الشهید الصدر؛ ملامح من السیرة الذاتیة؛ عرض موجز وتحلیل

محمد باقر الحكیم

المقدمة

إن كتابتي للسیرة الذاتیة لشخصیة فذّة وعظیمة كالشهید السید محمد باقر الصدر(قده) تعتبر مهمة صعبة للغایة، ولاسیما مع وجود هذا الفاصل التاریخي المليء بالأحداث الجسام الذي توالى على الذاكرة أولاً، وعدم تدوین الأحداث والنقاط ثانیاً، والانقطاع عن المصادر الحقیقیة القریبة في حیاته ثالثاً.

ولكن مع ذلك سوف أبذل سعیي في ذلك، من خلال استعادة الذكریات والرجوع إلى بعض ما تحدّثت به عنه في بدایة خروجي من العراق من خلال الخطابات والأحادیث الصحفیة الكثیرة والاستناد إلى بعض الوثائق الشخصیة _ القلیلة _ الموجودة لديّ.[1] وبعض المعلومات الموثّقة التي أعتمدها وهي قلیلة لديّ، ولاسیما فیما یتعلق بالأسرة الكریمة لآل الصدر، والتي كتبها العلامة أخونا الفقید السید عبد الغني الأردبیلي في حیاة الشهید الصدر وتحت نظره.

ومما یزید في تعقید الكتابة حول الشهید الصدر _ وخصوصاً هذا الجانب _ أن جماعة من القریبین للشهید الصدر(قده) تحدّثوا _ مع الأسف _ عن سیرته الذاتیة من خلال الأحادیث المرسلة أو الاستناد إلى أشخاص لاحظت على حدیثهم عدم الدقة أو المبالغة والمغالاة، بل تجاوز الحقیقة أحیاناً بكتمان بعضها أو ادعاء بعض.

كما أن هناك آخرین نسبوا للشهید الصدر أموراً دون أي مستند إلا الإشاعة أو الأحادیث العابرة التي یتناقلها العوام، حیث وجدت من خلال التجربة الشخصیة لي ولبعض من عایشتهم تراكم مثل هذه القضایا التخیلیة عادة حول الشخصیات الكبیرة والفذة؛ بتصور أن ذلك یضفي علیها حالة من التقدیس والمثالیة، مع أن هذه الشخصیات في سمو ذاتها وعلو شأنها هي في غنى عن ذلك، ویكفیها بیان الحقیقة بشأنها.

ولا أرید أن أدعي الامتیاز في ما أكتب، ولكني أحاول بكل جهدي أن أكتب الحقیقة؛ أداءً للواجب الأخلاقي والأدبي الذي لا زلت أشعر به تجاه أستاذي وصدیقي ورائد المسیرة الإسلامیة الجهادیة الحقة التي لا زلنا نواصلها في طریق المحن والآلام.

ولقد كانت معرفتي به المبكرة نسبیاً ومعاشرتي له الطویلة كمیاً وكیفیاً هي المعین الذي أستمد منه هذه الكتابة بعد التوكل على الله والتماس التوفیق منه تعالى، والله من وراء القصد.

كانت علاقتي بالشهيد الصدر قد استمرت حوالي ربع قرن من الزمان منذ سنة 56م/76ق وحتى استشهاده سنة ثمانین میلادیة / 1400ق، وقد اتسمت هذه العلاقة بالتلمذة العامة والخصوصیة، والصداقة الأخویة القویة، والعواطف الجیاشة، والارتباط المصیري، والتقارن في الأحداث، والاشتراك في الهموم والآمال والطموحات، وقضاء الساعات الطویلة معاً في كل یوم تقریباً ولعدة سنوات، ولاسیما في مرحلة ما قبل تصدّیه للمرجعیة الدینیة وتوسّع دائرة نشاطه الاجتماعي، وعلاقاته الحوزویة وهو أمر یعرفه كثیر من الأصدقاء ودائرة واسعة من الحوزة العلمیة والطلائع الرسالیة.

إن الكتابة في السیرة الذاتیة فیها منافع كثیرة ولها دور كبیر في تعریف شخصیاتنا وفهمهم وتفسیر مواقفهم، كما لها دور كبیر في الاعتبار وفي فهم التاریخ وسننه وتقلّباته وطریقة التعامل مع الأحداث وفهمها، وفي الاقتداء والتأسي بهذه الشخصیات الفذة والاستفادة من تجاربها للأجیال الآتیة خصوصاً إذا كان العلماء من المعاصرین الذین نعرف كثیراً من ظروفهم الخاصة ومواصفاتهم التي تجعلهم أقرب إلى الواقعیة من حیاتنا وأكثر وضوحاً في انطباقها على الواقع المعاش.[2]

وسوف أحاول في هذه المقالة أن أعرض بصورة موجزة معالم وأبعاد في مسیرته الذاتیة تعتمد بشكل أساسي على ما لمسته أو سمعته منه أو شاهدته من أحداث وقضایا مع شيء من التحلیل والاستنتاج مما أراه مناسباً مع فهمي لهذه القضایا والأحداث.

وسوف أكتفي في كثیر من الموارد بالإشارة إلى الحدث والقضیة ولاسیما تلك الأمور التي كنت قد تناولتها بالحدیث المطبوع والمنشور عن الشهيد الصدر(قده) وذلك اعتماداً على معرفة التفاصيل من خلال تلك الأبحاث والمنشورات التي آمل أن أجمعها مع هذا المقال في كتاب عن الشهید الصدر.

والله ولي التوفیق والسداد.

تقسیم البحث

ویمكن تقسیم الحدیث في السیرة الذاتیة إلى أربعة فصول:

الأول: الولادة والنشأة.

الثاني: الصفات الحمیدة.

الثالث: الأخلاق الفاضلة.

الرابع: العلاقات الاجتماعیة.

الفصل الأول: الولادة والنشأة

لقد ولد الشهید الصدر(قده) في مدینة الكاظمیة المقدسة مرقد الإمامین: السابع والتاسع من أئمة أهل البیت(ع) هما الإمام موسى بن جعفر الكاظم وحفیده الإمام محمد بن علي بن موسى الجواد التقي.[3]

وكانت ولادته في الخامس والعشرین من ذي القعدة سنة 1353ق وهو یوم مبارك في روایات أهل البیت(ع) إذ هو من أیام الصوم الأربعة، حیث كان فیه حسب هذه الروایات (دحو الأرض) وهو یوم انتشرت فیه رحمة الله للعبادة والاجتماع لذكر الله، وفي روایة أن فیه ولادة إبراهیم(ع) وعیسى(ع) وفیه یقوم القائم.[4]

وقد توفي والده في 27 جمادى الثانیة سنة 1356ق، فیكون عمره عند وفاة والده سنتین وسبعة أشهر تقریباً، وبذلك یكون شهیدنا قد عاش بدایة حیاته الیتم المبكر، ولكن الشهید الصدر كان في الوقت نفسه ینتمي إلى أسرة علمیة عریقة في العلم والشرف من جانب الأب.

وأما من ناحیة الأم، فأمّه الفاضلة التقیة ابنة آیة الله الشیخ عبد الحسین آل یاسین حفید آیة الله العظمى الشیخ محمد حسن آل یاسین أحد المراجع العظام في بغداد والكاظمیة، وقد خلف الشیخ عبد الحسین ثلاثة من الذكور العلماء المعروفین أبرزهم المرجع الكبیر آیة الله الشیخ محمد رضا آل یاسین الذي رجع إلیه قسم من العراقیین وأكثریة أبناء المنطقة الشرقیة من المملكة العربیة السعودیة _ الأحساء والقطیف _ وقسم من اللبنانیین بعد وفاة المرجع الكبیر آیة الله العظمى السید أبو الحسن الإصفهاني سنة 1365ق الذي كانت عام وفاته 1370ق.

وكان أخواه الآخران الشیخ مرتضى آل یاسین رئیس جماعة العلماء في النجف الأشرف والشیخ راضي آل یاسین المؤلف المعروف بتألیف كتاب صلح الحسن.[5]

وقد كان(قده) یحدّثني عن العلاقات الوطیدة المعنویة والعاطفیة المتبادلة القائمة بین جده لأبیه السید إسماعیل الصدر وجده لأمه الشیخ عبد الحسین آل یاسین، الذي تتلمذ على ید جده السید إسماعیل، بأن الأولاد الأربعة لجده السید إسماعیل _ وهم آیة الله السید محمد مهدي الصدر والفاضل السید جواد الصدر وآیة الله السید حیدر الصدر وآیة الله السید صدرالدین الصدر _ قد تزوّجوا جمیعاً بنات جده لأمه الشیخ عبد الحسین آل یاسین، وقد انسجموا معهن في هذا الزواج إلا عمه السید صدر الدین، وعندئذ لم یجد بُدّاً من أن یهاجر إلى إیران إذ كان من المتعذر معنویاً وعاطفیاً _ بسبب العلاقات العائلیة الوطیدة التي أشرت إلیها _ أن یتزوج وهو في العراق، وفي إیران تزوّج من كریمة آیة الله العظمى السید حسین الطباطبائي القمي، وأولادها ثلاثة من البنین الذكور هم آیة الله السید رضا الصدر وآیة الله المغیّب الإمام موسى الصدر والوجیه السید علي، وستة من البنات إحداهن زوجة الشهید الصدر العلویة فاطمة الصدر أم ولده جعفر.

كما حدّثني أن عمه الأكبر السید محمد مهدي الصدر قد ورث جده في الشؤون الاجتماعیة باعتباره الابن الأكبر، فكانت بیده إدارة الأوقاف والمكتبة العلمیة، والدیوان (البراني) والشؤون الأخرى ذات العلاقة بوالده، وكان الإخوة الأعلام في الود والمحبة والإیثار بحیث یرون أنفسهم شخصاً واحداً فتركوا له التصرف في كل الأمور؛ حفظاً لشؤون الأسرة المعنویة وشأنه العلمي والاجتماعي.[6]

ویبدو أنه تمیّز من بین الإخوة الأربعة بالجانب العلمي والذكاء النادر آیة الله السید حیدر والد الشهید الصدر، ومن بعده آیة الله السید صدر الدین الصدر الذي أصبح أحد ثلاثة من مدرّسي الحوزة العلمیة في قم المهمین الذین تمكنوا من أن یحافظوا على حوزة قم بعد وفاة المرجع الكبیر والمؤسس لها في العصر الحدیث الشیخ عبد الكریم الحائري، والآخران هما آیة الله السید محمد الحجة الكوهكمري صاحب المدرسة الحجتیة المعروفة في قم وآیة الله السید محمد تقي الخونساري، وذلك إلى حین مجيء آیة الله العظمى السید حسین البروجردي الطباطبائي واستلامه زمام المرجعیة.

ولكن السید حیدر الذي عرف وتمیّز بالعلم والذكاء النادر عاجله الموت كما عاجل ولدیه من بعده السید إسماعیل والسید محمد باقر، حیث ماتوا جمیعاً في سن متقاربة لم تبلغ الخمسین.

وقد فتح السید الشهید الصدر عیونه في ظل الیتم وبرعایة والدته الثكلى والمثقل بالهموم والثكل والفقر والفاقة، وبرعایة أخیه الفتى الیافع السید إسماعیل الذي كان عمره عند فقد والده حوالي ستة عشر عاماً.

ویبدو أن الیتم هذا یمثل معلماً مهماً في الشخصیة الذاتیة للشهید الصدر كما هو كذلك بالنسبة إلى جده السید إسماعیل الذي كان عمره ستة سنوات حین وفاة والده، ولاسیما وأن هذا الیتم اقترن بالفقر والفاقة والعیالة وبالحیرة والتردد والخوف من الضیاع في مسیرة الحیاة كما سوف نتبین، وبذلك كان الشهید الصدر مصداقاً من مصادیق سورة الضحى التي تصف حالة النبي الأعظم- <أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَ وَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدىٰ * وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ>.[7]

وظاهرة الیتم والحیرة ظاهرة نجدها في إبراهیم(ع) وموسى(ع) وعیسى(ع) ونبینا محمد- ولا یبعد أن تكون موجودة في نوح(ع) ولها مدالیل نفسیة وتربویة واجتماعیة أشرت إلى جانب منها في الحدیث عن ترجمة الإمام الحكیم(قده) الذي كان یتصف بهذه الظاهرة أیضاً.

كما هي ظاهرة في كثیر من العظماء في عرصنا ومنهم الإمام الخمیني(قده) خصوصاً إذا كان هذا الیتم مرتبطاً بجذور تاریخیة صالحة فإنه سوف یعبّر عن تكامل في حركة الإنسان من خلال ارتباطه بجذوره،[8] واعتماده على الله تعالى في مسیرته والثقة بالنفس وقوة العزم والإرادة والاستقامة في اجتیاز العقبات والآلام والمحن والصعاب.

الظروف الصعبة

وقد كان أن فتح الشهید الصدر(قده) عینیه على هذا الوضع الداخلي الصعب، والظروف الاجتماعیة المعقدة، ولكن كان إلى جانب ذلك أیضاً آفاقاً جدیدة واسعة ورحبة في هذه الدنیا قد انفتحت أمامه، وكانت بأجمعها تلحّ وتضغط علیه بالانتباه إلیها والتحرك نحوها:

١. أما الوضع الداخلي الصعب فقد تمثّل بالیتم والفقر والفاقة الشدیدة بالرغم من التراث العلمي والأسرة الكریمة والموقع الاجتماعي الخاص بالعم الأكبر.

مضافاً إلى ذلك والدته الممتحنة في حیاتها، حیث إنها ابتلیت بفقد الأولاد بعد الولادة فقد فقدت مجموعة منهم في حیاتها قبل ولادته وأخته العلویة الفاضلة بنت الهدى، حتى أنها كانت تعبّر عن ذلك أحیاناً (بأني قد ملأت منهم القبور) وقد نذرت جمیع ما تملك من ذهب صدقة لله تعالى إذا حفظ الله ولدها الشهید الصدر، وأوفت بعهدها ونذرها هذا في تسلیم الأموال تحت میزاب الذهب في مرقد الإمام علي(ع) حیث كانوا یتقربون عنده بالدعاء والوفاء بالنذور.

كما كانت(قده) تلبس إلى آخر أیامها سواراً من حدید؛ دفعاً للشر والأذى عن أولادها، ولكن شاء الله تعالى أن تفقدهم جمیعاً مرة أخرى في حیاتها بعد أن كبروا واكتملوا وأصبحوا محط الآمال العریضة في الأمة وجمیع أطرافها الواسعة، ولا مردّ لمشیئة الله تعالى وهي عبرة في التاریخ والسیر، وحكمة إلهیة وبلاء دنیوي بشّر الله الصابرین به <وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَرٰاتِ وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ>[9] وقضاء رباني لا یغني عنه شيء، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكریم _ مشیراً إلى ذلك، نقلاً عن یعقوب في وصیته لأولاده عندما ذهبوا لیتحسسوا من یوسف(ع)_: <وَ قٰالَ يٰا بَنِيَّ لاٰ تَدْخُلُوا مِنْ بٰابٍ وٰاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوٰابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مٰا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ * وَ لَمّٰا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مٰا كٰانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ حٰاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضٰاهٰا وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمٰا عَلَّمْنٰاهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ>.[10]

٢. وأما الظروف الاجتماعیة فقد كانت تتمثل بظاهرة سیئة شهدها ذلك العصر والأیام التالیة له وهي ظاهرة الانكفاء والضمور في الأسر العلمیة العریقة التي كان یتخلى كثیر من أبنائها عن الانتماء إلى مسلك أهل العلم والحوزة العلمیة لینصرفوا إلى الأعمال الدینویة، ولا أرید في هذا المجال أن أسمّي العوائل العلمیة المجیدة التي كانت تزخر بالعلماء وطلاب الحوزة العلمیة والتي تقلّصت بعد ذلك إلى حد خطیر، إذ قد یحمل ذلك على الإساءة إلیها، ولكنها على أي حال كانت ظاهرة اجتماعیة لها أسبابها الموضوعیة والروحیة والاجتماعیة، وكانت تشكّل ضغطاً كبیراً على الشهید الصدر(قده)وهو فتى صغیر وضعته في موقع الحیرة والتردد في اختیار الطریق والمنهج الذي یسلكه في حیاته.

٣. وأما الآفاق الجدیدة فقد كانت تتمثل في وجود الفرص الجیدة للانفتاح على بابین واسعین في ذلك الوقت:

أحدهما: باب الدراسة النظامیة التي تنتهي بالإنسان إلى الجامعة وآفاقها، وهي من أفضل وأهم وأشرف الآفاق المفتوحة أمامه.

وثانیهما: باب التوظیف والدخول في الأجهزة الحكومیة والترقي فیها.

وهذه الأبواب لم تكن مفتوحة أمام كل أحد من الناس، بل أمام الخاصة منهم، وقد كان الشهید الصدر من هؤلاء الخاصة لسبب ذاتي وهو نبوغه المتمیز كما سوف أشیر إلیه، وسبب خارجي اجتماعي وهو انتماؤه إلى هذه الأسرة التي أصبح لها موقع خاص في الدولة والجهاز الحاكم بعد قیام الحكم الوطني، ولاسیما في فترة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة وأحداثها في العراق؛ وذلك بسبب وجود الزعیم السیاسي والدیني السید محمد الصدر الذي تسلّم عدة مواقع مهمة في الحكم، كعضو هیئة الوصایة على العرش عند غیاب الوصي ووجود الملك الصغیر، ورئیس مجلس الأعیان _ الشیوخ _ ورئیس الوزراء، وغیر ذلك من المواقع، وكان له اهتمام خاص بالشهید الصدر لظروفه الصعبة ونبوغه المبكّر وقربه المكاني منه في الكاظمیة وقرابته الأسریة.

الاختیار الصعب

لقد كان أمام الشهید الصدر(قده) أن یختار طریقه في ظل ومثل هذه الظروف والملابسات، وكان ذلك بدایة لمسیرة المعاناة التي لازمته منذ الطفولة واتسمت بها حیاته كلها كما سوف نلاحظ، حیث كان علیه أن یتحمل مسؤولیة هذا الخیار وحده في محیط كان یضغط بالاتجاه الآخر.

وقد حدثني(قده) بذلك حیث كان قد اختار وحده طریق الآباء والأجداد الصالحین والأنبیاء والأئمة الطاهرین، وهو طریق طلب العلم وحمل مسؤولیة إبلاغ الرسالة الإلهیة، في وقت كان الجمیع ممن یحیط به _ باستثناء والدته _ یرجّح الخیارات الأخرى المفتوحة _ أو یسكت عنها _ والتي سار فیها أقرانه من معارفه وأرحامه.

وكان یرى لأمه في ذلك فضلاً إلى فضلها الآخر، وهو أنها كانت الوحیدة من بین هؤلاء من شجّعه على هذا الخیار دون إلحاح؛ ولذا كان یكنّ لها بسبب ذلك _ إلى جانب الحب والعطف وخفض جناح الذل من الرحمة _ الاحترام والتقدیر.

وهذا الاختیار _ مضافاً إلى روح المعاناة التي یشتمل علیها _ یعبّر منذ البدایة والفتوة عن إرادة قویة، وشجاعة عالیة، ووعي متمیز في شخصیته، سوف أشیر إلیهما في موضعه.

المعاناة والابتلاء

لقد كان ذلك _ كما ذكرت _ بدایة معاناته الشخصیة في حیاته أو بدایة الامتحان والابتلاء الذي یخصّ الله تعالى به أولیاءه من عباده، ویتعاهدهم به كما یتعاهد الرجل أهله بالهدیة من الغیبة كما ورد في الحدیث الشریف: (إن الله لیتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما یتعاهد الرجل أهله بالهدیة من الغیبة).[11] وهو ابتلاء الاجتباء والاصطفاء للأنبیاء والربانیین والأحبار (إن أشدّ الناس بلاءً الأنبیاء ثم الأوصیاء ثم الأماثل فالأماثل).[12]

ویمكن أن نلخّص المعاناة والابتلاء في الجانب الذاتي والشخصي الذي مر به الشهید الصدر(قده) _ مع قطع النظر عن الامتحان والابتلاء الذي تعرّض له الشهید الصدر من خلال نشاطه وعمله الاجتماعي والعلمي والثقافي فإن لذلك حدیث آخر _ بالأمور التالیة:

١. امتحان الیتم وفقد الأحبة الذي تحدّثت عنه.

٢. الامتحان في اختیار الطریق الذي هداه الله تعالى فیه إلى طریق العلم وحمل الرسالة الإلهیة.

٣. الامتحان والمعاناة بالفقر والفاقة والحرمان، فهو إنسان فقیر لا یوجد من یكفله من أهله وذویه ومریدیه؛ لأن أخاه وأمه كانا فقيرين مثله، وأسرته القریبة كانت تظن فیه وفي ما تركه أبوه خیراً، كما تظن في الناس المحیطین به الخیر أیضاً، فتركوه لهذا الظن الحسن.

لقد حدثني(قده) كمثال على هذا الظن الحسن أنه كان یعیش في دار ملاصقة لدار خاله المرجع الكبیر الشیخ محمد رضا آل یاسین، وهو مرجع ترده الأموال الشرعیة مثل بقیة المراجع الآخرین، وكانت ظروف الشهید الصدر المعیشیة في حالة ضیق وشدة، ولكنه لم یتلقّ المساعدة المطلوبة من خاله كطالب علم متفوق ورحم قریب وجارٍ عزیز ومن أسرة علمیة مرموقة وتنطبق علیه جمیع العناوین المطلوبة من الحقوق الشرعیة؛ لأن خاله _ مع حبه واحترامه له لقربه ونبوغه _ كان یتصور أن حالته المعیشیة عادیة، ویأبى الشهید الصدر لعزته وكرامته أن یتحدث عن أحواله هذه ویبقى حاله على هذه الشدة والفاقة، وإذا كان حال خاله الملاصق له في حسن الظن هذا فكیف بحال غیره؟!

وكان الآخرون یظنّون _ بطبیعة الحال _ أن أوضاعه عادیة وطبیعیة؛ لأن له هذه العلاقة العلمیة والاجتماعیة والرحمیة بهذا المركز الاجتماعي الدینى، ولیس ذلك غریباً فقد أشار القرآن الكریم إلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: <لِلْفُقَرٰاءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ>.[13]

۴. الابتلاء والامتحان في إدارة أمور المعیشة؛ فهو مع فقره كان الابن الصغیر في العائلة والمساعدات تأتي إلى الكبیر عادة، مع أنه هو الذي كان یتحمل المسؤولیة الكبیرة في مجال تأمین الحیاة المعیشیة، ویقوم أخوه الأكبر بالصرف مما یلقي على هذا الأمر بثقل جدید.

لقد حدثني(قده) مرة عن هذا الأمر بأنه واجه صعوبة كبیرة في إدارة هذه الحیاة في هذه الفترة ولاسیما بعد هجرته إلى النجف الأشرف مع عائلته وانقطاعه عن الوسط الاجتماعي الكاظمي القریب منه ومن والده، فذكر أنه اضطر إلى بیع بعض الممتلكات البسیطة من الأثاث وغیره مما كان لدیهم في الكاظمیة لیحوّلها إلى سیولة نقدیة، ویشتري بذلك حصة سيارة تستخدم للأجرة على طريق النجف _ الكوفة وعلى نحو المضاربة ليحل بذلك جانباً من المشكلة المعقّدة.

وكان یذكر أنه كان یدیر هذا الأمر مع تفرّغه لطلب العلم من ناحیة وبعیداً عن الأنظار؛ لحساسیة مثل هذا العمل اجتماعیاً في ذلك الوقت من ناحیة أخرى ولاسیما هذا النوع من النشاط، وحتى أن أبناء العائلة ومنهم الأخ الأكبر لم یكن مطّلعاً على هذا الأمر، وكان یصرف المال الذي یهیّئه الشهید الصدر دون سؤال، وكان قلب الشهید الواسع وفكره النیر وطهارة قلب الأخ الكبیر كلها عوامل مساعدة لتعمیق هذا الامتحان والمعاناة، فهو الذي كان یتحمل المسؤولیة ویهيّء النفقات وینفّذ الخطة بعیداً عن العیون والأنظار، وكان أخوه یصرف الأموال وعلى راحته أحیاناً.

وقد استمر هذا النوع من المعاناة إلى وقت متأخر من حیاته(قده)، لقد كان یرى استخدام هذا النهج في تدبیر أمور المعیشة _ على الظاهر _ منهجاً یتأسّى فیه بأئمة أهل البیت(ع) ولكنه لم یكن معروفاً في الأوساط الحوزویة على الأقل إن لم یكن عیباً في نظرهم، وإن كان معروفاً في روایات أهل البیت(ع) ولاسیما الإمامین الصادقین(ع).[14]

۵. المعاناة في إدارة أمور الأسرة وتحمل مسؤولیتها الاقتصادیة والداخلیة، حیث كان یتحمل مسؤولیة العائلة كلها مع أنه الأخ الأصغر والأعزب والمتفرغ لطلب العلم والمضحّي لأجله والمنقطع عن العلاقات الاجتماعیة العامة كما سوف أشیر، فهو الذي یتحمل مداراة والدته المریضة وتربیة أخته الصغیرة ورعایة شؤون أسرة أخیه الكبیر، وكل ذلك یتم في رضى بالقضاء، وفي انسجام _ روحي وعاطفي _ كامل مع العائلة، وفي مواصلة عالیة وفریدة للبحث العلمي وفي عزة وكرامة متناهیة.

المعاناة في طلب العلم

كما أن هناك بعداً آخر في هذه المعاناة كان یتمثل في معاناة طلب العلم، فقد بدأ التعلم في المدرسة الابتدائیة لجمعیة منتدى النشر في الكاظمیة، حیث وجد نفسه وهو الطفل الصغیر یستوعب الدروس فیها، ویتمیز على أقرانه بدرجة واضحة، ویلفت إلیه نظر معلمیه، ولم تكن هذه الدراسة تلبّي طموحه العلمي ولا تملأ فراغه الروحي والمعنوي، بالرغم من أنها كانت في بعض الأحیان تعبّر عن مظاهر من الامتیاز والتشجیع من خلال تمثیله للمدرسة في المناسبات الدینیة والشعائر الحسینیة بإلقائه الخطب والكلمات نیابة عنها في الملأ العام أو في الصحن الكاظمي الشریف، مما كان یلفت إلیه الأنظار ویضعه في موقع الإعجاب والثناء؛ لأن میله وبعد ذلك سعیه كان باتجاه طلب العلم في الحوزات العلمیة، وهذه الدراسة في المدارس النظامیة لا تنفعه في ذلك شیئاً مذكوراً، وقد تنفع غیره ممن یرید أن یصل إلى الدراسة الجامعیة النظامیة.

مضافاً إلى أن الجو الاجتماعي والعلمي المحیط به لم یكن یسمح _ على ما یبدو _ بأن یملأ هذا الفراغ من خلال فرصة أخرى غیر المطالعة التي لم تكن تشبع میله العلمي ولا تملأ غوره، الأمر الذي جعله یفكر في الهجرة إلى النجف الأشرف مع عائلته الكریمة وهو في سن الثانیة عشرة، وقد استفاد علمیاً من أخیه في بعض المراحل الابتدائیة، إلا أن نبوغه المبكر كان یفرض علیه أن یطوي المراحل الدراسیة بسرعة لیصل إلى غایته النبیلة في المستوى والمحتوى المطلوب من العلم.

وكان طي المراحل أمراً لازماً ومهماً لا یصح لطالب العلم تجاوزه وذلك لسببین:

المعنوي الاعتباري؛ لأنه یدخل في تقییم طالب العلم في الوسط الحوزوي والاعتراف بشخصیته العلمیة.

والواقعي الحقیقي الثبوتي؛ وذلك لأنه الوسیلة في التعرف على معالم الحقیقة والمضمون العلمي الصحیح الأصیل المطلوب المطابق للضوابط العلمیة ومنهج الاجتهاد الصحیح.

وقد واجه مشكلة في هذا المجال بسبب حداثة سنّه ونبوغه المبكر أیضاً، حدّثني عن بعض معالمها، فمثلاً عندما أراد أن یدرس شرح اللمعة الدمشقیة یقول: (طلبتُ من أحد المدرسین المعروفین بالتدریس فیها أن یقوم بتدریسي لها وهو من المقربین إلى حوزة خاله الشیخ آل یاسین، وعندما حضرتُ الدرس لدیه عدة مرات وجدته غیر مستوعب للمطالب العلمیة فیها بصورة كاملة ودقیقة فوقعت في حرج أخلاقي، فإذا قطعت الدرس فذلك خلاف الأخلاق والآداب الحوزویة حیث إني طلبت منه الدرس فاستجاب، كما أن الانقطاع قد یسبب أذى للأستاذ من الناحیة المعنویة، وإذا استمررت في البحث ضاع الوقت وضاع الدرس، فغلبني الحیاء وبقیت مستمراً في الدرس بالرغم من عدم الاستفادة، وعوّضت ذلك ببذل مزید من الجهد في المطالعة لاستيعاب الدرس). ولم یذكر لي اسم الأستاذ حفاظاً على كرامته وتورعاً في ذلك وإن كنت قد حدسته بعد ذلك نتیجة لبعض القرائن.

ولعل هذه التجربة المرة كانت هي السبب في الطریقة التي اتّبعها في استیعاب دروس السطوح بعد ذلك، وهي طریقة مطالعة الدرس ثم تقریره لدى أساتذة معروفین متمیزین على أن یذكروا له ملاحظاتهم إن لم یكن قد أصاب من الفهم والشرح، وهذه الطریقة كان یقبلها بعض هؤلاء الأساتذة؛ لأنها لا تكلّفهم جهد التحضیر للدرس ویتحمل فیها التلمیذ _ إن صح التعبیر _ القسط الأوفر من الجهد من خلال المطالعة والتحضیر والتهیؤ للتقریر وإلقاء الدرس، فكان درسه للجزء الثاني من الكفایة ولكتاب مكاسب الشیخ الأنصاري ولشرح الأسفار لملاصدرا بهذه الطریقة كما ذكر لي ذلك.

كما أن هذه الطریقة قد أتاحت له التوسع في المطالعة من ناحیة والقدرة على إلقاء الدروس بصورة منظمة ومتمیزة من ناحیة أخرى.

المعاناة في التصدي الاجتماعي

لقد كان التصدي للعمل الاجتماعي یمثل لوناً آخر من المعاناة في نشأته، مع قطع النظر عن الآثار السلبیة والمضاعفات المؤلمة التي یتركها بطبیعة الحال العمل الاجتماعي السیاسي على حیاة الإنسان، والتي سوف نشیر إلى بعض أبعادها ومعالمها في الفصلین الآتیین، بل كان أصل التصدي یمثل جانباً من المعاناة؛ وذلك لعدة أسباب:

أولاً: لأن الشهید الصدر(قده) _ كما سوف أشیر في فصل العلاقات الاجتماعیة _ كان لا یمیل إلى العمل الاجتماعي والعلاقة الاجتماعیة، فهو عمل على خلاف رغبته وهواه.

وثانیاً: كانت ظروفه الشخصیة بعیدة عن هذا العمل الاجتماعي، بسبب الهجرة وانقطاعه عن محیطه وزملاء فتوّته.

وثالثاً: كان نبوغه العلمي والفكري المتمیز یشكل عائقاً آخر، حیث لا یجد من یوازیه في السن والعلاقة الاجتماعیة مما یتناسب مع مستواه العلمي.

ورابعاً: انصرافه واستغراقه في الدرس ومیله لذلك وإحساسه بأن العمل الاجتماعي یضیع علیه الفرص وینغّص علیه لذة العلم والمطالعة.

وقد بقي هذا الأمر من الشعور بالمعاناة ملازماً له إلى فترة متأخرة من حیاته على الأقل _ كما كان یحدّثني ذلك _ إن لم یكن إلى آخر أیامه، وكان یشعر بالمعاناة بسبب التصدي الاجتماعي، فضلاً عما یقترن به من مشكلات وإثارات واتهامات وشكوك.

لقد بقیت المعاناة بكل أبعادها وتفاصیلها ظاهرة ملازمة لحیاته منذ ولادته ونشأته وحتى سن الرشد والتصدي الاجتماعي العام، وكان قمّتها محاصرته وأهله ومن ثم شهادته مع أخته العلویة، بعد أن فجع بشهادة الخیرة من أبنائه المعنویین وأصحابه المخلصین أو تشریدهم وسجنهم، حیث بلغ قمّة المعاناة التي وصلت به حد الكمال المعنوي والإنساني.

الفصل الثاني: الصفات الحمیدة

لقد كان الشهید الصدر یتصف بمجموعة كبیرة من الصفات الشخصیة الذاتیة الحمیدة التي تكوّن الأبعاد المختلفة في شخصیته ولها تأثیرها الخاص على سیرته الذاتیة وسلوكه العام، وقد لاحظنا بعض هذه الصفات وتأثیراتها من خلال الفصل الأول من الحدیث.

وفي هذا الفصل أحاول أن أشیر إلى بعض هذه الصفات التي كانت تبدو متمیزة في شخصیته.

الأولى: النبوغ المبكّر

لقد أشرت إلى بعض معالم النبوغ المبكّر من خلال دراسته الابتدائیة وتطلّعه لدراسة الأعمق، وطي المراحل الدراسیة عن طریق المطالعة والتقریر للدرس لدى الأساتذة الكبار والمتمیزین، أمثال آیة الله السید محمد الروحاني حیث قرر لديه المكاسب والجزء الثاني من الكفاية، وآية الله الشیخ صدرا البادكوبي حيث قرر علیه الأسفار الأربعة في الفلسفة للفیلسوف المعروف صدر الدین الشیرازي وهو في سن مبكرة لم تتجاوز السابعة عشرة.

ویمكن أن نلاحظ معالم هذا النبوغ المبكّر في النقاط التالیة:

أ _ حضوره درس الخارج لدى خاله الشیخ آل یاسین وهو في سن الفتوّة، والمفاجأة التي شاهدها الأستاذ وطلابه الكبار عندما وجدوه یتلقى الدرس بصورة متقنة ویحل بعض الإشكالات المعقّدة التي طرحها الأستاذ على طلابه ووقف أمامها خیرة طلابه متحیرین.[15]

وكان هذا الحضور المبكر وملاحظات النبوغ فیه مدعاة لآیة الله الشیخ عباس الرمیثي أن یطلب من الشهید الصدر أن یشاركه مراجعته للحاشیة الفتوائیة _ التي تحتاج إلى درجة عالیة من الاجتهاد عادة _ على رسالة المرجع الشیخ آل یاسین عند وفاته سنة 1370ق. حیث كان الشیخ الرمیثي وهو من فضلاء حوزة الشیخ آل یاسین وأصحابه یهیأ نفسه للمرجعیة وكان عمر الشهید حینذاك حوالي سبعة عشر عاماً.[16]

ب _ امتیازه بالتفكیر المستمر الدائم في المسائل الأصولیة والفلسفیة والفقهیة، فقد ذكر لي أنه كان یفكر أحیاناً في بعض المسائل ویركّز علیها حتى یأتي وقت النوم، وعندما یستیقظ یبدأ بالتفكیر مرة أخرى فوراً من النقطة التي انتهى إلیها عند نومه؛ ولذلك فقد كان یقضي جُل وقت یقظته الذي یستمر أكثر من ستة عشر ساعة في حالة من التفكیر المركّز.

ج _ وعندما كان یفكر یستغرق بالتفكیر بصورة عمیقة حتى كأنه لا یوجد شيء حوله یشغله أو یشوّش علیه فكره، فقد سألته مرة عن عمله الفكري مع وجود أطفال أخیه في بیته وقد كانوا صغاراً في حینه وهم یبكون أو یلعبون، أو وجود الحركة والحدیث في البیت وهو بیت ضیّق نسبیاً، فذكر لي بأن هذه الأمور لا تشوّش علیه تفكیره ولا تشغله عنه ولا یتأثر بالضوضاء التي تجري حوله بسبب استغراقه في التفكیر.

د _ وكان هذا النبوغ المبكر سبباً في الإنتاج المبكر للشهید الصدر حیث أنه طبع كتاب (فدك) الذي تناول فیه قضیة مطالبة الزهراء(ع) بإرثها بعد وفاة النبي الأعظم- تناولاً تاریخیاً وفقهیاً وفكریاً وعقائدیاً في سن مبكرة، وكان قد أنهى حینذاك كتابة دورة كاملة في علم الأصول، وعندما أراد أن یطبعها لم یكن لدیه مال ینفقه للطباعة، فاشترط علیه صاحب المطبعة أن یأذن له بطبع (فدك) لأن موضوعه وأسلوبه له سوق رائجة وفي مقابل ذلك یطبع له جزءاً مهماً _ ولكنه حساس ودقیق _ من هذه الدورة الأصولیة التي أسماها (غایة الفكر) وهو البحث في (تنجیز العلم الإجمالي) الذي كان یتبنّى فیه الشهید بعض الآراء الجدیدة.

كما أنه وضع الأسس لدستور الحكم الإسلامي، وبعد ذلك ألّف كتابي فلسفتنا واقتصادنا النادرین في سن مبكرة نسبیاً أیضاً.

وكان ینظّر للحركة الإسلامیة الجدیدة بمفاهیم حدیثة عبّر عنها في افتتاحیات مجلة (الأضواء)، ثم طبعت في كتاب تحت عنوان (رسالتنا) ولم یكن یذكر اسمه الشریف فیها عند كتابته الافتتاحیة.

كما قام بتنظیم الخطاب السیاسي لجماعة العلماء من خلال منشوراتها التي كتبها بقلمه الشریف في هذه السن المبكرة، أي في منتصف العقد الثالث من عمره بالرغم من أن تجاربه السابقة في هذه المجالات كانت محدودة للغایة. وكان بدایة نشاطه العلمي العالي وهو تدریس بحوث مرحلة الخارج أصولاً وفقهاً في هذه السن أیضاً.

هـ ـ وقد اقترن هذا الإنتاج المبكر بظاهرتین رئیسیتین مهمتین كان لهما دور كبیر في طرح الشهید الصدر كمفكّر في العالم العربي والإسلامي:

الأولى: ظاهرة الابتكار والإبداع في المضمون الفكري كما یلاحظ بصورة واضحة في كتاب فدك واقتصادنا وغایة الفكر، ثم أصبح ذلك سمة ومعلماً من معالم شخصیة الشهید الصدر الفكریة المتمیزة.

الثانیة: التفكیر المنظم الذي یجمع بین العمق الفلسفي والأصولي في الحوزات العلمیة؛ والالتزام بالضوابط والقواعد الشرعیة العلمیة المنهجیة المعترف بها في هذه الأوساط؛ والیسر والسهولة والانسجام مع الذوق الإنساني العام والذي یعبّر عنه في مصطلح الفقه بـ (العرف العام) فإن الجمع بین هذه العناصر الثلاثة عملیة في غایة التعقید ویفتقدها الكثیر من أصحاب الفكر والإبداع، وهي عناصر: النظم في التفكیر والذي نعبّر عنه بالمنهج المنطقي، والعمق في تحلیل الأشیاء للوصول إلى الحقیقة، والیسر والانسجام في عرضها وتوضیحها ومتابعة الخصوصیات العرفیة فیها.

و_ الأسلوب الجدید في العرض والتدریس وهو وإن كان قد تأثّر إلى حد كبیر بمنهج أستاذه الإمام السید الخوئي، ولكنه أضاف إلیه خصوصیتین مهمتین:

الأولى: خصوصیة تبنّي الرأي المعروض في كتاب الدرس أو عندما ینقله عن العلماء الآخرین للنقد والتمحیص والتفتیش عن كل النكات التي یمكنها أن تساهم في توضیحه والتصدیق به في حیادیة كاملة، بل كان یدخل علیه بعض العناصر أو وجوه الاستدلال لإكماله.

الثانیة: التفصیل في العرض والانفتاح في الحوار والمناقشة بهدف الاقتناع بالرأي والوصول للحقیقة، لا مجرد إسكات الخصم وغلق الطریق علیه.

وقد كان هذا الأسلوب یعبّر عن النبوغ كما یعبر في الوقت نفسه عن المضمون أیضاً.

ز _ ومن أجل هذا النبوغ كان یلاحظ انفتاح أساتذته علیه في البحث، ولاسیما أستاذه الإمام الخوئي الذي كان یتصف بهذا الأسلوب من التشجیع لطلابه في بعض أدوار حیاته، بحیث كانت تطول المناقشة بینهما أحیاناً إلى ساعات طویلة.

فقد حدّثني أنه كان یراجع الإمام الخوئي لیلاً في داره القریبة لمنزل الشهید الصدر، وذلك لمتابعة ومناقشة بعض مسائل الدرس، وقد طال النقاش مرة حتى انفض جمیع الحاضرین ولم یبق إلا هو والسید الأستاذ _ كما كان یعبر عن الإمام الخوئي _ واحتدم النقاش بینهما في هذه الخلوة حتى ضاق الخادم بذلك، فدخل علیهما لینقذ السید الأستاذ من هذا الطالب الذي ظنه مزعجاً ولاسیما بعد أن كان قد علا الصوت في النقاش، وإذا بالسید الأستاذ یبادر الخادم ویمنعه من التدخل ویصرفه لیستمر النقاش إلى نهایته الطویلة، وقد كان یستمر في بعض الأحیان عدة أیام لمراجعة مسألة واحدة.

وقد كان یذكر الشهید الصدر مثالاً لذلك إشكالاته وملاحظاته حول موضوع (استصحاب الحكم الشرعي) الذي لم یكن یقول الإمام الخوئي بحجته على خلاف مذهب الشهید الصدر فیه، حیث یذكر الشهید الصدر أن الإشكالات العدیدة المذكورة في تقریرات السید الخوئي حول الاستصحاب (تقریرات الشهید آیة الله السید محمد سرور الواعظ) إنما هي إشكالاته التي كان یثیرها لدى السید الخوئي.

وقد كان یسمح له الإمام الخوئي بالنقاش حتى ینتهي أحیاناً إلى تغییر رأیه، كما هو الحال فیما ذكره الشهید الصدر لي في مسألة وجوب صلاة الجمعة تعییناً عند النداء إلیها وإقامتها.

ولعل أفضل شاهد على هذه الحقیقة في نبوغه المبكر هو اعتراف الحوزة العلمیة ولاسیما أساتذته وزملاءه بهذه الحقیقة بصورة عامة.

الثانیة: العاطفة النبیلة

لقد كان من صفاته الذاتیة الحمیدة ما كان یملكه من عواطف جیاشة نبیلة ذات مضمون قیمي وأخلاقي سواء في العلاقات الخاصة أو العامة، وسوف أشیر إلى بعض معالم ذلك في الفصل الرابع عندما أتناول العلاقات الخاصة في الأسرة والأصدقاء.

ولكن مضافاً إلى ذلك نلاحظ المشاعر العاطفیة القویة تجاه قضایا المجتمع والإسلام، وقضایا الظلم والعدل وقضایا الصلاح والفساد، وقضایا الضعفاء والمساكین، وقضایا الأخوّة الإیمانیة، والتكریم للمخلصین والوفاء للأولیاء.

وقد كانت هذه العاطفة والحب لها قیمة خاصة ومستقلة في شخصیته لا یمكنه إلا أن یعبّر عنها ما لم تمنعه العزة والكرامة والإباء أو الشجاعة والمسؤولیة، فهو یفهم الحب ویتفاعل معه بدرجة عالیة، ولا زالت رسائله لي الملیئة بهذا الحب والعاطفة ولكل من یحیط به ولاسیما للأصدقاء تصدح بهذه الحقیقة، ویمنعني الحیاء والإجلال له، وعدم الابتذال بها عن إظهارها لما تحتویه من نبل وشهامة وعاطفة جیاشة نبیلة.

وهو بقدر ما یهتم بالمثل والقیم یحسّ بالقرف والانزعاج من مواقف الخیانة أو الظلم أو الامتهان أو الانتهازیة والنفعیة والتكالب على الدنیا الدنیة دون الإحساس بروح الحقد والانتقام في ذلك.

لقد كان یتفاعل مع الأحداث إلى حد المرض أو الحزن والكآبة والبكاء والنحیب، فمثلاً عندما بلغه مقتل الشهداء الخمسة الأوائل، وقد كان قد أمضى اللیل ساهراً بالدعاء والتوسل، انهار حتى أصیب بما یشبه السكتة والعجز عن الحركة تفاعلاً مع الحدث؛ لأنه وجد فیها كارثة في الوسط الإسلامي، حیث كانت المرة الأولى التي یرتكب فیها حزب البعث الحاكم في العراق مثل هذه الجرائم الوحشیة بهذه الطریقة الوقحة العلنیة، وبالرغم من كل محاولات منعه من ارتكابها والوعود الكاذبة في الامتناع عن ذلك.

وعندما قرأ رسالة كنت قد كتبتها سنة 1960م / 1380ق له من لبنان أحدّثه فیها عن بعض المشاكل المعقّدة الشخصیة التي واجهتها في الطریق؛ بسبب الظروف السیاسیة القائمة حینذاك لم یملك نفسه عن البكاء والحزن.

وقد كان یولم الولائم البسیطة في بیته، أو یطلب من الأصدقاء ذلك، أو یقوم بالأسفار القصیرة الترفیهیة للكوفة وغیرها من أجل التعبیر عن هذه العواطف الجیاشة وبناء أواصر الودّ والمحبة بین الأولیاء والأصدقاء والزملاء.

وعندما كان یحرص على دروس المبتدئین من الطلبة أو رعایة المستضعفین مادیاً وروحیاً كان یفعل ذلك كله بعقله ممزوجاً بعاطفته. وعندما كان یستقبل الشباب والأوساط العامة من الكسبة والفلاحین كان یفعل ذلك بعقله الممزوج بعاطفته.

كان الإنسان یحسّ بأن هذا السلوك الراقي في تنفیذ المسؤولیة هو سلوك ممزوج بالعاطفة والحب والحرص والاحترام.

وهكذا عندما یتفقد طلابه الغائبین في عوائلهم أو الحاضرین في مشاكلهم ومرضهم كان یفعل ذلك أداءً للحق، ولكنه حق یلمس الإنسان فیه الحب والرغبة والعاطفة النبیلة التي تتحرك في نفس هذا الإنسان.

وكان لهذه العاطفة التي تخرج من القلب أثرها العمیق في كل من یرتبط به من الناس؛ لأنهم یلمسونها ولا یرونها مجرد أداء للواجب والوظیفة الملقاة على عاتقه بل هي التزام مقرون بالحب والنصرة.

وهذا هو المضمون الصحیح للعلاقة التي أراد الإسلام أن یوجدها بین أبناء المجتمع الإسلامي من المؤمنین، فهي لیست مجرد حقوق وواجبات أو عهود والتزامات أو نصرة وحمایة، بل هي إلى جانب ذلك كله حب ومودة ومشاعر نبیلة، وهذا هو معنى الولاء والرحمة والذلة في قوله تعالى: <وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَاَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ>[17] وفي قوله تعالى: <أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ>[18] وفي قوله تعالى: <أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ>.[19]

وهذا هو معنى العلاقة في تكوین الأسرة عندما تتحول العلاقة بین الزوجین إلى مودة ورحمة، وبین الأب وابنه إلى خفض جناح الذل من الرحمة.

الثالثة: المثابرة والجدّیة

لقد كانت صفة المثابرة والجدّیة من الصفات المتمیزة في الشهید الصدر(قده) وهي وإن كانت صفة مهمة في حد ذاتها، ولكن تزداد أهمیتها عندما تكون إلى جانب صفة العاطفة النبیلة حیث قد لا یجتمع الجد والمثابرة مع العواطف والمشاعر والأحاسیس، ولكنه قد جمع بینهما بدرجة عالیة ومتمیزة.

لقد كان یعمل لیل نهار دون كلل أو ملل إلا عندما یصیبه الصداع الشدید، وهو من الأعراض التي كان یبتلي بها فیظهر علیه التعب، ویعمل حتى لا یبقى له وقت للراحة أو فرصة للتوقف.

وقد ذكرت أنه قد بذل جهده في البدایة في طلب العلم وتدبیر شؤون البیت، ورعایة الأهل ثم تطور الأمر إلى إضافة المطالعة الأدبیة والتربیة للطلبة، وتطور بعد ذلك إلى التصدي للنشاطات العامة الإخوانیة والاجتماعیة والسیاسیة والثقافیة.

ولم یكن یبدو علیه مع هذا التطور أي تغییر ملموس في الموقف تجاه المراحل السابقة، فبقي درسه ورعایة الأهل والإخوان والأصدقاء على المستوى نفسه مع إضافة هذه الأعباء الجدیدة لعمله، بل یبدو أنه قد ازداد فاعلیة وعطاءً.

نعم، هناك بعض الأمور التفصیلیة قد تحولت بطبیعة الحال حسب الأولویات إلى غیره، فبعد أن كان یقوم بالتسوّق بنفسه أخذ یقوم بذلك غیره عنه، حیث أخذ یكلّف الآخرین بهذا الأمر ثم اتخذ خادماً لذلك، أو كان یقوم بتدریس أهل البیت فتولّى آخرون ذلك، مع استمرار الرعایة، وقد كان یجیب شخصیاً على جمیع الرسائل فتولّى آخرون مساعدته في ذلك.

وقد كان جاداً في التربیة الأخلاقیة والروحیة، وجاداً في التربیة العلمیة، وجاداً في التوعیة السیاسیة، والشعور بالمسؤولیة، ولكن _ كما ذكرت _ مع عاطفة وحبّ وودّ لا تمنعه عن القیام بهذا العمل الجاد، بل كان جاداً حتى في عواطفه بحیث لا یسمح بالتهاون في التعبیر عنها.

ویمكن أن أشیر إلى بعض معالم المثابرة والجدیة في عمله على شكل فهرست للنقاط:

١. الاستیعاب الواسع السریع للمادة العلمیة الموروثة مع الإبداع العلمي فیها والمناقشة الدقیقة الواسعة لها، بحیث كان یثیر استغرابنا فیه هذا الاستیعاب.

٢. التوسع في قراءة العلوم الحدیثة ذات العلاقة بنشاطه العلمي والثقافي، فعندما ألّف كتاب (فلسفتنا) قرأ أكثر الكتب الماركسیة والدیمقراطیة المتوفرة في ذلك الوقت في فترة قیاسیة، وعندما ألّف كتاب (اقتصادنا) استوعب النظریات الاقتصادیة المعروفة وبسرعة فائقة، وعندما كتب (الأسس المنطقیة للاستقراء) قرأ كتب الریاضیات.

٣. استیعابه لكتاب الأسفار الأربعة في فترة زمنیة قیاسیة وفي سن مبكرة، ومن خلال المطالعة والعرض على الأستاذ كما ذكرنا.

۴. قراءته لكتب الرجال والأصول والفقه وتاریخها ولاسیما آراء المحققین المتأخرین بصورة تفصیلیة واستیعابه لها.

۵. قراءته للتاریخ ولاسیما تاریخ أئمة أهل البیت(ع) وتحلیله الدقیق والسریع لها.

۶. قراءته لكتب العقائد والكلام وكتابته لكتاب (العقائد) بمنهج جدید، وهذا الكتاب لا نعرف مصیره؛ لأنه كان یقوم بتألیفه في أواخر أیامه(قده) وفي أیام محنته، ثم ذهب مع بقیة آثاره بسبب العدوان علیه وعلى بیته وكتبه.

٧. تألیفه السریع للحلقات الثلاث في علم الأصول، حیث یمكن معرفة سرعة الإنجاز فیها من خلال تاریخ التألیف المدوّن فیها.

٨. مراجعته لكتابات طلابه وبعض مریدیه بلا كلل، وبهذا الصدد لا زلت أذكر ما نقله لي العلامة الفقید السید عز الدین بحر العلوم، الذي كان محباً له وإن لم یكن من طلابه، حیث ذكر لي بأني كنت أعرض بعض كتاباتي على بعض الفضلاء الجیدین من أصدقائه وأساتذته فتبقى لدیهم مدة من الزمن، وجرّبت الشهید الصدر مرة في عرض الكتابة علیه فأرجعها فوراً مع الملاحظات فأصبت بالدهشة وعرفت الفارق بینه وبینهم.

٩. السرعة في كتابة الرسائل الطویلة والبیانات الثقافیة _ السیاسیة والمحاضرات القیمة.

١٠. كتابته للتعلیق على منهاج الصالحین والعروة الوثقى وكتابته لتوضیح المسائل عندما تصدى للمرجعیة في وقت قیاسي.

١١. إعطاؤه الفرصة والوقت الطویل للمناقشة التي كانت تستمر عدة ساعات أحیاناً ولاسیما للفضلاء من طلابه أمثال السید الحائري والسید الهاشمي.

١٢. كتاباته الأخیرة بعد انتصار الثورة الإسلامیة المطبوعة في كتاب واحد اسمه (الإسلام یقود الحیاة) وكذلك كتابته مادة علوم القرآن للسنة الأولى وبعض السنة الثانیة لكلیة أصول الدین بسرعة قیاسیة.

١٣. تنوّع الأعمال الفكریة والاجتماعیة والتربویة والتصدي السیاسي وكثرتها مع المحافظة على مستوى الإنتاج العلمي.

١۴. تفقّده لطلابه ومریدیه وحضوره المناسبات والعلاقات الاجتماعیة بصورة واسعة ولاسیما في المدة الأخیرة في حیاته وبعد أن اتخذ لنفسه مجلساً أسبوعیاً لقراءة التعزیة.

إن هذه النقاط تؤشّر جمیعاً على المثابرة والجدیة واستغلال الوقت وتنظیمه واستثمار الفرص المواتیة، وهو شيء مهم ودرس عظیم لابد لجمیع المتصدین والعاملین أن یستلهموه ویستفیدوا منه.

وقد جرّبت في المرحلة الأخیرة من حیاتي ولاسیما في العقدین الماضیین ذلك، فوجدت فیه البركة العمیمة التي أودعها الله(عز) في وقت الإنسان والتوفیق العظیم الذي یفیض به تعالى على عباده عندما تتوفر لدیهم الإرادة والتوكل علیه والإخلاص له في العمل.

ولا شك أن كل ذلك كان موفوراً في شخصية شهیدنا الصدر(قده).

الرابعة: الموضوعیة في التفكیر

لقد كان الشهید الصدر یتصف بما یمكن أن نسمّیه بـ(المنطقیة العلمیة في التفكیر والتحلیل الاجتماعي) والالتزام العملي به، وهي صفة قد تبدو لأول وهلة أمراً طبیعیاً لشخص قد تربّى هذه التربیة العلمیة وكان له هذا الانقطاع للعلم والتفكیر، ولكنه یصبح أكثر أهمیة وتعقیداً عندما یجتمع مع صفة العاطفة المتأجّجة النبیلة والتأثر الشدید بالانفعالات والأحاسیس الصالحة التي أشرت إلیها سابقاً.

كما أن هذا الموضوع على مستوى التفكیر قد یبدو طبیعیاً كما ذكرت، ولكن عندما یمتد ذلك على جانبین آخرین متخالفین وهما: التحلیل للظواهر التاریخیة والاجتماعیة والعرفیة، حیث تخضع عادة لمثل هذا الأسلوب وللالتزام والتطبیق حتى نهایة الطریق مهما كانت الصعوبات التي تواجهه، یصبح ذلك في غایة التعقید والشدة.

ویمكن أن نجد ذلك بوضوح على مستوى التفكیر في نتاجه العلمي المتمیز والمنظم، وفي منهجه الخاص في تحویل الجزئیات إلى عقد منتظم من النظریات في مختلف المجالات، وفي الاستدلال علیها طبق المناهج العلمیة التي توصّل لها أو أقرّها العلماء والباحثون.

ولكن ما یهمنا من ذلك هو ما نجده في جانبي التحلیل للظواهر الاجتماعیة والتعامل معها، كما في رؤیته وتحلیله للثورة الإسلامیة في إیران الذي بقي ثابتاً علیه في الرؤیة والموقف، حیث التزم بتأییدها حتى الشهادة وطلب من طلابه ومریدیه ذلك، وفي رؤیته للعمل الحزبي ونظریة الشورى وتبدّل موقفه منها عندما شك في دلیلها.[20]

وفي التزامه العملي للمشاریع الثقافیة العامة مثل كلیة أصول الدین والمدارس الدینیة المنظمة في الحوزة العلمیة كمدرسة العلوم الإسلامية الحوزویة التي أسسها الإمام الحكیم والتزمها الشهید الصدر بنفسه وطلابه ومریدوه، أو المدارس النظامیة كمدارس الإمام الجواد(ع) في بغداد، أو مدارس الزهراء(ع) في النجف الأشرف _ التي كانت الشهیدة بنت الهدى ترعاها بصورة خاصة _ وغیرها، وذلك بالرغم من تطور وضعه المرجعي وارتباط هذه المؤسسات بمواقع مرجعیة أخرى، أو جمعیات ومؤسسات اجتماعیة عامة.

وكذلك التزامه للمؤسسات السیاسیة العامة، كالتزامه لجماعة العلماء بالرغم من أنه لم یكن عضواً فیها، ومع ذلك كان یكتب جمیع أدبیاتها في المرحلة الأولى مثل منشوراتها السبعة والمقالات الافتتاحیة لمجلة (الأضواء) التي كانت تكتب تحت عنوان (رسالتنا) دون أن یذكر اسمه فیها، وكان ینوي أن یطبع كتاب (فلسفتنا) القیّم باسمها ولا یضع اسمه علیه، حتى سمع من بعض الأشخاص الاتهام بأنه یرید بذلك ترویج نفسه باستغلال اسم جماعة العلماء، فعدل عن ذلك.

كما أنه بعد الأزمة التي اختلقها بعضهم ضده في تحریض جماعة العلماء علیه انقطع عن كتابة (رسالتنا) رعایة منه للحكمة واستمرار الجماعة دون أزمات، ومع ذلك كله بقي على ولائه الكامل للعمل معها ولها.[21]

ومثل مشروع العمل الحزبي الذي دخل فیه عن إیمان فكري وعملي ثم شك في مشروعیته، واقترن ذلك الشك بطلب الإمام الحكیم منه الخروج من الحزب والتفرغ للعمل الحوزوي، فاقتضى منه أن یخرج من العمل الحزبي، ولكنه بقى یسند هذا العمل إلى مدة طویلة؛ لإیمانه بفائدته في بعض أوساط الأمة، وما یمكن أن یحققه من تكامل في عمل المرجعیة عندما ینسجم معها وإن اختلف معه بعد ذلك لأسباب فكریة وأخلاقیة.

ومثل مشروع المرجعیة الموضوعیة الذي وضع نظریتها وحاول أن یجسّدها عملیاً بالرغم من معرفته بالصعوبات العملیة القائمة تجاه ذلك.

إن كل هذه الأمثلة وغیرها تؤكد حقیقة ما أشرت إلیه من أنه كان یفكر بطریقة علمیة موضوعیة، وعندما یتوصل إلى الفكرة والنتائج كان یعمل على تنفیذ الأفكار التي یؤمن بها بقوة ویمارس شخصیاً ذلك، مما یمكن أن نعبّر عنه بتكامل الموقف العملي مع الموقف النظري في سلوكه العام.

الخامسة: الشجاعة العالیة

لقد كان الشهید الصدر یتصف بالشجاعة العالیة والإرادة القویة من وراءها، وكانت شهادته _ التي سوف أتحدث عنها إن شاء الله في أخلاقه الفاضلة _ تعبّر عن ذلك في شخصیته، ولكن موضوع الشهادة لما كان موضوعاً له خصوصیاته أرى من الضروري أن أشیر إلى بعض مواقفه الشجاعة في حیاته، والتي عرفتها عن كثب، والتي تعطیه امتیازاً حیث كاد أن یكون المتفرد فیها:

الأول: ما أشرت إلیه في الفصل الأول من قراره الانتساب إلى مسلك أهل العلم والتزامه لمنهج الأسلاف الصالحین، بما أحاط به من ظروف خاصة تحتاج إلى جانب الوضوح والاستعداد للتضحیة وهذه الشجاعة والإرادة.

الثاني: قرار تبني مشروع إیجاد الحركة الإسلامیة المنظّمة، وتحمّله لكل المصاعب والآلام والمشاكل التي لم تكن خفیة علیه، وهو یعیش مجتمعاً بعیداً كل البعد عن هذا العمل التنظیمي في جذوره الفكریة وقواعده التنظیمیة وضوابطه الاجتماعیة وأعرافه الأخلاقیة والاجتماعیة.

ولا یقلّ قرار الانسحاب من الحركة الشجاعة على قرار التأسیس بعد أن أصیب بالشك في المشروعیة الدینیة لهذا العمل وطلب منه الإمام الحكیم الانسحاب منه؛ لأنه لا ینسجم مع قواعد الحوزة والمرجعیة، وهو یعبّر عن صعوبة هذا القرار أیضاً في رسائله التي أشرت إلیها في بحث النظریة السیاسیة.

الثالث: أنه بعد الإعلان عن الافتراء الظالم في حق الشهید العلامة السید مهدي الحكیم ومحاصرة المرجعية الدینیة للإمام الحكیم في سنة 1969م. كان الشهید الصدر أول شخصیة تأتي من النجف الأشرف لتصل إلى بیت الإمام الحكیم في الكاظمیة، في حین تغیّب عدد كبیر من علماء بغداد والكاظمیة البارزین بسبب هذا الحادث، وقد قدّم اقتراحاً یدل على الدرجة العالیة من الشجاعة، ویقضي بتقدیم مذكّرة فوریة للنظام بالأسماء الصریحة ومنها اسمه احتجاجاً على موقف نظام البعثیین العفالقة وضرورة تحمل نتائج ذلك حتى الاستشهاد، ولكن كان رأي العلماء الحاضرین في ذلك الوقت التوقف عن ذلك، وقدّمت المذكّرة باسم الشهید السید مهدي الذي كان قد أعدّها لذلك من قبل.

الرابع: السفر إلى لبنان والقیام بعمل واسع لنصرة المرجعیة الدینیة في محنتها في وقت وقف كثیر من أنصارها القریبین موقف التردد والخوف، وقد كانت آثار عمله واسعة وقویة على النظام بدرجة أنه اتخذ قراراً بمقاطعة الحكومة اللبنانیة في موضوع السیاحة، للضغط علیها وطلب من العراقیین الخروج من لبنان فوراً وفي غضون أربعة وعشرین ساعة[22]، وقد كان الإمام الحكیم یتخوف علیه من ملاحقته من قبل النظام بعد رجوعه إلى العراق، وهذا الموقف یوثق في رسالة له تفصیلیة أشرت إلى بعض فصولها في بحث (مواقف الشهید الصدر).[23]

الخامس: الموقف الشجاع تجاه قضیة العدوان على الحوزة العلمیة وتسفیرها أثناء مرض الإمام الخوئي في سنة 1974م وقیامه بعملین فریدین:

أحدهما: طرح ومتابعة إرسال برقیة یوقعها كبار العلماء العراقیین أمثال الشیخ مرتضى آل یاسین والسید یوسف الحكیم والسید محمد سعید الحكیم والشیخ محمد جواد الشیخ راضي وغیرهم، وقد تمّ ذلك بالفعل وباشتراك عدد من محبیه.

والآخر: هو لقاءه بالإمام الخوئي في المستشفى في بغداد عندما كان عازماً على السفر إلى لندن للعلاج، ومطالبته إیاه باتخاذ موقف منع الطلبة والعلماء من الاستجابة الطوعیة للسفر وتوضیحه لأهمیة هذا الموقف والقرار واقتناع الإمام الخوئي(قده) بذلك.

وكانت أزمة تسفیر الحوزة العلمیة في أشدّها، وقد تحمّل الشهید الصدر مسؤولیة نقل رأیه في وجوب الصمود في الحوزة وعدم الاستجابة الطوعیة لقرار التسفیر، الأمر الذي أثار لغطاً واسعاً في الحوزة حتى في دائرة جهاز الإمام الخوئي نفسه، حتى أنقذ الموقف الإمام الخمیني(قده) بتدخّله القوي وإیقافه للتسفیر، ولكن بعد أن سافر عدد كبیر من وجوه الحوزة العلمیة.

السادس: الموقف الشجاع في الدفاع عن الشعائر الحسینیة عندما بدأ البعثیون یتحرشون بها، وعمله المتواصل على توعیة الأمة وتحریضها على الصمود، حیث قام طلابه بدور خاص في هذا المجال من خلال الاتصال بالمواكب ودعمها وتشجیعها أو الاتصال بالشخصیات الشعبیة والعشائریة ومنهم كاتب السطور والشهید السعید حجة الإسلام السید عماد الدین الطباطبائي الذي كان عمله في هذا المجال السبب الرئیس في اتخاذ النظام لقرار قتله، وإن كان النظام قد حاول التعتیم علیه بنسبة شيء آخر له، وإجبار بعض الأشخاص للاعتراف علیه بأنه مرتبط بحزب الدعوة الإسلامیة، مع أنه لم یكن له حینذاك أي ارتباط.

واستمر الشهید الصدر في هذا الموقف حتى كانت أحداث انتفاضة زیارة الأربعین في صفر المعروفة، وتعرض كاتب السطور مع عدد من المؤمنین إلى السجن المؤبد وعدد آخر منهم إلى القتل، وعدد كبیر یزید على عشرة آلاف إلى الاعتقال المؤقت والتعذیب منهم الشهید الصدر نفسه.

السابع: مواقفه الشجاعة مع نظام البعث، وتأیید الثورة الإسلامیة، والمقاومة الصلبة لهذا الكابوس الجاثم على صدر العراق، وعدم الرضوخ لكل الإغراءات والضغوط حتى الشهادة.

إن هذه المواقف على تنوع مجالاتها واختلاف أزمنتها وتمایزها عن المواقف الأخرى تعطي بعداً هاماً في الشجاعة العالیة والشخصیة القیادیة والسیرة الذاتیة للشهید الصدر. كما هي في الوقت نفسه تعبّر عن دروس في الأخلاق والشعور بالمسؤولیة والعمل السیاسي والاجتماعي وفي السلوك الإنساني.

السادسة: قوة الحافظة

یذكر بعض الأشخاص الذین لا أعرفهم: أن الشهید الصدر كان لدیه قدرة عالیة في حفظ النصوص منذ صغره، ولكني لم ألاحظ ذلك فیه طیلة مدة معاشرتي ولا أذكر أني سمعت منه ذلك، ولكنه كان على درجة عالیة من استذكار الموضوعات العلمیة والدقة فیها وفي نسبتها إلى أصحابها، وكذلك استذكار مضامین الأحادیث الشریفة والآیات القرآنیة التي كان یراجعها بسرعة، ویشهد له بذلك دروسه الفقهیة والأصولیة والتاریخیة والتفسیریة التي كان یلقیها عن ظهر قلب وبصورة منسّقة وأحیاناً لمدة طویلة إلا أنه كان یستعین أحیاناً لقراءة النص بالورقة، وكذلك ما كان یتحدث به من قصص وعبر ونوادر تاریخیة وحوادث شخصیة مشهودة أو مسموعة حول مختلف القضایا.

السابعة: حبه للأدب

لقد كان شهیدنا یستذوق الأدب سواء منه الشعر المنظوم الذي كان یتفاعل معه أو النص المنثور ولاسیما القصة الأدبیة، حیث كان یقرأها ویؤكد على قراءة بعضها باعتبارها روائع ذات مضمون أدبي وأخلاقي كما في قصة (البؤساء) لفیكتور هوجو.

ولم أعرف عنه أنه قد نظّم الشعر أو تداوله بالرغم من أن أخته الفاضلة كانت تنظّم الشعر وتكتب القصة، والظاهر _ كما أعتقد _ إن ذلك كان بتشجیعه لها وإشرافه على عملها مضافاً إلى مواهبها الجزیلة.

وقد كان لهذه الصفة المتمیزة دور كبیر في قدرته على الحدیث الشیّق والتصویر الدقیق للمطالب والاستشهاد بالأمثلة والحوادث والتوضیح والعرض الجید للموضوعات وتطویر أسلوبه، لیقترب من أسالیب العصر، ولیتفاعل مع الأوساط الثقافیة والمؤسسات العلمیة الحدیثة، مما أتاح فرصة جیدة لتعمیم ثقافة الحوزة العلمیة على هذه الأوساط حیث كان یكتب لها أحیاناً كما في كتاب (المعالم الجدیدة) والحلقات الأصولیة الثلاث (دروس في علم الأصول) و(الفتاوى الواضحة) و(الإسلام یقود الحیاة) فضلاً عن كتابي (فلسفتنا) و(اقتصادنا) وكذلك (البنك اللاربوي).

وكذلك كتابته مناهج كلیة أصول الدین، وكان لذلك دور في استقطاب الشباب الجامعي وكسب بعض العناصر منه إلى صفوف الحوزة العلمیة للدراسة فیها بعد أن أصبحت میسّرة بعض الشيء. مضافاً إلى فتح الأبواب أمامها في حركتها الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة والثقافیة الإسلامیة.

الثامنة: حبه للعلم والعلماء

لقد كان شهیدنا یحب العلم والعلماء ویقوم بتربیة طلابه ومریدیه على ذلك، وهذا أمر قد یبدو طبیعیاً وعادیاً من الشهید الصدر؛ لأنه بذلك یعبّر عن ذاته. ولكن عندما نلاحظ الدرجة العالیة لهذا الحب فسوف نراه میزة كانت تختص بها الفئة الصالحة النقیة من علمائنا الأفذاذ.

وأحاول هنا بهذا الصدد أن أشیر إلى جانبین من الحدیث:

أحدهما: یرتبط بحبه واحترامه للعلم والعلماء.

ثانیهما: منهجه في التربیة العلمیة.

أما الأول: فیمكن أن نلاحظ النقاط التالیة:

١. الاحترام والتقدیر للعلماء من أساتذته الذین كان یعبّر عنهم ویتحادث معهم أو یتحدّث حولهم بمنتهى الاحترام والتقدیر، فلا یعبّر عن أستاذه الإمام الخوئي إلا بسیدنا الأستاذ، وكذلك الحال بالنسبة إلى العلماء الماضین بالرغم من اعتزازه العلمي برأیه وسعة دائرة علمه.

ومن الطرائف في هذا المجال ما كان یذكره لي من تقدیر للمحقق الشیخ ضیاء الدین العراقي ویقول بأني أتمنى أن أكون موجوداً في أیامه لأحاوره، حیث كان یراه في جولان الفكر والرأي وقوة العارضة متقدماً على قرینیه المحقق النائیني والمحقق الإصفهاني.

٢. ومن حبه وتقدیره للعلم وللعلماء موقفه المتمیز تجاه المراجع الدینیین العامین الذین عاصرهم.

وهذا الموقف وإن كان ینطلق من نقطة أخرى مستقلة، وهي رؤیته في نظریة العمل السیاسي والاجتماعي وتقدیره واحترامه للمرجعیة الدینیة كإطار للعمل السیاسي والاجتماعي العام، ولكنه في الوقت نفسه یعبّر عن جانب من صفاته الحمیدة السامیة في هذا المجال.

٣. وفي مجال احترامه للمرجعيات الدینیة نلاحظ:

أولاً: احترامه لمرجعیة الإمام الحكیم، حیث نلاحظ أن الشهید الصدر بالرغم من أن موقعه وانتماءه الحوزوي لم یكن مرتبطاً بنمو وتكامل مرجعیة الإمام الحكیم، حیث إن الموقع الجغرافي في العلاقات الحوزویة وكذلك الانتماء العلمي والدراسي كان له تأثیر كبیر عادة في الارتباط بالمرجع، ولكن بالرغم من كل ذلك تعامل مع المرجعیة الدینیة للإمام الحكیم بدرجة عالیة من الاحترام والإخلاص والتقدیر سواء في مجال الترویج لها أو النشاط العلمي في إطارها أو في احترامها وتقدیرها والإحساس العالي بالمسؤولیة تجاهها.

وقد أشرت إلى بعض معالم ذلك في العرض السابق، ولكنه(قده) كان قد دوّن ذلك في مواضع عدیدة نشیر منها إلى الموضعین التالیین اللذین یعبّران عن هذا الموقف:

١. نص رسالته للعلامة الشهید السید مهدي الحكیم عند وفاة الإمام السید الحكیم والمنشورة في مجلة قضایا إسلامیة، حیث یقول:

أخي وعزیزي وشریك آلامي وآمالي!

أكتب إلیك وقلبي یتفطر وكیاني یتفجر ألماً والدنیا أمام عیني مظلمة بعد أن انطفأت الشمس وهوى العماد، وتهدّم البنیان الذي تعلّق به آمال كل الواعین من المسلمین، وسقطت الرایة التي عشنا في ظلها ونعمنا في فیئها بآلام الجهاد.

أي والله یا أخي نعمنا في فیئها بآلام الجهاد وما ألذّه من نعیم، وما أروعها من رایة تسقط وهي في قمة الصمود والثبات، في قمة النظافة والطهر، في قمة الاستقامة والنزاهة، في قمة الشموخ مهما احتشدت المصائب، ومهما تفرقت بالناس المذاهب.

أكتب هذه الكلمات وأمامي شریط من الذكریات، ما أعظمها من ذكریات عن الزعامة الرشیدة التي كان فقیدنا یمثّلها. إني لم ولن أنسى لحظة كل تلك الحیاة في ظل تلك الزعامة الرشیدة التي كانت بودّي وبودّ المئات من المخلصین أن یشتروا بقائها بدمائهم وأن یدفعوا عنها الموت بكل ثمن، ولئن كان الموت أمر الله الذي لا یردّ وقضاءه في أنبیائه وكافة أولیائه الذي لا یمكن أن یدفع، لا بوصفه إنساناً من لحم ودم، فإن هذا الإنسان قد مات، ولكن بوصفه خطاً للعمل في سبیل الله ومدرسة لتخریج العلماء المجاهدین، ومنعطفاً في تاریخ المرجعیة، ومفهوماً یشكّل الأساس لبناء الأمة من جدید.

بنفسي أنت، بنفسي آلامك، وبنفسي دموعك، وما أشدّ النار التي تتوهج نفسي، وأنا أشعر بأني لا أستطیع أن أكفكف شیئاً من هذه الدموع.

والمؤمن في قمة المحنة یجب أن یكون ثقته بالله(عز)، إن الله لا یخذل دینه ولا یخذل المجاهدین في سبیل دینه. لا یدخل الیأس إلى قلبك؛ لأن الله لا یزال حیاً وهو أكبر من الزعیم الراحل، وهو معنا ما دمنا معه، فلنثق بأنفسنا، ولنزدد إیماناً بربّنا من خلال المصاب، ولنحاول الخروج من الامتحان ونحن أطهر وأنقى، ونتخذ من الحسن والحسین قدوة لنا، إنهما أصیبا بسقوط الرایة في أحرج لحظة من تاریخ الإسلام، ومنیا بموت القائد الذي انتهى معه آخر أمل حقیقي في إعادة السفینة إلى طریقها النبوي. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظیم.

٢. مقاطع من رسالتین بعثهما إليّ أثناء وجودي في لبنان عام (1380ق / 1960م) عند حدوث الأزمة في قضیة حزب الدعوة والخروج منه:

حیث یقول في الرسالة الأولى:

سألتني أیها العزیز عن اتهامات الأجلاف التي رفعت إلى مقام سیدنا الأعظم ومدى مطابقتها لنفس الأمر، وأجیب بأن بعضها كان مطابقاً لنفس الأمر، وبعضها غیر مطابق، والاجتماع كان خصوصیاً بحسب عنوانه، ولكن كان في الاجتماع بعض الأفراد من خاصة سیدنا وقرابته ولم یبق أمر الاجتماع مخفیاً، بل شاع إلى درجة لا أستطیع تحدیدها، وأما ما ذكرته أیها الأخ من احتمال بشأن موقف السید فلئن كان صحیحاً أم لا فإني لم أشك لحظة من الزمان في أن السید لم یصدر منه شيء إلا على طبق المیزان الشرعي في نظره الشریف، ولم یتخلف عن الوظیفة الشرعیة التي یعتقدها قید أنملة، ولئن كانت وظیفته الشرعیة بحسب نظره لا تسمح له إلا بأن ینظر إليّ نظرة عادیة فلیس هناك أحد یجسر أن یؤاخذ سیدنا الأعظم على ذلك.

ویقول في رسالته الثانیة:

.. وبعد أن سقطت دلالة آیة الشورى في نظري جعلت ألتفت یمنة ویسرة في الفقه الجعفري، فلم أجد في هذا الفقه ما یسعفني.. وماذا أصنع إذا لم یكن قد خطر على بال الرواة الذین سألوا الأئمة(ع) عن كل صغیرة وكبیرة أن یسألوه عن الحكم الشرعي في أیام الغیبة.. وماذا أصنع إذا لم یكن الإمام قد تبرّع ببیان ذلك أو لم یصل بیانه على أقل تقدیر.. وهكذا نكبتُ من أعز مقدساتي عليّ ألا وهو الفقه الجعفري الذي أدین الله بأنه السبیل الوحید للنجاة، ثم وبعد ذلك وقبل أن أستعید جأشي وأقرر عزمي على أساس النكبة الأولى وإذا بالنكبة الثانیة أتلقّاها من مقدس آخر من مقدساتي وهو سیدنا الأعظم دام ظله الوارف، إذ یقف الموقف الذي حدّثتك عنه إذ یظهر أن من رأي السید أن الاشتغال بتأسیس المدارس.. یجب أن یكون فردیاً ویحرم أن یكون على أساس.. إن عملاً یقف منه زعیم الطائفة هذا الموقف.. لهو عمل غیر منتج شیئاً إلا الخسران.. .

وما أصنع أخیراً وأنا أقدّس الفقه الجعفري وأقدّس السید الأعظم معاً ولا أستطیع إلا أن أمنحهما أجلّ آیات الولاء..

وثانیاً: احترامه لمرجعیة الإمام الخوئي(قده) فإنه وإن كان یرتبط بها من ناحیة الانتماء العلمي؛ لأن تلمذته العلمیة كان على ید الإمام الخوئي وعلاقاته الحوزویة مع طلابه بصورة عامة، ولكنه تعامل معها من موقع الإحساس العالي بالمسؤولیة بعد وفاة الإمام الحكیم لا من موقع العلاقات الحوزویة، حیث كان یرى أن الإمام الخوئي یمكن أن تجتمع علیه الأمة في العراق بصورة عامة في التقلید بعد الإمام الحكیم كما أشرت إلى ذلك في بحث رؤیته للمرجعیة، كما كان یرى أیضاً أنه من الممكن تكوین الرؤیة المشتركة معه حول الأوضاع السیاسیة القائمة، في ظروف كانت الأمة في العراق تمر بمشاكل غایة في التعقید والخطورة.

هذا مما قد تداولنا فیه بعد وفاة الإمام الحكیم ووصلنا منه إلى هذه الرؤیة، وتمّ مفاتحة الإمام الخوئي(قده) بذلك أیضاً.

ولذا وظّف كل طاقاته لترویج هذه المرجعیة والمحافظة فیها على وحدة الكلمة في العراق مع وجود فرصة جیدة لطرح نفسه للمرجعیة في وسط كبیر من الشباب الواعي من أبناء الحركة الإسلامیة وفي وسط جید من الكسبة والمثقفین والمتدینین، ممن كان یتفاعل مع حركة الإمام الحكیم الاجتماعیة السیاسیة في العراق وخارج العراق. ووجود من یعتقد بأعلمیته من طلابه وبعض علماء العراق المعروفین، واعتراف الحوزة العلمیة بدرجته العلمیة المناسبة لهذا الطرح.[24]

ثالثاً: احترامه لمرجعیة الإمام الخمیني(قده) حیث نجد الشهید الصدر(قده) یضع كل وجوده الاجتماعي والسیاسي في خدمة زعامته ومرجعیته، فیوصي طلابه بذلك من خلال رسائله ثم یعلن عن هذا الموقف مما یكون سبباً أو أحد العوامل لاستشهاده بعد ذلك، كما أكد على هذه الحقیقة (صدام) في خطابه الأخیر هذا العام.[25]

ویقدّم في هذا المجال أیضاً طرحاً نظریاً یؤكد فیه هذا الدور الخاص للمرجعیة الدینیة والزعامة الإسلامیة والإمام الخمیني(قده)، من خلال الكراسات الأخیرة التي ألّفها في أواخر أیامه ومن خلال نظریة المرجعیة الموضوعیة.[26]

وأما الثاني، فیمكن أن نلاحظ الخطوط التالیة:

١. تربیة طلابه على الحوار والنقد للأفكار، وإعطاؤهم الفرصة الكافیة والواسعة لذلك، ومساعدتهم أحیاناً على التفكیر والوصول إلى النتائج المطلوبة، وبذلك تمكّن من أن یربّي في فترة قصیرة عدداً متمیزاً من الطلاب الفضلاء.

٢. مزج العاطفة والحب بالعمل العلمي كأسلوب للتشجیع والترغیب في التربیة كما أشرنا إلى ذلك.

٣. عرض كتاباته العلمیة والثقافیة على طلابه لإثارة حوافز التفكیر وزرع الثقة بالنفس، وهذا من الأسالیب النادرة التي یتبعها العلماء بحسب اطلاعي، حیث كان یمارسه بصورة واسعة وقد توفّقت للاختصاص بعرض كتابي فلسفتنا واقتصادنا.

۴. التنظیر والعمل على توضیح الأفكار لزرع القناعة والتسلیم للفكر وعدم الاكتفاء بالإسكات وسدّ منافذ النقاش مع بقاء الحیرة وعدم القناعة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

۵. الإشعار بالمسؤولیة في طلب العلم والعمل به، حیث لا یترك مناسبة إلا ویشیر إلى ذلك، وكما نلاحظ ذلك أیضاً بوضوح في خطابه حول حب الدنیا وفي أحادیثه حول تاریخ أهل البیت(ع).

۶. استخدام أسلوب الوعظ والإرشاد في التربیة العلمیة والحث على الاقتداء بالعلماء الصالحین من خلال القصة وضرب الأمثال والمقارنة والقدوة الصالحة.

٧. المتابعة لأحوالهم الخاصة وأعمالهم العلمیة ودروسهم وتدریسهم وتوجیههم وإرشادهم فیها وتشجیعهم علیها.

وهذه الخطوط شاهدتها شخصیاً منه في مدة المعاشرة والمعایشة له، وسوف أشیر إلى بعض مصادیقها إن شاء الله.

الفصل الثالث: الأخلاق الفاضلة

قد تتداخل الأخلاق مع الصفات الحمیدة وبالعكس بحیث یصعب التمییز بینها أحیاناً؛ ولذا سوف أشیر بصورة عاجلة إلى مجموعة من الأخلاق الفاضلة التي كان یتمیز بها شهیدنا الصدر(قده) وقد یكون بعضها مما یناسب ذكره تحت عنوان الصفات الحمیدة كالحیاء والعزّة.

الأولى: الإخلاص والشعور بالمسؤولیة

لقد كان من المعالم الأخلاقیة الواضحة في شخصیته هو معلَم الإخلاص في العمل وتبیّن مواقع القرب لله تعالى فیه وفي كل خطوة یخطوها بطریقة تتناسب مع منهجه المنطقي في التفكیر وفي السلوك، كل ذلك مقروناً بالشعور العالي بالمسؤولیة. ولم أكن أعرف في الشهید الصدر أفضل من هذا اللون من العبادة التي یمارسها بعد الشعائر الدینیة الواجبة.

وقد كان یسعى إلى أن یربّي طلابه ومریدیه والمحیطین به على هذا الإخلاص؛ لأنه یمثّل المفتاح للتوفیق في الأعمال والمحتوى والمضمون الحقیقي لكل عمل یقوم به المؤمن.

وحدیثه حول حب الدنیا وكذلك محاضرته القیمة في (المحنة) التي تعرضت لها الحوزة العلمیة والإمام الحكیم في آخر أیام حیاته تعبّر عن هذا الإحساس والشعور العالي بالمسؤولیة أكثر مما یحاول بعض الأشخاص الجاهلین أن یحملها على نقد الحوزة العلمیة والطعن بها، فإن النقد الذاتي في داخل الحوزة والذي یستهدف البناء یختلف في مدلوله كما في هدفه عن النقد الذي یستهدف الهدم والتشهیر والاستخفاف بالحوزة العلمیة وبیان عیوبها، والشهید الصدر في الوقت الذي كان یؤمن بالحوزة العلمیة وأهمیتها والتضحیات الكبیرة التي كانت تقوم بها وتقدّمها للمسیرة الجهادیة في الأمة، كان یشعر أیضاً بأن المسؤولیات الكبیرة التي تتحملها الحوزة العلمیة من ناحیة والظروف السیاسیة والثقافیة للأمة من ناحیة أخرى تفرض أن تقوم الحوزة بعمل كبیر وواسع في البناء الداخلي.

وهذا من قبیل ما ورد في القرآن الكریم من حدیث وعتاب لرسول الله- أو للأنبیاء(ع) بهدف بنائهم للوصول إلى المستوى المطلوب من المسؤولیة.

ویمكن أن أشیر هنا إلى عدة نقاط:

١. كتابته لكتاب فلسفتنا واقتصادنا والتوفیق الذي لاقاه في ذلك كان بسبب هذا الإخلاص، حیث كان التألیف في هذه المجالات یؤثّر سلبیاً في ذلك الوقت على سمعته الحوزویة ویعطي انطباعاً آخر عن شخصیته العلمیة وأنه مجرد كاتب إسلامي لا مجتهد كبیر ومدرس في الحوزة.

٢. كما كان على استعداد أن یصدر الكتابین باسم آخر تواضعاً وإخلاصاً منه في النیة، وكذلك الحال في جمیع كتاباته التي لم تصدر باسمه وهي عدیدة، حیث أشرت إلى بعضها مثل كتابته لمناهج علوم القرآن لكلیة أصول الدین أو مقالات (رسالتنا) للأضواء.

٣. المواقف التي أشرت إلیها في التضحیة والشجاعة، فإن ذلك إنما یكون في مثل ظروفه الخاصة منطلقاً عن الإخلاص والشعور بالمسؤولیة العالیة، وقد كان یمكنه أن یكتفي بمواقف المراجع العامین أو الانسجام معهم دون أي مشكلة، لاسیما وأن الحركة الإسلامیة المنظّمة كانت مترددة أو مختلفة في موقفها تجاه بعض هذه الأحداث على الأقل لأسباب لا مجال لذكرها.

۴. تحمّله للكثیر من المصاعب في سبیل إنجاز بعض القضایا الصالحة ذات المصلحة العامة، بحیث كان یذلّ نفسه أحیاناً بسبب ذلك. ففي أزمة تسفیر الحوزة العلمیة قام بزیارة أحد الأشخاص الذین لهم مكانة اجتماعیة بهدف تعبئة الأوضاع من أجل الدفاع عن الحوزة، مع أن ذلك الشخص كان ینتقده علناً في المجالس وكان یشعر بصعوبة التنازل له.

وكذلك تحمّله للآلام من بعض أبناء الحركة الإسلامیة عندما اختلف معهم في موضوع علاقتهم بالمرجعیة والحوزة وأسالیب الدعوة والعمل والموقف تجاه هجمة النظام على الحوزة العلمیة والحركة الإسلامیة وقیامهم بعملیة التشهیر به أو التمرد على توجیهاته، ولكنه بقي حریصاً على الدفاع عنهم والتألم لهم إخلاصاً منه للعمل وإحساساً بالمسؤولیة.

الثانیة: التضحیة والفداء

لقد كان الشهید الصدر على درجة عالیة من الاستعداد للتضحیة والفداء من أجل الإسلام والمصالح العلیا، وقد توّج ذلك بوضوح من خلال شهادته في سبیل ذلك، والتي كانت تعبّر عن أرقى درجات الشهادة، وهي تلك الشهادة التي تكون عن إرادة وتصمیم مقرونة برؤیة للواقع، وأثر ودور الشهادة في تغییر هذا الواقع، وتخطیط مسبق لها.

ومن الضروري أن نقف كثیراً عند هذه الشهادة التي تحدّثت عنها في مناسبات عدیدة أیضاً، وعملت من أجل أن تصبح منهجاً واقعیاً في حركتنا السیاسیة والاجتماعیة، وخصّصت أكثر من عشرین عاماً من حیاتي حتى الآن من أجلها، كما أنها تستحق أن یعطیها هذا (المؤتمر) الذي أكتب هذا البحث له موقعها الخاص، حیث إن الشهید كان یراها أفضل عمل قام به، وقدّمه على جمیع أعماله ونشاطاته الأخرى.[27]

ولكن یجب أن نعرف هنا أیضاً أن هذه الشهادة لم تنطلق من ظروف خاصة أمْلَت على الشهید هذا الموقف التضحوي، بل كانت التضحیة والاستعداد لها خلقاً ثابتاً فیه منذ عرفته في حیاتي. وكانت التضحیة شاملة بالنفس والأهل والاعتبار، وهي درجات عالیة جداً من التضحیة، فضلاً عن التضحیة بالكثیر من الشؤون الشخصیة والمادیة الأخرى.

ویمكن أن أشیر إلى بعض العناوین والتجارب الشخصیة معه بشأن ذلك.

كما یمكن أن نعرف جانباً من ذلك فیما عرضناه من شجاعته وبعض معالم سیرته، حیث یتداخل هذا الموضوع مع الشجاعة أیضاً:

١. موقفه من الفتوى بفصل الحوزة العلمیة عن العمل الإسلامي المنظم للمحافظة علیها، والذي لم یستوعب ویفهم مع الأسف من الحركة الإسلامیة وحتى من بعض طلاب الشهید الصدر البارزین ومحبیه المخلصین إلا في وقت متأخر وبعد فوات الأوان مما أدّى إلى مشاكل له مع الحركة الإسلامیة.

٢. موقفه من طرح مرجعیته الخاصة والامتناع عن ذلك في البدایة _ مع وجود ظروف مناسبة لذلك بعد وفاة الإمام الحكیم _ رعایة للمصالح الإسلامیة واحتراماً للعلم والعلماء ولوحدة الأمة وظروفها.

٣. موقفه من قضیة اتهام الشهید السید محمد مهدي الحكیم الذي أشرت إلیه سابقاً وتعریضه لنفسه إلى الأخطار البالغة، سواء في البدایة أو في سفره إلى لبنان.

۴. موقفه من الشعائر الحسینیة وانتفاضة زیارة الأربعین في صفر عام 1397ق الذي تحدّثت عنه في مجال آخر، وتعرّضه للاعتقال وخطر القتل.

۵. موقفه من مرجعیة الإمام الخمیني والثورة الإسلامیة وذوبانه فیها والنتائج التي ترتبت على ذلك.

الثالث: الصبر والتسلیم

لقد كان الصبر والتسلیم من الصفات البارزة في شخصیته، وهو خلق أساسي في القائد المتصدي حیث یكون القدوة لجمیع الأولیاء والحواریین، ویمكن أن نجد معالم الصبر هذه واضحة فیما عرفناه في الفصل الأول من المعاناة التي كان یواجهها منذ بدایة حیاته وحتى نهایتها.

وإلى جانب تلك المعالم من المعاناة كان یواجه باستمرار الآلام والمحن التي كان یواجهها بالصبر أیضاً في عدة أمور أخرى:

أ _ الآلام والمحن من حساده والجاهلین بفضله ومقاصده، حیث كان یَلقى منهم الافتراءات والتهم الباطلة والإشاعات الكاذبة ومحاولات الحطّ من شأنه أو التضلیل حول غایاته ومقاصده، وهي قضیة اجتماعیة وسنّة في حركة التاریخ یواجهها المخلصون والمصلحون ویمتحنون بها في صبرهم وصمودهم واستقامتهم.

ب _ الصبر على ردود الفعل لحركته الإصلاحیة في الحوزة العلمیة التي كانت تلاقي _ كما هي العادة _ ردود فعل سلبیة في بعض الأوساط المتخلفة أو المغرضة، وهي أوساط وإن كانت محدودة التأثیر ولكن مواقفها كانت مؤذیة روحیاً ومعنویاً.

ج _ الصبر على الأذى والمحنة من بعض العناصر التي كانت قریبة من مواقع یقدّسها ویوظّف وجوده لخدمتها. كما في بعض العناصر من حواشي المراجع والعلماء أو المؤسسات والحركات الإسلامیة كجماعة العلماء، وبعض الأحزاب الإسلامیة الذین لم یفهموا مواقفه الرسالیة أو متعلقي بعض طلابه الأوفیاء الذین كانوا یظهرون الولاء والإعجاب به بدرجة عالیة ومثيرة لمشاعر هؤلاء.

د _ الصبر على محنته مع بعض الأصدقاء الذین أصیب بالإحباط بسبب تصرفاتهم أو مواقفهم مع بقاء حبه ومودته لهم.

هـ _ الصبر على محنته مع البعثیین وأزلامهم وأعوانهم وهي محنة كانت أشدّ المحن والمصائب لدیه.[28]

الرابع: الوفاء

لقد كانت من الأخلاق المتمیزة لدى الشهید الصدر خلق الوفاء، فهو في نظره أمر مقدس وقیمه عالیة ومثال سامي وسلوك راسخ. وقد مرت بعض الأمثلة التي تعبّر عن عمق هذا الخلق النبيل في شخصيته.

ومن ذلك وفاؤه للإمام الخوئي في الاستمرار بحضور درسه في المرحلة المتأخرة، مع استغنائه عن ذلك بشهادة الجميع وترك كثیر من طلابه للدرس لهذا السبب، كما أنه أمر متعارف علیه في الحوزات، وقد ذكر لي هذا السبب عندما سألته عن ذلك.

وكذلك موقفه المساند لمرجعیته والالتزام بالأدب والاحترام الكامل لها بالرغم من إثارة الغبار وبعض المشاكل معه من قبل بعض عناصرها.

ووفاؤه للإمام الحكیم في إسناد مرجعیته والوقوف معها إلى النهایة والاستعداد للتضحیة من أجلها، وإسناده أیضاً لمشاریعها ولحركتها والدفاع عنها.

ووفاؤه لأصدقاءه كالعلامة السید العسكري والشهید العلامة السید مهدي الحكیم، ولكاتب السطور في كثیر من المواقف ومنها موقفه تجاه محنة السجن التي تعرضت لها؛ بسبب تكلیفه لي بالقیام بالمهمة في قضیة انتفاضة زیارة الأربعین في صفر عام 1397ق وتحمّله للمسؤولیة العرفیة فیها، وغیر ذلك من الموارد والأمثلة.

ولعل أهمها هو وفاؤه بالعهد للشهداء الأبرار والمؤمنین الأخیار الذین بایعوه على التضحیة والفداء وعاهدوه على المسیر في هذا الطریق، كما یعبّر عن ذلك في نداءاته التي سجّلها بصوته الشریف في الأیام الأخیرة لمحنته.

الخامس: التواضع

ومن معالم أخلاقه الخاصة تواضعه في العلاقات الاجتماعیة، وفي مقامه العلمي، وفي القضایا العملیة.

وقد لاحظنا جانباً من هذا الخلق في بعض الحوادث التي أشرنا إلیها، ولكن من باب تأكید الموضوع وتوضیحه أشیر إلى بعض آخر:

أما في العلاقات الاجتماعیة فیمكن أن نرى ذلك في طریقة تعامله مع عموم الناس ولاسیما الأوساط المستضعفة من الطلبة والشباب والنساء، من خلال احترامهم في اللقاء والمجلس والتودد إلیهم في الإقبال علیهم وإعطائه الوقت الثمین لهم للّقاء والسؤال والجواب.

وقد بلغ ذلك بالنسبة إلى بعض طلابه المستضعفین أن تحوّل إلى صدیق حمیم لهم، مثل ما حصل للأخ الفاضل الشیخ عباس أخلاقي ولأخینا الشیخ عبد العالي المظفر وغیرهم من الأشخاص، وكذلك في طریقة تعامله مع بعض خدمه والعاملین معه مثل الحاج عباس وملا باقر الأفغاني وغیرهما. وكذلك تعامله مع بعض الكسبة الذین یتردد علیهم بالشراء والجلوس حیث انتهى به المجلس، وفي الأكل والشرب واللباس.

وفي المقام العلمي تدریسه لبعض الأشخاص دروساً دون مقامه العلمي، وكذلك قبوله لكتابة بعض المناهج الدراسة لكلیة أصول الدین.

وكذلك عدم التباهي بالدرجة العلمیة والنبوغ العلمي، إذ لم أسمعه مرة واحدة طیلة هذه المدة أن صدر منه شيء من ذلك.

وأما في القضایا العملیة ومصلحة الإسلام فقد أشرت إلى بعض النماذج لذلك من خلال الحدیث عن تضحیته وشجاعته، وكذلك اجتنابه لجمیع المظاهر الشكلیة ذات العلاقة بالزعامة والقیادة والوجاهة الأسریة.

السادس: العزة والإباء

لقد كان الشهید یتصف بدرجة عالیة من العزة والإباء الإیماني دون غرور أو تعالٍ أو أنفة أو تكبر نعوذ بالله.

وقد أشرت إلى بعض الأمثلة سابقاً ومنها إباؤه طرح مشكلته المعیشیة حتى على خاله المرجع آل یاسین.

ولكن مع ذلك أشیر إلى بعض الأمثلة التي عایشتها على شكل سطور:

١. الاستنكاف عن القیام بأي عمل یستشعر منه محاولة الانتفاع الخاص المادي أو المعنوي. ومن ذلك أنه قطع درسه الخارج الحبیب إلیه سواء في بعده العلمي أو بعده التربوي لطلابه الأعزاء أو بعده العاطفي في لقائه بأحب الناس إلیه بصورة طبیعیة، وذلك عندما حاول أن یضغط علیه بعض الأشخاص اجتماعیاً ومعنویاً باتهامه بالسعي لكسب بعض الطلبة من ذوي المقامات الاجتماعیة لأغراض اجتماعیة، كما في قضیة أخینا الحجة السید عبد الهادي الشاهرودي الذي كان من الطلاب الجیدین في دراسته وأخلاقه وانتمائه إلى الأسرة الكریمة لآیة الله العظمى السید محمود الشاهرودي.

٢. تعرّض أخوه آیة الله السید إسماعیل الصدر لمحنة قاسیة، حیث شرّد من موقعه المتمیز في الكاظمیة وبتهمة ظالمة على ید الشیخ مهدي الخالصي وأعوانه؛ بتحریض من الحكم العارفي ولأغراض سیاسیة معروفة ترتبط بمرجعیة الإمام الحكیم، واستمرّت هذه المحنة حتى كاد أن يعتريها النسيان، وكان يشعر بالألم الشديد من أجلها، ولكنه أبى لعزته وكرامته أن یطالب المرجعیة الدینیة بحلّها بطریقة معینة، وقد فاتحني في هذا الأمر وكنت قد اطّلعت على موقف سلبي نسبي مبرر تجاه السید إسماعیل، ولكني كنت قد كتمت علیه ذلك إذ قد یسیئه بدون فائدة، ولكنه بقي محتفظاً بجلده وعزته حتى أذن الله بالانفراج للقضیة على ید المرجعیة الدینیة نفسها بعد أزمة الخامس من حزیران سنة 1967م.

٣. كان یتحسس إلى درجة عالیة من الأشخاص الذین یتعاملون معه من موقع الترفع الاجتماعي، مع ما یتصف به من التواضع والمرونة في التعامل مع الناس.

۴. لقد كان من السهل أن تؤخذ منه الأشياء المطلوبة عن طريق المودة والحب، ولكن كان من الصعب جداً أن تؤخذ منه تلك الأشیاء نفسها عن طریق القوة المعنویة والضغط الاجتماعي والسیاسي.

۵. رفضه للمرجعیة التي طرحها علیه النظام العفلقي في الأیام الأخیرة من حیاته وإغراءاتها وآفاقها الواسعة، وذلك عزة وكرامة للمؤمن والإسلام، مضافاً إلى المصلحة الإسلامیة العلیا.

السابع: الحیاء والخجل

لقد كان من صفاته الحیاء وهي من صفات المؤمنین كاملي الإیمان، وقد أشرت إلى بعض النماذج التي كان منها صبره على الدرس الذي لا یستفید منه؛ لأنه كان یخجل من الأستاذ الذي طلب منه ذلك.

ویستجیب لكثیر من الطلبات المشروعة حیاءً وإن لم یكن یؤمن بصحة ذلك إذا لم یكن فیه ضرر حتى أنه یكاد أن لا یردّ سائلاً عنه.

وكنت أشعر أحیاناً أنه كان یمتنع في البدایة عن بعض الممارسات الاجتماعیة العادیة بسبب هذا الحیاء والخجل.

الثامن: الزهد

لقد كان الزهد في الدنیا وما فیها من أخلاقه الفاضلة، وكان ذلك ینعكس على مأكله البسیط وملبسه ومسكنه وفراشه، والبساطة في العیش والسلوك المقرون بالاحترام والمودة.

وقد یفسّر ذلك بسبب الفقر والحاجة وشظف العیش، ولكن هذا التفسیر إنما یكون معقولاً في بعض مراحل حیاته. وأما عندما تحسّن وضعه المالي وتطور وضعه الاجتماعي وبقي على حاله في ذلك فلا تفسیر لذلك بحسب ما كنت ألمسه منه إلا الزهد.

وقد عُرض علیه أن تشترى له دار، وهو أمر طبیعي شرعیاً واجتماعیاً یمارسه جمیع العلماء والمراجع بل الطلبة الذین تتهیأ لهم الفرصة، ولكنه رفض ذلك زهداً وإباءً.

وكذلك أهدیت له سیارة ففكّر بالاستفادة منها في البدایة تسهیلاً لحركته في التردد إلى الكوفة وزيارة كربلاء ليالي الجمعة أو في الانتقال في داخل المدينة التي كان يستأجر سيارة أجرة لها كما هي عادة الناس في ذلك الوقت لقلة السيارات الخصوصية، ولكنه استشار بعد ذلك في هذا الأمر ثم باعها لينفق أموالها.

وقد بقي متمسكاً بمسكنه المتواضع في محلة العمارة من بعد زواجه وضيق المكان به وبأهله مع تطور وضعه الاجتماعي والمعنوي، وهو قادر على تبدیله، فلم يصنع ذلك حتى تطور الوضع الاجتماعي إلى حد فرض عليه تغييره إلى مسكن في محلة البراق، وهو بيت الحاج شيخ نصر الله الخلخالي، ثم انتقل بعد ذلك إلى مقبرة وبيت آية الله العظمى الشيخ المامقاني في محلة العمارة وهو مسكن كبير نسبياً ولكنه مقبرة معروفة وكانت سكنه حتى شهادته.

ولكنه بالرغم من هذا الزهد كان كريماً في الإنفاق وبصورة معتدلة على أهله أو الطلبة أو المشاريع الدينية أو النشاطات الإسلامية عندما تتوفر له الفرصة المالية.

وكذلك كان منفتحاً في نظرته على المستويات المعيشية للآخرين حیث كان يرى من حق طلاب العلوم الدينية أن یحصلوا على وضع طبيعي عادي في الحياة المعيشية، ولا يرى ضرورة التقتير بشأنهم، وهذه الرؤية تنطلق من بعد أخلاقي ومصلحة عامة، كان يرى فيها أن تطوير وضع الحوزة العلمية وإرفادها بعناصر جيدة يحتاج إلى هذا التطور في الجانب الاقتصادي المعیشي لطلبة الحوزة وبمستوى طبيعي، مضافاً إلى أن خدمة الإسلام تستحق هذه العناية المالية.

كما أنه كان يبدي التذاذه ورغبته في الطعام عندما يكون جيداً وإعجابه به عندما يتهيأ له بصورة مناسبة لدى الأحبة والأصدقاء، فهو صاحب ذوق حسن ويـتفاعل مع العواطف والإكرام ولكنه يراه شيئاً مؤقتاً لا يستحق الوقوف عنده أو الاهتمام البالغ به.

وقد حدّثني مرة أنه يلتذّ بصورة خاصة في أمور المعيشة بالقميص الحسن الذي يلبسه، وبالقلم الجيد الذي يكتب فيه، وأما ما دون ذلك فلم يكن يشعر برغبة خاصة تجاهه.

وقد كان أعظم تعبير له عن هذا الزهد هو زهده بالحياة الدنيا ومقاماتها وزخرفها والآمال العريضة فيها، والتي انفتحت عليه هذه الآفاق في مرجعيته في العالم العربي والإسلامي، بل في آفاق أبعد فاختار علیها جوار ربه عزيزاً أبياً شريفاً يسعى لإحياء الدين وإيقاظ الضمائر ومقاومة الظلم والطغيان والاستبداد ونصرة الإسلام وأهله.

فخرّ صريعاً في ميدان الجهاد والتضحية والفداء فنال علو درجة الشهادة التي هي برّ ما فوقه برّ، كما ورد ذلك في الحديث الشريف.

الفصل الرابع: العلاقات الاجتماعية

لقد كان للعلاقات الاجتماعية سواء في دائرة الأسرة أو في دائرة الأصدقاء والتلاميذ أو في دائرة العاملين أو في الدائرة الاجتماعية الأوسع موقع خاص في سيرته الذاتيه تستحق الوقوف عندها، كما أنها تكشف في الوقت نفسه عن بعض الأخلاق والصفات الحميدة الخاصة بالشهيد الصدر(قده).

العلاقة مع الأسرة

ففي دائرة الأسرة الخاصة والعائلة كان يقوم الشهيد الصدر(قده) برعاية خاصة فائقة لأسرته، بالرغم من أنه كان أصغر الولدين الذكرين فيها، وكان يعيش مع أمه وأخته البكر وأخيه وعائلة أخيه في بيت واحد متواضع.

فقد كان يكنّ لأمه الحب والاحترام بدرجة عالية جداً، حيث كان يلتزم تجاهها بنظام قاسٍ مثل: الإخبار لها عن جميع حركاته وسكناته، مما كان يلفت نظر القريبين له، وكنت في البداية أثير لديه التساؤل عن ذلك، حيث كانت وسائل الاتصال مثل التلفون مفقودة في ذلك الوقت، فيلتزم شخصياً بنظام حديدي في الأوقات والمواعيد والذهاب والإياب بسبب ذلك، مما كان يسبب ضيقاً أو حرجاً له في ذلك، ولكنه كان في ذلك يستجيب لطلبها وإلحاحها بسبب عاطفتها القوية وشفقتها الفائقة وما لاقته من فقد للأولاد والزوج.

كما كان يأخذه الاضطراب الشديد أحياناً شفقة وخوفاً عليها عندما كانت تصاب بنوبات من ضيق التنفس المتكررة التي تصبح في الحالات العادية للناس أمراً عادياً بسبب تكرارها، ولكنه بقي(قده) يحسّ بذلك الاضطراب إلى آخر عمره حباً بها وشعوراً بالمسؤولية تجاهها وشفقة عليها، وذلك تعبيراً عن العواطف المتأججة في نفسه تجاه الأشخاص الذين يحبهم.

ولعل مرجع ذلك _ مضافاً إلى طبيعة علاقة البنوة وخصوصية العاطفة المتأججة التي يتصف(قده) بها _ إلى أن أمه كان لها دور خاص في قراره في سلوك طريق العلم والمعرفة، فهو يشعر بحق إضافي خاص لها عليه، وكذلك بسبب أن أمه كانت قد فقدت عدة أولاد حتى كانت تعبّر عن ذلك أحياناً بالمبالغة في هذا الأمر بالقول: (إني قد ملأت القبور منهم).

كما كان يكنّ الاحترام الكبير لأخيه الكبير بالرغم من تفوّق الشهيد الصدر العلمي عليه واعتراف أخيه له بذلك، مع أن أخاه الكبير كان من فضلاء الحوزة العلمية المعروفين بالفضل والاجتهاد والتدريس وانشغال الشهيد الصدر بصورة دائمة بالعمل العلمي.

ولم يكتف بذلك الاحترام حتى أنه كان يشعر ويقوم بمسؤولية الرعاية لأخيه الكبير ويقوم تجاهه بذلك من رعاية مادية واجتماعية ومعنوية له ولعائلته، حيث كانت تشمله رعاية البيت _ كله _ المادية والتفكير بشأنه وموقعه الاجتماعي.

وكان للشهيد الصدر(قده) الدور الرئيس في تهيئة ظروف انتقاله إلى مدينة (الكاظمين) ورعاية وضعه الاجتماعي فيها هناك وتسديده بالقول والتخطيط والعمل والزيارة والإسناد، وكان أخوه يبادله الحب والاحترام الفائقين بحيث يشعر الإنسان بوحدتهما مع وجود الفوارق العديدة في شخصيتهما الذاتية وطريقة العمل والتفكير وأسلوب الحياة الاجتماعية والشخصية.

ولا أشك أن لأخلاق الشهيد الصدر الفاضلة ولصفاته الحميدة والتزامه الأدبي والأخلاقي بمبدأ هذه الرعاية الدور الأهم في المحافظة على هذه الصورة، حيث كان يتحمل القسط الأوفر من التضحية في الجانب الشخصي والنفسي والجهد العملي، وكأنه هو المسؤول الأول في البيت مع المحافظة على الصورة الظاهرية لموقع ومسؤولية الأخ الأكبر.

وقد كان لطبيعة وطهارة قلب أخيه آية الله السيد إسماعيل وسلوكه العام حسب سجيته وأخلاقه الاجتماعية العالية وتواضعه المقرون بالذكاء الحاد الذي يعبّر من خلاله عن سجيته وملاحظاته، دور مهم في إكمال الصورة واستقبال الشهيد الصدر(قده) لذلك بعقله وعواطفه.

العلاقة مع الأصدقاء

وأما في دائرة الأصدقاء فإن الشهيد الصدر(قده) كان يعطي للصداقة معاني أخلاقية ووجدانية لم أر نظيراً لها في حياتي على سعة دائرة الممارسة والمراقبة، فهو يرى الصداقة عبارة عن علاقة ورابطة متينة لا تقلّ إن لم تفضل على علاقات الأخوة النسبية، كما أنه يراها مجموعة من الحقوق المتبادلة التي عبّر عنها الشارع المقدس في علاقة الأخوة الإيمانية، ولكن هذه الحقوق المتبادلة هي حقوق تطوعية قد تكون من جانب واحد في مدياتها المادية، وهو ما يعبّر عنه الشارع المقدس بالمواساة له، ولكنه يطالب بإلحاح أن تكون من الجانبين في مدياتها المعنوية والعاطفية.

وأما في الحالة الوجدانية فقد كان يتحول الشهيد الصدر في الصداقة إلى ما نسمعه عن العشّاق الهائمين، فهو يسمح لنفسه أن يبكي لفراق الصديق أو لقائه حتى النحيب، كما يصنع ذلك عند إعراضه عنه، أو حتى عند احتمال وجود هذا الإعراض ويصاب بالصدمة والإحباط الشديدين بسبب ذلك، بل قد يصاب بالمرض أحياناً.

ويقوم بمناجاة الصديق وبث عواطفه ومشاعره وشجونه له في جلسات روحية وعاطفية وفكرية طويلة يستغرق ساعات، حتى لا يشعر الإنسان فيها بذهاب الوقت الثمين العزيز، وكان ذلك يثير الاستغراب للقريبين من حوله الذين يعرفون ذلك، ولكن في احترام وتقدير لهذا الوجد الصادق النابع من القلب والممزوج بالودّ والحب والمشاعر النبيلة والتهذيب العالي والقيم والأهداف الصالحة.

ويقوم أحياناً ببث عواطفه ومشاعره وشجونه الجياشة على الورق عندما لا يجد فرصة مناسبة لذلك في اللقاء الحضوري والحديث الشفهي.

ولا أقول ذلك مبالغة، بل عشت ذلك ممارسة لمدة لا تقلّ عن عشر سنوات، ولديّ بعض الذكريات والرسائل المعبّرة عن ذلك ولا زلت أعتقد أنها من أعزّ ما أملكه من مادة ومعنى بعد الإيمان والإسلام، كما لا زلت عندما أعيد قراءتها أحياناً أشعر بالسلوة والتصاغر أمام هذه العواطف والمشاعر الجياشة.

ولم تكن هذه العواطف والمشاعر وهذا الودّ بل (الوجد) فارغاً أو عن فراغ، بل كان دائماً مليئاً _ كما أشرت _ بالمعاني السامية والتهذيب العالي والعمل المتواصل والوفاء؛ ولذا كان العمل معه في تلك المرحلة يعتبر لذة ما بعدها من لذة.

كما لم تكن الصداقة عن فراغ فهو يختار أصدقاءه دائماً انطلاقاً من معاني الخير في المواصفات والأهداف والمشاعر والأعمال أو بعضها، وقد يخطئ أو يصيب، ولكن منطلقه _ على أي حال _ هو ذلك.

وأشير إلى بعض الحوادث البسيطة في علاقات صداقته معي:

١. في أثناء المد الشيوعي في العراق في شتاء سنة 1958 / 1959 حيث كانت أزقّة النجف الأشرف تمتلئ في كل قواطع طرقاتها بمن يسمّون أنفسهم (حرّاس الجمهورية) يتربصون بالمؤمنين الدوائر، وكان الشهيد الصدر يكتب في ذلك الوقت كتاب (فلسفتنا) فكنت أذهب إليه بعد الظهر لمراجعة الكتاب، وعندما ننتهي من ذلك كان يذهب بنا الحديث مذاهب شتى في جو من العواطف والحب حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والحوزوية والحركية، حيث كنا قد أسّسنا الحركة الإسلامية المنظّمة وساهمنا في إسناد ودعم جماعة العلماء وتصدّي المرجعية الدينية والحوزة العلمية للقضايا العامة.. فيطول الحديث بنا حتى ينتصف الليل وتخلو الأزقّة من المارة إلا هؤلاء الأوغاد، ونحن لا نشعر بذلك، فأخرجُ من بيته إلى بيتنا القريب نسبياً، وكنت أسكن في بيت المرحوم الإمام الحكيم حينذاك، كما كنت حديث العهد بالزواج، ويخضع بيت الإمام الحكيم للمراقبة المشددة من قبل هؤلاء الأشخاص وأطوي الطريق وعيون الأوغاد تكاد أن تلتهمني قبل عصيهم وأسلحتهم، وأصِل البيت وأهل البيت قد ناموا إلا زوجتي المسكينة أجدها تنتظرني على النافذة المطلّة على الشارع وهي ترقب الطريق لوقت طويل، وألقي العتاب منها وأعتذر بالعمل والمسؤولية فتصبر على ذلك ويتكرر هذا الأمر باستمرار.

٢. في إحدى ليالي الصيف وكنت عند الشهيد الصدر في الزيارة الاعتيادية التي أقوم بها له يومياً فيدخل الليل ويطول الحديث، وزوجتي في حالة الطلق والولادة، وأنسى ذلك ويطلع الفجر وأذهب إلى البيت وأرى زوجتي في حيرة بالغة من أمرها لا تدري ما تصنع وهي وحدها مع ثلاثة من أطفالها الصغار، ولم يكن لدينا أداة اتصال (تلفون) وأواجه هذا الحرج الشديد وأعتذر بالعمل والمسؤولية ولم أكن كاذباً في ذلك وهي تكاد أن تتفهم ذلك وتصبر عليه.

٣. كانت للشهيد الصدر علاقة صداقة قوية مع بعض الأصدقاء، ولكنها تصدعت فأصيب بالإحباط بسبب ذلك وولّد لدى الشهيد الصدر إحساساً _ كما ذكر ذلك لي _ بالخوف من تكرار هذه التجربة مع صديق آخر؛ ولذا كان يحرص أشد الحرص في متابعة الأمور الصغيرة التي تطرأ أحياناً على العلاقة من غيبة أو انقطاع أو عدم انشراح أو احتمال وجود انفعال سلبي ولو بسيط وما أشبه ذلك، وفي هذا الحرص الشديد والمتابعة يحسّ الإنسان أن الأمر الصغير أصبح لدى الشهيد الصدر أمراً كبيراً، وذلك بسبب الإحساس الوجداني العالي بحب الصديق وأهمية المحافظة على الصداقة.

۴. لقد طرحت عليه يوماً هذا السؤال أنه لماذا لا يحضر درس الخارج للإمام الحكيم[29] ويحضر درس الخارج للإمام الخوئي وكان يعني أن الحضور إذا كان للتكريم أو التشريف _ لأنه قد استغنى عن الحاجة العلمية للحضور وكان يدرّس بحوث الخارج حينذاك _ فدرس الإمام الحكيم أولى بذلك لما أعرفه من موقع للإمام الحكيم في نفسه، فذكر أن حضوره لدى الإمام الخوئي إنما هو وفاء له؛ لأنه لا يمكن أن يقدّم خدمة للإمام الخوئي إلا من خلال هذا الحضور، حيث إن موقفه وعمله كان إلى جانب مرجعية الإمام الحكيم حينذاك، واستدرك أنه إذا كنت ترغب بذلك فأنا على استعداد للحضور في درس الإمام الحكيم فاعتذرت منه في هذا الحديث ولم أذكر له رغبتي في حضوره.

۵. لقد طلبت منه يوماً أن أدرس لديه بعض الكتب الفقهية على مستوى السطح، وكان في ذلك الوقت يدرّس الخارج ونحن نحضر لديه درس الخارج أصولاً ولم يكن يدرّس في ذلك الوقت بحوث السطح، كما أن مستواه العلمي والاجتماعي كان يفوق ذلك، فبادر للقبول وباشر في ذلك دون الباقين، مع ما كان يكلّفه ذلك من وقت ثمين، مع أنه كان يمكن أن أحصل على هذا الدرس لدى أساتذة آخرين، ولكن شدة الودّ والحبّ والرغبة في اللقاء المستمر أوجد هذه الرغبة لديّ والقبول لديه.

۶. وقد صنع ذلك أيضاً لنفس السبب من جانبه ورعاية لحال الأخ الشهيد السيد مهدي(قده) عندما طلب منه ذلك أيضاً.

٧. لقد درس لديّ بعض الطلبة الجزء الأول من كفاية الأصول من أوله إلى آخره وهو من دروس السطح العالي وكان من الطلبة المشتغلين المحصلين، وكان يلحّ عليّ في الدرس حتى في أوقات التعطيل، وكنت أستجيب له باستمرار إلى أن أنهى الكتاب، وبعد مدة سمعت بأنه كان يذكر في بعض المجالس عدم استفادته الكاملة من هذا الدرس، فأحسست بالمسؤولية المعنوية تجاه هذا الموضع، فطلبت من الشهيد الصدر أن يعطيه فرصة لإعادة البحث لديه، وكان الشهيد الصدر يدرّس الخارج حينذاك وانقطع عن تدريس السطح ولم تكن علاقته بهذا الشخص جيدة، ولكنه وافق حباً واستجابة للصداقة وهو أمر غريب، ثم وقعت بعض الملابسات جعلت الشهيد الصدر يفكّر بقطع البحث مع هذا الشخص؛ لأنه كان يتعامل معه بطريقة مؤذية لم يوضّحها الشهيد الصدر، حفظاً لكرامة هذا الإنسان وتورّعاً، ولكنه لم يقطع تدريسه حتى استأذنني في ذلك، وهذا يمثّل منتهى الأدب والوفاء والحب.

٨. لقد ابتلاني الله تعالى بالسجن في العراق والحكم عليّ بالسجن المؤبد في قضية زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين من شهر صفر وهي قضية معروفة، وكان السبب الظاهري فيها للقضية هو أن الشهيد الصدر كان قد كلّفني بالقيام بمهمة الوساطة بين الحكومة والزائرين بعد أن أخبرته السلطة تراجعها عن موقفها في منع الزيارة للإمام الحسين(ع) مشياً على الأقدام؛ وذلك لأن الشهيد كان يريد أن يحفظ هذه الشعائر وكان يرى في هذا التراجع للسلطة عن موقفها نصراً للشعائر وفي ممارسة الزيارة بدون اصطدام سحباً للمبررات والذرائع التي تريد السلطة أن تختلقها لضرب الشعائر.

وكنت أرى أن الحكومة تريد أن تناور في ذلك وليس لديها حسن النية، خصوصاً وأن الدماء كانت قد جرت بين السلطة والناس من ناحية وأن بعض الزائرين قد أصبح في حالة شديدة من الانفعال، بحيث رفض مقابلة وفد آخر أرسلته الحكومة من كربلاء للتفاوض معهم، فأرادت السلطة أن تستغل ذلك لاختلاق مبرر جديد لضرب الزائرين، ولم يكن من الواضح مدى استجابة الزائرين لمثل هذا الطلب، ولكنه أصرّ على الموضوع فقبلت تحمل المسؤولية ولاسيما وأني استأذنته بالاستخارة فوافق عليها وخرجت الاستخارة جيدة، فقمت بالمهمة وتوفقت فيها بدرجة أحرجت السلطة وثبتت الشعائر الدينية، فتراجعت السلطة عن موقفها علناً ثم كان ما كان من أحداث اعتقال وإعدام وتعذيب وسجن ونقض للعهود والمواثيق من قبل الحكومة على عادتها في القضية المعروفة بانتفاضة صفر.

وقد كتبت للشهيد الصد رسالة أحدّثه فيها ما جرى عليّ في السجن سلّمتها للعائلة سرّاً عند أول لقاء معهم والذي تم تحت نظر ومراقبة الحكومة ولكن بصورة سرية لم ينتبهوا إليها، فأصيب بنوبة من البكاء والحزن الشديد.. وبقي الشهيد يقوم يومياً _ كما حدّثتني العائلة _ بزيارتهم إلى البيت، فيجلس في الباب لمدة من الزمن يسأل الأحوال ويتحدث إلى الأطفال، ويسلّيهم ثم لم يكتف بذلك حتى سافر إلى البيت الحرام للعمرة وكان أحد أهدافه في ذلك هو التوسل في البيت والتعلق بأستار الكعبة والدعاء في المسجد النبوي وفي حضرة النبي- والأئمة الأطهار(ع) لإطلاق سراحي وكان أن استجاب الله دعائه فأطلق سراحنا بعد رجوعه بأقلّ من أسبوعين.

٩. لقد كتب الشهيد الصدر كتاب فلسفتنا المعروف وكنت أراجع الكتاب معه لتقويم النص ووضع العناوين ومناقشة بعض الأفكار فيه وغير ذلك من الأمور التكميلية ولم يكن يخطر ببالي أن يذكر الشهيد الصدر شيئاً من ذلك، ولكن فوجئت عند مراجعتي لمسودّة الطبع عند تصحيحها أنه قد ذكر اسمي في المقدمة التي كتبها في آخر مدة الطبع شاكراً عملي وجهدي، وقد فاجئني بذلك لأنه دوّنه في التصحيح الثالث للمسودّات، ولكني قمت بحذف ذلك من المقدمة آملاً بالمزيد من الثواب وتعبيراً عن الحب والإخلاص، وفوجئ عند طبع الكتاب بعدم وجود هذه الفقرة من الكتاب، فلم يحدّثني بشيء حتى كان طبع كتابه (اقتصادنا) الذي بذلت فيه جهداً هو أقلّ من جهدي في (فلسفتنا) فلم يذكر الشهيد الصدر اسمي عند مراجعتي للمسودّات ولم أكن أتوقع ذلك أيضاً، حتى فوجئت بالكتاب عند صدوره أنه قد أورد اسمي بالمقدمة، فسألته عن ذلك وأنه كيف كان مع أنه لم يكن موجوداً عند مراجعتي له للتصحيح، فذكر بأنه طلب من عامل المطبعة أن لا يمرّ علي في التصحيح الملزمة الأخيرة في النوبة الثالثة لها والتي كانت فيها المقدمة لئلا أحذف الاسم كما صنعت في كتاب (فلسفتنا)!!

١٠. يذكر الشهيد في بعض رسائله التي كتبها لي جواباً على رسائلي بعض مشاعره في انتظار رسالتي وكيفية قراءتها وإعادة قراءتها..، مما يعبّر عن حس وجداني صافٍ وطاهر ورقيق لم أشاهده في حياتي كلها من أي أحد من المقربين لي أو من غيرهم.

إن هذه الأمثلة وغيرها كثير، وكل واحد منها وإن كان لا يشكّل أمراً مهماً، ولكنها عندما تتحول إلى سلوك وملكة في الإنسان بعيداً عن كل شوائب الرياء أو المصالح أو الانفعالات الآنية، تتحول إلى معانٍ سامية في مضمون الصداقة ومدلولها الإنساني الاجتماعي والإسلامي القيمي والأخلاقي والتكاملي، وتصبح تجسيداً لبعض المعاني الأخلاقية والسلوكية والعقائدية، وذلك عندما يتحول السلوك الراقي في الإنسان إلى طبيعة يمارسها كحالة عادية لا تحتاج إلى عناء من ناحية ويعاني من أجلها من ناحية أخرى، وهذا هو ما يمكن أن نفسّر به ملكة العصمة في الأنبياء والأئمة والأولياء، عندما تتحول كل معاني الخير والصلاح إلى صفة سلوكية ثابتة مقبولة وكل معاني الشر والفساد إلى أشياء مرفوضة ومبغوضة.

العلاقة الاجتماعية الهادفة

لقد كان الشهيد الصدر(قده) يهتم اهتماماً بالغاً في مرحلة التصدي للتدريس والعمل الاجتماعي بما أسمّيه بالعلاقات الاجتماعية الهادفة، حيث كان يخضع علاقاته إلى الأهداف الصالحة التي يتبناها، مع قطع النظر عما ذكرته في علاقة الصداقة المحدودة التي كانت تعبّر عن رغبة عميقة ومشاعر إنسانية طاهرة يحاول أن يجسّدها في هذه الصداقة، فإن للصداقة أحكامها وخصوصياتها، أما في خارج هذا الإطار فكانت العلاقة محسوبة بصورة دقيقة، ويمكن أن أشير إلى بعدين فيها: أحدهما الإطار، والآخر الأهداف:

أما بُعد الإطار، فقد كان(قده) يحاول أن تكون هذه العلاقة قائمة في إطار:

أ _ الحب والود والمشاعر الطيبة التي قد تتحول بعد ذلك إلى صداقة بالمعنى الأخص لها:

ب _ الاحترام المتبادل، والخلق الإسلامي في التواضع والإخلاص والعزة والكرامة للمؤمن.

ج _ البساطة والسهولة في الأخذ والعطاء والوسائل المعبّرة عن هذه العلاقات والحديث المتبادل فيها وفي تكوين العلاقة نفسها.

وأما بُعد الأهداف، فقد كانت الأهداف الإسلامية العليا هي التي تحكم هذه العلاقات، مثل تطوير وتنمية وإصلاح الحوزة العلمية، وإبلاغ وترويج الرسالة الإسلامية والدفاع عنها وتنظيم العمل من أجلها، والإصلاح بين الناس، ومقاومة الشر والفساد، والمحافظة على الشعائر الإسلامية، والبنية الأخلاقية الاجتماعية، والرؤية المستقبلية للحركة الإسلامية، وتعبئة طاقات الأمة في سبيل ذلك، وتيسير فرص العمل الإسلامي، وتجسيد معاني الأخلاق الإسلامية في العلاقات الاجتماعية.

ولذلك كان يهتم بنوع خاص في الأوساط الاجتماعية ذات العلاقة بهذه الأهداف مثل:

١. وسط الحوزة العلمية ولاسيما الطلاب الجدد الذين يكونون أكثر تقبلاً وتفاعلاً مع حركة الإصلاح والتنمية، والمهاجرين الذين يكون لهم دور كبير عادة في تحمل نشر وتوسعة دائرة هذه الحركة، وكذلك الطلبة المجدّين الذين يمكن أن يكون لهم دور خاص في إحكام بناء الحوزة العلمية واستمرار خط الاجتهاد والإصلاح فيها، وكان يرى للحوزة العلمية الدور الرئيس في عملية الإصلاح العام، فإصلاحها سوف يحقّق بصورة فعالة الإصلاح العام في الأمة ولاسيما في المرحلة الأخيرة من تطور نظريته السياسية الاجتماعية.

٢. الوسط العامل والمتحرك في الأمة سواء من أبناء الحركة الإسلامية المنظّمة أو من العناصر المتحركة الفعالة في وسط المساجد والحسينيات أو في أوساط المدارس والجامعات والمؤسسات والذين كان يعبّر عنها بمفاتيح العمل الاجتماعي، لما لهذا الوسط من دور كبير في تحقيق الأهداف.

٣. وسط الشباب الذي يمثّل المستقبل لكل أمة وكما أن الشباب بصورة عامة هم الطاقة المتحركة والمتفجرة _ عادة _ في المجتمع الإنساني، والأكثر فرصة للعمل وفراغاً في الوقت وتلقّياً للأفكار الإصلاحية، والأكثر استعداداً للتضحية والفداء.

۴. وسط المثقفين والجامعيين؛ لما لهذا الوسط من قدرة على التأثير والانتشار والنفوذ في مختلف قطاعات المجتمع بسبب ما يتمتع به من مستوى ثقافي ومعرفي وحضور في الإدارة الاجتماعية والتربية العامة والقدرة على العطاء والتوجيه.

۵. وسط النساء والمرأة الذي يمثّل نصف المجتمع، وكان يحتاج إلى جهد استثنائي لتطويره وتفعيل دوره في الأمة وهو وسط محروم وبعيد عن النشاطات الاجتماعية العامة والثقافية الدينية، ويصعب إيجاد العلاقات الاجتماعية العامة معه بسبب العوائق الدينية والاجتماعية والعوائق الخاصة؛ لذا كان دور الشهيدة بنت الهدى يمثّل واسطة العقد في هذه العلاقة الاجتماعية الهادفة وكان يشجّعها ويحثّها على القيام بهذا الدور.

وكان(قده) يستخدم كل طاقته الفكرية والأخلاقية والروحية، ويبذل جهده ووقته لتكوين وتيسير هذه العلاقة الاجتماعية العامة.

وقد كان هذا النوع من العلاقة قد تكوّن في حياة الشهيد الصدر _ حسب علمي _ في مرحلة متأخرة نسبياً، وهي مرحلة التصدي للعمل الاجتماعي بعد اكتمال الجانب العلمي فيه وما قارنه من جانب سلوكي وأخلاقي وبعد تجارب التدريس المحدودة والصداقة المحدودة أيضاً.

فقد كان اتصالي بالشهيد الصدر عندما كان عمره حوالي اثنين وعشرين عاماً ولم أكن أر أن له علاقات اجتماعية خارج دائرة الأسرة والأصدقاء والدرس المحدود، بالرغم من انتمائه إلى أسرتين علميتين معروفتين عريقتين ومنتشرتين في النجف والكاظمين وقم ولبنان، إلى جانب مرجعية خاله آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين وديوانية خاله الآخر الشيخ مرتضى آل ياسين، وذلك على خلاف أخيه آية الله السيد إسماعيل الصدر الذي كان له علاقات اجتماعية جيدة واسعة نسبياً.

العلاقات الاجتماعية الواسعة

لقد كان الشهيد الصدر(قده) لا يتصف بالميل إلى العلاقات الاجتماعية العامة كما ذكرت سابقاً، بل يمكن أن أقول بأنه كان يتصف من الناحية النفسية بشيء من السلبية تجاهها، ولعل ذلك بسبب حركته العلمية واستغراقه فيها، أو بسبب ما كان يتصف به من حياء فطري، أو بسبب ظروفه الاجتماعية القاسية التي أشرت إلى بعض أبعادها في الفصل الأول من الحديث، أو بسبب زهده فيها ورؤيته بأنها مضيعة للوقت، أو معرض للمشكلات الأخلاقية والاجتماعية أو غير ذلك من الأسباب أو بعضها أو جميعها، ولكنها هي الحقيقة. وقد صرّح لي بذلك، وأنه لو ترك وشأنه ولم يكن يشعر بمسؤولية خاصة تجاه هذه العلاقات، لتفرّغ للتفكير والعلم دون أي رغبة في هذه العلاقات.

ولذلك لم يكن الشهيد الصدر(قده) في بداية حياته وحتى عنفوان شبابه يمارس العلاقات الاجتماعية المعروفة في الحوزة إلا بقدر محدود جداً، وهذه العلاقات المعروفة هي حضور مجالس الفاتحة بصورة واسعة، أو حضور مجالس التعزية بصورة عامة، أو التردد على الديوانيات وحضور المناسبات الاجتماعية العامة، فضلاً عن إقامته للمجالس المذكورة أو فتحه منزله للزائرين أو غير ذلك من الفعاليات الاجتماعية؛ ولذلك يمكن أن نعبّر عنه أنه كان منطوياً على نفسه اجتماعياً.

وكان هذا السلوك يشوّش الصورة في أذهان بعض الناس البعيدين عنه، كما كان سبباً في خسارة القاعدة الاجتماعية الواسعة التي كان لها علاقات مع أسرتيه أو الأشخاص الذين يهتمون بهذا السلوك الاجتماعي ويرونه أساساً في مواقفهم وحركتهم.

ولكنه في مرحلة متأخرة من حياته بدأ الشهيد الصدر(قده) يهتم بصورة أكيدة بهذا الجانب، وذلك عندما تصدى للعمل المرجعي والاجتماعي العام فأسس له مجلساً أسبوعياً على الطريقة التقليدية تحضره وجوه اجتماعية وتقليدية ولقاء أسبوعياً في يوم الجمعة مع الزائرين لمدينة النجف الأشرف المقدسة التي يسكن فيها، أو المرتادين على ديوانه، كما خصّص وقتاً يومياً يفتحه للزائرين وأيام خاصة يعقد فيها المجالس العامة مثل مناسبة وفاة الإمام موسى الكاظم(ع)، كما أخذ يقوم بحضور وارتياد المجالس العامة، كالتعازي الحسينية الخاصة في المناسبات أو الدورية ومجالس الفاتحة التي تقام للتعزية بفقد الأشخاص، وزيارة القادمين إلى النجف من العلماء والشخصيات.. .

والسبب في ذلك هو وجود تحولين في مسيرة حياته: أحدهما نظري والآخر عملي.

أما التحول النظري فهو أنه بدأ ينظر إلى هذا النوع من السلوك نظرة إيجابية، وأنه يمثّل منهجاً مهماً في العمل المرجعي الاجتماعي حتى أنه ذهب في نظريته في المرجعية الموضوعية إلى إعطاء دور خاص للديوانيات (البرّانيات) الحوزوية للقيام بمهمات خاصة اجتماعية وسياسية في إطار المرجعية الدينية العامة وأنها مؤسسات وأدوات وأجهزة مهمة في العمل الاجتماعي المرجعي العام.

وأما التحول العملي فهو أن التصدي للعمل المرجعي كان يفرض ضمن أدواته الطبيعية هذا النوع الواسع من العلاقات الاجتماعية لتجسيد وإيجاد فرصة اللقاء المباشر مع الأمة وهو أمر ضروري في المراجع الدينيين[30] وكذلك للاستفادة من هذه الطاقات الاجتماعية وتوظيفها في خدمة العمل المرجعي الإسلامي الصحيح.

مضافاً إلى إيجاد قاعدة وحصانة اجتماعية للمرجعية الصالحة أمام أعدائها التقليديين من المتخلفين أو المتطرفين أو أعدائها أعداء الدين الذين يحاولون دائماً عزل المرجعية عن الأمة ومحاصرتها لإسقاطها.

ولم يكتف الشهيد الصدر(قده) في هذا المجال بالأساليب التقليدية التي كان يحرص أيضاً على ممارستها، بل حاول أن يطوّر الأساليب في هذا المجال للانسجام مع التطور العام في أوضاع الأمة الثقافية والاجتماعية، وذلك من خلال الزيارات التي كان يقوم بها إلى الكاظمية وكربلاء ولبنان وغيرها؛ ليوجد بذلك شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والثقافية العامة أو الهادفة، أو من خلال إسناد المؤسسات الإسلامية العاملة مثل جمعية الصندوق الخيري، والرابطة الأدبية وجماعة العلماء، والحركة الإسلامية المنظّمة وغيرها، وتوثيق الصلة معها، أو من خلال المشاركة بإلقاء المحاضرات وإرسال الكلمات في الندوات الثقافية والاحتفالات والمؤتمرات أو إرسال المندوبين والممثلين للمشاركة فيها، أو التصدي بصورة عامة للإصلاحات في الحوزة العلمية أو الدفاع عنها أو الدفاع عن الشعائر الحسينية إلى غير ذلك من الممارسات التي تحتاج إلى تتبع واستقصاء في حياته وهي كثيرة.

وبعض هذه الوسائل وإن كانت معروفة هنا وهناك وقد سبقه إليها بعض المراجع أو الشخصيات العلمية أو المؤسسات الاجتماعية ولكنه حاول أن يجمع بينها من ناحية وأن يوسّع دائرتها من ناحية أخرى، ويتصدى إليها بمبادرات خاصة وفي بداية مرجعيته من ناحية ثالثة، ويعطيها مضموناً فكرياً وثقافياً وإصلاحياً من ناحية رابعة.

وبذلك نتبين:

١. أن العلاقة الاجتماعية في حياة الشهيد الصدر كانت متطورة باستمرار في مضمونها وسعة دائرتها وتنوعها.

٢. كانت أيضاً ذات مضمون أخلاقي وعملي وعاطفي.

٣. تمثّل بكل أبعادها مبدأ من المبادئ النظرية في رؤية الشهيد الإسلامية في العمل الاجتماعي.

۴. هي صفة واضحة ترتبط بالسيرة الذاتية والعملية للشهيد الصدر(قده).

كلمة أخيرة

لقد كرّس ووظّف شهيدنا الصدر حياته كلها في خدمة الإسلام والمسلمين بصورة منظّمة ودقيقة وضمن منهاج عام، منطلقاً في ذلك من التجربة والمعاناة، ومن الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، ومن التقوى والإخلاص والتضحية، ومن الرؤية الواضحة للأهداف المقدسة النبيلة، والعلم والمعرفة بالرسالية الإسلامية، ونال بذلك عالي الدرجات في العلم والعمل <يَرْفَعِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ>،[31] وضرب مثالاً رائعاً للإنسان المؤمن، سواءً في علمه أو عواطفه أو علاقاته الاجتماعية، أو في تحمّله للمسؤولية تجاه شعبه، أو في رفض الظلم والطغيان حتى وصل إلى قمة عطاءه في مواجهة حكم العفالقة المجرمين، حين تضرّج بدماءه واستشهد في سبيل ذلك.

وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام 1400ق الموافق الثامن من نيسان 1980م على يد هؤلاء المجرمين الذين أرادوا أن يحتفلوا في أيام تأسيس حزبهم المشؤوم بإراقة هذا الدم الطاهر الزكي، ليكون ذلك وصمة عار وخزي لهم إلى يوم يبعثون، كما استشهدت معه أخته الفاضلة العالمة التقية النقية العلوية بنت الهدى آمنة الصدر، وسار على هذا الطريق ركب الشهداء والمجاهدين والمعذّبين في سبيل الله؛ ليبلغوا مدارج الكمال الإلهي ويحققوا سعادة الدنيا والآخرة.

فسلام عليهما يوم ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان أحياء عند ربهم يرزقون.

ونسأله تعالى أن يوفقنا للأخذ بثأرهم ثأر الله والتأسي بهم وأن يرزقنا عاقبتهم وأن يحقّق النصر للمؤمنين.

والحمد لله رب العالمين

18 شوال 1421ق

[1]. هناك مجموعة من الرسائل احتفظت بها عند خروجي من العراق، وهي رسائل سمح الزمن بوجودها بسبب السفر لي وله(قده) حیث كنا نتراسل أثناء ذلك، وهي قلیلة النظیر بحسب علمي واطلاعي حول رسائله(قده).

[2]. لقد كتبت في القدوة الصالحة مقالة جعلتها مقدمة لمحاولة الكتابة عن شخصیات ثلاثة عرفتهم عن كثب وتأثرت بهم إلى حد كبیر، هم الإمام الحكیم والشهید الصدر والإمام الخمیني، وقد طبع المقال في مقدمة كتابة موجزة عن الإمام الخمیني أیام حیاته.

[3]. حیث دفن هذان الإمامان في مقابر قریش فتحول قبرهما بعد ذلك محوراً لوجود هذه المدینة الكبیرة، ویوجد إلى جانبهما قبور كبار علماء أهل السنة مثل أبو یوسف صاحب أبي حنیفة وكبار علماء الشیعة مثل الشیخ المفید والسید المرتضى والسید الرضي والشیخ نصیر الدین الطوسي وغیرهم من كبار العلماء.

[4]. راجع مفاتیح الجنان، الشیخ عباس القمي.

[5]. یمكن الوقوف على تفاصیل أحوال الأسرة الكریمة من خلال الرسالة التي ألّفها فضیلة العلامة السید عبد الغني الأردبیلي تحت نظر السید الشهید، وأشار إلى كثیر من تفاصیلها سماحة السید الحائري في مقدمة كتابه (مباحث الأصول) في تقریر بحث الأصول للشهید الصدر.

[6]. كان یذكر الشهيد الصدر أن عمه السید مهدي قد خلّف ثلاثة من الذكور هم آیة الله السید محمد صادق الصدر والسید أبو الحسن الصدر والسید.. الذي استولى على التركة، وانتهى به الأمر أن باع المكتبة الجلیلة لجده السید إسماعیل الصدر.

[7] . الضحى: 6 _ 8.

[8] . لقد تحدث الشهید الصدر عن دور هذه الجذور التاریخیة في شخصیة الإنسان في رسالته خلافة الإنسان وشهادة الأنبیاء. الإسلام یقود الحیاة، ص 167. كما تحدثنا عن ذلك في بحث الإمامة واختصاصها بأهل البیت(ع) بصورة أكثر تفصیلاً وأوسع شمولاً، وهو كتاب تحت الطبع.

[9]. البقرة: 155.

[10] . یوسف: 67 _ 68.

[11] . الوسائل، ج 2، ص 908، عن الإمامین الباقر والصادق(ع).

[12] . م. ن، ص 906، عن الإمامین الباقر والصادق(ع).

[13] . البقرة: 273.

[14] . راجع بهذا الشأن ما ذكرناه في كتابنا دور أهل البیت(ع) في بناء الجماعة الصالحة، ج 1، ص 433 _ 434.

[15] . راجع في بعض التفاصیل: مباحث الأصول، السید الحائري، ص 43، نقلاً عن رسالة السید الأردبیلي .

[16] . م. ن.

[17]. التوبة: 71.

[18] . الفتح: 29.

[19] . المائدة: 54.

[20] . أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصیل في بحث النظریة السیاسیة للشهید الصدر(قده).

[21] . تحدّثت عن هذا الموضوع في مقال خاص مستقل .

[22] . لقد أعلن هذا القرار في حینه ویشیر إلى أثره الإمام موسى الصدر في بعض رسائله الشخصیة لي، وقد كان للإمام موسى الصدر دور كبیر في ذلك أیضاً.

[23] . لقد نشر جانب من هذا الموقف في بعض صحافتنا الإسلامیة، ولعلّي أوفق لنشره ضمن مجموعة الكتابة عن الشهید الصدر.

[24] . ولكن مما یؤسف له في هذا المجال أن بعض العناصر في جهاز الإمام الخوئي لم یكونوا یتحملوا وجود هذه الأرضیة الواقعیة لمرجعیة الشهید الصدر، فأخذوا یتحدثون إلى الإمام الخوئي ویصوّرون له أن الشهید الصدر یمهّد الأمور لمرجعیته الموازیة والمنافسة له، وكان الإمام الخوئي یرى في الشهید الصدر الأهلیة لذلك، ولكن یرى أن تصدّیه في هذا الوقت المبكّر على خلاف المصلحة العامة والخاصة للشهید الصدر، فأرسل إلیه بعض النصائح بهذا الشأن عن طریق بعض الخلّص من طلاب الشهید الصدر وعن طریق بعض الأصدقاء.

وتوجد بعض رسائل الشهید الصدر تتحدث عن هذا الموضوع المؤسف وواقع موقفه، وهكذا زاد في الطین بلّة أن بعض محبي الشهید الصدر وطلابه كان یعبّر عن حبه للشهید الصدر بطریقة مثیرة تفتح الأبواب أمام هذه الظنون والإثارات.

[25] . عام 2000م.

[26] . قد یثار سؤال حول عدم دعوة الشهید الصدر لمرجعیة الإمام الخمیني بعد وفاة الإمام الحكیم وطرحه لذلك بعد انتصار الثورة الإسلامیة، وقد ذكرت تفسیر ذلك آنفاً عند الحدیث عن مرجعیة الإمام الخوئي وقد فصّلت الحدیث نسبیاً في بحث رؤیته المرجعیة، ویلاحظ هنا أن الشهید الصدر طرح التبعیة لمرجعیة الإمام الخمیني(قده) بعد أن كان قد تصدّى الشهید للمرجعیة لأسباب موضوعیة مما یعبّر عن شدة فنائه واعتقاده بهذه القضیة.

[27] . لقد تناولت في الخطاب الذي ألقیته في المؤتمر الأبعاد الشرعیة لهذا النوع من الشهادة.

[28] . یوجد في كل مفردة من هذه النقاط تفاصیل لا یحسن الحدیث في بعضها ولا مجال للحدیث في بعضها الآخر، وهذه القضایا وأمثالها تعتبر أموراً طبیعیة مع تفاوت درجاتها تجاه المراجع والعلماء والمتصدین ولهم أسوة بالأنبیاء والأولیاء والأئمة الطاهرين.

ویلاحظ أن بعض الأشخاص لأسباب متعددة یحاول أن یبالغ في هذه الأمور أو یطعن من خلالها بالمراجع والمؤسسة الدینیة وطلاب الشهید الصدر والحركة الإسلامیة مع أن وجود مثل هذه الملابسات ونقاط الضعف لا یعني سقوط المؤسسة أو الجماعة أو الموقع مع كثرة نقاط الحسن والصلاح والمنفعة فیه.

إن الاعتزاز بشخصیاتنا الإسلامیة وعظمتها لا یعني الاستهانة أو الشطب أو الطعن بالوجود العظیم لكل هذه المؤسسات وإنجازاتها، وهي مؤسسات وإنجازات كان یكنّ لها الشهید الصدر كل تقدیر واحترام وحبّ ویجیز فیها بین العیوب والمحاسن.

[29]. الإمام الحكيم كان المرجع العام المتصدي للفتيا والعمل الاجتماعي وكان للشهيد الصدر تجاهه مودة واحترام بالغين، والدراسة في النجف الأشرف لها ثلاث مراحل في كل مرحلة عدة درجات؛ الأولى هي مرحلة المقدمات والثانية هي مرحلة السطوح أو السطح والثالثة هي مرحلة الخارج وهي مرحلة الاجتهاد.

[30]. نظرية المرجعية العامة تفرض _ كما شرحنا ذلك في كتابنا دور أهل البيت(ع) في بناء الجماعة الصالحة _ نوعين من العلاقة بين المرجع والأمة: الأول العلاقة المباشرة والأخرى العلاقة غير المباشرة عن طريق الوكلاء والمعتمدين، وكلا العلاقتين ضروريتين ومتوازيتين.

[31] . المجادلة: 11.