المرحلة الاستنباطية لمن يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضاً كاملاً ولا يمكن له أن يفسر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ولذلك يفرق صاحب النظرية بين من يبدأ هذه المرحلة وعند احتمال استحالة الصدفة المطلقة فهذا يمكنه أن يثبت بدرجة كبيرة من الإثبات من هذه الاستحالة بنفس الدليل الاستقرائي خلافاً لمن يبدأ من الاعتقاد بأن كل ما يوجد فهو صدفة ويرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي فإنه لا يمكنه أن ينمّي احتمال القانون السببي بالدليل الاستقرائي.[39]

ويحلل باقر الصدر كل المبررات التي تقدمها بعض الاتجاهات لرفض مبدأ السببية: المبرر المنطقي للمدرسة الوضعية، والمبرر الفلسفي لدى التجريبيين والمبرر العلمي لدى الفيزيائيين الذريين.. إلخ. ويناقش كل هذه المبررات وينفي أي مبرر قبلي لرفض السببية وبالتالي يحافظ على هذا المبدأ.

ولابد من الإشارة أن (المرحلة الاستنباطية) لا تنحصر فقط في تعميم ورفع درجات التصديق بشيء نعلم ثبوته من خلال تجربة بل يشمل أيضاً شيئاً مشكوكاً ومحتملاً بدرجة محددة.. إن الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية تارة يواجه شيئاً ثابتاً نعلم بوجوده خلال التجربة فينمي قيمة احتمال سببيته وليطلق عليه اسم (الشكل الأول من الاستدلال الاستقرائي) وأخرى يواجه شيئاً مشكوكاً ومحتملاً بدرجة محددة على أساس علم إجمالي قبلي فيتجه إلى تنمية احتمال وجوده على أساس علم إجمالي آخر وتطبيق قاعدة الضرب أو بديهية الحكومة ولنطلق عليه اسم (الشكل الثاني من الاستدلال الاستقرائي).[40]

أما المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي المرحلة الذاتية فإن القضية الأساسية التي تواجهنا كيف يتحول التصديق الإجمالي القوي الذي أدركناه في المرحلة الأولى إلى حالة يقين؟ للإجابة عن هذا التساؤل يميز باقر الصدر بين ثلاثة معان لليقين:

أ) اليقين المنطقي: العلم بقضية معينة والعلم بأنه من المستحيل ألا تكون القضية بالشكل الذي علم.

ب) اليقين الذاتي: جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها. وليس من الضروري في اليقين الذاتي أن يستبطن أي فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم.

ج) اليقين الموضوعي: التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع ما تفرضه المبررات الموضوعية.

فالفرق بين اليقين الذاتي والموضوعي أن الأول هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء وجدت مبررات لذلك أم لا أما الثاني فهو أن تصل بك المبررات الموضوعية إلى الجزم.

فاليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقل عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلاً أما اليقين الذاتي فهو يمثل الجانب السيكولوجي من المعرفة)[41] واليقين الذي تتكفل به المرحلة الذاتية هو اليقين الموضوعي. وهذا ما فات بعض الدارسين أن يلتفتوا إليه فالتبس عليهم الأمر فلم يدركوا قيمة المذهب الذاتي وتخيلوا أن المذهب الذاتي يرجع المعرفة إلى سيكولوجية صرفة لا علاقة لها بالمبررات الموضوعية[42] مع أن باقر الصدر حاول في أكثر من مورد دفع هذا التوهم ومن بينها هذا المقام الذي أكد فيه أن المرحلة الذاتية تتكفل إثبات اليقين الموضوعي. وفي مقام آخر يقول شارحاً طريقة التوالد الذاتي إنها لا تقوم على أساس التلازم الموضوعي بين القضية المستنتجة التي تمثل مقدمات لها: (ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون تقيد بالتلازم بين القضيتين فنستنتج مثلاً أن زيداً قد مات من أن الشمس طالعة وأن حجم الأرض أكبر من حجم القمر من أن الأرض تشتمل على معادن كثيرة فإن هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبرراً لأي استدلال خاطئ وليس هذا ما نقصده عندما نقرر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.[43]

وبذلك يضع باقر الصدر يده على سر الحاجة إلى المنطق الذاتي لكي نميز بين الشروط التي تجعل طريق التوالد الذاتي معقولة عن غيرها. كما هو الحال عندما احتجنا إلى المنطق الصوري لنعرف صيغ التلازم بين القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي صحيحة (أشكال القياس).

ولأجل تحقيق اليقين الموضوعي في المرحلة الذاتية لابد من مصادرة مؤداها أن هناك درجات من التصديق الموضوعي غير مستنبطة بل بديهية أولية لأنه إذا لم تكن هناك درجات تتمتع بالصحة الموضوعية بصورة مباشرة لا يمكن أن توجد درجات مستنبطة. ومن هنا انطلقت الحاجة والبحث نحو صياغة هذه الخطوة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في المرحلة الثانية لكي يبرر حصول أعلى درجات التصديق الموضوعي وهي الجزم واليقين، هذه المصادرة التي نفسر بها الدليل الاستقرائي ترتبط بالمعرفة ولا علاقة لها بالواقع الخارجي ولخّصها السيد الصدر في قوله:

كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة فإن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول ضمن شروط معينة إلى يقين فكأن المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تسمح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جداً فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة وهذا يعني تحول هذه القيمة إلى يقين، ويؤكد باقر الصدر أن هذا التحول والفناء للقيمة الصغيرة في القيمة الكبيرة وتحول الأخيرة إلى يقين يفرضه التحرك الطبيعي للمعرفة البشرية ولا يمكن تفاديه على خلاف اليقين الناشئ من عوامل نفسية صرفة فقد تتحول بعض القيم الاحتمالية الصغيرة إلى يقين بسبب عوامل نفسية من قبيل التشاؤم والتفاؤل أو غير ذلك فقد يتحول احتمال الوفاة عند شخص مقدم على عملية جراحية إلى يقين بسبب التشاؤم الذي يسيطر على نفسه ولكن هذا اليقين يمكن إزالته إذا تحرر الشخص من نزعته النفسية وحصر اتجاهه في النطاق الفكري فحسب وأما اليقين الذي تفترضه المصادرة فهو يقين لا يتاح إزالته ما دام الإنسان سوياً في تفكيره مهما حصر اتجاهه في النطاق الفكري وتحرر من العوامل الدخيلة.[44]

هذه باختصار ملامح نظرية المذهب الذاتي في المعرفة مع تحليل لطريقة التوالد الذاتي في المعرفة ولقد بسطنا الكلام فيها حتى نمتلك رؤية واضحة لِما لَهَا من أهمية في النظريات الجديدة لباقر الصدر لا في مجال علم الكلام فحسب والبحث العقائدي بل إن هذه النظرية اعتمدها الصدر في فروع شتى من العلوم الإسلامية كعلم الأصول؛ مثال ذلك تطبيقها في بحثه عن وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي حيث يفسر التواتر والإجماع والشهرة استناداً إلى نظرية المذهب الذاتي وتراكم القيم الاحتمالية على محور واحد.

ومن تطبيقات هذه النظرية في علم العقائد نرصد أكثر من مثال كإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي، إثبات النبوة، إثبات ولاية (الإمام علي) بحساب الاحتمالات في بحث حول الولاية، إثبات إمامة (المهدي) رغم صغر سنه بتراكم الاحتمالات.. إلخ. وسنقف تفصيلياً مع بعض هذه النماذج في الفصل الثالث من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.

النقلة المنهجية الثانية: من الاتجاه التجزيئي إلى المنحى التوحيدي الموضوعي

لم يفتأ باقر الصدر في مواطن عديدة، ينتقد المنهج التجزيئي المعتمد في تحليل القضايا وطرح المسائل حيث إن الرؤية التجزيئية كثيراً ما تجني على الفكرة وتسيء إليها، لأنها تقدمها مشوهة ومنقوصة وأحياناً تحملها ما لا تريده، والمتتبع للتراث الكلامي يلحظ بيسر ما لهذه النزعة التجزيئية في التعامل مع النص من نتائج وخيمة وعلى التفكير العقائدي بسبب النتائج الخاطئة أحياناً وغير الدقيقة أحياناً أخرى التي تؤدي إليها.

فالنظرة التجزيئية هي التي جعلت بعض الاتجاهات تتجمد في حدود حرفية بعض الآيات لتثبت لله يداً ورجلاً ووجهاً، وتنسب له الاستواء على العرض بمعانيها الحقيقية غافلين عن الآيات المحكمة الأخرى والكثيرة التي تنزّه الله عن الجسمية والتشبيه وتجزم أنه <لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ> وأنه <وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً>.

لقد تغلغلت هذه النزعة وحطمت الوحدة الموضوعية للمقطع القرآني الواحد أحياناً بعزل الآيات عن سياقها فيستشهدون بقوله(عز): <وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ> [45] لإثبات أن الله خالق أفعال العباد في حين أن الآية أجنبية عن هذا المدلول؛ إذ أنها تتحدث عن الأصنام بما هو عمل من أعمال العباد وفي النهاية هو خلق الله يقول تعالى: <قٰالَ أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ * وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ>. [46]

إن الأمثلة على هذا الاتجاه التجزيئي عديدة جداً.. وبمثل هذا الاتجاه تم التعامل مع أصول الدين كمبادئ منفصلة ومستقلة بعضها عن البعض الآخر. فالتوحيد أصل وحده والنبوة أصل والمعاد أصل.. وغابت الرؤية الترابطية لهذه الأصول والعلاقة فيما بينها.. وغدت هذه الوحدة الموضوعية بين الأصول مسكوت عنها طوال هذا التاريخ العريق لعلم الكلام.

لقد حاول باقر الصدر – وأعتقد أنه نجح في محاولته – أن يتجاوز هذا الطوق الذهني والقيد الفكري الذي حجب عن المؤمنين اكتشاف العلاقات بين هذه الأصول بل بين مفردات الأصل الواحد نفسه. تعرض الصدر لمشكلة المنهج التجزيئي وعالجها في معرض محاضراته القرآنية (المدرسة القرآنية) عندما نادى بتأسيس (النهج الموضوعي التوحيدي في التفسير) مقابل التفسير التجزيئي وهذه المعالجة وإن كانت متصلة مباشرة بميدان التفسير لكن يمكن أن يستفاد منها في المجال العقائدي لأن العقلية التجزيئية واحدة هنا وهناك والمنحى نفسه. وبالتالي فإن تجاوز هذا الاتجاه هناك يعني تجاوزه هنا بالتبع. إضافة إلى أن النصوص القرآنية تتضمن جملة من أدلة المتكلمين فتنعكس طريقة تعاملهم مع الآيات وآليات تفسيرهم على نتائج بحوثهم ولقد ضرب الصدر بالفعل أمثلة من مجال العقيدة للتدليل على أهمية المنهج الموضوعي يقول:

فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث إنه كان يستهدف فهم مدلول الله حيث إن فهم مدلول الله كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطور الأحداث والأوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم الله حتى تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير.[47]

ولم يكن غياب المنهج التوحيدي ظاهرة تمسح كل العلوم، حيث استفادت بعض العلوم من المنهج الموضوعي، (وأكثر ظني أن الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى تكاد تقول إن قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ولم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة).[48]

إن الاتجاه الموضوعي التوحيدي يمتاز عن نظيره التجزيئي بخصلتين أساسيتين أشار إليهما الباحث:

أولاً: إن الاتجاه التجزيئي دوره تجاه النص سلبي حيث يبدأ بتناول النص القرآني ويحاول أن يجد مدلول النص فيما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من قرائن متصلة ومنفصلة فدور المفسر هنا دور المصغي والمتفهم والمتلقي فالقرآن يعطي بمقدار ما يفهم هذا المفسر من مدلول خلافاً لذلك المفسر الموضوعي التوحيدي فإنه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الإنساني من حلول ما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع فحسب بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً ويبدأ مع النص عملية استنطاق وهو يريد من كل ذلك اكتشاف موقف القرآن من القضية المطروحة وصياغة النظرية القرآنية حول الموضوع.

ثانياً: إن الاتجاه الموضوعي لا يكتفي بالمدلولات التفصيلية للنص وإنما يسعى جاداً لاكتشاف الرابط الموضوعي التي تشد النص إلى مركب نظري تحتل في حدوده كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعها المناسب وهذا ما يُسمى بالنظرية. فالاتجاه الموضوعي هو السبيل للوصول إلى نظريات الإسلام في النبوة وسنن التاريخ والتغير الاجتماعي.. إلخ.

وقد يثار في المقام تساؤلٌ حول أهمية هذا المنحى بلحاظ أن رسول الله(ص) نفسه لم يعط هذه النظريات تفصيلياً وإنما منح للمسلمين نصوصاً وأحكاماً كما هي متناثرة بين أيدينا ويرد باقر الصدر عن هذا السؤال بأن الصحابة وإن كانوا لم يتعلموا هذه النظريات تفصيلاً ولم يتلقوها كذلك ولكنهم تلقوها إجمالياً وارتكازياً ورسخت في أفكارهم ووجدانهم (كان المناخ العام الإطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعتبرونه مساعداً على تفهم هذه النظريات ولو تفهماً إجمالياً وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقسيم. أما حين لا يوجد ذلك المناخ، أما حيث لا يوجد ذلك الإطار إذن تكون الحاجة إلى النظريات يعني الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام.. خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية).[49]

إن هذا التفاعل بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي جعل المسلمين وجهاً لوجه مع نظريات كثيرة ولكي نحدد موقف الإسلام من هذه النظريات (كان لابد أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية).[50]

وكتطبيق لهذا المنهج الموضوعي في بحوثه العقائدية يمكن أن نتلمس موارد عديدة لكننا نكتفي بمثالين لهذا التطبيق يتضح من خلالهما الثمرات العلمية والمنهجية الهامة لهذا الطبيق.

المورد الأول: التحليل الموضوعي والقراءة التوحيدية الترابطية لمفردات اللوحة الخماسية لأصول الدين.

المورد الثاني: التحليل الموضوعي الترابطي لحياة الأئمة الإثني عشر.

المورد الأول:

عندما طبّق الصدر هذا المنهج الموضوعي تبين أن أصول الدين في وحدتها الترابطية تمثل رؤية في فلسفة التاريخ وقاعدة لنظام اجتماعي مميز يعتمد صيغة رباعية في العلاقات الاجتماعية عكس كل النظريات الوضعية التي تستند إلى صيغة ثلاثية لقد كشف باقر الصدر عن اللوحة الخماسية (التوحيد ۔ العدل ۔ النبوة ۔ الإمامة ۔ المعاد) رؤية حضارية تقدمية تختزن داخلها كل مقدمات الدفع والتحريك والتغيير. فـ(التوحيد) يقدم مثلاً أعلى مطلقاً هو الله(عز) وهو اللامتناهي من جميع الجهات وهذا ما يجعل المسيرة البشرية تصاعداً لا يهدأ ولا يفتر: <يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ> إن عقيدة التوحيد تؤمن بمثل أعلى خارج الساحة التاريخية مما يجعل المسيرة.. في دفع متواصل مستمر وكلما قطعت شوطاً انفتحت أمامها أشواطاً جديدة وهذا هو التغيير الكمي الذي يطرأ على مسيرة البشر باعتناقها التوحيد واتخاذها الله مثلاً أعلى مطلقاً. وهناك أثر آخر هام وهو الأثر الكيفي للتوحيد والمتمثل في حل الجدل الداخلي للإنسان والصراع بين متطلبات ذاته وشهواته وغرائزه وبين ما تستوجبه القيم والتعاليم الدينية فالتوحيد يعطي الرؤية الفكرية والأيديولوجية الواضحة التي تلبي كل الطموحات وكل الغايات في مثل أعلى.

و(العدل) كصفة من صفات الله.. لها ميزتها الاجتماعية حيث تساهم بفعالية في توجيه البشرية وحمايتها من السقوط في متاهة الظلم والنبوة توفر قاعدة الاتصال والرابطة الموضوعية بين الإنسان والمثل الأعلى: هذه الصلة التي يوجه فيها هذا المثل الأعلى للبشرية من خلال أنبيائه ويهديهم إلى سبيل السعادة والرفاه.

و(الإمامة) هي الامتداد القيادي للأنبياء في حياة الناس، والحاجة إليهم تنبع من الحاجة في استمرارية رسالة الثورة التي يقوم بها الأنبياء في مجتمعاتهم ولا يستكملونها. أما (المعاد) فهو الركيزة التي تمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية (إذن أصول الدين في الحقيقة – وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه – هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغها القرآنية الرباعية).[51]

المورد الثاني:

في هذا المجال يطبّق باقر الصدر المنهج الموضوعي على حياة أئمة أهل البيت(ع) فيتجاوز التقليد السائد في دراسة سيرة الأئمة ويسعى لاكتشاف الخيط الرفيع الذي يشد حلقات هذا الخط الإلهي الممتد والمستمر في التاريخ لأن المدارس الكلاسيكية تدرس عادة الأئمة بشكل تجزيئي وتفصل مرحلة كل إمام عن الإمام الذي يسبقه والذي يليه ولا تهتم بالأهداف التخطيطية المشتركة التي يلتقي حولها أكثر من إمام ولا تحاول أن تعطي تفسيراً منطقياً لهذا الاختلاف في الأدوار بين الأئمة(ع) ولذلك توحي هذه الدراسات بصورة يمزقها التناقض بين الأئمة أنفسهم فلا نفهم كيف يصالح الحسن(ع) بينما يثور الحسين(ع) ويلجأ الإمام زين العابدين(ع) إلى الدعاء بينما يتجه الباقر(ع) والصادق(ع) إلى الفقه والحديث.. (فإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمة، على المستويين التجزيئي والترابطي فسوف نواجه على المستوى الأول اختلافاً وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشخصية في الأدوار التي مارسها الأئمة(ع)).[52]

وأما على المستوى الثاني وباعتماد النهج الترابطي فإنه ستزول كل هذه الاختلافات لأنها تبدو حينئذ مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة تنوعت تمثلاتها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام(ع) ويستدل باقر الصدر على الدور المشترك بأمرين أساسيين:

أ ۔ تكرر ظواهر في حياة الأئمة: يذكر الصدر منها: استشهاد الإمام علي بنصوص الإمامة وتكرر الموقف نفسه من قبل الإمام الحسن والحسين، والباقر(ع).. إلخ.

ب ۔ عقيدة الإمامة: يترقى الصدر أكثر في مجال الاستدلال على الدور المشترك حيث يؤكد أن هذه الفرضية مما تفرضه عقيدة الإمامة (وفي عقيدتي أن وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعاً ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية وإنما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات لأن الإمامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في سلوك الأئمة(ع) وأدوارهم مهما اختلفت ألوانها الظاهرية بسبب الظروف والملابسات ويجب أن يشكّل الأئمة مجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء يواصل كل جزء من تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمّله).[53]

يمثل هذا الاتجاه الذي يؤسس له باقر الصدر أيضاً ضرورة لتبين الدور الإيجابي الرسالي للأئمة(ع) لأن التصور الشائع والسائد أن الأئمة لعبوا دوراً سلبياً في المستوى الرسالي الحركي نتيجة إقصائهم عن الحكم ولقد كرست النظرة التجزيئية هذا المعنى في أذهان الناس ولكن المنهج الجديد يكشف عن دورهم الكبير في خط الجهاد والرسالة (فالأئمة(ع) بالرغم من إقصائهم عن مجال الحكم كانوا يتحملون باستمرار مسؤوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية وتحصينها ضد التردي إلى الهاوية هاوية الانحراف والانزلاق عن مبادئها وقيمها فكلما كان الانحراف يقوى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية كان الأئمة(ع) يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك وكلما وقع في التجربة الإسلامية والعقيدية من محنة ومشكلة وعجزت الزعامات المنحرفة عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمة(ع) تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها).[54]

وهناك دور مشترك آخر يشير إليه باقر الصدر:

هو جانب رعاية الشيعة بوصفهم الكتلة المؤمنة بالإمام(ع) والإشراف عليها بوصفها المجموعة المرتبطة به والتخطيط لسلوكها وحياتها وتنمية وعيها وإسعافها بكل الأساليب التي تساعد على صمودها في خضم المحن وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإصلاحية إلى جيش عقائدي وطليعة واعية.[55]

في ظل هذا الاعتقاد بالدور الإيجابي للأئمة(ع) ووحدة هدفهم وتنوع أدوارهم وفق ما تمليه خصوصيات المرحلة الظرفية لكل إمام، يطرح باقر الصدر أدوار ثلاثة أو مراحل ثلاث لخط الإمامة في التاريخ:

۔ الدور الأول: مرحلة تفادي صدمة الانحراف نتيجة المسار الذي اتخذته الأحداث عقيب وفاة رسول الله(ص) هذه الصدمة التي تجرع أئمة أهل البيت(ع) مرارتها والتي كادت أن تعصف بالإسلام وأهله لولا الجهود التي بذلها أئمة أهل البيت(ع) خصوصاً الإمام علي(ع) لتحصين الأمة والإبقاء على الرسالة نفسها.

يبدأ هذا الدور بعد وفاة الرسول ويستمر إلى حياة الإمام الرابع زين العابدين(ع).

۔ الدور الثاني: بعد أن نجحت (الإمامة) في تحقيق الهدف المركزي من الدور الأول وتجاوزت الأمة الخطر الداهم على الرسالة وكل التحصينات ضد صدمة الانحراف تصل النوبة إلى هدف جديد وهو بناء الكتلة الخاصة أي الطليعة الشيعية التي تتمتع بدرجة أعلى من التحصين وتتوفر على عناصر أعمق من الوعي حتى تكون الفئة المتميزة على طريق حفظ الإسلام ومبادئه لقد أدى هذا الدور الإمام الباقر(ع) واستمر إلى زمان الإمام الكاظم(ع).

۔ الدور الثالث: بناء الكتلة الطليعية الواعية والمجاهدة أصبح الأئمة بمقدورهم السعي الحثيث لاستلام السلطة ومن ذلك رهبة وخوف السلطات القائمة من أئمة أهل البيت في هذه المرحلة التاريخية أكثر من أي فترة أخرى. لأنه بدا لهم أن قيادة الأئمة أصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام النقي مما صعد من مواجهة السلطة ومحاربتها للأئمة من زمن الكاظم(ع) إلى أيام الإمام العسكري والإمام المهدي(عج) الذي تواترت عن جده رسول الله(ص) أخبار تفيد أنه سينتصر على كل الطواغيت ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

هذا الاعتقاد بتكامل أدوار الأئمة(ع) يشكل الوجه الآخر لإيمان الصدر بانبثاق قيادة أهل البيت(ع) من رسالة النبي(ص) وأنها الامتداد الطبيعي والاستمرار المستقبلي الضروري لولاية النبي(ص) لحفظ الرسالة والبلوغ بالمسيرة الإسلامية إلى أسمى غاياتها متمثلة في قيام مجتمع الحق والعدل الذي لا يشوبه ظلم ولا انحراف مجتمع يحقق الوعد الإلهي الصادق: <وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً>.[56]

النقلة المنهجية الثالثة: من النزعة الثبوتية إلى الاتجاه التكاملي

ينعت الفكر الديني بالجمود وتحجر آلياته ويتفاخر الفكر المادي بأنه فكر متطور يدرس الطبيعة والمجتمع من منظور متحرك يرصد التحولات الحاصلة فلا إيمان بقضية مطلقة إلى الأبد والحقيقة دائماً تتغير وتتبدل. ولقد أسست لهذا الأمر المادية قوانيناً طبقتها على الطبيعة والتاريخ خاصة المدرسة الماركسية التي طرحت المادية الجدلية (الديالكتيك) لتفسير الطبيعة والمادية التاريخية لفهم التاريخ فالتناقض والجدل هو أساس الحركة والتطور سواء على مستوى المادة أم على مستوى التاريخ…

إن الماركسية تتبجّح أنها حولت الجدل من أسلوب في المناظرة في المنطق القديم إلى منهج في تفسير الأشياء وقراءة الواقع وقانوناً كونياً شاملاً قابلاً للانطباق على الطبيعة والتاريخ (فالجدل الجديد عند الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على سواء ولذلك فهو طريقة للتفكير ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره).[57] ويزعم المنطق الجدلي بأن أصحاب المنطق القديم عموماً والإلهيين خصوصاً يستندون إلى ثلاثة مبادئ لا أساس لها من الصحة هي مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ السكون والجمود في الطبيعة الذي يرى الأشياء ساكنة جامدة لا تغير فيها لقد تجاوز المنطق الجدلي هذه الأسس والمبادئ الثلاثة وآمن بمبادئ أربعة أخرى: حركة التطور وتناقضات التطور وقفزات التطور وقانون الارتباط العام.[58]

لقد ناقش باقر الصدر هذه المبادئ الأربعة في المصدر المشار إليه وأكد أن الإلهيين لا ينفون الحركة ولا ينظرون إلى الواقع عامة والطبيعة خاصة نظرة ستاتيكية جامدة بل إنهم يؤمنون بالتطور والتكامل وفق قانون الحركة التي هي (سير تدريجي وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها إمكاناته ولذلك حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل).[59]

وعمقت الفلسفة الإسلامية نظرية الحركة على يد ملا صدرا(قده) الذي أثبت أن الحركة لا تمس ظواهر الأشياء فحسب بل تمس صميم الطبيعة وجوهر الأشياء وهذه الحركة الجوهرية العميقة هي منشأ كل التغيرات والتبدلات التي تطرأ على الظواهر وهكذا يكشف الصدر أن الماديين في اتهامهم للميتافيزيقيين أو الإلهيين بأنهم يعتقدون جمود الطبيعة وسكونها لا مبرر له سوى سوء فهم الماديين الديالكتيكيين للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.

ويفرّق باقر الصدر بين مفهوم الحركة عند الماديين والحركة في الفلسفة الإسلامية ويرجع الاختلاف إلى نقطتين أساسيتين:

۔ أولاً: أن الديالكتيك يرى أن التناقض مفهوم أساسي للحركة فالصراع بين المتناقضات هو القوة الدافعة للتطور والحركة.

أما في المفهوم الفلسفي الميتافيزيقي فإن الحركة سير من درجة إلى درجة أعلى مختزنة داخل الشيء نفسه لكنها في حالة كمون.

۔ ثانياً: أن التطور الداخلي للأشياء لا يتوقف -كما رأينا- في حدود الطبيعة وإنما يتعدى إلى عالم الأفكار والمفاهيم التي يراها التحليل الماركسي انعكاساً للواقع الخارجي فقوانين الديالكتيك هي القوانين العامة للحركة سواء في العالم الخارجي أو في الفكر البشري، وهذا ما لا توافق عليه الفلسفة الميتافيزيقية التي ترفض عموم قانون الحركة للمفاهيم الذهنية لأنها لا يمكن أن تتوفر فيها جميع خصائص الواقع الموضوعي ولا يعني هذا طبعاً (أن الميتافيزيقيين إذا كوّنوا مفهوماً عن الطبيعة في مرحلة ما جمّدوا أفكارهم وأوقفوا بحوثهم واعتبروا ذلك المفهوم كافياً لاستكشاف أسرار الطبيعة في شتى مراحلها فلا يوجد عاقلاً يكتفي مثلاً بالمفهوم العلمي الذي يكوّنه عن البويض فلا يتابع سير الكائن الحي في المرحلة الثانية).[60]

فالاختلاف أن الفلسفة الميتافيزيقية لا تخلط بين المفهوم الذهني للشيء والشيء نفسه في الخارج فالأول ثابت والثاني متطور.. ولكن بمقدور الفكر أن يلاحق هذا التطور للوقائع الخارجية بمفاهيم ذهنية جديدة ولا يعني التكامل العلمي في مختلف الفروع تطوراً وجدلاً في عالم الفكر كما حاولت أن تثبت ذلك الماركسية لأن الحقيقة أن التطور العلمي لا يعني نمو الحقيقة وتطورها وإنما معناه تكامل العلم أي زيادة حقائقه وقلة أخطائه تبعاً لتطور وسائل البحث والتعمق في التجربة.

إن المفكرين الإسلاميين رغم انتسابهم إلى فلسفة إلهية لا تلغي الحركة وتقرُّ بها كفمهوم أساسي للطبيعة وكذلك للفكر بالمعنى التكاملي الذي طرحه باقر الصدر، نراهم يعالجون الظواهر الاجتماعية والمفردات العقائدية خاصة، غافلين عن تكامل هذه المفاهيم فنراهم يسلكون منهجاً ثبوتياً ستاتيكياً في تحليل المسائل العقائدية دون أي نظر إلى تكامل وتطور هذا المفهوم أو المراحل التي قطعها لبلوغ هذه المرتبة كما أنهم لا يلتفتون إلى الاستعدادات التي يختزنها هذا المفهوم والذي يتحرك من خلالها إلى آفاق مستقبلية فلا يحاولون استشرافَها.. باستقراء تاريخ التكامل والإحاطة بمنحى التطور…

إن التفكير العقائدي القديم حاول أن يدرس التراث العقائدي والمسائل الكلامية بمنأى عن قانون الحركة والتكامل لذلك فاتته دلالات مركزية هامة ومضامين عميقة لأصول الدين عبر تاريخ علم الكلام غير أن (باقر الصدر(قده)) يحدث نقلة نوعية تثور على هذا الإطار الثبوتي السكوني ويعتمد منهجاً ديناميكياً تكاملياً. وهذا من شأنه أن ينتقل بالبحث الكلامي إلى مدارات جديدة لم يعهدها لو قُيّض لهذه النقلة أن تقنن وتُقَعّد.

ولعل العديد من النتائج الجديدة التي وصل إليها الصدر في جملة من القضايا تعود إلى هذه النقلة المنهجية الهامة:

لقد درَس مفكرنا جملة من القضايا العقائدية عبر هذا المنظور التكاملي وأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن والتغير الذي يطرأ على نفس المفهوم، فتجاوز الأحكام الإطلاقية والتصورات الثبوتية. ويمكن أن نعطي لذلك نموذجين من نتاج الشهيد في هذا المضمار:

النموذج الأول: التوحيد وتكامل الوعي التوحيدي

في هذا المقام يحلل الصدر التوحيد لا كأصل ثابت وإنما يدخل في حسابه عامل الزمن وتكامل النبوات المبشرة بالتوحيد فيرى أن الوعي التوحيدي بلغ أوجه مع رسالة الإسلام لأن القرآن قد أوصل الفكر الإنساني إلى أعلى درجات التنزيه والتعظيم لله(عز) <لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ> [61]، <وَ مٰا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ> [62]، ولم تبلغ الرسالة هذه المرحلة طفرة واحدة وإنما ارتقت بالوعي الديني تدريجياً بواسطة نبوات عديدة لتدرك هذه الدرجة العالية. يقول الشهيد الصدر:

إن فكرة التوحيد ليست ذات درجة حدية وإنما هي بنفسها ذات درجات من العمق والأصالة والتركيز والترسخ. فهذه الدرجات متفاوتة كان لابد بمقتضى الحكمة الإلهية أن يهيأ لها الإنسان بالتدريج. هذا الإنسان – الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي والطبيعي في حسه ودنياه – حينما يُدعى إلى فكرة التوحيد لابد من أن يُنتزع من عالم حسه ودنياه‏ بالتدريج لكي ينفتح على فكرة التوحيد التي هي فكرة الغيب.[63]

ويستقرئ الصدر هذا التكامل للوعي التوحيدي عبر مقارنة بين أهم دينانتين سابقتين وبين الإسلام فيسجل أن التوحيد في التوراة يعطي فكرة إله لكن لا يستطيع أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود وفي الإنجيل صعدت فكرة الله مرتبة؛ وذلك لأنه تخلص من الطابع القومي وأصبح الإله إلهاً عالمياً ولكنه لم يجرد كلية وبقي أسير ذهنية الإنسان الحسية وبهذا يعبر الإنجيل عن المسيح بأنه ابن الله. فالإله هو الأب لكل البشرية.. لكن القرآن يعطي لفكرة التوحيد مداها الأعظم من التنزيه والتجريد فيجرد الله عن أي علاقة مادية مع أي إنسان كان[64].

النموذج الثاني: تكامل النبوات

إن إشكالية الثابت والمتغير أو الثابت والمتحول تطرح نفسها بقوة لا في المجال الفقهي والتشريعي فقط وإنما تمتد لتفرض نفسها في المجال الفكري والعقائدي حيث يثار التساؤل القديم الجديد: كيف يعالج الدين بصيغته الثابتة وتعاليمه المحدودة المحصورة في صيغ معينة ومفاهيم محدودة وأحكام مخصوصة كل قضايا الإنسان ومشاكله وهمومه وآفاقه على مدى الزمن التي لا يحدها شيء؟ لقد فحص هذه الإشكالية العديد من المفكرين الإسلاميين ولئن تعددت الإجابات إلا أنها تلتقي تقريباً حول نفس المبدأ[65]، وهو أن تكامل الرسالات مهما امتد واستمر لابد أن ينتهي عند نقطة يبلغ معها نهايته ومن المستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية لابد أن نصل إلى رسالة خاتمة تختزن داخلها كل المقومات الأساسية لقيادة الإنسان وهدايته وتستوعب كل الحلول لكل المشاكل والهموم التي يفرضها التقدم التقني والصناعي والاجتماعي.

لقد أجاب باقر الصدر عن السؤال السابق في بحثه (التغير والتجديد في النبوة) فاستعرض عوامل هذا التجديد وهي أربعة أسباب أساسية:

۔ أولاً: أن تكون النبوة قد استنفذت أغراضها واستكملت أهدافها بأن تكون النبوة جاءت وصفة لمرض طارئ في المجتمع الإنساني مرضاً من الناحية الفكرية أو الروحية أو خللاً في النظم الاجتماعية، فحينئذ لا يمكن أن تصلح النبوة كوصفة مؤقتة لكل زمان ومكان. مثال ذلك ما يقال عن المسيحية من أنها تحث إلى التركيز على النواحي الروحية نتيجة لإفراط بني إسرائيل في الانغماس في الدنيا.

۔ ثانياً: أن لا يبقى تراث يمكن أن يقوم على أساسه العمل والبناء ويمكن تصور ذلك في فرض موت النبي وتولد ظروف وانحرافات تعصف بالرسالة وتذهب التراث الروحي والمفاهيمي، حينذاك تبقى النبوة مجرد مسألة تاريخية ولا يوجد في حياة الناس ما يجسد مفهومها ومنظارها إلى الحياة.

۔ ثالثاً: السبب الثالث لمحدودية الرسالة باعتبار محدودية النبي نفسه فالأنبياء كغيرهم من البشر غير متساوين في درجات تلقيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي فبعضهم غير مؤهل لأن يحمل هموم البشرية على الإطلاق في كل زمان ومكان بل هو مؤهل لأن يحمل هموم عصره فقط أو هموم مدينته أو هموم قبيلته فقط. (فإذا كانت النبوة محدودة بطبيعة قابليات هذا النبي كان لابد في خارج هذه الحدود الزمانية والمكانية من نبوة أخرى تمارس عملها فهي سبيل الله سبحانه)[66].

۔ رابعاً: تطور البشرية: فإن هذا التطور يجعل الرسالة السابقة غير مهيأة لهداية الإنسان الجديد وهنا يؤكد باقر الصدر على مفهوم تكامل الرسالات مصرحاً بأن كل رسالة تهيء الإنسان لرسالة جديدة فـ(الإنسان المدعو يتصاعد بالتدريج لا بالطفرة وينمو على مر الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهية فيكتسب من كل رسالة إلهية درجة من النمو تهيئه وتعده لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة ومسؤولياتها الأوسع نطاقاً)[67]. ويحلل باقر الصدر أبعاد ومستويات التطور البشري فيرجعها إلى ثلاثة أبعاد:

أ) الوعي التوحيدي.

ب) المسؤولية الأخلاقية في تحمل أعباء الرسالة.

ج) خط التقدم الفني والتقني والسيطرة على الطبيعة.

ويرى أن التطور بلغ أوجه في البعد الأول – كما أشرنا في النموذج الأول – وكذلك في البعد الثاني حين ارتقت النبوات بالإنسان وعوّدته على التضحية في سبيل الرسالة إلى أن بلغ أعلى المراتب.

أما البعد الثالث فهو خط متطور دائماً لا يمكن أن يتوقف لأن التقدم التقني والتكنولوجي الصناعي يمتاز بالتراكم الكمي فكلما سيطر الإنسان على مجال ما في الطبيعة رمى بصره نحو ميدان آخر وهكذا.. وتغير النبوات قانون أو سنّة ترتبط بالبعد الأول والثاني ولكنها لا تتأثر بالعنصر الثالث ولا تنفعل به وإلا لو كانت متوقفة عليه لكانت النبوة متغيرة ومتجددة بين الحين والآخر خاصة في عصورنا الأخيرة حيث يشهد العالم نقلات سريعة في مجال التقدم العلمي والصناعي. ولكن لما كانت النبوة مرتبطة فقط بخط الوعي التوحيدي وخط المسؤولية الأخلاقية ولما بلغ هذان الخطان نهايتهما ختمت النبوة مع رسالة الإسلام التي تمثل (رسالة شاملة كاملة عامة للحياة جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبل وعي توحيدي صحيح كامل شامل ومن ناحية تحمله لمسؤولية أعباء الدعوة)[68].

ولقد تصدى أحد أبرز طلاب باقر الصدر[69] لتعميق هذا المفهوم (تكامل النبوات) وحقب تاريخ الأنبياء وقسمه إلى مراحل عديدة مهدت لبلوغ الإنسانية أوج استعدادها لتلقي الأطروحة الكاملة والنهائية التي ستطبق في المجتمع العالمي المنشود على يد صاحب العصر والزمان(عج).

وطرح أربع مراحل كنسق تكاملي يحكم تطور النبوات:

أ) النبوات العقائدية.

ب) النبوات التشريعية.

ج) النبوات القبلية.

د) النبوات العالمية.[70]

في التحليل السابق لاحظنا كيف تعامل باقر الصدر مع النبوة في تكاملها الزمني بلحاظ جذورها في التاريخ ويشهد له بحثه حول الولاية تعاملاً مع نفس ظاهرة النبوة ولكن هذه المرة في تكاملها وامتدادها في المستقبل حيث أثبت بمنهجية فريدة مبتكرة قائمة على طريقة الاحتمالات ضرورة الولاية كاستمرار لخط النبوة في التاريخ وسنعود لهذه النقطة في الفصل الثالث من الدراسة بحول الله تعالى.

النقلة المنهجية الرابعة: الأبعاد الاجتماعية للعقيدة: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع

بحكم المهام التي آمن بها المتكلمون وحددوها – ذكرناها في الفصل الأول – اصطبغ هذا العلم بصبغة تجريدية تستند على الجدل والتبكيت ومحاولة تبرير التناغم والانسجام بين معطيات العقيدة وضرورات العقل بعيدة نسبياً عن الواقع وعالم الإنسان. لقد انقلبت وتحولت العلاقة الثنائية بين الإنسان والعقيدة ففيما كانت هذه العلاقة في فجر الرسالة قائمة على اعتبار الوحي في خدمة الإنسان والدفاع عنه وعن قضاياه صار الإنسان في صراع جدلي حول الوحي بعيداً عن طموحاته وأهدافه والبحث الدؤوب عن حلول لمشاكل الحياة في مختلف مجالاتها.

هذا الاتجاه عمّق من جانب آخر الصبغة الفردية لعلم الكلام حيث تعالج العقيدة كعقيدة فرد وتتعاطى مع قضية المسلم فيما يجب معرفته واعتقاده وتوسعت هذه النزعة التجريدية بمنأى عن واقع الناس وهموم الجماهير بل استغرقت أكثر فأكثر في عالم خاص من المصطلحات والرموز والصياغات البرهانية.. تضخم مع مرور الأيام.. ليعلن الانفصال عن التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تواجه المسلمين خاصة في عصرنا الحالي.

من هنا كان علم الكلام بحاجة إلى نقلة ثورية تعيده إلى مهمته الأساسية في نحت الإنسان وهدايته انطلاقاً من قاعدة فكرية أساسية لأن العقيدة في قاموس الصدر هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون وهذا لم يغب عن وعي العديد من زعماء الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين اتفق هؤلاء حول إعطاء العقيدة عامة والتوحيد خاصة مدلوله الاجتماعي والسياسي في حياة المسلمين حتى ينفضوا عن أنفسهم غبار التخلف ويهبوا مندفعين نحو قيام مجتمع متحضر ومتقدم يحتل مكانة على الأرض بجدارة ولا يرضى بالهوان والضعف[71]، ويلتقي مع هؤلاء بعض المفكرين المحدثين أيضاً:

لقد أدرك بعض المفكرين المسلمين المحدثين إشكالية علم الكلام هذه فراحوا يبحثون عن علم كلام جديد إن أمكن القول علم للكلام يكون فيه للتوحيد وظائف جديدة ويكون علماً محرراً للإنسان وعلماً خالصاً صافياً من الشوائب والأكدار وأن علماً تكون له هذه الخصائص بقادر حقاً على أن يدفع بأصحابه إلى الإمام.[72]

وبقراءة هذه المحاولات الهامة في بناء هذه القواعد الجديدة يبدو مشروع باقر الصدر متميزاً لأنه قام على معالجة أصول الدين معالجة اجتماعية نهضوية تسعى أساساً لتقديم الدين كحل للمشكلة الاجتماعية والتوحيد كبرنامج ثوري ضد الظلم والجهل والانحراف والنبوة كصلة موضوعية بين الله والإنسان تقود زمام هذه الثورة الإلهية وتنتصر لطموحات البشر في الكمال والسعادة، لقد قرأ الصدر هذه الأصول الاعتقادية قراءة مستحدثة مستنيرة لم تفصل الله عن الإنسان والسماء عن الأرض والاعتقاد عن الحياة.. والتصور عن العمل والحركة. إن هذه الازدواجية بين الغيب والشهادة بين الأرض والسماء تتهاوى عندما تتحرك عقيدة الأمة في اتجاه إلباس الأرض أطر السماء[73] وتعميم روح المسجد على كل فضاء.

إن هذه النقلة الهامة يتحول معها الدين من شأن فردي وقضية شخصية إلى مشروع مجتمعي ويغدو حينذاك الملاذ الواقعي الصحيح لحل المشكلة الاجتماعية، ولا غرابة أن يعمد باقر الصدر لإحداث هذه النقلة إذا التفتنا إلى أن حل المشكلة الاجتماعية كان دائماً هاجسه الكبير لذلك حاول على طول مسيرته العلمية أن يؤسس النظريات الإسلامية التي تقدم حلولاً لهذه المشكلة في أبعادها المختلفة: السياسية والاقتصادية والدستورية.. إلخ.

لقد كان همه الأكبر الوصول إلى صياغة دقيقة متكاملة للنظام الاجتماعي الأصلح في بحث دؤوب عن الإجابة عن سؤال محوري هام: (ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وشعوبها في حياتها الاجتماعية؟) هذه المشكلة متجذرة في أعماق تاريخ الإنسان لأنها طغت على السطح منذ أن تشعبت النواة الأولى للمجتمع الإنساني وظهر أفراد عديدون تتجاذبهم ميولات مختلفة وطموحات متفاوته وتجمعهم من جهة أخرى هموم مشتركة ومصالح موحدة.

ولكن الإحساس المعاصر بهذه القضية أقوى وأشد لأن الإنسان المعاصر يعي جيداً أن المشكلة هو الذي صنعها ولا تُعرض عليه من فوق؛ إضافة إلى أن التراكم التاريخي للتجارب العديدة والنظم المختلفة والتي باء أغلبها بالفشل عمق في الوعي الإنساني الحاجة إلى التمحيص والتدقيق في المسألة.

لقد أبدع باقر الصدر حقاً في مناقشة المدارس الكبرى التي طرحت حلاً لهذه المشكلة وخاصة المدرسة الماركسية والرأسمالية في كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا) وأبرز فشل هذين المذهبين في تشخيص حقيقة المشكلة وبالتالي في وصف النظام الذي يقود إلى السعادة والكمال والرفاه. إن الخطوة الأولى للوصول إلى النظام الاجتماعي الأصلح: دراسة جوهر المشكلة النابعة من طبيعة الإنسان والتي جبلت على حب الذات والأثرة أقوى الغرائز الإنسانية المؤثرة على المسار الاجتماعي ومن جهة ثانية: أن التواصل الإنساني والعلاقات الاجتماعية يقتضيان التنازل عن جملة من المصالح الفردية ولا تستقيم حياة المجموعة إلا من خلال نظم حاكمة تحد من مصالح كل فرد لأجل الصالح العام: هنا يصطدم النظام الاجتماعي بهذه العقبة: كيف نوفق بين الدوافع الذاتية ومقتضيات الحياة الاجتماعية؟ سلكت الرأسمالية طريقاً ضحت معه بالمصالح الجماعية من أجل الفرد وسلكت الاشتراكية طريقاً موازياً: قدمت فيه مصالح الجماعة على الفرد وعمقت كل هذه الاتجاهات وغيرها الأزمة الاجتماعية ولم تحلها بسبب تفسيرها المادي للحياة ورؤيتها المحدودة للكون والإنسان ورسالته في الوجود مما جعل الإنسان أسير الحاجات المادية يعيش أزمة عميقة في نفسه نتيجة هذا التمزق الشديد بين الفرد والجماعة.. والانشطار بين المادة التي أوغل في متطلباتها والآفاق الروحية التي.. أُقصي عنها.. أما الصدر فهو يبدأ بداية مغايرة: (أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها ومقايسها)[74]، (فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة.. فإن نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي النظرة المادية إلى الحياة التي يختصرها بعبارة مقتضبة في.. افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط)[75]. فالبشرية بحاجة إلى معين آخر غير التصورات المادية عن الكون التي تسجن الإنسان في سجن الطبيعة وضيق التاريخ، يستقي منه نظامه الاجتماعي بلغة باقر الصدر لابد من (وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم)[76].

فالعقيدة هي القاعدة الفكرية المركزية التي ينبثق عنها هذا النظام العادل الكفيل بتحقيق السعادة المنشودة. فالإسلام يمنح الإنسان نظرة روحية للحياة ومقياساً خلقياً جديداً يشخّص من خلاله: ما يجب وما لا يجب فيخترق بذلك حجب الأنانية والانغلاق على الذات لينفتح على الآخرين وهمومهم ومشاكلهم بل ليقدم مصالحهم على مصالحه وهو بذلك يوفق بين الدوافع الذاتية المركوزة فطرياً في الإنسان وبين مقتضيات الحياة الاجتماعية القائمة على المصالح المشتركة.. إن هذا المقياس الخلقي الجديد تغذّيه عقيدة المعاد والإيمان باليوم الآخر وإن الحياة الدنيا شوط عابر نحو الحياة الآخرة الخالدة حين توفى كل نفس ما عملت ولا تظلم مقدار ذرة.

ويشرح باقر الصدر مفصلاً محاولة التوفيق التي يعتمدها الدين: (إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة وتتخذ العملية أسلوبين:

الأسلوب الأول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدمة تمهيدية إلى حياة أخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي – أو رضا الله تعالى – يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى…

وأما الأسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة تعنى بتغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه)[77]. في ضوء هذه الرسالة الحضارية الهامة للدين يقدم الصدر أخصر تعريف للإسلام ليكشف عن مركزية ومحورية العقيدة: (وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدد ويضع لها أهدافاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه)[78].

هذه الأطروحة للدين في قاعدته العقائدية والمفاهيمية وكيف تمثل حلاً للمشكلة الاجتماعية يرتقي بها باقر الصدر ويطورها أكثر في (المدرسة القرآنية) حيث يؤصل أكثر فأكثر هذه النظرية في بحث مقارن بين النظرية الاجتماعية الإسلامية والنظريات الوضعية الأخرى حيث تستند الثانية إلى صيغة اجتماعية ثلاثية مقابل الصيغة الاجتماعية الرباعية التي تؤمن بها النظرية الإسلامية: إن كل المجتمعات تؤمن بوجود عنصرين أساسيين: الإنسان والطبيعة ففي كل مجتمع لابد من إنسان ولابد من أرض وموارد طبيعية ليمارس في ظلها الإنسان دوره الاجتماعي. لكن العنصر المرن والمختلف من نظام اجتماعي إلى نظام آخر هو العلاقة الاجتماعية فلكل مجتمع خصوصيات في نسج هذه العلاقة المعنوية بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة.

هذا العنصر المرن له صيغتان:

۔ صيغة ثلاثية؛ لأنها تحدد الأطراف في ثلاثة (الإنسان ۔ الطبيعة ۔ الإنسان).

۔ صيغة رباعية؛ لأنها تؤمن بأربعة أطراف (الله ۔ الإنسان ۔ الطبيعة ۔ الإنسان).

ولا يتوهم أن الصيغة الرباعية تمتاز بإضافة عددية لعنصر جديد فحسب بل (إن هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الأطراف الثلاثة الأخرى نفسها. ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً أخرى ومفهوماً آخر سوف يحدث تغييراً أساسياً في بنية هذه العلاقة.. إذ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شركاء في حمل هذه الأمانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد أمانة لابد من رعاية واجبها وأداء حقها)[79].

إن الطرف الرابع مغير نوعي لتركيب العلاقة: فتنقلب العلاقة مع الطبيعة من هيمنة واستئثار إلى استخلاف واستئمان وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان من تجاذب استغلالي صراعي إلى تكامل وشراكة في المسؤولية والخلافة هذه الصيغة الرباعية هي المدلول الاجتماعي العام للتوحيد والقرآن يقدمها بما هي سنة تاريخية وقانون عام والعرض القرآني لهذه السنة يتخذ شكلين اثنين تارة يعرضها من زاوية دور الله في الكون بما هي عملية ربانية <إِنّي جٰاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً> فتتخذ مفهوم الخلافة وتارة أخرى يعرضها من جهة تقبل الإنسان لها <إِنّٰا عَرَضْنَا الْأَمٰانَةَ عَلَى السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسٰانُ>. [80]

(إن هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة لم تكن لتصبح قانوناً تاريخياً إلا لأنها داخلة في تكوين الإنسان في تركيب مسار الإنسان الطبيعي والتاريخي)[81] فالله قد صاغ هذا الإنسان باستعدادات وقابليات وميول منسجمة تماماً مع العلاقة الاجتماعية الرباعية.

وبالتفاتة ذكية رائعة يطابق بين مدلول الآيتين اللتين تحدثنا عن الصيغة الرباعية (الآية 30 البقرة) و(الآية 72 الأحزاب)، وبين الآية: <.. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ>.[82]

فالتعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما داخل في تكون الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني أن يكون هذا الدين قيماً على الحياة أن يكون مهيمناً على الحياة هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين في آية: <إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً > وآية: <إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ> إذن فالدين سنة الحياة والتاريخ والدين هو الدين القيم والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الأطراف التي يدخل فيها الله بعداً رابعاً)[83].

ولكننا بحاجة ماسة في إطار النظرية الإسلامية للصيغة الرباعية أن نوضح أكثر فعالية الله في المجتمع والتاريخ حتى ندفع توهم قد يثيره الخصوم وهو أن هذه الصيغة بإدخالها العنصر الرابع (الله) جل جلاله تلغي دور الإنسان وتفسر كل الظواهر الاجتماعية تفسيراً غيبياً لاهوتياً يعزل هذه الظواهر عن أسبابها وعن القوانين التي تحكمها لتربطها مباشرة بالإرادة الإلهية.. وتقصي نهائياً إرادة الإنسان في التاريخ.. وتسقطنا في حبائل الجبر والصرف.. إن هذا التوهم مدفوع بحزم وقوة.. لأن فعالية (الله) في المجتمع والطبيعة والتاريخ لا تعني البتة تحنيط الإنسان وتجميد إرادته.. (وسنبين في الفصل الثالث ذلك من خلال شرح مفصل لهذا الدور الإلهي.. في حياة الإنسان).

وعلى مستوى (الدولة) لا تخلو العقيدة من مدلولات هامة.. ففي رسالة (منابع القدرة في الدولة الإسلامية) تحدث باقر الصدر عن عطاءات العقيدة في هذا المضمار واعتبر الدولة الإسلامية نموذجاً فريداً لما تمتاز به من خصائص تجعل حركتها الحضارية حركة مستمرة لاستنادها إلى عقيدة توحيدية صلبة. فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية الذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته وتجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفذ[84].

إن العقيدة الإسلامية تحوّل عمل المسلم وحركته في ظل المجتمع المسلم والدولة المسلمة إلى عبادة تتهاوى معها الحواجز بين السماء والأرض.. والحياة والغيب ويندمج الإنسان في مسيرة متوازنة بالله نحوه(عز).

النقلة المنهجية الخامسة: من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية

قدم علم الكلام في تاريخه الطويل خدمات جليلة للعقيدة الإسلامية في نصرة الدين ودحض الشبهات وتبكيت الخصوم إلا أنه بقي قاصراً إلى مراحل تاريخية متقدمة أن يتجاوز طابع الجدل الذي انعكس بقوة على مطالب العلم وموضوعاته ومناهجه وآلياته.

إن السمة الجدلية لهذا العلم خاصة في المرحلة الثالثة من تاريخه أفرزت عدة عوائق ساهمت في تعطيل نمو هذا العلم بالشكل المطلوب وحبسته في دائرة ضيقة فافتقد الحس الموضوعي في عرض آراء الخصوم ومناقشة المذاهب الأخرى وكتب الملل والنحل شاهدة على ذلك بما تعج به من افتراءات واختلاق فرق لا وجود لها إلا في مخيلة بعض المصنفين بغية أن تأتي تصنيفاتهم مطابقة لحديث رسول الله(ص): (تنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة).

لقد بلغ التعصب المذهبي الذي غذّاه المنحى الجدلي أن تتوسل بعض الفرق بالسلطان للتنكيل بالفرق الأخرى والشواهد التاريخية على ذلك عديدة.

النقلة الهامة والخروج عن دائرة الجدل إلى الصبغة البرهانية كانت أساساً على يد الخواجة نصير الدين الطوسي – كما أشرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة – فاتحدت مطالب هذا العلم بالفلسفة والتفكير الفلسفي، (ويكفي الإشارة هنا إلى أن بدء محاولة شرح موضوعات علم الكلام بالموضوعات الفلسفية كانت على يد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي.. ولكن الرائد الحقيقي لهذا التطبيق هو نصير الدين الطوسي في كتبه الفلسفية والكلامية خاصة في كتابه (التجريد) وليس من الإنصاف العلمي أن نجعل هذه المحاولة بدأت مع عضد الدين الإيجي ونغفل عن الإشارة إلى الرائد الأول لها كما فعل الدكتور إبراهيم مدكور في الفلسفة الإسلامية)[85].

إن الحقبات المظلمة لتاريخ هذا العلم من التحجر والجمود هو مظهر من مظاهر تاريخ المذهبية المغلقة والتعصب المقيت في تراثنا الفكري حيث لا يرى الباحث الحق إلا من خلال معتقده ومذهبه ولا يشاهد في الآخر سوى معالم الكفر والزندقة والانحراف. فينبري طاعناً في المذاهب الأخرى رافعاً سيف التشهير والتبري، حتى اشتهر عن الغزالي قوله: (اعلم أن للفرق في هذا مبالغات وتعصبات انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها) فكلامه ليس بعيداً عن الواقع التاريخي الذي غابت عنه الموضوعية في عرض المذاهب ودراسته الأديان والمدارس الأخرى. وبتأمل متفحص في كتب الملل والنحل نلمح بجلاء هذا الجنوح إلى تزكية (مذهب الأنا) وإلغاء الآخر ورميه في قاع جهنم موصوفاً بكل النعوت المنفرة: فهذا عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ ) لا يكاد يعرض مذهباً من مذاهب الخصوم على وجهه الصحيح، والشهرستاني نفسه (ت 548هـ ) صاحب الملل والنحل رغم ما شرطه على نفسه في مقدمة كتابه (وشرطت على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم دون أن أبين صحيحه من فاسده وأعين حقه من باطله وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل وبالله التوفيق)[86]، ولكنه لم يلتزم بما شرطه على نفسه وجاوز حد الموضوعية في كثير من المسائل يقوم عن ذلك أحمد أمين: (ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وأمثالهما قد خلطوا حقاً وباطلاً فكثيراً ما نسبوا القول إلى غير قائله..)، لقد بحث كل من ممثلي العلم المللي النحلي الإسلامي ضمن إطار انتمائه الفكري والعقائدي عن الفرقة التي كان بإمكانه أن يقول هنا الحقيقة وإن كانت هذه الصياغة ظاهرة مميزة للكتابات الأولى على الأقل في مفاهيمها المباشرة فإنها تعمقت في وقت لاحق إلى الدرجة التي لم يعد الحاسم فيها مفهوم الانتماء المباشر للإسلام فقط بل ومضمون العقائد الإسلامية ذاتها فـ (النوبختي) الذي لم يشر إلى الحديث – حديث الفرقة الناجية – لم يُفته أن يحقق واقع الانقسام القائم في صراع الفرق ودعوى التمثل الانتمائي للفرق الناجية أو أهل السنة والجماعة بعبارة (كل منهم يدعي نفسه جماعة رغم أن واقعهم أو ما ينطبق عليهم ليس معنى الاجتماع بل معنى الافتراق)[87].

ولم يفلت كذلك ابن حزم (ت 456هـ ) والرازي (ت 606هـ ) والملطي (ت 377هـ ) من هذه الضوابط الصارمة الموغلة في التمذهب والإصرار على تمثيل الجماعة ونصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة.

لقد كسرت النقلة من الجدل إلى التفلسف على يد الخواجة إلى حد كبير هذا الطوق، ولكن.. النقلة الهامة التي حدثت في تاريخنا المعاصر هي الانتقال من البرهان إلى اليقين هذه النقلة أبدعها باقر الصدر من خلال المذهب الذاتي في المعرفة حيث جعل التوالد الذاتي هو الأساس القائم على أساس تراكم الاحتمالات – راجع النقلة الأولى من هذا الفصل – كما جعل اليقين الذاتي هو الأساس في التوالد المعرفي وقنن هذا التوالد واليقين الذاتي كما شرحنا سابقاً.

إنه اليقين الذي يحصل بتراكم القيم الاحتمالية.. والذي يوجب الاقتناع وفناء القيم الاحتمالية الضعيفة.. هو الطريق الأوسع لأكثر معارفنا.. ولذلك ينفتح الباب واسعاً لأي كان.. للوصول إلى معرفة الله.. وبقية الأصول الاعتقادية.. لن ينغلق الباب تحت أي عنوان فئوي أو مذهبي أو طبقي. إنها طريقة معهودة لدى الناس جميعاً فالنهج الاستقرائي قريب إلى أذهان الناس؛ لأنهم عهدوه في تجاربهم الحسية اليومية وعهدته الحضارة الغربية وشادت عليه بنيانها وصرحها العلمي والحضاري ولذلك فإنه قريب لروح هذه الحضارة.. التي بلغت ما بلغته من أوج التقدم التقني والقوة المادية والصناعية عبر المنهج العلمي الاستقرائي. إن هذه الحضارة كما سلمت به (المنهج الاستقرائي) في مجال العلم والتكنولوجيا عليها أن تسلّم به في مجال الاعتقاد والإيمان بالله.. إن المنهج الذي قاد إلى كل هذا الزخم العلمي والتقني يقود.. بنفس الخطوات إلى الإيمان بالله(عز) إنه التحدي الكبير الذي يجابه به باقر الصدر أرباب الحضارة الغربية والاختبار الصعب للضمير الإنساني الغربي ومصداقيته.. لأنه إن كان حقاً صادقاً لا تمزقه ازوداجية مريضة لماذا لا يسلّم بالنتائج على الصعيد الثاني ويلتقي بالغاية المقصودة؟

إن باقر الصدر.. بنى بنظريته هذه القاعدة المنهجية المعرفية الصلبة للحوار مع الغرب.. وهذه القاعدة تمثل حاجة ماسة خاصة في ظل الدعوات الملحة والمتكررة لحوار الحضارات.. ليكون حواراً مرتكزاً على أسس علمية ولا يتحرك في فراغ.. إن المذهب الذاتي للمعرفة يمكن أن يشكل الإطار المعرفي لهذا الحوار وبالتالي يقرب الهوّة بين الشرق والغرب ليلتقيا على كلمة سواء (معرفة الله).

وفي الوقت الذي يعلن الغرب فيه موت الإنسان يعمّق ويؤصل مفكرنا العظيم (نظرية الإنسان) ويقدم بحوث العقيدة على أنها نظرية للإنسان والحياة.. وطريق الخلاص.. في الوقت الذي ينظّر فيه الغرب لموت الإنسان وضياع المعنى.. وتلاشي القيم يعلن باقر الصدر قيام الإنسان وانتصار القيم وحتمية الخلاص.. الخلاص للأرض وللبشرية جمعاء.. لأن الإسلام في حله للمشكلة الاجتماعية وفي أطروحاته العقائدية والفكرية لا يفرّق بين إنسان وإنسان.. إنه يحمل حلم البشرية وهمومها.. بدون انغلاق على فئة أو عرق أو مذهب: وهذا ديدن الصدر في مسيرته العلمية وجهوده الجبارة في صياغة النظرية الإسلامية.

إنه يحمل هموم الإنسان.. ويقترح حلاً اجتماعياً للإنسان.. ويقدم منهجاً معرفياً لكل إنسان.. يمكن أن يوصله إلى الرؤية الكونية التوحيدية وهو عندما يناقش المدارس والمذاهب الأخرى، ولقد بارز أهم التيارات الفكرية المعاصرة يناقشها بكل موضوعية وتجرد.. متنزهاً عن كل تعصب أو افتراء حتى أن أصحاب هذه الاتجاهات يقرون بأن عرضه لأطروحاتهم بلغ من النزاهة ما يفوق التصور.

لقد تجاوز باقر الصدر أطر التاريخ الغارقة في الجدل.. ليدخل في حوار إنساني مفتوح يستهدف بناء المنهج الصحيح والاقتناع بالحل الأمثل.

ومن الغريب حقاً أن يرمي (فهمي جدعان) رموز الفكر الإسلامي المعاصر بأنهم لم يرصدوا التحولات العلمية والفلسفية الحديثة في معرض إثبات التوحيد يقول: (لكن مشكلة رواد هذا التطور أنهم لم يتابعوا بالجدية الكافية سير العلم الحديث والفلسفة الحديثة وتطوراتهما من أجل تأسيس المبدأ نفسه مبدأ التوحيد فهم قد ظلوا في الغالب الأعم يدورون حول حلقة الأدلة القديمة التي لم تعد تعني في الواقع شيئاً ذا بال في عالم بات يلزم أهله بإعادة النظر في أنماط المعرفة والعقل الموروث كله)[88]. إن تغييب باقر الصدر وأمثاله كمطهري والسيد الطباطبائي.. هو الذي أوقع الجدعان في الوهم.. وإلا فإن اطلاله على إنتاج هؤلاء الفلاسفة وعلى نتاج الصدر خاصة (فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية) كافية للكشف عن باع هؤلاء عامة والصدر خاصة في مقارعة الفلسفة الحديثة والنظريات العلمية الجديدة واستفادتهم من هذه الثقافة المعاصرة في تأصيل النظرية الإسلامية وتشييد أركانها.

هذه هي النزعة الموضوعية الإنسانية.. التي تستهدف اليقين والإقناع وتتعالى عن الجدل والتمذهب يكرّسها باقر الصدر أيضاً في حواره مع الاتجاهات الأخرى داخل الفكر الإسلامي.. فرغم تعاطيه مع أكثر المسائل حساسية في تاريخنا الإسلامي (خلافة رسول الله(ص) ومسألة ولاية الإمام علي(ع) وقضية فدك.. ودور الأئمة(ع) في التاريخ ومسألة الإمام المهدي(ع)).. ورغم النفس المذهبي الطاغي في التعامل مع مثل هذه القضايا.. إلا أن باقر الصدر استطاع أن يبحث هذه المسائل بأسلوب علمي رصين استفاد فيه من الآليات والتحولات المنهجية التي ابتكرها.. وأدرك نتائج هامة.. لا تزال مثار بحث وتحليل العديد من الدراسات.

لقد انطبع خطابه السياسي أيضاً بهذه السمة حيث حرص أن يكون رمزاً.. لكل المسلمين في العراق.[89] بل لكل العراقيين حتى وصفته الصحافة البريطانية في السنوات الأخيرة بأنه كان مؤهلاً ليجسد مانديلا العراق.[90]

الفصل الثالث: المضامين الجديدة في ضوء المنهج الجديد

مع تحقق هذه النقلات المنهجية الهامة التي فصلناها في الفصل السابق كان لابد لعلم الكلام أن يتجدد لا في آليات البحث فقط وإنما في المضامين والمفاهيم حتى أنه يمكن القول أن (العقيدة) أضحت في تعريفها كنظرية للإنسان والحياة والثورة أقرب ما تكون من قاعدة للنهضة والتقدم والتغيير.

ولكن كيف أن ندرس المضامين الجدية والمفاهيم الناتجة عن المنهج المبتكر؟ خاصة وأن العقيدة في ضوء هذا المنظور الجديد تتقاطع مع الرؤية الكونية وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ والنظام الاجتماعي.

إن دراسة هذه المضامين خارج الإطار الكلاسيكي (التقسيم الخماسي) يجعلنا نواجه صعوبات ما.. أدناها أنه لن تتضح العلاقات بين المطالب العقائدية والمجالات الأخرى. خاصة في ظل العقلية القديمة التي تشكلت عبر قرون عديدة ورؤيتها المسبقة لأصول الدين في تعيناتها الثابتة، في حين أن المشروع الفكري العام لباقر الصدر يستند إلى حلقات متلاحقة ومتراصة تحتل فيها العقيدة (الرؤية الكونية) إلى جانب نظرية المعرفة الأسس الجذرية للبناء الفكري العام في شتى ميادين الحياة (اجتماع، سياسة، اقتصاد.. إلخ).

لأجل ذلك حافظنا على الإطار القديم للتصنيف المعروف في أصول الدين (اللوحة الخماسية) وهذا سيساعد على تلمس معالم التجديد العميق الذي أحدثه باقر الصدر في مستوى المفاهيم والمضامين والتي لا تقل أهمية التجديد في مجالها عن التجديد في المناهج والآليات. لأن السيد باقر الصدر يولي دائماً المفاهيم أهمية خاصة.. ويعتبرها قاعدة السلوك والخط الذي يختاره ويشقّه الإنسان في الحياة.

لقد ضح هذا الأمر في معرض بحثه عن (الاقتصاد الإسلامي جزء من كل) وتحليله لعناصر الأرضية للمجتمع الإسلامي وهي:

أولاً: العقيدة؛ وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

وثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى صف تلك المفاهيم لأن المفهوم بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية.[91]

فما هي المفاهيم والمضامين الفكرية والحضارية لأصول الدين؟

الأصل الأول: التوحيد

أدرك القدماء أهمية التوحيد ومحوريته لكل الأصول الأخرى فسموه: أصل الأصول. وأطلق على العقائد اسم (علم التوحيد) لأن الأصول الأخرى متوقفة عليه. وعرف بعضهم علم الكلام بأنه العلم الذي يبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ويندرج تحت أفعاله: النبوة والإمامة والمعاد لأنها تمثل تجليات الفعل الإلهي في الكون والحياة وما بعد الحياة.

يلتقي باقر الصدر مع رؤية القدماء حول مركزية التوحيد ويفجر في كتاباته مفاهيم عديدة وتصورات مستجدة تواكب المعركة التي يعيشها الإسلام في عصره الحالي ولحظته التاريخية كما أنه استدل على هذا الأصل بأدلة مبتكرة.. أسست أو على الأقل ساهمت في تأسيس أسلوب جديد في إثبات الصانع:

ويمكن أن نختار القضايا التالية كعنوان للتجديد في مستوى هذا الأصل وكميزان للوعي التوحيدي ومداه الذي بلغه في هذه البحوث:

أولاً: الإيمان بالله وأدلة إثبات الصانع

يعتبر باقر الصدر الإيمان بالله ترجمان لنزوع أصيل في الإنسان إلى التعلق بخالقه ولسان وجدان راسخ يدرك بفطرته علاقة الإنسان بربه وكونه، فالتدين والاعتقاد بالخالق توصل إليه الإنسان منذ أمد قبل أن يصل إلى مرحلة التجريد الفكري (فقد توصل الإنسان إلى الإيمان بالله منذ أبعد الأزمان وعبده وأخلص له وأحس بارتباط عميق به قبل أن يصل إلى أي مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي أو الفهم المكتمل لأساليب الاستدلال).[92]

إن هذا الإيمان لم يكن وليد التناقض الطبقي ونابعاً من مستغلين ظالمين كرّسوا الدين حفاظاً على مصالحهم ومناصبهم في المجتمع. ولم يكن هذا الإيمان وليد خوف أو شعور بالرعب تجاه الظواهر الطبيعية أو كوارثها المدمرة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان أكثر المتدينين هم أشد الناس خوفاً وأسرعهم هلعاً ولكن تاريخ الأديان يعكس أن الذين حملوا مشعل مسؤوليته على مر التاريخ من أقوى الناس وأصلبهم عوداً، لقد ناقش الصدر في كتابه اقتصادنا النظرية الماركسية في تفسيرها لظاهر الدين وحلل جذور هذه التفسيرات المادية حيث إن الماركسية (وقد استبعدت عن تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية من الوحي والنبوة والصانع فكان لابد أن تصطنع للدين وتطوراته تفسيراً مادياً).[93] لقد بحثت الماركسية عن الظاهرة الدينية في الوضع الاقتصادي للمجتمع ولكن السيد باقر الصدر يناقش كل الفروض التي تتمسك بها الماركسية في هذا المجال[94] ويؤكد بالمقابل على سننية الدين وأنه قانون في التاريخ <فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ>.[95] ويصف هذا القانون أو هذه السنة في القسم الثابت من سنن التاريخ التي تقبل التحدي، السنن ذات الاتجاه العام التي تقبل التحدي يتحداها الإنسان لكنه يدفع في النهاية ثمن هذا التحدي ويتحمل تبعات هذا التمرد حيث تنقلب عليه النتائج الوخيمة (سنفصل الحديث عن السنن وأقسامها كما نحلل فعالية الله في التاريخ في فقرة لاحقة من أصل التوحيد).

فالدين نداء فطري لامسَ وجدان الإنسان الأول فانقاد إليه بعيداً عن التعقيدات والجدال ولكن مع بلوغ الإنسان مرحلة التجريد الذهني بسبب تطور الفكر الفلسفي وظهور اتجاهات فلسفية مادية ووضعية وتجريبية تعقدت أكثر المسائل واحتجنا إلى دليل يثبت وجود الله تعالى وصار الإيمان بالله في ضوء هذا التنوع الفكري والثقافي مسألة نظرية تحتاج إلى عمق فكر وتأمل وبحث بل تصبح قضية لا معنى لها في مفهوم المدرسة الوضعية وقضية خارج نطاق البحث التجريبي في منظور المذهب التجريبي.

والعقيدة الإسلامية في تاريخها الطويل أسست لأدلة متنوعة وبراهين عديدة، لكن المشكلة أن المصطلحات الموروثة والإثباتات القديمة لم تعد كافية لإشباع الحاجة الثقافية للناس في هذا العصر وغير كفيلة بالرد عن شبهات وإشكالات المدارس الأخرى. فلم يعد برهان الحدوث والإمكان واستحالة التسلسل.. رغم قيمتها.. تقنع إنسان العصر.. وتمثل مضموناً عقائدياً.. قادراً على المواجهة والتحدي في هذه المرحلة.

في مثل هذا الجو استفاد باقر الصدر من منجزات العصر العلمية والمعرفية ليؤسس لنوع جديد من الأدلة الصالحة لإثبات المطلوب فقدم نوعين من الأدلة:

أ) الدليل الاستقرائي.

ب) الدليل الفلسفي.

وكأن بنية الأدلة عند باقر الصدر تعكس استجابة متفاعلة حية للتحولين الكبيرين تاريخ الفكر البشري – مرحلة التفلسف – ثم مرحلة بروز التجربة على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة.

وكلا الدليلين مما يمكن للذهنية المعاصرة أن تتفاعل معه حتى تلك التي تتحرك في إطار منهج معرفي مختلف لأن الدليل الاستقرائي يستند إلى نظرية باقر الصدر في المذهب الذاتي للمعرفة (فصلنا الكلام حوله في النقلة المنهجية الأولى؛ انظر الفصل الثاني).

الدليل الأول: فقد صاغه باقر الصدر في موجز أصول الدين (مقدمة الفتاوى الواضحة) على مراحل خمس:

۔ أولاً: مواجهة جملة من الظواهر الحسية.

۔ ثانياً: إيجاد فرضية لتفسير هذه الظواهر.

۔ ثالثاً: ملاحظة أنه في حال كذب الفرضية وعدم ثبوتها في الواقع فإن احتمال وجود هذه الظواهر كلها مجتمعة ضئيل جداً.

۔ رابعاً: نستخلص صدق الفرضية ويكون الدليل على ذلك تواجد كل تلك الظواهر.

۔ خامساً: ملاحظة أن درجة إثبات كل الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذبها فكلما كانت النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ درجة اليقين الكامل لصحة الفرضية وهذا يكون وفق نظريته في تراكم الاحتمالات على محور واحد.

ففي الخطوة الأولى – كما شرحناها في الموجز – يستعرض الصدر جملة من الظواهر العلمية التي رصدها العلماء ويستفيد هنا من نتائج العلم الحديث على خلاف أكثر الكتب الكلامية التي جمدت على أطر الثقافة العلمية القديمة.

فيذكر أمثلة من الفلك والأبعاد التي تفصل الأرض عن القمر وعن الشمس ويذكر أمثلة من البيئة وعلوم الإنسان والنبات والحيوان، هذه الظواهر تتوافق كلها مع تيسير الحياة واستمراريتها…

في الخطوة الثانية يستنتج أن هذا التوافق العجيب بين هذه الظواهر لا تفسره إلا فرضية واحدة: تفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة ويسر مهمتها فإن هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات[96].

أما الخطوة الثالثة تقودنا إلى أن فرضية إثبات الصانع إذا لم تكن صادقة فإن احتمال وجود هذه التوافقات بين الظواهر الطبيعية تحتاج إلى مجموعة هائلة من الصدف.

في الخطوة الرابعة يرجح بلا شك ولا ريب صدق الفرضية التي طرحت في الخطوة الثانية.

في الخطوة الخامسة والأخيرة نقارن بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الذي قررناه في الخطوة الثالثة (أي احتمال وجود هذه الظواهر على فرض كذب الفرضية) فإن هذا الاحتمال ضئيل جداً وتزداد ضآلته كلما ازداد عدد الصدف.. وبالمقابل فإن نسبة الترجيح تكبر وتكبر.. حتى يزول الاحتمال المقابل نهائياً.. ونصل إلى القطع بأن للكون صانعاً حكيماً.

هذا باختصار شديد توضيح لمراحل الدليل الاستقرائي.

أما الدليل الثاني فهو الدليل الفلسفي الذي يعرّفه باقر الصدر بأنه الدليل الذي تكون بعض مقدماته على الأقل ليست تجريبية ولا ارتباط لها بالحس: لذلك يلزم من رفضه رفض الدليل الرياضي الذي يقبله الجميع لأنه يستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي لا علاقة له بالحس والتجربة ويقدم باقر الصدر نموذجاً لهذا الدليل الفلسفي، يقوم على مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: لكل حادثة سبب.

المقدمة الثانية: الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.

المقدمة الثالثة: أن الموجودات بالاستقراء تتفاوت في الدرجات وتتنوع في الإشكال.

انطلاقاً من هذه المقدمات يطرح سؤال: من أين جاءت هذه الزيادة النوعية؟ كيف ظهرت هذه الإضافة النوعية التي نراها في بعض الموجودات المتمتعة بدرجات عالية من الكمال؟

في مقام الجواب لا يمكن أن نقول أن الزيادة جاءت من المادة نفسها لأن هذا الجواب يتعارض مع المقدمة الثانية (الأدنى لا يكون سبباً للأرقى). والجواب الصحيح: (أن هذه الزيادة.. جاءت من مصدر يتمتع بكل ما تحويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر وهو الله رب العالمين(عز)).[97]

ويفنّد باقر الصدر كل المحاولات الميكانيكية والمادية في تفسير تطور المادة ومحاولة إرجاع هذه الزيادات النوعية والمراتب الكمالية إلى المادة نفسها[98] ويجزم قائلاً (أن حركة المادة بدون تموين وإمداد من خارج لا يمكن أن تحدث تنمية حقيقية وتطوراً إلى شكل أعلى ودرجة أكثر تركيزاً فلابد لكي تنمو المادة وترتفع إلى مستويات عليا – كالحياة والإحساس والتفكير – من رب يتمتع بتلك الخصائص ليستطيع أن يمنحها للمادة وليس دور المادة في عمليات النمو هذه إلا دور الصلاحية والتهيؤ والإمكان، دور الطفل الصالح والمتهيئ لتقبل الدرس من مربيه فتبارك الله رب العالمين).[99]

كصيغة ثانية لهذا الدليل الفلسفي يمكن اعتبار فصل (المادة والله) في كتاب فلسفتنا وجهاً آخر للدليل حيث أثبت باقر الصدر أن المادة صفة عرضية زائلة في ضوء البحوث العلمية ولا يستند إليها الكون في وجوده ولا تستطيع أن تفسر لنا هذا العالم ولذلك لا يمكن أن تكون هي العلة الواضحة التي هي المرد والأساس والباعث للكون والعالم لأنها لا تمتلك الأصالة بل هي عرض زائل.

ثانياً: التوحيد والمثل الأعلى المطلق

نظرة جديدة لتلك التي يطرحها باقر الصدر عبر مفهوم (المثل الأعلى المطلق) فالمجتمع والفرد سواء بسواء يتشخص سيرهما ومعالم هذا السير من خلال اختيار المثل الأعلى (فبقدر ما يكون المثل للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات صالحة وممتدة وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً).[100] فالمثل الأعلى هو محور أي حركة تاريخية لأنه يحدد غاياتها وأهدافها وبدورها هذه الأهداف هي التي ترسم حدود الأنشطة والحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

لقد صنف المثل العليا إلى ثلاثة أقسام:

۔ القسم الأول: المثل الأعلى المنتزع من الواقع المعاش بكل ما يحويه من ظروف وملابسات.

۔ القسم الثاني: المثل الأعلى المحدود هذا النوع ليس تعبيراً تكرارياً عن الواقع كما هو القسم الأول بل هو تطلع للمستقبل لكنه منتزع عن جزء من هذا الطريق المستقبلي الطويل.

۔ القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق الذي تؤمن به عقيدة التوحيد وهو الله جل جلاله.

النوع الأول يمثل محاولة لتجميد الواقع ويكون المستقبل تكراراً للواقع و(هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية إلى مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية أن تتجاوز الواقع وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع).[101]

إن تبني هذا النوع من المثل العليا يرجع إلى أحد سببين:

أولاً: سبب نفسي؛ وهي حالة الخمول والألفة التي تجعل المجتمع يعيش حالة ضياع فينغلق على آلهة ينتزعها من واقعه يحوّلها إلى حقيقة مطلقة وقد عبر القرآن الكريم عن ظاهرة تقديس الواقع الموروث وتحويل رموزه النسبية إلى حقائق مطلقة في آيات عديدة[102].

<قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ>.[103]

السبب الثاني: اجتماعي ويتمثل في التسلط الفرعوني؛ فالفراعنة يرون في التوحيد تجاوزاً للواقع الذي يسيطرون عليه وبالتالي خطراً يهدد سلطانهم ويزلزل كيانهم فيكون من مصلحتهم أن يغمضوا عيون الناس عن أي أفق وراء الواقع.. ولن يحصل ذلك إلا بتحويل هذا الواقع إلى مطلق إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه.. ففرعون يحاول دائماً أن يعبّئ الجماهير ويؤطرها في ظل وجوده ورؤيته هو <قٰالَ فِرْعَوْنُ مٰا أُرِيكُمْ إِلاّٰ مٰا أَرىٰ وَ مٰا أَهْدِيكُمْ إِلاّٰ سَبِيلَ الرَّشٰادِ>[104]، <وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ يٰا أَيُّهَا الْمَلَأُ مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي>[105].. إنه خط الطاغوت في التاريخ الذي يسعى لتجميد حركة المجتمع البشري وتحويل الواقع إلى مطلق وسجن الجماعة البشرية في ضيق الماضي وحدود رموزه.. هكذا تتحول معركة التوحيد والكفر إلى معركة بين قوى التقدم وقوى التآمر والجمود وتكون (الفرعونية) بكل مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. المؤسسة الطاغوتية التي تشد المجتمع إلى الوراء.. وتحول دون نهضتها التوحيدية وتحررها الرسالي.. إن مصير الأمم التي تخضع لهذه المثل العليا المنخفضة أنها تتحول إلى ما أسماه(قده) (شبح أمة) تعيش الفرقة والتمزق لأنه بغياب عقيدة التوحيد.. ينتفي الإطار الذي يوحد صفوف الأمة و(يبقى كل إنسان مشدوداً إلى حاجاته المحدودة إلى مصالحه الشخصية إلى تفكيره في أموره الخاصة كيف يصبح؟ كيف يمسي؟ كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ كيف يوفر الراحة والاستقرار له ولأولاده ولعائلته؟ أي راحة؟ أي استقرار؟ الراحة بالمعنى الرخيص من الراحة والاستقرار بالمعنى القصير من الاستقرار.. يبقى كل إنسان سجين حاجاته الخاصة سجين رغباته الخاصة..)[106]، ويحدد باقر الصدر مصير هذه الأمة النهائي بأحد الإجراءات الثلاثة التالية:

الإجراء الأول: أن تتداعى الأمة لغزو عسكري من الخارج لأن الأمة أفرغت من محتواها وصار كل فرد يفكر في ذاته.

الإجراء الثاني: الذوبان والانصهار في مثال أعلى أجنبي مستورد.

الإجراء الثالث: أن ينشأ في أعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمة.

أما النوع الثاني – المثل الأعلى المحدود – فقد نجد لتبني المجتمعات والأفراد لهذا النوع عذراً لأنهم لا يستطيعون أن يستوعبوا المطلق بحكم محدودية الأذهان، ويكمن الخطر هنا أيضاً في أن يضفي على هذا المستقبل القريب الإطلاق من جميع الجهات، لا شك أن هذا النوع يعطي للجميع طاقة نحو المستقبل ودفعاً ولكن في حدود آفاق هذا المثل الأعلى لأنه سرعان ما يبلغ مداه الأقصى فيتحول إذا لم نتجاوزه إلى عائق يعطل المسيرة ويشدها إلى عهود تكرارية.

بهذه الموازنة بين هذه الأنواع المختلفة للمثل العليا يبرز الصدر الأهمية الحضارية لعقيدة التوحيد وللمثل الأعلى المطلق الذي يجعل من الله غاية للمسيرة <يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ>[107] بكل ما يعنيه ذلك من تألق المسيرة وديمومتها وتكاملها اللامحدود.

إن عقيدة التوحيد تصنع التوافق بين الوعي البشري والواقع الكوني الذي يفرض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة ثابتة.. ولذلك عبرت الآية عن الكدح بصيغة خبرية لا بصيغة إنشائية. فالبشرية تكدح نحو الله شاءت أم أبت حتى الذين يتمردون على الله هم يسيرون نحو الله ولكن من حيث لا يشعرون.. لأن كونه سبحانه مثلاً أعلى حقيقة كونية على الإنسان أن يعيها ويرتبط بها.. <وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسٰابِ> [108] وعقيدة التوحيد عندما توحد بين الوعي والواقع وبين الاعتقاد والحقيقة.. يحدث تغيراً كمياً وكيفياً على مسيرة الإنسان فالمثل الأعلى المطلق يحفّز الإنسان والمجتمع نحو التقدم ويضفي على المسيرة اندفاعاً وتجدداً لا ينضب فعلى المستوى الكمي يفتح آفاقاً لا نهاية لها لأنه كلما قطعت المسيرة شوطاً نحو الله انفتحت أمامها أشواطاً جديدة.. وتسقط حينئذ وتتهاوى كل الأشكال من الألوهيات المزيفة على هذا الطريق الزاحف نحو المطلق (من هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت أن تحدد من كمية الحركة، من أن توصل الحركة إلى نقطة ثم تقول قف أيها الإنسان).[109]

(أما التغير الكيفي تتجلى في حل الجدل الداخلي للإنسان بإعطاء الشعور الداخلي بالمسؤولية الموضوعية؛ لأن الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ).[110] وسبب ذلك أن المثل الأعلى المطلق حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان وبذلك يتفق الشرط المنطقي للمسؤولية وجود جهة عليا يؤمن هذا الإنسان بأنه مسؤول أمامها.

وعقيدة التوحيد إضافة إلى كونها تستند أساساً إلى الاعتقاد بالمثل الأعلى المطلق فإنها توفر الأرضية الملائمة وسائر الشرائط لتبني هذا المثل الأعلى فهي:

أولاً: تتوفر على رؤية فكرية واضحة تقوم على الإيمان بالله(عز) الذي تتوحد فيه كل الغايات وكل التطلعات البشرية.

ثانياً: إن تبني المثل الأعلى المطلق يتوقف على طاقة روحية مستمدة من هذا المثل كي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مر التاريخ وهو ما تمنحه عقيدة التوحيد عبر عقيدة المعاد.

ثالثاً: المثل الأعلى المطلق ليس جزء من الإنسان بل هو منفصل عنه وهذا ما يستوجب قيام صلة موضوعية بين (الله) و(الإنسان) وهذه الصلة تتحقق بدور النبوة (فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركّب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر الله(عز) بين رؤية أيديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدة من الإيمان بيوم القيامة يركّب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ليحمل هذا المركب إلى البشرية بشيراً ونذيراً..).[111]

رابعاً: ضمان استمرارية تبني الأمة للمثل الأعلى المطلق وعدم خضوعها وانهزامها أمام القوى التحريفية والقوى الطاغوتية التي تحاول جاهدة صرف الأمة عن مثلها الأعلى نحو مثل منخفضة ولذلك لابد للمجتمع أن يخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة (ولابد من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الإمامة، هي دور الإمامة. الإمام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة.. ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد أيضاً حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعد لا تزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من أجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبي)[112]، فالأصول الاعتقادية في ضوء هذا التحليل (لشرائط تبني المثل الأعلى المطلق) تأخذ موقعها الطبيعي وتسلسلها المنطقي ويكون التوحيد أصل الأصول ولكن من منظور اجتماعي وسياسي وتاريخي.

ثالثاً: التوحيد والمحتوى الداخلي

(المحتوى الداخلي) مفهوم يتكرر كثيراً في كتابات باقر الصدر ويلامس العديد من نظرياته في مجالات شتى: التربية وبناء الشخصية، الحرية، الثورة، البنى الاجتماعية، نظام العبادات.. إلخ.

فالمحتوى الداخلي يشكّل في المنظور (الصدري) الثقل الحقيقي للإنسان ويحدد إلى مدى بعيد طبيعة دوره وخطه في الحياة، لأنه يستند أساساً إلى المثل الأعلى. من هنا نفهم كيف أن العقيدة الإسلامية التوحيدية تستهدف بناء محتوى داخلي توحيدي إن صح التعبير.

ولكن لنبحث مع الصدر حقيقة هذه المقولة وجذورها النظرية: إن المحتوى الداخلي هو المضمون الفكري والروحي للإنسان والذي يعتبر جوهر بناء الفرد ويحدد تبعاً لذلك الأنشطة والأدوار الممارسة في الحياة. أما كيف يتشكل هذا المحتوى؟ للإجابة عن السؤال يعود بنا التحليل الصدري إلى حركة التاريخ ومميزات حركة الإنسان، فلا جدال في المنظور الإسلامي أن الإنسان هو محور حركة التاريخ. ولما كانت حركة التاريخ غائية لا سببية فقط لأنها مشدودة إلى غاية ترنو إليها فإن المستقبل هو الغاية فهو حينئذ: المحرك لأي نشاط وقطعاً إن هذا المستقبل الذي يحفز الإنسان هو المستقبل بوجوده الذهني لأنه معدوم فعلاً وهذا الوجود الذهني للمستقبل يرجعه باقر الصدر إلى جانب فكري يضم التصورات: (الهدف) وجانب آخر (الإرادة) أي الطاقة التي تدفع الإنسان نحو الهدف (وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية وهذان الأمران الفكر والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان)[113]. هذا المحتوى هو الأساس للبنى الفوقية للمجتمع من أنظمة وعلاقات فـ (العلاقة علاقة تبعية علاقة سبب بمسبب هذه العلاقة تُمثل سنة تاريخية)[114]. لأجل ذلك بنى الإسلام نظريته في التغيير على التلازم بين تغيير البنى الفوقية وتغيير ما بالنفوس: المحتوى الداخلي وهذا ما تتضمنه الآية: <إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ>[115] وقوله تعالى: <ذٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ>[116]. هذا التلازم هو عين الارتباط بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر فعملية البناء الداخلي تسمى (الجهاد الأكبر) وعملية إرساء البنى الفوقية يطلق عليها باقر الصدر: (الجهاد الأصغر) إذ اتجهت كل من العمليتين اتجاهاً صالحاً (واعتبر – الإسلام – أن الجهاد الأصغر إذا فُصل عن الجهاد الأكبر فقد محتواه وفقد مضمونه وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية).[117]

ولكن ما نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي، ما هو المحور الذي يستقطب عملية البناء؟

إنه المثل الأعلى.. فالإنسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية، وهو كذلك لا بجسمه الفيزيائي بل بمحتواه الداخلي.. (والأساس في بناء المحتوى الداخلي هو المثل الأعلى، هو الذي ينبثق منه كل الغايات التفصيلية والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية)[118].

وهكذا يمكن أن نلخص نظرية الصدر في المقام بهذا التسلسل الآتي:

مثل أعلى

غايات وأهداف

رؤية فكرية وطاقة روحية (محتوى داخلي)

حركة تاريخية ومسيرة إنسانية

فالتوحيد كمنظومة فكرية قاعدة المحتوى الداخلي التوحيدي الذي يتخذ من الله(عز) مثلاً أعلى مطلقاً ويحرر الإنسان من الداخل ويكون أساس التحرير من الخارج. فالتوحيد أطروحة تحرير تنبع من الداخل لتشع على الخارج (فالتوحيد هو جوهر العقيدة الإسلامية وبالتوحيد يحرر الإسلام الإنسان من عبودية غير الله – لا إله إلا الله – ويرفض كل أشكال الألوهية المزيفة على مر التاريخ وهذا هو تحرير الإنسان من الداخل).[119] إن هذا التحرر الداخلي يعتق الإنسان خاصة من عبودية الشهوات والرغبات وليربط الذات البشرية بآفاق أرحب وأهداف أسمى.

وعلى ضوء التحرر الداخلي تنطلق عملية التحرير من الخارج:

وخاض القرآن بعد معركة التحرير الداخلي للإنسانية.. معركة التحرير في النطاق الاجتماعي. فكما حطم في المحتوى الداخلي للإنسان الأصنام التي تسلبه حريته الإنسانية كذلك حطم الأصنام الاجتماعية وقضى على عبادة الإنسان للإنسان.. ومرة أخرى نجد أن هذه المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت المعركة الأولى وتستعمل دائماً في كل ملاحم القرآن وهي التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان.[120]

وكمدلول اجتماعي لهذا التحرر الخارجي يكون تحرير الثروة والكون من أي مالك سوى الله.. وقد ربط الإمام أمير المؤمنين بين الحقيقتين حين قال: (العباد عباد الله والمال مال الله) وبذلك حطم الإسلام كل القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدم الإنسان وكدحه إلى ربه وسيره الحثيث نحوه سواء تمثلت هذه القيود والحواجز على مستوى آلهة ومخاوف وأساطير وتحجيم لإنسانيته بين يدي قوى أسطورية أو تمثلت على مستوى ملكيات تكرس السيادة على الأرض لطاغوت فرداً كان أو فئة أو طبقة على حساب الناس وتحول دون نموهم الطبيعي وتفرض عليهم بالتالي علاقات التبعية والاستعباد)[121]، فالمحتوى الداخلي التوحيدي هو محتوى داخلي تحرري يحرر الإنسان من الداخل ويحرر الكون من الخارج ولا يفصل بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر.. لأن الثاني لا يحقق غرضه وهدفه إلا في إطار الجهاد الأكبر (التحرر من الداخل)، وهذا سر امتياز ثورة الأنبياء عن أي ثورة اجتماعية أخرى.

رابعاً: التوحيد والرؤية الكونية

في كتابه (فلسفتنا) عرض باقر الصدر نظريته في المعرفة وفق متبنياته في تلك المرحلة الأولى من مسيرته الفكرية – منحى أرسطي – وانتصر للمذهب العقلي في المعرفة وذلك تمهيداً لخوض المبحث الثاني الأساسي للكتاب ألا وهو نظرية الوجود (المفهوم الفلسفي للعالم) حيث يؤكد في مقدمة الكتاب أن الهدف الأساسي لفلسفتنا كان صياغة المفهوم الفلسفي للعالم وما البحث في نظرية المعرفة سوى مقدمة لذلك يقول: (هدفنا الأساسي من هذا البحث – أي نظرية المعرفة – هو تحديد منهج الكتاب في المسألة الثانية لأن وضع مفهوم عام للعالم يتوقف قبل كل شيء على تحديد الطريقة الرئيسية في التفكير والمقياس العام للمعرفة الصحيحة ومدى قيمتها ولهذا كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثاً تمهيدياً للمسألة الثانية والمسألة الثانية هي المسألة الأساسية في الكتاب)[122] ولذلك ربط تعريفه لفلسفتنا بين الطريقة في التفكير وبين الرؤية الكونية للعالم (فلسفتنا هو مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم وطريقة التفكير فيه).[123]

إن أهمية الرؤية الكونية كأساس للمشروع الفكري العام لم يغب عن بال باقر الصدر من هنا خصص لها إنتاجه الأول في إطار بلورة ملامح المدرسة الإسلامية فكان (فلسفتنا). وهو يعتبر أن صياغة هذه النظرية الكونية وإعداد المسلم روحياً وفكرياً في ظلالها المهمة الأساسية لرسالة الإسلام. فبعد أن صنف الرؤى الكونية إلى قسمين كبيرين:

أولاً: نظرية تقوم على أن الإنسان أصيل في هذا الكون الذي هو بدوره مستقل وغير خاضع لمراقب ومالك وراء الستار باعتبار هذه الأصالة والاستقالة تنعدم المسؤولية أمام جهة عليا وبدلاً من ذلك يحدد هو مسؤوليته في ضوء أهدافه المحدودة.

وثانياً: نظرية تقوم على أساس وجود قوة تراقب الكون وأن وجود الإنسان هو وجود الأمين والخليفة لا وجود الأصيل المتحكم، وهذه الخلافة والأمانة تستبطن معنى المسؤولية أمام هذه الجهة العليا. والإسلام جاء ليربي الإنسان على هذه النظرية (بحيث تصبح جزء من وجوده وتجري مع دمه وعروقه مع فكره وعواطفه وتنعكس على كل مجالات تصرّفه وسلوكه مع الله(عز)، مع نفسه ومع الآخرين).[124]

لقد بنى المفهوم الفلسفي للعالم في فلسفتنا على أساس الانتصار للطريقة العقلية في التفكير وترجيح المذهب العقلي حيث أثبت في ضوء بديهيات هذا المذهب المعرفي علة أولى (واجب الوجود) هي مصدر الوجود. مفنداً كل الرؤى المادية والالحادية الأخرى. وصاغ على أساس ذلك جملة التصورات عن العالم والإنسان في ضوء القوانين الفلسفية المستنتجة من أصول المذهب المتبنى وفي ضوء نتائج مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية.

إن بلوغ جوهر (المفهوم الفلسفي للعالم) في المنظور الإسلامي (الإيمان بالله) في نطاق المذهب الذاتي للمعرفة (ونظرية السيد الصدر الأخيرة) أسهل وأقرب مما كان عليه البحث في كتاب (فلسفتنا) حيث – وكما رأينا سابقاً – أن (نظرية التوالد الذاتي للمعرفة) تثبت مسألة الصانع الحكيم بنفس الطريقة التي تثبت فيها كل القضايا الاستقرائية.. من هنا أصبحت القاعدة المعرفية للرؤية الكونية.. قاعدة مبتكرة وأكثر علمية وأكثر دقة.

فالبحث في نظرية المعرفة.. أساساً كان يستهدف الوصول إلى الرؤية الكونية التوحيدية.. لأنه المرتكز الأساسي لقيام أي حضارة وأي مجتمع حيث إنه (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم أي نظرة يفهم وفقاً لها كل شيء ويقيم والتطور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها ويملي منهجتها ويوجه تربيتها.. وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً إما بسفرنا إلى حضارة أخرى وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول).[125]

من دلائل عبقرية الشهيد وبعد نظره أن النتائج التي توصل إليها في إثبات قصور المادة والظواهر المادية عن تفسير الكون جاءت مطابقة للنظرية العلمية الحديثة التي أبطلت النظرية العلمية القديمة (المادية العلمية) وبات الاعتقاد بأن الأشياء جميعاً قابلة للتفسير بلغة المادة لاغِياً وباطلاً.. فهذا الرأي كان مقبولاً ولكن في ضوء البحوث الفيزيائية الجديدة ونتائج علم الفسلجة وعلم النفس.. إلخ.. بات العلم أقرب إلى المفهوم الفلسفي الإلهي للعالم. يقول مؤلفنا: (العلم في منظوره الجديد، وفي وسعنا أن نتوقع تحول الفلسفة المعاصرة تشجعها على ذلك النظرة الجديدة عن يأسها الفكري إلى بحث صحي ونشيط عن حكمة ترتكز على يقينيات الخبرة العامة. أما فيما يتعلق بالدين فالظاهر أن مستقبل النظرة الجديدة يوحي بالعودة بثقافتنا إلى الإيمان بوجود الله الواحد وبإعادة التأكيد على الجانب الروحي من طبيعة الإنسان وعلى صعيد الفنون تزيل النظرة الجديدة من علم النفس وعلم الكونيات أسباب النفور والعبثية مستعيضة عنها بالغائية والله والجمال والعناصر الروحية وكرامة الإنسان).[126]

هكذا يلتقي فلاسفة العلم أواخر القرن العشرين – أو على الأقل بعضهم – مع ما أسسه باقر الصدر منذ خمسين سنة تقريباً.. حول المفهوم الفلسفي للعالم.. هذا المفهوم الذي يخرق حجب المادة ويتجاوز حدودها الضيقة ليمنح الإنسان كوناً أعظم.. ورسالة أكبر.. وآفاقاً أرحب.. إنها رؤية كونية تجمَع بين الأرض والسماء.. بين المادة والروح، بين الغيب والشهادة.. إن الرؤية الكونية الإنسانية.. تتجاوز الأطر الضيقة للحضارة المادية.. وتبشر بحضارة خلاص.. تنعتق من لاهوت الأرض لتعانق عنان السماء.. (فالمنهاج العلمي لحياة البشر الذي كرسته الحضارة الأوروبية أدى وسيؤدي إلى انسحاق الإنسان في عالم الأشياء وارتباطه بالجبرية المادية وتحوّله إلى كائن بلا تاريخ وبلا حاضر وبلا مستقبل كائناً مستلباً ومنفعلاً ولا يبقى أمامه سوى الوعد بجنة الأرض يعبر إليها في أحسن الحالات عبر بوابات الجحيم، فلا يبقى منه ما يلج به الجنة يبقى الوعد المنشود كالجزرة أمام الحصان ويسقط الحصان دون أن يبلغ الجزرة.. فإن أي محاولة جذرية لإيجاد بديل حضاري فلسفي لمنهاج الحياة البشرية تتطلب خروجاً واضحاً على لاهوت الأرض..)،[127] وطبعاً لا يكون ذلك إلا بتجاوز الرؤى الكونية المادية للاتصال بالغيب.. ورسالاته.

خامساً: الله وفعاليته في التاريخ

كانت ولا تزال علاقة الغيب والشهادة مثار بحث وجدل.. ولا تزال العديد من قضايا هذه العلاقة تثير تساؤلات عديدة، منها هل يصادر الإيمان بالغيب الدور الإنساني؟ ما هي طبيعة العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة؟ كيف يؤثر الله في التاريخ؟ إلخ.

هذه الأسئلة وأصل الإشكالية حول جدلية الغيب والشهادة غائبة تقريباً عن البحث الكلامي القديم لكنها تبدو بارزة في بحوث باقر الصدر خاصة وأن الإيمان بالغيب صار لدى الكثيرين عنوان سلب الإنسان قدرته وإمكاناته وانسحاقه أمام الله (فقد سيطر على تاريخنا الفكري مفهوم تواكلي يشرح الإيمان بالغيب وقدرة الله المطلقة كأمور مقابلة بالضرورة لسطحية بشرية في مقابل علم الله ولعجز بشري في مقابل قدرة الله فهل الإيمان الحقيقي بالغيب يعطل قدرات الإنسان ووعيه عن التفاعل الواسع بالحركة الكونية؟ إن الذين فهموا الارتباط بالغيب باعتباره تعطيلاً لعالم الحس لا يدرون شيئاً لا عن الحس ولا عن عالم الغيب وبالتالي لا يفهمون العلاقة بينهما إلا كتناقض لا تناسبه فتصبح مهمة الإنسان أن تستقيل نفسه من عالم الحس بقتلها وقهرها)،[128] فالتحدي الكبير أمام الفكر التوحيدي هو إيجاد الإطار المناسب والفهم الصحيح للتفاعل بين الغيب والشهادة.. إن باقر الصدر يقر بانشداد الإنسان الشرقي للغيب وافتتانه به وأنه يختلف عن الإنسان الأوروبي الذي ينظر بطبيعته دائماً إلى الأرض لا إلى السماء حتى أن نظرتهم الدينية تأثرت بهذا الافتتان الأرضي فأنزلوا الإله من السماء إلى الأرض.. وكان المسيح عندهم ابن الله (نعم لقد استطاع الأوربي من خلال النظر إلى الأرض أن يفجر طاقات هائلة في الدنيا ولكن أدت به أيضاً إلى التنافس المحموم على الأرض وخيراتها ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان لأن تعلق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يضحي بأخيه ويحوله من شريك إلى أداة)[129]، ولكن لا يقر بأن هذا الانشداد إلى الغيب، يحتّم الجمود أو الانسحاق و(إنما يمكن أن تؤدي نظرة إنسان العالَم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض إلى موقف من هذه المواقف السلبية إذا فصلت الأرض عن السماء. وأما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة. وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية، فإنها لا تنزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء وإنما تعطي له المعنى الصحيح للسماء وتسبغ طابع الشرعية والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء وفي نفس الوقت تحتفظ بها كضمان لعدم تحول هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال)[130]. ولا يكتفي باقر الصدر بإبراز أهميته الإيمان بالغيب في التوحد مع الطبيعة والاندماج في العمل الحضاري من أجل مجتمع تقدمي كادح نحو السماء بل يحلل أكثر هذه العلاقة في إطار الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية – كما شرحناها سابقاً – وبيّن أن علاقة الله بالإنسان والتاريخ تتفاعل في الأبعاد الآتية:

أ) الله مؤثر بما هو خالق للإنسان والطبيعة فهو واهب كل ما يملكه الإنسان وكل ما توفره الطبيعة من فيوضات، والإنسان خليفة الله على الأرض ومستأمن على ما فيها ومن فيها وهذا يعني مسؤولية الإنسان في تمثل صفات الله في حركته ومسيرته (سنفصل هذا التمثل وأبعاده في الأصل الثاني من أصول الدين العدل).

ب) الله مؤثر في التاريخ بما هو العلة الغائية للمسيرة الإنسانية والمثل الأعلى لها، وبالتالي فهو يؤثر على طبيعة الأعمال والأنشطة والأدوار التي يقوم بها الإنسان فرداً ومجتمعاً، ويتحدث الصدر على مستوى الدولة فيقول: (وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله هدفاً للمسيرة الإنسانية وتطرح صفات الله وأخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة، وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق لأن الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى الله المطلق).[131]

ولقد شرحنا مفصلاً في عنصر سابق ما للمثل الأعلى المطلق من آثار كمية ونوعية على المسيرة الإنسانية فلا حاجة للإعادة.

ج) الله مؤثر بما هو المشرّع والمقنن؛ ليس المقصود هنا التشريع والتقنين بالمعنى الفقهي الضيق وإنما بالمعنى الأعم الذي يتسع لتحديد الغايات وتأطير المسار وتقنين المسيرة فالله هو الذي حدد الغاية من الخلق <وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ>[132]، وهو الذي قنن حركة الإنسان إلى الله، أي حركته التاريخية، وجعلها خاضعة لسنن تاريخية وقوانين ونواميس إلهية لا تتغير ولا تتبدل <وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً> وقد حلل هذه السنن التاريخية وأرجعها إلى ثلاثة أشكال من السنن صوناً للحرية الإنسانية وحفاظاً على إرادة الإنسان التي دونها لا يصبح للمسؤولية الاستخلافية الاستئمانية أي معنى:

الشكل الأول للسنن التاريخية هو شكل القضية الشرطية.

الشكل الثاني: القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة.

الشكل الثالث: السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي.

هذا التنوع في سنن التاريخ وعدم كونها جميعاً من الشكل الثاني من شأنه أن يحفظ هامشاً كبيراً للإرادة الإنسانية واختيارها.[133] إن الله(عز).. هو المهيمن والمدير والمسيّر للكون.. والتاريخ.. وما حركة الإنسان الإرادية إلا جزء من هذه الهيمنة الإلهية.. وجزء من إرادته.. فالغيب يحوط عالم الشهادة وليس للأخير أصالة أو استقلالية إلا بالمقدار الذي يمنحه الله.. لمفرداته.. بل حتى في عالم الإنسان حيث انفرد هذا الكائن بالاختيار وحرية الإرادة.. فإن هذه الحرية مهما سيء استخدامها ومهما وظفت في التمرد على الخالق وإرادته.. فإنه لن يخرج من هيمنة الغيب.. لأن الكافر لا يكفر إلا بتمكين من الله.. والظالم بظلمه لا يخرج عن سلطانه(عز).. وأن الله ليس نهاية جغرافية.. وإنما حقيقة موضوعية.. والكدح نحوه.. ليس طلباً تشريعياً وإنما هو حقيقة تكوينية مغروسة في كل مفردة من مفردات الكون.. فقط المطلوب من الإنسان الاندماج الإرادي التشريعي في الكدح نحو الله مع الكدح التكويني.. وهذا ما ذكرناه في تفسير الصدر لقوله تعالى <وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسٰابِ>.[134]

سادساً: الارتباط بالله

مسألة أخرى من مسائل التوحيد، الأصل الديني الأول، أهملت في البحوث الكلامية القديمة. ألا وهي (الارتباط بالله والشعور النفسي بهذه العلاقة) نعم التفت بعض الباحثين المعاصرين إلى هذه المسألة وأدرك أن مشكلة المسلمين اليوم لا تكمن في إقامة الأدلة على وجود الله تعالى بقدر ما تكمن في بعث الحيوية في هذه العلاقة وتعزيزها وتنميتها ويتفق باقر الصدر مع هؤلاء على ضرورة تعزيز هذه العلاقة وتقوية الارتباط بالله لتمنح الإنسان الطاقة الكفيلة بانبعاثه في الحياة فاعلاً مؤثراً بانياً معمّراً فهو يقول في تفسير قوله تعالى <كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ>[135] (قد جعل الإيمان بالله الخصيصة الثالثة للأمة الإسلامية بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأكيداً على أن المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المحنّطة في القلب بل الشعلة التي تتقد وتشعّ بضوئها على الآخرين)[136]، سعى باقر الصدر في دراسات عديدة أن يؤصل هذا الارتباط ويعمّق كقيمة حضارية وإيمانية أساسية ويمكن أن نتوقف عند محاولة الصدر للتأصيل النظري في عنصر الارتباط بالله في مستويين اثنين:

المستوى الأول: نظام العبادات وتغذية هذا الارتباط.

المستوى الثاني: الارتباط بالله في نفسية العاملين.

أما المستوى الأول فقد فصّل الكلام فيه في بحثه نظام العبادات – الجزء الأخير من الفتاوى الواضحة – يمثل الارتباط بالمطلق حاجة ثابتة في حياة الإنسان ولكن المشكلة الأساسية كيف يتم إشباع هذه الحاجة دون السقوط فيما سقطت الصيغ البشرية لهذا الارتباط حيث عانى الإنسان على مر تاريخه الحضاري في هذا المضمار من خطرين: خطر الضياع واللاانتماء – الإلحاد – من جهة وخطر الغلو في الانتماء – الشرك – من جهة أخرى و(تلتقي المشكلتان في نقطة واحدة أساسية وهي إعاقة حركة الإنسان في تطوره عن الاستمرار الخلاق المبدع الصالح).[137] إن الإيمان بالله يعالج الجانب السلبي من المشكلة لأنه يرفض الضياع واللاانتماء فهو يجعل الإنسان خليفة لله في الأرض ويتخطى الإيمان بالله الجانب الإيجابي من المشكلة مشكلة الغلو في الانتماء لأن هذه المشكلة ناشئة من تحويل النسبي إلى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني، وأما المطلق الذي يقدمه الإيمان بالله فهو ليس صنيعة مرحلة ذهنية محددة ليصبح عائقاً في مرحلة لاحقة.

ولكن إشباع هذه الحاجة كأي غريزة أخرى لابد أن يكون منسجماً مع المصلحة النهائية للإنسان، من هنا كان لابد للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق لابد لذلك من توجيه يحدد طريقة إشباع هذا الشعور ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصيلة في الإنسان وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمنى بألوان الانحراف كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ[138]، وهنا يأتي دور العبادات التي تلعب الدور الكبير في تعميق الشعور وتعزيز الارتباط بالله(عز).

وبطرح باقر الصدر الملامح العامة للعبادة:

أ) الغيبية

ب) الشمولية

ج) الجانب الحسي في العبادة

د) الجانب الاجتماعي للعبادة

يكون قد أعطى لهذا الدور امتداده في تفاصيل العبادة لأن من شأن هذه الملامح أن تعمّق مدلولات العبادة في نفس المسلم وتجذّر آثارها في حياة الفرد والمجتمع.

أما المستوى الثاني: الارتباط بالله في الأرضية النفسية للعاملين:

من تحاليله المتميزة حديثه عن المحنة وجذورها النفسية حيث لا يلقي باللائمة على (الغير) ولا يفسر المحنة تفسيراً غيبياً يقترب من الجبرية.. (إن المحنة هي في الواقع تجسيد بشكل مرير للأعمال المسبقة التي قامت بها الجماعة الممتحنة <وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ>[139] هي تجسيد للأعمال التي قدمها الناس أنفسهم هي في نفس الوقت موعظة ونذير من الله)[140]، وهو يرجع المحنة أساساً إلى الأرضية النفسية لأساليب العمل (فإن منطلق المصيبة المحنة هو تلك الأرضية النفسية لم تكن صالحة لكي تنشأ ضمنها أساليب العمل الصالحة ولكي تؤتي هذه الأساليب ثمارها).[141]

هذه الأرضية النفسية تعود إلى عاملين نفسيين أساسيين:

أحدهما: عدم الشعور التفصيلي بالله.

الثاني: أن الأخلاقية التي كان الناس يعيشونها لم تكن أخلاقية الإنسان العامل بل أخلاقية إنسان لا يصلح للعمل الحقيقي، وما يهمنا في المقام: هو (العامل الأول).

ورغم أن حديث باقر الصدر كان يحوم حول الطالب الحوزوي وينطلق من أجواء المحنة التي عاشتها حوزة النجف الأشرف لما قررت السلطات طرد الطلاب الأجانب إلا أن هذه الرؤية صالحة للتعميم لكل العاملين، إن أحد أسباب المحنة عدم الشعور التفصيلي بالله.. رغم أن الطالب عندما ينتمي للحوزة ويقرر ترك الأهل والوطن ويتحمل آلام الغربة وآلام الوحشة يعيش أحلى لحظات شعور يجذبه إلى الله…

لكن سرعان ما يخبو هذا الشعور عوضاً أن ينمو (وذلك لأنه حينما يأتي إلى الحوزة لا يعيش تطبيقياً حياً لهذا الاتصال بالله تعالى وإنما يعيش على أفضل تقدير دروساً معينة ومناهج معينة هي في حدود كونها مفاهيم وأفكار لا تغذي هذا الشعور فيبقى فراغ كبير في قلبه، في وجدانه)[142]، وهكذا يتميّع الشعور بالارتباط بالله.. (ويتحول هذا الشعور في بداية الأمر إلى شعور مبهم غامض ثم في مرحلة ثانية يختفي في الأعماق وتتراكم عليه مشاعر أخرى لا ترتبط بالله فتعود تلك التصورات الروحية الضخمة في البداية تعود خواء تعود كلها فراغاً لأنها بعد أن جمدت وأصبحت شعوراً إجمالياً بعد هذا فقدت أي غذاء وإمداد متصل حتى تمزقت وهذا هو معنى نسيان الله تعالى وأنتم كلكم تعرفون أن من ينسى الله ينساه الله ومن ينقطع عن الله ينقطع عنه الله(عز)).[143]

إن تنمية الشعور التفصيلي بالله وتجسيد حالة الاتصال الدائم بالله.. هي أحد العوامل الأساسية لنجاح العامل واستمرارية عمله وصحواه أيام المحن وتجاوزه الصعوبات التي تعترض طريقه مما يمنح لهذا المفهوم التوحيدي الارتباط بالله بعداً نفسياً حركياً.. يلتقي مع العبادة في تأصيلها لهذا الحس العميق والانفتاح الروحي على الله(عز) ويتكامل مع توفر الشرائط اللازمة الأخلاقية للإنسان العامل (في امتلاك وعي تغييري تجديدي والتخلص من النزعة الاستصحابية المحافظة وامتلاك عقلية اجتماعية مرنة).. لنجاح أي مشروع في الحياة.. وتخطي العقبات مهما عظمت.

الأصل الثاني: العدل

إن بحث الصفات لا ينفك في الحقيقة عن الذات إلا لضرورة منهجية حتى أن الدليل الاستقرائي في مقام إثبات الصانع بالنتيجة لا يسعه إلا أن يتجه للترجيح فاليقين بفرضية وجود ذات حكيمة[144] وهذا الاتحاد بين الذات والصفات ليس غريباً على العدلية عموماً والإمامية خاصة الذين آمنوا أن صفاته عين ذاته.

اتجه البحث الكلامي القديم إلى تقسيم الصفات (صفات ذات / صفات أفعال، صفات ثبوتية /صفات سلبية، صفات إضافية /صفات نفسية).. إلخ وإلى تعداد هذه الصفات وكيفية إجرائها على المولى بطريقة لا يلزم منها نسبة النقص إليه.. وفي ضوء هذه المطالب الأساسية للبحوث القديمة.. انقلب الأمر رأساً على عقب.. وصار التوحيد مثار جدل وفُرقة وتمذهب وصفات الله طريق للتكفير.. والتفريق.. عوضاً أن تكون قاعدة للتقريب والتوحيد النفسي والاجتماعي.. لقد غفل البحث القديم عن مسألة مركزية وهي قيمة البحث عن الصفات ولماذا نريد معرفتها؟ وهل علاقتنا بصفات الله كعلاقة اليونان بأسماء آلهتهم؟ يؤكد باقر الصدر: (إن عقيدة التوحيد.. تعلّمنا على أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق وإنما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله(عز)).[145] لقد حول الجدل الكلامي البحث في الصفات إلى تجريد ذهني صرف.. وتكريس لاهوتي للإله.. بعيداً عن الإنسان وهمومه ومشاكله.

إن باقر الصدر في مجال نظريته حول المثل الأعلى المطلق والارتباط بالله شرح العلاقة بالصفات بأنها تكريس وجهاد من أجل الإنسان لمّا كانت الصفات تمثل هدفاً للمسيرة وغاية يتحرك نحوها الإنسان لا على المستوى الفردي بل على مستوى الأمة أيضاً (وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله هدفاً للمسيرة الإنسانية وتطرح صفات الله وأخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق)[146]..

إن التخلق بأخلاق الله وتكريس صفاته في الحياة ومسيرة الفرد والمجتمع تعني إرساء نظم اجتماعية وعلاقات بعيدة عن الظلم والعجز والجهل (فالسير نحو مطلق كله علم، كله قدرة، كله عدل، وكله غنى يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلاً باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر)[147]، ولكن كيف يكون السير والكدح نحو الله لمصلحة الإنسان وفي خدمته؟ السر في ذلك أن الله – كما رأينا سابقاً – هو المطلق وهو المثل الأعلى للبشرية لذلك كان سبيله وطريقه هو الطريق لخدمة الإنسان (وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان لأن كل عمل من أجل الله فإنه من أجل عباد الله لأن الله هو الغني عن عباده ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك)[148]، بعد أن بينا طبيعة علاقة الإنسان بصفات الله في المنظور الصدري يطرح سؤال هام: لماذا خص (العدل) بالذات من بين الصفات الإلهية الأخرى ليكون أصلاً من أصول الدين؟ وما هي ميزته في ذلك؟

الجواب: (لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية، ميزة القدوة لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى.. إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز)[149].. فالكون قائم على أساس العدل والإسلام أراد للعلاقات الاجتماعية أن تؤسس على موازين العدل وحينما يحصل هذا التوافق والانسجام التكويني مع النظم التشريعية يسود الرفاه وتنزل البركات <وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقٰامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنٰاهُمْ مٰاءً غَدَقاً>[150]، عندما أحاط الصدر بالعمق الدلالي للعدل في بعده الاجتماعي والسياسي لم يصرف جهوداً كبيرة في بحوثه في إثبات أصل العدل بقدر ما تحدث عن أبعاده وآثاره، فهو اكتفى بالإشارة إلى دليلين عابرين على صفة العدل في بحثه (موجز أصول الدين):

الأول: أن حسن العدل وقبح الظلم من أحكام العقل النظري وهذا العقل النظري هو من الله وبالتالي فهو محيط بهذه الأحكام والقيم.

والثاني: أنه من يحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أي مساومة ولف ودوران ومن هنا نؤمن بأن الله عادل لا يظلم أحداً[151]، ولما كان الصدر يولي العدل أهمية بالغة على مستوى العلاقات الاجتماعية أرجع جملة من الظواهر إلى العدل وفسر عدة قضايا في منظور العدل وأسس جملة من الرؤى استناداً إلى هذا الأصل ونكتفي هنا بثلاث نماذج نقتبسها من فكر باقر الصدر:

* النموذج الأول: إيمانه بأن العدل الاجتماعي هو الركن الثالث للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، هذه العدالة التي جسدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق التوازن المنشود فهذا العدل الاجتماعي هو الوجه الآخر للعدل الإلهي. يقول باقر الصدر:

إن العدل الاجتماعي الذي تقوم على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الإلهي الذي نادى به الأنبياء وأكدت عليه السماء كأصل من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة.[152]

* النموذج الثاني: تصنيفه لطبقات المجتمع الفرعوني على أساس قيمة العدل حيث قسم هذا المجتمع إلى فئات مختلفة يحددها موقفها من الظلم. والفئات الستة هي:

أ) ظالمون مستضعِفون (أعوان الظلمة).

ب) الحاشية المتملقون.

ج) الهمج الرعاع.

د) المهادنون.

هـ ) الرهبانيون.

و) المستضعفون.[153]

* النموذج الثالث: اكتشافه لقانون وسنة تاريخية تقوم على التناسب بين العدل وبين ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة وبالمقابل يتناسب مدى الظلم في المجتمع تناسباً عكسياً مع علاقات الإنسان بالطبيعة فـ (مجتمع الفرعونية المجزّأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والإمكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها وأما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات. هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام تحدثنا عما تحتفل به الأرض والسماء في ظل الإمام المهدي(ع) من بركات وخيرات وليس ذلك إلا لأن العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة).[154]

العدل الإلهي والفعل الإنساني

من المطالب الأساسية التي طرقت في هذا الباب قضية الجبر والاختيار ولقد عكس لنا تاريخ الجدل الكلامي اتجاهين ضحى أحدهما بحرية الإنسان لمصلحة التوحيد الأفعالي (الأشاعرة) وضحى الآخر بالتوحيد الأفعالي لمصلحة إرادة الإنسان (المعتزلة) ووقفت مدرسة الإمامية موقفاً وسطاً (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين).

ومسألة الجبر والاختيار تنحل إلى مسألتين مسألة كلامية: كما بينا في أصل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة. ومسألة فلسفية وروح البحث فيها ترجع إلى أن فاعل هذه الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معاً هل تصدر منه اختياراً أو بلا اختيار ومن هنا يعرف أن المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار.[155] وفي بحث الطلب والإرادة في علم الأصول استعرض الشهيد الصدر في المستوى الكلامي من البحث خمسة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في الفاعلية وهذا مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة الذين اعتقدوا إمكانية استقلال المعلول بقاء عن علته وأنه بحاجة إلى هذه العلة أو إلى سببه حدوثاً لا بقاء.

الاحتمال الثاني: أن يكون الفاعل محضاً هو الله وأن الإنسان له القابلية فقط كقابلية الخشب أن يكون مقعداً وهذا الاحتمال قريب من نظرية الكسب الأشعري ولكنه باطل بالوجدان.

الاحتمال الثالث: أن يكون لكل من الله والإنسان نصيب في الفاعلية فالإنسان هو الفاعل المباشر بما أوتي من قدرة وسلطان وعضلات والله هو الفاعل غير المباشر من باب أن هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاء له ومفاضة آناً فآناً ومعطاة من قبل الله.

الاحتمال الرابع: أن يكون الله هو الفاعل المباشر لكن الإرادة ومبادئها مقدمات إعدادية.

الاحتمال الخامس: فاعلية واحدة تنسب إلى الله بنظر وإلى العبد بنظر آخر بناء على قوله إن نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء ونسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي. ويرى باقر الصدر أن هذا الاحتمال الأخير مبني على تصور صوفي لا يفهمه وبالتالي لا يبقى سوى احتمالين الثالث والرابع ويكون كلاهما صورة معقولة لمبدأ (الأمر بين الأمرين)، ولكنه في الأخير يبطل الرابع (لكن مجرد اختيار المذهب الشيعي – في المسألة الأولى – المستوى الكلامي من البحث القائل بأن للإنسان دخلاً في الفاعلية كما أن لله دخلاً فيها أو اختيار المذهب المعتزلي القائل بأن الإنسان هو الفاعل محضاً لا يحتمّ كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعله فلعل صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للإحراق).[156]

ولذلك فالمشكلة لا تنحل إلا ببحث (المسألة الثانية الفلسفية) وهي ناشئة من (شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بأن الفعل فعل الإنسان وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الاختيار ينافي الضرورة فإن الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضرورية.

المقدمة الثانية: أن صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل صادر من ممكن من الممكنات فتحكمه القوانين السائدة في كل عالم الإمكان القائلة بأن الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فالجمع بين هاتين المقدمتين تثبت أن الإنسان غير مختار في أفعاله إذ لا يصدر منه فعل إلا بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار).[157]

بلغة أخرى أن الشبهة ناشئة من التلازم بين الضرورة التي تفرضها عموم قانون العلية لعالم الممكنات وبين الحرية التي تتنافى مع الضرورة.. فكيف نوفق بين العلية والحرية؟ هذه هي المعضلة التي أرهقت عقول الفلاسفة والأصوليين!.. لقد طرحت عدة مسالك لحل المعضلة استعرضها الشهيد الصدر في بحثه الأصولي[158] وناقشها.. هذه المسالك تتراوح بين إنكار المقدمة الأولى.. (الضرورة تنافي الاختيار) وبين إنكار المقدمة الثانية: (قوانين العلية)، أو إنكار عموم قوانين العلية وأنها لا تشمل الأفعال الإنسانية الاختيارية (محاولة المحقق النائيني) وبين مسلك آخر يرى أن الطبيعة جهزت الإنسان بقابليات يصعب معها التنبؤ بتصرفه والاختيار ينتزع من هذه الفرصة.. إن كل هذه المحاولات قاصرة عن إثبات الاختيار.. وإنما حلت المشكلة صورياً.. وهنا يظهر إبداع الصدر لنظريته المشهورة التي تعتبر الحل الجذري الوحيد لهذه المعضلة، ألا وهي (نظرية السلطنة): فالسلطنة مفهوم قبالة مفهومي الوجوب والإمكان، وخروج الممكن من حد الاستواء يتحقق بأحد أمرين: إما الوجوب بالغير وإما السلطنة. يقول باقر الصدر: (فلو وجدت ذات في العالم تمتلك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة أن هذه السلطنة تكفي للوجود).[159] والسلطنة تشترك مع الإمكان من حيث تساوي نسبتها إلى الوجود والعدم ولكنها تختلف عنه في كون الإمكان لا يكفي لتحقيق أحد الطرفين بل يحتاج تحقيقه إلى مؤونة زائدة وأما السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضم شيء آخر إليها لتحقيق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج عن كونها سلطنة وهي كالوجوب؛ لأنها كافية لتحقيق الشيء وتمتاز عنه أن صدور الفعل من الوجوب ضروري ومن السلطنة ليس ضرورياً فالبون شاسع بين (له أن يفعل) و(عليه أن يفعل).

ويرى باقر الصدر أن السلطنة موجودة في الإنسان والدليل على ذلك منحصر في الشرع والوجدان.

الأصل الثالث: النبوة

ترتبط ظاهرة النبوة بقانون الهداية العامة الذي ينص أن (كل شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الرباني الصارم الذي يوجهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطور فالبذرة يتحكم فيها قانونها الذي يحولها ضمن شروط معينة إلى شجرة والنطفة يتحكم فيها قانونها الذي يطورها إلى إنسان وكل شيء من الشمس إلى البروتون ومن الكواكب السيارة في مدار الشمس إلى الإلكترونات السيارة في مدار البروتون يسير وفق خطة ويتطور وفق إمكاناته الخاصة)[160]، والإنسان ليس استثناء من هذا القانون فهو كغيره من مفردات الكون خاضع لقانون الهداية العامة: <الَّذي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ الَّذي قَدَّرَ فَهَدىٰ>.[161] ولكن خصوصية الاختيار وحرية الإرادة الذي يتمتع بها تجعل لتطبيق هذا القانون ظروفه الخاصة فبينما تعمل الكائنات الطبيعية البحتة من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطة لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخى تحقيقها فإن الإنسان كائن هادف يعمل من أجل هدف يريد هو تحقيقه.

من الطبيعي أن تكون هذه الأهداف التي يحددها الإنسان وفقاً لمصلحته وحاجاته، ولكن من جهة أخرى إن خلق الإطار الموضوعي لضمان عمل الإنسان وسعيه لمصالح الجماعة شرط لابد منه لاستقرار الحياة الاجتماعية وديمومتها فينشأ التعارض بين ما تفرضه طبيعة الحياة المدنية من مصالح جماعية وما تدعو إليه نوازع الفرد إلى مصالح شخصية وكان لابد من صيغة تحل هذا التناقض: (والنبوة بوصفها ظاهرة ربانية في حياة الإنسان هي القانون الذي وضع صيغة الحل هذه بتحويل مصالح الجماعة وكل المصالح الكبرى التي تتجاوز الخط القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطه الطويل وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها ليروا أعمالهم <فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ>[162] وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالح للفرد نفسه على هذا الخط الطويل)[163]، وتتألف هذه الصيغة من جانب نظري وجانب تطبيقي: الأول يتمثل في النظرية التي تستند إليها الصيغة وهي عقيدة المعاد، أما الجنبة التطبيقية فهي الممارسة التربوية للإنسان على هذه النظرية وهي عملية قيادية ربانية تعتمد على الغيب ولذلك لا توجد إلا بوحي من السماء (النبوة).

النبوة الخاصة والدليل الاستقرائي

كما طبق باقر الصدر الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع يجريه هنا لإثبات نبوة النبي محمد(ص) وأهمية هذا الاستدلال أنه يتجاوز الطريقة القديمة والمتعارفة لإثبات النبوة والتي تعتمد أساساً المعجزة كمظهر خارق للعادة يكشف كشفاً إنّياً عن اتصال صاحب المعجزة بالغيب ويقوم هذا الدليل على أربع خطوات:

الخطوة الأولى: إن هذا الشخص الذي أعلن رسالته إلى العالم ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية وهي بيئة متخلفة فكرياً وحضارياً وينتمي إلى مجتمع الحجاز بالذات الذي يعيش تخلفاً اجتماعياً تطغى عليه العقلية القبلية ولم ينل حظاً من ثقافة عصره رغم انخفاضها وكان رسول الله(ص) يمثل شخصية اعتيادية فهو لم يكن يقرأ ولا يكتب ولم يتلقَّ أي تعليم منظم أو غير منظم ولم يساهم النبي قبل البعثة في النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه ولم يؤثر عنه أي تميز عن أبناء قومه إلا في التزاماته الخلقية وأمانته ونزاهته وصدقه وعفته.

الخطوة الثانية: يستقرئ في هذه الخطوة خصائص الرسالة التي جاء بها النبي، وهي رسالة القرآن الكريم والشريعة الإسلامية التي تميزت بخصائص عديدة منها:

أ) تتضمن ثقافة دينية واسعة وفريدة وهي أكبر من كل الثقافات الدينية التي عرفها العالم.

ب) جاءت بقيم ومفاهيم عن الكون والإنسان والحياة من أروع ما عرفه الإنسان من قيم وتشريعات.

ج) تحدثت الرسالة عن تاريخ الإنسان والأمم السابقة بما لم يكن معروفاً بين العرب.

د) بلغ القرآن قمة الروعة والجمالية في أساليب البيان.

الخطوة الثالثة: يؤكد في هذه الخطوة وفي ضوء الاستقراء العلمي أن هذه الرسالة بتلك الخصائص السابقة وغيرها مما لم نذكر – اختصاراً – هي أكبر بدرجة عظيمة من الظروف والعوامل التي حددناها في الخطوة الأولى.

الخطوة الرابعة: يطرح التفسير الوحيد المعقول للموقف: كيف نشأت هذه الرسالة بتلك الخصائص الرفيعة في تلك الظروف الموضوعية المتخلفة؟ إن الجواب الوحيد: هو (افتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة وهو عامل الوحي عامل النبوة الذي يمثل تدخل السماء في توجيه الأرض).[164]

ضرورة النبوة

لقد غاب عن البحث الكلامي القديم الحاجة الاجتماعية للنبوة لأنها استغرقت في قضايا العصمة وعلاقة النبوة باللطف والمعجزة.. إلخ. لكن التحديات الفكرية المعاصرة جعلت باقر الصدر ينظر إلى النبوة كما نظر إلى بقية أصول الدين نظرة مغايرة تبرز الأبعاد الاجتماعية لهذه الأصول الاعتقادية ودورها في البناء الحضاري ولذلك كشف في بحوثه المتفرقة عن الحاجة الماسة إلى النبوة.. والرابط بين كل ما كتب في هذا الموضوع هو تأكيد الحاجة الملحة والضرورة الحضارية للنبوة:

أ) النبوة حاجة معرفية: إن الإنسان بحكم جهازه الإدراكي حسي أكثر منه عقلي فهو ينفعل بالمحسوس أكثر من أي شيء آخر. ولذلك كانت الحضارات في التاريخ متأثرة بهذا الميل نحو الحس. والحضارة الغربية اليوم في ثقافتها وإنتاجها العلمي والتقني تكشف عن نزوع للحس والتجربة أكثر من أي شيء آخر، ولكن هناك معارف أخرى: المعقولات والقيم الأخلاقية التي لا يمكن أن يدركها الإنسان بالحس والتجربة بل يتفاعل معها عادة بالعقل والوجدان. ولكن إدراك هذه القيم الروحية والمعنوية لا يرقى إلى الحس ولذلك نرى عبر التاريخ أن التفاعل معها يبقى باهتاً فاتراً.. لا يبلغ حرارة الإدراك الحسي وقوته.. من هنا نشأت الحاجة إلى الأنبياء في تعميق الإدراك لهذه القيم ولقد تمكن الإنسان عبر هؤلاء الأنبياء من الانفتاح الحسي على القيم العقلية والروحية. ولولا الوحي لما كان للبشرية من إدراك حسي للمعنويات فالأنبياء هم الطليعة البشرية التي عايشت حسياً هذه الأحكام العقلية والمفاهيم الروحية والعنوية وهم بدورهم يعكسون هذه التربية الحسية على الناس ولولا الوحي لانحصر الحس بالمادة ولتضخم الوعي بها على حساب المعنويات (فالوحي حسب الحقيقة إذن هو المربي الأول للبشرية الذي لم يكن بالإمكان للبشرية أن تربى بدونه لأن البشرية بدون الوحي ليس لديها إلا حس بالمادة وما على المادة من ماديات إلا إدراك عقلي غائم قد يصل إلى مستوى الإيمان بالقيم والمثل وبالله إلا أنه إيمان عقلي على أي حال لا يهز قلب هذا الإنسان ولا يدخل إلى ضميره ولا يصنع كل وجوده ولا يتفاعل مع كل مشاعره وعواطفه).[165]

ب _ النبوة وتحرير الإنسان: إن النبوة في المنظور الصدري تحرر الإنسان على المستوى الذاتي وعلى المستوى الموضوعي. أما على (المستوى الذاتي) فهو ما بيناه في هذا الأصل ومعرض الاستدلال على النبوة العامة وارتباطها بقانون الهداية العامة من حل الجدل الداخلي والتمزق الداخلي بين مصالح الذات والنظام المدني ومقتضياته.

أما (المستوى الموضوعي) فهي ما تتحرك فيه النبوة على قاعدة (لا إله إلا الله) لتحطيم كل القيود الاجتماعية والسياسية المتمثلة في جميع أنواع الظلم والاستغلال فدور الأنبياء في مكافحة الاستبداد ومقاومة الطغيان من أكثر الأدوار أهمية.

ج _ النبوة والثورة: يرى باقر الصدر أن النبوة ثورة تحررية (وأن الإسلام الذي كان من أجله الأنبياء ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وعلى ألوان الاستغلال والاستعباد).[166]

هذه الثورة فريدة في نسيجها لأنها حررت الإنسان من الداخل وحررت الكون من الخارج في وقت واحد ويفسر باقر الصدر في أطروحته خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء كيف أن هذه الثورة تعد ضرورة لمقاومة الانحراف الطارئ على خط خلافة الإنسان لله في الكون وحتمية تدخل الأنبياء ليعيدوا المسيرة إلى مسارها الصحيح.

وهذه الثورة تمتاز عن غيرها لأنها لا تحاول كما هو الحال في كل الثورات استبدال مواقع الاستغلال وإنما تسعى جاهدة لاستئصال الاستغلال كقيمة سلبية ومدمرة للمجتمع واقتلاع جذورها من نفوس الظالمين أنفسهم.

فالثائر الذي يتحرك في إطار النبوة ورسالتها لا ينطلق في حركته وحربه على الاستغلال من أجل استرداد حق شخصي ضائع ولا بدافع ذاتي كالانتقام بل يندفع الثائر النبوي في ثورته للقضاء على العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس الجور والاستغلال وليقتلع الظلم بوصفه قيمة سلبية يعطل حركة المجتمع ويصادر مصالح المستضعفين بل مصالح المستغلين أنفسهم على المدى البعيد (وعلى هذا الأساس نؤمن بأن الثورة الحقيقة لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي والنبوة وما لها من امتدادات في حياة الناس كما أن النبوة والرسالة الربانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان).[167]

د) النبوة وقيادة المجتمعات: إن النبوة – بما هي الصلة الموضوعية بين الناس والمثل الأعلى المطلق للمسيرة الإنسانية – هي الأقدر على قيادة الجماهير وتنظيم قواها ودفعها إلى الأمام نحو الغايات السامية الواقعية والسعادة الحقة لذلك فإن القيادة من لوازم النبوة التي لا تنفك عنها والتي تفرضها المهمة الأساسية لها المتمثلة في (الشهادة) على خط خلافة الإنسان ويتمثل هذا الدور في الأبعاد التالية:[168]

أولاً: استيعاب الرسالة السماوية.

ثانياً: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة.

ثالثاً: التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.

وكمدلول واقعي لهذه القيادة وانسجاماً مع هذه الأدوار للنبوة يعتقد الصدر أن الدولة ظاهرة نبوية يقول:

فمن ناحية تكون الدولة ونشوئها تاريخياً نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب ونظرية التفويض الإلهي الإجباري ونظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الدولة عن العائلة ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية وهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية.[169]

هـ ) النبوة والعدالة الاجتماعية: لم يستطع القانون الوضعي.. على طول التاريخ أن يحقق العدالة الحقة.. فالعقل البشري رغم عظمته يبقى قاصراً عن إرساء المعالم التفصيلية للتشريع الذي يستجيب لحاجات الفرد والجماعة الواقعية والذي يحقق التوازن بين الفرد والمجموعة ولا يخضع للهوى وإيحاءات المصلحة الضيقة ولا يسقط في حبائل الميولات الفئوية والعرقية والعشائرية. إن النبوة برفضها أي سيادة وأي سلطة إلا لله وأنه وحده مصدر السلطات تكون أنجزت ما يعتبرها باقر الصدر (أعظم ثورة شنها الأنبياء مارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان وتعني هذه الحقيقة أن الإنسان حر ولا سيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه وإنما السيادة لله وحده وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان).[170]

لقد أعطى الأنبياء لهذه الحقيقة – تحرير الإنسان من أي سيادة أخرى وسلطة أخرى – مدلولها الموضوعي المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء فلم يعد بالإمكان أن تستغل لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة إلهية.[171]

الأصل الرابع: الإمامة

تعد الإمامة السبب الرئيسي في النزاعات والخلافات والحروب التي مزقت المسلمين حتى قال الشهرستاني: (وأعظم خلاف في الأمة خلاف الإمامة وما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان)[172]، من هنا نفهم الشروح العميقة التي تفصل بين الذهنيات المذهبية المختلفة حول حقيقة الإمامة هل هي أصل أم فرع؟ ما هي صفات الإمام؟ ما الطرق لنصبه ومعرفته؟.. إلخ.

ولكن ما يهمنا في المقام كيفية دراسة باقر الصدر للمسألة انطلاقاً من منهجيته المتميزة ففي منظوره أن الإمامة كالنبوة حاجة حضارية متأصلة في حركة المجتمع والتاريخ. لقد شرح باقر الصدر هذا التوافق والانسجام بين النبوة والإمامة وأنهما يعبران عن حقيقة واحدة في أطروحته (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) حيث أبرز كيف أن البشرية في مسيرتها تمثل خط الخلافة لله(عز).

وهذه المسيرة تحتاج إلى إشراف وتوجيه وتسديد، وهو الخط الثاني الذي تولى هذه المهمة (خط الشهادة) (وضع الله(عز) إلى جانب خط الخلافة – خلافة الإنسان على الأرض- خط الشهادة الذي يمثل التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة)[173]. لقد حدد الصدر أهداف هذا الخط – خط الشهادة – (ذكرناها في أصل النبوة)، ولقد اعتمد في تحديد هذا المهام على الآية 44 من سورة المائدة <إِنّٰا أَنْزَلْنَا التَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا وَ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اللهِ وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ> كما استخلص من هذه الآية في تفسير فريد مبتكر حلقات هذا الخط ۔ خط الشهادة ۔ وهم الأنبياء، الأئمة، فالفقهاء العدول، ويقدم بذلك استدلالاً متميزاً غير مسبوق ولقد التفت (شبلي ملاط) في دراسته (تجديد الفقه الإسلامي محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم) لهذا الابتكار فقارن بين تفسير باقر الصدر للآية وبين غيره من المفسرين من علماء الشيعة والسنة ليستنتج: (أن قراءة الصدر لهذه الآية قراءة دستورية تختلف مع القراءة القديمة التي تحصر الآية في أسباب النزول).[174] إن هذه الأهداف أضحت في فترة تاريخية معنية من مسار خلافة الإنسان تمثل حاجة ماسة فالمجتمع البشري مر بمرحلة الفطرة – التوحيد – ولم تكن هناك انقسامات أو خلافات تمزق وحدة المجتمع ولكن في مسار تطور المجتمع.. بدأ الانشقاق يدبّ وبدأت الخلافات تظهر بحكم تفاوت القابليات والإمكانات <وَ مٰا كٰانَ النّٰاسُ إِلاّٰ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا>[175]، وأتاح ذلك ظهور طبقات وفئات مستغلة وأخرى مستضعفة محرومة.. وكان لابد من (ثورة) على هذه الأوضاع تعيد الأمور إلى نصابها وترجع للمجتمع وحدته وانسجامه هذه الثورة قادها الأنبياء: <كٰانَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ>[176]، (ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين أحدهما الجهاد الأكبر من أجل أن يكون المستضعفون أئمة وينتصروا على شهواتهم وبينوا أنفسهم بناء ثورياً صالحاً والآخر الجهاد الأصغر من أجل إزالة المستغلين والظالمين عن مواقعهم).[177]

ولكن لما كانت هذه الثورة الإلهية على يد الأنبياء ثورة شاملة على الجاهلية والانحراف بكل محتواه الفكري والنفسي وبكل جذوره العفنة ومظاهره المتخلفة من استبداد واستغلال (كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد وكان لابد للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق ليلتحق بالرفيق الأعلى وهي في خضم أمواج المعركة بين الحق والباطل).[178] فالإمام كالنبي شهيد وخليفة لله في الأرض من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة وتحقيق أهدافها غير أن جزء من دور الرسول يكون قد اكتمل وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها فالوصي ليس صاحب رسالة ولا يأتي بدين جديد بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التي جاء بها الرسول.[179] هكذا وفي ضوء هذه النظرية للنبوة كثورة إلهية والإمامة كامتداد لها في الزمن تصبح الأصول العقائدية الخمسة البرنامج الثوري لهذه القيادة الإلهية (وإذا عرفنا أن النبي هو حامل الثورة ورسولها من السماء وأن الإمامة بمعنى الوصاية هي مرحلة الانتقال التي تواصل السماء من خلال قيمومتها على الثورة إلى أن ترتفع الأمة إلى مستوى النضج الثوري المطلوب إذا عرفنا ذلك يتبين بكل وضوح أن أصول الدين الخمسة التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الإسلام والمحتوى الأساسي لرسالة السماء هي في نفس الوقت تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد الثورة الاجتماعية التي قادها الأنبياء الصورة المتكاملة لأسس هذه الثورة وترسم للمسيرة البشرية معالم خلافتها العامة على الأرض).[180]

الدليل الاستقرائي في بحوث الإمامة

إلى حد الآن كنا نتحدث عن الإمامة العامة في فكر الصدر أما الإمامة الخاصة فنحن نلتقي معه على منهج جديد لإثبات ولاية علي(ع) حيث يستند إلى دليل يقترب في جوهره من نظرية الاحتمالات كما بلورها في المذهب الذاتي للمعرفة.[181] حيث يحصر الطرق التي كان بإمكان رسول الله اتخذاها لتدبير مستقبل الدعوة في ثلاثة احتمالات ثم يبطل كلاً من الاحتمال الأول والثاني ليثبت الاحتمال الأخير بعد أن يعززه بشواهد يستقرئها من تاريخ الدعوة الإسلامية ومن أحاديث رسول الله(ص) أما الاحتمالات الثلاثة فهي:

الاحتمال الأول: الطريق السلبي وإهمال أمر الخلافة وهذا لا يمكن قبوله في حق رسول الله(ص) لأنه ناشئ من أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يعتقد الرسول أن ذلك غير مؤثر في مستقبل الرسالة.

الأمر الثاني: نظرته للدعوة نظرة مصلحية ولا يهمه إلا أن يحافظ على الرسالة ما دام حياً ولا يعنيه مستقبلها وحمايتها من بعده.

الاحتمال الثاني: الموقف الإيجابي المتمثل في نظام الشورى ولكن الصدر بحكم طبيعة الأشياء واستقراء جملة من الشواهد من تاريخ الرعيل الأول ومواقفه يبطل هذه الفرضية.

الاحتمال الثالث: الإيجابية متمثلة في إعداد من يقود الأمة (وهذا هو الطريق الوحيد الذي بقي منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولاً في ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبي(ص) وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً إيجابياً فيختار بأمر الله(عز) شخصاً يرشحه عمق وجوده في كيان الدعوة فيعده إعداداً رسالياً وقيادياً خاصاً لتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة)[182]، ويستدل على هذا الإعداد الخاص بشواهد من التاريخ ونصوص من أحاديث رسول الله(ص) كحديث (الدار) وحديث (الثقلين) و(المنزلة) وحديث (الغدير) وغيرها.

أما التطبيق الثاني للدليل الاستقرائي في بحوث الإمامة: فيتمثل في الاستدلال على إمامة المهدي(عج) رغم صغر سنه ودفع الشبهة الواردة في المقام. لقد مثلت الإمامة المبكرة ظاهرة في الفترة الأخيرة من تاريخ الأئمة الأطهار فالإمام الجواد تولى الإمامة وهو في الثامنة والإمام الهادي تولاها وعمره تسع سنين والإمام العسكري والد المهدي تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره.. إن هذه ظاهرة حسية عاينها الناس ولمسوها عن قرب (ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة).[183]

ولكن يمكن أن نستلّ من كلمات السيد استدلالاً استقرائياً قائماً على رصد جملة من الظواهر ينحصر تفسيرها في واقعية هذه (القضية) وهي الإمامة المبكرة.

فلابد أن نسجل هذه الحقائق أولاً وهي:

أ) إن الإمامة لم تكن مركزاً من مراكز السلطان وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية من الاقتناع الفكري والروحي للجماهير بهذه الزعامة.

ب) إن القاعدة الشعبية الشيعية تشكلت في عصر الباقر والصادق(عليهما السلام) وأصبحت مدرسة تتسع للعديد من الفقهاء والمتكلمين والعلماء وتياراً فكرياً واسعاً.

ج) إن الشروط التي تؤمن بها هذه المدرسة في الإمام شروط شديدة.

د) إن المدرسة وقواعدها كانت دوماً تقدم تضحيات جسام في سبيل الصمود على عقيدة الإمامية.

هـ) إن الأئمة(ع) لم يكونوا معزولين عن قواعدهم ولم يكونوا يحتجبون عن الناس إلا أن تفعل ذلك السلطات القائمة. فالأئمة لهم أصحاب ينشرون علومهم في الآفاق ولهم وكلاؤهم في البلدان حتى في الظروف المستعصية لهم قنوات خاصة للاتصال بشيعتهم.

و) إن الخلافة المعاصرة للأئمة(ع) كانت تنظر إليهم على أنهم مصدر خطير على كيانها ووجودها. لذلك تبعث للتنكيل بالأئمة وبشيعتهم.

وبلحاظ هذه النقاط السابقة لا يمكن أن نفسر انقياد الشيعة بكل رموزها وعلمائها، وصمود الشيعة وتضحياتهم الجسام في سبيل اعتقادهم بإمامة الحجة وعدم لعب السلطات بهذه الورقات لتشويه الشيعة والطعن في الإمامة لا يمكن أن نفسر كل هذه الظواهر إلا بالإقرار أن ظاهر الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية وأن إمامة المهدي(عج) مثلها كمثل نبوة يحيى(ع) في تاريخ الرسالات <يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً>.[184]

العصمة ومدلولها الاجتماعي

من النكات الدقيقة التي أشار إليها الصدر في بحوثه حول الإمامة رؤيته المتميزة للعصمة وإلحاحه على القراءة الاجتماعية لهذه المفردة العقائدية التي تبدو لأول وهلة موغلة في الغيبية بعيدة كل البعد عن الجانب الرسالي والحركي للمعصوم.

لكن الصدر له تقريبان أساسيان لمسألة العصمة يدفع من خلالهما هذا الوهم المسيطر:

التقريب الأول: نقرأه في محاضراته (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف)[185] فإنه يؤكد أن العصمة ليست بدعة شيعية وإنما هو شرط يشترطه أي اتجاه عقائدي فإن (أي اتجاه عقائدي في العالم يريد أن يبني الإنسان من جديد في إطار عقيدته ويريد أن ينشئ للإنسانية معالم جديدة فكرية وروحية واجتماعية. هذا الاتجاه العقائدي يشترط – لأن ينجح وأن يتنجز وأن يأخذ مجراه في خط التاريخ – أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً)[186]، ولكن كل ما في الأمر أن العصمة في الإسلام ذات صيغة أوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الأخرى لأن رسالة الإسلام رسالة شمولية تمس كل جوانب الحياة وتدخل في كل أبعاد الإنسان. ولما كان الإسلام يؤسس لعاطفة وفكر وسلوك معين اقتضت العصمة الاندماج الكامل في هذه الأبعاد الثلاثة وتكون (عصمة الإمام عبارة عن نزاهة في كل فكرة وفي كل عاطفة وكل شأن والنزاهة في كل هذا عبارة عن انصهار كامل مع مفاهيم وأحكام الرسالة الإسلامية في كل مجالات هذه الأفكار والعواطف والشؤون).[187]

التقريب الثاني: نعثر على هذا التقريب في أطروحته (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) فهو يرى أن العصمة لابد أن تتوفر في الشاهد الرباني لأنه يكون في نفس الوقت خليفة بما هو إنسان وممثل لخط الخلافة وهو أيضاً شهيد وممثل لخط الشهادة وهذا الاندماج بين الخطين في ذات النبي(ص) أو الإمام(ع) يوجب كونهما معصومين لأن هذا الاندماج يوجب درجة عالية من النزاهة والموضوعية وإلا بدونها كيف يكون رقيباً ومراقباً في نفس الوقت؟ يقول باقر الصدر:

في كل حالة يقدر للخطين أن يجتمعا في شخص واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد نجد أن العصمة شرط أساسي في المحور الذي يقدر له أن يمارس الخطين معاً لأنه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه في وقت واحد.[188]

ويتحدث عن عصمة الإمام خاصة فيقول:

وهذا القائد الرباني هو الإمام ويجب أن يكون معصوماً لأنه يستقطب الخطين معاً ويمارس وفقاً لظروف الثورة خط الخلافة إلى جانب خط الشهادة معاً وعمصة الإمام تعني أن يكون قد استوعب الرسالة التي جاء بها الرسول القائد استيعاباً كاملاً بكل وجوده وفكره ومشاعره وسلوكه ولم يعش لحظة شيئاً من رواسب الجاهلية وقيمها لم تدنسه الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها لكي يكون قادراً على الجمع بين الخطين في دور واحد.[189]

وفي محاضراته القرآنية (المدرسة القرآنية) يعطي سراً آخر من أسرار العصمة والاستقامة على خط الجهاد والتغيير[190]، قد يسأل لماذا كان الأنبياء على مر التاريخ أصلب الثوار على الساحة التاريخية؟ لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة وفوق كل مهادنة وفوق كل تملل يمنة أو يسرة؟ لماذا كانوا هكذا؟ لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبياً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟ ثم يجيب (لأن المثل الأعلى المنفصل عنه الذي هو فوقه الذي أعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه في كل مشاعره وأفكاره وعواطفه. ومن هنا كان النبي معصوماً على مر التاريخ).

إن هذا التحليل وإن كان يهم مباشرة النبي لكن بنفس الملاك يجري على الإمام وهو يعتبر أن الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي يمثل حاجة ماسة للإنسان تساهم العبادات في إشباعها كما بين الصدر في نظرة عامة في العبادات – خاتمة الفتاوى الواضحة -. ولكن هذه الحاجة تشهد لدى المعصوم أقوى استجابة وأعمقها فهو يعيش أرقى الاتصال بالله والانشداد له ومن هنا يستشعر أعلى درجة ممكنة من المسؤولية تجاه الله(عز). والعصمة في المنظور الصدري لا تلغي الجانب الموضوعي من تكامل المعصوم وخضوع دوره التاريخي وتفاعله الاجتماعي للقوانين العامة والنواميس الكونية لأن العصمة لا تخرج المعصوم عن الإطار التاريخي لحركة الإنسان لأنها لا تخرجه عن كونه إنساناً متعالياً ولا تجعل منه (ما فوق الإنسان)، إن حال المعصوم في هذه الجهة حال الرسالة نفسها التي رغم كونها في مضمونها الرسالي ربانية ولا ترتبط بالظروف الموضوعية و(لكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف).[191]

كنموذج لخضوع (العصمة) للقوانين الموضوعية وسنن التغيير نذكر مثالين أشار إليها في موضعين مختلفين:

المثال الأول: تفسيره لظاهرة أن الأوصياء يكونون دائماً من سلالة النبي. حيث يؤكد (أن هذا ليس من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساساً للتوارث بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الإطار السليم لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره الرباني وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الإطار فلا أثر لها في حساب السماء قال الله تعالى: <وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ>[192])[193].

المثال الثاني: تفسيره(قده) لسر غيبة الإمام المهدي(عج) وإرجاع ذلك في بعض الأبعاد لما يمكن أن يسمى (بتكامل ما بعد العصمة) أي (ذلك الكمال الذي يؤهله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من أساليب القيادة العالمية العادلة) [194]، فالشهيد محمد باقر الصدر يعتقد أن غيبة الإمام وطول عمره من عوامل نجاح ثورته العالمية (لأن التغيير العالمي الذي سيمارسه المهدي يتطلب وضعاً نفسياً في القائد الممارس مشحوناً بالشعور بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعد للقضاء عليها بتحويلها حضارياً إلى عالم جديد).[195] فالإمام المهدي بمعاصرته لحضارات عديدة ودول كثيرة قامت ثم زالت تجعل الباطل متصاغراً في نفسه ولن يخشى أي قوة حضارية مهما كانت قوتها إضافة إلى أن مواكبته لهذه الحضارات من شأنه أن يعمق الخبرة القيادية للمهدي(عج).

الأصل الخامس: المعاد

الدليل الذي يقدمه الصدر على المعاد يقوم على التلازم بين العدل والجزاء (فإن العقل الفطري السليم يدرك أن الظالم والخائن جدير بالمؤاخذة وأن العادل الأمين الذي يضحّي في سبيل العدل والأمانة جدير بالمثوبة وكل واحد منا يجد في نفسه دافعاً من تلك القيم إلى مؤاخذة الظالم المنحرف وتقدير العادل المستقيم ولا يحول دون تنفيذ هذا الدافع عند أحد إلا عجزه عن اتخاذ الموقف المناسب أو تحيزه الشخصي. وما دمنا نؤمن بأن الله(عز) عادل مستقيم في سلوكه وقادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً فلا يوجد ما يحول دون تنفيذه(عز) لتلك القيم…

ولكننا نلاحظ في نفس الوقت أن هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أنه مقدور لله(عز) وهذا يبرهن على وجود يوم مقبل للجزاء يجد فيه العامل المجهول الذي ضحّى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته والظالم الذي أفلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل وهذا هو يوم القيامة الذي يجسد كل تلك القيم المطلقة للسلوك – العدل والاستقامة والأمانة والصدق والوفاء ونحوها.. – وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى).[196]

دور المعاد النفسي والاجتماعي

لم نعد بحاجة للقول أن المعاد والإيمان بيوم القيامة يدخل في المركب الحضاري الإسلامي لحل الجدل الإنساني إلى جانب التوحيد والنبوة بل قد سبقت الإشارة أن النبوة تعتمد على عقيدة المعاد في حل هذا التناقض بين المصالح الاجتماعية ومقتضيات الحياة المدنية من جهة وبين مصالح الفرد من جهة أخرى وتستند إلى التوحيد لتعميق الشعور بالمسؤولية الموضوعية تجاه المثل الأعلى المطلق. وهكذا يحل الدين استناداً إلى (التوحيد والنبوة والمعاد) المشكلة الاجتماعية ويضمن التوازن بين حاجات الفرد ومتطلبات الجماعة بين تكامل الفرد وتقدم المجتمع.

ولكن لندقق في أبعاد المعاد داخل هذا المركب الحضاري العام؛ حيث إن المصالح الاجتماعية لا يمكن أن نضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين، أما كيف ذلك؟ فإنه بالنظر إلى أن مصالح الإنسان في حياته المعيشية تنقسم إلى قسمين (مصالح طبيعية ومصالح اجتماعية).

المصالح الطبيعية يمتلك الإنسان دافعاً ذاتياً يضمن تحقيقها فـ (الإنسان ركب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصة يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة)[197]، كما أن الإنسانية تمتلك القدرة على معرفة هذه المصالح.

أما المصالح الاجتماعية فهي بدورها أيضاً تتوقف على إدراك النظام الاجتماعي الأصلح وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك النظام.

أما الشرط الأول: فإنه لا يمكن للبشرية أن تضع بنفسها النظام الاجتماعي الأصلح لأن (الإنسان لا يستطيع أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية وينسجم مع طبيعته وتركيبه العام لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه والطبيعة الإنسانية بكل محتواها)[198]، من هنا يستدلون على ضرورة الدين في حياة الناس والحاجة إلى الوحي والنبوة لطرح المصالح الحقيقية والنظام الذي يؤدي إلى السعادة الحقة ولكن أيضاً الدافع نحو هذه المصالح حتى وإن أدركت لا يمكن تحققه بسهولة لأن حب الذات يدفع الإنسان إلى تقديم مصالحه الفردية على مصالح الآخرين فالدوافع الذاتية (تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم).[199]

هنا يأتي دور المعاد بما هو طاقة روحية ليعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الحياة الدنيا أملاً في نعيم أبدي يوم القيامة (وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحّي به ليس إلا تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه ومفهومها عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمها التجارية المادية فالعناء طريق اللذة والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع وهكذا ترتبط المصالح العامة بالدوافع الذاتية بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني).[200]

إن عقيدة المعاد تحدث تغييراً جوهرياً في مجال الأهداف التي يتحرك لأجلها الفرد والمجتمع. فعادة المجتمعات اللادينية والنظم العلمانية لا تنظر إلى الحياة إلا من خلال شوطها القصير ولا ترى للسعادة في سبيل سوى إشباع غرائز الإنسان وشهواته وتلبية رغباته.. بينما في إطار عقيدة التوحيد يكون الله ومرضاته وعبادته هي عناوين للأهداف الكبرى لمسيرة الإنسان ولا يعود المال والجاه والقوة والشهوة وغيرها من القيم المحدودة منتهى الآمال وغاية السير.. فالإسلام أعطى للساحة التاريخية حجمها الحقيقي وربطها بعالم آخر غير منظور حسياً.. وإن هذا العالم هو دار الخلود.. وإن الإنسان يخلد بعمله وكدحه.. لا بغيرها من الموازين وهذا يمنحه قدرة على الثبات والاستمرار والسعي الدؤوب.

فـ (عقيدة يوم القيامة تعلّم الإنسان أن هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر وأن مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائماً قدرته على التجديد والاستمرار).[201]

(فالمعاد يلعب على صعيد الثورة الاجتماعية للأنبياء دوراً أساسياً بوصفه الأساس الواقعي لما يتبناه إنسان الأنبياء الصالح من أهداف وقيم في الحياة).[202]

على طريق التجديد الكلامي

هذه هي معالم التجديد منهجياً ومفاهيمياً في البحث العقائدي، كما حاولت الدراسة الكشف عنها في منحاها تحليلي، وباستقراء النتاج العلمي في مجال البحث العقائدي بعد باقر الصدر وعلى امتداد الساحة الإسلامية بمختلف مذاهبها نلمس بوضوح أن هذا الإنتاج العقائدي لم يستفد جيداً من هذه النقلات المنهجية الهامة التي أسسها باقر الصدر ولم يعمّق كثيراً هذه التحولات.

إن هذا القصور للأسف يواجهنا أيضاً في كل المجالات الفكرية الأخرى: في نظرية المعرفة والمذهب الاقتصادي والنظرية السياسية، والنظرية الاجتماعية.. إلخ. إن الساحة الفكرية لم تشهد من بعده نقلة نوعية حقيقية ولا يزال الفكر الإسلامي يتحرك في حدود الآفاق التي رسمها باقر الصدر بريشة عبقريته وإبداعه، بل بدونه أحياناً حيث نرصد تراخياً وركوداً فكرياً.

إن أطروحة الصدر الكلامية لا تزال تختزن داخلها مشاريع عدة تستوجب جهوداً كبيرة لتفجيرها والرقي بالطرح العقائدي إلى مستويات أعلى قادرة على مقارعة كل التيارات المستحدثة واقتحام كل الساحات الفكرية والفضاءات الثقافية وتحدي كل المشاريع المضادة.

وهذا الجهد مر حتماً عبر تمثل واستيعاب تفاصيل هذه الأطروحة الصدرية ثم قراءتها نقدياً (كما مر معنا في المقدمة) قراءة تتخطى النزعة الاستصحابية التي تحاول تجميد الفكر في مرحلة ما.. وتحول إبداع باقر الصدر إلى عائق معرفي يحول دون نهضة جديدة.. ودرجات أعلى من تكامل الفكر ونضوجه.

إن باقر الصدر نفسه يعلّمنا أن نتخلص من هذه النزعة المدمرة التي تجعل من الماضي حالة تكرارية نقف عندها.. دون تخطيها إلى أفق أعلى:

وهذه النزعة الاستصحابية إلى ما كان والحفاظ على ما كان تجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا وذلك لأن أساليب العمل ترتبط بالعالم، ترتبط بمنطقة العمل.. وهذه الأمة التي تريد أن تزرع فيها الخير، التقوى، الورع، الإيمان.. هذه الأمة ليست لها حالة واحدة، الأمة تتغير، نعم إسلامك لا يتغير لكن الأمة تتغير. الأمة اليوم غير الأمة بالأمس في مستواها الفكري، في مستواها الأخلاقي.. لابد لنا أن نتحرر من النزعة الاستصحابية، من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل.. هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها مع أمة قد ماتت وانتهت ظروفها وملابساتها لأننا نعيش بأساليب منسجمة مع أمة لم يبق منها أحد.. تلك الأمة انتهت وحدثت أمة أخرى ذات أفكار أخرى ذات اتجاهات أخرى ذات ظروف وملابسات أخرى.[203]

فباقر الصدر كما نستشفّ من خلال هذه الكلمات لا يريد أن يكون نموذجاً معاصراً لتجربة الطوسي في التاريخ حيث جمدت حركة الاجتهاد بعده وطيلة مائة سنة تقريباً.. إلى أن جاء ابن إدريس وناقش أفكار الشيخ الطوسي(قده).. وتخطى.. المستوى العلمي الذي بقي مفروضاً على العقول طيلة هذه السنين.[204]

نعم إنه من الطبيعي أن المجددين الكبار يرحلون قبل أن يتموا مشاريعهم الكبرى لأن مشاريعهم الفكرية والحضارية هي دوماً أكبر من أعمارهم وتحتاج إلى أجيال عديدة تستوفي أغراضها على أيديهم.. ولكن مع ذلك.. لابد من توجه صادق وقوي نحو هذه المهمة حتى نحقق بعد سنين نتائج مثمرة على هذا الطريق.

وفي انتظار جهد علمي مدروس، وعمل مؤسساتي مركّز لقراءة نقدية لفكر باقر الصدر في شتى فروعه في انتظار أن يتحرك المشروع الفكري الذي أسسه باقر الصدر خطوات إلى الأمام ويحلق بالمسيرة إلى أفق أعلى في انتظار كل ذلك نقول من أعمق الأعماق:

سلام عليك باقر الصدر يوم ولدت وسلام عليك يوم استشهدت وسلام عليك يوم تبعث حياً في وعي الأمة ووجدانها وثوراتها الآتية، سلام عليك يوم تحشر مع أجدادك الأطهار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دمشق

كانون الثاني 2000م

رمضان 1420هـ

قائمة المصادر

آل ياسين، جعفر:

الفكر الفلسفي عند العرب، دار المناهل، 1993.

أغروس (+ رورت م):

العلم في منظوره الجديد سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 134.

الأفغاني، جمال الدين:

الرد على الدهريين، ترجمة: محمد عبده، إسلام العالمية.

إقبال، محمد:

تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1955.

جدعان، فهمي:

أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979.

جنابي، ميثم:

علم الملل والنحل، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.

الحاج محمد، أبو القاسم:

العالمية الإسلامية الثانية، دار المسيرة.

الزمخشري:

الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت.

الشهرستاني:

الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني.

صبحي، أحمد محمود:

علم الكلام.

الصدر، محمد باقر:

۔ الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

۔ الإسلام يقود الحياة، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

۔ أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف. دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

۔ اقتصادنا، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

۔ فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

۔ الفتاوى الواضحة، دار التعارف، لبنان.

۔ المدرسة القرآنية، دار التعارف، لبنان.

۔ المدرسة الإسلامية. دار الكتاب الإيراني.

۔ اخترنا لك. دار الزهراء، بيروت.

۔ نشأة الشيعة والتشيع، تحقيق: عبدالجبار شرارة، مؤسسة الثقلين.

۔ بحث حول المهدي، دار التعارف.

الصدر، محمد صادق:

تاريخ الغيبة الكبرى، منشورات ذو الفقار، قم.

الطباطبائي، محمد حسين:

۔ الميزان، الأعلمي، 1997.

۔ الشيعة في الإسلام، دار التعارف.

عبده، محمد:

رسالة التوحيد، دار إحياء التراث، بيروت.

مطهري، مرتضى:

۔ الفلسفة، دار التيار الجديد.

۔ الكلام والعرفان، الدار الإسلامية.

المظفر، محمد رضا:

الفلسفة الإسلامية.

ملاط، شبلي:

تجديد الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم.

الهاشمي، محمود:

بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر.

[1]. ظهر كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) فيما بعد سنة 1992.

[2]. فرنسيس فوكاياما: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مركز الإنماء القومي 1993، ص71.

[3]. م. ن.

[4]. مرتضى مطهري، الفلسفة، دار التيار الجديد، ص57.

[5]. مرتضى مطهري، الكلام والعرفان، الدار الإسلامية، ص15.

[6]. مرتضى مطهري، الفلسفة، ص55.

[7]. أحمد محمود صبحي، علم الكلام، مج1 ص38.

[8]. يشار إلى أن نظرية المزج بين (قراءتين) فصلها أبو القاسم حاج محمد في كتابه العالمية الإسلامية الثانية فصل (الوعي المحمدي) فليراجع.

[9]. الزمخشري، الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1 ص338.

[10]. مرتضى مطهري، الكلام والعرفان، ص18.

[11]. انظر المصدر السابق.

[12]. انظر الفهرست لابن النديم.

[13]. محمد حسين الطباطبائي، الميزان، مؤسسة الأعلمي 1997، ج5، ص284.

[14]. محمد رضا المظفر، الفلسفة الإسلامية، ص76.

[15]. م. ن، ص77.

[16]. محمد حسين الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، دار التعارف، ص127.

[17]. مرتضى مطهري، الكلام والعرفان، ص52.

[18]. البقرة: 170.

[19]. الزخرف: 23 ۔ 24.

[20]. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1979، ص197.

[21]. جمال الدين الأفغاني، الرد على الدهرين، ترجمة الإمام محمد عبده، إسلام العالمية، ص31.

[22]. محمد عبده، رسالة التوحيد، دار إحياء التراث، بيروت.

[23]. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر، 1955 ص2.

[24]. شبلي ملاط، تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص250.

[25]. محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4، ص130.

[26]. محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1981، ص135.

[27]. م. ن، ص470.

[28]. م. ن، ص452.

[29]. م. ن، ص472.

[30]. م. ن، ص504.

[31]. م. ن، ص480.

[32]. م. ن، ص497.

[33]. م. ن، ص485.

[34]. م. ن، ص490.

[35]. م. ن، من ص495 إلى ص499.

[36]. م. ن، ص141.

[37]. م. ن، ص251.

[38]. م. ن، ص301.

[39]. م. ن، ص301.

[40]. م. ن، ص340.

[41]. م. ن، ص360.

[42]. انظر: مناظرة في الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش واشتباهات هذا الأخير.

[43]. محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، ص140.

[44]. م. ن، ص369.

[45]. الصافات: 96.

[46]. الصافات: 95 ۔ 96.

[47]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، دار التعارف، ص10.

[48]. م. ن، ص18.

[49]. م. ن، ص36.

[50]. م. ن، ص37.

[51]. م. ن، ص199.

[52]. محمد باقر الصدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص141.

[53]. م. ن، ص142.

[54]. م. ن، ص144.

[55]. م. ن.

[56]. النور: 55.

[57]. محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، ص191.

[58]. انظر فلسفتنا من ص192 إلى ص260.

[59]. م. ن، ص200.

[60]. م. ن، ص210.

[61]. الشورى: 11.

[62]. الأنعام: 91.

[63]. محمد باقر الصدر: أهل البيت (م. س) ص39.

[64]. انظر تفاصيل هذا التطور في كتاب: أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ص39 ۔ 40.

[65]. لاحظ بحث الشهيد مطهري: ختم النبوة، ودراسة السيد الطباطبائي حول النظام الاجتماعي في الإسلام.

[66]. محمد باقر الصدر: أهل البيت (م س)، ص38.

[67]. م. ن.

[68]. م. ن، ص43.

[69]. هو السيد محمد الصدر في موسوعة الإمام المهدي(عج): الجزء الرابع، اليوم الموعود.

[70]. انظر تفاصيل وخصائص كل مرحلة في كتاب: اليوم الموعود للسيد محمد الصدر(قده) من ص426 فما فوق.

[71]. انظر أمين أحمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث.

[72]. فهمي جدعان: أسس التقدم، (مصدر سابق)، ص189.

[73]. محمد باقر الصدر: منابع القدرة في الدولة الإسلامية (الإسلام يقود الحياة)، دار التعارف، ص228.

[74]. محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، دار الكتاب الإيراني، ص84.

[75]. م. ن، ص87.

[76]. م. ن، ص88.

[77]. م. ن، ص91 إلى 93.

[78]. م. ن، ص97.

[79]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص131.

[80]. الأحزاب: 72.

[81]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص134.

[82]. الروم: 30.

[83]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص136.

[84]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، (م. س) ص202.

[85]. جعفر آل ياسين، الفكر الإسلامي عند العرب، دار المناهل، 1993، ص98.

[86].الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمد سعيد كيلاني، ص16.

[87]. ميثم الجنابي، علم الملل والنحل، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ص53.

[88]. جدعان: أسس التقدم، (م. س)، ص544.

[89]. انظر النداءات الثلاثة الأخيرة.

[90]. الفينانشال تايمس: 12 آذار 1997 مقالة للصحفي الشهير إدورد مورنمر عن محمد باقر الصدر (الرجل الذي كان من الممكن أن يكون مانديلا العراق) (نقلاً عن تجديد الفقه الإسلامي لشبلي ملاط ص11).

[91]. محمد باقر الصدر، اقتصادنا، (م. س) ص310.

[92]. محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة الثامنة، ص11.

[93]. محمد باقر الصدر: اقتصادنا، (م. س) ص112.

[94]. انظر اقتصادنا ص112 و ص116 ۔ 117.

[95]. الروم: 30.

[96]. محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، (م. س)، ص35.

[97]. م. ن، ص 40.

[98]. انظر فلسفتنا (الجزء الثاني) حيث يثبت أن هناك وجود جهة عليا وراء المادة تسبب هذه الزيادة النوعية.

[99]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص52.

[100]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص145.

[101]. م. ن، ص149.

[102]. من نماذج هذه الآيات: (المائدة: 104)، (يوسف: 78)، (إبراهيم: 10)، (الزخرف: 22)، (هود: 62)…

[103]. البقرة: 170.

[104]. الغافر: 29.

[105]. القصص: 38.

[106]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص161.

[107]. الانشقاق: 6.

[108]. النور: 39.

[109]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص185.

[110]. م. ن.

[111]. م. ن، ص195.

[112]. م. ن، ص196.

[113]. م. ن، ص140.

[114]. م. ن.

[115]. الرعد: 11.

[116]. الأنفال: 53.

[117]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص143.

[118]. م. ن، ص200.

[119]. محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة.

[120]. محمد باقر الصدر، مقالة الحرية في القرآن: عن كتاب اخترنا لك (1) دار الزهراء، بيروت، ص51 ۔ 52.

[121]. محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص40 ۔ 41.

[122]. محمد باقر الصدر: فلسفتنا (م. س)، ص7.

[123]. م. ن.

[124]. محمد باقر الصدر، أهل البيت: تنوع ادوار ووحدة هدف (م. س)، ص120.

[125]. أغروس م. روبرت. العلم في منظوره الجديد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 134، ص15.

[126]. م. ن، ص147.

[127]. أبو القاسم حاج حمد العالمية الإسلامية الثانية، دار المسيرة، ص51.

[128]. م. ن، ص108.

[129]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص228.

[130]. م. ن، ص229.

[131]. م. ن، ص201.

[132]. الذاريات: 56.

[133]. للتفصيل أكثر يراجع: المحاضرة السابعة من محاضرات المدرسة القرآنية، للسيد باقر الصدر.

[134]. النور: 39.

[135]. آل عمران: 110.

[136]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص216.

[137]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص707.

[138]. م. ن، ص713.

[139]. الشورى: 30.

[140]. محمد باقر الصدر: المحاضرة الثانية من محاضرات (المحنة).

[141]. م. ن.

[142]. م. ن.

[143]. م. ن.

[144]. انظر الأسس المنطقية للاستقراء، ص441 ۔ 451.

[145]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص193.

[146]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص200.

[147]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص710.

[148]. م. ن، ص716.

[149]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص197 ۔ 198.

[150]. الجن: 16.

[151]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص54.

[152]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص47.

[153]. راجع: تفصيلات هذا التقسيم في المدرسة القرآنية، من ص230 إلى ص236.

[154]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية (م. س)، ص238.

[155]. محمود الهاشمي، مباحث الدليل اللفظي، ج2، ص29.

[156]. م. ن، ص30.

[157]. م. ن.

[158]. انظر مباحث الدليل اللفظي، ج2، للسيد محمود الهاشمي، ص30 إلى 35.

[159]. م. ن، ص37.

[160]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص59.

[161]. الأعلى: 3.

[162]. الزلزلة: 7 ۔ 8.

[163]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص61.

[164]. م. ن، ص73.

[165]. محمد باقر الصدر، أهل البيت: تنوع أدوار وحدة هدف (م. س)، ص51.

[166]. محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص171.

[167]. م. ن، ص172.

[168]. م. ن، ص163.

[169]. م. ن، ص29.

[170]. م. ن، ص21 ۔ 22.

[171]. م. ن.

[172]. الشهرستاني: الملل والنحل (م. س)، ج1 ص24.

[173]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص161.

[174]. شبلي ملاط (م. س)، ص86.

[175]. اليونس: 19.

[176]. البقرة: 213.

[177]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص178.

[178]. م. ن، ص181.

[179]. م. ن، ص182.

[180]. م. ن، ص52.

[181]. صاغ هذا الدليل في بحثه حول نشأة التشيع، نُشر تحت عنوان بحث حول الولاية وكذلك تحت عنوان نشأة الشيعة والتشيع. وهو في الحقيقة مقدمة لكتاب عبدالله فياض (تاريخ الإمامة وأسلافهم من الشيعة، صدر سنة 1970).

[182]. محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، تحقيق عبدالجبار شرارة، مؤسسة الثقلين، ص63.

[183]. محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، دار التعارف، ص52.

[184]. مريم: 12.

[185]. انظر ص73.

[186]. محمد باقر الصدر، أهل البيت (م. س)، ص73.

[187]. م. ن، ص75.

[188]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص179.

[189]. م. ن، ص182.

[190]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص187.

[191]. محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، ص76.

[192]. البقرة: 124.

[193]. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ص185.

[194]. محمد الصدر، تاريخ الغيبة الكبرى، منشورات ذو الفقار قم، ص277.

[195]. محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، ص42.

[196]. محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة (م. س)، ص55.

[197]. محمد باقر الصدر، اقتصادنا (م. س)، ص319.

[198]. م. ن، ص320.

[199]. م. ن.

[200]. م. ن، ص325.

[201]. محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية (م. س)، ص194.

[202]. محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص52.

[203]. فقرات: من المحاضرة الثانية من محاضرات المحنة.

[204]. لاحظ تحليل هذه الظاهرة بقلم الشهيد الصدر في كتابه المعالم الجديدة للأصول: من ص68 إلى ص80 (دار التعارف للمطبوعات).