حياة الشهيد الصدر السياسية

صلاح الخرسان

المقدمة

لم تكن السياسة في يوم من الأيام مفصولة عن الدين منذ فجر التاريخ، الذي يحدّثنا عن الأنبياء الذين تسنّى لهم الإمساك بزمام القيادة للمجتمعات الإنسانية التي عاشوا فيها، وكل الأنبياء والمرسلين(ص) لو أتيحت لهم الفرصة لشكلوا دولاً وحكومات حكموا من خلالها شريعة الله التي بُعثوا إلى الأمم والشعوب من أجل تطبيقها، وكانت كل منها صالحة في زمانها ومكانها، والتي ختمت بشريعة المصطفى محمد- التي حلالها حلال إلى يوم القيامة وحرامها حرام إلى يوم القيامة، حيث جمع الرسول الأكرم- في شخصه العظيم منصب النبوة والإمامة، فكان المبلغ النذير لرسالات ربه، كما هو الحاكم وقائد الجيش والراعي للأمة، وهكذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) رمز العدالة الإنسانية الخالدة يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية، فكان الإمام المعصوم والحاكم السياسي للأمة، ولو تسنّى لبقية أئمة أهل البيت(ع) ما تسنّى له لما توانوا عن تحمل مسؤولياتهم في قيادة الأمة بنفس الدرجة التي حملوا بها مسؤولية الحفاظ على الشريعة وبثّ تعاليمها وأحكامها بين الناس.

ولا أدلّ على ذلك من تحمّل الإمام الحسن(ع) لمسؤوليته السياسية في قيادة الدولة الإسلامية بعد استشهاد والده قبل أن يضطر مجبراً إلى التنازل عنها؛ حفاظاً على بيضة الإسلام وعلى البقية الباقية من المؤمنين من الفناء، وكذلك قبول الإمام الرضا% لولاية العهد وهو المنصب الثاني في الدولة، وهي فرصة عزم على استثمارها لولا أن عاجله الظالمون بالقضاء على حياته الشريفة قبل أن يرجع الحق إلى أهله وتعود الأمور إلى نصابها كما أراد لها الباري.

ولعل السبب الرئيس فيما تعرّض له أئمة أهل البيت( من اضطهاد وتنكيل من حكام زمانهم هو لاعتقاد هؤلاء بأن الأئمة( هم أحق بقيادة الأمة ومنصب الخلافة، وقد اعترف بذلك أكثر من واحد منهم، كما يحدثنا التاريخ.

ومما لا شك فيه أن إبعاد القيادة الشرعية عن مواقع المسؤولية في القيادة والتوجيه كان من الأسباب الرئيسية في تداعي الدولة الإسلامية، بالتالي سقوطها المريع ووصول الأمة إلى ما وصلت إليه من ضعف وتخلّف مما جعلها فريسة سهلة للهيمنة والاستلاب الحضاري الغربي، الذي بات يتحكم بكل مقدرات العالم الإسلامي على امتداد أقاليمه.

وفي غمرة هذا الواقع البائس والأليم تداعى المخلصون من أبناء هذه الأمة، التي أراد لها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، إلى قرع نواقيس الخطر وإلى وضع المعالم على الطريق، فكانت تباشير الصحوة الإسلامية المباركة التي تعيشها أجيالنا اليوم، والتي قادها العلماء الربانيون الممثلون الحقيقيون للقيادة الإسلامية الشرعية، فكان وجودهم في مقدمة المسيرة ضماناً لعودة الإسلام من جديد إلى واقع الحياة، ومن هؤلاء الأفذاذ الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر) رائد الحركة الإسلامية في العراق الذي نذر حياته لدينه ولوطنه الصغير العراق وللوطن الإسلامي الكبير، وهو ما تشهد به حياته الجهادية التي امتدت على مدى ثلاثة عقود من القرن الميلادي الماضي.

لقد عمل السيد الصدر ومنذ أن وعى دوره في الأمة على تجسيد رسالة الدين في الحياة، وعلى الانطلاق بمشروعه التأسيسي القائم على بناء الفرد والمجتمع والدولة على هدى من مبادئ الرسالة الإسلامية الخالدة، وعلى قاعدة (أن الغاية لاتبرر الوسيلة).

ولم يكن مشروع الصدر قائماً ابتداءً على القطرية والانغلاق المذهبي، إنما اتسع ليشمل المسلمين كافة في كل أقاليمهم، وصولاً إلى المجتمع والدولة العالمية التي هي الأمل المنشود لكل البشرية. ورغم ضخامة المهمة التي حملها الإمام الشهيد على عاتقه، فإنه مضى على الدرب غير عابئ بكل التحديات والصعاب التي واجهته، والتي واجهها من قبله كل الأنبياء والمصلحين، حتى لقي ربه صابراً بعد أن خلّف لنا إرثاً ضخماً من فكره وجهاده لا نزال نغترف من نمير منهله العذب ونعتاش على آثاره الجليلة.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن إرث الإمام السيد الصدر لم يقتصر على ما خطه يراعه الشريف من كتب ومصنفات قل نظيرها، ولا ما نطقت به شفتاه الكريمتان من خطب ومحاضرات عز مثيلها، ولا في وقفاته المشهودة في الدفاع عن الدين وحفظ مصالح المسلمين؛ وإنما تعدّاه إلى مشاريع كانت بمثابة صدقة جارية في حياته واستمر بعضها بعد استشهاده، ومنها مشاريع سياسية كانت الأمة أحوج ما تكون إليها، فكان هو المؤسس في بعضها أو كانت له اليد الطولى في تأسيس بعضها الآخر.

وسنتناول تلك المشاريع بالتتابع حسب ما نما إليه العلم، سواء بالمعايشة أو بالتحقيق والبحث التاريخي، وتأتي في مقدمة تلك المشاريع المباركة:

  1. جماعة العلماء

الدور المحوري

تركت حركة الجيش في 14 تموز عام 1958م بصماتها عميقاً في بنية الدولة والمجتمع العراقي، وشمل التغيير مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الفكرية، ولعل من أبرز مظاهر تلك المتغيرات بروز التيارات والقوى السياسية المحظورة _ التي انضوى معظمها تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني المناهضة للحكم الملكي _ إلى سطح الأحداث، مستفيدة من المناخ الذي وفّره العسكر حكام البلاد الجدد، وكانت تلك القوى خليطاً من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، وكان بعضها يحمل طروحات مناهضة تماماً للإسلام، لا بل تعتبر أن من مهامها محاربة الأديان والقضاء على تأثيرها في المجتمع، وكان يمثل هذا الاتجاه آنذاك الحزب الشيوعي العراقي الذي حظي بدعم ورعاية زعيم الجمهورية وقائد الثورة العميد الركن عبدالكريم قاسم الذي بات يتمتع بتأييد ونفوذ واسع في أوساط الجماهير التي اندفعت في تأييده بكل ما أوتيت من قوة، وقد حاول الحزب الشيوعي العراقي استغلال الأوضاع وتجييرها لصالحه، فانتهز فرصة زيارة الوفود المشاركة في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد إلى مدينة النجف الأشرف بدعوة محازبيه وأنصاره إلى التجمع في النجف الأشرف في أول محاولة لاختبار القوة في مواجهة المرجعية الدينية.

وقد ردت الحوزة العلمية في النجف على التحدي _ الذي أراد الشيوعيون أن يثبتوا من خلاله للعرب والعالم بأن حصون المرجعية الشيعية قد فتحت أبوابها أمام المد الأحمر _ بما يقابله، وحسب الإمكانات المتاحة لها فقد عُقد اجتماع في دار أحد العلماء هو آية الله الشيخ محمد جواد الشيخ راضي تقرر فيه تنظيم تجمع جماهيرى في الصحن الشريف، والطلب من المرجع الأعلى آنذاك الإمام السيد الحكيم التدخل لدى السلطة من أجل وضع الصحن الشريف خلال تلك الأيام العصيبة تحت إشراف المرجعية، فكتب الإمام السيد الحكيم رسالة بهذا الشأن إلى محافظ كربلاء أرسلها بيد نجله الشهيد السيد مهدي، ومما جاء فيها عبارة جماعة من علماء النجف[1] ومن هنا جاءت التسمية لجماعة العلماء التي تأسست في تلك الفترة من عام 1958م، (وكانت تضم كبار علماء النجف الأشرف من الطبقة الثانية والثالثة بعد المراجع الكبار، والذين كانوا ينطلقون في نشاطاتهم وتصوراتهم من أهداف المرجعية)[2].

وبلحاظ الظروف التي رافقت تشكيل الجماعة والمهام التي تصدت لها _ وفي مقدمتها اتخاذ المواقف السياسية تجاه الأحداث القائمة، ومحاولة إيجاد تيار إسلامي في صفوف الأمة، والتصدي للغزو الفكري والثقافي الذي تتعرض له _ فإن الجماعة تعد أول محاولة من قبل الحوزة في النجف الأشرف للخروج من العزلة السياسية التي فرضت عليها من قبل الدولة العراقية بداية تشكيلها ومن قبل سلطات الانتداب البريطاني آنذاك.

ورغم حداثة التجربة وضعف الوسائل والإمكانات بالمقارنة مع إمكانات القوى والتيارات المضادة، فإن الجماعة استطاعت أن تشق طريقها وسط بحر متلاطم من العواصف التي هبّت على الساحة السياسية في العراق، مستفيدة في ذلك من الدعم غير المحدود الذي تلقته من لدن المرجعية وعلى رأسها الإمام الراحل السيد محسن الحكيم، وكذلك للدور المحوري والفاعل للسيد محمد باقر الصدر، وكان آنذاك شاباً معروفاً بالفضل في الوسط الحوزوي، قد أنهى حينها دراساته عند فقيه العصر زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى الإمام الراحل السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي ليبدأ لتوّه التدريس في الحوزة على مستوى البحث الخارج.

وقد عمل السيد الصدر وصحبه من العلماء الشباب _ الذين تحلقوا من حوله، وكانوا النواة الأولى للحركة الإسلامية في العراق _ على تفعيل عمل الجماعة والتأثير في مسارها للوصول بها إلى الأهداف التي تشكلت من أجلها، وكان لابد والحال هذه من تخطي العقبات التي تقف في الطريق، وفي مقدمتها الحاجز النفسي الذي يحول بين الحوزة والتحرك السياسي، فبفعل التراكم التاريخي وعوامل أخرى كانت هناك قطاعات واسعة من الحوزة وقوى مؤثرة فيها ترى في العمل السياسي خروجاً على المألوف، وفيه من الإشكالات التي قد تصل عند البعض إلى مستوى الحرمة؛ لذلك كان لابد من كسر ذلك الحاجز لضمان انخراط الحوزة في الحياة العامة ومشاركتها في المشاريع التي باركتها المرجعية وخطت لها الطريق، فكانت النتائج الأولية لذلك الجهد مشجعة للغاية، وبدأ التحرك بإصدار بيانات باسم الجماعة بلغ عددها سبعة كتبها السيد الصدر بقلمه الشريف وأذيعت من دار الإذاعة العراقية بصوت أحد كوادر الحركة الإسلامية هو المرحوم سماحة السيد هادي الحكيم. وكان ذلك بحد ذاته إنجازاً لايعادله إنجاز بحسابات ذلك الزمان، فلأول مرة منذ ثورة العشرين المجيدة ارتفع صوت للإسلام السياسي في العراق، وأصبح للتيار الإسلامي الذي كان في بداية انطلاقته وجود إلى جانب باقي التيارات السياسية والفكرية الأخرى.. .

ولم يقتصر نشاط جماعة العلماء على إذاعة تلك البيانات من راديو بغداد، وإنما كان (يتم توزيعها عن طريق البريد، أو مع المبعوثين إلى المناطق ممن تبعثهم الجماعة، أو مع الوفود التي تؤم النجف الأشرف للزيارة)[3].

وإلى جانب النشاط الإعلامي، فقد سعت جماعة العلماء إلى التحرك على الأرض من خلال تجمع جماهيري باسم (أنصار جماعة العلماء) الذي أخذ بالتوسع بعد أن كان مقتصراً على النجف الأشرف ليشمل العديد من مناطق العراق سواء في المدن أو الأرياف (وكانت مناشير جماعة العلماء توزع بواسطة هؤلاء، وقد أوجد هذا العمل أرضية جيدة للعمل السياسي الإسلامي الذي بدأ يتطور ويتبلور)[4].

هذا إضافة إلى الاحتفالات التي أخذت تقام بالمناسبات الدينية، ويطرح فيها الفكر الإسلامي، ويتم فيها المطالبة بحقوق الأمة، وهي ظاهرة كان يشهدها العراق كذلك لأول مرة في تاريخه السياسي الحديث، وقد تلا ذلك الخطوة الأهم في تحرك الجماعة، فبعد توقف منشوراتها عن الصدور لأسباب لا مجال هنا لذكرها تقرر أن تستعيض عنها بإصدار مجلد أطلق عليها اسم (الأضواء) لتكون منبراً إعلامياً تطلّ منه الجماعة بل الحوزة من خلاله على الشعب والأمة بعد طول غياب خاصةً في تلك المرحلة الحرجة والحساسة التي كان الإسلام فيها يواجه تحدياً حضارياً؛ فقد كان الصراع الدائر بالنسبة إلى التيار الإسلامي فكرياً وعقائدياً بالدرجة الأساس قبل أن يكون صراعاً سياسياً.

أما فكرة المجلة فإن بعض المصادر تشير إلى أنها (جاءت من السيد الحكيم، ولما كان ارتباط مرجع بمجلة ذات أهداف سياسية أمراً غير مألوف فقد أنيطت مسؤوليتها بجماعة العلماء)[5]، في حين أن مصادر أخرى أفادت أن فكرة المجلة كانت من السيد الصدر، وكذلك اسمها (وبتوجيه منه تقدم السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم إلى السيد الحكيم _ المرجع _ بالفكرة، فأعطى توجيهاته بإصدارها من قبل جماعة العلماء وباسمها)[6].

وقد احتلت الأضواء ومنذ صدور أعدادها الأولى مكانة مرموقة بين مثيلاتها من الدوريات الصادرة، وتوسع انتشارها ليشمل مساحات واسعة داخل العراق وخارجه، وذلك بفضل الأقلام الواعدة التي كانت تحرر موضوعاتها، فكان السيد الصدر يكتب الافتتاحية تحت عنوان (رسالتنا) وإلى جانبه كان هناك العديد من رواد الوعي الإسلامي المعاصر الذين ساهموا في الكتابة فيها، منهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الشيخ محمد رضا والجعفري، الشيخ محمد أمين زين الدين، السيد محمد حسن فضل الله، الشيخ عبد الهادي الفضلي، السيد محمد باقر الحكيم، الشيخ محمد مهدي الآصفي، وغيرهم. كما كتب السيد الصدر خلال تلك الفترة سِفره الشهير فلسفتنا، الذي استطاع من خلاله (نقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الأوروبية الحديثة، وإنهاء هذه الأسطورة في المادية الديالكتيكية، باعتبارها الفلسفة الوحيدة ذات الرؤية العلمية)[7]. وكانت فكرة الكتاب قد تولدت نتيجة للحاجة إلى مثل تلك الكتابات، سيما بعد انفتاح المجتمع العراقي والعربي عموماً في تلك الفترة على مختلف التيارات.

وهو ما أشار إليه الإمام السيد الحكيم في حديثه مع نجله السيد مهدي بقوله: (إني أرى الكثير من الناس أصبحوا شيوعيين، وهؤلاء الشيوعيون مجرمون، وقد ضللوا الناس بحجة أن الإسلام يدعو إلى المساواة بين الفقير والغني، وأن الشيوعية تعمل كذلك، وعليه فقد أصبح كثير من الناس شيوعيين وخصوصاً الشيعة؛ بحجة أن علي بن أبي طالب% مدرسة للفقراء والمستضعفين والمحرومين والشيوعية تدافع عنهم). ثم قال: (نحن بحاجة إلى كتاب يطرح الشيوعية والإسلام ويقارن بينهما من أجل إيضاح الحقيقة للناس، فإذا كان ممكناً قُل للسيد الصدر أن يكتب هذا الكتاب)[8].

وقد استجاب السيد الصدر لطلب الإمام السيد الحكيم، فكان (فلسفتنا) الذي أحدث الأثر المطلوب منه داخل العراق وخارجه، وطبع العديد من المرات بعد أن نجح في المنازلة وحول الإسلام من موقع المدافع إلى موقع صاحب الصولة، الذي لم يكتف بهزيمة أعدائه وإنما هدّ أركانهم من القواعد، فكان ذلك كتاب، إلى جانب شقيقه (اقتصادنا) الذي صدر بعد عامين، من أمضى الأسلحة التي خاض بهما المؤمنون الرساليون الصراع الأيديولوجي مع خصومهم طيلة الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

وقد بلغ من سموّ أخلاق السيد الصدر ونكرانه لذاته أنه عندما فرغ من تأليف فلسفتنا (أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف بعد عرضه عليهم متنازلاً عن حقه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب، إلا أن الذي منع أن جماعة العلماء أرادت إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي الأستاذ الشهيد، ولم يكن يقبل بإجرائها فيه فاضطر أن يطبعه باسمه)[9]. فكان الحلقة الأهم من سلسلة نتاجاته العلمية التي برز من خلالها كواحد من أكبر مفكري عصره.

حرب الأحزاب

استطاعت الأضواء خلال فترة زمنية وجيزة من بلورة خطاب إسلامي سياسي وآيديلوجي واضح المعالم وجد مَن يحتضنه من أبناء الأمة وخاصة الشباب والمثقفين، وكانت تلك هي البداية الحقيقية لتشكيل التيار الإسلامي الذي بدأ مسيرته التصاعدية منذ ذلك الحين، وهي أول تجربة ناجحة للحركة الإسلامية في العراق في خوض غمار العمل السياسي والانفتاح على الأمة وإن لم يكن باسمها الصريح، وهو ما لم يتسنّ لها بلوغه لولا شخص السيد الصدر (وعلاقته الخاصة برئيس هذه الجماعة خاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين وبعض أعضائها من أرحامه وأصدقائه، أمثال ابن عمه السيد محمد صادق الصدر وأخيه السيد إسماعيل الصدر وآية الله السيد محمد تقي بحر العلوم وحجة الإسلام والمسلمين السيد باقر الشخص وغيرهم، الأثر الكبير في قدرته على التأثير في مسار هذه الجماعة)[10].

وقد أثار الخط الذي سارت عليه الأضواء وما يطرح فيها من قضايا حفيظةَ العديد من الأطراف، منها القوى المحافظة داخل الحوزة التي لم تألف تحركاً من هذا القبيل، والتي هالها استقطاب القوى الجديدة التي تمثلها المجلة للطاقات الشابة في الحوزة إلا أنها لم تستطع أن تجهر بمواقفها المناهضة لذلك الخط الذي يصدر باسم جماعة العلماء؛ لأن المرجع الأعلى الإمام السيد الحكيم كان شخصياً (يدعم الجماعة ويصرف على المنشورات والاحتفالات التي تقيمها)[11] لكنها عمدت إلى إثارة الشبهات حول الهيئة الموجهة للمجلة من أجل الضغط عليها، مما دفع بالشيخ محمد رضا الجعفري إلى الاستقالة منها.

كما لعبت إيران الشاه دوراً فاعلاً عن طريق أصابعها الخفية داخل الحوزة في تصعيد الحملة على الأضواء، فكانت تشيع (بأن ما ينشر في المجلة لايمثل سوى أفكار السيد الصدر وصحبه الشباب، وأنها لاتمثل رأي شيوخ الجماعة وكبار العلماء فيها)[12]. وكان الدافع وراء تلك الحملة الشعواء قيام المجلة بنشر معلومات وأخبار حول علاقات الشاه الحميمة بإسرائيل، وكذلك نشرها نص رسالة الإمام السيد الحكيم إلى ممثله في طهران آية الله البهبهاني، والتي يستنكر فيها اعتراف إيران بإسرائيل، ونشرها نص رسالة أخرى موجهة من جماعة العلماء إلى الإمام السيد حسين البروجردي بنفس المعني.

أما السبب من وراء استهداف السيد الصدر شخصياً في تلك الحملة فكان قيامه بمهاجمة السياسة الأمريكية في المنطقة العربية المحاذية لإسرائيل في إحدى المقالات الافتتاحية.

ومن بين الأطراف الأخرى التي شاركت في الهجوم على الأضواء ونهجها الحزب الشيوعي العراقي، الذي سبق له وأن كثّف نشاطه التنظيمي ومنذ الأربعينات في مدينة النجف؛ بهدف محاصرة الحوزة وتجريدها من مصادر قوتها التي وفرتها لها النجف طوال الحقب التاريخية المنصرمة.

وقد عمد الشيوعيون وفي إطار حملتهم ضد جماعة العلماء _ المحرك الرئيس للنشاط الإسلامي المتصاعد _ إلى إنشاء تجمع بديل أطلق عليه اسم (جماعة رجال الدين الأحرار) وقد بدأت تلك الجماعة المصطنعة بإصدار البيانات على غرار ما تفعله جماعة العلماء، كما شنّ من يسمون برجال الدين الأحرار حملة ضروس للتشكيك بجماعة العلماء ورموزها، أطلقت خلالها شائعات مفادها أن كبار المراجع لايؤيدونها وأن عملها غير شرعي، بهدف التأثير على عموم المواطنين وجعلهم ينفصّون عنها. عند ذاك بادر الإمام السيد الحكيم إلى وضع الأمور في نصابها، فأعلن موقفه من الجماعة مفتياً بدعمها بنص الكلمة الآتية:

إن جميع ما أصدره فريق من أعلام أهل العلم _ أيدهم الله تعالى _ باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف، وما سيصدر منهم من نشرات وغيرها مما يتضمن الدعوة إلى الدين والإسلام، لهو من أهم الوظائف الشرعية التي يجب القيام بها في سبيل إعلاء كلمة الدين وترويج مبادئه الشريفة وتعاليمه المقدسة، فعلى عامة المسلمين العمل على مؤازرتهم والوقوف إلى جنبهم في تحمل أعباء هذه الدعوة الدينية المباركة.[13]

إلا أن الحملات السالفة ما لبثت أن استؤنفت من جانب أشد القوى عداءً للتيار الإسلامي، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة ميشيل عفلق، وكان رأس حربته في تلك الحملة الصليبية المسعورة المحامي السيد حسين الصافي أحد قدامى البعثيين في النجف، وكان حينها يرتدي زيّ علماء الدين، والذي باشر تحركه مستغلاً تحسس بعض مشايخ جماعة العلماء من العمل السياسي في التحريض ضد السيد الصدر وهيئة تحرير الأضواء (فكان يشيع هو ورفاقه في النجف بأن هذه المجلة لاتعبر عن رأي جماعة العلماء، وإنما هي تعبر عن رأي تنظيم سياسي ديني سري يستغل اسم جماعة العلماء)[14].

وهذا ما أثار ضجة في النجف وفي الحوزة، مما اضطر السيد الصدر إلى التوقف عن الكتابة في الأضواء وإلى مغادرة النجف الأشرف إلى بغداد، وذلك بعد صدور العدد الخامس من المجلة في 19/8/1960م. ومن مقر إقامته الجديد في الكاظمية أخذ يمارس دوره في الإشراف عن الأضواء، فكان اثنان من العلماء ينقلون إليه مادة العدد، (وكان هو يضع الخطوط العريضة للمقالة الافتتاحية في فترة اعتزاله، فيقوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بكتابتها)[15].

وقد عبر السيد الصدر عن حجم المعاناة التي عاشها من جراء (حرب الأحزاب) تلك؛ وذلك في رسائله المتبادلة مع تلميذه السيد محمد باقر الحكيم الذي كان آنذاك في زيارة إلى لبنان والتي يقول في جانب منها:

لقد كان بعدك أنباء وهنبثة وكلام وضجيج وحملات متعددة، جندت كلها ضد صاحبك وبغية تحطيمه، أبتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء، أو بالأحرى لدى بعضهم ممن يدور في فلكهم، فأخذوا يتكلمون وينتقدون، ثم تضاعفت الحملة وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي، ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أو لا، تنبري هذه الجماعة.. فتذكر عني وعن الجماعة شيئاً كثيراً من التهم ومن الأمور العجيبة.[16]

إلا أن السيد الصدر عاد بعد فترة قصيرة إلى النجف الأشرف بعد انجلاء الغبرة وهو يحظى بتأييد المراجع الكبار وبدعم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين رئيس جماعة العلماء، وتولى السيد محمد حسين فضل الله كتابة افتتاحية الأضواء بدلاً عنه تحت عنوان جديد هو (كلمتنا) وبذلك حافظت الأضواء على ذات الخط الذي سارت عليه منذ البداية، وفي الوقت نفسه عندما بدأ نشاط جماعة العلماء بالتقلص، بسبب الأوضاع العامة التي سادت العراق لينتهي بالتوقف (يأخذ الإمام الحكيم زمام المبادرة ويتصدى بشكل مباشر لقيادة المسيرة السياسية، وهو المرجع العام الذي تفرض عليه الظروف ومخلفات الماضي حينذاك أن يكون محافظاً ومحتاطاً، خصوصاً مع وجود المراجع الآخرين في النجف وقم الذين كانوا يلتزمون الخط المحافظ والمحتاط)[17].

ونتيجة لذلك التصدي انتقل السيد الصدر إلى العمل مع مرجعية الإمام السيد الحكيم مع كونه خريج مدرسة الإمام السيد الخوئي ومن المحسوبين على مرجعية الإمام الشيخ محمد رضا آل ياسين، فكان موقعه محورياً فيها، وليساهم في كل نشاطاتها ومشاريعها داخل الحوزة وخارجها بما فيها النشاطات السياسية العامة.

وقد واصل آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر السير على ذات الطريق حتى بعد تسنّمه لذرى المرجعية ليختم حياته _ الزاخرة بالعلم والعمل والجهاد في سبيل الله _ بالشهادة، وهي أعلى مرتبة يحصل عليها الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

  1. الحركة الإسلامية

القائد الضرورة

شكلت الحوزة العلمية في النجف الأشرف الوسط الذي احتضن الحركة الإسلامية في العراق منذ بداية تأسيسها في بلاد الرافدين، فبعد الغزو العسكري البريطاني للعراق خلال الحرب العالمية الأولى تشكلت النواة الأولى للعمل التنظيمي السري في النجف الأشرف بتأسيس (جمعية النهضة الإسلامية) التي قادت ثورة النجف عام 1918م، والتي شكلت البداية لنشوء المزيد من التنظيمات الإسلامية المقاومة للاحتلال كـ(حزب النجف) السري، و(الجمعية الوطنية الإسلامية) في كربلاء، و(الجمعية الإسلامية) في الكاظمية، و(جمعية حرس الاستقلال) في بغداد.

وقد ساهمت تلك الفصائل مجتمعة في الإعداد للثورة العراقية الكبرى في حزيران 1920م بقيادة المرجع الأعلى الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي، ورغم انكفاء الثورة عسكرياً إلا أنها استطاعت إجبار الإنجليز على إبدال أسلوب الحكم المباشر _ الذي كان من المقرر أن يتبعوه في العراق على غرار ما هو قائم في الهند _ إلى أسلوب الحكم غير المباشر؛ بتشكيل الدولة العراقية في آب 1921م والتي عملت كظل لسلطات الانتداب البريطاني في الحد من تأثير العلماء في الشأن السياسي للبلاد، وقمع أي تحرك إسلامي لاستنهاض الأمة والمطالبة بحقوقها في أن تحيا حياة حرة كريمة (في ظل دولة عربية قانونها القرآن)[18]، كما كانت تلك هي أهداف ثورة العشرين المجيدة.

وبعد إعلان المرجعية الدينية موقفها الصريح والواضح في رفض المعاهدة العراقية _ البريطانية، وتحريمها المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي الذي أريد له أن يقر إبرام تلك المعاهدة، عمدت الحكومة العراقية _ وبتوجيه مباشر من المندوب السامي البريطاني _ إلى توجيه ضربتها التي قررت أن تكون نهائية إلى الحركة الإسلامية وعلى رأسها المرجعية، فقامت بعد عمليات القمع الواسعة التي مارستها في مختلف مناطق العراق بوضع 50 عالماً عراقياً تحت مراقبة الشرطة وإبعاد عدد آخر منهم إلى الحجاز، فيما أبعد 34 عالماً إلى إيران من بينهم مجتهدون كبار، وعلى رأسهم المرجع الأعلى الإمام السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني، وقد وجد العلماء المبعدون إلى إيران _ التي كانت تشهد في عهد حاكمها رضاخان موجة حادة من التغريب على غرار ما كان يجري في تركيا على يد كمال مصطفى أتاتورك _ أن المصلحة الإسلامية العليا تقتضي عودتهم إلى العراق الذي كان بأمسّ الحاجة إلى وجود مراجع التقليد في المدن المقدسة، فعاد مَن عاد منهم ولكن بشرط عدم التدخل في السياسة.

وهكذا استطاعت (الدولة المحلية المنتدبة وسلطات الانتداب الانجليزي أن تفرض على القيادة الدينية التراجع والانكفاء عن العمل السياسي الإسلامي المباشر تحت طائلة الاعتقال والإبعاد عن العراق، دون التمكن من كسب تأييدها وموالاتها)[19] إلا أن الحركة الإسلامية في العراق عادت بعد أكثر من ثلاثة عقود من الخمود والتراجع إلى التجدد والانبعاث في خمسينيات القرن العشرين التي شهدت تبلور الأفكار الحركية لدى العديد من العاملين للإسلام من داخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف وخارجها، وكان في المقدمة منهم آية الله السيد محمد باقر الصدر الذي تكونت في ذهنه بوادر الوعي الحركي في تلك الحقبة التي كان يواصل خلالها دراساته الحوزوية العليا، وكانت تلك هي البداية لعودة الحركة الإسلامية إلى التشكل من جديد في العراق، والتي بدأت تخطو أولى خطواتها العملية في النصف الثاني من الخمسينيات وبعد العدوان الثلاثي على مصر تحديداً في تشرين الأول 1956م، حيث شهدت مدن العراق ومنها النجف تظاهرات عنيفة سقط فيها العديد من القتلى والجرحي، فتنادى على أثرها العاملون للإسلام، وعلى رأسهم السيد الصدر، للعمل ضمن إطار حركي مستلهمين تجارب حركية إسلامية وعالمية في هذا المضمار، وعن ذلك يتحدث أحد رواد الحركة الإسلامية في العراق، وهو المرحوم الأستاذ محمد صالح الأديب بالقول:

في عام 1376 الموافق 1956م عندما كنت أبحث عمن يوافقني في إنشاء حزب إسلامي على أسس فكرية أصيلة مأخوذة من مصادر الإسلام، وأسس تنظيمه توافق مبادئه، التقيت بأحد المؤمنين من الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وكان هو الآخر يفتش عمن يوافقه في الأهداف التي ذكرتها، وبعد اتصالات ومناقشات عديدة معه أخذني إلى المرجع الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر) وعلمت بأنهما مع آخرين منذ مدة طويلة يفكرون في هذا الأمر. وكان بعض أعضاء هذه النخبة يقومون بنشاطات إسلامية تجديدية، كالاحتفالات والدروس الإسلامية الحديثة والمحاضرات والمجالس الحسينية الواعية والمناقشات السياسية، منذ بداية الخمسينيات.[20]

وكان ذلك الشخص الذي عرّف الأديب على السيد الصدر هو المرحوم الشهيد السيد مهدي الحكيم أحد الرواد الأوائل للعمل الإسلامي في العراق، وقد شكل الثلاثة الصدر والحكيم _ مهدي _ والأديب النواة التي مهدت لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية طليعة الحركة الإسلامية في العراق. وقد برزت أهمية الدور الذي اضطلع به السيد الصدر في ذلك التحرك منذ بدايته من خلال الأبعاد التالية:

الجانب الفقهي

أولى السيد الصدر الحزب الإسلامي وهو في طور التكوين كل اهتمامه، وكان حريصاً على بنائه وفق أسس وضوابط شرعية، وكان أول ما قام به في هذا الإطار توكيد مشروعيته من الناحية الفقهية، فكتب (رسالة برهن فيها على جواز قيام الحكومة الإسلامية زمن الغيبة، وذلك من خلال آية الشورى)[21].

وتكمن أهمية تلك الرسالة _ وهي أول ما كتب في الحزب _ في كون السيد الصدر، باعتباره فقيهاً مجتهداً، كان يرى بأن الهدف من وراء تشكيل الحزب الإسلامي هو أن يكون طريقاً للوصول إلى الحكم الإسلامي، وبدون مشروعية الهدف فلا معنى لقيام الحزب.

وبسبب أهمية الدولة في الفكر والتشريع الإسلامي فقد جرى بحث العديد من المشكلات التي يمكن أن تواجه الدولة الإسلامية في حال قيامها خلال النقاشات التي كانت تدور بين المؤسسين، حيث انبرى السيد الصدر لاستنباط الأحكام الشرعية التي تعالج تلك المشكلات بما يتناسب وروح العصر، من ذلك على سبيل المثال: مسألة المرتد الملي والمرتد الفطري والتي نوقشت في قيادة الدعوة بعد التأسيس، وكان للسيد الصدر رأي فقهي في ذلك مخالف للمشهور وهو أن توبة المرتد الفطري تُقبل في زمن الشبهة، في حين أن باقي الفقهاء يرون أن توبة المرتد الفطري لاتقبل، وإنما تقبل توبة المرتد الملي الذي يسلم ثم يرتد ثم يسلم. وكانت رؤيته في ذلك منطلقة من رفضه للنزعة الاستصحابية في معالجة القضايا التي تواجه عالمنا الإسلامي المعاصر.

وفي ذلك يقول:

لابد لنا أن نتحرر من النزعة الاستصحابية؛ من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العلم، هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها؛ لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أمة لم يبق منها أحد. وقد انتهت وحدثت أمة أخرى ذات أفكار أخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى.[22]

وقد عرض السيد الصدر رأيه في تلك المسألة على فقيه العصر آية الله العظمى الإمام السيد الخوئي، فأشكل عليه في البداية، وكان محور النقاش قد انصبّ على (الشيوعيين؛ لتبنّيهم أيديولوجية إلحادية تنكر الأديان) وهؤلاء المسلمون منهم _ حسب الحكم الشرعي؟ والحل في هذه الحالة _ والرأي للسيد الصدر _ غير عملي. وقد انتهى النقاش إلى قبول السيد الخوئي وهو أستاذ الفقهاء بالرأي الذي انتهى إليه السيد الصدر، والذي اعتبر أن زماننا الحالي هو زمن شبهة.

ومن خلال تلك العقلية المستنيرة والمتفتحة على مشاكل عصرها استطاعت الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية في العراق عموماً وهي لم تزل في بداية الطريق أن تتجاوز العديد من العقبات والمشاكل التي اعترضت سبيلها، وأن تجد لها الحلول المناسبة وفق الموازين الشرعية، وأن تشيد بناءها على أسس متينة بإشراف مجتهد مشهود له بالعلم والفقاهة هو الإمام السيد محمد باقر الصدر).

التنظير: أدّى انكفاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف على ذاتها بعد ثورة العشرين وابتعادها عن السياسة وشؤون الناس إلى نمو الدراسات الحوزوية في الفقه والأصول على حساب الدراسات ذات الطابع الفكري والثقافي الذي كان أبناء الحركة الإسلامية في العراق بأمسّ الحاجة إليه، ومع وجود تيار فكري وثقافي إسلامي متداول خارج نتاج مدرسة أهل البيت إلا أنه لم يحظ بكليته وجميع جوانبه بالقبول من لدن الدعاة الأوائل.

وإلى ذلك يشير الشهيد السيد مهدي الحكيم بالقول:

كان حزب التحرير يملك نظاماً لكننا لم نكن نعتقد به، وبحزب الإخوان المسلمين، لأنهم لايملكون شكلاً واضحاً للحكومة الإسلامية.[23]

ومن تلك الحاجة الواقعية والحقيقية برز دور السيد الصدر في التنظير وفي بلورة المفاهيم الإسلامية التي ران عليها الكثير من التراكمات ولعل تفوّق السيد الصدر من الناحية الفكرية وقدرته التنظيرية الفذّة كانت من الأسباب التي جعلت البعض يعتبره مؤسساً للحركة الإسلامية ولحزب الدعوة الإسلامية بالذات، ففي الاجتماعات التي كانت تعقد خلال مرحلة التأسيس كان السيد الصدر هو الذي يوجه الحديث ويديره، وقد استمر ذلك حتى الاجتماع الذي اعتُبر تأسيساً في تشرين الأول 1975م والذي عُقد (في منزل المرجع الديني السيد محسن الحكيم)[24] في النجف الأشرف، حيث دار النقاش فيه بين السيد الصدر والحاج محمد صادق القاموسي باعتبارهما _ حسب شهادة الحاضرين _ (أكثر منهم وعياً وثقافة)[25]، وكان محور النقاش يدور حول نظرية العامل الواحد في تكوين المجتمعات والحضارات الإنسانية، وكان رأي السيد الصدر أن الإسلام لايؤمن بالعامل الواحد _ كما تبنّت ذلك بعض الأيديولوجيات المعاصرة كالماركسية والنازية _ وإنما هناك عدة عوامل تساهم في ذلك:

لعل أهم ما أنجزه السيد الصدر من الناحية الفكرية للحزب وهو في بداية انطلاقه كتابته لموضوع الأسس وعددها[26]، وهي تشمل نظاماً متكاملاً للدولة وللصلاحيات التي تتمتع بها مؤسساتها، وعلى حد وصف السيد مهدي الحكيم (فإن السيد الشهيد الصدر طرح أطروحة من أروع ما يكون، وفي وقتها لم نكن نتصور أنها بهذا الشكل من الروعة، فهي تحتوي على تصورات لدولة فيها رقابة شعبية لكل مرحلة من مراحل السلطة التنفيذية، وهناك مجلس شورى محلي إلى جانب هذه الرقابة، وهذا الاتجاه موجود الآن في إيران)[27].

وقد جرى تدريس (الأسس) في الحلقات الحزبية لسنوات عدة، وكانت أفكارها تطرح من قبل الدعاة على المنابر خلال المحاضرات والمناسبات الإسلامية من دون تسمية بالأسماء الصريحة طبعاً. كما كتب السيد الصدر أوائل النشرات الداخلية وفي مقدمتها تلك التي بعنوان (دعوتنا إلى الإسلام يجب أن تكون دعوة انقلابية).

ويمكن القول وبكل ثقة وللأمانة التاريخية: إن السيد الصدر كان المنظّر الأول لحزب الدعوة الإسلامية، ولم يكن هناك مَن ينازعه في ذلك التكليف من المؤسسين أو أعضاء القيادة الأولى للحزب رغم أن فيهم أو جلّهم كانوا من فضلاء الحوزة ومن الكتاب والمفكرين الذين أصبح لهم شأن كبير في العالمين العربي والإسلامي.

الكسب الحزبي: امتاز السيد الصدر بالإضافة إلى قدراته على الكتابة والتنظير بطاقة حركية خلاقة استثمرها في الكسب الحزبي ويشهد على ذلك الكثير من الفضلاء والعلماء الذين تحرك عليهم من أجل ضمهم إلى صفوف التنظيم.

وكان السيد الصدر قد طلب من السيد مهدي الحكيم إعداد قائمة بأسماء وكلاء والده المرجع الأعلى الإمام السيد محسن الحكيم من أجل التحرك على من يصلح منهم للتنظيم، وبالفعل فقد أعد السيد مهدي تلك القائمة، فقام السيد الصدر بتقسيمهم إلى ثلاث مجموعات، فعهد بالأولى إلى السيد مهدي الحكيم، والثانية إلى السيد مرتضى العسكري، والثالثة تولى هو شخصياً مفاتحتهم بالدعوة، كما عمل من خلال وجوده في جهاز مرجعية الإمام السيد الحكيم على تعيين العديد من العلماء الحركيين كوكلاء للمرجعية في العديد من المناطق داخل العراق وخارجه.

الصدر خارج التنظيم

لم يختلف موقف السيد الصدر من حزب الدعوة الإسلامية بعد خروجه من القيادة والتنظيم في العام 1960م حتى أن القيادة التي تشكلت فيما بعد كانت ترى (أن السيد الصدر لم يخرج من الدعوة، وإنما انتقل إلى وضع أصبح فيه بلا مسؤولية حزبية)[28]. وقد كثر الجدل حول الأسباب التي حَدَت بشخصية لها هذه المكانة والمسؤوليات القيادية كالسيد الصدر إلى الانسحاب من الحزب الذي ساهم بدور أساسي في تأسيسه. وحسب المعلومات المتواترة والمتوفرة فإن هناك سببين وراء ذلك القرار:

الأول: الشك في دلالة آية الشورى على الحكم الإسلامي الذي صاغ أسسه بالاستناد إليها، فقد كان يري) أن العمل الحزبي لا معنى لاستمراره (إلا إذا كان يتضمن تصوراً كاملاً عن نظرية الحكم الإسلامي وطريقة ممارسته، فإذا لم تكن النظرية حول الحكم الإسلامي وإطاره ومؤسساته واضحة فكيف يمكن إيجاد تنظيم يسعى إلى الهدف دون أن يكون نفس الهدف واضح المعالم؟!)[29].

وقد أكد السيد الصدر هذا المعنى للسيد العسكري بقوله: (لم أستطع أن أجد أدلة على النظام الذي نتبناه، وإني أريد في يوم واحد أن يدخل في الدعوة مليونا شخص!) [30].

الثاني: طلب المرجع الأعلى الإمام السيد الحكيم من السيد الصدر الخروج من الحزب، إثر قيام المحامي حسين الصافي مسؤول منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في النجف بزيارة الإمام الحكيم وتحذيره من وجود خطر _ حسب زعمه _ على الحوزة من تنظيم حزب الدعوة الإسلامية الذي يقوده نجلاه: السيد مهدي والسيد محمد باقر، والسيد محمد باقر الصدر.

وقد عمد السيد الصدر الذي كان يشعر (بضرورة وأهمية العمل السياسي الإسلامي المنظم والذي بقي يؤيد التحرك السياسي _ الخاص_ بمستوى من المستويات، وسمح للحزب _ من أجل أن يحل الإشكال الشرعي له _ أن يستند في شرعيته إلى فتوى بعض الفقهاء أمثال خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره..) [31].

وقد استمر السيد الصدر في رعايته للدعوة وتقديم مختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي لها، حتى خلال الفترة التي شهدت تباينات في الرؤى ووجهات النظر، فقد خوّل السيد الصدر أوائل عام 1976م أحد قيادي الحزب (بصرف ما تحتاج الدعوة من أموال وحقوق شرعية كبادرة على ثقته بالدعوة ورغبته الأكيدة في دفع عملها إلى الأمام)[32].

  1. المرجعية الرشيدة

توصل السيد الصدر إلى البديل عن نظرية الشورى كأساس للحكومة الإسلامية بالرأي القائل بولاية الفقيه، وذلك في حدود العام 1970م، لينتهي إلى بلورة العديد من المفاهيم حول منصب المرجعية الدينية، والتي تمثل النيابة العامة عن الإمام المعصوم عند الشيعة الإمامية في عصر الغيبة، والتي صاغ خطوطها العريضة في أطروحة (المرجعية الصالحة) محدداً لها جملة من الأهداف بما يؤدي إلى ترصين البحوث والدراسات الإسلامية، وإلى بناء الفرد والمجتمع وتشكيل تيار إسلامي يكون للعلماء فيه دور محوري.

ويشترط السيد الصدر _ ليس فقط وضوح تلك الأهداف للمرجع الصالح لكي تنطبق عليه تلك، وإنما _ أيضاً:

١. وجود قاعدة واسعة ومتينة داخل الحوزة العلمية تنسجم في أفكارها وتصوراتها وأهدافها مع أفكار المرجع الصالح وتصوراته.

٢. تطوير أساليب عمل المرجعية وأوضاعها على الصعيد العملي.

وقد سعى السيد الصدر إلى توفير تلك الشروط ببناء كتلة واعية ذات مؤهلات عالية من طلبة الحوزة، ورفدها باستمرار بطاقات خلاقة من خريجي الجامعات، كما عمل على (إيجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على أساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل، واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحددة)[33]؛ ليكون بديلاً عن الحاشية، في خطوة ترمي إلى تحويل العمل المرجعي من نمطه الفردي إلى شكل آخر يمارس فيه المرجع عمله (من خلال مجلس يضم علماء الشيعة والقوى الممثلة له دينياً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس ليكون العمل المرجعي موضوعياً)[34].

فالمرجعية الموضوعية سوف تكون والحال هذه أقرب إلى النظام المؤسساتي (وبهذا الأسلوب الموضوعي من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعي من التأثر بانفعالات شخصه، ويعطي له بعداً وامتداداً واقعياً كبيراً؛ إذ يشعر كل ممثلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمل مسؤوليات العمل المرجعي وتنفيذ سياسة المرجعية الصالحية التي تقرر من خلال ذلك المجلس، وسوف يضم هذا المجلس تلك اللجان التي يتكون منها الجهاز العملي للمرجعية)[35].

ومع أن السيد الصدر استطاع إيجاد جهاز إداري متطور نسبياً لمرجعيته إلا أنه لم يستطع الوصول بها إلى الشكل المؤسساتي أو ما اصطلح عليه بالمرجعية الموضوعية؛ لأسباب عدة منها: وجود عقبات عملية، وأخرى تتعلق بوجود إشكالات على أصل النظرية (مثل من له حق تشكيل اللجنة _ مجلس العلماء _ وتحديد صلاحيتها من حيثية نصب المرجع أو الرقابة عليه، أو عزله إذا فقد الأهلية، وتحديد عدد أعضائها، ومرتبتهم من العلم والتقوى، وكيف يعرف ذلك فيهم، وما هو الموقف عند اختلافهم.. إلى غير ذلك)[36].

لكن عدم توفر الشروط المطلوبة لقيام المرجعية الموضوعية لم يحُل دون بروز مرجعية صالحة تجمع المفردات التالية: المرجع المؤهل _ وهو ما تمثل بشخص السيد الصدر _ طلبة حوزته، ما يرتبط به من أجهزة ووكلاء. وهي المرجعية التي تميزت عن باقي المرجعيات التي أطلق عليها مصطلح التقليدية أو التي تعيش الهمّ الذاتي، وكانت تمثل بمواصفاتها المرجعية الرشيدة التي تحمل الصفة القيادية للأمة بما في ذلك القيمومة على الحركة الإسلامية التي أريد لها (أن تتحرك ضمن الإطار العام الذي تتحرك فيه المرجعية وتكون تابعة لها؛ لتقوم بدور خاص أو مهمة خاصة حسب متطلبات الظروف)[37].

ومن هنا كان منشأ التقاطع بين المرجعية الرشيدة ونظرية العمل الحزبي المبنية على مبدأ قيادة الحزب للأمة والاستفادة في عين الوقت من المرجعية كواجهة للعمل الإسلامي، وهذا المبدأ هو أحد مفردات نظرية الشورى التي سبق وأن صاغها السيد الصدر نفسه ثم تخلى عنها وبقي حزب الدعوة الإسلامية متمسكاً بها، لكنه عمل على تطويرها معتبراً (أن القيادة لمن يتقدم).

ونظراً للطبيعة العملية للمرحلة، فإن الحزب لم يكن مستعداً للتخلي عن نظريته تلك في العمل، لاسيما وأنه كان القوة الفاعلة على الساحة في تلك الفترة بالذات التي برزت فيها مرجعية السيد الصدر، بعد أن استطاع النظام الحاكم من تحييد قطاعات واسعة من الأمة بالترهيب والترغيب بالاعتماد على إمكانات الدولة الهائلة، وهذا ما حرم المرجعية من دعم قواعد عريضة من جماهير الأمة في العراق، ولم يغير بالتالي من قناعات الحركة الإسلامية وعمودها الفقري حزب الدعوة الإسلامية من (أن المرجعية ما لم تكن تنظيماً حزبياً أو مستندة إلى تنظيم حزبي فليس باستطاعتها أن تكون جهازاً ومؤسسة تحافظ على فاعليتها وجمهورها مع تبدل شخص المرجع، وستبقى المرجعيات تبدأ من الصفر وتنتهي بالموت فجأة، وتبقى العوامل والمقاييس الدنيوية لا الإسلامية صاحبة تأثير كبير في إنشاء المرجعية وتركزها.. هذه الأمور تجعل المرجعية في أحسن حالاتها حركة إصلاحية تبذل جهدها في بناء نفسها وفي توعية الأمة توعية عامة متحاشيةً تبعات التغيير وطريق ذات الشوكة وتنتهي فاعليتها بموت المرجع. ومثل هذا العمل لا يكون بديلاً عن العمل التنظيمي التغييري)[38].

وبناءً عليه فقد وجد السيد الصدر بأن من الضروري بحث العلاقة بين الحركة الإسلامية والحوزة العلمية، وهو ما تم التطرق إليه خلال الجلسات الأسبوعية التي كان يعقدها لخواص طلبته منذ بداية السبعينات طارحاً فيها تصوراته التي (تقوم على أساس أن الحوزة بتشكيلاتها وتنظيماتها تمثل القيادة الأساسية للعمل الإسلامي، ولابد لهذه الحوزة أن تكون مستقلة عن العمل المنظم الخاص)[39].

وقد انتهت تلك الاجتماعات التي جرت في العام 1973م تحديداً إلى جملة قرارات عكستها أقلام اثنين من أبرز طلبة السيد الصدر الذين حضروها، وهما آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري الذي كتب يقول:

وأما رأيه _ السيد الصدر _ في مدى صحة اشتراك الحوزة العلمية في الأحزاب السياسية الإسلامية فقد رسم) في تلك الأبحاث الأسبوعية خطوطاً ثلاث ذكر أن اثنين منها خطان ثابتان، وواحداً منها خط متحرك:

الخط الأول: ضرورة الفصل بين جهاز المرجيعة الصالحة والعمل الحزبي.

الخط الثاني: عدم البأس باشتراك طلاب الحوزة العلمية غير المرتبطين بجهاز المرجعية الصالحة، وهو في نفس الوقت عضو في حزب الدعوة الإسلامية ويكون انسحابه من صفوف الحزب مؤدياً إلى إرباك الوضع في داخل الحزب، يبقى محتفظاً بارتباطه بالحزب إلى حين ما يرى أن انفصاله لايؤدي إلى مثل هذا الارتباك، فعندئذٍ ينفصل عن الحزب.

وكان تاريخ تحديده) لهذه الخطوط الثلاثة بحدود أوائل سنة 1393 الهجرية. [40]

أما آية الله السيد محمد باقر الحكيم فيذكر أن تاريخ طرح السيد الصدر لموضوع العلاقة بين الحوزة العلمية وحزب الدعوة الإسلامية كان أواخر سنة 1338ق _ 1973م، وأن هذا الطرح تم في المجلس الاستشاري الخاص به، وبعد مناقشات مطولة (تم التوصل إلى هذا القرار العملي _ مع التحفظ تجاهه من قبل بعض أعضاء الجلسة إيجابياً وسلبياً _ وهو ضمن النقاط التالية:

١. أن يتم الفصل كلياً على مستوى أجهزة المرجعية الخاصة والعناصر الإدارية والاستشارية لها، وبين العمل المنظم الخاص لتحقيق الاستقلال على هذا المستوي.

٢. أن يتم الفصل بين الحوزة بشكل عام والعمل المنظم على مستوى دراسة السطح والخارج، بحيث يتم إبلاغ الطلبة المنظمين على هذا المستوى بشكل خاص بفك الارتباط العضوي مع التنظيم الخاص.

٣. يسمح للطلبة ذوي الدراسات الأولية _ المقدمات _ أن يرتبطوا بالتنظيم الخاص مؤقتاً من أجل تحقيق التوعية السياسية في هذا القطاع مؤقتاً.

۴. يستثنى من البند الثاني الأشخاص المرتبطون بالتنظيم الخاص الذين يكون لوجودهم دور مهم في إدارته وتثقيفه بحيث يؤدي فك ارتباطهم إلى إيجاد الاختلال في الوضع التنظيمي الخاص على المستوى العملي والثقافي)[41].

وبعد حملة الاعتقالات الواسعة التي شنّها النظام الحاكم في العراق عام 1974م، والتي طالت منتسبي حزب الدعوة الإسلامية بمن فيهم عدد كبير من طلبة الحوزة العلمية وبعضهم من خواص طلبة السيد الصدر قام سماحته (بإبلاغ بعض المسؤولين الكبار في التنظيم بضرورة إصدار بلاغ من القيادة إلى التنظيم الخاص يطلب منهم فك الارتباط مع جميع طلاب ومدرسي الحوزة والوكلاء في البلدان، وبدون ذلك فسوف يقوم الشهيد الصدر بإصدار حكم باعتباره الفقيه الولي بحرمة الانتماء إلى التنظيم الخاص بالنسبة إلى طلاب الحوزة العلمية وغيرهم من الأجهزة)[42].

وقد تم تبليغ المرحوم الشهيد الشيخ عارف البصري _ وهو أكبر مسؤول تنظيمي للدعوة داخل العراق آنذاك _ قبل اعتقاله بفترة وجيزة بقرار السيد الصدر، فكان رده: (إننا لانجد فرقاً بيننا وبين السيد الصدر، ولايمكن أن نختلف معه)[43].

وفي غمرة تلك الأحداث الساخنة أصدر السيد الصدر في أوائل آب 1974م حكماً فقهياً جاء فيه:

لايجوز انتماء طلاب العلوم الدينية إلى الأحزاب الإسلامية؛ لأن وظيفة طالب العلم هي التبليغ للإرشاد على الطريقة المألوفة بين العلماء. 10 شعبان 1394ق.

وبغض النظر عن الجدل الحاد الذي أحدثه ذلك الحكم داخل الحوزة وخارجها وما رافقه من محاولات قام بها النظام وخصوم الدعوة لاستخدامه في التنكيل بالحزب، فإن المرامي الحقيقية التي حدت بالسيد الصدر إلى إصدار ذلك الحكم وفي ذلك الظرف الحرج إنما تنحصر _ حسب ما دلت عليه الوقائع والأحداث _ بنقطتين رئيسيتين هما:

أولاً: وجوب الفصل بين الحوزة العلمية والتنظيم الحزبي، وهو ما أشار إليه السيد الصدر بنفسه في وقت لاحق عند لقائه بأحد قادة حزب الدعوة الإسلامية هو الحاج مهدي عبد مهدي عندما سأله قائلاً: (هل صدر منكم فعلاً ذلك الحكم؟ فرد الإمام الصدر قائلاً: نعم، ولكن أنا ما أقصدكم أنتم الشباب، أقصد طلبة الحوزة، وليس كل طلبة الحوزة؛ النتيجة عالم الدين يجب أن يكسب ثقة الأمة، والأمة لاتعطي ثقتها لعالم الدين إذا أحسّت أن عنده نوعاً من الارتباط بتنظيم أو حزب أو شيء سري غير مكشوف لها، لهذا أردت من الحكم أن ينفتح الطلبة على الأمة. فرد الحاج مهدي بالقول: إن ذلك الحكم قد يستغل، فأجاب الإمام قائلاً: قد.. ولكن سرعان ما يزول التأثير)[44].

ثانياً: الحفاظ على حزب الدعوة الإسلامية من بطش السلطة وهمجيتها، وهذا ما أوضحه السيد الصدر للسيد الحائري عبر المراسلات التي كانت تجري بينهما حين استفسر السيد الحائري من السيد الصدر عن المقصود الواقعي من هذه الكلمة ذاكراً له:

إن المحتملات عندي أربعة:

١. أن يكون المقصود بهذه الكلمة لحاظ مصلحة في أصل ذكرها ونشرها كتقية، وعلى حد تعبير علماء الأصول: تكون المصلحة في الجعل.

٢. أن يكون المقصود بهذه الكلمة أولئك العلماء والطلاب المرتبطين بمرجعيتكم وإن اقتضت المصلحة إبرازها على شكل العموم.

٣. أن يكون المقصود بهذه الكلمة فصل طلاب الحوزة العلمية في العراق عن العمل الحزبي درءاً للخطر البعثي الخبيث عنهم، الذي يؤدي إلى إبادتهم.

۴. أن يكون المقصود بها فصل جميع الحوزات العلمية في كل زمان ومكان عن العمل الحزبي الإسلامي، وعلى حد تعبير الأصوليين: تكون القضية قضية حقيقية وليست خارجية.

وعلى الاحتمال الأخير يكون تعليقي على هذه الكلمة: أن هذا الإجراء سيؤدي في طول الخط إلى انحراف الحركة الإسلامية الحزبية عن مسار الإسلام نتيجة لابتعادهم في أجوائهم الحزبية عن العلماء الأعلام.

فكتب لي) في الجواب: إني قصدت المعنى الأول والثاني والثالث دون الرابع.[45]

ولاتعني إجابة السيد الصدر الواضحة والصريحة تلك بكل ما احتوته، وكذلك ما نقله آية الله السيد محمود الهاشمي رئيس مجلس القضاء الأعلى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حالياً إلى السيد الحائري من أن السيد الصدر (بعث على أحد الوجوه البارزة آنئذٍ لحزب الدعوة الإسلامية _ المحامي حسن شبر _ وقال له فيما قال: إن كلمتي التي أصدرتها حول انفصال الحوزة عن العمل الحزبي قد انتهى أمدها)[46] لاتعني وجود أية إمكانية للتداخل من جديد بين الجهاز الحزبي وجهاز المرجعية الصالحة.

وهذا ما أكده السيد الحائري بقوله:

إني لاأفهم من هذا الكلام انتهاء أمد هذه الكلمة بالقياس إلى جهاز المرجعية الصالحة المفروض فيها أن تكون فوق الحركات والأحزاب، وتكون في موقع الأبوة والقيادة للأمة بجميع أجنحتها وأفرادها، وإنما أفهم منه انتهاء أمد هذه الكلمة باعتبار المعنى الثالث من المعاني الثلاثة التي قصدها منها.[47]

ولم يحرص السيد الصدر حتى آخر يوم من حياته على أن تكون المرجعية الرشيدة فوق الحركات والأحزاب فحسب، وإنما أن يكون لها موقع القيادة الفعلية في الأمة، ومن هذه النقطة بالذات انطلق في تجديد علاقته بحزب الدعوة الإسلامية رغم الظروف العصبية التي كان يمرّ بها وحاجته الماسة إلى الحزب في المواجهة مع النظام الحاكم في العراق، فعندما التقى مع ممثل قيادة الدعوة في الداخل لتنسيق المواقف قبل انتفاضة السابع عشر من رجب 1399، حزيران 1979، كان السؤال الذي طرحه عليه قبل التوصل إلى أي اتفاق بينهما هو: (القيادة لمن؟ للمرجعية أم للدعوة؟)[48]، فكان الرد صريحاً وقاطعاً: (لسنا بدلاء عنكم والقرار للمرجعية)[49].

وكان مصداق ذلك الاتفاق وتسليم الحزب لقيادة المرجعية هو دخوله المرحلة السياسية قبل أن يستكمل مقومات المرحلة الفكرية _ التغييرية _ بناءً على القرار الذي اتخذه الإمام السيد الصدر وتحمل كامل مسؤوليته، من أن أدبيات الدعوة كانت أشد ما تحذر منه ومنذ سنين طويلة هو تجاوز المرحلة اللاحقة قبل استكمال مستلزمات المرحلة السابقة.

وكان قرار السيد الصدر بالمواجهة وتجاوز المرحلة مبنياً على قناعة مسبقة كانت في الحقيقة جزءاً من الاستراتيجية التي اعتمدها في العمل السياسي، والتي تقوم على (الدمج بين العمل الثقافي والعمل السياسي والتصدي للمواجهة، ولكن مع مراعاة التدرج في الطرح، والظروف الموضوعية القائمة فعلاً، سواء على صعيد الأمة أو الحكم أو أجهزة المرجعية وإمكاناتها)[50].

وقد سبق للسيد الصدر أن طرح هذا الموضوع في مجلسه الأسبوعي آنف الذكر خلال العام 1972م، وكان رأيه أن أسلوب المرحلية في العمل الذي ينتهجه حزب الدعوة الإسلامية لم يعد يصلح في العراق الذي يعيش وضعاً خاصاً في ظل حكم البعث العفلقي، وازداد اقتناعاً بذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط 1979م بحيث بات يجد أن من الضروري الانتقال من حالة الانتظار للفرصة المواتية لبدء المواجهة إلى حالة المواجهة الفعلية، وقد عبر عن ذلك في بعض الاجتماعات الخاصة للتداول والتشاور بما مضمونه: أنه من قال: (إنه سوف يبقى لنا شيء إذا انتظرنا الفرصة المناسبة بعد أن كان العفالقة المجرمون جادّين في مسخ شخصية الإنسان المسلم في العراق وتغيير كل المعالم الإسلامية وسحق المثل والقيم الربانية، واستخدموا كل الأساليب الفاسدة والخبيثة والوحشية لتحقيق أهدافهم؟!).

ولازالت الشعلة التي أطلق وهجها الإمام الشهيد محمد باقر الصدر) مستعرةً منذ 21 عاماً تضيء الدرب للجماهير وهي تحث الخطى في درب الكفاح، غير عابئة بجسامة التضحيات ولا بضآلة الإمكانات وقلة الناصر حتى يحكم الله أمره، وهو خير الحاكمين.

[1]. مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم(ره) حول التحرك الإسلامي في العراق، مهدي الحكيم، ص 20، إعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية.

[2]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، محمد باقر الحكيم، ص 33 _ 34 (محدودة التداول).

[3]. محمد باقر الصدر، دراسة في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 92، مؤسسة دار الإسلام، لندن 1416ق _ 1996م.

[4]. مذكرات السيد محمد مهدي الحكيم، ص 23.

[5]. مجلة الفكر الجديد، تموز 1993م، ص 191، دار الإسلام، لندن.

[6]. محمد باقر الصدر، دراسة في حياته وفكره، ص 92.

[7]. م. ن، ص 133.

[8]. مذكرات السيد محمد مهدي الحكيم، ص 60.

[9]. مجلة الفكر الجديد، ص 276، تموز 1993م.

[10]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 35 _ 36.

[11]. مذكرات السيد محمد مهدي الحكيم، ص 21.

[12]. الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر دراسة في مسيرته ومنهجه، ص 250.

[13]. سنوات الجمر، مسيرة الحركة الإسلامية في العراق، علي المؤمن، ص 46، 1975 _ 1986، ط 1، لندن، دار المسيرة 1993م.

[14]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، فصول من تجربة الحركة الإسلامية في العراق خلال 40 عاماً، صلاح الخرسان، ص 103 _ 104، المؤسسة العربية للبحوث والدراسات الإستراتيجية، بيروت 1999م.

[15]. مجلة الفكر الجديد، ص 325، تموز 1993م.

[16]. مباحث الأصول، تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر؟ره؟ الجزء الأول من القسم الثاني، السيد كاظم الحائري، ص 73، ط 1، قم، مطبعة مركز النشر _ مكتب الإعلام الإسلامي.

[17]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد الصدر، ص 44.

[18]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 22.

[19]. تاريخ الحركة الإسلامية في العراق الجذور الفكرية والواقع التاريخي، 1900 _ 1924م، عبد الحليم الرهيمي، ص 282، ط 2، بيروت، دار الينبوع للطباعة والنشر والتوزيع 1988م، الكتاب بالأصل رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة اللبنانية.

[20]. صحيفة الجهاد، العدد 68 في 30/1/1983م.

[21]. مذكرات السيد محمد مهدي الحكيم، ص 37.

[22]. محمد باقر الصدر دراسة في حياته وفكره، ص 332.

[23]. مذكرات السيد محمد مهدي الحكيم، ص 36.

[24]. محمد باقر الصدر دراسة في حياته وفكره، ص 525.

[25]. مذكرات السيد مهدي الحكيم، ص 42.

[26]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 118.

[27]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 21 _ 22.

[28]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 118.

[29]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 22.

[30]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 206.

[31]. م. ن، ص 262.

[32]. مباحث الأصول، ص 94.

[33]. م. ن، ص 96.

[34]. م. ن.

[35]. (المراجع): المرجعية الدينية وقضايا أخرى، في حوار صريح مع سماحة المرجع الديني الجليل السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، ص 33 _ 34، ط2، دار الصفوة، بيروت 1998م.

[36]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 27.

[37]. منشورات حزب الدعوة الإسلامية، ثقافة الدعوة الإسلامية، الجزء الأول، ط 2، سنة 1401ق. ص 423.

[38]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 66.

[39]. مباحث الأصول، ص 100 _ 101.

[40]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد محمد باقر الصدر، ص 68 _ 69.

[41]. م. ن، ص 76 _ 77.

[42]. م. ن، ص 77.

[43]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 206.

[44]. مباحث الأصول، ص 101 _ 102.

[45]. م. ن، ص 100.

[46]. م. ن.

[47]. حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق، ص 262.

[48]. م. ن.

[49]. نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 84.

[50]. م. ن، ص 89.