من الذاكرة

محمد حسين مولوي

بعد أن كلّفني السادة المشرفون على المؤتمر العالمي للشهيد الصدر(قده) بالعمل على مراجعة المقالات التي كتبت حول الشهيد وضبط نصوصها، صرتُ أفكر في أن أدون ما يخطر في بالي وما تختزنه ذاكرتي من مواقف وأحداث عشناها في العراق، وكان سيدنا الشهيد هو المثل الأعلى فيها.

ولا ننسى إذ كنا شباباً ندرس في المدارس الإعدادية إذ اقترح علينا أحد إخواننا أن نتدارس كتاب (اقتصادنا) في كل يوم ساعة وبصورة سرية، بعيداً عن أعين جواسيس النظام العراقي، ليكون هذا الكتاب زاداً فكرياً لنا في مقارعة المارد الشيوعي بصورة خاصة والفكر الاشتراكي بصورة عامة، وكلما توغلنا في الدرس كنا نزداد شوقاً لرؤية بطل الساحة الإسلامية، كنا نرى صورته على غلاف الطبعة الأولى أو الثالثة من الكتاب ولا نكاد أن نصدق أن شاباً بهذا العمر يستطيع أن يقارع الفكر الاشتراكي ويتحداه ، فقد كان السيد الشهيد يطرح الفكر الماركسي كما هو، حتى يتخيل الإنسان أن الشهيد كان ماركسياً ودرس الفكر الماركسي بدقة متناهية، بل ويطرح فيه أفكاراً ماركسية هي غائبة حتى عن أذهان الماركسيين أنفسهم، ثم يمسك المعول ليهدم صَرح ما بَنَوه، ويثبت أن هذا البناء قد أسس على شفا جرف هار، ليدحضه بالأدلة العلمية التي لم تترك مجالاً لأي ماركسي ذي ضمير حي، إلا واستسلم لقوة الدليل ووضوحه.

وكنا آنذاك قد درسنا الجزء الأول منه وشيئاً من الجزء الثاني، ليكون سلاحنا الذي نواجه به المد الشيوعي في السبعينات ولا زلت أذكر الحوار الذي جرى بيني وبين أستاذي مدرس اللغة العربية والدين _ وكان شيوعياً يدرسنا مبادئ الدين الإسلامي _ حيث أشكلت عليه أولاً بأنكم تعتقدون بأن الدين أفيون الشعوب فكيف تدرّسوه، ثم شرعت في بيان نظرية المادية التاريخية وبدأت بتنفيذها وأنا أتذكر كل ما درسته في كتاب اقتصادنا، حتى انتهى وقت الدرس فقال لي الأستاذ: إنك شاب مثقف فأجبته: أن هذا ليس مهماً يا أستاذ، بل المهم أن نصل أنا وأنت إلى النتيجة.

وهكذا كان كتاب اقتصادنا وفلسفتنا والمدرسة الإسلامية وغيرها هو الزاد الذي يتزود به كل الشباب الرسالي في مقارعة المذاهب الفكرية المتنوعة.

وقد حقق الله تبارك وتعالى الأمنية واكتحلت نواظرنا برؤية الطلعة البهية لإمامنا الصدر، إذ دخلنا عليه في أحد الأيام وفي أذهاننا جملة من الأسئلة، إلا أن هيبته وجلاله أنستنا كل شيء، فصرنا نتأمل فيه، كل ذلك والسيد الشهيد معروف بتواضعه للقاصي والداني والقريب والبعيد، فهو لا يعرف للشأنية معنى في حياته، بل يتعامل مع الجميع على أنهم أبناء الإسلام، ويصبو إلى بناء جيل مسلم يأخذ على عاتقه حمل راية الإسلام في القرن الحادي والعشرين، وها هم أبناؤه المخلصون منتشرون في كل بقاع العالم يحملون رسالة الصدر، رسالة التشيع الحقيقي الذي كافح الصدر وجاهد من أجله.

ومن الأحداث الطريفة في سلوكه ما نقله أحد الطلبة الذي كان قد تشرف بزيارة الشهيد، أنه دخل عليه أحد البراعم المؤمنة الذي قد يكون عمره ثلاثة عشر سنة، وألقى التحية على الإمام الشهيد، فماذا كان رد الشهيد؟ إنه قام إجلالاً واحتراماً لهذا الطفل، الأمر الذي جعل كل الجالسين يقومون أيضاً لهذا الطفل، ثم رحب به السيد الشهيد بكلماته المعروفة: أهلاً عمي، أهلاً ولدي، تفضل… فطلب من السيد الشهيد أن يعطيه كتاب تعليم الصلاة، فأمر السيد أن يعطى ما يريد.

إن هذه السلوكية قد تثير فينا العجب، لأننا لم نألفها، ولم نألف أن نرى المرجع يفعل هكذا، لكن العجب كل العجب أننا نقرأ ذلك في خلق رسولنا الكريم ولا نعمل به!

أ وليس كان رسول الله(ص) يسلّم على الصبيان! أ وليس كان أمير المؤمنين علي(ع) في أصحابه كأحدهم!

إنها وقفة تأمل مع أنفسنا لنسألها أين نحن من هذا الخلق العظيم، أ ليست الأخلاق عبارة عن السمات الروحية التي ينبغي أن نتصف بها نحن طلبة العلوم الإسلامية؟ أ ليس التعاليم الإسلامية تُصنَّف إلى أحكام وعقائد وأخلاق؟!

والجواب متروك لأنفسنا في خلواتها، عسى أن نصحو ونكون صدريين علماً وخُلقاً وسلوكاً وعاطفة.

ومن الذكريات الجميلة أننا كنا في النجف الأشرف عندما كان سيدنا الشهيد يلقي محاضراته في التفسير الموضوعي، إلا أن هناك موانع حالت بيننا وبين حضورها، فقام أحد الناشطين بمهمة تسجيل المحاضرات مباشرة، ثم يعطينا الأشرطة لنسجلها، وهنا أتذكر موقفاً عندما كنت في أحد الأقسام الداخلية، وكنت قد أحضرت أربع مسجلات لتسجيل المحاضرات، وكنت في الطابق العلوي، إذ دخل علينا أحد المسؤولين البعثيين، وادعى أنه جاء لزيارة الطلاب وتفقدهم في الليل، فعندما طرق الباب نبح الكلب، إشعاراً بأن هناك شخص غريب في الباب، فما كان من الشباب إلا وأداروا موجات الراديو صوب الإذاعة العراقية، حيث الغناء، بعدما كانوا يستمعون إلى إذاعة الجمهورية الإسلامية الفتية، فبهت المسؤول البعثي وكان قد قيل له، إن هؤلاء خمينيون! أما أنا فرُحت أدعو الله أن ينجينا من هذا المجرم، وألا يصعد إلى الطابق الثاني، وفعلاً انصرف عنا بقوة الله ومشيئته.

ومن الأمور التي تدل على اهتمام السيد الشهيد المتزايد بالشريحة الطلابية أنه دخل عليه مجموعة من الشباب المتحمسين لخدمة الإسلام، وسألوه حول كيفية التأثير بالأخرين ودعوتهم إلى الإسلام، وما هو الأسلوب الأمثل في ذلك[1]؟

فما كان من السيد الشهيد إلا أن يرد عليهم بما يشفي غليلهم ويحدد لهم أن المرحلة الأولى هي مرحلة البناء بناء العقيدة، وفي هذه المرحلة يحتاج من الداعية المسلم أن يبين للناس حقيقة الإسلام ويطرحه بأمثل أسلوب، حتى يصل الآخر إلى القناعة، لتبدأ مرحلة السلوك، فما فائدة الأومر والنواهي إذا لم يعتقد الإنسان بها، وهذا الأسلوب أسلوبٌ قرآني <ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ>.[2]

فالحكمة تقتضي أن نُثبت القناعة في نفوس الآخرين، الذين عاشوا بعيدين عن جوهر الإسلام، ثم نطلب منهم أن يسيروا على خطاه، فقد نقل عن رسولنا الكريم(ص) أنه جاء إليه شاب وقال: إني لا أستطيع أن أصلي أكثر من ركعتين، فلم يطلب منه النبي أكثر من ذلك؛ لأنه كان يتأمل منه أن يذوق حلاوة الإيمان بهاتين الركعتين، ثم يندفع ذلك الشاب بنفسه لأداء التكاليف الإلهية، بل والنوافل والمستحبات.

ولعل ما كان يصدر في النجف الأشرف من كراسات تحمل عنوان (مرحلة البناء) كانت تصب في هذا المعني، فقد انبرى جمع من العلماء الواعين لكتابة هذه الكراسات، من أمثال آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي، والمرحوم آية الله محمد مهدي شمس الدين والحجة الشيخ محمد علي البقّال، والمرجع الشهيد محمد الصدر، و غيرهم  ممن لم تسعفني الذاكرة على استحضار أسمائهم.

وكانت كل تلك الكتابات تعرف العقيدة الإسلامية، وتزيح ما علق عليها من غبار العصور المتتالية؛ لأن المسلم لا يفهم من الإسلام إلا الإسلام الرسمي الذي تقرره المناهج الحكومية، ويتصور أن الإسلام عبادة وطقوس، وأن مهمة رجل الدين هي الصلاة على الموتى والطلاق والزواج.. .

إن القائد الحقيقي هو الذي يعيش هموم الأمة ويسعى لحل مشاكلها، فقد كان الإمام الشهيد مفزعاً للمغمومين وملاذاً للمؤمنين وكهفاً.

كان لي صديق مؤمن في السبعينات، وكان يعاني من مشاكل في داخل بيته، وطالما كان يشكو لي سوء معاملة أهله بما فيهم أبويه، فقد كانوا يضايقوه حتى في أوقات صلاته، وكنت أواسيه وأبين له أن معظم المتدينين يعيشون نفس المشكلة مع أهليهم، فهناك بعض البيوت تجمع المتناقضات، فيها المتدين والشيوعي والبعثي، فلماذا هذا الهم، فالمؤمن إذا ابتلي ازداد إيماناً وتألقت روحه.

لكن مع كل ذلك لم ينفع العلاج، فصمم ذلك الصديق أن يفزع إلى الإمام الشهيد ويشكو له ويبثه أحزانه، يقول: وصلت إلى بيت الإمام الشهيد بعد الغداء، وهو وقت استراحة الناس وقيلولتهم، فطرقت الباب، ففتح السيد الشهيد البابَ بنفسه وهو يرتدي القميص والسروال فقط، ورحب بي وأدخلني إلى داخل الدار، وبدأت أُفرغ همومي والسيد الشهيد متوجه لي بكله، رافعاً يده بالدعاء، ولا زلت أتكلم حتى انتهيت من كلامي، فأحسست أنه لا مشكلة عندي، وعلّمني دعاءاً من أربعة كلمات، أردده كذا مرة في اليوم، وها أنذا أتمتع بطمأنينة واستقرار نفسي والحمد لله.

نعم، إنها أخلاق القائد الرسالي الذي ذاب في حب الله(عز)، إنها أخلاق الأنبياء والرسل الكرام، فرحماك يا سيدي يا أبا جعفر، وسلام عليك يوم أيقظتنا وسرعان ما رحلتَ عنا، وسلام على روحك الطاهرة ونفسك الزكية، وسلام عليك وأنت في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ورزقنا الله تعالى زيارة مشهدك في الدنيا ورؤيتك في الآخرة، إنه سميع الدعاء.

[1]. كانت هذه الأسئلة وأجوبتها مدونة عندي في العراق، وكنت قد احتفظت بها، إلا أن ظروف الهجرة جعلتني أترك تلك الأوراق في البيت، ولا أعلم مصيرها.

[2]. النحل، 125.