صدر الدين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
الحديث عن الشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الصدر حديث ذو شجون فهو يحكي قصة هذه الأمة – أمة الإسلام – في مرحلة من تاريخها القاسي المعاصر، الذي كدنا أن نعيش حلقاته اليوم، لولا جهاد أولئك العلماء المجاهدين الذين قارعوا الظلم والجور بالفكر النيّر والتصدي الثوري الفاعل، ليكون القرن الخامس عشر الهجري قرنا يشعّ بالإسلام ديناً وفكراً على قاعدة القسط والعدل.
فما زال الشهيد الصدر رغم السنوات الطويلة التي أعقبت غيابه عن مسرح الحدث مجهولاً إلى حد كبير على مستوى الأمة والعالم بصفته عالماً دينياً ومرجعاً للفكر والسياسة بل بصفته شخصية فكرية عالمية.
فقد مثل الشهيد الصدر في فكره العقيدي والسياسي وفي بحوثه الفلسفية والاقتصادية وفي حركته الثائرة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة.
كتب الشهيد الصدر للفكر عن الفلسفة الإسلامية يفنّد من خلال ذلك الفلسفات المادية والإلحادية، وكتب عن الاقتصاد الإسلامي مستنبطاً ومقارناً مع المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية التي طغت على عالمنا المعاصر، وكتب عن المرجعية ودورها ومستقبلها وعن الحكم والثورة وكتب في مجالات كثيرة كما لم يكتب غيره فهو يبدو من هذا الجانب في عمره القصير متعدد الاختصاصات متعدد الاهتمامات واسع الطاقة حتي أنك تراه يجمع في شخصه العالم التقليدي والقائد الثوري والمفتي الشرعي والمحاضر الحوزوي والمرجع الاجتماعي والكاتب الفذ.. شأنه في ذلك شأن الرجالات العظيمة التي ساهمت في توجيه حركة التاريخ والتطور.
فماذا نقرأ في كل هذا الفكر وهذا الشمول؟
للإجابة على هذا السؤال سنحاول أن نطلّ على المنطلقات الفكرية والأهداف البعيدة للشهيد الصدر من خلال إثارة بعض النقاط:
أولاً: آمن الشهيد الصدر بالإسلام ديناً وفكراً وفلسفة حياة وأدرك ذلك بشكل تام وشامل، فأحاط بكل جوانب الموضوع، فآمن أن الإسلام هو الأطروحة التي تمثل الفكر الحق والقانون المؤسس لحياة كريمة عادلة ومسلكاً روحياً سامياً على صعيد الفرد والمجتمع والوطن والعالم وعلى صعيد الفلسفة والاقتصاد.. آمن بذلك فكراً وروحاً ومسلكاً، فقد كان الشهيد الصدر واحداً من ثلة من علماء الإسلام المجاهدين الذين حفل بهم القرن الرابع عشر الهجري والذين تميزوا بشمولية النظرة ووضوح الرؤية للأطروحة الإسلامية من حيث الخطوط العامة والتفاصيل الدقيقة بما لم يتوفر لكثير من العلماء في أنحاء العالم الإسلامي. وهكذا نجد هذه الشمولية في الطرح وتلك الدقة في البحث في شتى مجالات العلوم التي طرق بابها الشهيد الصدر!.
ثانياً: تمثل الشهيد الصدر دور العلماء على أنه دور قيادة المجتمع ضمن مفهوم شامل للقيادة والمرجعية في إطار النيابة العامة عن الإمام الحجة صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف، بعيداً عن الفهم القاصر لدور العلماء على الحد الأدنى من سلّم القيادة كإدارة الحوزات العلمية وإلقاء الدروس الحوزوية وإنشاء المكتبات العامة ورعاية الفقراء والمساكين والأيتام وما إلى ذلك من القضايا الحسبية بل إن القيادة في فهم السيد الشهيد تتمثل أولاً في المسؤولية الجليلة في تحصين الأمة وحفظ الشريعة أو العمل على تطبيقها حتى تسود المجتمع الإسلامي وتعم العالم.
فهو قال في بعض كتاباته:
حينما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي.. يراد الإيحاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها الإمام المهدي تجسدت فعلاً في القائد المنتظر.. وأن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.[1]
وقال محدداً دور مرجعية العلماء:
وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية، كما كانت الإمامة امتداداً بدورها للنبوة، وتحملت المرجعية أعباء هذه الرسالة العظيمة، وقامت على مر التاريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو التمهيد له بطريقة وأخرى.[2]
لقد أولى الشهيد الصدر هذه الناحية اهتمامه الأبرز وما كتاباته لمعالجة موضوع البنك في الإسلام ومحاولته وضع نظرية عامة للاقتصاد الإسلامي وفق منهج علمي أكاديمي حديث وكذا دراسته لموضوع نظرية المعرفة في الإسلام ومقارنتها بالنظريات الفلسفية السائدة في عالمنا المعاصر إلا حلقة في هذا المجال وتأسيساً للإطار الفلسفي والاقتصادي والفكري الذي سيقوم على أساسه المجتمع والدولة والحكم الإسلامي في المرحلة القادمة.
وقد قدر للشهيد السعيد أن يشهد في ثورة الإسلام في إيران بقيادة الإمام الخميني! بداية لنضوج المرحلة وتحقق الهدف فكتب في آخر حياته الشريفة عن دستور الجمهورية الإسلامية وأجاب شارحاً ومنظّراً عن كثير من التساؤلات التي راودت أذهان ثلة من العلماء حول الحكم والدولة وخلافة الإنسان في الأرض ضمن سلسلة من الكتابات نشرت تحت عنوان «الإسلام يقود الحياة» حينها قال قولته الشهيرة: «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام».
ومن هذا الباب أيضاً حاول الشهيد الصدر التنظير لأطروحة المرجعية الرشيدة – المرجعية المؤسسة العالمية – على أساس رؤيته العامة لدور المرجع والمرجعية فحدد لها نقاطاً خمسة تبدأ بتثقيف الأمة وخلق تيار في داخلها يتبنى الإسلام فلسفة ومنهجاً للحياة و«إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعية وتوسيع نطاق الفقيه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مد كل جوانب الحياة بالتشريع وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة» وتنتهي بإعطاء مؤسسة المرجعية وشخص المرجع صفة القيادية في الأمة والقيمومة على العمل الإسلامي على صعيد العالم كله.
إن هذه الرؤية لدور المرجعية تنبع من مراقبة السيد الشهيد للواقع الذي عاصره وتصدى له لاسيما لجهة التأثير الواسع للفكر المادي والإلحادي – الذي تمثل بالمذهبين الشيوعي والرأسمالي – على قطاعات واسعة من المثقفين من أبناء الإسلام، مع اعتقاد راسخ ورؤية واضحة بأن الفكر الإسلامي قادر على الإطاحة بهذا الفكر المادي الإلحادي عبر أساليب ونظريات تخاطب روح العصر وتستعمل لغته.
وإلى هذا اتجهت كل كتابات السيد الشهيد ومن هنا كانت أطروحته للمرجعية المؤسسة الرشيدة وللمستقبل.
ثالثاً: كان الشهيد الصدر منسجماً حتى الالتحام مع هدفه الذي سعى إليه فهو كرس نفسه وجهده ووقته بل حياته كلها في سبيل رسالة الإسلام بكل ما أمكنه من وسائل وطرق، فلا نجد لحساب نفسه وحساب راحته وحساب سلامته من ذلك شيئاً نعثر عليه.
وأول معالم ذاك الانسجام يبدو للباحث في سرعته إخراج كتبه فهو مثلاً كتب مذيّلاً بعض كتبه: «بدأنا في اليوم الرابع عشر من جمادى الأولى 1397 وفرغنا بحول الله وتوفيقه في اليوم السابع من جمادى الثانية من نفس السنة». وذلك رغم دقة البحث وطوله! وهو مؤشّر واضح لمدى الانسجام والوضوح عنده في كل ما يتصل بهدفه، فضلاً عن أنه يمثل مؤشّراً على مدى إحاطته وشمولية نظره لعلوم الإسلام، فقد كان قلمه يفرغ عن صدر مليء بالعلم والمعرفة وكأني به كان يسابق الزمن ليترك للأجيال اللاحقة من العلماء والباحثين أساساً ينهجون عليه ومادة يبنون عليها.
وهكذا وجدنا فيما بعد جمهرة المثقفين الذين نهجوا على منال ما نهج وبنوا أبحاثهم المختلفة على أساس ما كتب حتى بات مدرسة وحده.. . لقد أسس لمرحلة جديدة ونهج منهجاً خاصاً مميزاً في وسط الحوزة العلمية التي كانت سائدة في النجف الأشرف في تلك الحقبة من الزمن.
أما ثاني معلم ذاك الانسجام فيبرز في الإخلاص الروحي التام ليكون كل عمله لله <قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ>.[3]
وهذه ناحية لا تندر في سيرة علمائنا الأعلام على نهج أهل البيت عليهم السلام، ولكنها قضية إذا خلى منها عمل إسلامي أخلّت به وأفسدته وكانت آفة الآفات فيه فهي قضية تقع في القلب من أي عمل يتصل بالله لاسيما إذا تعلق الأمر بالشأن العام وبالتنظير الفكري والاتجاه الثوري الإسلامي.
قال الشهيد المطهري! في بعض ما كتب:
الآفة.. التي تهدد الثورات الإلهية هي آفة معنوية، آفة التغيير في اتجاه الفكر، آفة الانحراف في النية والقصد. إن النهضة الإلهية يجب أن تبدأ لله وتسير مسيرتها لله، ولا تدع لأي فكر أو خطور ذهني غير إلهي أن ينفذ إليها حتى تشمل العناية الإلهية هذه النهضة.
رابعاً: بنى الشهيد الصدر رؤيته للتغيير على قاعدة متكاملة من الفكر التنظيري والعمل الثوري فاعتبر أن التغيير الجذري في المجتمع لا يكفي فيه أن يقتصر على طريق الفكر والدعوة للإصلاح في الأمة، بل إن انتهاج طريق الثورة والاستعداد للتضحية بالأنفس والأموال والتخطيط الثوري لإقامة دولة الحق في الأرض لهو رديف التنظير الفكري والتوجيه الاجتماعي وإصدار الفتوى للناس، ورأى أن ذلك هو النتيجة الطبيعية لدور المرجعية الدينية.
وهكذا لم يسقط الشهيد الصدر من طرحة النهج الثوري، رغم الظروف القاسية الماحقة التي أحاطت به طوال مسيرة حياته، فلم يتراجع أبداً فنراه في ظل نظام طاغ سفاح يدعو إلى الثورة على الطغيان والظلم والكفر في بلد المقدسات في العراق ويجهر بتأييده للثورة الإسلامية والإمام الخميني العظيم في إيران، بكل الطاقة وبما أمكنه من وسيلة.
لقد قاوم الشهيد الصدر روح الهزيمة التي كانت تنعكس ركوداً خطيراً في الفكر والعاطفة واعتقد أن دماء الشهداء الزاكية واستعداد الأمة لسلوك طريق ذات الشوكة هما الطريق الذي يعيد للأمة حيويتها وثقتها بنفسها ويمنحها الكرامة والعزة والرفعة بين الأمم، حتى قدّم نفسه الشريفة مع أخته بنت الهدى قرباناً على هذا الطريق على درب التضحية والفداء الذي خطه جده الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء في كربلاء.
أما حساب الخسارة والربح فيما تمليه حركة الواقع بين مقدار التضحية والنتائج المرجوّة فقد رأى الشهيد الصدر بشكل حاسم قاطع أن الوقت يدرك الأمة وأنها على مفترق طرق، في ظل ما يسود عالم اليوم من تطورات فكرية وسياسية وعسكرية واقتصادية ومالية وتنظيمية وما إلى ذلك وما هو عالم الإسلام وأوضاع المسلمين في العالم وفي داخل الوطن الإسلامي الكبير.
هذا غيض من فيض ولمحة من كتاب شهيدنا الجليل حاولنا أن نطلّ من خلاله على صفحة من تاريخنا المعاصر، تمثل في جهاد رجل عاش لله وعمل لله وجاهد لله، فالسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.
سيدي نَم قرير العين، بشراك في جنتك التي أنت فيها حي ترزق فقد طالت الشجرة ففرعها في السماء وأينعت ثمرة الحق فها هي جمهورية الإسلام في إيران تشمخ للعلى رافعة راية الحق خفّاقة رغم الظالمين، وها هم مجاهدو المقاومة البواسل يقهرون الجيش – الذي قيل عنه: إنه لا يقهر – مدحوراً مذموماً ذليلاً من جبل عامل الشامخ بأهله وها هي جحافل المجاهدين في فلسطين تزحف نحو القدس لتحرير كل فلسطين ويبقى عراقنا الحبيب جريحاً ينتظر طلوع الصبح فطوبى لدمك الزاكي يروي ساحة الشهادة على درب الحسين عليه السلام.
<مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن ينتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً>
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]. بحث حول المهدي، الشهید محمد باقر الصدر، ص 11، دار التعارف للمطبوعات، بیروت.
[2]. الإسلام یقود الحیاة، الشهید محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بیروت.
[3]. الأنعام: 162و163.