الشهيدة بنت الهدى الواقع والآمال

ماجدة آل مرتضى المؤمن

مقدمة

بدأت إرهاصات المشروع الحضاري الإسلامي بالوعي والنهضة الاجتماعية التي شملت العراق بأسره في بداية العقد السابع من هذا القرن بشكل ملحوظ لم يسبق له مثيل؛ إذ تنامى وجود مجتمع المرأة الملتزمة في أفضل درجة اجتماعية وأسمى مستوى رسالي، قياساً للعقود الماضية والقرون السابقة في الساحة والمجتمع العراقي.

صورة مشرقة للمرأة العراقية التي أوقدت شمعة الأصالة لتنبئ عن وجود امرأة عقائدية وراء مَن حملن القرآن بيد والسلاح باليد الأخرى _ سلاح العفة والإيمان والعقيدة والثورة _ لمواصلة طريق ذات الشوكة، ليكتبن أحرفاً سامية لخلود المرأة العراقية المسلمة في تاريخ الإنسانية العظيم.. . فكانت الشهيدة بنت الهدى التي حملت همّ العقيدة والإسلام وبنات الإسلام ونسائه، كانت المجاهدة والعالمة والمربية والمرشدة في مجتمعها والنموذج في عقيدتها، والسياسية التي لم تداهن ولم تجامل على حساب الحق والحقيقة، إضافة إلى غيرتها المتميزة على بنات الإسلام، فقد أخذت على عاتقها رسم الأسس الأولية للعمل في سبيل المعتقد، رجاء أن تستمر به وتطوّره اللواتي يتطوعن للنهوض بعبء المسؤولية.

كان كل سلوكها ينبئ عن النظرة الواعية التي كانت تعيشها في نطاق الواقع والآمال، في نطاق العمل الجاد الهادف، لجعل المرأة العراقية المسلمة، مدعوّة إلى أن يكون لها حضورٌ فاعلٌ في كل مكان وكل مناسبة، لإظهار كلمة الله وجعلها العليا ودحض كلمة الباطل وجعلها السفلى.

ومما لا ريب فيه فقد بلغت الشهيدة بنت الهدى سليلة البيت النبوي الشريف، الذروة في التقى والورع، وسلكت السبيل الواضح في مجاهدة النفس والطريق الذي لا يشوبه أي انحراف أو ميل نحو ملذّات الدنيا.

وكانت الأحداث العنيفة في تلك الفترة والانحراف والانجراف نحو الحضارة الغربية وزينتها هماً كبيراً جذبت الشهيدة إلى دوامة الإعصار، وشغلتها عن كل ملذات الحياة وبهارجها وصنعت منها المجاهدة الثائرة التي عاشت في صميم المعركة مع البعثيين وغيرهم ممن انحرف أو انجرف.

الإستعداد للتغيير والبناء

كان مشروع حضارة الباطل قد اكتسح أغلب بيوتات المجتمع العراقي وتكرّس كمشروع منتصر، محاولاً القضاء على القيم الإسلامية واقتلاعها من الجذور ومن ذوات اللاهثين وراءه، وتحويلها إلى مجموعة أسفار مجيدة تنوء بأثقالها الظهور المكسورة، فأودعتها رفوف المكتبات الدهرية أو فيما خلف الذاكرة مبدّدة التأثير، أو متروكة لعبث مستشرقي الداخل والخارج.

في هذا المناخ الاجتماعي والسياسي نشأت وترعرعت آمنة الصدر (بنت الهدى) المخدّرة من عائلة العالمين العَلمين (إسماعيل الصدر) و(محمد باقر الصدر) كانت حياتها مليئة بالأحداث، حافلة بالمصاعب والمتاعب، مشحونة بالمحن والآلام.

منذ طفولتها عانت شظف العيش ولوعة اليتم بفقد الأب، الذي كان أحد كبار علماء الإسلام في العراق، الفقيه المحقق آية الله السيد (حيدر الصدر) غاب عنها وعمرها سنتان.

ولكن الذي هوّن عليها الخطب هو أن تجد الاهتمام الكبير من أخويها الحنونين ووالدتها أخت المرجع الديني المحقق الشيخ (محمد رضا آل ياسين)، يغمرونها بعطفهم الفياض.

حازت على شرف العناية العائلية الرفيعة، فأنّى تلتفت تلمس الرحمة وتُمنح البسمة وتحفظ الكلمة، كانت وقّادة الذكاء مرهفة الحس.

لم تدخل المدارس الرسمية، لا لتحرمها عائلتها من العلم، فبيتها كان معهداً للعلم والمعرفة الواعية التي ترنّ آثاره البالغة في سلوكها التي تجلّى في سيرتها ومسيرتها ودورها التوّاق للتغيير والبناء.

وجد أخواها فيها استعدادات رائعة وذكاء وقّاداً وحافظة سريعة وشغفاً لاستيعاب العلوم والمعارف والثقافة، حريصة لا تبدّد الزمن في أحاديث فارغة وسفاسف زائلة، فقد أطلعاها ودرّساها المناهج الرسمية في بيتهم الرسالي، وإضافة إلى تقديم الدروس العلمية درّسوها النحو والمنطق والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلامية، حسب مقتضيات التدرّج والتبسيط؛ إذ لمسا فيها الاستيعاب الذكي والاستعداد الواعي.

سرعان ما انبرت آمنة الصدر لعصرها، لم يَسُدِ الصمت والسكون لحظة في وجدانها، بعد أن اختزن في وعيها تاريخ الأمس المشرق للإسلام والانقلاب الذي أحدثه نبي الرحمة محمد- بإبلاغ التعاليم السماوية والنظم الإسلامية لبني البشر، ومواقف المرأة المسلمة في بدء الدعوة وبعدها، التعاليم الإسلامية التي قلبت نظام المجتمع العربي، وأسرعت إلى قلوب المسلمين، واحتلت الصدارة في نفوس المؤمنين، فإذا بأولئك الرجال الذين كانوا بالأمس الغريب يعتبرون المرأة مخلوقاً وضيعاً لا تصلح إلا للخدمة أو للمتعة، انقلبوا فجاة وبسرعة مدهشة إلى اعتبار النساء وإكرامهن حسب التعاليم النبوية وتوجيه الرسول الأكرم.

بعين الإسلام ومنهج الرؤية فيه نظرت بنت الهدى إلى ذلك الأمس وإلى الحاضر المعاش التي تتجسد فيه الجاهلية بصورة أخرى، الأمس كانت تراه نموذج حضارة الحق، والحاضر نموذج حضارة الباطل، الذي بدأ تيار التغريب يعم العالم الإسلامي بشراسة محمومة، وأخذ طريقه إلى العراق ببطء وتدرّج، لا يحس به إلا القليل ولا يشعر بشرّه إلا النخبة، لأنه كان بلبوس برّاقة مغرية وعناوين خلّابة (كتحرير المرأة) و(المساواة) و(حقوق المرأة).. إلى آخره.

كانت ترى وتُبصر غفلة النساء المسلمات وعدم وعيهنّ بما يراد بهن في نهاية المطاف، غير مدركات للعواقب الوخيمة، بيد أنها كانت ترى الخطر ببصيرتها الثاقبة بما أوتيت من صفاء النفس ونقاء التفكير وطهر الغاية وحسن التربية والتعليم، عاشت متوجسة خائفة على الفتاة والمرأة، فكانت مرشدة ناصحة وسيدة مجاهدة مُصلحة وعالمة فقيهة.

هي ذا آمنة الصدر بنت الهدى نصاً وفكراً وعملاً وروحاً، أدركت واعيةً كل الوعي لطبيعة التجربة التبليغية النبوية وظروفها البالغة التعقيد، وأنها لا تخشى أحداً في التبليغ إلى الله إلا الله، كما جاء في الآية الشريفة: <الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَ كَفى‌ بِاللهِ حَسِيباً>[1].

الجانب الروحي والعبادي

إذا استطاع الإنسان أن يدرك آماد العمق الروحي داخل كيانه فإن في إمكانه أن ينعم بعلاقة الحب الصافي والنقي بين الخالق والمخلوق، وهي العلاقة التي تحرص دائماً على تخليص الإنسان من إسار الحدود المادية الضيّقة التي تجبره على البقاء في دنيا الحيوان بكل ما تحويه من غرائز بدائية وانفعالات بربرية وشطحات وحشية، ولا شك فإن فعالية هذا العمق الروحي الممتزج بعبادة الخالق يختلف من شخص إلى آخر ومن طرف إلى آخر، فإذا كان للجسد الكثير من المتطلبات فالروح أيضاً لها من المتطلبات ما هو أكثر حيوية بالنسبة لنمو الإنسان المتكامل.

من هنا كان إصرار بنت الهدى على بلورة هذا العمق _ العمق الروحي والعبادي _ وتأكيده حتى يتجنب المسلمات العراقيات بل كل فرد مسلم سلوك الحيوان في الغابة، والذي لا يقيم وزناً لوجود الحيوانات الأخرى؛ لأن غرائزه التي تحكم كيانه وتجبره على اتباع مبدأ (أنا، ومن بعدي الطوفان)، لأن كل وجوده يتركز في الوفاء بمتطلباته المادية، أما الإنسان فعليه أن يكبح جماح غرائزه من أجل صالح المجموع. فلا تقوم قائمة لأي مجتمع بغير قيم مشتركة يستمدها من تاريخه وعقيدته الدينية وعمقه الروحي والعبادي.

فإذا اقتصرت العلاقات بين أفراد المجتمع على المستوى المادي فلابد أن يصبحوا حيوانات هائمة ومتصارعة في الغابة، أما إذا التقوا على المستوى الروحي فإن صورة المجتمع لابد أن تتغير إلى كيان إنساني أفضل وأرقى.

وتستدل المرشدة الزاهدة (بنت الهدى) بأحاديث الرسول الأعظم وأهل بيته في تهذيب هذا الجانب قائلة:

لعمري أن حقيقة ذكر الله تبارك وتعالى _ لو تفكرنا وتأملنا _ تعقيم النفوس من الأدران، وتطهير الغايات والدوافع أي غاية كانت وأي دافع كان، ولهذا جاء في المأثور عن الأئمة الأطهار(: إن الأعمال بالنيات، فنوعية العمل من نية صاحبه. وإن نية المرء خير من عمله، فقد فضّلت النية الصالحة وحدها _ وإن لم يتفق تحقيقها في الخارج _ على العمل الصالح ظاهراً، ولكن بلا نية صالحة ولاغاية مرضية طاهرة![2]

وتضيف قائلة:

فجدير بنا أن نبتهل إلى الله العلي القدير أن يجعل أوقاتنا في الليل والنهار بذكره معمورة، وبخدمته موصولة.[3]

وتقول أيضاً في تعريف المجتمع الصالح:

فالمجتمع _ أي مجتمع كان _ لا يمكن أن يتركز إلا على روحيات أفراده ومعنوياتهم، فإذا سمت الروحيات سما المجتمع، وإذا ارتفعت المعنويات ارتفع واعتصم من الأدران، وهذا ما يريده الإسلام للمجتمع الإسلامي، حياة حرة نظيفة كلها صدق وإخلاص وتعاون ووفاق لا تشوبها البغضاء، ولا يعكر صفاءها الحقد والخداع، حياة طيبة طاهرة يكون المسلمون فيها إخواناً والمسلمات أخوات، تسودهم المحبة وتظلّهم راية القرآن، قلوبهم واحدة وأيديهم واحدة واتجاههم واحد.[4]

وطالما حثّت الشهيدة الزاهدة بنات الإسلام للقرب من الله تعالى والمثل العليا في كل أبعاد الحياة قائلة:

ثم إن المرأة وكيفما تكون سيدة أو آنسة تتمكن أن تكون دائماً وأبداً ذاكرة لله تعالى خاضعة لأوامره متبعة لتعاليمه، فكل يد معونة تسديها المرأة ولو لأقربائها الأقربين إذا كانت خالصة لله تكون ذكراً لله تبارك وتعالى.

وكل لفتة طيبة تبديها تجاه الغير بدون أي غاية دنيوية تكون ذكراً لله، وكل سحابة ضيق تتحملها بصبر لا مجبرة ولا مغصوبة على ذلك تكون ذكراً لله، وكل فكرة صالحة تفكّر فيها لأجل الخير دون أي شي آخر تكون ذكراً لله، وأي نعمة تحدثت بها لا مباهية ولا متعالية تكون ذكراً لله وحتى البمسة والضحكة إذا جدّت بها خالصة من كل شائبة ورياء أو ملق تكون ذكراً لله..![5]

وفي تضاعيف أدبها الهادف يلاحظ المنحى الروحي لديها، تجود به لكل النساء اللواتي يعوزهنّ غذاء الروح:

ارفعي يديك إلى الله كل حين، واسأليه مزيداً من الإيمان ومزيداً من التقوى والهدى، اسأليه الرحمة والعون فإنه مجيب يجب دعوة الداعي إذا دعاه، فله الحمد وله الشكر.[6]

أكثري من قراءة القرآن الكريم، فهو أعظم راحة للنفس وأعظم دواء للروح وأكبر مطهر من الآثام.[7]

اعبدي الله بقلب خاشع، فإنا نعوذ بالله من قلب لا يخشع وعين لا تدمع! اذكريه في الليل:  <وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً>[8] فإلى الأمام يا عزيزتي، حاولي أن تتخلصي من شوائب الألم في حياتك لتنطلقي سعيدة محبورة فى رحاب الله.[9]

نستكشف من ذلك أن منهجها الروحي يمثّل بعداً حركياً فاعلاً، وليس انطواء صوفياً كما هو مألوف لدى المتصوفات المسلمات اللاتي يعتزلن بعيداً كأنهن راهبات في دير أو صومعة يعبدن الله مؤكدات الذات، كالذي قال في صدر الإسلام في دعائه: (ربي ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم أحداً غيرنا).

فالعمق الروحي والعبادي عند الشهيدة السعيدة والزاهدة والمجاهدة بنت الهدى أصلاً حيوياً من أصول الريادة الحضارية. فهي نظرة شاملة وعميقة ليس فقط إلى قيم الدين الحنيف ومثله العليا، بل أيضاً إلى تقلّبات الدنيا ومتغيرات المجتمع المتجدد، أي أنها كانت ترصد التفاعل الحي بين الواقع المادي للمرأة المسلمة والكيان الميتافيزيقي لها، إذ لا يمكن الفصل بينهما؛ لأن الفصل بين الجسد والروح لا يعني سوى الموت، وليس بالضرورة أن يكون الموت جسدياً؛ لأن الموت الروحي يمكن أن يكون أكثر مأسوية من الموت الجسدي، وذلك عندما يفقد الإنسان القدرة على الإيمان الذي ينير كهوف نفسه المظلمة، والمعرفة الإنسانية لا تتكامل إلا باكتمال الجانب الروحي والإيماني والعبادي.

الجانب الثقافي والعلمي

إذا استعرضنا حركة التاريخ الإنساني وحياة العظماء والمفكرين والمجددين والمصلحين الذين أخذوا على عاتقهم التغيير والرجوع إلى الأصالة والمسؤولية في التبليغ والتوجيه والتعليم، سنجد أنهم قد أدركوا في مرحلة مبكرة جداً من صباهم أن مصيرهم بل مصير كل إنسان وفرد متحد تماماً مع مصير وطنه وشعبه، وتظلّ هذه الفكرة تلحّ على وجدانهم بحيث تنتقل من مرحلة الحل إلى مرحلة التثقيف الذاتي بحثاً عن الرؤية الحضارية الشاملة التي تؤدي بدورها إلى انتهاج سلوك معين، ولا يهم عندئذ إذا كان هذا السلوك يتهدد استقرارهم وحياتهم الشخصية، فغالباً ما يكون وعيهم وفكرهم وثقافتهم هو شغلهم الشاغل الذي لا يقيم اعتباراً لاهتمامهم الشخصي واحتياجاتهم اليومية، كبنت الهدى التي (أولعت بالمطالعة الواسعة غير مقتصرة على الكتب الإسلامية، فقد تناولت كتباً غير دينية أيضاً، وغالباً ما كانت تستعير الكتب من هنا وهناك إرواءاً لتطلعاتها، علماً بأنها من عائلة محدودة الدخل يومذاك ولنقل فقيرة بشكل ملموس، الأمر الذي يفسر تجنبها لشراء الكتب، عدا الكتاب الضروري الواجب اقتناؤه.. . تقول إحدى الأخوات إنها حدّثتها مرة بإهمالها لحاجاتها الضرورية التي خصّص لها مبلغ مالي لشرائها، إنها ما إن تأخذ ثمن الحاجة من أمها وأخويها حتى تهرع لشراء كتاب قررت شراءه مسبقاً، وحينما يسألونها عن تلك الحاجة إذ يفتقدونها فتصارحهم).[10]

وغالباً ما يكون المصلح والمغير سابقاً لعصره، لامتلاكه القدرة على تحليل مكونات الواقع وتنوير كهوفه المعتمة، ثم الانطلاق إلى آفاق المستقبل الذي لا يزال في بطن الغيب. فالمستقبل في نظره ليس سوى المحصّلة النهائية للحاضر، فكانت الشهيدة تؤكد أن الإنتاج الثقافي للأدباء والفنانين هو عبارة عن انعكاس عقائدهم بنحو عفوي أو مقصود، وحسب طبيعة تلك العقائد والأفكار خيّرة كانت أم شرّيرة، فكانت تقول في تميّزها بين المفهوم الدقيق للعلم والمفهوم الغامض للثقافة:

فالعلم أينما كان هو العلم، لا يتحول ولا يتبدل ولا تتغير نتائجه ومعانيه، ولذلك فنحن نرى أن كثيراً من علماء العالم قد توصلوا إلى غايات واحدة في اكتشافاتهم العلمية، ولكل منهم فكرته الخاصة في الحياة. إذن فقد يجمع العلم أشتاتاً متباينة وقد تتفق عليه أفكار متضاربة.. . ولكن الثقافة، هذه الثقافة الأجنبية التي غزت بلادنا ظلماً وجوراً _ والتي لا يمكن لمتّبعيها إلا الابتعاد عن روح الإسلام ومعانيه! _ هي نقطة الداء في حياتنا الاجتماعية والفكرية، فالعلم شيء والثقافة شي آخر.[11]

وقالت أيضاً محذّرة المرأة العراقية بل وكل المسلمين من الغزو الثقافي ومنذّرة إياهم من مغبّة الغفلة ومن:

خطورة غزو الثقافة الأجنبية لبلادنا الإسلامية، واستيلائها على مفاهيمنا ومثلنا العريقة، وتخديرها لأفكارنا بأفيونها الاستعماري البغيض، وتشويهها لصفحة إنتاجنا الإسلامي الذي هو مرآة حضارتنا العريقة.[12]

وفي سياق الاهتمام والحرص على مصير المسلمات الجاهلة منهن والمتعلمة ممن غفلن عن مصير الأمة، تحدثت قائلة:

فهي إما أن تكون جاهلة قانعة بالجهل وصابرة على ظلمة الفكر، لا تعرف للثقافة باباً إلا أبواب التهتك والتحلل، فهي غافلة عن كونها مدعوة للتثقيف ولطلب العلم، الذي جعله الرسول الأكرم- فريضة على كل مسلم ومسلمة، وهي غافلة أيضاً عن قدرتها على تنوير أفكارها وتوسيع معارفها بطرق صحيحة تكون فيها كالزهرة العطرة بين الأكمام.. . وإما أن تكون متعلمة مثقفة ولكنها منطوية على معارفها، لا تتعدى نطاق دراستها الخاصة، ولا تشعر بأية مسؤولية موجّهة نحوها لاستثمار تعليمها لخدمة المجتمع المسلم..[13]

علماً أن العالمة الجليلة بنت الهدى رضعت ثقافتها الأساسية من القرآن الكريم والسنة الشريفه، ونهلت ثقافتها من معين علوم أهل بيت النبوة، تلك العلوم التي أكّدت متابعة الثقافات الأخرى، فقرأت ما شاء لها أن تقرأ من الثقافات والعلوم ما يثريها ويجعلها عالمة معطاء.. محصّنة بالأسس الإسلامية الأولى والأصالة المحمدية.

فمن نشاطاتها الثقافية ما كتبت في مجلة الأضوء الإسلامية وما ألفت من الروايات الهادفة والقصص التي حوت نقاشاً واعياً حول كثير من الأمور كالطبيعة، الوجود، الطب، الكيمياء، العقائد لدى الشعوب والأمم، والبحث عن العقيدة الصحيحة والوقوف على ملامح من الفكر والفلسفة والتاريخ الإنساني، وفهم موقف الإسلام من كل ذلك، يأتي هذا الغرض تعميم الفائدة الثقافية على اللائي لم ينتهلن من معين معارف إسلامهن، فتدعوهن بنت الهدى لذلك كي يصبحن فوق مستوى عوام النساء، أسمى من نساء الشعوب المختلفة ذات الأديان الوضعية والمنحرفة أو الغافلات المنشغلات بسفاسف الدنيا.

بالإضافة إلى هذا فقد اتّسمت الشهيدة بالروح النقدية والنقد البنّاء لظاهرة الاستعداد الفردي والجماعي، لاستقبال كل إنتاج أجنبي سقيم.. أو الذين خضعوا لغسيل الدماغ وتنظيف المخ، فمسخوا عقيدة إسلامية أو ثقافة دينية، فقد جاء في كتاب (عذراء العقيدة والمبدأ):

تريد الناقدة العقائدية بنت الهدى التأكيد على الأمانة والاحتياط في البحوث بما يكفل تجنب التناقض بين الحقائق النقلية الموثقة الثابتة، وبين التحليلات القائمة عليها.. وبهذا تتحقق استقامة الثقافة الإسلامية المرجو تقديمها صافية خالصة بين يدي أجيال الأمة العظيمة.[14]

وقد خاضت الشهيدة مجال الشعر، لا لتكون محترفة أو لتسلّم لقب رائدة الشعر، بل إنها توجّه أبيات مقاطعها إلى جيل الفتيات من المجتمع والأمة، الأمر الذي يفسّر سهولة النظم وسلاسته، وبعده عن غامض المعاني وغريب الألفاظ، تعبّر من خلاله عن ما يهيج في خاطرها وعن ما يعانيه المجتمع وما تعانيه المرأة المسلمة من انحطاط في مستواها الثقافي وتستنهضها للعمل في سبيل الله، كقصيدة (إي وربي)[15] و(لن أنثني)[16] و(أنا كنت أعلم)[17] و(إسلامنا أنت الحبيب)[18] و(غد لنا لا لمبادئ العدى)[19]. وغيرها… .

وقد أثنى عليها الإمام الخميني رضوان الله علیه بعد استشهادها قائلاً: (.. والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق، ومفاخر العلم والأدب)[20].

الجانب الإجتماعي والميداني

كان حرص الشهيدة على عوامل التناغم والتكامل والالتحام بين مختلف عناصر البناء الحضاري واضحاً من خلال القضاء على ثغرات الضعف، والتدعيم المستمر والمتنامي لكل عوامل القوة، من خلال إلقاء الدروس والمحاضرات والتوجيهات والإشراف على مدارس الزهراء& وإقامة الجلسات والحلقات، فالوجود الإنساني في رأيها وحدة عضوية حية متفاعلة لا تعترف بوجود خلايا مريضة أو ميتة أو أعضاء لا وظيفة لها، وكل أعضائها تخضع لمبدأ التأثير والتأثر المتبادلين باستمرار، ولمبدأ السبب والنتيجة، فلا توجد نتيجة بلا سبب يسبقها ويؤدي إليها، ولا يوجد سبب لا يؤدي إلى نتيجة وإلا انتفت عنه صفة السببية أساساً. ولذلك كانت@ تؤكّد دائماً أننا إذا أردنا أن نحقق نتيجة معينة فلابد أن نوفّر الأسباب المؤدية إليها.

فكان نداؤها للمرأة المسلمة: (يا بنت الإسلام العظيم ويا فتاة القرآن الخالد ويا نبعة المجد وزهرة العز الشامخ وسليلة الجهابذة من الآباء والأجداد..)[21].

قال الإمام الصادق%: (المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح)، إلى أن تنادي قائلة: (فإلى هذا الصلاح يا أخواتي المسلمات، إلى الصلاح والإصلاح في مختلف الميادين والمجالات، لتكون الواحدة منكن خيراً من ألف رجل غير صالح، وألف امرأة غير صالحة)[22].

فضلاً عن ذلك وجّهت انتقادات للمجتمع والآباء في مناسبات كثيرة من خلال كتاباتها وشعرها ومحاضراتها ودروسها مخاطبة المتحكمين بالأعراف والتقاليد المنحرفة، قالت:

.. يمليها عليهن مجتمع فاسد في إفراطه وتفريطه، هذا المجتمع الذي ندعو إلى إصلاحه إصلاحاً جذرياً كي لا يكمّم أفواه النساء بأكمام التحلل الأجنبي أو التعنّت الجاهلي.[23]

وقالت أيضاً في هذا الأمر:

.. وإلى الملتزمين أوجّه خطابي:

لماذا فرضوا على المرأة قيوداً وحدوداً لم ينزل الله بها من قرآن؟! فالضغط يولّد الانفجار، والتزمّت يدعو إلى النقمة على جميع الأمور حتى الشرعية الضرورية!! وقد ينأى بالمرأة عن تعاليم الإسلام الحقيقية، سيما إذا كانت ناشئة فتية، وفي هذا ما فيه من أخطار تواجه فتياتنا المسلمات. فإن العقيدة _ أية عقيدة كانت _ لا تقوم إلا على أساس من الفهم والحب والمرونة، لكي تكون راسخة ثابتة لا تطيع بها زوبعة، ولا تزعزعها كلمة سامّة مغرية.[24]

وقالت أيضاً:

فالله الله يا إخواني المسلمين! لا تدخلوا في روع فتياتكم أنهن أسيرات من جرّاء كونهن مسلمات متمسكات بتعاليم محمد الرسول العظيم-! فينظرن إلى المنحرفات المتحللات نظرة الأسير إلى الطلق، فإن الإكثار في الشيء صنو الإقلال منه، والإفراط توأم التفريط.[25]

كانت النساء تفهم _ توهماً أو تلقيناً _ أن مصدر كل تقاليد المجتمع هو الدين الإسلامي، حتى أن بعضهن قلن ذلك _ بسذاجة _ في مجلس ضمّ المجاهدة بنت الهدى وهن يتوقعن تقديم نقد لهذا الدين، مما أوجب على المجاهدة أن تعلّمهن مصدر التقاليد المنحرفة، وأن تعلّمهن لمن يجب توجيه النقد الصحيح[26]، فقالت لهن بتواضع:

طالما ثرتُ لكرامتنا المضاعة على أيدي رجال ظلموا الإسلام حقه، فانتسبوا إليه وهو منهم براء! وما أكثر ما نقمتُ على الأوضاع الهمجية التي سيطرت على بعض أخواتنا الضعيفات! هذه الأوضاع التي لم ينزل الله بها من سلطان! والتي خلقها بُعدنا عن روح الإسلام وتعاليمه الحكيمة.. . ثم ثرتُ كما تثورين واندفعتُ وراء غضبي كما تندفعين، ولكن لا على الإسلام الحبيب ولا على رسالته القدسية، بل على المجتمع الفاسد وعلى أبناء وبنات الإسلام العاقّين له، المارقين عن مُثله وتعاليمه.[27]

ورغم أن التقاليد التي صاغتها أيدي البعيدين عن الدين والعادات التي فرضتها أجيالهم، والتي توارثها الأبناء عن االآباء، لا يمكن أن تزول دفعة واحدة، ولا تندثر أو تتبدل إلا بمدة طويلة من الزمن.

لكن بنت الهدى كانت طموحة لأداء دور واسع في ذلك المجتمع، دور التغيير الاجتماعي الذي وجدته يتطلب تظافر أكثر من امرأة مرشدة وأكثر من جمعية رشيدة وأكثر من مدرسة واحدة. الأمر الذي يفسّر حرصها الشديد على مضاعفة جهدها الفردي، وتكثيف نشاطها بنفسها في محاولة جادة لسد الفراغ الذي يسود مجتمع النساء.

راحت تكرس جهوداً مضنية لإنجاز أعمالها العديدة، فالوقت لا يكاد يتسع لهكذا امرأة تحمل أكثر من مسؤولية وتشعر بشعور الوظيفة الشرعية.. ما إن تنتهي من المدرسة حتى تتهيأ للقاءاتها مع المعلمات[28] خارج الوقت المدرسي المقرر، أو لقاءاتها مع مجموعة من الطالبات الجامعيات[29] أو الأخوات الملتزمات الأخريات، وفي الليل أيضاً لها مع القلم والقرطاس موعد تعدّ فيه بعض المقالات، أو تنجر فيه بعض الكتابات، كما تحتاج أن تقرأ ما قرّرت قراءته؛ إذ لا يسعها النهار الحافل بالنشاط الحيوي كي تنفرد مع كتابها وقلمها وقرطاسها.[30]

وكانت تواصل وترسخ وتدعم التعمير الحضاري الذي حمل شعلة ريادته النبي الكريم محمد- ومن تابع خطاه، ذلك أن عينها دائماً على المستقبل وعلى الأجيال القادمة وأن تضع الحاضر في خدمة المستقبل؛ لأن ازدهار المستقبل لن يكون إلا امتداداً لازدهار الحاضر، ولا يمكن لحاضر أعجف منحرف مسحوق أن يؤدي إلى مستقبل واعد مشرق.

الجانب السياسي والثوري

المسلم المؤمن فرد مطمئن وكذلك المجتمع المؤمن، فإن الطمأنينة لابد أن تسوده؛ لأن العلاقات الإنسانية القائمة على المطلقات الإيمانية هي التي تربط بين أفراده كل من فيه مطمئن إلى عدالة السماء وإلى أن هناك قوة إلهية أزلية وأبدية تنظر إلى المؤمن بعين الحب والرعاية. فإن حدث خطأ بشري ونضبت عدالة الأرض فعدالة السماء لا ينضب لها معين، وهي تملك من قوى التصحيح على الأرض ما يثبت فعاليته الحاسمة في الوقت المناسب الذي قد لا يخطر على بال بشر.

لقد شهدت بنت الهدى هذا الخطأ بأم عينيها ورأت أمتها وشعبها مهدداً من خارج الحدود، ومهدداً من نفسه أيضاً ومن داخله، إذ أهمل المبدأ والمعتقد الضامن للوجود.

دخلت بنت الهدى عالم السياسة والثورة، مخاطبة الشعب العراقي المسلم بخطابات مليئة بالروح التغيرية والإصلاحية، مكرّسة بجملة مفاهيم إسلامية وثورية تعبّر فيها عن ضرورة إعلاء كلمة الحق ودحض كلمة الباطل.

أجل إنها خاضت الساحة السياسية، لكنها لا لما يخوضها السياسيون الطالبون للدنيا، بل كانت تطلب بها الآخرة ورضا الخالق الجبار.

ظهر هذا الجانب من خلال كتاباتها وقصائدها الشعرية وتوجيهاتها في المجالس والمحافل النسوية وغيرها.

ومما نشرت في مجلة الأضواء الإسلامية قصيدة (لن أنثني) نذكر بعضها:

قسَماً وإن مُلِئ الطريق   بما يُعيق السيرَ قدماً
بما يُعيق السيرَ قدماً   لكي يثبّط فيَّ عزماً
أو حاول الدهر الخؤون   بأن يَريشَ إليَّ سهما
وتفاعلت شتى الظروف   تكيل آلاماً وهمّاً
فتراكمت سحب الهموم   بأفق فكري فادْلَهَمّا
لن أنثني عما أروم   وإن غدت قَدَماي تدمى
كلا، ولن أدَع الجهاد   فغايتي أعلى وأسمى

 

حينما ضيّق البعث الحاكم عليها مع أخيها وأستاذها، وكانت ثمّة فرصة لبعض تلميذاتها أن يزرنها في بيتها _ قبل المنع التام _ سمعتها بعض تلميذاتها، وهي تتلو تلك المقاطع بلهجة شجاعة وبنبرة قطعية، تقول إحداهن: (إنها قرأتها باعتداد أيام الحجز وردّدتها على مسامعي) والحقيقة الجلية هي أنها ليست وحدها تتذوق حلاوة إنشاء هذا الشعر في أحرج ظرف تاريخي، إننا جميعاً نجد في (لن أنثني) حلاوة التحدي وطعم المواجهة.. لنجرّب أن نقرأها، نكرّرها، سنلمس كم من طاقة إصرار فيها، وكم من قوة عزم فيها، وكم من حرارة روح الثورة تكمن في تضاعيفها.[31]

وكانت تدعو للوحدة لأنها حليفة النصر، وكانت متفائلة بالغد القادم:

غد لنا لا لمبادئ العدى   ولا لأفكارهم القاحله
غد لنا تزهر في أفقه   أمجادنا وشمسهم زائلة
غد لنا إذا تركنا الونى   ولم تعد أرواحنا خاملة
غد لنا إذا عقدنا اللوا   لديننا في اللحظة الفاصلة
لا وهن لا تشتيت لا فرقة   نصبح مثل الحلقة الكاملة
إذ ذاك لا نرهب كل الدنا   ولا نبالي نكبة نازلة
غد لنا وما أحلى غد   كل الأماني في غد ماثلة
إذ ينتشر دستور إسلامنا   تهدي الورى أفكاره الفاضلة1

 

[32]وتدعو إلى السير المستمر نحو أهداف الرسالة والمعتقد من خلال كتاباتها الثورية، مخاطبة من تفتقدها ولم تجدها في الساحة السياسية والثورية، قائلة: (فنحن فينا من تستطيع أن تقهر العالم بصمودها! وفينا من تتمكن أن تقف أمام كل تيار رافعة الراس، راسخة القدمين، واثقة من الفوز الأخير، ولكن من أين للفتيات أن يتعرفن على هذه وأشباهها؟ وهن كثيرات والحمد لله! نعم، من أين لهم أن يتعرفن، ونحن على ما نحن عليه من فرقة وعدم تنظيم؛ ولهذا فلن نتمكن أن نصل من دعوتنا المستوى الذي نريده لها..) وتستمر متسائلة متحسرة حتى تقول: (فإلى متى نظلّ على ما نحن عليه من غفلة وسبات! أما آن لنا أن نفيق؟!)[33]

إن المادة المتقدمة تؤكد أن العالمة المجاهدة الشهيدة آمنة الصدر قد أرست طريقاً ونظاماً للمسلمات في حفظ وتحقيق أهداف القرآن الكريم، فلم يكن الجهاد الديني والثوري لها مجرد صراع بين الحق والباطل، بل هو _ بالإضافة إلى ذلك _ استقطاب واستيقاظ قلوب جمّة من داخل العراق وخارجه، ورغم قصر عمرها وعدم تولّيها منصباً سياسياً أو مالياً وغيرهما، إلا أنها استطاعت أن توجد لها صدى لدى مسلمات أغلب الشعوب العربية وغير العربية، فلا عجب إذا قيل: إن الشهيدة بنت الهدى (رائدة العمل الإسلامي في القرن العشرين)، إذ لم تتصدّ غيرها من النساء، وقد تصدّت له منذ نعومة أظفارها، وزادها جهادها الطويل خبرة سياسية خاصة بخطورة الطريق (الخالي من الرياحين) و(الحافل بالأشواك).. كما جاء في كلامها:

أنا كنت أعلم أن درب الحق بالأشواك حافل   خال من الريحان ينشر عطره بين الجداول

وكانت تهوّن كل الأمور، لأنها في عين الله رجاءً برضاه، قائلة:

هذا الرجاء الذي يمكّن الإنسان أن يقف باسماً وسط الدموع، ويجعله يضحك بين الآهات _ لا شماتة أو بلاهة _ إنه رجاء برضاء الله وثوابه، إن هذا الرجاء إذا نوّر جنبات قلب الإنسان جعل وجهه يشرق بشعاع الأمل وهو في معترك الوحدة والوحشة، وإن هذا الرجاء هو الذي يساعد الإنسان المؤمن أن يفتح صدره للآلام برحابة، وأن يمهّد قلبه لمرامي السهام برضا واقتناع.. وإن هذا الرجاء هو الذي يحيل مرارة الحياة لدى المؤمن إلى حلاوة وعلقمها إلى بلسم، وشدّتها إلى لين ودعة، وقساوتها إلى رحمة وحنان.[34]

روح الجهاد والتضحية

العمل في سبيل الله والحق هو الجانب التطبيقي من الإيمان الذي يشكّل أو يمثّل البوصلة التي تساعد المؤمن على الالتزام بالطريق السوي. فالمؤمن يسترشد بهذه البوصلة في كل خطوة عملية يشرع في اتخاذها، ولذلك لا تقع روحه ونفسه نهباً للمتغيرات الدنيوية التي تقع حوله، بل يكون معتزاً بجوهره الحضاري الأصيل الذي يشكّل القاعدة الراسخة التي يمكن أن ينطلق منها إلى آفاق العصر، مردّداً الآية الكريمة: <وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ>.[35]

تصدّت بنت الهدى للسير نحو أهداف الرسالة المحمدية، لتصل إلى المرفأ الأمين _ حسب تعبيرها _ تحثّ الخطى، بلوغاً إلى المجتمع المسلم الحرّ قائلةً: (ليس الدرب ببعيد، بل إنه سهل يسير لا يتطلب إلا صموداً كصمود الأولين، ودعوة حسنة إلى ديننا الحبيب، فإسلامنا _ والحمد لله _ بخير، وفيه من الطاقات ما يصمد بها أبد الدهر).[36]

ثم تناشد المسلمات: (ولست أدري وأيم الحق! وما الذي حدا بلبوات الإسلام إلى هذا السكوت المشين وألعي أعيذهن منه).[37]

وقالت أيضاً: (ومن خصائص الإسلام ومميزاته _ بوصفه عقيدة ثورية تتسق مع الفطرة والعقل وتغمر الوجود الإنساني كله _ أنه إذا استقر في قلب _ وأي قلب كان _ فتح أمامه أبواباً للتضحية والفداء، فما أكثر النساء المسلمات اللاتي قدّمن الضحايا من الآباء والأبناء، وهن أكثر ما يكون نباتاً وقوة).[38]

وقالت:

والمرأة المسلمة اليوم هي بنت تلك المرأة المسلمة التي عرضت صدرها لحراب الأعداء، وشهدت بعينها قتل الآباء والأبناء، فما الذي يقعد بالمرأة المسلمة البنت عن أن تعيد تاريخ المرأة الأم وأن تقفو خطواتها في الحياة؟![39]

بهذا تؤكد مبدئية الدين الذي تاقت إليه قلوب المسلمات النزيهة في صدر الإسلام، معرفة بإحداهن قائلة:

وكنّ يستهنّ بالموت من أجل القضية الإسلامية، أمثال أم عمار بن ياسر التي صمدت على كلمة الإسلام أمام كل الوسائل الوحشية التي اتخذت لتعذيبها والتنكيل بابنها وزوجها وكان رسول الله- يمرّ عليهم وهم يعذّبون فتطفر الدموع من عينيه ويبشّرهم بالجنة نُزلاً، وكثير غيرها من النساء المسلمات اللاتي اعتنقن الإسلام في أحرج أدواره.[40]

اتخذت بنت الهدى مسلكين للتضحية والجهاد، أحدهما التبليغي والإعلامي والثاني التطبيقي والعملي، فكانت رائدة العمل الإسلامي النسوي في العراق الذي لم تتصدّ له غيرها مقابل من تصدّى له من العلماء والمفكرين وغيرهم من رجال العراق، فكانت ترقب الأحداث عن كثَب وبجد تام تقتضيه طبيعة الأمور، وكانت واقفة في صلب القضايا، حاضرة في قلب الموقف، متمسكة بما سبق أن تبنّته طوال عمرها المعطاء، لكونها مسؤولة عن رسالة، لم تتخلّ عن واجباتها في يوم قط.

في عام 1979م، العام الذي شهد تحركاً سياسياً واسعاً في العراق، جاءت الوفود ومن شتى أنحاء العراق مجددة البيعة لآية الله محمد باقر الصدر، طالبةً منه المسير قدماً في تطبيق حكم الله في الأرض، فأحسّت حكومة بغداد بخطورة الموقف وتفاقمه، وخوفاً من أن يفلت زمام الأمر منها أقدمت على اعتقال السيد الصدر في 19 رجب، ليأتي دور العلوية آمنة الصدر لتقف موقفاً بطولياً يعبّر عن عمق الإيمان وإحساسها بخطورة المرحلة، لا شك أن الأحداث منحتها حساً سياسياً يستوعب مجريات الأمور، سيما أن أستاذها وأخاها قد أودع في روعها استعداده الكبير للتضحية والفداء، فمن حقها _ طبيعياً _ أن يتوجس خاطرها خيفة على الإسلام المهدّد بحركته ورائده اللذين هما في خطر.

هرعت من داخل الدار إلى خارجه جريحة الفؤاد، فيمّمت وجهها شطر بيت يجمع شمل الناس، من <بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ>[41] يرقد فيه عليّ سيد الغاضيين لله رب العالمين.. وبين بيتها والمرقد الشريف مسافة قصيرة وسوق صغير، بدت تدبّ فيه الحركة، قد أطلقت طواله آهاتها مكبرة: الله اكبر، الله اكبر؛ ثم مضت داخلة في مرقد الإمام، نادت بأعلى صوتها الشجي: الله أكبر، الله أكبر، الظليمة الظليمة!.. أيها الناس، هذا مرجعكم قد اعتقل.[42]

تسرّب الخبر إلى كافة المدن وتمكّن البعض من التحرك بسرعة في مظاهرات استنكارية غاضبة، كما حدث في بغداد، مدينة الثورة، مدينة الكاظمية، الخالص، الفهود، جديدة الشط، النعمانية، والسماوة، وأول تظاهرة انطلقت في مدينة النجف بين الضحى والظهيرة من ذلك اليوم.[43]

بلغت أصداء غضبة المجاهدة الثائرة إلى خارج العراق أيضاً، فأثارت قلق الجماهير لتعبّر عن شجبها الشديد في كل من لبنان والبحرين وإيران والباكستان.

أحسّت السلطة العراقية بخطورة الموقف فأطلقت سراحه، وفرضت الإقامة الجبرية عليه وعلى عائلته، بهدف منعه من الاتصال بالحركة الإسلامية، وتمهيداً لتصفية أقطاب التحرك الإسلامي ومن ثم تصفيته جسدياً، وفعلاً فقد أقدمت حكومة البعث العراقية على اعتقاله وأخته العلوية بنت الهدى في يوم السبت 19 جمادى الأولى سنه 1400 ق، الموافق 5/4/1980م، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام تم تنفيذ حكم الإعدام بالعلَمين الشهيد محمد باقر الصدر والعلوية آمنة الصدر بنت الهدى التي قالت: (إن حياتي من حياة أخي، وسوف تنتهي مع حياته إن شاء الله).[44]

فسلام عليها يوم ولدت ويوم جاهدت وأفنت عمرها للإسلام، وجزاها الله عن الإسلام خير الجزاء وبعثها مع الصالحين والأولياء من عباده.

بنت الهدى والمرأة المسلمة

لقد عاشت بنت الهدى طيلة حياتها ورحلت إلى مقرها الأبدي، وهي موصولة بالإسلام حريصة على المنتميات له، لا تؤمن بذريعة من رضي بالواقع واستسلم للظلم والانحراف، مدركة أن الحق دائماً قادر على إزهاق الباطل مهما تسلّح بكل الأسلحة الخبيثة والمسمومة، مؤمنة بأن المعركة _ في بعض الأحيان _ قد تطول لكن الغلبة في النهاية للحق. فكانت تطرق أبواب القلوب لإيقاظ النائمات التائهات في دنيا الزينة أو المستسلمات لما رسموه لهن، قالت مخاطبة المرأة بصورة عامة:

فنحن إما خائفات جبانات، وإما جاهلات عاجزات، وإما مسالمات خجولات، وإما مقيدات محكومات!! هذا عدى من خالف الطريق وانحرف عن ركب الدعوة! فنحن لو لم نكن على هذا الحال من الفرقة والتشتت والغفلة والجهالة واختلاف الآراء والأهواء وتضارب الأفكار والميول، لو لم نكن هكذا لاستطعنا أن نحفظ مكاننا وكياننا، كمثل أعلى للمرأة المسلمة المتمسكة بالإسلام، ولتمكّنا من فرض شخصيتنا على بنات جنسنا جميعهن.[45]

وقالت مخاطبة المرأة المسلمة بصورة خاصة:

وتجاهلنا أن لنا في إسلامنا حقوقاً قلما ظفرت بها حضارة من الحضارات.. والجرم جرم الذين عرفوا الحق ولم يظهروه _ متعرضة إلى تأخر أكثر العلماء والكتّاب عن المبادرة لأداء المسؤوليات في بداية غزو المرأة إذا لم يسارعوا إلى الوقوف بما يناسب حاجات المسلمات وواقعهن _ وسكتوا عنه وتركوكنّ لأبواق الدعايات المغرضة وللتعاليم العدائية، التي تصل إليكن تحت مسوح التمدن والتحضر!! ولكن لي وطيد الأمل أنكن سوف ترجعن إلى أحضان الإسلام الرحب، إن عاجلاً أو آجلاً إن شاء الله.[46]

وخاطبت الأم المسملة قائلة:

وعلى العموم فالأم يجب أن تكون واعية وعياً إسلامياً كاملاً، لكي تتمكن من أن تنشئ وليدها على أسس الإسلام ومفاهيمه الواقعية.[47]

وتحدثت مع روح المرأة المسلمة قائلة لها:

فما أسعد الروح يا أختاه وهي تنقض عنها آلامها، لترتفع إلى الملأ الأعلى نقية طاهرة، وما أسعد الروح وهي تشرف على عالم خالد خلود الأزل، كله رفعة وسمواً وجلالاً. [48]

وقالت أيضاً:

لم تخسري كل شيء، فإن الدين ما زال يدعوك لكي تعودي إليه عن طريق التوبة، وأنا ما زلت أفتح لك قلبي ليحتضنك من جديد، والمستقبل أمامك واسع طويل، ولعل هذه التجربة سوف تبني لك مستقبلاً صالحاً قائماً على أسس ثابتة مكينة، فلا تدّعي اليأس يأخذ طريقه نحوك.. فـ<إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ>[49]..[50]

ولعل أهم هذه التوجيهات الفعالة والتوصيات للنساء المسلمات هو ما كان في مجال تربية النفس والتوعية الإسلامية، وبذلك يصبحن أكثر استيعاباً وأعمق فهماً للمشكلات في كل الأبعاد الحياتية، السياسية منها والاجتماعية والدينية وغيرها.

ومن هنا تظهر ضرورة توثيق الصلة بين التربية والتوعية، ولا قيمة لها إذا لم تترجم إلى إنجازات مادية ملموسة بالإضافة إلى معنويتها، فهما ليسا معلومات مخزونة في الرأس، بل هما أسلوب عمل لتحقيق أهداف السماء وما أنزل في القرآن الكريم.

أجل! إنها التربية الإلهية الهادفة إلى تكوين المؤمنة الروحية ذات المعنوية العالية، العاملة لله ورسوله، وهذا نداؤها لأختها المسلمة:[51]

أختاه! هيّا للجهاد وللفدا   وإلى نداء الحق في وقت الندا
هيّا اجهري في صرخة جبارة    إنا بنات محمد لن نقعدا
إنا بنات رسالة قدسية   حملت لنا عزّاً تَليداً أصْيَدا

 

الخاتمة

كانت نظرة الشهيدة السعيدة بنت الهدى الإستراتيجية نظرة واقعية ومنطقية تماماً؛ لأنها لم تنبع من أحلام قد تحقق وقد تظلّ محصورة في إطار الأماني والآمال، بل نهضت فخورة بكل ما عندها من إمكانات مادية ومعنوية، روحية ونفسية، ثقافية وعلمية، اجتماعية وإدارية وتبليغية وغيرها، أمضت أكثر من عشرين عاماً قضتها في قول الحق، وإخلاص العبادة للرب، وصدق العمل للشعب والأمة والوطن في إطار إسلام حبيب، بإرادة صابرة نافذة، إرادة الإنسان المنصرف عن الدنيا الرخيصة الدنيئة وزخارفها البهيجة.

فكانت مدرسة عظيمة للإصلاح الشامل في دنيا المرأة المسلمة، تفيض بالعطاء والتوجيه للجميع، وأصبحت نوراً ومناراً خالداً في الدنيا، خالدة فيها على مر الزمن، وحققت مرادها من ربها، إذ لا توجد نتيجة بلا سبب يسبقها ويؤدي إليها، ولا يوجد سبب لا يؤدي إلى نتيجة، وإلا انتفت عنه صفة السببية أساساً، ولذلك كانت الشهيدة الصدر تؤكد أننا إذا أردنا أن نحقق نتيجة معينة لابد أن نوفّر الأسباب المؤدية إليها.

فكانت نظرتها المستقبلية تخترق حدود الواقع لتضع الاحتمالات المتوقعة في اعتبارها دون خوف أو وجل، مستمرة في عملها، متكئة على قاعدة الأصالة المحمدية، التي كانت لها البوصلة التي تهديها سواء السبيل مهما أبحرت في دنيا الهداية والرسالة والتبليغ.

لقد مضت على ما مضى عليه الأولون من عظماء ومجاهدين ومصلحين في تاريخ الأمة المحمدية الشامخ والتاريخ الراهن.

ويكفيها عزّاً أنها مضت دون أن ترضي غرور السلطة المتحكمة، فأغضبت الخصوم ولم ترضهم، ودافعت عن الحق وبلّغت للحق واستطاعت أن تقول: إن الحق دائماً قادر على إزهاق الباطل مهما تسلّح الباطل بأنواع الأسلحة الخبيثة والمسمومة.

[1]. الأحزاب: 39.

[2]. المجموعة القصصية الكاملة، بنت الهدى، ج3، كلمة ودعوة، ص165.

[3]. م. ن.

[4]. م. ن، ص148.

[5]. م. ن، ص165.

[6]. ليتني كنت أعلم، بنت الهدى، ص114.

[7]. م. ن.

[8]. الإنسان: 26.

[9]. ليتني كنت أعلم، ص114.

[10]. عذراء العقيدة والمبدأ، جعفر حسين نزار، ص26.

[11]. مجلة الأضواء الإسلامية، مقال بنت الهدى، العدد 4، السنة الأولى، صفر 1380ق، تموز 1960م.

[12]. م. ن، العدد 9، ربيع الأول 1380ق، تشرين الثاني 1960 م.

[13]. م. ن، العدد 1، السنة الثانية، 1961م، 15 ربيع الأول.

[14]. عذراء العقيدة والمبدأ، ص170.

[15]. راجع: م. ن، ص80.

[16]. م. ن، ص82.

[17]. م. ن، ص83.

[18]. م. ن، ص84.

[19]. م. ن، ص86.

[20]. عذراء العقيدة والمبدأ، ص289.

[21]. مجلة الأضواء الإسلامية، العدد 4، السنة الأولى، صفر 1380ق، تموز 1960م.

[22]. م. ن، العدد 21، عام 1960م.

[23]. م. ن.

[24]. م. ن، العدد 14، السنة الأولى، رجب 1380، 1960م.

[25]. م. ن.

[26]. عذراء العقيدة والمبدأ، ص178.

[27]. مجلة الأضواء، العدد 12، السنة الأولى.

[28]. كانت تشرف على مدارس الزهراء في النجف والكاظمية، فبالإضافة إلى الدروس التي تلقيها على الطالبات، كانت لديها محاضرات تربوية تلقيها على المعلمات بعد انتهاء الدوام الرسمي.

[29]. وكانت لديها لقاءات مع طالبات الجامعة في بغداد تجيب على أسئلتهن وتلقي عليهن محاضرات ودروس في المعارف الإسلامية.

[30]. عذراء العقيدة والمبدأ، ص50.

[31]. م. ن، ص85.

[32]. مجلة الأضواء، العدد3.

[33]. المجموعة القصصية الكاملة، ج3، كلمة ودعوة، ص19.

[34]. م. ن، الرسائل.

[35]. التوبة، 105.

[36]. مجلة الأضواء، العدد 4، السنة الأولى.

[37]. م. ن، العدد 21.

[38]. المرأة مع النبي(ص)، بنت الهدى، ط2، بيروت، سنة 1981م، ص34.

[39]. بطولة المرأة المسلمة، بنت الهدى، ص32.

[40]. م. ن، ص34.

[41]. نور: 36.

[42]. عذراء العقيدة والمبدأ، 272.

[43]. م. ن.

[44]. م. ن، ص275.

[45]. المجموعة القصصية الكاملة، ج3، كلمة ودعوة، ص19.

[46]. مجلة الأضواء، العدد 12، السنة الأولى، جمادي الثانية 1380ق.

[47]. المرأة مع النبي(ص)، بنت الهدى، ط3، ص115.

[48]. المجموعة القصصية الكاملة، ج3، الرسائل.

[49]. يوسف: 87.

[50]. المجموعة القصصية الكاملة، ج3، الرسائل.

[51].م. ن، كلمة ودعوة، ص82.