لمحات وذكريات عن حياة الشهيد الصدر

السيد ذي شأن حيدر الجوادي

كيف أكتب عن شخصية قد سبقت الأولين وأعجزت الآخرين، أنّى للزمان أن يأتى بمثله وأنى للدهر أن يخلق عبقرياً كهذا! إنه كان علماً من أعلام الإسلام وبطلاً من أبطال العلم وعبقرياً من عباقرة الفكر، لم يتخصص بعلم دون علم ولم يتمحض في موضوع دون آخر.

وكان) ابناً بارّاً لأستاذه وأباً رؤوفاً لتلاميذه، وكان قائداً محنّكاً لمجتمعه ورائداً مجرّباً لقومه وعشيرته، عاش أقل من نصف قرن ولكنه أعال القرون، وعمل في فترة قصيرة من الزمن ولكنه سبق الأزمان.

إن علمي لا يسمح لي أن أكتب واستعدادي لا يخلّيني أن أسجل، ولكن في القلب شجوناً لابد أن أبوح بها، وفي الفكر ذكريات لابد أن أنقلها إلى أجيال قادمة وأزمان آتية حتى لا أُتّهَم بالخيانة، وإليكم نماذج من حياته الطيبة:

إن هذه الذكريات أكثرها تتعلق بفترة بين الخمس والخمسين والخمس والستين من القرن العشرين، حينما كنت طالباً في الحوزة العلمية النجفية، وقد حضرنا أبحاثه العلمية الأصولية والفقهية وغيرها من الأبحاث المنطقية والفلسفية والتفسيرية والعقائدية إلى خمس سنوات تقريباً.

ومما يسعدنا أن نفتخر به أننا سكنّا في بيته الشريف مدة خمسة أشهر تقريباً، حينما سافر السيد إلى لبنان للزواج الميمون، وقد رتّبنا مكتبته العلمية في هذه الفترة ترتيباً فنّياً استأنس به حينما رجع، وكان يذكر ذلك دائماً لطلابه الجدد حينما كنت أتشرف بخدمته زائراً بعد الفترة الدراسية، وكان يعرّفني لطلابه وتلاميذه بهذه المواصفات: (إن هذا السيد من الرفقاء والأقدمين، وأنا ألقّبه بالفاضل الهندي وإنه قد رتّب هذه المكتبة العلمية ترتيباً فنّياً. وقد ترجم أكثر كتبنا بالأردية ترجمة سريعة، بحيث إني لو كنت أعرف اللغة الأردية وكنت أؤلف في نفس اللغة لما كنت في كتابتي أسرع من ترجمة هذا السيد).

إلى غير ذلك من الكلام الذي يظهر به كرمه وعنايته بطلابه وتلاميذه، خصوصاً تلاميذه غير العرب الذين لا يقدّرهم أكثر الطلاب والأساتيذ في الحوزات العلمية ومع الأسف!

دراسته

قد كان يذكر الشهيد دائماً أن كل أيام دراستي لم تستغرق أكثر من تسع سنوات، وأكثر الكتب الدراسية لم أدرسها عند أي أستاذ، وإنما كنت أطالعها شخصياً، وإذا لم أتحقق معنى أي من العبارات أو مفهوم أي من المعارف فقد كنت أسأل عنها بعض الأساتيذ مثل الأخ العلامة السيد إسماعيل الصدر أو الخال الشيخ مرتضى آل ياسين.

وعلى هذا الأساس لم يكن له أساتيذ كثيرون، ولم يدرس عند كل أستاذ في الحوزة حتى أنه في بحث الخارج أيضاً لم يحضر عند كل المراجع، وإنما كان يفتخر بأستاذه الإمام الخوئي رضوان الله علیه وقد كان يذكر في بعض الأوقات: أني درست أكثر الرسائل والكفاية بالمطالعة، ولم أحضر بحث أي أستاذ حضوراً رسمياً لدراسة هذه الكتب.

وقد كان يؤكد على هذه النكتة أنني لم أقض ولو يوماً واحداً بعد البلوغ بحيث كنت أقلّد أحد المراجع، وإنما منّ عليّ ربي أني بلغت رتبة الاجتهاد ولم أبلغ الحلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

حياته الشخصية

كان من عادته أنه يستقبل كل الوافدين بكل رحابة وسعة القلب، حتى أنه كان يقوم لكل طالبٍ صغيراً كان أو كبيراً، وكان يرحّب به ويقول: يرعاك الله، الله يحفظك وإن كان هذا الأسلوب من الترحيب والقيام كان عسيراً بالنسبة إليه؛ لأنه كان جسيماً لا يسهل لأمثاله القيام بعد كل دقائق.

كانت مطالعاته وكتاباته في أكثر الأوقات بعد صلاة الظهرين والغداء حينما كان ينام أكثر سكّان المدينة وطلاب الحوزة العلمية، وكان) يغتنم الفرصة؛ إذ لم يكن يرد عليه في ذاك الوقت أي واحد من الضيوف أو الطلاب، إلا من كان عنده موعد خاص من الطلاب أو العلماء لبعض المناقشات أو الاستفادات.

والحمد لله إني تشرفت عنده في سرداب بيته مراراً وكراراً في هذه الفترة، خصوصاً أيام تأليف اقتصادنا، لما كان هو يكتب وأنا كنت أبيّض المسودّات، فكانت المراجعات كلها في مثل هذه الأوقات.

حتى أنني لم أحتج يوماً من الأيام إلى الاستئذان، وإنما كنت أدخل البيت وأستفيد منه شخصياً أو مع الجماعة، وأنا أذكر بعض هذه الاستفادات في هذه الفترات.

في إحدى المرات قد زاره أحد علماء الهند وطرح عليه بعض الأسئلة، ومنها مسألة استرقاق الكفار في غير الحرب، إذا فرضنا أن هؤلاء الكفار مثل هذه الأيام كفار حربيون والأيام ليست أيام الهدنة رسمياً. فأجاب رضوان الله علیه: أن هذا لم يمنع منه مانع من ناحية الأدلة، وإنما الفقهاء أفتوا بعدم الجواز فلا أتجاسر عليهم.

ومنها مسألة نجاسة الكفار والمشركين فقال: هذا لم يثبت شرعاً إلا أني لا أستطيع بأن أفتي بخلاف ما أفتى به جلّ الفقهاء أو كلهم.

ومنها: مسألة تخصيص نصف الخمس بالسادة، فكان يقول: إن هذا يحتاج إلى تحليل علمي ومنطقي وإلا فهذا لا ينسجم مع الفكرة الأخلاقية الإسلامية.

مكان التدريس

في البداية هو كان يدرّس في الجامع الهندي في النجف الأشرف حينما كان عنوان البحث كتاب (الكفاية) للشيخ كاظم الخراساني، واستمرّ في ذلك المكان إلى أن بدأ البحث الفقهي فانتقل إلى مقبرة في العمارة جنب بيته المبارك.

وهناك تشرّف في يوم من الأيام باحثٌ ألماني كان يفتّش عن مدارك القانون الإسلامي في مختلف المذاهب الإسلامية، وكان بناؤه أن يقدّم أطروحة الدكتوراه في إحدى الجامعات، وكان يبحث عن رأي الشيعة في القياس، فتكلّم الأستاذ الشهيد بمقدار ساعة وقدّم دلائل محكمة ومتقنة على عدم إمكان القياس في الشرع الإسلامي وسجّل البحث في كتابته كاتبُ هذه السطور، وبعد ذلك طُبع كرسالة مختصرة حول رأي الشيعة في القياس.

وبعد ذلك انتقل إلى مسجد في [عكد الحمير][1] جنب الحرم العلوي الشريف، حيث ازداد عدد الطلاب ورُوّاد العلم والفضيلة وأصبح عددهم أكثر من العشرين، وهذا العدد قلّما كان يحصل للبحث الخارج الذي يلقيه شخصٌ لا يعدّ من المراجع الكبار إلا أن شخصية الشهيد الجامعة لمختلف العلوم والفنون كانت تجلب الطلاب يوماً فيوماً ويزداد عددهم صباحاً ومساءً إلى أن تجاوز هذا العدد مائة من الطلاب، إلا أن هذا التحول نشأ بعدما غادرت النجف الأشرف إلى الهند، وإلا ففي البداية كان العدد يعدّ بالأصابع حينما كان يحضر معنا آية الله السيد كاظم الحائري والسيد الإشكوري والسيد عبد الغني [الأردبيلي] والسيد باقر الحكيم وأمثالهم من جهابذة هذا العصر.

أخلاقه

ذكرنا سابقاً أن شخصية الشهيد كانت تجسيداً للأخلاق النبوية العظيمة، كان يستقبل الوافدين بكل رحابة وسعة، وكان يحترم الطلاب والتلاميذ بحيث إنه كان يخاطبهم بولدي العزيز، كما تشهد بذلك كل تلك الرسائل التي أرسلها إلينا بعد مغادرة النجف الأشرف، حيث إن المراسلات كانت مستمرة بيني وبينه إلى آخر أيام حياته، وقلما توجد رسالة، عند أحد مثلها، كانت عندي إلى أن أخذها أصحاب الشهيد الصدر وفّقهم الله بحفظه وصيانته.

والواجب أن نذكر في هذا المجال شيئاً خارقاً للعادة في الأوساط العلمية، ولا يمكن لنا أن نشكر هذه العواطف الجميلة، وهو أنه بعدما غادرتُ النجف الأشرف في سنة خمس وستين من القرن العشرين انتقل والدي العلامة السيد محمد جواد طاب ثراه إلى جوار الله في الهند وأنا كنت في الهند، إلا أن بعض الأصدقاء أقام مجلس الفاتحة في النجف الأشرف لمدة ثلاثة أيام، وقد شارك فيه السيد الشهيد طاب ثراه لا كالعلماء والمراجع، بل كأعضاء الأسرة، وكان يقوم على باب المدرسة ويستقبل المشاركين والحاضرين نيابة عني. فهل يوجد إنسانٌ مثله يقدّر طلابه وتلاميذه بهذا التقدير، وقد كان يكفي لنا شرفاً حضوره ومشاركته إلا أنه أعطانا هذه الكرامة التي لم نكن نستحقها يوماً من الأيام.

ولا ننسى تلك اللمحات التي كنا نسافر إلى بيت الله الحرام للحج النيابي الذي رتّبه لنا عن طريق أحد مقلديه، وقد حضر هو بنفسه عند السيارة جنب الحرم العلوي الشريف. وقام ينتظر حركة السيارة ولم يتحرك عن مكانه إلى أن تحركت السيارة وودّعنا مع أدعيته الصالحة.

وكذلك لا ننسى ذلك اليوم العسير الذي طرحنا فيه موضوع مغادرة النجف الأشرف إلى الهند؛ بسبب بعض الأوضاع العائلية والاقتصادية، ولم يكن يرضى بهذا الفراق قطعاً. قلنا له: إننا استخرنا الله وخرجت الآية الكريمة <وَ لَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا بِهِ عٰالِمِينَ>[2].

ومع ذلك لم يكن يقتنع بهذه الأشياء إلى أن أصررنا وأكدنا على الموضوع. فقال ما هو يكفي لنا شرفاً إلى يوم القيامة: (لو لم يكن هذا الفراق توسعاً في وجود السيد محمد باقر الصدر لم نكن نتحمل هذا الفراق أبداً، إلا أن الآمال المعقودة عليك بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين تمنعنا أن نحول بينك وبين هذه السفرة).

وهذه الروحية تكشف عنها كثير من الوقائع والأحداث التي جرّبناها خلال هذه الأيام، فيوماً من الأيام كنا مع الأصدقاء في بيته الشريف وانجرّ الكلام إلى رواتب الإمام الخوئي طاب ثراه، فقلنا له: إننا لم نحصل منه على فلس واحد إلى يومنا هذا وإن كنا نحضر في درسه المبارك منذ ثلاث سنوات أو أكثر. فاستغرب السيد الشهيد ذلك، وفي نفس اليوم ذهب إلى بيت الأستاذ الخوئي طاب ثراه وناقش معه حول الموضوع وقال: مع الأسف الشديد أن يُحرم من رواتبكم الشهرية طالبٌ مجدّ في العلم، وهذه هي تقريراته التي تشهد بذلك الجدّ والجهد، ولكنه إنسان قانع غيور، ولذا لم يطلب منكم الرواتب الشهرية.

فاقتنع الأستاذ الخوئي بذلك وأمر بتسجيل اسمي في سجل الطلاب، وأمر السيد الشهيد بعض طلابه بأن يأخذ الرواتب من مصدرها ويوصلها إلينا حتى لا نحتاج إلى مراجعة مصدر التوزيع، جزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً.

الوضع المأساوي في الحوزات العلمية

لا شك أن الكمال كله لله وهو الكمال المطلق الذي لا يحتاج إلى الاستكمال، وغيره يحتاج إلى فضله وعنايته في استكمال ذاته وصفاته، فقد يستكمل وقد تبقى عنده نقائص تحتاج إلى السعي الحثيث.

ومن جهة الوضع في الحوزات العلمية فهي تحتاج دائماً إلى استكمالها وقد تبتلى بمشاكل لا حل لها، أو الحل يؤدي إلى بعض المشاكل، منها: أن الوضع في حوزة النجف قد بلغ أيام مرجعية الإمام السيد أبو الحسن الإصفهاني(طاب ثراه)، بحيث اضطرّت المرجعية إلى تحريم دراسة الفلسفة في الحوزة، وأنتج ذلك ترك تدريس الفلسفة من قبل الفلاسفة المتخصصين واشمئزاز الطلاب السذّج من لفظ الفلسفة ومن الأبحاث الفلسفية.

نتيجة لهذا الوضع المأساوي واجه السيد الشهيد المشاكل من جهتين لما أصدر كتاب فلسفتنا، فإن الحكومة في تلك الأيام كانت حكومة اشتراكية تؤيد المبنى الاشتراكي، وهذا ما أدى إلى تستّر السيد عن المجتمع، بحيث إنه كان ينقل أنه كان ينام في كل ليلة في بيت غير البيت الأول؛ لئلا يقبض عليه من قبل الدولة ولا يحكم عليه بالإعدام أو غيره من العقوبات، ومن جهة ثانية أن كثيراً من الطلاب والأساتيذ كانوا ينفرون من سماحته على أساس أنه أصدر كتاباً فلسفياً وإن كان هذا الكتاب يشتمل على نقد الفلسفات الباطلة، إلا أنه أسمى الكتاب باسم فلسفتنا، وهذا من أكبر الجرائم عند هؤلاء البسطاء، حتى أننا نتذكر أنه كان لي صديق في مدرسة البخارائي كان يشمئزّ منا ويستهزئ بنا، على أساس أننا ندرس عند السيد محمد باقر الذي أصدر كتاباً في الفلسفة، وكان يوجّه الطلاب ويأمرهم بالمقاطعة لنا، ويستدل على هذا الأمر بأنهم صدريون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أتذكر أن سماحة الشهيد! دخل يوماً من الأيام مكان البحث، وكان قلقاً حزيناً يتبين الحزن من تباشير وجهه، فسألته عن ذلك فقال: إن الوضع في الحوزة بلغ إلى حد لا يمكن للعالم أن يعيش فيه حياة علمية ذات صيغة حرية فكرية، الآن كنت في إحدى مراسم الفاتحة، وجرى الحديث عن كتاب صدر جديداً في الأصول المقارن بين مختلف المذاهب الإسلامية، وقد استدل المؤلف على إصابة الفكر الشيعي بأنهم يتّبعون أئمتهم على أساس عصمتهم، واستدل على عصمتهم بآية أولي الأمر، فإن الإطاعة فيها مطلقة، والإطاعة المطلقة لا تصلح إلا للمعصوم.

[يقول] فقلت: إن هذا الاستدلال قد يرد عليه بأن الإطلاق إنما يؤخذ به إذا لم يكن هناك قدر متيقن، والقدر المتيقن هنا أن أولي الأمر يجب إطاعتهم إذا لم تكن أوامرهم مخالفة لأمر الله والرسول، وفي هذه الحالة كيف يؤخذ بالإطلاق ويستدل به على عصمة أولي الأمر، فبدل أن يجيب أحد الأشخاص عن هذا الإشكال، قد ردّ علينا بأنك فاسد العقيدة، وأن إنكار العصمة لا يتأتى إلا من قبل إنسان فلسفي يشتغل بالمسائل الفلسفية، فإذا بلغ الوضع إلى هذا الحد من السذاجة أو العصبية فعلى الإسلام بعده السلام.

وكان يفسّر ذات يوم من الأيام معنى <الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ>‏ نقل لنا قصة: أن أيام المرجع الفلاني كان طالب من طلاب الحوزة يحضر دائماً في مجلس المرجع، وقد طلب منه يوماً من الأيام مبلغاً من المال لم يستطع المرجع أن يعطي له، فصمّم على الانتقام منه ولم يلتفت المرجع إلى هذه النية الخبيثة إلى أن أخبره ذات يوم بأن التاجر الفلاني من مقلدينا سوف ينزل في الكاظمية من طهران في اليوم الفلاني لزيارة الحسين%، وقد استبشر الطالب بذلك وسافر إلى بغداد في اليوم المعهود والتقى بالتاجر، فسأل التاجر عن المرجع وعن صحته وعافيته، وأخبره خلال الحديث بأنه يريد أن يُدخل ولده في الحوزة العلمية والولد كان معه، وكان عمره بين أربعة عشر وخمسة عشر.

فرحّب هذا الطالب بهذه الفكرة إلا أنه أشار عليه بأن يُسكن ولده في المدرسة ولا يسكنه في بيت المرجع ولو أصرّ المرجع بذلك، فإن المرجع يحب الأولاد بشكل غير مشروع، وهذا لم يكن من الممكنات أن نخبر به أحداً إلا أنك من الناس الطيبين والمخلصين للدين، فأصبح لزاماً علينا أن نخبرك بهذا الوضع وإن كان المرجع يستحق للمرجعية من كل الجهات ما عدا هذه الجهة، فإن كل إنسان ناقص من جهة من الجهات. واستغرب التاجر من هذا البيان إلا أنه دخل في قلبه شك وأراد أن يمتحن المرجع من هذه الجهة.

ومن الجهة الثانية رجع هذا الطالب إلى النجف قبل التاجر والتقى بالمرجع وأخبره بأن التاجر الفلاني وصل إلى بغداد، والتقيت به في الحرم الكاظمي وبلّغ إليكم السلام وعنده ولد صالح شابّ يريد أن يدخله في الحوزة العلمية، إلا أن هذا الولد لم ينقطع يوماً من الأيام من الوضع العائلي، فيخاف أن يشمئزّ من الوضع المدرسي ولا يبقى في الحوزة، فالواجب عليكم أن تقترحوا له بأن الولد سوف يسكن في داخل البيت ولا يسكن في إحدى المدارس. إلى أن تشرّف التاجر بخدمة المرجع وكان يحمل في طيّات قلبه شكاً ووسواساً، والمرجع حينما رأى ولده قرّبه إليه ووضع يده على رأسه وقبّل جبهته إلى غير ذلك من أساليب الاستئناس، وطرح عليه بأن يسكن الولد في بيته ولا يدخله في المدرسة، إلى أن استيقن التاجر من الكلام الذي طرح عليه ذلك الطالب الخبيث، ولم يدفع إلى المرجع فلساً واحداً، وأخبر ذلك الطالب بعدما خرج من عند المرجع بأن كلامك حقّ وأنا لا أرضى بأن أدفع له فلساً واحداً، ولكن الكلام أن أقلّد أي واحد من المراجع وأدفع الحقوق الشرعية إلى أي واحد من الأعلام؟ فأشار إلى شخص آخر، ودفع التاجر كل الأموال إليه، وقد أخذ الطالب نصيبه من ذلك العالم وخسر في الدنيا والآخرة.

فقال السيد: هذه هي الفتنة التي هي أكبر من القتل؛ فإن القتل يؤدي إلى إعدام شخص، وهذه العملية أدّت إلى الاستهانة بالحوزة والمرجعية والجهة، ولها آثار سلبية في المجتمع الإسلامي أكبر وأكبر من إعدام أي إنسان وإزهاق نفسه، ونستجير بالله من هذا الوضع المأساوي وإليه المشتكى.

الزيارة الأخيرة

تشرّفنا بزيارته آخر مرة قبل استشهاده بستة أشهر تقريباً، وقد كانت الوفود تتوارد عنده من الشباب الجامعيين، وكانوا يطالبونه بالقيام ضد الدولة كما قام الإمام الخميني وغيّر نظام إيران من الكفر إلى الإسلام، إلا أنه كان يسلّيهم ويدعوهم إلى الصبر وانتظار الفرج.

وسألناه ذات يوم عن هذا الوضع بعد طعام الغداء، فقال: إن هؤلاء الشباب عندهم حماس وثقافة وتدين، إلا أنهم لا يستوعبون الأوضاع والأجواء، ولا يعرفون الفوارق بين الثورة في إيران والثورة في العراق.

وأقل شيء يجب أن يتنبه له الإنسان هو أن المسألة في إيران كانت مسألة شيعية بحتة، فالناس في كل العالم كانوا يفكّرون أن الإمام شيعي والشاه شيعي، فلم يكن هناك مجال لإثارة الطائفية في الدول المجاورة، وأما الوضع في العراق فليس كذلك، فلو قمنا بالثورة فأول شيء يتمسك به النظام هو إثارة الطائفية في الدول المجاورة، ومعنى ذلك أن نتحدى كل الدول المجاورة، وهذا ما لا نستطيع له فعلاً، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

وفي هذه الزيارة طرح علينا الأستاذ الأعظم أن نترجم رسالة الفتاوى الواضحة كما ترجمنا كل كتبه ورسائله ما عدا كتاب فلسفتنا والأسس المنطقية، فإن هذه الكتب لم يكن لها سوق في الهند وأمثالها بشكل عام، ونحن وعدناه أننا سوف نكمل الترجمة خلال أربعة أشهر، وقد ترجمنا مقدمة الكتاب في بيته خلال ثلاثة أيام، وبدأنا ترجمة أصل الكتاب بعد ما رجعنا إلى بلدتنا (إله آباد الهند) إلا أنه من الصدف الغريبة أننا فرغنا من هذه العملية في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى قبيل المغرب بدقائق، وذهبنا إلى المسجد لإقامة صلاة المغرب، وما إن أكملنا صلاة المغرب إلا وقد قدّم ولدنا السيد جواد برقيةً تخبر عن استشهاده بأيدي الطغاة الظالمين، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

فعليه صلوات الله وسلامه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

وإنا لله وإنا إليه راجعون

[1]. المقصود أحد الشوارع في مدينة النجف الأشرف.

 

[2]. الأنبياء: 51.