نظرية الصدر المتقدمة في المعرفة

خالد عبد العزيز فرج

الدكتور حسن عبد الله جوهر

الدارس لتطور الفلسفي يجد أن فلسفته تمرّ بمرحلتين

المرحلة الأولى تمثّل في كتاب فلسفتنا (1379 ۔ 1959م) ويتبنى فيها ۔ في مجال نظرية المعرفة ۔ المذهب العقلي، وبالتحديد الفلسفة الإسلامية التقليدية المتأثرة بالمنطق الأرسطي، ونعبّر عن هذه المرحلة بنظرية الصدر المتقدمة.

المرحلة الثانية يتحول فيها إلى فلسفة جديدة تعبّر عن إبداعه الخاص، تتمثل في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء (1391 ۔ 1971م) ويتبنى في نظرية المعرفة مذهباً يطلق عليه اسم المذهب الذاتي، ونعبّر عن هذه المرحلة بنظرية الصدر المتأخرة.

وهدفنا هنا دراسة نظرية الصدر المتقدمة في المعرفة كما جاءت في فلسفتنا[1]، كمقدمة لدراسة نظريته المتأخرة؛ حتى يتضح من خلال ذلك الثابت والمتغير في تطوره الفلسفي. ويمكن تلخيص ذلك من خلال النقاط الرئيسية التالية:

النقطة الأولى: حول التصور والتصديق

١. قسّم الصدر الإدراك البشري ۔ تبعاً للفلاسفة الإسلاميين ۔ إلى قسمين: أحدهما التصور، والآخر التصديق. وسوف نتناول التصورات، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التصديقات.

إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورة له، هي علمك بهذا المثلث، ويسمّى هذا العلم بالتصور. وهو تصور مجرد لا يستتبع جزماً واعتقاداً. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك، وهي أيضاً من التصور المجرد. وإذا رسمت خطاً أفقياً وخطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان، فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك، وهي من التصور المجرد أيضاً. لكن إذا برهنت على أن الزاویتين القائمتين مساوية لمجموع زوايا المثلث، تحصل لك حينئذ حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة، وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس وإذعانها وتصديقها، وهذه الحالة تسمّى بالتصديق[2]. وهذا هو الفرق بين التصور والتصديق عندهم، فالتصور هو حضور صور الأشياء عند الذهن، في حين أن التصديق ۔ فضلاً عن حضور صور الأشياء عند الذهن ۔ هو الحكم والجزم والاعتقاد بقضية ما متعلقة بتلك الصور الحاضرة عند الذهن.

٢. ويرى الصدر أن الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصورات:

أحدهما المعاني التصورية البسيطة، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض.. وما إلى ذلك.

والقسم الآخر المعاني المركبة، أي التصورات الناتجة عن الجمع بين تلك التصورات البسيطة. فقد نتصور جبلاً من تراب، ونتصور قطعة من الذهب، ثم نركّب بنى هذين التصورين، فيحصل بالتركيب تصور ثالث، وهو تصور جبل من الذهب. فهذا التصور مركّب في الحقيقة من التصورين الأولين، وهكذا ترجع جميع التصورات المركبة إلى تصورات بسيطة[3].

والمسألة الأساسية التي یتعين الكشف عنها في مجال التصورات هي معرفة المصدر الأساسي للتصورات البسيطة، وسبب انبثاقها في الإدراك الإنساني. ويؤمن الصدر في هذا المجال بنظرية الفلاسفة الإسلاميين ۔ بصورة عامة ۔ والتي يطلق عليها نظرية الانتزاع.

وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية.[4] فالتصورات الأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد هذه التصورات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصور الحرارة لأننا أدركناها باللمس، ونتصور اللون لأننا أدركناه بالبصر، ونتصور الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق، ونتصور الرائحة لأننا أدركناها بالشمّ. وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فإن الإحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري.

أما التصورات الثانوية فإنها تتشكل على أساس التصورات الأولية، فينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة تصورات ثانوية جديدة، وهذه العملية هي التي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) وهذه المعاني الجديدة المتولدة من تلك المعاني الأولية خارجة عن نطاق الحس وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحس إلى الذهن والفكر.[5]

ويؤكد الصدر أن هذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة، وقادرة على تفسیر جمیع التصورات البسیطة تفسیراً متماسكاً. وعلى ضوئها نستطیع أن نفهم كیف انبثقت مفاهیم السبب والمسبّب، الجوهر والعرض، الوجود والوحدة، في الذهن البشري؟ إنها كلها ۔ حسب نظریة الانتزاع ۔ مفاهیم انتزاعیة یبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة. فنحن مثلاً نحس بظاهرة غلیان الماء حین تبلغ درجة حرارته مائة، ولا نحس بسببیة الحرارة للغلیان مطلقاً، وإنما الذهن هو الذي ینتزع مفهوم السببیة من الظاهرتین اللتین یقدمهما الحس إلى مجال التصور.[6]

٣. التصدیق أو المعرفة التصدیقیة هو الإدراك الذي ینطوي على حكم، ویحصل به الإنسان على معرفة موضوعیة، فكل واحد منا یدرك عدة من القضایا ویصدّق بها تصدیقاً، ومن تلك القضایا ما یرتكز الحكم فیها على حقائق موضوعیة جزئیة، كما في قولنا: (الجو حار) و(الشمس طالعة) وتسمّى القضیة لأجل ذلك جزئیة. وفي المقابل هناك من القضایا ما یقوم الحكم فیها بین معنیین عامین، كما في قولنا: (الكل أكبر من الجزء) و(الواحد نصف الاثنین) و(الجزء الذي لا یتجزأ مستحیل) و(الحرارة تولّد الغلیان) و(الكتلة حقیقة نسبیة) و(محیط الدائرة أكبر من قطرها) إلى غیر ذلك من القضایا الفلسفیة والطبیعیة والریاضیة، وتسمّى هذه القضایا بالقضایا الكلیة والعامة.[7]

ویرى الصدر أن التصدیق هو الذي یملك قیمة موضوعیة، ولیس التصور؛ فالتصور بمختلف ألوانه لیس له قیمة موضوعیة؛ لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا یبرهن ۔ إذا جرّد عن كل إضافة ۔ على وجود الشيء موضوعیاً خارج الإدراك، بینما یملك التصدیق خاصیة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي، فالتصدیق أو المعرفة التصدیقیة هي التي تكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.[8]

والسؤال الهام الذي یطرح في هذا المجال یتركز حول أصل المعرفة التصدیقیة والركائز الأساسیة التي یقوم علیها صرح العلم الإنساني، فما هي الخیوط الأولیة التي نسجت منه تلك المجموعة الكبیرة من الأحكام؟ وما هو المبدأ الذي تنتهي إلیه المعارف البشریة في التعلیل، ویعتبر مقیاساً أولیاً عاماً لتمییز الحقیقة عن غیرها؟ یؤمن الصدر في هذا المجال بالمذهب العقلي، وهو المذهب الذي ترتكز علیه الفلسفة الإسلامیة عادة. وهذا ما سوف یتضح في النقطة التالیة.

النقطة الثانية: حول المعارف الأولیة والثانویة

۴. تنقسم المعارف البشریة في رأي المذهب العقلي إلى طائفتین:

إحداهما معارف أولیة = ضروریة أو بدیهیة. والطائفة الثانية معارف ثانویة = نظریة.

المعارف الأولیة هي المعارف التي لا نحتاج في حصولها إلى كسب ونظر وفكر، فتحصل بالاضطرار والبداهة، ونعني بذلك المفاجأة والارتجال من دون توقّف.[9]

وبعبارة أخرى هي المعارف التي تضطر النفس إلى الإذعان بها من دون أن تطالب بدلیل، أو تبرهن على صحتها، بل تجد من طبیعتها ضرورة الإیمان بها إیماناً غنیاً عن كل بینة وإثبات، مثل إیمان النفس بالقضایا الآتیة: (النفي والإثبات لا یصدقان معاً) و(لكل حادثة سبباً) و(الكل أكبر من الجزء) وهي قضایا تعبّر عن مبدأ عدم التناقض ومبدأ السببیة ومبدأ ریاضي أولي، على التوالي[10]. والمعارف الأولیة تشكّل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشریة على العموم.[11]

أما المعارف الثانویة فإنها تلك المعارف التي لا تؤمن النفس بصحتها إلا على أساس معارف سابقة، فیتوقف الحكم فیها على عملیة تفكیر واستنباط، كما في القضایا الآتیة: (الأرض كرویة) و(الحركة سبب الحرارة) و(التسلسل ممتنع) و(الفلزات تتمدد بالحرارة) وما إلى ذلك من قضایا الفلسفة والعلوم. فهذه القضایا حین تعرض على النفس، لا تحصل على حكم مباشر في شأنها، إلا بعد مراجعة للمعارف الأخرى.[12] والمعارف الثانویة مستنتجة من معارفنا السابقة بطریقة التوالد الموضوعي.[13]

۵. إذن المعارف الثانویة مستندة إلى المعارف الأولیة، ولو سلبت تلك المعارف الأولیة من الذهن البشري، لما استطاع التوصل إلى معرفة نظریة على الإطلاق.[14] فالمذهب العقلي یؤمن بأن كل معرفة إنما تتولد عن معرفة سابقة، وهكذا تلك المعرفة، حتى ینتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلیة الأولیة، التي لم تنشأ عن معارف سابقة، وتعتبر لهذا السبب العلل الأولى للمعرفة.[15]

وبكلمة أخرى أن الحجر الأساسي للمعرفة هو المعارف العقلیة الأولیة، وعلى ذلك الأساس تقوم البنیات الفوقیة للفكر الإنساني التي تسمّى بالمعارف الثانویة.[16]

والعملیة التي تستنبط بها معرفة ثانویة من معارف سابقة، یطلق علیها الصدر في فلسفتنا اسم (الفكر) أو (التفكیر) في حین أنه یطلق علیها في الأسس المنطقیة للاستقراء اسم (التوالد الموضوعي)[17]. ویعرّف بعض المناطقة الفكر بأنه (إجراء عملیة عقلیة في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب)[18].

فالتفكیر جهد یبذله العقل في سبیل اكتساب تصدیق وعلم جدید من معارفه السابقة، بمعنى أن الإنسان حین یحاول أن یعالج مسألة جدیدة كمسألة حدوث المادة مثلاً، لیتأكد من أنها حادثة أو قدیمة، یكون بین یدیه أمران:

أحدهما الصفة الخاصة وهي الحدوث، والآخر الشيء الذي یرید أن یتحقق من اتصافه بتلك الصفة، وهو المادة.

ولما لم تكن القضیة (المادة حادثة) من الأولیات العقلیة، فالإنسان سوف یتردد بطبیعته في إصدار الحكم والإذعان بحدوث المادة، ویلجأ حینئذ إلى معارفه السابقة لیجد فیها ما یمكنه أن یركّز علیه حكمه، أو یجعله واسطة للتعرف على حدوث المادة، وتبدأ بذلك عملیة التفكیر باستعراض المعارف السابقة.

ولنفترض أن من جملة تلك الحقائق التي كان یعرفها المفكر سلفاً هي الحركة الجوهریة، التي تقرر أن المادة حركة مستمرة وتجدد دائم، فإن الذهن سیضع یده على هذه الحقیقة حینما تمرّ أمامه في الاستعراض الفكري، ویجعلها همزة الوصل بین المادة والحدوث؛ لأن المادة لما كانت متجددة فهي حادثة حتماً، فالتغییر المستمر یعني الحدوث على طول الخط، وتتولد عندئذ معرفة جدیدة للإنسان، وهي أن المادة حادثة؛ لأنها متحركة ومتجددة، وكل متجدد حادث[19]. ویمكن أن نصیغ ذلك على الطریقة القیاسیة فنقول: المادة متجددة، وكل متجدّد حادث، إذن فالمادة حادثة.

ویشرح ذات العملیة السابقة في مرحلة لاحقة قائلاً: (التوالد الموضوعي یعني أنه متى وجد تلازم بین قضیة أو مجموعة من القضایا وقضیة أخرى، فبالأمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضیة من معرفتنا بالقضایا التي تستلزمها. فمعرفتنا بأن خالداً إنسان وأن كل إنسان فإنٍ، تتولد منها معرفة بأن خالداً فانٍ. وهذا التوالد موضوعي؛ لأنه نابع من التلازم الموضوعي بین الجانب الموضوعي من المعرفة المولّدة، والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج یقوم على القیاس الأرسطي؛ لأن النتیجة في القیاس ملازمة دائماً للمقدمات التي یتكون منها القیاس).[20]

إذن، الصدر في المرحلة المتقدمة في فلسفتنا دافع عن المذهب العقلي، وعلى هذا الأساس حاول أن (یفسر جمیع العلوم والمعارف التي یعترف بصحتها من الناحیة المنطقیة بأنها إما أن تكون معارف أولیة تعبّر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشریة، وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طریقة التوالد الموضوعي).[21]

۶. لقد ردّ الصدر المعارف التصدیقیة جمیعاً إلى معارف أساسیة أولیة، لا یمكن إثبات ضرورتها بدلیل أو البرهنة على صحتها[22]، فعلى ضوء ذلك كیف نقیم معارفنا في مجال العلوم الطبیعیة والریاضیة والمیتافیزیقیة؟

أولاً في مجال العلوم الطبیعیة یؤكد الصدر على أن قیمة لنظریات والنتائج العلمیة في المجالات التجربیة موقوفة على مدى دقتها في تطبیق تلك المعارف الأولیة، على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول علیها.[23]

ولنأخذ مثالاً على ذلك من الحرارة؛ فلو أردنا أن نستكشف السبب الطبیعي للحرارة وقمنا بدراسة عدة تجارب علمیة ووضعنا في نهایة المطاف النظریة القائلة بأن الحركة سبب الحرارة، نجد أن هذه النظریة الطبیعیة في حقیقتها نتیجة تطبیق لعدة مبادئ ومعارف أولیة على التجارب التي جمعناها ودرسناها. وهذا هو أساس صحتها، وصحتها مضمونة بقدر ارتكازها على تلك المعارف الأولیة، فالعالم الطبیعي یجمع أول الأمر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، مثل دم الحیوانات والحدید المحمى، والأجسام المحترقة.. وغیر ذلك من آلاف الأشیاء الحارة. فهنا في بادئ الأمر، ثمة شيء معلوم وآخر مجهول: الشيء المعلوم هو مبدأ السببیة ۔ الأولي ۔ القائل: (أن لكل حادثة سبباً)[24]. والشيء المجهول هو العلاقة السببیة بین ذلك السبب والحرارة، وهو مردّد بین طائفة من الأشیاء، فیبدأ العالم بتطبیق المبدأ العقلي الأولي، فمن جهة یعرف بأن لهذه المظاهر سبباً معیناً، ولكن من جهة أخرى یظلّ هذا السبب مجهول، فكیف یتاح تعیینه من بینها؟

یستعین العالم الطبیعي في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الأولیة العقلیة، وهو المبدأ القائل بأن (انفصال الشيء عن سببه مستحیل) ویدرس على أساس هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشیاء التي یوجد بینها السبب الحقیقي للحرارة، ویبدأ باستبعاد عدة من الأشیاء ویسقطها من الحساب، مثل دم الحیوان ۔ مثلاً ۔ الذي لا یمكن أن یكون سبباً للحرارة؛ لأن هناك من الحیوانات ما دماؤها باردة، فلو كان الدم هو سبب الحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ویكون بارداً في بعض الحیوانات. ومن الواضح أن استبعاد دم الحیوان عن السببیة لم یكن إلا تطبیقاً لمبدأ (انفصال الشيء عن سببه مستحیل).[25]

وهكذا یستمر العالم بدراسة كل شيء یمكن أن یكون سبباً للحرارة، فیبرهن على عدم كونه سبباً على أساس مبدأ عقلي أولي، فإن أمكنه في تجاربه العلمیة استیعاب كل ما یحتمل كونه سبباً للحرارة، ویدلّل على عدم كونه سبباً ۔ كما فعل في دم الحیوان ۔ فسوف یصل في النهایة إلى السبب الحقیقي حتماً، بعد إسقاط الأشیاء الأخرى من الحساب، وتصبح النتیجة العلمیة قاطعة؛ لأنها ترتكز على معارف عقلیة أولیة. وأما إذا ظلّ في النهایة شیئان أو أكثر، ولم یستطع أن یعیّن السبب على أساس المعارف الأولیة، فستكون النظریة العلمیة ۔ حینئذ ۔ ظنیة.[26]

٧. ولهذا لا یمكن ۔ في نظر الصدر ۔ إعطاء نظریة علمیة بشكل قاطع، إلا إذا استوعبت التجربة كل إمكانیات المسألة، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة، بحیث أمكن تطبیق المعارف الأولیة علیها، وإقامة استنتاج علمي موحّد وفقاً لذلك التطبیق.[27]

وهنا یمكن أن نعرف سبب كون نتائج المیتافیزیقا والریاضیات نتائج یقینیة في الغالب، دون النتائج العلمیة في الطبیعیات؛ فإن تطبیق الأسس الأولیة في الطبیعیات لما كان محتاجاً إلى تجربة تهیئ شروط التطبیق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جمیع الشروط، فلا تكون النتیجة القائمة على أساسها قطعیة[28]، بخلاف المیتافیزیقا والریاضیات التي لا یحتاج التطبیق فیها إلى تجربة خارجیة، ففي مسألة إثبات العلة الأولى للعالم ۔ مثلاً ۔ یجب على العقل أن یقوم بمحاولة تطبیق معارفة الأولیة على هذه المسألة، حتى یضع على أساسها نظریته الإیجابیة أو السلبیة، وما دامت المسألة لیست تجریبیة، فالتطبیق یحصل بعملیة تفكیر واستنباط عقلي بحت بصورة مستقلة عن التجربة. [29]

فالمشكلة في كثرة الأخطاء الواقعة في العلوم الطبیعیة ترجع إما إلى قصور التجربة أو عدم إحاطتها بالواقع المادي، والملابسات الخاصة بالحادثة، وعندئذ فالظفر بحقائق جدیدة إما أن یعدل الحقیقة العلمیة الثابتة ویزیدها دقة، أو یكشف خطأ النظریة السابقة، وصحة فكرة أخرى لتفسیر الواقع. [30]

إذن من الممكن الحصول على معارف صحیحة في كل من المیتافیزیقا والریاضیات والطبیعیات على أساس المعارف الأولیة الضروریة، لكن الطبیعیات تختلف في شيء، وهو أن الحصول على معارف طبیعیة بتطبیق الأسس الأولیة یتوقف على التجربة التي تهیئ للإنسان شروط التطبیق، في حین أن المیتافیزیقا والریاضیات التطبیق فیها قد لا یحتاج إلى تجربة خارجیة.[31]

وعلى هذا فإن مسائل المیتافیزیقا تختلف عن العلم الطبیعي في كثیر من مجالاتها، ویؤكد الصدر على عبارة (في كثیر من مجالاتها) لأن استنتاج النظریة الفلسفیة أو المیتافیزیقیة من المعارف الأولیة في بعض الأحیان، یتوقف على التجربة أیضاً، فیكون للنظریة الفلسفیة حینئذ نفس ما للنظریات العلمیة من قیمة ودرجة.[32]

النقطة الثالثة: حول أن المعرفة هل تكشف عن الواقع الموضوعي؟

٨. درسنا فیما سبق المصادر الأساسیة للمعرفة أو للإدراك البشري بصورة عامة، والآن نرید دراسة المعرفة من ناحیة أخرى لنحدد قیمتها الموضوعیة، ومدى إمكان كشفها عن الحقیقة، فالطریق الوحید لدى البشریة لمعرفة الحقائق هو مجموعة العلوم والمعارف التي لدیها، فیجب أن نتساءل أولاً عما إذا كان هذا الطریق یوصل بالفعل إلى الهدف، وفیما إذا كانت الإنسانیة قادرة على الوصول إلى الواقع الموضوعي من خلال ما تملكه من معارف.[33] وفي هذا الصدد لابد أن نتذكر بأن الصدر قسّم الإدراك البشري ۔ تبعاً للفلاسفة الإسلامیین ۔ إلى قسمین رئیسیین هما التصور والتصدیق. فنتساءل أولاً عما إذا كانت المعرفة التصوریة تكشف عن الواقع الموضوعي؟ ثم نتساءل بعد ذلك عما إذا كانت المعرفة التصدیقیة تكشف عن الواقع الموضوعي؟

٩. إن التصور وإن كان عبارة عن وجود صورة لمعنى من المعاني في مداركنا الخاصة، إلا أن الصورة قد توجد في حواسنا فیكون وجودها مكوّناً للإحساس بها، وقد توجد الصورة في مخیلتنا فیحصل بذلك التخیل، وقد توجد الصورة بمعناها التجریدي العام في الذهن ویسمّى وجودها هذا تعقلاً[34]. فالإحساس والتخیل والتعقل ألوان من التصور، وأنحاء لوجود صور الأشیاء في المدارك البشریة. ونحن نتصور التفاحة على الشجرة بالإحساس بها عن طریق الرؤیة، ومعنى إحساسنا بها وجود صورتها في حواسنا، ونحتفظ بعد ذلك بهذه الصورة بعد انصرافنا عن الشجرة في ذهننا، وهذا الوجود هو التخیل، ویمكننا بعد ذلك أن نسقط من الصورة الخصائص التي تمتاز بها عن التفاحات الأخر، ونستبقي المعنى العام منها ۔ أي معنى التفاحة بصفة كلیة ۔ وهذه الصورة الكلیة هي التعقل.

١٠. الإحساس والتخیل والتعقل، هذه مراحل ثلاثة من التصور یجتازها الإدراك البشري، وهو لا یعبّر في كل مرحلة إلا عن وجود صورة في بعض مداركنا، فالتصور ۔ بصفة عامة ۔ لا یعدو أن یكون وجوداً لصورة شيء ما في مداركنا، سواء أكان تصوراً واضحاً جلیاً كالإحساس، أم باهتاً وضئیلاً كالتخیل والتعقل؛ وهو لذلك لا یمكن أن یشقّ لنا الطریق إلى ما وراء هذه الصورة التي نتصورها في مداركنا. ولا یكفي للانتقال من المجال الذاتي إلى المجال الموضوعي؛ لأن وجود صورة للمعنى في مداركنا شيء، ووجود ذلك المعنى بصورة موضوعیة ومستقلة عنا في الخارج شيء آخر؛ ولذا قد یجعلنا الإحساس نتصور أموراً عدیدة لا نؤمن بأن لها واقعاً موضوعیاً مستقلاً، فنحن نتصور العصا المغموسة في الماء وهي مكسورة، ولكننا نعلم بأن العصا لم تنكسر في الماء حقاً، وإنما نحسها كذلك بسبب انكسار الأشعة الضوئیة في الماء. ونتصور الماء الدافئ حارّ جداً حین نضع یدنا فیه وهي شدیدة البرودة، مع یقیننا بأن الحرارة التي أحسسنا بها لیس لها واقع موضوعي.

والخلاصة هي أن المعرفة التصوریة لا تكشف عن الواقع الموضوعي، وإنما تقتصر أهمیتها على أنها تعطینا صوراً للأشیاء في مداركنا الخاصة.

١١. في حین أن التصدیق عبارة عن حكم النفس بوجود حقیقة من الحقائق وراء التصور، ففي قولنا: (إن الخط المستقیم أقصر مسافة بین نقطتین) نجد أن معنى هذا الحكم هو جزمنا بحقیقة وراء تصوراتنا للخطوط المستقیمة والنقاط والمستقیمات؛ ولذلك یختلف الحكم كل الاختلاف عن ألوان التصور الساذج، فهو من ناحیة لیسي صورة لمعنى معین من المعاني التي یمكن أن نحسها ونتصورها، بل هو فعل نفسي یربط بین الصور؛ ولهذا لا یمكن أن یكون وارداً إلى الذهن عن طریق الإحساس، وإنما هو من الفعالیات الباطنیة للنفس المدركة، ومن ناحیة ثانیة نلاحظ أن التصدیق یملك خاصیة ذاتیة لم تكن موجودة في شيء من ألوان التصور وأقسامه، وهي خاصة الكشف الذاتي عن واقع وراء حدود الإدراك، ولذلك كان من الممكن أن نتصور شیئاً وأن نحس به، ولا نؤمن بوجوده في واقع وراء الإدراك؛ ولذلك كان من الممكن أن نتصور شيئاً وأن نحس به، ولا نؤمن بوجوده في واقع وراء الإدراك والشعور، ولكن لیس من الممكن أن تكون لدیك معرفة تصدیقیة ۔ أي أن تصدّق بأن الخط المستقیم هو أقرب مسافة بین نقطتین ۔ وتشك مع ذلك في وجود حقیقة موضوعیة یحكي عنها إدراكك وشعورك.[35]

والخلاصة أن هذه المیزة التي تمیز المعرفة التصدیقیة هي التي تجعل منها همزة الوصل بیننا وبین العالم الخارجي.[36]

١٢. وقد تسأل: أن الإدراكات والمعارف البشریة إذا كانت لها خاصة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها، إذن یجب أن تكون جمیع العلوم والمعارف صحیحة؛ لأنها كاشفة بحكم طبیعتها وذاتها، والشيء لا یتخلى عن وصفه الذاتي، مع أن جمیع مفكري البشریة یعترفون بأن كثیراً من المعلومات والأحكام التي لدى الناس هي إدراكات خاطئة، ولا تكشف شیئاً من الواقع، بل قد یجمع العلماء على الاعتقاد بنظریة ما ویتجلى بعد ذلك بكل وضوح أنها لیست صحیحة، فكیف یفهم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعیة من أن العلم یتمتع بالكشف الذاتي؟ وهل لهذه الفلسفة من مهرب إلا التنازل عن منح العلم هذه الصفة وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالیة أمراً محتماً؛ لأنا لا نستطیع أن نصل حینئذ إلى الواقع الموضوعي عن طریق أفكارنا ما دمنا قد اعترفنا بأنها لا تملك كشفاً ذاتیاً عن ذلك الواقع؟

ویجیب الصدر على ذلك بأن الإنسان بطبیعته یخرج من التصوریة إلى الموضوعیة بالعلم التصدیقي على أساس أن له خاصیة الكشف الذاتي، سواء أكان العلم مصیباً في الواقع أم مخطئاً، فإنه علم وكشف على كل تقدیر.[37]

ویوضح ذلك بقوله: یلزمنا أن نعرف قبل ذلك معنى قولنا: إن المعرفة تكشف عن الواقع الموضوعي، أو بعبارة أخرى معنى الكشف الذاتي للعلم؟ إن الكشف الذاتي للعلم معناه أن یرینا العلم متعلقه [= موضوعه] ثابتاً في الواقع الخارج عن حدود إدراكنا وشعورنا، فعلمنا بأن الشمس طالعة، وأن المثلث غیر المربع، یجعلنا نرى طلوع الشمس ومغایرة المثلث للمربع ثابتین في واقع مستقل عنا، فهو یقوم بدور المرآة، وإراءته لنا ذلك هي كشفه الذاتي، ولیس معنى هذه الإراءة أن طلوع الشمس موجود في الخارج حقاً، وأن مغایرة المثلث للمربع ثابتة في الواقع؛ فإن كون الشيء ثابتاً في الواقع غیر كونه مرئیاً كذلك.

وبذلك نعرف أن الكشف الذاتي للعلم لا یتخلف عنه حتى في موارد الخطأ والاشتباه، فإن علم القدماء بأن الشمس تدور حول الأرض كان له من الكشف الذاتي بمقدار ما لعلمنا بدوران الأرض حول الشمس من كشف، ومعنى أنهم كانوا یرون دوران الشمس حول الأرض أمراً ثابتاً في الواقع بصورة مستقلة عنهم، فوجود هذا الدوران بصورة موضوعیة كان مرئیاً لهم، أي أنهم كانوا یصدّقون بذلك وإن لم یكن ثابتاً في الواقع[38].

١٣. وقد تسأل أیضاً بأن المعارف التصدیقیة إذا كانت تخطئ ولم یكن كشفها الذاتي یصونها عن ذلك، فلماذا لا یجوز أن تكون جمیع معارفنا التصدیقیة خطأ؟ وكیف یمكننا أن نعتمد على الكشف الذاتي للعلم، ما دام هذا الكشف صفة لازمة للعلم في موارد الخطأ والصواب على حد سواء؟

وهذه المحاولة تختلف في هدفها عن المحاولة السابقة، فتلك المحاولة كانت تستهدف اعتبار المعارف البشریة أشیاء ذاتیة لا تشقّ لنا الطریق إلى الواقع الموضوعي.

وقد أجاب الصدر عن ذلك بإیضاح ما للمعارف التصدیقیة من كشف ذاتي تمتاز به عن التصور الخالص، في حین أن هذه المحاولة ترید حذف المعارف التصدیقیة بشكل نهائي من التفكیر البشري؛ لأنها ما دامت قد تخطئ، وما دام كشفها الذاتي لا یعني صحتها على الدوام، فلماذا لا نشك فیها ونتخلى عنها بأسرها؟ وعندئذ لا یوجد ما یضمن وجود العالم الموضوعي.[39]

ویرى الصدر أن الحل یكمن في الاعتراف بقاعدة أساسیة للمعرفة البشریة، تكون مضمونة الصدق بصورة ضروریة، فبطبیعة الحال أن التفكیر البشري لو لم یكن یملك عدة معارف مضمونة الصحة بصورة ضروریة، لكان هذا الشك لازماً ولا مهرب عنه، ولما أمكننا أن نعلم بحقیقة ۔ مهما كانت ۔ ما دام هذا العلم لا یستند إلى ضمان ضروري، وكان الخطأ محتملاً في كل مجال، ولكن الذي یقضي على هذا الشك ۔ كما یرى الصدر في المرحلة المتقدمة ۔ هو المذهب العقلي، فهو یقرّر وجود معارف أولیة مضمونة الصحة لا یقع فیها الخطأ مطلقاً، وإنما یقع أحیاناً في طریق الاستنتاج منها. وعلى هذا تنقسم المعارف البشریة ۔ كما سبق أن ذكرنا في الفترة (4) و(5) ۔ إلى معارف أولیة تتشكل منها القاعدة الرئيسیة للتفكیر، ومعارف ثانویة تستنتج من تلك القاعدة وهي التي یقع فیها الخطأ أحیاناً.[40]

١۴. عرفنا ۔ مما سبق ۔ أن المعرفة التصدیقیة هي التي تكشف لنا عن موضوعیة التصور، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في أذهاننا، وعرفنا أیضاً أن هذه المعرفة التصدیقیة مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضروریة. والمسألة الجدیدة التي یثیرها الصدر ۔ الآن ۔ هي مدى مطابقة الصورة الذهنیة ۔ فیما إذا كانت دقیقة وصحیحة ۔ للواقع الموضوعي الذي صدقنا بأنها تكشف عنه.

ویجیب الصدر عن هذه النقطة بأن الصورة التي نكوّنها عن واقع موضوعي معین فیها ناحیتان:

فهي من ناحیة أولى صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا، ولابد لأجل ذلك أن یكون فیها الشيء متمثلاً منها، وإلا لم یكن صورة له.

ولكنها من ناحیة ثانیة تختلف عن الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فیها ما یوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالیة والنشاط، فالصورة الذهنیة التي نكوّنها عن المادة أو الشمس أو الحرارة، مهما كانت دقیقة ومفصّلة، لا یمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي یقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنیة في الخارج. والعالم یمكنه أن یكوّن فكرة علمیة دقیقة عن المیكروب وتركیبه، ونشاطه الخاص وتفاعلاته مع جسم الإنسان، ولكن الفكرة مهما كانت دقیقة ومفصّلة، لا توجد فیها خواص المیكروب الخارجي، ولا یمكنها أن تؤدي نفس الدور الذي یؤدیه واقعها الموضوعي. والفیزیائي قد یكتسب مفهوماً علمیاً دقیقاً عن ذرة الرادیوم، ویحدّد وزنها الذرّي، وعدد ما تحویه من كهارب، وشحنات سالبة وموجبة، وكمیة الإشعاع الذي ینبثق عنها، ونسبته العلمیة الدقیقة إلى الإشعاع الذي ترسله ذرات الأورانیوم، إلى غیر ذلك من المعلومات والتفاصیل.. غیر أن هذا المفهوم مهما تعمقنا فیه، أو تعمّق في الكشف عن أسرار عنصر الرادیوم، لن یكتسب خواص الواقع الموضوعي، أي خواص الرادیوم، ولن یشعّ الإشعاع الذي تولده ذرات هذا العنصر، وبالتالي لن یتطور مفهومنا عن الذرة والإشعاع، كما تتطور بعض الذرات في المجال الخارجي[41].

وبذلك یمیّز الصدر بین الناحیة الموضوعیة للفكرة، والناحیة الذاتیة ۔ أي الناحیة المأخوذة عن الواقع الموضوعي ۔ والناحیة التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص، فالفكرة موضوعیة باعتبار أنها تمثّل الشيء فیها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي یمثل لدى الذهن في تلك الصورة یفقد كل فعالیة ونشاط مما كان یتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي. وهذا الفارق بین الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفیة الفارق بین الماهیة والوجود.[42]

١۵. أما إذا لم تكن الصورة الذهنیة دقیقة وصحیحة، فإن هذا لا یمكن أن یتخذ برهاناً على عدم وجود واقع موضوعي، وإنما یدلّ على عدم التكافؤ بین المعنى المدرك بالحس والواقع الموضوعي في الخارج، أي أن الإحساس لا یجب أن یكون مطابقاً كل المطابقة للأشیاء الخارجیة، وهذا شيء غیر إنكار موضوعیة الواقع الخارجي، فنحن حین نغمس یدینا بالماء الدافئ ۔ بعد أن نغمس إحداهما في ماء ساخن، والأخرى في ماء بارد ۔ فتحس إحداهما بالبرودة، وتحس الأخرى بالحرارة، لا نضطر لأجل استبعاد التناقض أن ننكر موضوعیة الإحساس بصورة مطلقة، بل یمكننا أن نفسّر التناقض على وجه آخر، وهو أن إحساسنا عبارة عن انفعالات نفسیة بالأشیاء الخارجیة، فلابد من شيء خارجي حینما نحس وننفعل، ولكن لیس من الضروري تكافؤ الإحساس مع الواقع الموضوعي؛ لأن الإحساس لما كان انفعالاً ذاتیاً فهو لا یتجرد عن الناحیة الذاتیة.[43]

١۶. والنتیجة المنطقیة للنقطة السابقة أن التصدیق بوجود الواقع الموضوعي للعالم تصدیق ضروري أولي[44]، فهو لأجل ذلك لا یحتاج إلى دلیل، ولكن هذا التصدیق الأولي إنما یعني وجود واقع خارجي للعالم على سبیل الإجمال. وأما الواقع الموضوعي لكل إحساس فهو لیس معلوماً علماً أولیاً، فإذن نحتاج إلى دلیل لإثبات موضوعیة كل إحساس بصورة خاصة، وهذا الدلیل هو مبدأ السببیة وقوانینها.[45]

وبعبارة أخرى إذا ثبت وجود معارف مضمونة الصدق في التفكیر البشري، فلا شك في أن من تلك المعارف معرفتنا بوجود العالم الموضوعي المستقل عنا؛ لأن العقل یجد نفسه مضطراً إلى التصدیق بوجود عالم خارجي على سبیل الإجمال، ورفض كل شك في ذلك، مهما وقعت من مفارقات بین حسه والواقع، أو بین فكره والحقیقة، بل یعد التشكیك في وجود العالم المستقل ضرباً من الجنون.[46]

ویستنتج من ذلك القضایا الثلاث الآتیة:

١. أن الإحساس وحده لا یكشف عن وجود واقع موضوعي؛ لأنه تصور، ولیس من وظائف التصور الكشف التصدیقي.

٢. أن العلم بوجود واقع للعالم ۔ على سبیل الإجمال ۔ حكم ضروري أولي لا یحتاج إلى دلیل، أي إلى علم سابق.

٣. أن العلم بوجود واقع موضوعي لهذا الحس أو ذاك، إنما یكتسب على ضوء مبدأ السببیة[47].

١٧. لكن إذا كانت المعارف الأولیة ضروریة، فكیف نفسر إذن عدم وجودها مع الإنسان منذ ولادته وحصوله علیها بعد ذلك؟ وبعبارة أخرى: إذا كانت تلك المعارف قبلیة فیجب أن توجد معه منذ ولادته، وإذا لم تكن قبلیة لزم أن یوجد لها سبب خارجي وهي التجربة، وهذا ما لا یوافق علیه العقلیون؟

ویجیب الصدر عن هذه الإشكالیة التي تكتنف ادعاء وجود معارف سابقة على التجربة [=قبلیة] بأن العقلیین حین یدعون أن تلك المعارف أولیة في العقل البشري، فإنهم یقصدون أن الذهن بمجرد أن یتصور المعاني التي تربط بینها تلك المعارف، فإنه یستنبط المبدأ الأول دون حاجة إلى سبب خارجي.

خذ مثلاً على ذلك مبدأ عدم التناقض ۔ والذي یعني أن الحكم التصدیقي بأن وجود الشيء وعدمه لا یجتمعان ۔ لا یوجد عند الإنسان لحظة وجوده الأولى؛ لأنه یتوقف على تصور الوجود والعدم وتصور معنى الاجتماع[48]، حیث إنه بدون تصور هذه المفاهیم لا یمكن التصدیق والحكم بأن الوجود والعدم لا یجتمعان؛ لأن تصدیق الإنسان بشيء لم یتصوره أمر غیر معقول. وقد ذكرنا فیما مضى أن التصورات الذهنیة ترد بأسرها إلى الحس، بشكل مباشر أو غیر مباشر.

إذن لابد أن یكتسب الإنسان بادئ ذي بدء عن طریق الحس مجموعة التصورات التي یتوقف علیها مبدأ عدم التناقض، لیمكنه بعد ذلك أن یحكم ویصدّق بهذا المبدأ، فتأخر ظهور هذا المبدأ عن لحظة وجود الإنسان وولادته لا یعني أنه لیس قبلیاً، ولا یعني أن هذا المبدأ لا ینبثق عن صمیم النفس الإنسانیة إلا لحاجة إلى سبب خارجي، وإنما هو قبلي وضروري، ونابع من النفس الإنسانیة بشكل مستقل عن التجربة، إلا أن التصورات الخاصة ۔ كتصور الوجود والعدم والاجتماع في مثالنا ۔ لیست سوى شرائط لوجود هذا المبدأ وصدوره عن النفس، ویمكن أن نشبّه ذلك بالنار وإحراقها، فكما أن إحراق النار فعالیة ذاتیة للنار، ومع ذلك لا توجد هذه الفعالیة إلا في ظل شروط معینة، مثل ملاقاة النار لجسم یابس، فكذلك المعارف الأولیة، فإنها فعالیات ذاتیة للنفس في الظروف التي تكتمل عندها التصورات اللازمة.[49]

ثم یعمق الصدر هذه النقطة بقوله:

إن المعارف الأولیة رغم أن الإنسان یحصّلها بالتدریج، إلا أن ذلك لا یعني أنها تحصل بسبب التجارب الخارجیة؛ لأن التجارب الخارجیة لا یمكن أن تكون المصدر الأساسي للمعرفة، وإنما التدرج هو باعتبار الحركة الجوهریة والتطور في النفس الإنسانیة، وهذا التطور الجوهري هو الذي یجعلها تزداد كمالاً ووعیاً بالمعارف الأولیة والمبادئ الأساسیة.

ویرى الصدر أن الاعتراض على المذهب العقلي بأنه: لماذا لم توجد المعارف الأولیة مع الإنسان لحظة ولادته؟ ینبئ ۔ في حقیقة الأمر ۔ على عدم الاعتراف بالوجود بالقوة، وبعدم الاعتراف باللاشعور الذي تدلّ علیه الذاكرة بكل وضوح.

إذن النفس الإنسانیة بذاتها تنظوي بالقوة على تلك المعارف الأولیة، والحركة الجوهریة یزداد وجودها شدة، حتى تصبح المدركات بالقوة مدركات بالفعل.[50]

والخلاصة أن الأفكار الفطریة موجودة في النفس بالقوة، وتكتسب صفة الفعلیة عندما تتطور النفس ویتكامل الذهن، والتصور الفطري لا ینبع من الحس، وإنما ینطوي في النفس لا شعوریاً، وعندما تتكامل النفس یصبح إدراكاً شعوریاً واضحاً، مثلها مثل المعلومات التي نستذكرها، فنثیرها من جدید بعد أن كانت موجودة بالقوة.[51]

١٨. بقي علینا أن ندرس من نظریة الصدر المتقدمة في المعرفة مشكلة التعمیمات الاستقرائیة، التي على أساسها تصاغ القوانین العامة. ودراستنا لهذه النقطة من نظریة الصدر المتقدمة ستكون الجسر الذي یمكننا من الانتقال إلى نظریته المتأخرة في المعرفة؛ لأنه من خلال معالجته لمشكلة التعمیمات الاستقرائیة، قام الصدر في كتابه (الأسس المنطقیة للاستقراء) بتقدیم نظریة جدیدة تفسر المعرفة البشریة.

المقصود بالاستقراء كل استدلال تجيء النتیجة فیه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوین ذلك الاستدلال، فیقال مثلاً: هذه القطعة من الحدید تتمدد بالحرارة، وتلك تتمدد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدد بالحرارة أیضاً، إذن كل حدید یتمدد بالحرارة. وهذه النتیجة أكبر من المقدمات؛ لأن المقدمات لم تتناول إلا كمیة محدودة من قطع الحدید: ثلاثة أو أربعة أو.. ملایین، بینما النتیجة تناولت كل حدید وحكمت أنه یتمدد بالحرارة، وبذلك شملت القطع الحدیدیة التي لم تدخل في المقدمات ولم یجر علیها الفحص.[52]

والسؤال الذي یثار في هذا المجال: ما هو المبرر الذي سوّغ لنا الانتقال من الخاص إلى العام في الاستقراء؟ فمن الناحیة الفلسفیة یمكن أن تثار عدة اعتراضات:

فأولاً: یجب على الدلیل الاستقرائي أن یثبت أن لكل ظاهرة طبیعیة سبباً [= مبدأ السببیة العامة] إذ بدون إثباته یصبح من المحتمل أن یكون وجود التمدد في الحدید غیر مرتبط بأي سبب، وإنما هو وجود تلقائي. وإذا جاز أن یكون وجوداً تلقائیاً بدون سبب، فلیس من الضروري أن یتكرر إذا حدثت الحرارة مرة أخرى في الحدید.

ثانیاً: إذا أتیح للدلیل الاستقرائي أن یثبت أن لكل ظاهرة طبیعیة سبباً [أي یثبت مبدأ السببیة العامة] فهذا یعني أن تمدّد الحدید الذي شوهد خلال التجربة مرتبط بسبب معین، ولكن ذلك لا یكفي لإثبات أن سبب التمدد هو الحرارة التي اقترنت بهذا التمدد في كل التجارب المتعاقبة؛ لأنا إذا نظرنا من زاویة السببیة العامة فحسب، نجد أن من الممكن أن یكون السبب الذي یرتبط به تمدّد الحدید شیئاً آخر، غیر تعرضه للحرارة؛ لأنه السببیة العامة تحكم بأن للتمدد سبباً، ولكنها لا تعیّن نوعیته.

ثالثاً: إذا أتیح للدلیل الاستقرائي أن یثبت السببیة العامة في الطبیعة، وأن یبرهن على أن الحرارة هي سبب التمدد في الحدید مثلاً في الحالات التي شملها الاستقراء، فیجب علیه أن یثبت أن هذا السبب سوف یظلّ في المستقبل وفي كل الحالات ۔ التي لم تشملها التجربة فعلاً۔ سبباً لتلك الظاهرة.[53]

ویعلّق الصدر في نظریته المتقدمة على مشكلة التعلیمات الاستقرائیة، بأن تلك المشكلة لا یمكن حلها إلا من خلال التسلیم بأصول عقلیة أولیة سابقة على التجارب؛ ذلك أن التجربة إنما یقوم العالم بها في مختبره على جزئیات موضوعیة محدودة، فیضع نظریة لتفسیر الظواهر التي كشفتها التجربة في المختبر وتعلیلها بسبب واحد مشترك، كالتعمیم القائل بأن (الحرارة هي سبب تمدّد الحدید) استناداً إلى عدة تجارب فسّرت بذلك، ومن حقنا على العالم الطبیعي أن نسأله عن كیفیة إعطائه للنظریة بصفة قانون كلي ینطبق على جمیع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أن التجربة لم تقم إلا على عدة أشیاء خاصة، ألیس هذا التعمیم یستند إلى القاعدة القائلة: (إن الحالات المتشابهة في الطبیعة تؤدي إلى نتائج متماثلة؟) وهنا یتساءل الصدر عن هذه القاعدة كیف توصّل إلیها العقل؟ فلا یمكن للتجریبیین هنا أن یزعموا أنها قاعدة تجریبیة، بل یجب أن تكون من المعارف العقلیة الأولیة السابقة على التجربة. ویدعم الصدر رأیه بالحجة التالیة: لو كانت هذه القاعدة مستندة إلى تجربة، فهذه التجربة التي ترتكز علیها القاعدة هي أیضاً لا تتناول بدورها إلا موارد خاصة، ولا یمكن من خلال موارد خاصة تأسیس قاعدة عامة إلا بعد التسلیم بمعارف عقلیة سابقة. إذن توجد معارف عقلیة سابقة على التجربة.[54]

والآن نتساءل: ما هي تلك المعارف التي یمكن من خلالها حل مشكلة التعمیمات الاستقرائیة وفقاً لنظریة الصدر المتقدمة في المعرفة؟ بالنسبة للمشكلة الأولى آمن الصدر ۔ كما المنطق الأرسطي قبله ۔ بمبدأ السببیة القائل: (إن لكل حادثة سبباً) بمعنى امتناع الصدفة المطلقة؛ ذلك أن الصدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالم الطبیعي أن یصل إلى تعلیل مشترك للظواهر المتعددة التي ظهرت في تجاربه.

وبالنسبة للمشكلة الثالثة آمن الصدر أیضاً ۔ كما آمن المنطق الأرسطي قبله ۔ بالقضیة القائلة: (إن الحالات المتشابهة في الطبیعة تؤدي إلى نتائج متماثلة) = مبدأ الانسجام بین العلة والمعلول، الذي یقرّر أن الأمور المتماثلة في الحقیقة لابد أن تكون مستندة إلى علة مشتركة.[55]

أما المشكلة الثانیة القائلة: كیف نستطیع أن نستدل بالاقتران بين ظاهرتین على السببیة بینهما، مع أن من المحتمل أن یكون اقترانهما مجرد صدفة؟ وإذا كان ذلك محتملاً فلیس من الضروري أن یتكرر اقتران إحدى الظاهرتین بالأخرى في المستقبل، وفي كل الحالات التي لم یشملها الاستقراء، فالمنطق الأرسطي حاول التغلّب علیها عن طریق افتراض قضية عقلیة قبلیة تنفي أن یكون اقتران الظاهرتین مجرد صدفة، ومفاد تلك القضیة بالتحدید: أن (الاتفاق لا یكون دائمیاً ولا أكثریاً) ففي رأي المنطق الأرسطي أن الدلیل الاستقرائي بعد أن یحصل خلال الاستقراء على عدد كبیر من الأمثلة، ینطلق من ذلك المبدأ العقلي، ویتخذ الشكل القیاسي في الاستقراء، فیقرر أن ظاهرة وجود الحرارة، وظاهرة تمدّد الحدید، قد اقترنتا خلال الاستقراء في مرّات كثیرة، وكلما اقترنت ظاهرتان بكثرة فإحداهما سبب للأخرى؛ لأن الاتفاق لا یكون دائمیاً ولا أكثریاً. ویستنتج من ذلك أن الحرارة سبب لتمدّد الحدید.[56] وعلى هذا الأساس یمكن القول بأن المنطق الأرسطي یؤمن بالاستقراء كأساس للیقین.[57]

وموقف الصدر في نظریته المتقدمة من المشكلة الثانیة یكتنفه المغموض؛ وحتى یتضح ذلك نضع نص الصدر أمامنا، حیث یقول: (إذا آمن العالم بهذه المعارف السابقة على التجربة ۔ أي مبدأ السببیة ومبدأ الانسجام بین السبب والمسبب بالإضافة إلى مبدأ عدم التناقض ۔ ثم أجرى تجاربه المختلفة.. استطاع أن يقرر في نهاية المطاف نظرية.. هذه النظریة لا یمكن في الغالب تقریرها بشكل حاسم وصورة قطعیة؛ لأنها إنما تكون كذلك إذا أمكن التأكد من عدم إمكان وجود تفسیر آخر لتلك الظواهر وعدم صحة تعلیلها بعلة أخرى. وهذا ما لا تحقّقه التجربة في أغلب الأحیان؛ ولهذا تكون نتائج العلوم الطبیعیة ظنیة في أكثر الأحایین، لأجل نقص في التجربة وعدم استكمال الشرائط التي جعل منها تجربة حاسمة.[58]

فالصدر لم یشر إلى المبدأ الذي تمسك به المنطق الأرسطي لحل المشكلة الثانیة القائل بأن (الاتفاق لا یكون دائمیاً ولا أكثریاً). فهل آمن الصدر بأنه مبدأ قبلي كما یدّعي المنطق الأرسطي؟ فإذا كان الجواب بالإیجاب، یمكن عند ذلك تفسیر قوله بأن القضیة التجریبیة لا یمكن في الغالب تقریرها بشكل حاسم، بأنه یقصد بذلك الاستقراء الذي یكون مجرد تجمیع عددي للأمثلة، والذي لم یضاف إلیه المبدأ العقلي المسبق القائل بأن (الاتفاق لا یكون دائمیاً ولا أكثریاً) أما إذا أمكن تطبیق ذلك المبدأ العقلي القبلي، فسیتألف عندئذ قیاس منطقي كامل یستمدّ صغراه من الأمثلة والشواهد، وكبراه من ذلك المبدأ العقلي، ویصل في النتیجة إلى أن إحدى الظاهرتین المقترنتین في الاستقراء هي السبب للأخرى، وما دامت هي السبب فسوف تقترن بها دائماً في جمیع الحالات.

لكن الصدر لم یشر إلى ذلك صراحة في كتابه فلسفتنا، ونحن لم نظفر بدلیل في ذلك الكتاب على إیمانه بذلك المبدأ. وعلى أي حال لعل عدم وضوح الصدر في حل المشكلة الثانیة ناتج من عدم وضوح الحل في ذهنه آنذاك، الأمر الذي جعله یركّز جهوده المنطقیة لحلها في كتابه الجدید (الأسس المنطقیة للاستقراء) حیث اعترف صراحة بأن ذلك المبدأ لیس قبلیاً، فانتقل بذلك إلى نظریة جدیدة في المعرفة. ونستنتج مما مضى أن الصدر كان یرى أن الإیمان بأولیة مبدأ السببیة العامة والإیمان بأولیة مبدأ الانسجام بین السبب والمسبب ۔ بالإضافة إلى مبدأ عدم التناقض بطبیعة الحال ۔ كافیاً لحل مشكلة التعمیمات الاستقرائیة.[59]

خاتمة

هنا نقطة بالغة الأهمیة لابد من التعرض لها قبل أن نختم البحث، وهي التعرف على الفوارق بین القاعدة الأساسیة الأولیة للمعرفة البشریة التي یؤمن بها المنطق الأرسطي [= المعارف الضروریة أو البدیهیة] والقاعدة الأساسیة الأولیة للمعرفة البشریة التي آمن بها الصدر في نظریته المتقدمة على ضوء ما تقدم.

١٩. المنطق الأرسطي یصنّف المعارف الأولیة [= الضروریة أو البدیهیة] إلى ستة أصناف:

١- الأولیات: وهي قضایا یصدّق بها العقل لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها، بأن یكون تصور الطرفین كافیاً في الحكم والجزم بصدق القضیة، من قبیل قولنا: (النقیضان لا یجتمعان) و(الكل أعظم من الجزء).

٢- الفطریات: وهي قضایا لا یكفي تصور طرفیها لتصدیق العقل بها كالأولیات، بل لابد لها من وسط، إلا أن هذا الوسط لیس مما یذهب عن الذهن، فكلما حضرت القضیة الفطریة في الذهن اكتسب التصدیق في العقل فوراً؛ لحضور الوسط معه، مثل حكمنا بأن الاثنین نصف الأربعة؛ لأن الأبعة تنقسم إلیه وإلى قسم آخر یساويه، وكل ما ینقسم عدد إلیه وإلى قسم آخر یساویه فهو نصف ذلك العدد، فالاثنان نصف الأربعة.

٣- المحسوسات [= المشاهدات]: وهي قضایا یحكم بها العقل بواسطة الحس، ولا یكفي فیها تصور الطرفین. والحس على قسمین:

أ ۔ الحس الظاهر: كالحكم بأن هذه النار حارة، وأن الشمس مضیئة، وتسمّى (حسیات).

ب ۔ الحس الباطن: كالعلم بأن لنا فكراً وألماً وخوفاً ونحو ذلك، وتسمّى (وجدانیات).

۴- التجربیات: وهي قضایا یحكم العقل بها بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا، فیحصل بتكرر المشاهدة ما یوجب أن یرسّخ في النفس حكم لا شك فیه، كالحكم بأن كل نار حارة، وأن المعدن یتمدّد بالحرارة.

۵- المتواترات: وهي قضایا یحكم بها العقل بواسطة إخبار عدد كبیر یمتنع تواطئهم على الكذب، كالعلم بوجود البلاد البعیدة التي لم نشاهدها، أو الأمم والأشخاص الذین لم نعاصرهم.

۶- الحدسیات [= في المصطلح الحدیث الملاحظة المنظمة]: وهي قضایا یحكم بها العقل على أساس حدس قوي من النفس یزول معه الشك، مثل حكمنا بأن القمر مستفاد نوره من نور الشمس. ومنشأ الحدس الذي یسبب هذا الحكم هو اختلاف تشكّل نور القمر عند اختلاف نسبته من الشمس قرباً وبعداً.[60]

ویذهب المنطق الأرسطي إلى أن كل قضیة مستدلة بمقدمات تنتمي إلى هذه الأصناف الستة فهي قضیة یقینیة نظریة. أما هذه الأصناف الستة ۔ بحد ذاتها ۔ فهي قضایا یقینیة ضروریة. إذن القضایا الیقینیة الستة تشكّل القاعدة الرئیسیة للمعرفة الجدیرة بالثقة والواجبة القبول. والقضایا المستدلة والمستنتجة منها بصورة مباشرة أو غیر مباشرة هي البناء العلوي ۔ أو الفوقي ۔ في تلك المعرفة. ویستمد كل استنتاج في هذا البناء مبرره من التلازم بین التصدیق والیقین بالقضیة الفوقیة، والتصدیق والیقین بمجموعة من القضایا السابقة المستدل بها.[61]

أما المعارف الأولیة [= الضروریة أو البدیهیة] التي آمن بها الصدر، فإنها تقتصر على الأولیات والفطریات، ویلحق بهما المحسوسات بالحس الباطن [= الوجدانیات]. أما المحسوسات بالحس الظاهر فهي تختلف عن قضایا الحس الباطن؛ لأننا بالحس الظاهر نرید أن نثبت الواقع الموضوعي، أي أن هناك ۔ حینما أرى البرق ۔ برقاً موضوعیاً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي، وهذا لا یكفي فیه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر.[62]

وهنا یفرّق الصدر بین أمرین: الجانب الذاتي من الحس الظاهر، وهو رؤیتي ۔ أنا ۔ للبرق، والجانب الموضوعي من الحس الظاهر، وهو كون هذا البرق حادثة موضوعیة. الجانب الذاتي من الحس الظاهر یلحق أیضاً بالأولیات والفطریات في كون إدراكه ضروریاً. أما الجانب الموضوعي فهنا (نفصّل بین إثبات أصل الواقع الموضوعي المستقل عنا، وإثبات التفاصیل التي نحس بها، من طول أو عرض أو شكل أو هیئة وما إلى ذلك. أما الأول [= أصل الواقع الموضوعي] فهو أیضاً كالأولیات مدركاً بالبداهة.. وأما الثاني فلیس مضمون الحقانیة بالذات، ویقع فیه الخطأ كثیراً)[63] لذا قلنا:إن الصدر في نظریته المتقدمة كان یرى أن العقل مضطر إلى التصدیق بوجود عالم خارجي على سبیل الإجمال[64] في حین أن التصدیق بوجود واقع موضوعي لهذا الحس أو ذاك لیس مدركاً بالبداهة. أما التجریبیات والمتواترات والحدسیات فإنها كالقضایا المحسوسة بالحس الظاهر، لیست ضروریة أو بدیهیة كما یدّعي المنطق الأرسطي، بل قد تخطئ وقد تصیب.[65]

إذن القضایا الیقینیة التي تشكّل القاعدة الرئیسیة للمعرفة الجدیرة بالثقة والواجبة القبول ۔ أي المعارف الأولیة ۔ هي الأولیات والفطریات وما یلحق بهما فقط.

فهذه هي القضایا الیقینیة الرئیسیة التي تشكّل المنطلقات الأولیة للیقین في المعرفة البشریة، وتضع حداً وبدایة للتسلسل في استنتاج القضایا بعضها من بعض، بالإضافة إلى ذلك هناك القضایا المستدلة والمستنتجة منها بصورة مباشرة أو غیر مباشرة، أي المعارف الثانویة؛ ولكي یكون الاستدلال صحیحاً لابد أن تكون المقدمات من هذه القضایا أو تلك.[66]

كتب بتاریخ 1420ق

الموافق 1999م

الشكل رقم (1)

الضروریات أو البدیهیات في المنطق الأرسطي

الشكل رقم (2)

الضروریات أو البدیهیات في نظریة الصدر المقدمة في المعرفة

[1]. استفدنا أيضاً في خاتمة البحث من بحوثه الأصولية التي ألقاها على تلامذته ۔ وبالتحديد بحث حجية القطع الذي ألقي سنة 1383 ۔ 1963م ۔ في الدورة الأولى؛ لأنها تعبّر عن هذه المرحلة أيضاً. وقد كتبها تلميذه كاظم الحائري.

[2]. المنطق، محمد رضا المظفر، ص 16.

[3]. فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص 58 ۔ 59.

[4]. ويعبّر عنها بالمعقولات الأولية والمعقولات الثانوية.

[5]. فلسفتنا، ص 68 ۔ 69.

[6]. م. ن، ص 69.

[7]. م. ن، ص 70.

[8]. م. ن، ص 162.

[9]. المنطق، ص 21.

[10]. فلسفتنا، ص 71.

[11]. الأسس المنطقیة للاستقراء، محمد باقر الصدر، ص 126.

[12]. فلسفتنا، ص 71.

[13]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 126.

[14]. فلسفتنا، ص 71.

[15]. م. ن، ص 72.

[16]. م. ن، ص 71.

[17]. یصطلح الصدر على هذه العملیة بالتوالد الموضوعي، لتمییزها عن عملیة التوالد الذاتي. أما الفكر أو التفكیر فهو وإن كان معناه مرادف لعملیة التوالد الموضوعي في النظریة المتقدمة، إلا أنه سوف یشمل بعد ذلك عملیة التوالد الذاتي أیضاً. وعلى هذا فالفكر أو التفكیر یعني في نظریة الصدر المتأخرة عملیتي التوالد الموضوعي والذاتي معاً.

[18]. لمزید من التوضیح راجع: المنطق، محمد رضا المظفر، ص 23 ۔ 24.

[19]. فلسفتنا، ص 71 ۔ 72.

[20]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 124 ۔ 125.

[21]. م. ن، ص 126.

[22]. فلسفتنا، ص 162.

[23]. م. ن، ص 164 ۔ 165.

[24]. لاحظ أن مبدأ السبببیة یعتبر في نظریة الصدر المتقدمة مبدأ صادق بالضرورة على نحو قبلي، راجع: م. ن، ص 310، ویقول أیضاً: (إذا انهار مبدأ العلیة انهارت جمیع العلوم الطبیعیة)، راجع: م. ن، ص 79؛ لكن في المرحلة المتأخرة سوف یعتبر من الناحیة القبلیة مبدأ محتملاً فقط، والتجربة هي التي تؤكد صدقه.

[25]. لاحظ أن الصدر یفسر العملیة التجريبیة التي یقوم بها العالم الطبیعي على أنها تطبیق لمبدأ عقلي قبلي، في حین أنه سیفسره في المرحلة المتأخرة على أساس أنها عملیة استقرائیة ولیست قیاسیة.

[26]. فلسفتنا، ص 164.

[27]. م. ن، ص 165.

[28]. م. ن، ص 163. لاحظ أن الصدر سوف یفسر الأخطاء الواقعة في العلوم الطبیعیة في المرحلة المتأخرة إلى عدم توفر الشروط اللازمة لنجاح الدلیل الاستقرائي. راجع: الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 315.

[29]. في المرحلة المتقدمة كان الصدر یرى أن إثبات العلة الأولى للعالم یقتصر على الدلیل العقلي، في حین یرى في المرحلة المتأخرة بالإضافة إلى صحة إثبات العلة الأولى بواسطة الدلیل العقلي، صحة إثباته بواسطة الدلیل الاستقرائي أیضاً.

[30]. فلسفتنا، ص 248 ۔ 252.

[31]. م. ن، ص 163.

[32]. م. ن، ص 165.

[33]. م. ن، ص 107.

[34]. ویسمّى أیضاً بالمعقول الأولي.

[35]. فلسفتنا، ص 125 ۔ 126.

[36]. م. ن، ص 125.

[37]. المقصود بالعلم هنا ما یرادف بالتعبیر المنطقي الیقین، وبالتعبیر الأصولي ما یرادف القطع.

[38]. فلسفتنا، ص 127 ۔ 129.

[39]. م. ن، ص 129.

[40]. م. ن، ص 129 ۔ 130. ومن هذه المعارف الأولیة، مبدأ الانسجام بین العلة والمعلول، مبدأ عدم التناقض، راجع: ص 83.

[41]. م. ن، ص 242 ۔ 243.

[42]. م. ن، ص 165 ۔ 166.

[43]. م. ن، ص 123.

[44]. لاحظ أن الصدر في المرحلة المتأخرة لا یؤمن بأن التصدیق بوجود واقع موضوعي للعالم تصدیق ضروري أولي، ولو على سبیل الإجمال، بل یستعین في إثبات ذلك بالدلیل الاستقرائي.

[45]. فلسفتنا، ص 304.

[46]. م. ن، ص 130 ۔ 131.

[47]. م. ن، ص 304 ۔ 305.

[48]. وهي أمثلة للمعقولات الفلسفیة الثانویة.

[49]. فلسفتنا، ص 87 ۔ 88.

[50]. م. ن، ص 88 ۔ 89 ولمزید من التفصیل حول الحركة الجوهریة، راجع: ص 233 ۔ 235، أیضاً: ص 391 ۔ 392.

[51]. م. ن، ص 63.

[52]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 6 ۔ 7.

[53]. م. ن، ص 25 ۔ 27.

[54]. فلسفتنا، ص 82 ۔ 83.

[55]. م. ن، ص 83، أیضاً انظر الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 27 ۔ 28.

[56]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 31.

[57]. م. ن، ص 32.

[58]. فلسفتنا، ص 83 ۔ 84.

[59]. م. ن، ص83.

[60]. لمزید من التفصیل حول هذه القضایا راجع: المنطق، محمد رضا المظفر، ص 281 ۔ 289.

[61]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 376 ۔ 377 وانظر الشكل رقم 1.

[62]. م. ن، ص 415.

[63]. مباحث الأصول، محمد باقر الصدر، القسم الثاني، ج 1، ص 494 ۔ 495.

[64]. فلسفتنا، ص 131، أیضاً ص 304.

[65]. مباحث الأصول، القسم الثاني، ج 1، ص 495 ۔ 496.

[66]. الأسس المنطقیة للاستقراء، ص 375 ۔ 377 وانظر الشكل رقم 2.