الشيخ نوري حاتم
في هذا المقال نتناول أبعاد المواجهة الشاملة التي خاضها الإمام الصدر ضد الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في العراق ومواجهة الاستبداد الذي خيم على العراق، وندرس مواقفه ونشاطه ودوره ضمن ثلاث مراحل زمانية وبحسب التطورات الكيفية التي اجتازتها الحركة الإسلامية وهذه المراحل هي:
المرحلة الأولى: وتمتد بين (1955_1971) وهذه المرحلة تتفرع إلى فترتين متميزتين على صعيد مواقف القيادة المرجعية وهما:
الفترة الأولى: وتمتد بين (1955_1968).
الفترة الثانية: وتمتد بين (1968_1971).
المرحلة الثانية: وتمتد بين (1971_1979).
المرحلة الثالثة: وتمتد بين (1979_1980).
وفي المرحلة الأولى سنستعرض بشكل سريع الإنجازات التي تمت على يد الإمام الحكيم! ثم نتناول دور الإمام الصدر في الساحة.
وفي المرحلة الثانية ندرس نشاط الإمام الصدر في تركيز الوعي، والثقافة الإسلامية في المجتمع العراقي، ثم نلقي في المرحلة الثالثة الضوء على تطورات الساحة العراقية في ظل معطيات الثورة الإسلامية في إيران… ودوره في قيادة الحركة الشعبية ضد النظام وننتهي بالمأساة التي لم يشهد التاريخ المعاصر شبيهاً لها عندما أقدمت سلطات البعث على إعدام الإمام الصدر!، وحرمت الشعب العراقي والأمة الإسلامية من فرصة وجوده المبارك، وعطاءه المتميز للإسلام وللأمة.
المرحلة الأولى: (1955-1971)
الفترة الأولى: (1955-1968)
اعتادت القيادة المرجعية على مراقبة التطورات السياسية التي تحيط بها، وتشخيص مواقفها الفكرية والعملية في ضوء تلك التطورات من أجل أن تأخذ تلك المواقف تأثيرها في الساحة، وتتجنب المواقف الإرتجالية والسابقة على الظروف الموضوعية.. . وهذا النهج نلاحظه على امتداد ممارسات القيادة المرجعية في التاريخ. فمثلاً حين وقعت الفتنة الكبرى في بغداد أيام الشيخ الطوسي غادر الشيخ بغداد، واستقر في النجف الأشرف وشيّد (الجامعة العلمية) التي أنجبت عمالقة في العقيدة والفكر، كما اضطر نصير الدين الطوسي إلى مرافقة التتار في هجومه على بغداد وذلك بقصد الدفاع عن ما تبقى من معالم الحضارة الإسلامية.
وفي مطلع هذا القرن تصدى الشيخ محمد تقي الشيرازي للاستعمار البريطاني بقوة.. . وهكذا فالظروف (الأحداث السياسية) كانت وراء تحديد نوع وطبيعة المواقف التي وقفها العلماء وهي وراء تنوعها وربما تناقضها مع بعضها أيضاً في الظاهر بيد أن الأساس المشترك فيها جميعاً الحفاظ على نفوذ الإسلام وأهدافه في الحياة.
وينبغي الآن تحديد مواقف القيادة المرجعية خلال الفترة المذكورة من السلطات القائمة والتيارات الفكرية والسياسية المتنوعة آنذاك.
في هذه الفترة تعرض العراق لتغييرات مهمة على المستوى السياسي تتمثل في سقوط النظام الملكي، وقيام النظام الجمهوري بقيادة عبدالكريم قاسم ثم سقوط نظام الأخير عبر مؤامرة دبّرها رفاقه في الجيش بقيادة عبدالسلام عارف الذي ما لبث أن اغتيل بحادث طائرة، فتولى أخوه عبدالرحمن عارف السلطة من بعده، وكان المد الشيوعي والقومي هو الميزة التي صبغت الحكم في هذه المرحلة. إزاء تلك الظروف وتطوراتها السريعة في هذا الضوء يجب أن ندرس مواقف القيادة المرجعية.
أما موقف القيادة المتمثلة بالإمام الحكيم! فيمكن معرفته ضمن النقاط التالية:
أولاً: تميز بالمحافظة على الجهاز القيادي وصيانته من الآثار السلبية للزوبعة السياسية التي عاشها العراق عقيب ثورة تموز عام (1958).
ثانياً: حاولت المرجعية في هذه الفترة إصلاح أوضاع الحوزة داخلياً للانفتاح على الساحة الشعبية، فاستطاعت بذلك إنجاز أعمال ثقافية مهمة، وتحقيق مكاسب شعبية ذات أهمية كبيرة.
ثالثاً: اتخاذ موقف هجومي من سيطرة الحزب الشيوعي على مقادير البلاد، ومن نشاطه التخريبي في البلاد، حيث استطاعت المرجعية أن تكشف حقيقة الشيوعية لأبناء الشعب وتعرفهم بهويتها الحقيقية المناقضة للمبادئ الإسلامية أولاً ولمصالح الشعب ثانياً، فوجهت ضربة قوية للحزب الشيوعي مما لم يمكنه من البروز بعدها إلا في إطار الجبهة الوطنية التقدمية التي شكلها نظام البعث بعد وفاة الإمام الحكيم.
رابعاً: مواجهة الإمام الحكيم للنظام البعثي وإعلان عدم رضاه عن حرب الشمال التي افتعلها حزب البعث بين أبناء الشعب الواحد، كما أنه! أعلن عن شجبه لأعمال الحزب وذلك من خلال احتجابه في مدينة الكوفة بهدف تنبيه الحوزة على ما يجري في الساحة. وقد أعلن عن سخطه على النظام عبر كلمة ألقاها في الصحن الحيدري وكان كاتب هذه الكلمة هو السيد الصدر بتوقيع الإمام الحكيم نفسه.
موقع السيد الشهيد في الفترة الأولى (1955-1968)
وبما أن الإمام الحكيم كان يباشر مسؤولياته المرجعية الأساسية، اتجه السيد الشهيد إلى وظائف تفصيلية في داخل الحوزة وفي الساحة العامة. فأنجز خلال هذه الفترة كتابة فلسفتنا واقتصادنا إضافة إلى مشاريعه الفكرية الأخرى، وخاض بذلك ميدان المواجهة مع القوى السياسية والفكرية التي نشطت بصورة غريبة خلال هذه المدة، ومهما يكن الحال فإنه يمكن تلخيص نشاطات الإمام الصدر في هذه الفترة بما يلي:
أولاً: البناء الفكري
أدرك الإمام الصدر أن مشكلة الأمة والفرد تكمن في عدم فهمها الإسلام رغم إيمانها به بحيث تخفق دائماً جميع المحاولات الرامية لفصل الأمة عن دينها وعدم الفهم هذا يرجع بالأساس إلى عدم طرح الأسس الفكرية بصورة تتلاءم مع المرحلة ومتطلباتها فمثلاً:
إذا ما صار الكلام عن شخصية إسلامية مستقلة يتعالى الاستغراب وتبرز الاستفهامات حول معنى الشخصية الإسلامية وهل هي شيء غير الشخصية القومية أو الشخصية الوطنية. وهكذا الحديث في بقية الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، حيث لم تفهم الأمة ضرورة حاكمية الإسلام في هذه الجوانب أيضاً فالمشكلة تكمن إذن في عدم فهم الأمة لإسلامها.[1]
بيد أن عدم الفهم هذا لا تتحمل الأمة وحدها وزره.. إنما يقع على العلماء مسؤولية بيان الإسلام وإظهار جوهره وشكله الحقيقي باعتباره رسالة خالدة[2]. من هنا لابد من القيام بمهمة طرح الإسلام بشكل تستطيع الأمة أن تتفاعل معه ويمكنها تطبيقه في حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وهكذا حدد الإمام الصدر هذه المشكلة في عدم فهم الأمة للإسلام بوصفه رسالة حضارية، وفي ضحالة النتاجات الفكرية والبناء في نشاطات الفرد والمجتمع والدولة، وفي ضوء هذا التشخيص اتجه نحو علاج هذه المشكلة وذلك في الشروع في عمليات بناء الإنسان المسلم من داخله وتغيير محتواه في ضوء الفكر الإسلامي وإشعاره بالواقع المرير الذي تعيشه الأمة والشعب العراقي. وفي هذا الخط قام بعدة مهمات هي:
تأكيد ثقة الفرد المسلم بنفسه وبرسالته حيث كان يعيش هزيمة داخلية في مجال عملية البناء الحضاري وقدرته على ذلك. وفي هذا يقول الإمام الصدر:
لقد انفتح المسلم المعاصر على الحضارة الحديثة وهو يمر في فترة من أسوء الفترات في التاريخ، وكأن الأخطاء والانحرافات التي وقع فيها الإنسان المسلم في الفترات السابقة قد تجمعت، وتلاقحت لتلد نتاجها البشع، وتعطي نتيجتها الفاجعة في هذه الفترة الأخيرة من تاريخ هذا الإنسان التي انفتح فيها على الحضارة الحديثة وفيما أعقب هذا الانفتاح من مآسي وكوارث.. كان قد آل أمره من الناحية النفسية إلى أن يقف من الحياة وأحداثها الكبرى موقفاً سلبياً انفعالياً، وبذلك لم يعد هو ذلك الإنسان الذي يوجه الحياة ويصنع التاريخ ويحكم بالأحداث وإنما غدا إنساناً متخاذلاً منهاراً ينظر إلى العمل الإيجابي بهلع ورعب، ويتوهم أنه يحل مشاكله بالفرار منها بدلاً من مواجهتها.[3]
فلو فهم الإنسان المسلم إسلامه العظيم لاستطاع من جديد أن يقود سفينة الحضارة إلى شواطئ العلم والتقدم كما فعل بالأمس القريب حيث ضرب المثل الأعلى في إنجاز المكاسب الحضارية وفي شتى الحقول.
هكذا يحدد الإمام الصدر المشكلة في عدم الوضوح الفكري وعدم الانفتاح على الإسلام، ويبدأ علاجها بأشعار الإنسان المسلم بعظمة رسالته وأهمية وجودها الحضاري.. يقول في ذلك:
فهل بالإمكان أن يكون شعورنا تجاه محنة يتعرض لها هذا الكيان هو الشعور تجاه إنسان يفقد مصلحة شخصية محدودة فقط؟ يفقد حياة الاستقرار والأمن فقط؟ هل هذا هو الشعور الذي يجب أن يكون لدى وريث محمدبن أبي عمير؟ لدى وريث الشهيد الأول الذي بذل دمه في سبيل هذا الكيان؟ هل يجب أن يكون وريث ذلك الرجل العظيم يحس تجاه المحن التي تعصف بذلك الكيان إحساس شخص يفقد مالاً أو يفقد استقراراً؟.. لا! بل يجب أن يكون أكثر شعوراً بالمسؤولية..[4]
إن مشكلة الإنسان المسلم لا تكمن في شعوره بالهزيمة وضعف البنى الفكرية لمحاكمة ذاته في ضوء الإسلام وحسب، وإنما للمشكلة بُعد آخر هو عدم فهم الإسلام بوصفه نظاماً للمجتمع.. وإذا كان علاج الجانب الأول من المشكلة يتحدد في هز الإنسان المسلم، وإعادة الثقة إلى نفسه وإفهامه الأفكار الإسلامية المرتبطة بالشخصية الإسلامية، فإن الجانب الآخر منها أصعب بكثير لأنها تمثل اهتزاز ثقة الإنسان المسلم بقدرة الإسلام على قيادة المجتمع، وتمثل جهل الأمة بقدرة الإسلام على بناء حياتها وحضارتها وفق أصوله الفكرية والعقيدية التي تؤمن بها إيماناً ثابتاً، وهنا يقوم الإمام الصدر بتزويد الأمة بأفكار الإسلام عن فلسفة الكون ونظرية المعرفة وفي حقول معالجة المشاكل الاقتصادية وطرق توزيع الثروة وأهداف التنمية وإطاراتها العامة، وكذلك عن الحكم والنظام السياسي والعمل الحركي الإسلامي وما إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بإبراز حيوية الإسلام في قيادة المجتمع، إن كتب الإمام الصدر: (اقتصادنا، فلسفتنا، البنك اللاربوي، الإسلام يقود الحياة..) كانت ترمي تحقيق عدة أهداف:
أ. بناء الثقافة الإسلامية للإنسان المسلم لكي يحرر شخصيته من الأغلال والتبعية الفكرية.
ب . طرح الأفكار الإسلامية التي تتصل بدور الإسلام كنظام سياسي يسعى لتحقيق أهدافه في تحرير الأمة وفي نشر العدل والسلام في المجتمع.
ج . مواجهة التيارات الفكرية والسياسية التي هبت على الساحة العراقية والساحة الإسلامية بشكل عام إذ قد:
غزا العالم الإسلامي منذ سقطت الدولة الإسلامية صريعة بأيدي المستعمرين سيل جارف من الثقافات الغربية القائمة على أسسهم الحضارية ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع، فكانت تمد الاستعمار إمداداً فكرياً متواصلاً في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة وسر أصالتها المتمثل في الإسلام.. . وكان لابد للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير وكان لابد أن تكون الكلمة قوية عميقة صريحة، واضحة كاملة شاملة للكون والحياة، والإنسان، والمجتمع، والدولة، والنظام.[5]
فمجموع هذه الأهداف كانت محط نظره واستطاع أن يضع بين يدي الإنسان والمجتمع المسلم سلاحاً فكرياً لمواجهة الموجات الفكرية الغربية، وأن يملأ فكر المسلم بالأفكار الثورية التقدمية الإسلامية الأصلية.
والإمام الصدر لم يكن مفكراً همه تشييد الأفكار فحسب.. بل كان عالماً ربانياً رسالياً يسعى بكل إمكاناته لنشر تلك الأفكار وتطبيقها على الواقع الفردي والاجتماعي، إذ أن مشاريعه الفكرية كانت تهدف معرفة الإسلام، وكانت تهدف أيضاً بناء الإنسان المسلم وتحثه على أن يحيا مبادئه إذ:
إن المبادئ العظيمة التي صنعت للمسلمين الأولين حاضراً عظيماً لا تزال قادرة على أن تصنع للمسلم المعاصر هذا الحاضر العظيم شريطة أن يعيشها ولا يفكر فيها فقط، فقد بدأت مأساة الإنسان المسلم يوم غدا يفكر في المبادئ دون أن يحياها.[6]
كما أن:
النظريات حينما تكون حبراً على ورق لا تكفي لأن تعطي صورة واضحة عن الحقيقة الصادقة في أذهان الناس.[7]
ولهذا كله حرص على السعي لتحويل تلك الأفكار إلى واقع ينبض بالحيوية، ولم يكتف بكشف تلك الأفكار وطرحها وإن كان هذا بحد ذاته وفي تلك الظروف يشكل خطوة في غاية العمق والثورية والجرأة!!
ولكن كيف عمل الإمام الصدر على نشر تلك الأفكار وكيف سعى في تطبيقها؟
لقد أوجد (أو شارك في) عدة مشاريع نشير إلى أهمها:
- جماعة العلماء في النجف الأشرف؛ وهذه الجماعة لم يكن عضواً فيها ولكنه وقف خلف أطروحتها وزودها بفكره ومقالاته التي كانت تنشرها مجلة الأضواء.
- مجلة الأضواء؛ وهي مشروع ارتبط بجماعة العلماء، وكان الإمام الصدر يكتب فيها الافتتاحيات والمقالات الأساسية، التي تمثل وقتئذ قفزة نوعية في مسار الحوزة الفكري، من هنا لم يستطع بعض أبناء الحوزة استيعابها.
- حزب الدعوة الإسلامية؛ كان الإمام الصدر يدعم ويؤيد عمل حزب الدعوة من أجل تعميق وتوسيع دائرة وفاعلية الوعي الإسلامي في الساحة الاجتماعية، ومن أجل التصدي للتيارات الفكرية والسياسية المنحرفة آنذاك. وبفضل تلك المساهمة استطاع الحزب أن يطرح نفسه في داخل الحوزة في النجف ويستقطب الطليعة لتمارس الفعل الواعي في الساحة السياسية الاجتماعية في العراق إلى جانب سائر العلماء الواعين.
- كلية أصولالدين؛ وقد ساهم الإمام الصدر مساهمة فعالة في دعم هذا المشروع الفكري الحيوي في بغداد بهدف إيجاد مركز إسلامي يوجه شباب العراق، نحو ثقافة إسلامية رصينة.
- بث الوعي التغيري في أوساط طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف وتزويدهم بالثقافة الرسالية، وحثهم على الاتصال بالمجتمع وقيادته، يقول الإمام الصدر في هذا الصدد:
أنا منذ سنة، منذ أكثر من سنة، أتحدث مع الإخوان، ومع الأعزاء في أن كل واحد من أهل العلم _ كل واحد له قدرة _ لو كان يكوّن مجلساً تبليغياً في النجف الأشرف يضم خمسة فقط لا أكثر من خمسة يضم هذا البقال الذي يشتري منه اللبن هذا العطار الذي يشتري منه شكر، هذا الجيران الذي يسلم عليه عندما يخرج من بيته.. يضم خمسة من هؤلاء.. لكان لدينا قاعدة شعبية مكونة من خمسة آلاف.[8]
- السفر إلى خارج العراق لطرح أفكار الإسلام والعمل الإسلامي وكذلك لحماية المرجعية حيث اتصل بعلماء لبنان وطرح عليهم تلك الأفكار الحيوية التي تمثل تجديداً أساسياً في مواجهة الإسلام للاتجاهات الفكرية والسياسية المناوئة.
ثانياً: البناء العاطفي والروحي
إن عملية البناء الفكري إذا أريد لها أن تكون جذرية، وتشكل منطلقاً حقيقياً لبداية التغيير الشامل فلابد أن يرافقها بناء عواطف الإنسان ومشاعره الوجدانية، وهذا ما آمن به الإمام الصدر واعتقد بضرورة اقتران عملية التغيير الفكري بالتغيير العاطفي.. .
فـ(مطالب الفقه والأصول تملأ عقل الإنسان ولكنها لا تملأ ضميره) كما أن (النظريات التي يستنبط على أساسها الحكم الشرعي غذاء للعقل لا للوجدان).[9]
إذ (العواطف الإسلامية دائماً نتيجة المفاهيم والأفكار الإسلامية وانعكاسات انفعالية لها ولهذا نجد أن الإسلام يهيئ كل عقيدة من عقائده، وكل مفهوم من مفاهيمه ليكون ينبوعاً لعاطفة خاصة تنسجم مع ذلك المفهوم أو تلك العقيدة وتتفق وإياهما، كما وجدنا في الآية الكريمة:
<أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مٰا نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ فَطٰالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ>[10]
كيف ربط بين الأيمان بالشريعة الحقة، والخشوع لها هذا الخشوع الذي هو لون من الانفعال العاطفي يتطلبه ذلك الأيمان، ويصبح بدونه مجرداً من أية فعالية إيجابية. والسبب في هذا الربط بين المفاهيم والعواطف في الإسلام واضح كل الوضوح لأن الإسلام لا يريد المفاهيم والأفكار بمعزل عن العمل والتطبيق وإنما يريدها قوى دافعة لبناء حياة كاملة في إطارها، وضمن حدودها، ومن الواضح أن الأفكار والمفاهيم لا تصبح كذلك إلا حين تتخذ أشكالاً عاطفية وحين تخلق الانفعالات التي تناسبها والعواطف التي تساندها لتتخذ هذه العواطف موقفاً إيجابياً في توجيه الحياة العملية والسلوك العام فمفهوم المساواة _ مثلاً _ الذي هو من أهم المفاهيم التي بشر بها الإسلام، لا يمكن أن يثمر في الحقل العملي الثمر المطلوب ما لم تنبثق من هذا المفهوم عاطفة كعاطفة الأخوة العامة التي عمل الإسلام لإيجادها في نفس المسلم وربطها بمفهومه الخاص عن المساواة ليصاغ المفهوم في شعور عاطفي دفّاق قادر على الحركة والتوجيه طبقاً لمتطلبات ذلك المفهوم).[11]
فالشخصية الإسلامية التي سعى الإمام الصدر إلى بعثها في واقع الحياة الإسلامية تضم بين جوانبها العقل المفكر، والعاطفة الإسلامية الجياشة، وبعبارة أخرى، إنه يرى ضرورة توفر ثلاث عناصر في الشخصية لتكون إسلامية:
وهذه العناصر الثلاث: الروح، والعقل، والخلق، وهي عناصر أساسية في الشخصية الإسلامية ولا يمكن أن توجد شخصية إسلامية خالية عن هذه العناصر أو بعضها فلابد من روح شفاف نظيف لأجل أن توجد الشخصية الإنسانية النموذجية، وهذا ما سعى إليه الإسلام وعني به: صياغة نموذج للإنسان يتمتع بهذه القوى: عقل يتفاعل به مع الكون المحيط به وخُلق يتفاعل به مع المجتمع وروح تصله بالله الخالق البارئ المصور.[12]
بيد أن من الضروري التأكيد على أن سيرة وسلوك الإمام الصدر كانت تشكل مدرسة تربوية قائمة بذاتها فقد كتب تلميذه الشيخ النعماني الذي عاش مع الشهيد سنين عديدة:
إنني من خلال تماسي المباشر بالسيد الشهيد طيلة سنين طويلة أدركت أن الجانب العاطفي في حياة السيد الشهيد جانب ظاهر وبارز.[13]
وكانت شخصية الشهيد الصدر بالشكل الذي يؤثر في أعدائه فضلاً عن تلاميذه بل أن حالة الصفاء الموجودة لدى السيد والمتمركزة في أعماقه أثرت _ في فترة الإحتجاز _ لا شعورياً بهؤلاء الذين يحتجزونه من حيث لا يعلمون.[14]
بل وصل تأثيره إلى (ضابط مخابرات في القصر الجمهوري عاش وتربى في أحضان صدام وهو أول مرة يرى السيد الشهيد وقع تحت تأثير السيد فقبّل يده الطاهرة).[15]
وكان الإمام الصدر يستهدف من عملية تغيير المحتوى الوجداني للإنسان المسلم ما يلي:
- ترقية الشخصية الإسلامية من خلال بعث الجانب العاطفي إلى جانب تطوير الفكر والعقل ليحصل التوازن في النمو الإسلامي للشخصية الإسلامية.
- مواجهة المشاعر السلبية والانهزامية التي فرضها التخلف الذي يلف واقع الإنسان المسلم، والتي تركزت بفعل الغزو الاستعماري وبفعل التيارات السياسية المنحرفة التي نشطت في الساحة العراقية في تلك الفترة.
- إحياء الشعور بالمسؤولية عن ما يجري في الساحة من أحداث ومحن من خلال توسيع إحساس المسلم بالمشاكل التي يعاني منها المجتمع سواء كان هو ضحية تلك المشاكل، أو لم يكن كذلك، يقول الإمام الصدر في ذلك:
لابد قبل كل شيء أن نوظف هذه المشاعر، أن نجعل مشاعرنا تجاه المحنة مشاعر صحيحة وإسلامية تنبض بالغيرة على الإسلام، لا بالغيرة على مصالحنا الخاصة، بالغيرة على الوجود الكلي لهذا الكيان لا بالغيرة على هذا الوجود وهذا الوجود، لأننا ما لم ننظف هذه المشاعر ونحن في غمرة الامتحان القاسي المرير، ما لم نستطع على أقل تقدير أن ننتصر في معركة تغيير هذا الشعور، وفي معركة إيجاد شعور نظيف تجاه هذا الامتحان، ما لم نستطع أن نغير من هذا القدر الضئيل من نفوسنا كيف نطمح أن نبني أنفسنا ككل؟ وكيف نطمح أن نبني المسلمين ككل.. إذن منطلق الحديث هو هذا الشعور الذي يواجهه الإنسان الممتحن تجاه محنته.. كيف يكون هذا الشعور.
ويلخص الإمام الصدر إلى نتيجة وهي:
لابد من رفع مستوى الإحساس بالمسؤولية، ولابد أن يعتقد الإنسان المسلم أن مصائب الأمة والمحنة التي تعيش فيها إنما هي:
نتاج عدم تطبيق شريعة الله على هؤلاء المسلمين، أن عدم تطبيق شريعة الله عليهم هو الذي أدى إلى تعميق التناقض بين الأخ وأخيه.[16]
وهكذا خاض الإمام الصدر معركة التغيير في عمق الشخصية على المستويين الفكري والعاطفي.. وقد استطاع أن يربي جيلاً من المؤمنين على مواجهة التحديات الصعبة التي واجهت الشعب العراقي الذي يسعى للتطابق مع قيمه ومبادئه.. ولمواجهة المشاكل القائمة في وسط الأمة.
ثالثاً: الاهتمام بتطوير الحوزة
إلى جانب اهتمام الإمام الصدر بمهمات صياغة الأفكار الإسلامية المرتبطة بمشاكل البناء الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي، فإنه وظف في هذه الفترة علاقته مع الإمام الحكيم! في تطوير مستوى الدرس الحوزوي في مدرسة العلوم الإسلامية، وهي الدورة التي أسسها الإمام الحكيم.. حيث كلف الإمام الصدر تلاميذه للتدريس فيها، ورفدها بالأفكار الإسلامية العامة في قضايا التاريخ والأخلاق إلى جانب الدروس المصطلح عليها في الحوزة من فقه وأصول وعلوم عربية، فالسيد الشهيد يؤمن بأن دروس الحوزة بحاجة إلى تطوير بالشكل الذي يتيح للطلبة فرصة معرفة الجماهير وحاجاتها، ومن ثم التعامل معها في ضوء ذلك، إذ للاتصال مع الجماهير قواعد ومنطق يختلف عن قواعد ومنطق العلوم والنظريات العلمية. فالطالب الذي يحشو ذهنه بمطالب العلم دون أن يفقه أسلوب التعامل مع الجماهير لا يمكن أن يخدم الإسلام، وذلك لأن:
العمل الاجتماعي يقوم على أساس الحدس الاجتماعي، والحدس الاجتماعي يتكون من الخبرة والتجربة ومن الإطلاع على ظروف العالم وملابسات العالم. إذن يجب أن نفتح أعيننا على العالم، إذن يجب أن نعيش الخبرة والتجربة في العالم، إذن يجب أن نفكر في أساليب العمل لا بالطريقة التي نفكر في علم الأصول.. . وأما العمل الاجتماعي فهو بحاجة إلى حدس اجتماعي، والحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس، من خلال الإطلاع على ظروف العالم، من خلال الإطلاع على الملابسات، من خلال الإطلاع على التجارب التي قام بها الآخرون، من خلال المقارنة بين أحوالنا وأحوال الآخرين، من خلال كل ذلك يتكون هذا الحدس الاجتماعي، إذن فلكي نكون متجهين اتجاهاً صحيحاً في تفكيرنا في أساليب العمل يجب أن نغير في طريقة تفكيرنا يعني أن لا نصطنع نفس الطريقة الأصولية حينما نفكر في أساليب العمل، وإنما نعتمد على الحدس الاجتماعي ونفتش عن كيفية تكوين هذا الحدس في أذهاننا عن طريق تعميق خبرتنا وتجاربنا.[17]
وعلى هذا الأساس سعى الإمام الصدر في ربط الحوزة بالمجتمع، وذلك من خلال استحداث بعض الدروس ذات الصلة بالحياة الاجتماعية والتي تساعد على خلق سلوك، وعقلية الطالب بما يخدم عملية وعي الأمة لرسالتها، والسعي لتطبيقها في جميع جوانب حياتها.
وإذا كانت ثمرة جهوده في هذه الفترة لم تبرز على السطح باعتبار أن هذه العمليات بحاجة إلى زمن طويل لكي تعطي ثمارها.. إلا أنها برزت على مستوى الطليعة من الأمة، كما برزت على مستوى قاعدة عريضة في داخل الحوزة بعد أن تولى الإمام الصدر القيادة المرجعية.
الفترة الثانية: (1968-1971)
إن سبب تخصيصنا عنواناً خاصاً لهاتين السنتين هو وقوع أحداث مهمة فيهما، ففي 17 تموز من عام 1968 نجح حزب البعث في الوصول إلى السلطة، وفي عام 1970 توفي الإمام الحكيم! وكلا الحدثين له تأثيره البارز في مواقف الإمام الصدر تبعاً لتأثيرهما على الساحة العراقية والمسيرة الإسلامية.
ولكي ندرس مواقف الإمام الصدر خلال هذين العامين لابد أن ندرس الانقلاب العسكري في 18 تموز 1968 الذي دبّره حزب البعث العراقي والذي جاء بـ(احمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين) إلى السلطة بعد الإطاحة بحكومة عبدالرحمن عارف وذلك ضمن الفقرتين التاليتين:
الأولى: هوية النظام الجديد؛ أن النظام الجديد لم يكن مجهولاً في أوساط الشعب العراقي، فقد عرف هذا الحزب عام 1963م وتعرض هذا الشعب خلال مدة تولي هذا الحزب السلطة لصنوف العذاب.
ولهذا حاول النظام الجديد أن يغير صورته لعلها تخفف من فضائح تجربته السابقة عام 1963م ومهما يكن الحال فإن النظام الجديد طرح الأهداف التالية:
- فصل الدين عن الدولة أو ما يسمى بالعلمانية.
- القضاء على المعالم الدينية للشعب العراقي والتي منها الثقافة الإسلامية والمظاهر والشعائر الدينية.
- عزل جماهير الشعب عن القيادة المرجعية وذلك باتهامها بالرجعية، أو عبر اختلاق التهم ضد المقربين منها كما في اتهام المرحوم السيد مهدي الحكيم بالعمل ضد النظام لغرض إسقاط مرجعية والده الإمام الحكيم والحد من نفوذها في وسط الجماهير.
- إفساد المرأة العراقية، وتفكيك الأسرة تحت ستار حرية المرأة في السلوك وفي العمل.
- إجبار أبناء الشعب على الانتماء للحزب وتبني أفكاره المنحرفة.
الثانية: الموقف العدائي ضد المرجعية؛ انطلاقاً من عداء حزب البعث للدين، ومن حرص جلاوزته على إذلال الشعب العراقي وسوقه إلى مذابح أهدافه المشؤومة، وانطلاقاً من إحساسه بموقع القيادة المرجعية في الساحة وبما تملك من رصيد شعبي تجاوز حدود العراق، وضع حزب البعث خطة لتصفية الوجود الديني والقضاء على القيادة المرجعية وتصفية الجهاز الحوزوي، ويمكن تلخيص مواقف النظام ضد الكيان الديني والمرجعي بما يلي:
- العمل على تشويه مقام الإمام الحكيم! عن طريق اتهام نجله (المرحوم السيد مهدي الحكيم) بتهم تخل بسمعته ومقامه الاجتماعي.
- محاصرة الإمام الحكيم! والضغط عليه ليتراجع عن مواقفه الإسلامية تحت ضغط قرارات النظام.
- تهجير طلبة الحوزة، بهدف تفكيك الجهاز المرجعي والقضاء عليه.
- إصدار قانون تم بموجبه إلزام طلبة الحوزة العراقيين _ على قلتهم _ بالخدمة العسكرية.
وبعد أن عرفنا هوية النظام الجديد، ومجمل الخطوات العدائية التي اتخذها تجاه مرجعية الإمام الحكيم وتجاه الحوزة والكيان الإسلامي، ندرس مواقف الإمام الصدر إزاء هذه الأحداث والقضايا.. خلال العامين المذكورين.. . وفي الواقع يمكن تحديد أهم مواقفه تجاه تلك الأحداث في هذه الفترة بالنقاط التالية:
أولاً: تطوير ممارسات القيادة المرجعية.
ثانياً: حماية القيادة المرجعية.
ولنبحث هاتين النقطتين بشيء من التفصيل.
أولاً: تطوير القيادة المرجعية
ثمة هدف مشترك عاشته جميع القيادات التي تسلمت مهام المرجعية الدينية، وهو الإحساس بالمسؤولية المباشرة عن حفظ الإسلام، وانطلاقاً من هذا الإطار ينبغي فهم مواقف المرجعية في هذه الفترة، حيث كان المرجع البارز في هذه الفترة هو الإمام الحكيم! الذي كان يملك تجربة سياسية من خلال مشاركته في ثورة العشرين، ومن ثم اتخاذ المواقف السياسية المهمة، حيث كان يطرح مواقفه في وسط مناخ حوزوي عام قائم على ضرورة فصل المرجع عن السياسة!! وكنموذج لذلك يحدثنا السيد مرتضى العسكري: إنه ذهب إلى السيد الحكيم لطلب كتابة احتجاج ضد شاه إيران الذي اعترف بإسرائيل موقعاً باسم السيد نفسه ولكن أحد أفراد مكتب السيد الحكيم! بادر وقال بأن هذا من السياسة ولا دخل للمرجع في السياسة.
فالتفت إليه الإمام الحكيم مستغرباً وقال له: ألم نتخذ مواقف سياسية من قبل؟!
كما أن الإمام الحكيم دعم مواقف المعارضة الإسلامية التي بدأت تشق طريقها في هدوء.[18]
وفي هذا الضوء نشخص الأهداف التي توخاها الإمام الصدر! من عملية تطوير ممارسات القيادة المرجعية في هذه الفترة والتي يمكن بيانها بالنقاط التالية:
طرح القيادة المرجعية في إطار العمل، والموقف الإيجابي من الأحداث السياسية، وذلك من خلال نشر بيان الإمام الحكيم الذي استنكر فيه بشدة إحراق المسجد الأقصى وفي هذا الصدد يكتب الإمام الصدر في رسالة له بعثها من لبنان:
أكتب إليكم هذه السطور وقد شعرت بالرغم من الآلام التي لا تطاق بشيء من الارتياح نتيجةً لإيصال بيان سيدنا الأعظم السيد الحكيم عن حريق المسجد الأقصى، وقد كنت أفكر في إرسال رسول لهذا الغرض.[19]
ويحدثنا آية الله السيد محمد باقر الحكيم عن حجم وأهمية مواقف الإمام الصدر إزاء مرجعية الإمام الحكيم! قائلاً:
والشهيد الصدر ما كان يعتبر من طلاب السيد الحكيم، ولا من المرتبطين به مرجعياً، لكن كان يتعاون مع السيد الحكيم من خلال هذا الموقع أي موقع تبني الفكر الإسلامي والخط الإسلامي كان يتعاون أكثر مما يتعاون أقرب الناس إلى السيد الحكيم مع السيد الحكيم كانت هناك أعمال بطولية للشهيد السيد الصدر تعرض فيها للموت في سبيل هذا الخط.[20]
وهكذا وقف الإمام الصدر بكل وجوده وإمكاناته على طريق دعم ممارسات القيادة الإسلامية رغم أنه لم يكن من تلاميذ الإمام الحكيم، ورغم أنه أصبح في هذه الفترة من أساتذة بحث الخارج وكان المتعارف أن يفكر (هكذا رجل) في مستقبله _ هو _ لا مستقبل غيره، وأن يطرح نفسه على الساحة الإسلامية. ولكن الشهيد لم يكن يحسب لمصالح شخصية، وإن كانت هذه المصالح في خدمة الإسلام، بل كان يضع كل شيء من أجل المصلحة العليا للإسلام والتي منها موقع القيادة المرجعية وتعميق نفوذها في الساحة العامة.
ثانياً: حماية القيادة المرجعية
منذ أن تولى حزب البعث السلطة نشط في القضاء على المعالم والشعائر الدينية، بيد أنه اصطدم بعقبة مرجعية الإمام الحكيم! والوجود الديني في النجف الأشرف، فالإمام الحكيم كان خلف النشاطات التي تتعارض مع اتجاه حزب البعث، لذلك كله حاول حزب البعث تصفية نفوذ الإمام الحكيم وذلك عبر إلصاق التهم الكاذبة ضده، وفي أجواء هذه المعركة كان لابد من حركة تقف إلى جانبه، وجاءت هذت الحركة من الإمام الصدر حيث ذهب إلى لبنان وخاض حملة إعلامية وسياسية واسعة النطاق ضد إجراءات حزب البعث، ومواقفه من المرجعية والحوزة.
وسجل الشهيد معالم حركته في رسالة وجهها إلى أحد أصدقاءه:
أكتب إليكم هذه السطور بعد أسبوعين كاملين من دخول لبنان وأود أن أعطيك صورة عن الموقف في حدود رؤيتي له، وأشعر بأن وجود صورة لك عن الموقف شيء مفيد على خط العمل.. . لا أدري كيف أصنف الحديث.. .
أتصور أني أبدأ بما تم من عمل ثم أتحدث لك عن المواقف بشكل عام ثم عن المشاكل والمكاسب. أما ما تم من عمل فهو كما يلي:
أولاً: خطاب استنكار وقع عليه حوالي أربعون عالم.
ثانياً: ملصقة جدارية ألصقت في كثير من المواضع في بيروت تطالب بإنقاذ النجف.
ثالثاً: برقيات طيرها أبو صدري [السيد موسى الصدر] إلى جميع رؤساء وملوك الدول العربية والإسلامية باسم المجلس الشيعي الأعلى يشرح فيها لهم المأساة ويستنجد بهم. وقد جاءه الجواب حتى الآن من جمال عبدالناصر وفيصل والأرياني الرئيس اليماني.
ثم يتابع الشهيد في رسالته بيان برنامج المعركة بالقول:
هناك أمور:
أولاً: منذ البداية كنت أشعر أن عقد مؤتمر صحفي يحضره جماعة من الطلاب اللبنانيين النازحين ويتحدثون عن مرجعية السيد وتسلسل الأحداث بالأرقام شيء مهم جداً.
ثانياً: كنت أحس بأن توسيع نطاق العمل الدعائي للقضية بتركيز مقام السيد وإبراز خيوط المأساة وتحريك الضمير الشيعي إلى أبعد حد أمر ممكن جداً وقد كنت أصر على الإخوان أن يواصلوا العمل الذي بدأوه بالملصقة الجدارية والتي كانت هي المحرك الحقيقي للجماهير وأن يهيئوا لجنة شعبية تكون قوة عاملة وتنفيذية لتوسيع نطاق العمل الدعائي.[21]
وهكذا خاض الإمام الصدر معركته ضد حزب البعث من أجل حماية المرجعية، وتوسيع نفوذها في الساحة الإسلامية.
المرحلة الثانية: (1971-1979)
وهذه الفترة تبدأ من وفاة الإمام الحكيم وتنتهي بالحدث الإستراتيجي الذي قلب المعادلات والحسابات، والتوقعات وهو انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
ولكي نعرف أسلوب ومواقف الإمام الصدر في هذه الفترة لابد من قراءة سريعة للواقع السياسي، ومسار النظام الحاكم من جهة والواقع الحوزوي ومساره من جهة أخرى.
مسار النظام الحاكم
في هذه الفترة بدأ النظام ينفذ عملياً أفكاره المنحرفة، ويعلن حربه السافرة على الإسلام، وعلى الشعب العراقي المظلوم. فقد راحت أجهزة الحزب تفرض أفكار البعث على الجماهير بالقوة والخداع حتى بات الإنسان المسلم يخشى أن يقيم مأتماً حسينياً علنياً أيام محرم خوفاً من إجراءات السلطة!!!
إن حركة النظام المعادية للإسلام بدأت تظهر علناً، وتتحول إلى برامج عمل، وخطط تنفذ على الساحة بهدف إضعاف دور الإسلام في حياة الشعب العراقي، وتحويله إلى مجرد طقوس لا ترتبط بالواقع السياسي للشعب.
الوضع الحوزوي العام
كان الإمام الحكيم خلال فترة مرجعيته يوجه العمل الفكري، وينشط حركة الثقافة، والمواقف الإسلامية التي من أهمها إيقاف حرب الشمال، وتدريس الفقه الجعفري في المدارس العراقية، وتنشيط حركة الوعي الإسلامي بشكل عام.[22]
ورغم جهود الإمام الحكيم في العمل داخل الحوزة وفي المجتمع فقد ظلت سلبيات في الحوزة وقد حاول الإمام الصدر معالجتها في زمن مرجعية الإمام الحكيم وبعد وفاته وهذه السلبيات هي:
- قلة الطلبة العراقيين في الحوزة؛ فقد كانت الحوزة العلمية تشكو من قلة الطلبة العراقيين قياساً بالطلبة الإيرانيين والحجازيين واللبنانيين رغم أن هذه الحوزة قائمة في العراق!!
- ضعف التبليغ في أوساط العراقيين؛ وإضافة إلى قلة الطلبة العراقيين في الحوزة، كان هناك ضعف في حركة التبليغ بشكل عام، إذ الدروس الحوزوية هناك مستمرة على امتداد السنة وحتى في أيام الصيف الحار باستثناء بعض أيام السنة كأيام عاشوراء. إن هذا يعني أن العمل التبليغي ليس بمستوى حاجة المجتمع العراقي من حيث عدد المبلغين وكفاءتهم ونوع ثقافاتهم التي تطرح على الجماهير.
- الاقتصار في حقول التدريس على فروع قليلة من العلوم الدينية، حيث استقطبت الاهتمام الأكبر في حين لم تجد بعض العلوم الأخرى الاهتمام اللائق بها (كعلم الأخلاق، وعلم التفسير، والفلسفة) وهذه العلوم ذات صلة وثيقة بالتبليغ والتوعية التي يقوم بها الطلبة.
- ابتعاد الحوزة عن المناخ الاجتماعي العام بالشكل الذي جعل طلبة العلوم الدينية قطاعاً مجهولاً في وسط الجماهير مما جعله مرتعاً للظنون الفاسدة، وعرضة لالصاق التهم.
- الابتعاد عن الأعمال السياسية إلى درجة تصور أن العمل في السياسة يشكل نقصاً في شخصية عالم الدين.
تلك كانت بشكل عام أهم السلبيات في الحوزة العلمية، والتي حاول الإمام الحكيم! العمل على معالجتها بنصائح مباشرة من السيد الصدر ومن الواعين من علماء الحوزة ولكن ظلت بعض الجوانب السلبية قائمة حتى بعد وفاة الإمام الحكيم خصوصاً قلة الطلبة العراقيين في الحوزة العلمية. والآن لنرى ماذا فعل الإمام الصدر لمواجهة الأوضاع بعد تولي حزب البعث السلطة.. . وفي الواقع يمكن تسجيل الإنجازات التي حققها خلال هذه الفترة بما يلي:
الإنجازات على مستوى الحوزة العلمية
واصل الإمام الصدر عملية تطوير الحوزة بالشكل الذي يوفر لها الإمكانات اللازمة لممارسة وظيفتها الشرعية في تبليغ الإسلام وبيانه لأبناء الشعب العراقي، وأهم الأعمال التي قام بها في هذا المجال هي:
- نقل التجربة العلمية الرائدة التي خاضها _ عبر تلاميذه _ في دورة الإمام الحكيم التي كانت محصورة في نطاق ضيق إلى رحاب الحوزة إذ رغم أن هذه الدورة أغلقت بعد وفاة الإمام الحكيم فإن الإمام الصدر نقل روح الفكرة إلى داخل الحوزة، وشجع تلاميذه الذين كانوا يدرسون في الدورة على التدريس في داخل الحوزة وفقاً لذلك المنهاج التربوي. وهكذا راح تلاميذه يباشرون التدريس بروح جديدة وهمة عالية، وهم يحملون آمالاً عريضة في تغيير الوضع السائد داخل الحوزة، وهؤلاء التلاميذ لم يقتصروا على الدروس المتعارف عليها في الحوزة بل باشروا بتدريس (التاريخ، القرآن، الأخلاق، العقائد، السيرة) مضافاً إلى الفقه والأصول من أجل تخريج عناصر إسلامية مشبعة بالفكر الإسلامي في كافة مجالاته.
وهكذا فقد شرع السيد الصدر في ممارسة هذه الانعطافة الجديدة في تاريخ النجف على يد تلاميذه، والمقربين إليه وكل الذين أدركوا عمق المأساة التي تعيشها الحوزة خصوصاً، وتعيشها الساحة العراقية عموماً، وتحت عيون البعثيين المترصدة للصغيرة والكبيرة من أعمال السيد الشهيد قامت هذه الدروس وما زلنا نتذكر الأساتذة الذين شرعوا بها، وما زلنا نتذكر لهم أيضاً شجاعتهم في القيام بتحديين: تحدي السلطة الحاكمة، وتحدي الواقع المتخلف القائم في الحوزة، وربما نستطيع القول بأن التحدي الأول لم يكن أصعب من الثاني ولا يكلف أكبر مما يكلف الثاني!![23]
- اهتم بمسألة التبليغ، وذلك لأنه كان يعتقد أن من أسباب انفصال الحوزة عن المجتمع ضعف التبليغ الإسلامي في المجتمع، إذ من المفروض أن تكون الحوزة نقطة انطلاق لحركة تبليغ واسعة النطاق لتربية المجتمع على السلوك والفكر الإسلامي، وإذا كان الإمام الصدر يحث تلاميذه على التدريس في الحوزة بأسلوب ومنهج جديد فإنه:
اقترح على السيد الإمام الخوئي عقد لجنة تهتم بشؤون التبليغ والمبلغين، وتكون خاضعة لإشراف السيد الشهيد نفسه، وفي السنين الأولى لمرجعية السيد الإمام الخوئي، وحيث كان هذا الاقتراح مقبولاً شهدت مدن العراق حملة تبليغ ديني واسعة لعل تاريخ العراق لم يشهد لها حالة من سابقة.[24]
- رعاية الطلبة الواعين داخل الحوزة، وتشجيعهم على تلقي معالم الشريعة والفكر الإسلامي، ونشرها في وسط المجتمع سواء عبر التبليغ، أو من خلال احتكاكهم في الحوزة ضمن العلاقات العامة.
- وإلى جانب اهتمامه بحركة التبليغ ورعاية الحوزة، وتطوير قابليات التلاميذ، فإنه أنجز خلال هذه الفترة أروع أعماله الفكرية والتي لم تشهد الساحة الإسلامية نظيرها حيث كتب كتابه العميق (الأسس المنطقية للاستقراء) الذي دشن به عصراً جديداً للفكر الإسلامي.
وبهذا الإنجاز العلمي الفذ، والذي يضاف إلى نتاجه السابق فتح صفحة جديدة في أبواب الوعي الإسلامي أمام الأمة ويسر اكتشاف طريقها في وسط الاتجاهات الفكرية المادية والقومية.
وفي الواقع أن جهوده الفكرية والمتمثلة في (اقتصادنا، فلسفتنا، الأسس المنطقية للاستقراء) انتشرت في صفوف المثقفين والشباب المؤمنين حتى أخذت تدرس في المساجد وفي البيوت وفي كل مكان.. وشكلت ترساً منيعاً أمام الغزو الفكري الشرس والذي حاول تحريف أفكار الشعب وتلقينه تفسيرات مزورة عن الإسلام وموقعه في حياة الأمة، ففتح الإمام الصدر خط المواجهة ضد النظام مباشرة.. ومن هنا كتبت نشرات حزب البعث الداخلية بأن السيد الصدر يمثل الخطر الأول لحزب البعث[25] ونتيجة لفاعلية الإمام الصدر وحضوره في الساحة تولد لدى السلطة إحساس بالخوف من هذا الرائد الجديد، وما يحمل من مشاريع واقعية، فعزمت السلطة على اعتقاله في عام 1392ق وهو راقد في مستشفى النجف، ووضع في ردهة المعتقلين في مستشفى الكوفة، وكبل بالقيود، ولكن نتيجة للضغوط الشعبية اضطرت السلطة إلى إطلاق سراحه.. حيث راحت الجماهير تزوره في بيته، وقد علق السيد الشهيد على عملية الاعتقال بالقول:
إن هذا الاعتقال قد أثر في انشداد الأمة إلينا أكثر من ذي قبل وتصاعد تعاطفها معنا.[26]
دعم الأحزاب والحركات الإسلامية
نريد هنا أن نسجل موقف الإمام الشهيد من الحزب الإسلامي.. حيث تمثل بالدعم باعتباره أسلوباً لنشر الوعي الإسلامي وتسييس الشارع وكشف حقيقة النظام المتسلط، ونقطة انطلاق للعمل السياسي في صفوف الشعب.
ومن الواضح أن حزب الدعوة الإسلامية انطلق من داخل الحوزة بمساهمة مباشرة من الإمام الصدر، واستمر بدعمه، ومن هذا المنطلق نشط حزب الدعوة في الساحة، وراح يعمل بجد لتسيس الشارع الجماهيري، بيد أن الإمام الشهيد لم يسمح لطلبة الحوزة بالانخراط في الحزب في فترات لاحقة عن التأسيس وذلك لأنه يعتقد أن جهاز الحزب لابد أن ينفصل عن جهاز المرجعية لكي تحتفظ المرجعية بقيمومتها على العمل الإسلامي قاطبة.
الاهتمام بتربية المرأة العراقية
لقد اهتم الإمام الصدر بتطوير شخصية المرأة العراقية وتفعيل حضورها في الساحة، وفي هذا المجال يبرز دور الشهيدة (بنت الهدى) شقيقة الشهيد وساعده الأيمن في هذا الميدان حيث قامت بمسؤولياتها الإسلامية تجاه المرأة العراقية بأكمل صورة. فهي تارة تفتح مدارس التعليم الخاصة للنساء في مدينة الكاظمية، وأخرى تدرس العلوم الإسلامية في النجف الأشرف وثالثة تعلم المرأة السلوك الفاضل من خلال القصة التي برعت الشهيدة بكتابتها، وقد كتبت العديد من القصص الهادفة، وهذا الأسلوب التربوي يعد الأسلوب الأمثل في تربية المرأة والتأثير بها إبان تلك الظروف التي عاشتها المرأة العراقية. ونستطيع القول أن اهتمام الإمام الصدر! بتطوير دور المرأة في الساحة العراقية اهتماماً متميزاً في الوسط المرجعي إحساساً منه بأهمية موقعها في المجتمع والأسرة، فشهد حقل النساء تطوراً ملحوظاً وبرزت ظاهرة جديدة هي ظاهرة المرأة المؤمنة الرسالية في المجتمع.
وقد مارست المرأة العراقية دورها بكل شجاعة، ووقفت إلى جانب أخيها الرجل في جميع ساحات المواجهة ضد النظام الطاغوتي، وكان نصيبها من البطش والتعذيب شاهداً على حجم ذلك الحضور.
الإنجازات على مستوى القيادة المرجعية
منذ أن لمس الإمام الصدر مأساة انفصال الوعي الإسلامي عن التطبيق العلمي للنظام الإسلامي.. أخذ يتحرك لمعالجة هذه الثغرة من خلال صياغة الفكر الإسلامي بهيئة تأخذ بنظر الاعتبار مواجهة التيارات الفكرية المعادية، وحاجات الفرد والمجتمع الفكري في خضم عملية المواجهة والبناء، فقام بإصدار ثلاث دراسات أساسية تتيح للشخصية الإسلامية البناء والتوازن الفكري كما توفر للمجتمع الإسلامي الرصيد اللازم للدخول إلى الحياة السياسية الإسلامية وهذه الدراسات الثلاث هي (فلسفتنا، اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء) إضافة إلى مجموعة أبحاثه المرتبطة بالمجتمع.
بيد أن المشكلة لا تكمن فقط في عدم وجود الثقافة الإسلامية الأصلية التي تعيد للإنسان المسلم ثقته بقدرة الإسلام على بناء المجتمع الإسلامي، إنما هناك شيء آخر هو ضرورة وجود (القيادة الثورية) التي تعتقد بضرورة تطبيق الإسلام في واقع الحياة، ودورها في قيادة عملية المواجهة الحاسمة ضد النظام. فالمشكلة _ إذن _ لها جانبان: جانب يكمن في ضعف الثقافة الإسلامية ونوعيتها والجانب الآخر يكمن في مسألة قيادة مرجعية تؤمن بالعمل الإسلامي وترى نفسها مسؤولة _ شرعاً _ عن قيادة الجماهير على طريق إسقاط النظام الطاغوتي وإقامة النظام الإسلامي.
ومن الواضح أن الجانب الأول من المشكلة عالجها الإمام الصدر عن طريق جهوده في بيان واكتشاف الفكر الإسلامي في ضوء الحاجات المعاصرة لقيادة التجربة السياسية والاقتصادية للمجتمع. وقرر الإمام الصدر أن يطرح قيادته المرجعية بشكل مباشر على الجماهير.. . ولندرس هذا الموضوع بشيء من التفصيل، ونحدد مواقف الإمام الصدر ونظرياته حول المرجع وقيادته ثم نحدد خطواته العلمية لممارسة دوره.
دور المرجعية في المجتمع
لقد طرح الإمام الصدر فكرة المرجعية على مرحلتين وكلاهما تمثلان تطوراً ملحوظاً في فهم دور المرجع في المجتمع، وتشكل الأولى منها مقدمة للثانية. فالمخطط العام الذي وضعه لفكرة المرجعية الصالحة كان يركز على ضرورة قيام المرجع بتحديد أهدافه الصالحة بشكل عام، ثم السعي الجاد نحو تحقيق تلك الأهداف، ولم يشر السيد الشهيد هنا إلى دور المرجع في العمل السياسي.. وذلك لأن الساحة العراقية بعد لم تشهد مرجعية كالتي رسم الإمام الصدر صورتها في (أطروحة المرجعية الصالحة) فضلاً عن المرجعية الثورية التي تقود الجماهير في مواجهة النظام، إذن المطلوب في هذه المرحلة هو تحقيق هذا الطموح من القيادة المرجعية، فقد كتب في هذا المجال: (ويمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة رغم ترابطها وتوحد روحها العامة في خمس نقاط:
- نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.
- إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكد بأن الإسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.
- إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعية وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مد كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.
- القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حق منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ.
- إعطاء مراكز العالِمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.
ووضوح هذه الأهداف للمرجعية وتبنيها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً في سياستها العامة ونظراتها إلى الأمور، وطبيعة تعاملها مع الأمة، ولكن لا يكفي مجرد وضع هذه الأهداف لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعية الصالحة لأن الحصول على ذلك يتوقف على عمل مسبق وهادف إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه الشامل لقضايا الأمة، وعلى إدخال تطويرات على أسلوب المرجعية ووضعها العملي من ناحية أخرى).[27]
إذن لابد أولاً من أن تتحرك المرجعية الصالحة باتجاه احتضان الجماهير وتحسسها بوجود القيادة الربانية التي ترعى مصالحها، وتشكل الضمانة الأمينة على طريق فهم الإسلام وتطبيقه.
إن هذه الأطروحة التي قدمها الإمام الصدر تعكس تطويراً حقيقياً لعمل المرجعية باتجاه الارتباط مع الجماهير ومع العمل الإسلامي، فقد كتب وهو يحدد الطرق والأساليب العملية لتطوير المرجعية.
(وأما فكرة تطوير أسلوب المرجعية وواقعها العملي فهي تستهدف:
أولاً: إيجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على أساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحددة. ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً عن الحاشية التي تعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئية وبدون أهداف محددة واضحة. ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعددة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كل إمكانات العمل المرجعي، ويمكن أن نذكر اللجان التالية كصورة مثلى وهدف أعلى ينبغي أن يصل إليه الجهاز العملي للمرجعية الصالحة في تطوره وتكامله.
- لجنة، أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية: وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل الخارج والإشراف على دراسات مراحله، وتحدد المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعية الصالحة وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافية للطلبة وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
- لجنة للإنتاج العلمي: ووظائفها إيجاد دوائر علمية لممارسة البحوث ومتابعة سيرها والإشراف على الإنتاج الحوزوي الصالح وتشجيعه ومتابعة الفكر العالمي بما يتصل بالإسلام والتوافر على إصدار شيء كمجلة أو غيرها والتفكير في جلب العناصر الكفؤة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.
- لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم وتتبع سيرهم وسلوكهم واتصالاتهم والإطلاع على النقائص الحاجات والفراغات وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب، أو عند طلب المرجع.
- لجنة الاتصالات: وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعية في المناطق التي لم تتصل مع المركز، ويدخل في مسئوليتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتصال بها وإيجاد سفرة تفقدية إما على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدة لتقبل العالِم وتولي متابعة السير بعد ذلك ويدخل في صلاحيتها الاتصال في الحدود الصحيحة مع المفكرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتزويدهم بالكتب والاستفادة من المناسبات كفرصة الحج.
- لجنة رعاية العمل الإسلامي والتعرف على مصاديقه في العالم الإسلامي وتكوين فكرة عن كل مصداق وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.
- اللجنة المالية: التي تعني بتسجيل المال وضبط موارده وإيجاد وكلاء ماليين والسعي في تنمية الموارد الطبيعية لبيتالمال، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط.
ولا شك في أن بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتساع والتخصص يتوقف على تطور طويل الأمد، ومن الطبيعي أن يبدأ الجهاز محدوداً أو بدون تخصصات حدية تبعاً لضيق نطاق المرجعية وعدم وجود التدريب الكافي والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسع والتخصص.
ثانياً: إيجاد امتداد أفقي حقيقي للمرجعية يجعل منها محوراً قوياً تنصب فيه قوى كل ممثلي المرجعية والمنتسبين إليها في العالم، لأن المرجعية حينما تتبنى أهدافاً كبيرة وتمارس عملاً تغييرياً واعياً في الأمة لابد أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثليها في العالم.[28]
وبدأ الإمام الصدر في تنفيذ بعض تلك المشاريع والخطط بعد وفاة الإمام الحكيم! رغم أنه لم يكن المرجع الأول في النجف، وذلك لأنه يرى ضرورة رعاية وتبني العمل الذي أوجده بنفسه، وزرع نواته الأولى منذ الخمسينات ثم راح بحكمة وهدوء وجد وعمل دائب يسهر على حماية هذه النبتة حتى أعطت ثمارها.
ونتيجة لمواقفه ومشاريعه الناجحة تعمق نفوذه في الوسط الحوزوي والوسط الشعبي بشكل سريع ويحدثنا تلميذه السيد القبانجي حول هذه المرحلة قائلاً:
(وكان أول اعتقال له في سنة 1973م وإلى هذه السنة كان السيد الشهيد قد نفذ في وجوده الاجتماعي والحوزوي إلى درجة كبيرة، الأمر الذي كان يحسب له حكام بغداد ألف حساب من حيث أنهم في السنين الأولى من حكمهم كانوا يحرصون على حفظ الظاهر الإسلامي بالنسبة لحكمهم، كما كانوا يطمحون إلى كسب ود المرجعية في النجف المتمثلة بالسيد الإمام الخوئي، واعتقال السيد الشهيد من دون شك سيخلق لهم بعض المصاعب أمام هذه الطموحات. وفي سنة 1974م كانت حملة اعتقالات واسعة شملت معظم تلامذة السيد الشهيد، وقد كانوا يستهدفون بهذه الحملة تحقيق أمرين:
الأول: تحجيم نشاط السيد الشهيد، وتوجيه طعنة قوية له.
الثاني: خنق المدّ الإسلامي في جسم الأمة، سواء بشكله المنظم أو بشكله غير المنظم.
وطبيعي أن يكون السيد الشهيد هو المركز الذي تجمعت حوله العناصر الواعية والنشطة من طلبة العلوم الدينية ولذا فإن الحملة تنصب عليه بالذات سواء مباشرة أو غير مباشرة. ولأول مرة في تاريخ الحوزة العلمية في النجف يحكم على بعض أفرادها بالإعدام، فقد حكم البعثيون على ثلاثة من علماء الدين والملتصقين بالسيد الشهيد بالإعدام واستشهدوا بالفعل وهم:
العلامة الحجة الشيخ عارف البصري، والعلامة الحجة السيد عمادالدين التبريزي، والعلامة الحجة السيد عزالدين القبانجي+.
ويجب أن نشير إلى أن هذه الاعتقالات لم تكن على صعيد الحوزة فقط لقد كانت على صعيد الأمة أيضاً والمثقفين من أبناءها، في مطاردة للتحرك الديني والتيار الإسلامي المتصاعد في الساحة.
وكان الاعتقال الثاني للسيد الشهيد سنة 1977م بعد التظاهرات الشعبية التي عمت المسيرة ما بين النجف وكربلاء بمناسبة أربعين الإمام الحسين% ولملاحظة مجموعة اعتبارات أهمها نفوذ السيد الشهيد شعبياً وحوزوياً فقد فك اعتقاله فوراً، وما بين الفترة كلها كانت المضايقات على السيد الشهيد غير منقطعة كما كانت الرقابة على زائريه والمرتبطين به دائمة أيضاً. كانت حكومة بغداد تدرك أنه ما دام السيد الصدر موجوداً فإنها لا يمكن أن ترتاح إلى نوم، وأن تمتلك حريتها في التصرف كما أنه ما دام السيد الصدر موجوداً فإن المد الإسلامي موجود إضافة إلى تخوفات المستقبل وقد يكون قريباً![29]
ولم يكتف الإمام الشهيد بأطروحة المرجعية الصالحة، إنما طرح قيادة المرجع وموقعه في النظام السياسي للإسلام وذلك في كتابه (لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية) حيث بحث دور القيادة المرجعية في النظام السياسي. فقد كتب في هذا المجال:
إن المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الإسلام والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية وعلى هذا الأساس يتولى ما يلي:
أولاً: إن المرجع هو الممثل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.
ثانياً: المرجع هو الذي يرشح، أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الذين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذية ويعتبر الترشيح من المرجع تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور وتوكيلاً له على تقدير فوزه في الانتخاب لإسباغ مزيد من القدسية والشرعية عليه كحاكم.
ثالثاً: على المرجعية تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.
رابعاً: عليها البت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ.
خامساً: إنشاء محكمة عليا للمحاسبة في كل مخالفة محتملة في المجالات السابقة.
سادساً: إنشاء ديوان المظالم في كل البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والمتظلمين وأجراء المناسب بشأنها.
ويقوم المرجع بتأليف مجلس يضم مائة من المثقفين الروحانيين ويشتمل على عدد من أفاضل العلماء في الحوزة وعدد من أفاضل العلماء الوكلاء وعدد من أفاضل الخطباء والمؤلفين والمفكرين الإسلاميين على أن يضم المجلس ما لا يقل عن عشرة من المجتهدين وتمارس المرجعية أعمالها من خلال هذا المجلس.
والمرجعية حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمة تقوم على أساس الموازين الشرعية العامة وهي كتطبيق تتمثل فعلاً في المرجع القائد للانقلاب الذي قاد الشعب قرابة عشرين عاماً وسارت الأمة كلها خلفه حتى حقق النصر وأما كمقولة عليا للدولة الإسلامية على الخط الطويل فيجب أن يتوفر في الشخص الذي يجسد هذه المقولة.[30]
وبهذا ينكشف دور الإمام الصدر في تطوير القيادة المرجعية وفي التأكيد على أهمية اتصال المرجع بالقضايا العامة، والمشاركة في النشاطات السياسية وفق الصيغة الإسلامية، وتطبيقاً لهذا الشعور استجاب لطلب صندوق التمويل الكويتي في كتابة مشروع إنشاء بنك إسلامي يمارس وظائفه بدون ربا (البنك اللاربوي في الإسلام) وفي ضوء كل ذلك يمكن تلخيص أفكاره حول دور القيادة المرجعية في النقاط التالية:
- حفظ قدرة الإسلام على بناء المجتمع من خلال إثراء التشريع الإسلامي بالقوانين اللازمة لاستيعاب حركة الحياة، فالقيادة لا تقتصر فقط على فهم الإسلام من ينابيعه الصافية الأصيلة، وتمارسه في حياتها الفردية والعامة، وإنما تسعى لفهم أحداث الساحة والحياة ومن ثم تحدد الموقف الشرعي من كل ذلك.
- القيادة المرجعية مسؤولة عن تحديد الموقف الفكري الذي يجب أن يطرح في المجتمع لضمان استقامة الوعي الإسلامي عند أفراد المجتمع.
- القيادة المرجعية مسؤولة عن قيادة العمل الإسلامي، وتحقيق أهدافه الرسالية.
- القيادة المرجعية مسؤولة عن قيادة الثورة ضد النظام الطاغوتي.
- قيادة الدولة الإسلامية، وتحقيق أهداف الحكم الإسلامي في الأيمان والعدل والحرية والأمن والرفاه.
تلك هي أفكار الإمام الصدر _ بشكل إجمالي _ حول دور القيادة المرجعية، ولكن عملياً لم يكن هو المرجع الأول في الحوزة، إذ هو يتلو الإمام الخوئي! من حيث المكانة المرجعية.
كان الإمام الخوئي! صاحب القرار المؤثر في الحوزة وفي القرار المرجعي، وهذا لا يعني أن السيد الشهيد لم يكن ذا شأن في هذه المستويات أو في غيرها من المجالات الاجتماعية والجماهيرية، بل على العكس فلقد نشأ خلال السبعينات _ بفعل حركة السيد الشهيد _ جيل شاب في داخل المجتمع يؤمن بضرورة الإسلام ويحمل أفكار الإسلام ويتحرك باتجاه نشرها في وسط المجتمع من داخل المساجد ومن داخل الحسينيات وفي كل مكان، حيث نشطت حركة ثقافية وسياسية واسعة تهدف إنقاذ المجتمع من مخالب الثقافة الطاغوتية ومن مخالب فرعون العراق. وكان الإمام الصدر قائد هذه الحركة حيث سهر على تطويرها وتنميتها وقيادتها، وله الفضل في وضع بذرتها الأولى، كما اشتدت ممارسات الإرهاب البعثية في زمن السيد الشهيد حيث راحت تجبر الجماهير بالقوة على الانتماء للحزب، وأكرهت الطالبات الجامعيات على نزع الحجاب عبر التهديد بالفصل من الجامعة. ونشطت موجة حكومية لمحاربة الإسلام ورجالاته حين تم اعتقال العلماء والخطباء، بل واعتقال الإمام الصدر نفسه عقيب انتفاضة الأربعين المباركة في عام 1397ق حيث قاده رجال الأمن إلى بغداد، والتقى هناك بمدير الأمن العام وأعلمه أن السلطة تعرف أنه يقف خلف الانتفاضة المباركة، وإنها سوف تنتقم منه في الوقت المناسب.
وإزاء تلك المواقف وإزاء شدة طلبات الساحة التي لا تسمح حتى بمجرد التفكير بالرفض فضلاً عن أن يكون الشخص الذي يمكن أن يتحرك ويقود هذه الساحة هو نفسه الذي أوجد تلك الصحوة.. وإزاء الضغط الحكومي التعسفي ضد الوجود الإسلامي ورموزه قرر الإمام الصدر أن يتصدى لقيادة العمل ويطرح نفسه على هذا الأساس. فاستجاب _ أخيراً _ للطلبات الكثيرة التي طلبت منه أن يطبع حاشيته وفتواه على كتاب منهاج الصالحين للمرحوم آية الله العظمى الإمام الحكيم بعد أن كان يصرّ على عدم طباعة هذه الفتوى، كما قام بإرسال الوكلاء ودعم الخط الجماهيري الرافض للنظام بكل أشكاله، وبدأت مرحلة جديدة، وتمخضت النجف الأشرف عن شخصية رسالية فذة احتضنت العمل الإسلامي بكل صدق وإخلاص ومثابرة حتى أشرقت شمس الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني!.
المرحلة الثالثة: (1979-1980)
كان العمل الإسلامي في الداخل ينتظر حدثاً ما يشكل انعطافه لبداية جديدة للمواجهة.. وجاء ذلك الحدث في انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني!، حيث كان الإمام الصدر أثناء قيام الثورة يراقب الساحة الإيرانية بارتياح كبير واطمئنان عميق بقدرة الشعب الإيراني على ممارسة الثورة، وبقدرة القيادة على إيصال سفينة الثورة إلى ساحل (الدولة الإسلامية).
وقد كتب في أيام الثورة وهو يعبر عن ثقته بالقيادة والشعب الإيراني:
وبعد فإننا في النجف الأشرف إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا ونشاركه في آلامه وآماله نؤمن أن تاريخ هذا الشعب العظيم أثبت أنه كان ولا يزال شعباً أبياً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته.[31]
وكتب معلقاً على أهمية قيادة الإمام الخميني:
وكلنا ثقة بأن نجاحه العظيم في تجسيدها وتطبيقها سوف لن يقل روعة عن جهاده العظيم في نسف الطاغوت وإخراج إيران من ظلمات الطغيان.[32]
وثمة شيء يكشف عن اهتمام الإمام الصدر بمسار الثورة وضرورة دعمها: هو زيارته للإمام الخميني! قبل سفره إلى باريس للإعلان عن دعمه للثورة ولقيادة الإمام.. إلا أن الإمام الخميني كان في طريقه إلى خارج العراق.
كان هذا في ظل مناخ سياسي خانق بالشكل الذي يعني أن زيارة السيد الشهيد للإمام في داره يمثل تحدياً للسلطة. وبحق فإن الثورة الإسلامية في إيران انعشت آمال الإمام الصدر كيف لا:
وإذا بالحلم يصبح حقيقة وإذا بالأمل يتحقق وإذا بالأفكار تنطلق بركاناً على الظالمين لتتجسد وتقيم دولة الحق والإسلام على الأرض، وإذا بالإسلام الذي حبسه الطاغوت والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد إيرانية فتية.[33]
وهذا الشعور بالاعتزاز والفرح بالثورة الذي ملأ جوانحه، نفذ إلى أعماق الشعب العراقي حيث راح يتابع أخبار الثورة ويلاحق فصول نموها.. وكان يوم انتصارها يوم عيد للعراقيين حيث عم السرور في جميع البلاد.
ولندرس هنا معطيات الثورة الإسلامية في إيران، ثم نتناول الملامح المشتركة للشعبين العراقي والإيراني لكي نعرف مدى استعداد شعب العراق للتفاعل مع الثورة الإسلامية، ثم لنعرف أيضاً السر في مواقف النظام العراقي تجاه الإمام الصدر وتجاه موجات الأمل والسرور التي انتشرت بين صفوف الشعب العراقي أثناء الثورة وبعد إعلان انتصارها.
معطيات الثورة الإسلامية في إيران
إن انتصار الثورة الإسلامية شكل انعطافة حاسمة في العمل السياسي الإسلامي لأنه كشف عن قدرة الإسلام على الفعل والتغيير وأثبت:
- قدرة المرجعية على إشعال الثورة وقيادتها وتحقيق الانتصار.. إذ أن السائد في العرف السياسي: أن العمل السياسي وقيادة الحدث السياسي وتفجير الثورات إنما هي حكر على أصحاب الاتجاهات السياسية العلمانية، ولميكن في حسابهم أن يبرز رجل دين يوماً ما، ويفجر ثورة شعبية على أسس دينية. وكان العطاء الأول لهذه الثورة هو عودة رجل الدين إلى ضوء الأحداث التي تجتاح عالمنا المعاصر، وبالتالي عودة المقاييس الصحيحة لبناء النظام السياسي الإسلامي، بعد تغييب طويل للدين، وقيادته عن مسرح الأحداث. وفي الواقع أن العرف السياسي التقليدي فوجئ بتصدي رجل دين للثورة، وفوجئ حين شاهد قوة تأثير القيادة المرجعية في الوسط الشعبي، حيث يصدر قائد الثورة أمراً من مقره في باريس وإذا بالأمواج البشرية في طهران وغيرها من مدن إيران تتدفق استجابة لذلك الأمر، وبحق أن عودة القيادة المرجعية إلى مسرح الأحداث على يد الإمام الخميني! سحب معه القيم والمناقبيات الدينية إلى العمل السياسي، وهذا بالذات ما جعل نظام بهلوي يتهاوى تحت مطارق إصرار الثورة وقيادتها على استلام زمام الحياة، وكان هذا الدرس الأول.
- إمكان اشتراك شعب بكامله في الثورة، ومواصلتها حتى الانتصار إذ لم تشهد الساحات السياسية حضوراً جماهيرياً ثورياً شاملاً في مواجهة النظام الحاكم وتخوض ضده صراعاً عنيفاً حتى تفلح في انتزاع النصر كما شهدته في إيران بقيادة الإمام الخميني!. صحيح أن العالم شهد حركات شعبية وانتفاضات جماهيرية كما هو الحال في بعض دول العالم.. بيد أن تلك الانتفاضات ليست ثورة بكل معنى الكلمة، لأنها حملت أهدافاً جزئية، كما أن غالبيتها _ إذا لم نقل كلها _ لم توفق في النجاح بسبب سطحية الأفكار التي تستند عليها، وهذا بخلاف ثورة الشعب المسلم في إيران التي عبرت عن إجماع شعبي على الثورة. وكانت بهذا فاتحة عصر جديد هو عصر الجماهير المظلومة عصر القرار والفعل الجماهيري بعد أن كانت الثورة قرار الفئة واختيار النخبة المثقفة. وكانت بذلك القدوة لنمط سياسي جديد يجعل المعارضة من حق الشعب على ضوء قرارات القيادة الشرعية التي يختارها. وكان هذا الدرس الثاني.. .
- وأهم ما في الثورة أنها اعتمدت الإسلام كسلاح حضاري وكنظام سياسي تسعى الثورة لتطبيقه في واقع الحياة، هذا في وقت كانت الأمة تعيش حالة شك بقدرة الإسلام على قيادة الحياة، وتنظيم شؤون المجتمع وفقاً لتصوراته عن العدالة والحرية، وذلك بفعل التيارات الثقافية والأحزاب السياسية التي انتشرت في العالم الإسلامي والقائمة على فكرة فصل الدين عن السياسة.
- لقد برهنت الثورة أن قوة النظام لا تنفع في قمع الجماهير ومنعها عن تحقيق أهدافها، إذ الجميع يعرف أن الشاه شيد نظامه على قوة الإرهاب الدموي بالاعتماد على جهاز الأمن (السافاك) وعلى قوة الجيش الموالي للتاج الملكي، وعلى قوة الدعم الخارجي المتمثل في صفقات الأسلحة الأمريكية وجيوش المستشارين الأجانب في جميع فروع وقطاعات الاقتصاد والإدارة والجيش. ومع كل ذلك فإن نظام الشاه تهاوى تحت صرخات (اللهاكبر _ خميني قائد) التي انطلقت من أعماق الملايين من أبناء الشعب الإيراني الثائر. وبهذا أعطت الثورة درساً عظيماً مفاده أن قوة الجماهير فوق كل قوة، وأن إرادة الجماهير تغلب إرادة الطغاة.. وكان هذا الدرس الرابع.
وكنتيجة طبيعية للانتصار الرائع الذي حققته الثورة الإسلامية في إيران، بدأت الشعوب الإسلامية وبشكل خاص الشعب العراقي تتفاعل مع معطيات الثورة الإسلامية لأنها حققت الحلم والأمل الذي راود جميع الشعوب الإسلامية، ولأنها ربطت بين الدين والسياسة، فجمعت بين الدنيا والآخرة.
بيد أن الشعب العراقي فرح لانتصار الثورة كفرحة الشعب الإيراني بسقوط الشاه وقيام النظام الإسلامي، فهو شريك له في فرحته، فيوم الانتصار كان يوم عيد للشعب العراقي كما هو في إيران، فقد وزع العراقيون الحلوى، وبارك بعضهم البعض هذا الانتصار.. . أما الإمام الصدر! فلقد أعلن يوم الانتصار عطلة رسمية بعد أن علق بكلمة رائعة على هذا الانتصار العظيم الذي حققته الجماهير الإسلامية بقيادة المرجعية الحكيمة حيث قال: (لقد تحققت الآن أهداف الأنبياء).
وإذا كان اتجاه القيادة في العراق واتجاه الشعب العراقي نحو الثورة اتجاهاً أخوياً عميقاً، فإن اتجاه النظام البعثي كان على النقيض من ذلك تماماً. فقد وزع عشية الانتصار بياناً حزبياً على قواعده جاء فيه: (أن الثورة الإيرانية ثورة فوضوية وإنها ناشئة من ردة فعل شخصية للسيد الخميني كنتيجة لمقتل السيد مصطفى الخميني.. وبالتالي فهي ليست ثورة تحمل أهدافاً سياسية ولا تطرح برنامجاً للتغيير السياسي والاقتصادي)، ولم يعترف حزب البعث بنظام الثورة الوليد إلا بعد أن اعترفت كل دول العالم بالثورة، وبعد أن تأكد له أن عدم الاعتراف بالنظام الإسلامي الجديد بمثابة إعلان حرب ضد الثورة، وهو كان كذلك! إذ لم يكتف حزب البعث بذلك المنشور السري الذي وزعه على قواعده بل قام بعدة إجراءات كان اتجاهها العام هو تحجيم آثار الثورة على الساحة العراقية، وتلك الإجراءات هي:
- قمع التظاهرات الشعبية المؤيدة للثورة التي انطلقت من مسجد الخضراء في النجف الأشرف وقد حملت صورة الإمام الخميني! حيث لم يقطع المتظاهرون إلا بضعة مئات الأمتار من شارع الإمام الصادق% وإذا بها تفاجئ بقوات البعث تحاصرها من الأمام ومن الخلف واقتادت الكثير من أبناء الحوزة من تلاميذ الإمام الشهيد إلى السجن، وفرقت التظاهرة بالقوة.
- ساق حزب البعث الآلاف من العمال العراقيين إلى ملعب الشعب الدولي، لتسمع من أحد القيادات الحزبية شريطاً من الكلمات البذيئة ضد الثورة الإسلامية في إيران، كما استدعى أحد عملائه من خوزستان وراح يتحدث عن مظلومية الشعب الخوزستاني في ظل الثورة الإسلامية مع أن الثورة بعد لم تقطع الشهر الأول من عمرها!!
- دعم المناوئين للثورة من الأحزاب السياسية في منطقة كردستان، وتزويدهم بالسلاح لمحاربة الثورة، ولولا حرص الإمام القائد على تصفية هذا الخطر عبر أوامره الصريحة للجيش الإسلامي بضرورة حسم ذلك التمرد.. لكان من الممكن أن يظل ذاك الخطر نزيفاً دموياً مستمراً في جسد الثورة.
- دفع الكثير من العملاء البعثيين إلى داخل خوزستان، وإغراء بعض البسطاء والسذج بالعمل لحسابه الخاص، وقد لعبت القنصلية العراقية في (خرمشهر) دوراً كبيراً في ذلك العمل العدائي ضد الثورة.. حسب ما كشفته الوثائق الخاصة بالقنصلية بعد وضع اليد عليها من قبل أنصار الثورة.
- إغماض نظر الصحافة البعثية عن منجزات الثورة، وتضخم الأخطاء وإبراز أحداث كاذبة لتشويه صورتها في نظر الشعب العراقي.
وكل ذلك كان قبل إعلان الحرب واحتلال الجيش البعثي لكثير من المدن الإيرانية بما فيها خرمشهر وسربلذهاب وغيرها من المدن الإيرانية. هذه بعبارة موجزة مواقف نظام بغداد، وتلك كانت مواقف القيادة المرجعية المتمثلة بالإمام الصدر ومواقف الشعب المسلم في العراق.
ولنرى الآن ما هي الدوافع الكامنة خلف مواقف نظام بغداد ضد الثورة الإسلامية، ومنذ اليوم الأول لانتصارها حين كان قائد الثورة الإمام الخميني يقود الثورة من النجف الأشرف حيث أرسلت له السلطات البعثية عزت الدوري وأبلغته وجوب مغادرة العراق؟
إن أسباب مواقف نظام بغداد وإجراءاته التعسفية تلك تكمن في الخوف من امتدادات الثورة وانعكاساتها، وتأثيراتها في الساحة العراقية التي ظهرت مباشرة بعد الانتصار بل قبل الانتصار حتى من قبل بعض الحزبيين المحسوبين على النظام وقد صدرت منشورات حزبية سرية تندد بهذه الفئة من الحزبيين الذين أيدوا الثورة، وإذا كان هذا موقف بعض الحزبيين فكيف الحال بالرساليين العراقيين؟
وفي الواقع أن لذلك الخوف مبررات موضوعية وذلك لوجود علاقات وروابط عديدة وعميقة بين الشعبين المسلمين الجارين الإيراني والعراقي بحيث تجعل التطورات التي تحدث في ساحة أحد البلدين ذات انعكاسات مباشرة على ساحة البلد الآخر ولنعرف الآن بعضاً من هذه الروابط والصلات:
وحدة الانتماء الديني
إن من أهم الروابط التي تجمع بين الشعوب والأمم هي وحدة الانتماء العقائدي والمذهبي. وهذه الميزة موجودة بين الشعبين المسلمين العراقي والإيراني، إذ أن غالبية الشعبين يعتقدون بالإسلام وبمذهب أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.. ووحدة الانتماء هذه تعكس بحسب الحقيقة وحدة الثقافة، ووحدة التفكير وبالتالي، وحدة الهدف. وهذه الوحدة في المشاعر والثقافة والقانون توفر الانسجام والتعاون بين الشعبين، وإضافة إلى وحدة الانتماء هناك التداخل التاريخي والسياسي بين البلدين الجارين.
وحدة القيادة
قبل الثورة وعلى مستوى الأنظمة السياسية الحاكمة يوجد اختلاف بين النظامين الحاكمين في العراق وإيران في المسار السياسي الرسمي وإلى جانب ذلك توجد حقيقة سياسية مهمة هي أن قيادة الشعبين المسلمين تمثلت في القيادة المرجعية الواحدة.
ووحدة القيادة لم تكن فكرة يعتقد فيها أبناء الشعبين فحسب، بل كانت قيادة فعلية تمارس وظيفتها الشرعية تجاه الشعبين، فقائد ثورة التنباك مثلاً السيد محمدحسن الشيرازي قاد ثورته ضد الوجود البريطاني في إيران من أرض العراق، وقائد ثورة العشرين العراقية مرجع إيراني، ولأن الشعب العراقي يعتقد بقيادته الشرعية المتمثلة بالمرجعية فلا يرد بذهنه إشكالات الانتماء القومي بل ينطلق من إيمانه بأحقية القيادة المرجعية مهما يكن انتسابها القومي بقيادة المجتمع، ولعل المذهب الشيعي هو المذهب الوحيد الذي قدم تجارب سياسية ملموسة على إمكان تجاوز اشكالات القومية في عملية القيادة. ولهذا كله نجد أن العراقيين يلتزمون بقيادة الفقيه سواء كان إيرانياً كمحمد تقي الشيرازي أو تركياً أو عراقياً كما هو الحال في قيادة الإمام محسن الحكيم والإمام الصدر، كما أن الإيرانيين لا يجدون حرجاً في الالتزام بالقيادة المرجعية التي تسكن العراق وتمارس عملها من أرض العراق مثلاً كما هو الحال في السيد محمدحسن الشيرازي قائد ثورة التنباك، كما أنهم يلتزمون بفتاوى المرجع العراقي كما هو الحال في مرجعية السيد الحكيم ومرجعية السيد الصدر. وبعبارة مختصرة إن القيادة المرجعية للشعبين العراقي والإيراني تخترق الإشكالات القومية وتتجاوز العراقيل السياسية المصطنعة لتمارس قيادتها الفعلية. إن الشعبين المسلمين يملكان تجارب قيادية متبادلة ومشتركة جعلتهم واقعاً شعباً واحداً في تكوينه الثقافي وفي تفاعله مع القيادة المرجعية.
الاتصال الجغرافي
والشيء الآخر الذي عمق وحدة الشعبين هو الاتصال الجغرافي ووحدة الموقع، فإيران تشاطر العراق في حدود طويلة ابتداءً من أقصى نقطة في الشمال وانتهاءً بأقصى نقطة في الجنوب وهذا الاتصال يجعل المسالك مفتوحة أمام أبناء الشعبين للاتصال بأبناء الشعب الآخر، ويفتح أبواب البلدين أمام أي حدث يقع في أحدهما.[34]
التداخل الشعبي
رغم أن مسار النظامين الحاكمين في بغداد وطهران (أيام الشاه) تجاه بعضهما البعض كان عدائياً، فإن العلاقات بين الشعبين أخذت مساراً آخر هو الانفتاح والتداخل والتعاون فعشائر الجنوب _ مثلاً _ لها امتداد في عشائر خوزستان وعرب الجنوب العراقيين يتعاملون مع جنوب إيران كما يتعاملون مع أهل بغداد، وكذلك الحال في الشمال الإيراني والعراقي وأكرادهما التي تجمعها روابط عديدة، ونتيجة لوحدة القيادة ووحدة المذهب نجد الإيرانيين ينزحون إلى العراق ويسكنون في كربلاء والنجف وبغداد وذلك لوحدة المناخ الثقافي والاجتماعي.. فلا يشعرون بغربة _ بل بالعكس إذ يجدون في أرض العراق الجو المشبع بمعالم المذهب ومشاهد قادة أهل البيت(. هذه معالم الوحدة والاشتراك التي جمعت بين الشعبين المسلمين العراقي والإيراني وهذا بالذات سبب خوف نظام بغداد من الثورة الإسلامية المنتصرة، فالنظام يدرك حقيقة الوحدة بين الشعبين وحجم التداخل بينهما، وثمة شيء آخر يضاف إلى تلك العوامل هو اختيار الإمام الخميني النجف الأشرف وطناً يعيش فيه إبان إبعاده عن إيران، أقول كل هذه الأمور دفعت نظام بغداد إلى الإعلان عن امتعاضه لانتصار الثورة، ومن ثم القيام بالأعمال العدائية ضد الثورة، وأخيراً إعلان الحرب ضدها بدعم أمريكا ودول الخليج.
في ضوء هذه العلاقات المتميزة بين الشعبين العراقي والإيراني، وفي ضوء عطاءات الثورة.. يمكن أن نلمح مواقف الإمام الصدر من الثورة الإسلامية في إيران ومن نظام الحكم في العراق، إن هذه المواقف والنشاطات متصلة ومترابطة زماناً ومكاناً.. بيد إننا آثرنا دراستها كلاً على حدة لتوضيح أبعاد وجوانب كل موقف منفصلاً.
وسوف ندرس كل ذلك ضمن المحطات التالية:
المحطة الأولى: مواقف الإمام الصدر من الثورة الإسلامية في إيران
إن انتصار الثورة عمق ثقة الإمام الصدر بقدرة الإسلام والقيادة المرجعية على تحقيق الانتصار، وأعلن موقفه المؤيد للثورة إن هناك نقطة مهمة نلمسها في مواقفه في هذه الفترة وهي تأكيده الشديد على قيادة الإمام الخميني وعلى مسألة ذوبان القيادات الدينية في إطار مرجعية السيد الإمام، فرغم أن نفوذه المرجعي اتسع في عام 1979م على الساحة العراقية واللبنانية وأحرز القيادة المرجعية فيها مع كل ذلك فهو دعا إلى مرجعية الإمام الخميني فقد كتب يقول:
ويجب أن يكون واضحاً أيضاً: أن مرجعية السيد الخميني التي جسدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفاف حولها، والإخلاص لها وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعية الصالحة شخصاً وإنما هي هدف وطريق، وكل مرجعية حققت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص، والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أن يضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعية الرشيدة القائدة.[35]
وكتب يقول:
إن هذا الإمام المجاهد الذي رفع هذه الراية واستطاع أن يحقق لها النصر هو صاحب الكلمة العليا وسيد الموقف بشأنها وكلنا ثقة بأن نجاحه العظيم في تجسيدها وتطبيقها سوف لن يقل روعة عن جهاده العظيم في نسف الطاغوت وإخراج إيران من ظلمات الطغيان.[36]
إن هذا الموقف الذي اتخذه الإمام الصدر! الذي يعبر عن مدى إخلاصه لرسالته ليس جديداً، ففي الفترة الأولى شاهدناه كيف عمل على دعم مرجعية الإمام الحكيم! وبعد وفاة الأخير وقف خلف مرجعية الإمام الخوئي ثم تولى شخصياً قيادة الجماهير، فهذا الموقف للشهيد الصدر من الإمام الخميني لم يكن سلوكاً جديداً ينهجه الشهيد بل كان امتداداً لذلك النهج، ففي أول تجربة لقيادة الإمام الصدر وإذا به يوظف كل ذلك لدعم التجربة الوليدة بقيادة الإمام الخميني!.
وهذا هو الاختبار الصعب.. فهو اختبار لصدق الشعارات، وهو بحق اختبار صعب لا يجتازه إلا من ملأ الأيمان وجدانه وخاض تجارب عديدة سابقة تنازل فيها عن مصالحه من أجل الرسالة. وكان الإمام الصدر بمستوى هذه التجربة فهو بحق كان يقول في (26/2/1389ق) في جمع من تلاميذه:
هذا الإسلام نحن مدينون له بوجودنا، مدينون له بأموالنا، مدينون له بكرامتنا، بعزتنا، بكل ما نملك من اعتبار، هذا الإسلام إذا كلفنا أن نقيم على الضيم أسبوعاً، أو أسبوعين، شهر أو شهرين، أن نتحمل الأذى في سبيل الله، أن نصمد أن نصبر في سبيل أن لا يتفتت في سبيل أن يواصل وجوده حتى تنكشف هذه الأزمة عن الإسلام والمسلمين.. إذ كلفنا ذلك فليس هذا التكليف بالنسبة إلينا تكليفاً غير طبيعي لأنه هو المحسن الذي كان دائماً يقدم ونحن نأخذ، الذي كان دائماً يتفضل ونحن نستفيد الذي كان دائماً يسدد ونحن نتمتع بكل ما يقدم لنا من خيرات ومكاسب وجاه عريض. ما هو جاهنا؟ ما هو اعتبارنا؟ لولا الإسلام! بم نصول بم نجول؟ إلا بالإسلام! بم عشنا طيلة هذه المدة؟ بم استقطبنا من استقطبنا من قلوب المؤمنين؟ أي واحد منكم لا ينفذ إلى قلب شخص إلا عن طريق الإسلام؟ كل من تجدونه يقدركم إنما يقدركم على أساس الإسلام، فلا تبيعوا الإسلام بثمن رخيص.. لا يوجد هناك مبرر لمثل هذا الانسحاب إلا ذلك الشعور الضيق.. . اللهم املأ قلوبنا إيماناً.. اللهم اجعلنا على مستوى المسؤولية.. اللهم امددنا بإمداد منك..[37]
فلقد انطلقت هذه الكلمات من فمه.. وامتحنه الله بها أكثر من مرة.. ونجح وكان نجاحه في إعلانه الولاء لمرجعية الإمام الخميني يفوق الحسابات والتقادير.
ولم يكتف الإمام الشهيد! بالتأييد القولي للثورة، بل وضع فكره _ وهو فكر الثورة _ في خدمة الثورة، حيث كتب مجموعة اقتراحات أساسية حول أسس الجمهورية الإسلامية وموقع الإمام والشعب والعلاقة بين السلطات الثلاث، وهذه الأسس والاقتراحات أخذت طريقها إلى دستور الجمهورية الإسلامية، وصارت بنوداً قانونية في أول دستور للحكم الإسلامي.. فالإمام الصدر كان الغائب الحاضر في عملية تدوين (الدستور الإسلامي) للجمهورية الإسلامية الفتية.
ولأن فكر الشهيد فكر الثورة، فهو يعرف قيادات الثورة في إيران، ويؤمن بضرورة تعميق الثقافة الإسلامية.. لهذا قال لأحد تلامذته الذين جاءوا لوداعه للسفر إلى إيران: (انشروا فكر الشيخ المطهري).
وحين بدأ النظام البعثي يحرض بعض عملائه في خوزستان على العمل التخريبي داخل إيران، وينشر الأكاذيب والتهم الباطلة ضد الثورة وموقفها من عرب خوزستان وقف الإمام الصدر، وهو العربي الذي ينتمي لبلد مجاور لإيران ضد تلك التهم، ودعا العرب الخوزستانيين للتلاحم مع الثورة وكشف النشاطات البعثية المخربة التي تهدف زعزعة استقرار الثورة. وهكذا كان يتفاعل مع أحداث الثورة بعمق.. . وذهب إلى أكثر من ذلك حيث أعلن استعداده للذهاب إلى إيران ليكون قريباً من هذه الثورة يخدمها بما يستطيع ويضع طاقاته الجبارة في خدمة أهدافها بيد أن الإمام الخميني! كان يريده في العراق ليكون مفجراً للثورة، وشاهداً على الرسالة، فدعاه إلى البقاء في النجف الأشرف ليؤدي دوره الذي كتب الله له.
المحطة الثانية: خطوات العمل
إن الثورة الإسلامية في إيران وعلى ضوء تلك المعطيات والعلاقات فرضت واقعاً جديداً في الساحة العراقية يتجه نحو التفاعل مع الثورة والتحرك ضد النظام.
بيد أن الإمام الصدر وهو بعد لا يزال في السنين الأولى من مرجعيته بحاجة إلى قاعدة شعبية على مستوى العمل والتفاعل مع قرار المواجهة يعتمد عليها ويخوض معركته ضد النظام، فصحيح أن فكره خلق أجيالاً من الرساليين من شباب العراق، بيد أن هذا وحده لا يكفي حين يكون الأمر متعلقاً بخوض مواجهة مصيرية ضد نظام دموي لا يتورع عن ارتكاب أية جريمة لحماية نظامه، بل لابد من حركة عملية لهذه الجماهير، تكشف فيها عن مدى ولائها للقيادة الرسالية.. . وهكذا كان فما أن شعرت الجماهير العراقية أن الإمام الصدر بحاجة إلى هذه المبادرة حتى انطلقت من أغلب مناطق العراق على شكل وفود باتجاه النجف الأشرف إلى بيته لتعبر عن ولائها للقيادة المرجعية وعن استعدادها التام لحمايتها، والتفاعل معها في قراراتها وهكذا ظل الإمام الصدر الوقت الطويل يستقبل الوفود، ويلقي فيهم الكلمات المعبرة عن موقفه الواضح من النظام ويؤكد على ضرورة منح الشعب حقوقه الأساسية. وإذا كانت المواجهة بين النظام وبين الإمام الصدر لم تصل إلى نقطة الحسم على مستوى الموقف قبل انتصار الثورة، فإنه بعد انتصار الثورة، وبعد حركة الجماهير الواسعة باتجاه تطبيق أحكام الإسلام لم يبق خيار آخر غير المواجهة مع النظام والمطالبة بحقوق الشعب الكاملة.
ولكن ما هي خطوات العمل؟
قام الإمام الصدر بالخطوات التالية:
أولاً: إرسال الوكلاء إلى المناطق المختلفة
إن قيادة الشعب لا تتم دون جهاز مرجعي متكامل يشكل القناة بين القيادة المرجعية وبين فئات الشعب، وينقل أفكار ومواقف المرجعية إلى الشعب، ومن ثم يوجه الحركات والأعمال الرسالية وفق المخطط العام الذي ترسمه القيادة. بيد أن المشكلة تكمن في قلة وكلاء الإمام الصدر بالشكل الذي لا تتيح تغطية كاملة لاستيعاب المد الجماهيري، فلابد من تكثيف وجود العلماء في المناطق إذا ما أريد للثورة مشاركة شعبية وتوجيه صحيح ينطلق من القائد ليصل إلى الجماهير من خلال الجهاز القيادي، ولذلك قرر إرسال طلابه إلى مناطق مختلفة في العراق بعد انتصار الثورة لتوجيه الجماهير، ونقل القرارات، ومواقف القيادة المرجعية إليها.
ولكي يكون التحرك الإسلامي ناجحاً لابد من مشاركة أبناء الشعب في الخارج وذلك لأن الكثير من العلماء والسياسيين الإسلاميين كانوا خارج العراق، من هنا لابد من توجيه هذه المعارضة بصورة صحيحة تأخذ الظروف المستحدثة بنظر الاعتبار. إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وفر للشعب العراقي وسائل للتحرك والدعم العسكري والإعلامي.. . من هنا قرر الإمام الصدر إرسال آية الله السيد محمود الهاشمي ليمثله في جولة واسعة النطاق شملت بعض الدول الإسلامية والأوروبية وإيران حيث قابل الإمام الخميني! ونقل له رسالة السيد الصدر.
ثانياً: العطاء الثقافي والتربوي مرة أخرى
لقد أدرك الإمام الصدر ومنذ الخمسينات أن جوهر المشكلة الاجتماعية تكمن في عدم وجود ثقافة إسلامية معاصرة يفهمها ويتعامل معها المجتمع.. لذلك كتب سلسلة دراسات لكشف الفكر الإسلامي حيث شكل هذا العمل خطوة عريضة في مجال فهم الإسلام، والالتزام به كنظام للمجتمع ونظام للفرد. وبعد انتصار الثورة بدأ بإلقاء سلسلة (دروس التفسير) حيث خصص لها عدة أيام من الأسبوع وكان يحضر إلى هذا الدرس علماء وطلبة الحوزة، وبأعداد كبيرة رغم أن الحضور اقتصر على علماء وطلبة الحوزة فقط. وشكلت هذه الدروس بحوث مفصلة لسنن التاريخ في القرآن الكريم وكان الإمام الشهيد يركز فيها على الأفكار التالية:
- سنن التاريخ وضرورة معرفتها والتعامل مع الواقع على أساسها.
- دور الإنسان الإيجابي في حركة التاريخ الذي يتجلى في مسؤوليته المباشرة عن عملية التغيير.
- إلقاء الضوء على ضرورة القيم، والمثل العليا في حركة التغيير.
- شروط الحركة التغيرية الناجحة.
- ممارسات الأنظمة الطاغوتية الفرعونية ونشاطها في تقسيم المجتمعات إلى طبقات وشرائح يأكل بعضها البعض الآخر.
- عناصر المجتمع من وجهة نظر إسلامية.
هذه أهم الأفكار التي طرحها في محاضراته في التاريخ. وهي تشكل خطوة في بناء صرح الفكر الإسلامي الذي بدأه في الخمسينات، وهي من جهة أخرى تمثل بيانات ضرورية لمواجهة النظام الحاكم. وقد استهدف من هذه الدراسة تنشيط حركة الثقافة داخل الحوزة لمواجهة متطلبات المرحلة.. وفعلاً قد باشر تلامذته تدريس علوم العقائد والأخلاق، وفي ذات الوقت الذي كان يعطي دروسه التفسيرية _ السياسية لعلماء الحوزة كما استهدف أيضاً تزويد الشباب الجامعيين والمثقفين بشكل عام بدفعة جديدة من الوعي الرسالي إضافة إلى ما قدمه لهم سابقاً من عطاء في هذا الميدان. وقد شكل هذا الدرس لوناً من ألوان التحدي للنظام إذ يحتشد في الساعة التاسعة صباح كل ثلاثاء وأربعاء المئات من الطلبة، وهم يتلقون دروساً جديدة.. وعلى يد مرجع من مراجع الدين والعلم. إنه درس سياسي في ثياب التاريخ.. ودرس في اليقظة في لغة القرآن.
ثالثاً: الفتاوى الرسالية
وثمة معركة أخرى خاضها الإمام الصدر ضد النظام تمثلت في فتاواه الخاصة بـ:
- حرمة الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق.
- حرمة دخول الطالبات إلى الجامعات بدون حجاب إسلامي.
- وجوب العمل المسلح ضد النظام.
ففي ضوء هذه الفتاوى بادرت جماهير الشعب إلى تحديد موقفها من النظام، واقتنعت بضرورة ممارسة موقفها الرسالي بعيداً عن التقية السائدة آنذاك كمفهوم يمنع المواجهة ولا يحبذها.
رابعاً: قيادة التحرك الإسلامي بعد الحجز
من خلال استمرار الإمام الصدر بتحركه ونشاطه الإسلامي تبين للنظام الحاكم أنه عازم على دفع التحرك الإسلامي حتى نهايته، فحاول _ في البداية _ استدراجه ببعض الكلمات المزيفة ليتخذ موقفاً سلبياً من قيادة الإمام الخميني! وثورة الإسلام في إيران، ولكنه رفض ذلك، وبكل شدة، بل راح يعزز حركة الجماهير، ويرفدها بالعلماء الأخيار من طلبة الحوزة ويكشف بخطاباته وأقواله الواقع الأليم الذي يعيشه الشعب العراقي، وضرورة السعي لوضع حد له. كانت السلطة تخاف المرجعية، وتخاف غضبة الجماهير التي لمستها جيداً بعد اعتقال الإمام الصدر في رجب عام 1399ق.. . لهذا قررت القضاء عليه وفق سياسة (الخطوة خطوة) حيث فرضت عليه الحجز مدة تسعة أشهر تقريباً ومنعت جميع الاتصالات عنه، وذلك كمقدمة للفصل بينه وبين الجماهير، وهكذا جرت الأمور حيث حرمت الجماهير من الاتصال المباشر به، بيد أن هذا الحصار لم يمنع الإمام الشهيد من قيادة حركة الجماهير في الخارج إذ كان أحد تلاميذه يتصل به باستمرار وينقل له أخبار الثورة، ويضع بين يديه منشوراتها، وكان بدوره يصدر أوامره وتوجيهاته إليها وهذا الأمر أربك السلطة… إذ كيف يستطيع الإمام الصدر قيادة الحركة الشعبية، وهو محاصر من قبل رجال الأمن والاستخبارات.
المحطة الثالثة: انتفاضة رجب، الدلالات، والأهداف
كل الدلالات كانت تشير إلى الموقف الإيجابي للشعب العراقي من الثورة الاسلامية في إيران، وقد عبر عن موقفه هذا بالتظاهرات المؤيدة للثورة، ولكن سرعان ما تكشفت نوايا النظام من ثورة إيران ومن حركة الشعب العراقي.. حيث راح يحبس الأنفاس ويغلق الآذان ويقطع الرؤوس!
ولم تتحدد ممارسات السلطة العدائية ضد حرية الشعب في التعبير عن فرحته بانتصار الثورة عند هذا الحد، بل اعتقل العديد من العلماء العاملين، ومن الشباب المسلم. فقررت الجماهير العراقية التعبير عن استيائها، وتمردها على هذا النظام المتسلط الذي يحرمها أبسط حقوقها المشروعة، فقامت بتظاهرات واسعة في شهر رجب عام 1399ق حيث خرجت فيها الجماهير في مدينة الكاظمية والثورة وسائر المدن العراقية في انتفاضة عارمة وكانت على أشدها في مدينة الثورة حيث وقعت عدة اصطدامات بين قوات الجيش البعثي وأبناء الشعب الثائر.. وقرر النظام حشد قواته العامة داخل المدينة، والسيطرة عليها بقوة الرشاشات.. وهكذا استطاع النظام بقوة الرصاص والدبابات إخماد الانتفاضة.. . ولكنها بعد أن كشفت عن الموقف الحقيقي للعراقيين من الثورة الإسلامية ومن القيادة المرجعية.
هذه حال مدينة بغداد وضواحيها، أما مدينة النجف فإن التظاهرات أخذت بعداً آخر تجسد فيه تفاعل الشعب العراقي مع قيادة الإمام الصدر حيث انطلقت الوفود من مدينة العمارة والبصرة والناصرية والديوانية وديالى وكركوك وكربلاء والسماوة ومختلف مناطق العراق صوب النجف الأشرف لتبايع الإمام الصدر وتعاهده على المضي في الدرب الجهادي الذي سلكه.
المحطة الرابعة: النظام.. والقمع الدموي
لقد حدد النظام البعثي مركز الخطر على نظامه في شخصية الإمام الصدر كقيادة ثورية لحركة الجماهير، وفي وكلاءه وجهازه وفي الشباب العراقي المجاهد الذي وجد في شخصية السيد الشهيد قائداً رسالياً في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الثورة الإسلامية. وعلى ضوء ذلك قام بما يلي:
أولاً: إلقاء القبض على وكلاء السيد الشهيد وزجهم في غياهب السجون لينفذ بهم حكم الإعدام بعد ذلك ومن هؤلاء الشهداء:
- السيد قاسم شبر.
- السيد حسين السيد هادي الصدر.
- السيد قاسم المبرقع.
- السيد محمد حسين المبرقع.
- الشيخ عبدالجليل مال الله.
- الشيخ محمد علي الجابري.
- السيد عباس الشوكي.
- الشيخ سامي طاهر.
- الشيخ قاسم ضيف.
- الشيخ عبدالجبار البصري.
- الشيخ مهدي السماوي.
- السيد عبدالرحيم الياسري.
- الشيخ خزعل السوداني.
- الشيخ عبدالأمير محسن الساعدي.
- الشيخ عزالدين الخطيب.[38]
وغيرهم من الوكلاء في مختلف المناطق، كما شمل الاعتقال العلماء من غير وكلاء السيد الشهيد، ممن ساهم في انتفاضة رجب.
واستمرت حملات الاعتقال في صفوف الشعب العراقي بصورة وحشية وقاسية.
ثانياً: عمليات مهاجمة الشباب المؤمن وقتل المجاهدين منهم كما حدث في منطقة الزعفرانية وغيرها من مناطق بغداد وفي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة.
ثالثاً: إعلان حالة استنفار قصوى في صفوف قوات ما يسمى بالجيش الشعبي لمواجهة الحالة الجديدة التي برزت في العراق كنتيجة طبيعية لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، ولقيادة الإمام الصدر الثورية.
رابعاً: محاصرة السيد الشهيد في منزله وعدم السماح له بالخروج من البيت، وهذه الخطوة تهدف ما يلي:
أ. معرفة حجم قواعد الشهيد ومدى ولائها لقيادته وذلك من خلال رد الفعل الذي تقوم به الجماهير تجاه هذه الخطوة. ولم يتأخر موقف الجماهير طويلاً إذ سرعان ما شق الصمت مجموعة من أبناء العراق حيث هجمت على الفئة المكلفة بمحاصرة منزل الإمام الصدر ورغم أن المعركة لم تدم طويلاً، ولكنها كشفت عن أن الجماهير لا يمكن أن تتخلى عن قيادتها، ومرجعها المظلوم.
ب. فك ارتباطه بوكلائه الذين بثهم في مدن العراق إذ بعد هذا الحصار لم يعد بإمكان اولئك الاتصال به وتلقي التوجيهات منه، ثم إنهم يعرفون أن خط تلفون السيد الشهيد تحت المراقبة فلا يستطيعون الاتصال به ومكاشفته بالقضايا المطروحة.
المحطة الخامسة: قصة الشهادة
رغم أن النظام الحاكم كان يسعى للقضاء على الإمام الصدر وقد حاول ذلك سابقاً، ولكن لم يستطع ذلك خوفاً من ردود الفعل التي تظهر عقيب أي اعتداء يتعرض له من قبل السلطة. وفي فترة الحصار حاول النظام فرض سياسته على الإمام الصدر، فذهب المدعو عيسى الخاقاني ممثلاً عن قيادة النظام وحاول ذلك الشيخ العميل استدراج السيد الشهيد لتغيير مواقفه من الثورة الإسلامية وتقديم مرجعيته بوصفها مرجعية العرب في مقابل مرجعية الإمام الخميني والتركيز على الطابع العربي(!!) في الحوزة بيد أن الإمام الشهيد رفض كل تلك المطاليب، ولكن الشيخ العميل ذهب ليعود مرة أخرى حاملاً مشروعاً جديداً قدمه للسيد الشهيد وهو ينص على وجوب قبوله بأحد الشروط الخمسة التالية:
- نقد الثورة الإسلامية في إيران والتعريض بشخص الإمام الخميني.
- تحريم الانتماء لحزب الدعوة الإسلامي.
- إلغاء فتواه السابقة بحرمة الانتماء لحزب البعث.
- تأييد مواقف الحزب والدولة.
- إجراء مقابلة مع صحيفة أجنبية.
وإن لم يوافق على أحد هذه الشروط فإن حكم الإعدام الخيار الأخير الذي سيمارسه النظام بحقه ولم يتردد الإمام الصدر في اختيار موقفه، فرفض تلك الشروط جميعاً، وقال للشيخ العميل اذهب إلى صدام وقل له أن السيد محمدباقر الصدر ينتظر تنفيذ وعده!!
وفي الواقع أن قرار الشهادة ليس موقفاً جديداً اختاره الإمام الصدر فهو يبحث عن الشهادة منذ زمن بعيد لأنه كان يؤمن بأن الفكر والثقافة لا يمكن أن تهز المجتمع العراقي الذي تشوشت عليه الرؤية بل لابد من أن تراق الدماء لايقاظه، وقد حاول عدة مرات وقبل الثورة الإقدام على عمل ثوري من أجل تنبيه الشعب على حجم المأساة، ولكن لعدم قطعه بترتب تلك النتائج التي يريدها، ولضعف الأجواء في استيعاب مثل تلك الخطوات تراجع عن ذلك لا خوفاً على نفسه بل خوفاً على الساحة وخوفاً على الجماهير أن لاتستثمر عطاءه.. فهذه هي الشهادة.. تأتيه إلى بيته.. بل كان الإمام الصدر الشهيد يرى أطياف الشهادة قبل ذلك. فقد كتب داعياً الله تعالى وهو يؤبن أحد تلاميذه:
أتوسل إليك يا ربي بعد حمدك في كل يسر وعسر أن تتلقاه بعظيم لطفك وتحشره مع الصديقين من عبادك الصالحين وحسن أولئك رفيقاً وأن لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد أن حرمت من ذلك في حياته، وأرجو أن لا يكون انتظاري طويلاً للاجتماع به في مستقر رحمتك.[39]
ونتيجة لشعوره باقتراب الشهادة منه، بل تقدمه السريع نحو الشهادة رأى في المنام أخاه السيد إسماعيل وخاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين جالساً كل منهما على كرسي وبينهما كرسي فارغ والملايين من الناس ينتظرون حيث قال بعد هذه الرؤية لتلميذه الشيخ النعماني:
أنا أبشّر نفسي بالشهادة.[40]
ولم تمضِ فترة طويلة حتى جاء مدير أمن النجف ظهراً، ودعا السيد للذهاب معه إلى بغداد، فرفض السيد ذلك إذا كان الذهاب بعنوان زيارة إلا أن مدير أمن النجف قال: (إنه اعتقال). فذهب السيد الشهيد معه، و(بعد يوم من اعتقال الإمام الشهيد! جاء أحد ضباط الأمن إلى بيت السيد وقال: (إن السيد يريد أخته العلوية بنت الهدى) وهذه المرأة المظلومة التي لازالت مواقفها، وبطولاتها، وصمودها، وحياتها الحافلة بالجهاد مجهولة _ ذهبت وكأنها أسد في شجاعتها وثباتها وتماسكها غير مبالية بشيء!!
بعد اعتقال بنت الهدى بيوم جاءوا إلى المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر وكشفوا له عن جثمان السيد الشهيد وتم الدفن بحضوره، وقد شاهد آثار التعذيب في رأسه الشريف، ولم يسمحوا له برؤية بدنه الشريف والله يعلم بما قد فعلوا ببدنه الطاهر).[41]
وكان هذا في ليلة الأربعاء بعد نصف الليل في 23 جمادى الأولى 1400ق، وبهذا يختتم السيد الشهيد حياته المباركة بأفضل ما يتمنى الإنسان المسلم أن تكون: شاهداً على الأمة شهيداً من أجل الرسالة.
فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
[1]. رسالتنا، ص93.
[2]. م. ن، ص41.
[3]. م. ن، ص73_74.
[4]. المحنة، ص45.
[5]. فلسفتنا، ص6.
[6]. رسالتنا، ص79.
[7]. أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص98.
[8]. المحنة، ص84 _ 85.
[9]. م. ن، ص60.
[10]. الحديد: 16.
[11]. رسالتنا، ص14.
[12]. م. ن، ص94.
[13]. مباحث الأصول، القسم الثاني، الجزء الأول، ص162. والجدير بالذكر أن الشيخ النعماني أصدر مذكراته عن السيد الشهيد في عام 1996م بكتاب مستقل يحمل اسم: (سنوات المحنة وأيام الحصار).
[14]. مباحث الأصول، القسم الثاني، الجزء الأول، ص162.
[15]. م. ن.
[16]. المحنة، ص25.
[17]. م. ن، ص25.
[18]. راجع جريدة لواء الصدر، العدد: 331و 332 في مقابلة مع العلامة السيد مرتضى العسكري.
[19]. الجهاد السياسي للإمام الشهيد الصدر، ص19.
[20]. م. ن.
[21]. راجع الجهاد السياسي للإمام الشهيد السيد الصدر، ص21.
[22]. راجع جريدة الشهادة في مقابلة مع السيد مرتضى العسكري، عدد 331، 332.
[23]. الجهاد السياسي للإمام الشهيد الصدر، ص55.
[24]. م. ن، ص47.
[25]. م. ن، ص50.
[26]. مباحث الأصول، للسيد الحائري، ص107.
[27]. مباحث الأصول، للسيد كاظم الحائري، ص92_93.
[28]. م. ن، ص94_95.
[29]. الجهاد السياسي للإمام الشهيد السيد الصدر، ص38_39.
[30]. لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، ص20_21 للسيد الشهيد الصدر.
[31]. الجهاد السياسي، ص101.
[32]. لمحة تمهيدية، ص11.
[33]. من رسالة للإمام الصدر إلى تلاميذه في إيران.
[34]. وللمثال نذكر مثالاً على ذلك في حرب الكويت وحين بدأت أمريكا بقصف المعسكرات والقواعد العراقية نقل النظام العراقي طائراته المدنية والعسكرية إلى إيران رغم أنه بعد لم تجف يداه من دماء الإيرانين الأبرياء.
[35]. مباحث الأصول للسيد كاظم الحائري، ص146.
[36]. لمحة تمهيدية، ص11.
[37]. راجع كراس المحنة، ص48.
[38]. مباحث الأصول، للسيد كاظم الحائري، ص121_122.
[39]. دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، ص6.
[40]. مباحث الأصول، للسيد الحائري، ص164.
[41]. م. ن.