مع الشهيد الصدر مؤرخاً محمد الحسيني

مع الشهيد الصدر مؤرخاً

السيد محمد الحسيني

لم تصرف مشاكل الفقه والأصول الشهيد الصدر«قده» عن الخوض في ميادين المعرفة الآخرى فاتسعت اهتمامات الشهيد لتشمل اكثر حقول العلم والمعارف الإنسانية، ومن ذلك ميدان التاريخ ليسجل روائع أفكاره وآرائه التي توصل إليها «قده».

ولقد كان الإمام الصدر «قده» شغوفاً بالتاريخ منذ صباه، فعالج مشكلة تاريخية من أعقد مشكلات التاريخ وهو في السابعة عشرة ((مقدمة للباحث للحائري ص64.)) من عمره وقيل في الحادية عشرة ((مجلة الجهاد ص28 عدد/14/سنة 1401هـ في حديث للسيد نور ال الأشكوري.)) ولم يومئذ من تأليفه إلا الاحتفاظ به كمذكر لحياته الفكرية ومؤرخاً لتلك المرحلة من عمره الشريف ـ كما أوضحه السيد في مقدمة كتابه ـ ولكنه سرعان ما تقع عليه عيون من ممن حوله فيرغبون في طبعه ونشره فيذعن لرغبتهم وتحقيقاً لأمنيتهم ليظهر كتاب «فدك في التاريخ» ليبدد كل الأبحاث والدراسات التي سبقته ويحتل الصدارة في المكتبة الإسلامية بأسلوبه الموضوعي وحجته البالغة في تحقيق مسألة الخصومة التاريخية بين الخليفة الأول والزهراء(ع) بنت رسول الله «ص» التي لم تعهد المكتبة التاريخية تحقيقاً بمثل هذا التحقيق ومحاكمة بمثل هذه المحاكمة.

وقد كشف الشهيد «قده» عن حقائق تاريخية عدة في كتابه «فدك في التاريخ» وأماط اللثام عنها بلهجة علمية وأسلوب موضوعي فتناول «قده» اكثر من محور في كتابه بما له دخل في معالجة أمر الخصومة فبحث بأروع ما يمكن معالم سياسية الخليفتين الأول والثاني تجاه أهل البيت وأوضح الأسس التي تقوم عليها((راجع فدك في التاريخ ص69.)) وأسهب البحث بشكل لم يسبق له مثيل في أمر السقيفة ((فدك ص53.)) وكذلك عالج بحثاً من أهم البحوث التاريخية وهو أمر الفتوحات الإسلامية ((راجع فدك ص38.)) فألقى عليها الأضواء الكاشفة، وفي كل هذه الأبحاث تجرد عن المواقف المسبقة والعواطف الجياشة التي قد تودي بالباحث إلى متاهات مظلمة.

ولم يقتصر الشهيد «قده» على بحث الحقائق التاريخية ودراستها بلغة تاريخية صرفة فهو المؤرخ الواعي الذي لا يسلم بالحقائق التاريخية بعيداً عن القرآن والسنة والعقل  والذوق العام فقد تناول السيد الشهيد «قده» الحديث الذي رواه الخليفة الأول في مقام رد الزهراء «ع» بالبحث والتحقيق فذكر عدة احتمالات في ((راجع فدك في التاريخ ص116.)) تفسير الحديث بما يبطل الاستدلال بالحديث الذي رواه الخليفة الأول لصالحة وبذلك يفقد الخليفة الأول حجته في خصومته مع الزهراء«ع».

وكذلك تناول السيد الشهيد «قده» تفسير آيات الإرث التي احتجت بها الزهراء في مقام إثبات ارث الأنبياء بشكل يؤيد دعوى الزهراء ويدحض التبريرات والتأويلات التي حاكها بعض المفسرين((ن، م ص134.)).

والحقيقة أن كتاب (فدك في التاريخ) بحث تأريخي استعمل فيه الشهيد «قده» أدوات المعرفة من تفسير وتحليل للحديث وفقه وفلسفة بما لا يجعله مجرد سرد تأريخي محض.

كيف يتعامل الشهيد مع التاريخ

لم يكن الشهيد الصدر «قده» من هواة التأليف والتصنيف ولذلك لم يترك في اكثر الحقول التي طرق أبوابها سوى مصنف أو اكثر وعدة بحوث متناثرة ومحاضرات في مناسبات مختلفة ومن ذلك حقل التاريخ الذي ترك فيه الشهيد كتابه «فدك في التاريخ» وبحوثاً ومحاضرات تاريخية قدر لها أن تكون مصادر للبحث التاريخي.

ومن ذلك كله نسترق التعامل الصدري مع التاريخ والتعرف على مظاهر على التعامل.

يشترط «قده» إن يكون المؤرخ موضوعياً يتجرد من عاطفته ولا يقتفي أثرها ويلبي ايعازاتها لأن الموضوعية إن كانت شرطاً في كل المحاكمات العلمية فأنها في المحاكمات التاريخية أوضح لذلك يقول السيد الصدر «قده»: «إذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ومهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لإقامة بناء تأريخي محكم لقضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مداراً لبحثه كالحياة الدينية والأخلاقية والسياسية إلى ذلك غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الإنساني بشرط أن تستمر هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات وينشئه التعبد والتقليد، لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذروة ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج، لا من قيود لم يستطع الكاتب أن يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه((فدك في التاريخ ص34.))»

ولكن لماذا كل هذه الشروط وقد انصرم ذلك الزمن ومضى دون رجعة فقد يكون بود بعض الباحثين أن يغفر لأسلافه ذنوبهم وخطاياهم وقد يحلو له أن لا يأتي على ذكر شيء من سيئاتهم أو يحاول تبريرها أو تأويلها؟!

يرى السيد الشهيد «قده» إن المؤرخ ليس حراً في أن يغفر لأسلافه تحت ضغوط العاطفة والتعبد والتقليد لأنه إن فعل ذلك فانه سيزور التاريخ ويشوه صورته.

نعم! يحق له أن يكتب رواية يتيه فيها في عالم العواطف والخيال الخصب، وليكتب ما يشاء ويغفر ما يشاء ويحسن ما يشاء فان ذلك ملكه.

يقول السيد الشهيد: «فإذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك، ومؤرخاً لدنيا الناس لا روائياً يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب فضع عواطفك جانباً أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي بها تعالج البحث فإنه لم يعد ملكك بعد اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج((ن، م ص35.))»

وغالباً ما تتصف الكتابات التاريخية بالتجرد التاريخي المحض بل تخالف أحياناً أولى البدهيات العقلية والشرعية، أما الشهيد الصدر «قده» فتجده المؤرخ الفقيه الذي يطعمك التاريخ مشوباً بالفقه كما يبدو ذلك في مسائل تاريخية عديدة ففي بحثه لحكم الخليفة الأول وقضائه في أمر الخصومة مع الزهراء يطرح على بساط البحث مسألة من أدق المسائل الفقهية ألا هي (مسألة جواز قضاء الحاكم بعلمه أو عدم جواز ذلك) فرد على أساطين العلماء فيما تعارفوا عليه وما اشتهر على ألسنتهم.

يقول السيد الحائري: «فلقد ناقش ـ رحمه الله ـ في كتاب «فدك» ما وقع من بعض أكابر العلماء كصاحب الجواهر رضوان الله عليهم ـ من الاستدلال على نفوذ علم القاضي بكون العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها. ناقش ذلك بقوله «وألاحظ أن في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأن المقارنة لم تقم فيه بين البينة وعلم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع وإنما لوحظ مدى تأثير كل منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة حينئذ إن العلم أقوى من البينة لأن اليقين أشد من الظن، وكان من حق المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في كل مخاصمة ولا يفضل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة لأن الحاكم قد يخطئ كما إن البينة قد تخطئ فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للزلل والاشتباه» وأيضاً ذكر المرحوم الشيخ آقا ضياء العراقي الذي يعتبر من أكابر المحققين في العصر المتأخر ذكر في كتابه رداً على من استدل النفوذ علم القاضي بأدلة القضاء بالحق والعدل: «انه قد يكون المراد بالحق والعدل هو الحق والعدل وفق مقاييس القضاء، لا الحق والعدل وفق الواقع، وكون علم القاضي من مقاييس القضاء أول الكلام» واستشهد ـ رحمه الله ـ على ذلك بالرواية الدالة على عقاب رجل قضى بالحق وهو لا يعلم ببيان أنه لو كان موضوع القضاء هو الحق الواقعي لا الحق وفق مقاييس القضاء لكان قضاء من قضى بالحق ـ وهو لا يعلم صحيحاً وضعاً وتكليفاً، ولا عقاب عليه إلا بملاك التجري.

وأورد عليه أستاذنا الشهيد ـ رحمه الله ـ في كتاب فدك بأن هذه الرواية لا تدل على عدم موضوعية الواقع للحكم، غاية ما هناك أن نقيد الأدلة التي ظاهرها كون موضوع الحكم هو الحق والعدل الواقعيين بالعلم بمقتضى دلالة هذه الرواية على عقاب من قضى بدون علم فيصبح الواقع جزء موضوع والعلم به جزء آخر للموضوع ولا بأس بذلك((مقدمة المباحث للحائري ص64.))» انتهى.

وتتباين آراء المؤرخين والكتاب الإسلاميين في تحليل سياسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب«ع» تجاه معاوية، وحكم البعض على سياسة علي«ع» بالفشل بينما انبرى آخرون للدفاع عنه، وكل ذلك في إطار تأريخي محض.

أما السيد الشهيد «قده» فانه يحلل موقف الإمام علي «ع» من منظار فقهي على ضوء قاعدة (التزاحم) فيما إذا توقف واجب أهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم ولو بارتكاب المقدمة المحرمة حفاظاً على الأهم ورعاية له. على ضوء هذه القاعدة يتساءل الشهيد الصدر «قده» عن السبب الذي حال بين الإمام علي وتطبيق هذه القاعدة لأجل أن يملك زمام قيادة المجتمع الإسلامي ولو بإمضاء ولاية معاوية لفترة زمنية قصيرة ثم يعزله وهو في منعة ليتوفر على هذه الدماء وهذا الشرخ الذي أصاب صفوف المسلمين.

الشهيد «قده» يفلسف هذا الموقف التاريخي ويكشف عن عدم صلاحية تطبيق هذه القاعدة الفقهية السالفة الذكر وقدم «قده» للجواب على هذه الظاهرة عدة نقاط كدراسة للظروف السياسية والأهداف التي كان يعيشها الإمام علي «ع» تتلخص((راجع (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف) ص19 وهي محاضرات للسيد الشهيد «ره» في تأريخ الأئمة «ع» وقد طبعت بعد شهادته.)) في:

  1. إن الإمام علي «ع» كان بحاجة إلى إنشاء جيش رسالي عقائدي لم يكن موجوداً من قبل ولا بد من إعداده وتربيته فكرياً وعاطفياً ونفسياً وهذا يتطلب جواً مسبقاً صالحاً تنشأ منه بذور هذا الجيش ومن الواضح إن جواً من المساومة وأنصاف الحلول يحول دون إنشاء مثل هذا الجيش العقائدي.
  2. إن الإمام جاء في لحظة ثورة تستبطن لحظة تركيز وتعبئة وتجمع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الأمة الإسلامية لصالح القضية الإسلامية فلا بد من اغتنام هذه اللحظات وعدم إضاعتها بإشاعة روح المساومة وأنصاف الحلول.
  3. إن ظاهرة الشك في مجتمع الإمام علي «ع» كانت شائعة وكان الإمام يهدف إلى توعية الأمة الإسلامية وتعريفها بحقيقة المعركة بينه وبين خصومه وأنها ليست معركة شخصية، ومع هذا كانت الشكوك تحوم حول هذه المعركة وعليه فان إقدام الإمام «ع» على المساومة إضافة عنصر آخر يزيد من إثارة هذه الشكوك بإيجاد عنصر موضوعي لانتشار هذه الظاهرة.
  4. إن هناك مؤامرة كانت تهدف وجود الأمة الإسلامية وسلخ شخصيتها ومنع الأمة من القيام بدورها بكل جرأة والحيلولة دون هذا الموقف بنصب قيم عليها لتعيش حياة الأكاسرة والقياصرة. كان الإمام علي يهدف إلى القضاء على هذه المؤامرة ومما لا شك فيه إن أنصاف الحلول تكريساً لهذه المؤامرة، فلو باع الإمام علي «ع» الأمة بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ ـ على حد تعبير السيد الشهيد ـ لكان قد اشترك في إنجاح هذه المؤامرة وفي سلخ الأمة عن إرادتها في حين انه يهدف إلى تربية الأمة على الشعور بكرامتها، بحريتها وأصالتها في المعترك السياسي والعقائدي.

إن الإمام علي «ع» لو أمضى لهذه الأجهزة الفاسدة فليس بإمكانه أن يقوم بعملية التغيير الجذري التي كان يهدف إليها لأن عملية التغيير لا يمكن أن تنشأ على يد الأجهزة الفاسدة نفسها التي لا بد أن يطالها التغيير

  1. إن الإمام «ع» بإمضائه لهذه الأجهزة أي لو باع الأمة من معاوية بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ إذن لاستطاع أن يحصل الإمام على نقطة قوة وهي إن معاوية سيبايعه مع أهل الشام ولكنه سيفقد نقطة أخرى لأن إمضاء ولاية معاوية الاعتراف بشرعيته وان المقارنة بين هاتين النقطتين سوف لن ننتهي من خلالها إلى قرار يؤكد إن نقطة القوة التي يحصل عليها الإمام علي هي أهم في حساب عملية التغيير خاصة إذا علمنا إن عملية تغيير الولاية وقتئذ لم تكن عملية سهلة ولم تكن عملية بهذا الشكل من اليسر الذي نتصوره في دولة مركزية تسيطر حكومتها المركزية على كل أجهزة الدولة وقطاعاتها ويظهر أن عزل هذه الأجهزة الفاسدة منذ البداية هو الأصلح والأهم.
  2. إن نقطة القوة التي يفترض أن يحصل عليها الإمام «ع» لا يوجد من الدلائل والقرائن ما يوحي بصحة هذا الافتراض لأن معاوية لم يعص علياً «ع» لأجل انه عزل عن الولاية وإنما كان ذلك جزء من مخطط مؤامرة طويلة الأمد للأموية على الإسلام لأن الشرف الأموي ـ على حد التعبير السيد الشهيد ـ يريد أن يقتنص وينهب مكاسب البناء الإسلامي وهذا ما أباح به أبو سفيان حين وقف على قبر حمزة لير كله برجله وهو يقول: إن الدين الذي قاتلتمونا عليه وضحيتم من أجله قوموا واقعدوا وانظروا كيف اصبح كرة في أيدي صبياننا وأطفالنا» ومعاوية كان يهدف إلى تنفيذ جزء من هذا المخطط الأموي الطويل الأمد.

إن دراسة هذه الظروف ووعيها على يد السيد الشهيد «قده» لم يسبق له مثيل، وهذا ما يوفر للباحث سهولة استخلاص النتيجة المطلوبة في تقييم صحيح لموقف علي «ع» وسياسته الدقيقة التي شيدها على أساس من الورع والتقوى والدقة في التخطيط. ومن هذه الأسس التي كشف عنها السيد الشهيد «قده» يقرر عدم صلاحية تطبيق القاعدة الفقهية التي افترض أول البحث إمكان تطبيقها فيقول: (ومن الواضح إن الفكرة الفقهية التي أشرنا إليها سابقاً عن توقف الواجب الأهم على المقدمة المحرمة ، إنما تكون فيما إذا كان هناك توقف بالفعل بحيث يحرز أن هذا الواجب الأهم لا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق هذه المقدمة المحرمة والظروف وطبيعة الأشياء وقتئذ لم تكن توحي ولم تكن تؤدي إلى اليقين بمثل هذا الموقف)((ص26 (أهل البيت تنوع أدوار وحدة هدف).)).

ومن مبتكرات السيد الشهيد «قده» في حقل التاريخ الاتجاه التوحيدي والترابطي في دراسة التاريخ وقد أشار إلى ذلك في بعض محاضراته ودعا إليه بخصوص دراسة تأريخ الأئمة «ع» باعتبارهم خطاً وشوطاً يكمل بعضهم الآخر ولذلك أكد على الاتجاه التوحيدي في تحليل مواقفهم ومعطيات سلوكهم بدلاً من الاتجاه التجزيئي وليس في عملية الاستبدال هذه محض رغبة في نفسه وإنما للفائدة التي يحققها هذا الاتجاه دون ذاك فيقول السيد «قده» عن هذا الاتجاه «. . وهذا الاتجاه الذي أريد أن أتحدث إليكم عنه هو الذي يتناول حياة كل إمام، ويدرس تأريخه على أساس النظرة الكلية بدلاً عن النظرة الجزئية، أي ينظر إلى الأئمة «ع» ككل مترابط ويدرس هذا الكل، ويكشف ملامحه العامة، وأهدافه المشتركة ومزاجه الأصيل ويتفهم الترابط بين خطواته وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمة «ع» جميعاً في الحياة الإسلامية((نفس المصدر ص141.))».

ولا ينوي السيد الشهيد استبدال الاتجاه التجزيئي بالاتجاه التوحيدي استبدالاً كلياً ويلغي دوره في دراسة وتحليل الجوانب التفصيلية في حياة الأئمة إذ أن هذه الدراسة التفصيلية ضرورية في نجاح الاتجاه التوحيدي ولولا الوضوح في الدراسة التفصيلية لما أمكن إنجاز الدراسة التوحيدية المترابطة. فدعوته «قده» إلى الاتجاه التوحيدي في دراسة التاريخ كدعوته إلى الاتجاه الموضوعي في تفسير القرآن الكريم. فيقول : «ولا أريد بهذا أن لا ندرس حياة الأئمة «ع» على أساس النظرة الجزئية دراسة كل إمام بصورة مستقلة بل إن هذه الدراسة الجزئية نفسها ضرورية لإنجاز دراسة شاملة كاملة ملائمة ككل، إذ لا بد لنا أولاً أن ندرس الأئمة بصورة مجزأة تستوعب إلى أوسع مدى ممكن حياة كل إمام بكل ما تزخر به من ملامح وأهداف ونشاط حتى نتمكن بعد هذا إن ندرسه ككل ونستخلص الدور المشترك للأئمة «ع» جميعاً وما يعبرون عنه من ملامح وأهداف وترابط((أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ص141.))»

وقد ترك السيد الشهيد (قده) بضع محاضرات ألقى الضوء على حياة الأئمة (ع) بشكل توحيدي مترابط ولكنه لم يوفق لإتمام مشاريعه إلا في مناسبات مختلفة ألقى فيها هذه المحاضرات القيمة على تلامذته.

وتتميز مدرسة الشهيد الصدر (قده) بالوعي التاريخي والذوق السليم، فهو لا يصدر محاكماته التاريخية إلا بعد استيفاء دراسة الظروف والأجواء البيئية التي تسير للباحث أو المؤرخ استخلاص النتيجة دون غناء أو نصب ويبدو ذلك في تحليل الأهداف التي دفعت الإمام الحسين (ع) للثورة فقد ذهب الكتاب الإسلاميون باتجاهين مختلفين تمثل الأول: في الإمام الحسين (ع) خرج بنية الشهادة وكان هذا هو الهدف الذي كان يصبو إليه ولم يكن (ع) بصدد إقامة الدولة الإسلامية لانعدام عناصر الانتصار العسكري وانعدام عنصر التكافؤ في المعركة التي خاضها الإمام الحسين (ع) ويدعم هذا الاتجاه النصوص التي صدرت من قبل الحسين (ع) نفسه والتي أعلن فيها عن حتمية المصير الذي ينتظره وما ستؤول الأمور بعده.

وتمثل الاتجاه الثاني في دعوى أن الإمام الحسين (ع) إنما خرج بدافع إقامة الحكم الإسلامي لتوفر الدلائل والقرائن على إمكانية انتصاره والبيعة التي تمت له في الكوفة وإرسال السفراء وتبادل الكتب كلها تؤكد هذا الاتجاه ولذلك عمد أنصار هذا الاتجاه على تأويل بعض النصوص التي استند إليها الاتجاه الأول وتضعيف البعض الآخر ، ويبرر أنصار هذا الاتجاه الخسارة العسكرية التي لحقت في صفوف أنصار الإمام الحسين (ع) بأن أموراً وقعت لم تكن في الحسبان شكلت عناصر مفاجأة للأمام الحسين (ع) لتغير الخريطة السياسية والعسكرية وبالتالي فقدان مواقع النصر.

السيد الشهيد (قده) يرى في كلا الاتجاهين إفراطاً وتفريطاً لأن الاتجاه الأول اعتمد التفسير الغيبي المحض بشكل يلغي كثيراً من مفردات عظمة ثورة الإمام (ع) ولذلك أضطر أنصار الاتجاه الثاني ـ كرد فعل ـ إلى اتخاذ موقف تفسيري مناقض تماماً للاتجاه الأول.

أما السيد الشهيد (قده) فانه يرى إن الإمام الحسين (ع) كان عالماً ـ حتى بالعلم العرفي لا علم المعصوم ـ أنه سيقتل وينال الشهادة وان في هذه الشهادة مصلحة للإسلام ـ على خلاف الاتجاه الثاني الذي يرى المصلحة في حياته (ع) ـ وإنما خرج لمواجهة الطغيان الأموي بشكل مسلح لأحداث هزة وجدانية في صفوف المسلمين، بيد إن الإمام الحسين (ع) لا يمكنه أن يعنون ثورته بعنوان الشهادة لان هذا العنوان سيفقد الثورة أثرها في تهييج عناصر الثورة في عروق المسلمين وذلك لغلبة طابع الانتحار وإلقاء النفس في التهلكة ولذلك عنوان الإمام الحسين (ع) ثورته وعمله الاستشهادي بعنوان أخر وهو هدف إقامة الحكم الإسلامي وبذلك يلغي الشهيد الصدر (قده) مظاهر التباين في النصوص التاريخية التي يصرح فيها الإمام (ع) بعلمه بشهادته وفي بعضها بطلب إقامة الحكم الإسلامي((من محاضرات السيد الحائري في شهر رمضان 1407هـ ليلة الرابعة والعشرين في الإمامة ودورها في قيادة المجتمع بقلم المؤلف كاتب هذه السطور نشرت في مجلة الحوار الفكري السياسي. )).

وبذلك وضع السيد الشهيد (قده) اليد على الحلقة المفقودة في كل من الاتجاهين في الاتجاه الأول الغيبي فأضاف إليه عنصر الهدف في عملية الاستشهاد لئلا تظهر بمظهر الانتحار، وأضاف إليه الاتجاه الثاني إمكان تعقل المصلحة في الاستشهاد الذي رفضه أنصار هذه الاتجاه وذلك في أحداث الهزة الوجدانية في نفوس المسلمين وإثارة المشاعر الثورية فيهم.

ومن استنتاجات السيد الشهيد الرائعة تفسيره للظاهرة الحسينية والظاهرة الحسنية وبيان الفرق بينهما بشكل لا مثيل له،  وكان قد وقع لغط كثير في تفسير الظاهرة الحسنية بناء على ادعاء فوارق ذاتية بين شخصية الأمام الحسن (ع) وأخيه الحسين (ع)  وهذا ما أفقد البحث صفته العلمية والموضوعية.

وقد انبرى السيد الشهيد (قده) في تحليل((من محاضرات السيد الحائري في شهر رمضان لعام ( 1405هـ ) في التفسير الموضوعية  بقلم المؤلف.)) تلك الظاهرتين وتفسيرهما على أساس موضوعي فهو يرى أن واقع الأمة في زمن الإمام الحسن (ع) كان يبتلى بمرض الشك وهو لا يميز بين الإمام الحسن وخصمه ويرى في المعركة التي بينهما غلبة الطابع الشخصي والمنافع الشخصية ولذلك ليس بالإمكان أن يقوم الإمام الحسن (ع) بعمل مسلح لأنه سيصادر من قبل الجمهور باعتباره معركة شخصية لا إسلامية. بينما كان موقف الإمام الحسين (ع) بعد أن عرى أخوه الإمام الحسن (ع) النفعية في خصمه ثورياً مسلحاً لأن الأمة في زمنه لم تعد مبتلاة بمرض الشك وإنما ابتلت بمرض آخر بمرض آخر هو مرض الخنوع وضمور الشجاعة والإقدام ولم يعد بالإمكان معالجة هذا المرض إلا بموقف جريء يفجر في الأمة مواطن القوة والشجاعة والإقدام فبادر الإمام الحسين (ع) إلى إعلان ثورته لتقتفي أثرها عشرات الثورات والانتفاضات التي زعزعت الصرح الأموي وشرخت كيانه.