محمد باقر الصدر من النظرية إلى التطبيق

مجاهد أبوالهیل

تمهيد

تحتوي هذه الدراسة رغم قصرها على عدة عناوين، نحاول من خلالها معالجة وإضاءة عدة موضوعات لم تستوفِ حقها أو لم يتحقق ربط بعضها مع الآخر، تبتدأ بالصدر العبقري والمبدع، ثم تتهم الواقع المأزوم الذي عاشه الصدر، فتحاول نقد الجميع دون الخوض في التفاصيل، مستثنية جزءً منهم لا يتجاوز أصابع اليد، وبذلك يتم الربط بين جانبي الصدر النظري والعملي بعد تباعدهما نتيجة القراءات التجزيئية التي حاولت اختصار الصدر وفقاً لمقاييسها.

المدخل

الشهيد الصدر.. الواقع والنبوغ

الحديث عن محمد باقر الصدر لا يخلو من إغراء رغم الصعوبة التي تعترض الباحث وهو يخوض في مناطق هذا الرجل الاستثنائي، فالإغراءات التي يقدمها الحديث تعود بالفضل إلى الصدر نفسه الذي تجاوز شخصيته الذاتية التي يشترك فيها مع ملايين البشر العاديين، ليشكّل ظاهرةً ومشروعاً استثنائياً ملأ فراغاً علمياً، وأيديولوجياً، وسياسياً هاماً.

كما أن الصعوبات التي تُعكّر صفو الباحث تعود إلى شخصية الصدر الاستثنائية التي كانت متعددة الظواهر والإشكاليات لحد أن الباحث يصاب بالحيرة عندما يتعامل مع ظاهرة اسمها محمد باقر الصدر، لأنه لا يستطيع أن يقطع أي جوانب هذه الظاهرة أكثر أهمية فيقدّمها على غيرها.

فعندما نتعامل مع الصدر الفقيه، فإننا نجد أنفسنا أمام مشروع فقهي يتكون من فقيه واحد يعيش مع مئات الفقها، حياتهم الحوزوية التي يمارسونها، فيلتقي معهم في كثير من الأمور، فهو يرتدي اللباس الموروث لطالب العلم ويدرس في حوزة النجف العلمية على أيدي نفس الأساتذة الذين تتلمذ على أيديهم آلاف الفقهاء، لكنه يختلف معهم لحد التقاطع في كثير من الأمور كذلك، فالأشياء المتشابهة تتغير أحياناً تبعاً لتغير ظروفها، ولعل الأمور التي تميز الصدر عن غيره سهلة ومتيسرة لما سواه، لكنها ممتنعة في نفس الوقت، وهذا ما جعل الشهيد الصدر من (السهل الممتنع) كما يقولون؛ لأنه كان يعيش قلق الواقع وتحدياته، هذا الواقع المأسور لتقاليد وعادات أدّت إلى تشابه درجات السلّم وتساويها في الارتفاع مما جعل كثيراً من الخطوات تتعثر وهي ترتقي سلالم الواقع.

وعندما نحاول أن نخلع لباس الفقيه المتعارف عن الشهيد الصدر بحجة أنه تعامل مع قضايا المجتمع خارج نطاق الفقه التقليدي فإنه يأبى ذلك، لأنه يعتقد أن على الفقيه ارتداء أكثر من زي يتمكن من مواجهة الطقوس المتبدلة، وقد مارس هو ذلك فكان في مقدمة الصف الفكري وفي المنطقه المحرمة من الاختراق الثقافي ومواجهة التحديات، فأصبح بذلك (واحداً من أبرز روّاد الإبداع والتجديد الفكري في العالم الإسلامي، وأحد صنّاع المشهد الفكري).[1]

فالشهيد الصدر كان يتعامل مع الإشكاليات المطروحة على أرض الواقع بمنهجية كانت بمستوى تلك الإشكاليات، لأنه شخّص أكثر مشكلات العصر وتعامل معها بذهنية مفتوحة على ألوان الأفكار ومشبّعة بالفكر الأصيل الذي ورثه عن تجارب سابقيه، فأثبت أولاً أن الخطوط العامة للفكر الإسلامي أعمق بكثير من المشاكل الراهنة لهذا الواقع، وقد عبّر هو عن تلك الرؤية (أقول: لاحظنا مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي في مستواه العالي وواقع الفكر الذي نعيشه في بلادنا بوجه عام).[2]

وبالإضافة إلى انهماك الصدر بهذه الاحتدامات الفكرية التي مارسها كمسؤولية كان يجب أن يتولاها، فإنه كان يخوض جانباً آخر من الصراع، وهو الجانب العملي التطبيقي، الذي أولاه الصدر أهمية خاصة، فكان يمارس جزئيات هذا الجانب لحد الخوض في التفاصيل اليومية، فبقدر الرؤى التأصيلية التي كان الصدر يصوغها، ليعيد الفكر الإسلامي إلى واجهة اهتمامات الأمة، كان الصدر يصوغ مواقف عمليةً ذات بعد تجريبي، حاول من خلالها الوقوف بطول قامته أمام هموم الأمة التي كانت تبحث عمن يحمل عنها جزءً من آلامها وآمالها، فالعالِم من منظار الصدر ليس منظّراً أيديولوجياً يتحمل القضايا العلمية أو الفكرية أو الثقافية، بل يجب أن يكون العالِم بمستوى العالَم، وأدلجة الواقع لا تعني عند الشهيد الصدر شيئاً بقدر جعل أيديولوجيا الإسلام ذات بعد واقعي وعملي ليمارسها الكثير من الناس، وبهذا تنتقل المفاهيم الإسلامية من خانة الترف النظري إلى أرض الواقع العملي المفتقر إليها تجريبياً، وما المعطيات الفكرية والعلمية للشهيد الصدر إلا واحدة من هذه الانسجامات بين الصدر العملي والصدر النظري.

لا نريد الخوض أكثر في مجالات الصدر المتعددة رغم الإغراء الذي يقدمه لنا البحث، لكننا نريد من هذه المقدمة أن نصل لمنطقة وسطى في الكتابة عن الشهيد الصدر، لكي يتواصل عطاء الصدر النظري مع الموقف التطبيقي لهذا العطاء؛ لأن أغلب الكتابات عن الشهيد الصدر كانت تصبّ في طرفي العطاء، فأكثر الذين تناولوا الصدر هم إما من تلامذته والمتأثرين بفكره العلمي والمعرفي أو الذين بهرتهم الأبعاد التأصيلية للصدر، فيبدو الصدر من خلال كتاباتهم منظّراً فكرياً وفقيهاً مجدداً قفز على ثوابت المجتمع الكلاسيكي في الحوزة العلمية، وإما ينتمون لحركة الصدر السياسية، فيحاولون صبّ اهتماماتهم على اللون الأحمر في شخصية الشهيد الصدر.

وسنحاول أن نوصل الصدر بالصدر، لنخرج بنتيجة حقيقية كأنها الصدر، وحاولها الكثيرون لكنهم لم يستطيعوا أن يكوّنوها، نتيجة عدم انسجام وتواصل آلياتهم في العمل الإسلامي.

ولو قُدّر للصدر أن يعيش عقدين آخرين من الزمن لأشبع أكثر مشكلات العصر حلولاً ونظريات ومواقف، لكن عوامل كثيرة تظافرت على احتواء هذه الظاهرة والحد من اتساعها، خوفاً من مدّها الآتي الذي حاول اجتياز الحدود الجغرافية التي كان يتأطر بها الصدر.

ليس المراد من هذه المقدمة تكرار معطيات الصدر وعوامل نجاحه أو عدمها، وإنما أردنا من ذلك الدخول في موضوع البحث ولكي لا نقفز بالقارئ فجأة، سنأتي على شيء مختصر من الأبعاد النظرية التي انتقل منها الصدر إلى باحات التطبيق والممارسة، ليسجّل لذلك علامة فارقة في تاريخ المرجعية الدينية ويكون نقطة مضيئة في الزمن المظلم.

الشهيد الصدر.. الرؤى النظرية

من الإشكاليات التي رافقت بروز الصدر كظاهرة علمية استثنائية هي التي طرحها أكثر مثقفي العالم (من أي الجامعات تخرّج محمد باقر الصدر؟) وهذا التساؤل بقدر ما يريده من استفهام حقيقي، فإنه يتهّم الحوزة العلمية التي رغم إمكاناتها العلمية الهائلة، فإنها ظلّت عاجزة عن إنجاب مثل محمد باقر الصدر ذلك الرجل الأسطوري في أذهان كل من سمعوا بإنجازاته، فالحوزة العلمية مليئة بمئات الفقهاء والعلماء والباحثين والمؤرخين والمفكرين، لكن لكل منهم منهجيته الخاصة في التعامل الجزئي مع الواقع وعدم تجاوز الحالة التخصصية التي تطبع اهتماماته، فالاختلاف بين الصدر وهؤلاء يعود بالأساس إلى (مواصفات شخصية في التفكير والعمل والدور، بالمستوى الذي مكّنه من تشييد منهجية ساهمت في إعطاء التجديد والإبداع بُعداً تاريخياً في مفصل مهم وخطير من مفاصل حركة الفكر الإسلامي المعاصر).[3]

ومن خلال هذه القابلية الذاتية المتوثبة انطلق الصدر في مشروعه التأصيلي محاولاً صياغة النظرية الإسلامية في كل حقول المعرفة، ومن خلال الموروث المعرفي الكبير – الذي تتوفر علية الأمة الإسلامية – استطاع الصدر توظيف ذلك الكم الهائل من المعارف في خدمة مشروعه الفكري الذي يهدف من خلاله معالجة مشكلة العالم الإسلامي خاصة، ومشكلة الحضارة الإنسانية الراهنة بصورة عامة، ساعدته في ذلك منهجيته الموضوعية في معالجة الأشياء فقد قفز بالمعارف الإسلامية من المنهج التجزيئي السائد إلى منهج كلي ينظر للأمور نظرة موضوعية شاملة.

ولم ينظر الصدر للمشكلة من زاوية ضيّقة كان يطلّ منها على العالم وإنما من خلال انفتاحه على تيارات الفكر الإنساني الحديث ومدارسه الأيديولوجية ونقد هذه التيارات وانهيارها أمام الثوابت الإلهية المطلقة، ليتسنى له صياغة النظرية الإسلامية وتحديد المركّب النظري في كل حقل من حقول الإسلام (ومن أبرز الدلائل على جهوده الفكرية والاجتماعية محاولاته تقديم الإسلام بأسلوب علمي ومنطقي، وهو عندي المدرسة المثلى مقابل المذاهب الفكرية الحديثة المعروفة، إنه سعى للبرهنة على أن الإسلام ليس قادراً على إدارة المجتمع الإنساني فحسب، بل ذهب إلى اعتبار أن إحلال النظام الإسلامي محل النظم البشرية الصرف، لاسيما صروح الفكر الغربية والشرقية، من أجلّ مهامّ علماء الإسلام المؤمنين..).[4]

وما الكتب القيّمة التي ألّفها الشهيد الصدر في كل مجالات الفكر الإسلامي إلا دليل على قيمة هذا العطاء وأهمية هذا المُعطي الذي أعاد زمام المبادرة من موقع القوة لكثير من القضايا والإشكاليات الإسلامية، (لقد أسهم العطاء الفكري للشهيد الصدر في التبشير بنمط جديد من الوعي بالإسلام ومناهج التفكير الإسلامي واكتشاف تهافت المرتكزات المادية للفكر الغربي الحديث، وتفنيد التصور الذي قدّمه هذا الفكر عن الكون والإنسان والتاريخ وتحديد الحدود الدقيقة لمساحته التي يمكن أن يقول فيها كلمته، ونقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الأوروبية الحديثة، وإنها هذه الأسطورة في المادية الديالكتيكية بوصفها الفسلفة الوحيدة ذات الرؤية الإسلامية).[5]

ولم يقتصر الشهيد الصدر في أبعاده التأصيلية على مشكلات الواقع الفكري، بل تجاوز ذلك إلى الواقع العلمي الذي كان يعيشه بصورة خاصة، فقد خاض الصدر في اختصاصه كفقيه أكثر مما خاضه كمفكّر، وقد سعى لمنهجة العلوم الدينية الموروثة وإضافة اكتشافات جديدة إليها، كما حاول تأسيس أطروحة جديدة في عالم المرجعيات الدينية، أطلق عليها (المرجعية الصالحة) أو (المرجعية الموضوعية) أراد من خلالها خلق (مرجعية هادفة بوضوح ووعي تتصرف دائماً على أساس أهداف حقيقية، بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة).[6]

كما ابتكر نظريات جديدة في علم الأصول خصوصاً وبقية العلوم الدينية عموماً، ليكون من المجددين والمصلحين في الحوزة العلمية.

كما خاض الشهيد الصدر مشكلات الواقع الإنساني الاجتماعية والسياسية، ليسجّل رقماً قياسياً في ذلك، فلم يوجد فقيه في ذلك الوقت استطاع أن يشارك الأمة تداخلات واقعها الاجتماعي الأسير للنظم السياسية المتسلطة على المجتمع والدولة إلا الإمام الخميني والشهيد الصدر. نعم يوجد علماء ومراجع كانت لهم تحركات من هذا النوع، لكن مواقعهم تختلف عن المواقع التي انطلق منها الخميني والصدر” اللذان كانا محطّ آمال المتحررين والمستنيرين من أبناء المجتمع الإسلامي، وبهذا يصح لنا أن نقول: (إن الشهيد السيد محمد باقر الصدر يشكّل ظاهرة متميزة في عالم الفكر الإسلامي المعاصر وفي مسيرة الحركة الإسلامية العالمية).[7]

الشهيد الصدر.. المواقف التطبيقية

إلى جانب الأسس النظرية التي كان الصدر منهمكاً في تأصيلها وبلورتها في عالم الفكر الإسلامي والإنساني، كان الصدر يجسّد على أرض الواقع كثيراً من تلك النظريات، وكانت أفعاله ومواقفه العملية تتحرك لتشارك رؤاه النظرية في الدعوة إلى إقامة حكم الله العادل في الأرض، فالشهيد الصدر كان أول من يلبّي دعوة نفسه، ليكون في أرض التجربة الحسية التي بلورتها نظرياته الحدسية، ولعل خسارة الصدر الفادحة كان سببها هذا الجانب المشرق من تجربته؛ لأنه لو عاش منظّراً أيديولوجياً أو واعظاً من وعاظ الحوزة العلمية، ولم يمارس ما يدعو الناس إليه، لما منيت الأمة بالخسارة الكبرى باستشهاده ولظلّ مواصلاً مشروعه الفكري التأصيلي حسب الظرف الزمني المهيأ له ولاستطاع أن يتوافق مع مخالفيه الفكريين الفارغين من التطبيق؛ لأن التنافس في التطبيق أخطر من تزاحم الأفكار في عالم المثاليات السياسية، خصوصاً والشهيد الصدر لم يكن متقدماً بالعمر، وبالتالي أن أبرز أفكاره النظرية قد سُجّلت أو اكتملت، بل إن الصدر كان يمتلك مجداً آتياً يلوح له في الأفق البعيد، وما زالت طموحاته الفكرية والسياسية في مقتبل تبلورها ونشوئها، الأمر الذي يدعوه للتوقف أو التباطئ في تحركاته التي ربما ستذهب بمجده كله بمجرد أن لا تتوافق مع متبنيات السلطة، لكن الصدر يدوس على كل هذه الاحتمالات ويكتفي بمجد أكبر ليخرج بأداة الاستثناء الإلهية من هذه الآية <وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ>.[8]

فيحتفظ بمجد التطبيق والتوافق العملي والنظري بين متبنياته وممارساته، فمحمد باقر الصدر فكرة عصيّة على التفنيد والتلاشي؛ لأنها تختلف عن جميع الأفكار التجريدية الفارغة، وتصبّ في الحقيقة المطلقة التي شكّل صورتها المثالية؛ لأنه مزج بين أعظم أمرين تنافساّ في دعوة الرسول- للقيم الإسلامية المُثلى، فجمع شرطي التفاضل في الحديث الشريف (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء) فاختلطت دماء الصدر مع مداد نظرياته الذي لا ينضب.

ولم يكن وعي الشهيد الصدر لقضايا عصره واحتياجات جيله إلا واحداً من تطبيقات الصدر العملية لآليات تفكيره، فـ(عدم الاكتفاء بالتنظير وممارسته التغيير والعمل الفكري والسياسي ميدانياً، مع حذر دائم من جمود الأساليب، ووعي حاضر للخطة التاريخية التي يعيشها المجتمع).[9]

وحتى الأبحاث والمعارف التجريدية التي يكتفي فيها البعض بالبحث العلمي والتحليل الفلسفي، لأنها لا يمكن إنزالها للواقع المادي الذي يأنس به العقل، حتى هذا النوع من المعارف حاول الصدر أن يوظفه في خدمة قضايا الإنسان الفكرية التي كان الآخر يحاول من خلالها هدم النسيج الفكري للعقل الإسلامي.

فمن خلال الفلسفات الغربية الحديثة استطاعت بعض المدارس الفكرية سلب الهوية الحضارية للشعوب وإحلال مركّبهم الحضاري محلها، وهذا ما دفع الشهيد الصدر للتعمق أكثر في هذا الجانب الفلسفي التجريدي، (وبغية توظيف الفكر في خدمة قضايا الإنسان هبط الشهيد الصدر بالفلسفة من طابعها التجريدي البحت، وحاول أن يبرز ارتباطها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما نلاحظه بوضوح في كتاب فلسفتنا).[10]

وتحتل مشاكل العصر الجانب الأهم في تحرك الشهيد الصدر فهي التي تدفعه لتقديم أولويات فكرية كان يتحرك لأجلها، وكما يقول السيد محمد خاتمي (إن شخصية عظيمة كشخصية العلامة الشهيد الصدر لم تستمد عظمتها من ثراء معارفها الدينية والعلمية والاجتماعية وسعتها وحسب، بل ومن وعيها لعصرها ومن جهودها القيّمة في تحديد معالم الطريق للباحثين عن الحقيقة وطلاب الحق في عصر يزخر بالحوادث والاضطرابات وكل ذي بُلغة وثيقة الصلة بالعصر وإنسان العصر).[11]

ومن الواضح أن الجانب العملي في شخصية المبدع أو العبقري له أبعاد تأثيرية ذات قيمة مقدسة تضفي على النظريات التي يطرحها سمات الخلود، ولعل تصرفاً إنسانياً واحداً يُثمر أضعاف المرات التي تثمرها الرؤى النظرية، خصوصاً حينما يصدر من شخصية عظيمة كالتي ينطوي عليها الشهيد الصدر، لذا يجب أن نولي هذا الجانب التطبيقي في شخصية الصدر اهتماماً خاصاً؛ لأن الإسراف في الدراسات والأبحاث عن الأبعاد التأصيلية في عطاء الصدر يساهم في تضييع عطاء ذي قيمة إنسانية مهمة كانت تتجسد في سلوكيات هذا العالم الكبير، فلا يصح أن نهتم بجانب على حساب الآخر، وحسب تعبير الكاتب عبد الرحمن منيف:

إن الكثيرين يعتبرون أن ما يعنيهم من العالِم المعارف والخلاصات والنتائج التي توصل إليها باعتباره عالِماً، أكثر مما تعنيهم حياته وطبيعته الشخصية التي كانها؛ لأن الأولى عامة ملموسة وأيضاً مستمرة بمعنى ما، في الوقت الذي تتوارى الشخصية وحياتها الخاصة بمجرد موتها المباشر، أي زوالها المادي وعدم القدرة على إضافة أي شيء للنظرية.[12]

وأعتقد أن تجربة وحياة محمد باقر الصدر أعطت للحالة الإسلامية تجربة نموذجية يجب أن تسير وفقها الشخصية التي تريد أن تتحرك داخل إطار الجو الإسلامي والإنساني؛ لأن الشهيد الصدر كان لا يرى المعرفة شيئاً مستقلاً أو منفصلاً عن القيم الأخلاقية، بل نظر إليها على أنها قيمة عقلية وأخلاقية معاً وأن الأولى انعكاس للثانية ومكمّلة لها؛ لذا أولى ممارسة النظرية وتطبيقها أهمية ملحوظة وعانى في سبيل ذلك أكثر مما عاناه في اكتشافها وتأصيلها؛ لأنه يعتبر أن ما يمنح هذه النظرية قيمتها هو تطبيقها على أرض الواقع.

ولا يمكن تحديد الأبعاد النظرية والمفاهيم التطبيقية التي التقت في شخصية الشهيد الصدر إلا إذا ألقينا الضوء على قسم أولاه الصدر عناية خاصة من هذا الرؤى والممارسات التي لولا انسجامها وتلاقيها لما كان الصدر عظيماً لهذه الدرجة، وسيتوزع ذلك على مجموعة نقاط نحاول من خلالها ربط آليات الصدر مع بعضها.

الأولى: النظرية الأخلاقية والبعد العملي

من الأمور اللاممكنة، الولوجُ إلى عالم لا مكشوف في شخصيات كبيرة أعطت الكثير، ليدلّل على عظم عطائها، مما يطغى هذا العطاء على كثير من الأشياء التي كانت تتوارى في شخصية هذا العظيم، لتقيم علاقة لا محسوسة بين الممكن والواجب (وإذا كان بالإمكان أن نشرح النظريات ونوضّحها ونعدّها بالأرقام أو نكتب عليها الشروح ونطرزها بالهوامش، فإنه من غير المتيسر أن نحصي مصادق السلوك اليومي الذي طبع حياة السيد الشهيد كلها، سواء كان في حياته الشخصية أو العائلية أو طريقة تعامله مع خصومه وأعدائه.. بالتأكيد أن عالم العظماء والأولياء الخاص أقدس من ظاهر عالمهم، أي أنهم في السر أكبر منهم في العلانية..).[13]

وبما أن رصد يوميات الصدر الأخلاقية أمر ليس بالممكن فإن الخوض في منهجية الصدر العامة في الفلسفة الأخلاقية أمر ليس بالمستحيل، فالشهيد الصدر طرح فلسفة أخلاقية مثالية تجاوزت دائرة الوعظ والإرشاد للوصول إلى مقاربة فلسفية للمشكلة الأخلاقية، ليتمكن من علاج هذه المشكلة بصورة منهجية (فالشهيد الصدر لم يكتف في كتاباته بعرض مجموعة من الفضائل التي يجب التمسك بها، ومجموعة من الرذائل التي يجب تركها والابتعاد عنها، بل اعتمد على التحليل المفاهيمي للقيم، لذلك اتسمت كتاباته في المجال الاجتماعي والأخلاقي بالطابع الفلسفي لا الطابع الوعظي والإرشادي).[14]

وليس معنى هذا أن الشهيد الصدر لم يمارس العناء الأخلاقي أو ظلّ منظّراً أخلاقياً بعيداً عن ممارسة فلسفته الأخلاقية التي يدعو إليها، بل إن الصدر وجد أن الفلسفة الأخلاقية تعيش مشكلة من داخل بنائها النظري، فمارس الجانبين معاً: الجانب التأصيلي للأخلاق والجانب التطبيقي والعملي لها ليدعو اللاإسلامي إلى اكتشاف النظرية الأخلاقية في الإسلام ويبيّن له أن مشكلة العالم اليوم هي مشكلة أخلاقية، كما يدعو الإسلامي إلى التأسي به في الممارسة الحقيقية والسير وفق المدرسة الأخلاقية التي دشّنتها آليات أهل بيت النبوة( في التعامل مع المجتمع، (ثم في تجسيد معاني هذا المركب في القيم الروحية والأخلاقية المستمدة من السماء، لتتسق البناءات العلوية والتحتية في سياق متوازن، فلا تطغى المادة على الروح، ولا يكون العمل الفكري فارغاً من المحتوى الأخلاقي، ولا تكون التجسيدات الخارجية بمعزل عن البناء الداخلي للنفس الإنسانية..).[15]

ومن المعالم البارزة في المدرسة الأخلاقية للشهيد الصدر أن يبتدئ بنفسه في الممارسة والتطبيق، وقد أخذ منه الجانب العملي للأخلاق ظرفاً زمنياً طويلاً، ولعله كان يمارس أخلاقياته في كل لحظة يعيشها مع الآخرين، فحتى أعداؤه ومخالفوه كانوا يعانون من تعامله الإيجابي معهم، وهذا ما دفعهم للتشكيك بهذا الرجل، واتهامه بشتى الاتهامات؛ لأن المجتمع لم يتعود بعد على معايشة العبقري والتكيّف معه، فالصدر يؤمن بإن الدعوة للأشياء تبتدئ بالذات أولاً ثم يتلاقفها الآخرون وهذا أفضل أسلوب لممارسة الإسلام وتطبيقه على أرض الواقع.

يقول الصدر عن ذلك:

والنمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في اللهÅ الذي استخلفه واسترعاهُ أمرَ الكون، فصفات الله وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجو الذي لا حد له، هي مؤثرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف الإنسان الخليفة..[16]

وهكذا كان الشهيد الصدر يمارس فكراً أخلاقياً عملياً أكثر منه نظرياً، ليكشف من خلال ذلك عملية التدليس الفكري الذي كان يتفشى في الواقع الإسلامي نتيجة المسافة الشاسعة بين المفاهيم والقيم المطروحة على الورق وبين تجسيدات تلك المفاهيم والقيم على أرض الواقع.

الثانية: التطابق الفلسفي والاجتماعي

بعد إدراك الشهيد الصدر للمفاهيم الفلسفية وصياغتها بصورة تخدم الواقع وتعالج إشكالياته، تعود العلاقة بين الفسلفة والاجتماع إلى نمط جديد من التوافق والانسجام، خصوصاً وهي تتبلور على أنقاض علاقة مفكّكة وغير متكافئة، كان سببها ابتعاد العلماء والفلاسفة عن هموم ويوميات الأمة، (لقد كانت علاقة الفلاسفة والمتصوفة باهتمامات الأمة علاقة مفككة، فالفلاسفة المسلمون رغم عمق فلسفاتهم لم يقفوا مواقف نقدية من الأوضاع الاجتماعية والسياسية، فموقفهم تجاه السلطات المستبدة في العالم الإسلامي كان موقفاً مهادناً، فهم قد تجاهلوا هموم الجماهير..).[17]

لكن الصدر يبرهن على خلاف ذلك (لأنه كان يرى أن مشروع التغيير مرتبط بتفعيل الإسلام في مجالات الحياة الفردية والاجتماعية وفي تحرير الإنسان من حالة الانشداد إلى المصلحة الذاتية، والانتقال به إلى مصلحة الرسالة).[18]

فكان المبادر الأول لوضع الحلول لأمته ومجتمعه وربط فلسفته وفكره باهتمامات المجتمع والقيم الإنسانية العليا، لأنه لم يقم بتأسيس فلسفة وصفية للواقع، أو فلسفة تحليلية تكتفي بصياغة أفكار عامة مجردة، بل حاول أن يغيّر الواقع بعد وصفه وتحليله فقدّم من خلال كل كتاباته (الأسس المنهجية والنظرية لفلسفة إسلامية معاصرة، كما حاول من خلال هذه الفلسفة أن يرسم معالم مسار الأمة نحو إعادة بناء الحضارة الإسلامية).[19]

فربط اهتماماته كفقيه وكمفكر باهتمامات وهموم المجتمع، وخاض في فقه السلطة وكيفية التعامل معها، فأحدث بذلك موجة من التذمّر لدى الأوساط المحايدة في علاقتها مع السلطة كما أربك المشروع السلطوي لاحتواء أي تحرك من هذا النمط.

الثالثة: النظرية السياسية.. مواقف وتطبيقات

بعد الغياب السياسي الطويل وانزواء المرجعية الدينية في الأمكنة المقدسة، منشغلين في الدروس الفقهية والأصولية، أطلّ محمد باقر الصدر في العراق، والإمام الخميني في إيران ليشكّلا خروجاً على المألوف المرجعي، مطالبين بحكومة إسلامية تنوب عن إمام العصر والزمان. وتطبّق مفردات الشريعة الإسلامية في أرض الواقع، وسنعود بعد قليل لدراسة علاقة هذين المرجعين وتوافق أطروحتهما السياسية، لنتكلم عن تعاطي الصدر السياسي وعلى الجانبين النظري والتطبيقي وانتقاله السريع من خانة النظرية السياسية إلى ساحة التطبيق، فبعد المسار النظري وتدشين آليات الفكر السياسي من خلال الدراسات التي كتبها الشهيد الصدر والنظريات التي تبلورت على يديه ينتقل الصدر فجأة ليجسّد المسار العملي ويتسلق على أعواد المشانق متحدياً كل عوامل الإغراء التي قدّمتها له السلطة والتنازلات التي كانت تحاول من خلالها ثنيه عن تحركه، ولعل كلماته التي ستظل مدوية في عالم الحقيقة التي أكسبها الصدر سرمديتها هي التي تبرهن على واقعية ومصداقية دعوته: (حتى لو أن السلطة فكّت الحجز عني فسوف أبقى جليس داري، فليس منطقياً أن أدعو الناس إلى مواجهة السلطة حتى لو كلّفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أولهم سبقاً إلى الشهادة..).[20]

وبهذا تختلف النظرية السياسية التي أصّلها الصدر عن النظريات التي كانت تخوض الواقع السياسي، سواء كانت على أيدي الإسلاميين المشتغلين بالعمل السياسي أو العلمانيين الذين يطمحون لتغيير الواقع السياسي، وخطف السلطة من أيدي حكّامها آنذاك، فالنظرية التي طرحها الشهيد الصدر تفوح بالمواجهة الحقيقية وبرائحة الدم والموت؛ لأنها تبتني على قاعدة جماهيرية وصفها الصدر بـ(الجماهير دائماً أقوى من الطغاة) ليربك الطغاة، ويعيد الثقة بالنفس والإرادة للجماهير الرازحة تحت قوة الحديد والرصاص.

ولعل هذه النقطة – الثالثة – هي مركز التقاء الصدر النظري مع الصدر العملي، فشهادة الصدر تختصر جميع الأطروحات التي قدّمها لمواجهة الظلم والطغيان والاستبداد، ليكون هو الرائد الأول في استئصال تلك الغدد السرطانية من جسد الأمة، وبهذا تكون الأمة قد خسرت أهم نقاط قوتها التي ادخرتها لمواجهة الاستكبار العالمي الذي يريد مسخ الهوية الإسلامية وطرح إسلام سطحي لا يتمكن من معالجة إشكاليات عصره، وبالتالي يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى ينهار ويغيب.

فالنصوص السياسية الصريحة في دعوتها لمواجهة السلطة بالإضافة إلى المواقف العملية الشجاعة التي شكّلتها مجموعة اعتقالاته ومن ثم استشهاده، جميع هذه الأمور هي وثائق مهمة في إثبات انسجام الصدر العملي مع الصدر النظري في الحقبة الزمنية التي عاشها.

بين انتصار الخميني واستشهاد الصدر

من العلامات الفارقة والمهمة في حياة الشعوب والأمم والأديان هي اجتماع عظيمين في ظرف زمني واحد، يلتقيان في نفس الهم والمشروع وإن كانا يختلفان في الأدوار والوسائل؛ إذ أن المجتمع الذي ينتظر قروناً من الزمن ليحصل على مُصلح أو عظيم، لابد لهذا المجتمع من نتائج وثمرات يحصل عليها من خلال استغلاله لطاقات عظمائه، والقرن العشرين كان يحتفظ للإسلام بأكثر من شخصية استثنائية، كان من أبرزها محمد باقر الصدر والإمام الخميني، اللذان تلاقيا على هامش الزمن رغم عوامل التباعد والإقصاء التي كانت تفرضها السلطة على رموز شعوبها الحقيقيين، ولعل الهم المشترك الذي انطوت عليه شخصيتيهما هو السبب والدافع لهذا الالتقاء، فكلاهما كانا يحملان قلق الإسلام والمسلمين، فيجوبان الواقع بحثاً عن حلول تعالج مشكلاته.

فالشهيد الصدر كان لا يرى في الإمام الخميني شخصاً عادياً يجب التعامل معه على ضوء أعراف الحوزة العلمية، بل كان يحرص على إنجاح الخميني المشروع والوقوف معه على كل المستويات السياسية والعلمية، فالمعروف أن الشهيد الصدر كان يرسل بعض طلبته لحضور دروس الإمام الخميني في النجف الأشرف، كما كان يدعم أي تحرك سياسي يقوم به الإمام الخميني، ولعل الشهيد الصدر هو أول مَنْ أدرك عظمة الإمام الخميني في العالم الإسلامي المحيط بالثورة.

لا نريد الخوض في تفاصيل كثيرة حول علاقة الشهيد الصدر بالثورة والإمام الخميني؛ لأن ذلك يحتاج إلى بحث مستقل وإنما جاء ذكر هذه العلاقة لإثبات جانب آخر من جوانب التطابق بين الصدر العملي والنظري، فالمعروف أن الشهيد الصدر قد قفز على كافة الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع الديني العربي، متجاوزاً كافة الأطر العرفية والجغرافية في تأييد الثورة، فالصدر العربي لا يرى مانعاً من الذوبان بالإمام الخميني والاستعداد لأن يكون جندياً من جنوده أو وكيلاً من وكلائه في إحدى قرى إيران النائية؛ لأنه لا يعترف بالحدود الجغرافية والعرفية داخل بنية المجتمع الإسلامي، بل ينظر للإسلام كأمة واحدة وأرض واحدة وروح واحدة، ولا ينظر للشخص إلا بقدر تعاطيه مع الإسلام وكما يقول: (وليست المرجعية الصالحة شخصاً، وإنما هي هدف وطريق).[21]

وهذا ما دفع الشهيد الصدر أن يستبق الفرصة التي يمكن أن تتاح للقاء الإمام الخميني، فأخذ يبعث بالرسائل والبرقيات التي تشدّ عزم سواعد أبناء الثورة قبل اندلاعها الحقيقي، ولم يكن دافع الصدر سوى مطابقة انطباعاته الذهنية الإيجابية التي تشكّلت لديه بمرور الزمن مع الموقف الذي يجب أن يقف فيه أي حريص على مستقبل الإسلام، وكما يذكر الأستاذ محمد حسين جمشيدي عن علاقة الشهيد الصدر بالإمام الخميني (وعلى مدى وجود الإمام الخميني في النجف كان لآية الله الصدر اتصالات به وكانت لهما مواقف وآراء مشتركة حول العديد من الأحداث السياسية في إيران والعراق).[22]

كما كانت للصدر اهتمامات بشخصية الإمام الخميني قبل أن يصل الأخير للنجف (كان الشهيد الصدر يعرف الإمام الخميني من خلال كتاباته وبعض الأشخاص الذين يتحركون بين قم والنجف وكان موضع اهتمام بالنسبة له..).[23]

وأما بعد انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني اعتبر الشهيد الصدر أن أمله وأمل الإسلام قد تحقق فلم يبق إلا الحفاظ على ذلك الحلم الذي أصبح على يد الخميني حقيقة، فسعى بعد مواقف إعلامية كثيرة حاول من خلالها تسليط الأضواء على الثورة وتبيين أهدافها، كما نادى باستيرادها، وكل هذه القضايا مدوّنة في سجلات الصدر اليومية في تأييد الثورة، وقد سعى بعد ذلك كله للدخول أو التأييد العملي للثورة.

وبهذا ينتقل الصدر من مواقف عملية مشهودة – كان أقلها هو تحدي السلطة في العراق التي كانت تسعى لإجهاض في هذا المشروع – إلى مواقف نظرية حاول من خلالها وضع القانون أو الدستور النظري للجمهورية الإسلامية التي كانت في بداية نشوئها وتكوينها، فكتب بحثاً أرسله للإمام الخميني يحمل عنوان (الإسلام يقود الحياة) يقول دكمجيان: (بعد العودة المظفرة للإمام الخميني إلى طهران بقليل، في بداية شباط.. فبراير 1979م، أرسل باقر الصدر ستة أبحاث تحت عنوان الإسلام يقود الحياة إلى رفيقه وصديقه الإمام الخميني..).[24]

ولم يكن الشهيد الصدر في تأييده للثورة ينطلق من جو يمكن له نقل خطواته بسهولة بل إن تأييداته هذه دفعت به إلى مزالق عديدة لم يتمكن الخروج منها، إذ أن السلطة الحاكمة في بغداد كانت في الخط المواجه للثورة، وتسعى لرفض وإلغاء كل من حاول الوقوف بصفّها، لكن الصدر كان يتحدي جميع هذه المحذورات السلطوية حتى وصلت السلطة معه إلى طريق مغلق بعد أن اشترطت عليه أربع شروط كان منها (التوقف عن دعم الثورة الإسلامية في إيران والإمام الخميني).[25]

ولم تكن مواقف الشهيد الصدر وحدها تؤيد الثورة الإسلامية، بل كانت مؤلفاته وأفكاره وبياناته كلها تصبّ في هذا الاتجاة.

خسارة الصدر.. وثيقة إدانة للقرن العشرين

شكّل اغتيال محمد باقر الصدر وثيقة إدانة للعالم العربي والإسلامي بصورة عامة، وللعراق بصورة خاصة، ففي الوقت الذي تسعى فيه الأمم والشعوب للاحتفاء بعباقرتها ومبدعيها وتسليط الأضواء الإعلامية الصاخبة على نتاجاتهم وتضخيم موروثهم العلمي والمعرفي، يقوم العراق بإعدام محمد باقر الصدر وإسقاط الجنسية عن أكثر من مبدع عراقي، وطرد خلاصة العقول العربية التي كان العراق منبتها الثرّ، متجاهلين أن محمد باقر الصدر من القلائل الذين جعلوا القرن العشرين يكتسب أهمية خاصة؛ لأنه احتضن الشهيد الصدر المشروع الكبير والظاهرة الاستثنائية المتميزة التي بإمكانها دفع النمو الحضاري المتعثر خطوات عديدة إلى الأمام ليستعيد الإسلام دوره في الحياة بعد ما انكفأ على نفسه في مساحة محدودة من الأرض العربية الضيّقة.

فالشهيد محمد باقر الصدر من الشخصيات التي لا تتكرر بسهولة، وربما تأتي مرة واحدة وتغيب، وكان يجب استغلالها والحفاظ عليها بشتى الطرق، لا التفريط بها وإعدامها قبل أن تكتمل حلقاتها من التجديد والإبداع، خصوصاً والصدر مثّل مشروعاً إسلامياً ذا جانبين واتجاهين يتّسمان بأهمية مزدوجة، فهو منظّر من الطبقة الفكرية والعلمية الأولى، ومطبّق وقائد إصلاحي كان يخوض الواقع بكل إشكالياته واتجاهاته، (ومما ينبغي التذكير به أن عملية التنظير التي اضطلع بها منهج الصدر لا تعني الانتقاء الكمي لمجموعة من النصوص واقتناص بعض المفاهيم منها، وإنما هي عملية امتزاج وتفاعل تتوحد في أفقها التجربة البشرية مع النص..).[26]

وواضح أن الجانب الثاني الذي اضطلع به الصدر هو الأكثر إشراقاً وتوهجاً، وهو الذي يظلّ يغذّي المشاريع النظرية بالخلود والبقاء، وهو الجانب العملي التطبيقي الذي كان فيه الشهيد الصدر داعية استثنائياً إلى الله وعارفاً حقيقياً، كما كان أهل البيت(ع).

ولكن ستبقى العلاقة بين الشهيد الصدر والقرن الذي احتضنه علاقة غير متكافئة؛ لأنه كان يحمل أفكاراً لم يستطع القرن العشرين أو الذين كانوا يعيشون خلاله أن يستوعبوها ويستفيدوا من عمقها.

[1]. مجلة قضايا إسلامية معاصرة، إبراهيم العبادي، العدد 11 _ 12، ص 4.

[2]. المدرسة الإسلامية، محمد باقر الصدر، دار الكتاب الإيراني، ص 5.

[3]. مجلة قضايا إسلامية، برير العبادي، العدد 3، ص 448.

[4]. بيم موج، محمد خاتمي، دار الجديد.

[5]. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، عبد الجبار الرفاعي، ص 43.

[6]. مقدمة مباحث الأصول، السيد كاظم الحائري، جزء الأول، ص 92.

[7]. محمد باقر الصدر، نخبة من الباحثين، دار الإسلام، ص 13.

[8]. الشعراء: 226.

[9]. مجلة قضايا إسلامية، العدد 3، ص 448.

[10]. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، ص 43.

[11]. بيم موج، محمد خاتمي.

[12]. لوعة الغياب، عبد الرحمن منيف، المركز الثقافي العربي، ص 32.

[13]. الشهيد الصدر بين أزمة التاريخ وذمة المؤرخين، مختار الأسدي، ص 139.

[14]. فلسفة الصدر، محمد عبد اللاوي، دار الإسلام، ص 102.

[15]. مجلة قضايا إسلامية، العدد 3، ص 448.

[16]. الإسلام يقود الحياة، الشهيد الصدر، دار الفكر بيروت، ص 205.

[17]. فلسفة الصدر، محمد عبد اللاوي، ص 20.

[18]. مجلة قضايا إسلامية، العدد 3، ص 457.

[19]. فلسفة الصدر، ص 24.

[20]. الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، محمد رضا النعماني، ص 104.

[21]. قضايا إسلامية، رسالة إلى تلامذته في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية.

[22]. مجلة قضايا إسلامية، محمد حسين جمشيدي، العدد 3، ص 264.

[23]. م. ن.

[24]. م. ن.

[25]. م .ن.

[26]. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، ص 43.