تعقيب على مقال سنن التاريخ نموذجاَ عبد الرزاق الصالحي

تعقيب على مقال :سنن التاريخ نموذجاَ للتفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر قراءة من منظور علم الاجتماع

عبد الرزاق هادي الصالحي

تعقيباً على مقالة الكاتب عبد الإله مسلم (الكاتب هو : د. محمود البستاني .) ( سنن التاريخ، عند الشهيد الصدر، قراءة من منظور علم الاجتماع ) والمنشورة في مجلة (قضايا إسلامية) – العدد الثالث، عام 1417هـ.

نورد جملة من الإيضاحات حول إشكالات استطرادية للكاتب أوردها على أطروحة السيد الشهيد (رض)  للمفهوم القرآني عن حركة التاريخ والسنن والقوانين التي تحكمه في حركته ومسيرة الإنسانية باتجاهيها الانحطاطي والتكاملي تبعاً لمثلها الأعلى ولرؤيتها الشمولية تجاه الحياة والإنسان والكون.

ومحور مقالة الكاتب كما يتضح من عنوانها وبعد الفراغ من قراءتها : هي إخضاع السنن القرآنية لمنظور علم الاجتماع، وهي محاولة نقدية تقويمية، اتكأ فيها على جملة مفردات مفهومية متداولة في خطاب الباحثين في علم الاجتماع، تضيق عن استيعاب المفهوم القرآني مما أوقع الكاتب في إشكالات وهفوات فكرية ومنهجية وموضوعية سيتضح من خلال تضاعيف البحث أن بعضها أدت بالكاتب إلى إخفاقات ومع خط سير بحثه، لا نرى ضرورة لبحثها، فقد تدخل القارئ في دائرة الحيرة والتيه.

وقبل الوقوف على إيرادات الكاتب وإشكالياته التي تضمنها مقاله لا بد من الإشارة إلى جملة ملاحظات :

1- علم الاجتماع :

أو ما أُصطلح عليه بـ (سوسيولوجي) فهو : ( العلم الذي يتخصص بدراسة نظريات المجتمع الإنساني المتعلقة بالمؤسسات الاجتماعية المتعدد، الطبقية ، العائلة ومشاكل المجتمع، لكنه في نهاية القرن التاسع عشر حاول بعض علماء الاجتماع في أنكلترا وفرنسا جعل علمهم هذا الجديد يشمل الظواهر السياسية ، غير أن هذا المدلول لعلم الاجتماع لم يحظ على قبول وموافقة الأخصائيين في العلوم الاجتماعية الأخرى ). ((البروفسور. ميشيل لنكن، معجم علم الاجتماع، دار الرشيد – بغداد: ص 301.))

إنّ الذي اشتق كلمة (socilogy) هو العالم أوجست كونت من مقطعين من اللاتينية واليونانية يشير بها بهما إلى الوراثة العلمية للمجتمع ((نيقولا تيماشيف، نظرية علم الاجتماع، دار المعارف – مصر: ص 4.)) ، وعلم الاجتماع حسب دوركابم، هو : (علم دراسة المجتمع) . ((د. انكلز، مقدمة في علم الاجتماع ، دار المعارف – مصر: ص 58.))

ويؤكد (ريمون آرون) أحد المشتغلين في مجال علم الاجتماع الفرنسي، إن علم الاجتماع ( يتميز بأنه دائم البحث عن نفسه، وإن أكثر النقاط اتفاقاً بين أكثر المشتغلين به هي صعوبة تحديد – تعريف – علم الاجتماع ) . ((د. عبد المعطي عبد الباسط، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، كويت: ص 19.)) فضلاً عن أن الدراسات هذه تنضوي تحت تطلعات أيديولوجية باتجاه تعزيز مكانة الإنسان الغربي والتأثير في الآخر تكريساً للتبعية في الفكر والمنهج .

وإنَّ علم الاجتماع، ولادةً ونشأةً ونمواً كان خارج حدود الوطن الإسلامي ، فالإفادة منه لابد أن تخضع للثوابت المرجعية في الفكر الإسلامي ، تجاوزاً للهدفية والقصد التي أُسس في إطارهما هذا العلم وغيره خدمةً لمصالح المستكبرين .

2- السنن التاريخية :

ويصطلح عليها أيضاً بـ (فلسفة التاريخ) أو (تفسير التاريخ)، ويرتكز هذا الاتجاه بصفة أساسية على محاولة بعض المفكرين استخلاص (قانون عام) لتطور المجتمعات الإنسانية من خلال التحليل العقلي للبعد التاريخي).

وقد اعتاد مؤرخو الفكر الغربي أن ينسبوا اتجاه فلسفة التاريخ إلى المفكر الإيطالي (جيوفاني فيكو) الذي نشر كتاباً أسماه (مبادئ علم جديد) عام 1725م، وكان (بوسيه) من رواد هذا الاتجاه، وإن (كان يُؤخذ عليه أنه ذهب على أن تاريخ البشرية بأكمله توجهه القدرة الإلهية). ((معجم علم الاجتماع، م. س : ص 428.))

إنَّ السنن أو فلسفة التاريخ، هو بحث في القوانين التي تحكم تطور حركة التاريخ أي (الحركة الانتقالية) للأمم والمجتمعات من طور إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى وفقاً لاتجاهية السنن ارتقاءً وتطوراً أو انحطاطاً ونكوصاً، فهي ليست من مسائل علم الاجتماع ولا داخلة في موضوعه،وإن نشأَ علم الاجتماع في أحضان الفلسفة الوضعية((مقدمة في علم الاجتماع، م. س: 57.)) والدراسات التاريخية أو أفاد من المباحث التاريخية في الصياغات النظرية. والسنن التاريخية هي منظور الحضاري لمسيرة الإنسانية حسب قراءات (فيكو)، (هيكل)، (بوسيه)، وكيسرلنج …. الذي يرى أن الفكرة الدينية هي المُركب لعناصر الحضارة – الإنسان، الوقت، والتراب، وقد اعتمد مالك بن نبي رؤيته هذه في تحليل مراحل الحضارة الإسلامية في كتابه (شروط النهضة) فالسنن والقوانين الحاكمة لحركة التاريخ خارجاً تخصصاً كما يقال : عن موضوع علم الاجتماع ومسائله أرضي كان أو غربي لا فرق .

3- المجتمع الإسلامي :

نتساءل هل صيغت نظرية اجتماعية حول المجتمع الإسلامي ؟ أم تم صياغة علم اجتماع إسلامي ؟ كما يدعي بعض الباحثين الإسلاميين ، صحيح هناك دراسات وبحوث حول المجتمع الإسلامي والذي كان أرضية للتجربة الرائدة في عهد الرسول الأكرم  (ص) وما بعده، والمجتمع المعاصر الذي أطرته الحدود الجغرافية المصطنعة بعوامل التجزئة التي أورثناها قصراً إنسان الغرب التائه، لا يصلح أو يصدق عليه إطلاق مجتمع إسلامي، فيكون واقع يدرس لإثبات المفاهيم النظرية المستقاة حسب القرآن الكريم والسنة المشرفة ، كما أن بنيوته وتركيبته، ثقافةً وفكراً، عادات وسلوكاً خارج إطار تلك المفاهيم والمنظومة المعلافية الإسلامية ما خلا التزامات لجماعات أو أفراد بنسب تقرب أو تبعد عن موضوعية وواقعية العقيدة الإسلامية ، فإذا لم يصدق أو يصح الإطلاق (مجتمع إسلامي) ؛ فكيف يدعي الكاتب في قراءته (لعلم اجتماع) غير مؤسس، علم مؤسس – مغيب – ومن ثم أتخذ منظوره السرابي في نقد وتقويم كلمات الله ، فعل الله – أي إرادة الله – والتي هي السنن القرآنية ، ومفهوم القرآن للتاريخ وحركة الإنسان فيه – العمل الموجي حسب السيد الشهيد – ، فلم يتضح لنا اتكاءاته المبررة لهذا المنحى الذي أتخذه مع ملاحظة أن الدراسات والمناهج مع كمها القليل وتفاوتها في قيمة المادة المطروحة فيها، هي دراسات وصفية لتجربة سابقة ، ومحاولة تأطيرها بمفاهيم دخيلة على ثقافتنا وفكرنا لا يعطيها واقعية في التعبير أو محاكاة المفهوم الإسلامي في هذا المضمار كما هي لا تعبر عن الواقع التطبيقي الذي يقع تحت طائل الإشكال في محاكاته للمرجعية الإسلامية أيضاً أو دراسة أخرى وهي وصفية أيضاً إلا أنها تلتزم الاتجاهية التغييرية على وفق الإطار المرجعي الإسلامي ، لكنها لم تتوافر على شروط وعوامل ترتكز في مثل هذه الصياغات ، فيطلق عليها (علم اجتماع إسلامي) ، أو (نظرية اجتماعية إسلامية) و منهج دراسة مجتمع إسلامي بحدود معلومة، فهي إذن في جملتها إرهاصات وأواليات في المنهج ليس إلا .

وبُعيد هذه المدخلة والنقاط المذكورة والتي نرجو أن يتوافر القارئ من خلالها على بعض الدلالات المفهومية التي تيسر له مدخلية تجاه مقالة الكاتب وفي نفس الوقت تقاطعية أطروحة السيد الشهيد (رض) وإشكاليات الكاتب واستنتاجاته غير المؤسسة :

1- لم يوثق الكاتب ولم يرجع اتكاءاته إلى مصادرها في هوامشه خلا ذكر الآيات وسورها، وهذا خلل منهجي يلحق بالمقالة ويضعفها خصوصاً وهي رؤية نقدية تقويمية – حسب الكاتب- ، ومحاولة استيعاب الكل في إطار الجزء.

2- يقول الكاتب مفتتحاً مقالته ( تظل السنن التاريخية واحدة من الأبحاث الاجتماعية التي يطرحها علم الاجتماع الأرضي بنمطيه المحافظ والنقدي ….) . {{88- قضايا إسلامية }

وقد أوضحنا في النقطة الأولى رأي الباحثين والمختصين في علم الاجتماع وتحديد تعريفه ومن ثم موضوعه وتباينوا في أن موضوعه هل هو (المجتمع ) ككل أم (العلاقات الاجتماعية) أم (الفعل الاجتماعي) ، أوجست كونت ، أميل دوركايم، وفاكس فيبر، أم أنه الظاهرة الاجتماعية – أي أعم من الفعل والعلاقة – .

إن ما ذهب إليه الكاتب في كونه السنن واحدة من أبحاث علم  الاجتماع هو مما ينفرد به ولا متكأ له ولا دليل كما سبقت الإشارة إلى ذلك .

إن موضوع السنن التاريخية في القرآن الكريم هو : ( الرؤية الإسلامية الحقة للتاريخ في التأكيد المستمر على وجود النواميس التي تخضع لها حركة المجتمعات والتاريخ سواء في حاضرها أو في سيرها وتطورها وإنتقالها من حال إلى حال أي في حاتي الثبات والتطور ، وقد وقع الكثير من الباحثين في القول بأن ابن خلدون هو أول من استخدم هذا المنهج والغريب أن ابن خلدون نفسه وقع في هذا الخطأ ولم ينتبه له – هو العالم المسلم- أي إلى السبق القرآني في هذا الصدد).(( د. محمد نبيل السمالوطي، المجتمع الإسلامي، دار الشروق: ص 36.))

فالسن تحكم الحركة الانتقالية للمجتمع وما أشار إليه الكاتب (القوانين الاجتماعية) تحكم الحركة الداخلية للمجتمع بأفراده ومؤسساته ونظمه ، والتي هي موضوع علم الاجتماع ومسائل بحثه.

3- صوغ القوانين :

يقول الكاتب (والحق أن موضوع صوغ (قوانين اجتماعية) –ولو في نطاقات خاصة- أثر لا يمكن تجاهله ، إلا أن القصور المعرفي للإنسان يحتجزه عن الوصول إلى صياغة تتسم بالإحكام أو الثبات العلمي لمطلق الظواهر الاجتماعية والأهم من ذلك أن عزلة الباحث الاجتماعي عن مبادئ السماء تقف دون أدنى شك عن الصياغة الثابتة لهذا القانون أو ذاك، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن السماء (تتدخل) في تكييف كثير من الظواهر الاجتماعية فيما لا يفقهها الباحث الأرضي لضيقه الحالي) {{88- قضايا إسلامية}}.

ويلحظ على الكاتب أن هذه عمومات واطلاقات لا تحتاج كثير عناء فهي (تحصيل حاصل) لا غير ، مع أنا كنا نأمل منه أن يوضح لنا الكيفية التي (تتدخل) السماء بها في تكييف الظواهر الاجتماعية ؟!!!

ونذكر بنص (بوسيه) السابق الذي يرى الإرادة الإلهية هي المتحكمة في سير التاريخ ، والسنن هي إرادة الله وكلمة الله ، وكذا في الجانب الاقتصادي قد صيغ قانون (العرض والطلب) وهو قانون عام ،فلم تؤثر عزلة الباحث الأرضي على اكتشافه وصياغته ومن العمل وفقاً له، وقانون الأجور الحديدي الخاص بالمجتمع الرأسمالي قد صاغه الباحث الأرضي ولم تمنعه عزلته عن السماء من صياغته، وتدخل في ذات الاتجاهية ما ذهب إليه السيد الشهيد (رض) في (المثل الأعلى).

يقول أحد الباحثين الغربيين، وهو (هارفيلد) في كتابه (علم النفس الأخلاق) : ( فالمثل الأعلى المنشود يجب ألا يكون هو السعادة نفسها، بل يجب أن يُرى فيه أنه ذو قيمة ذاتية في نفسه بغض النظر عن الحالة الوجدانية السعيدة التي يحدثها ، أو بعبارة أخرى يجب أن يكون المثل الأعلى موضوعاً ، ويضيف قائلاً إن : ( التعددية في القدوة أو المثل الأعلى تؤدي إلى اضطراب الحالة الاقتدائية، والأخذ بأسلوب البساطة أو الميل أيهما أقرب إلى النفس أو الهوى أو ما بمقدور الفرد الاتيان ب).(( ج. أ هارفيلد، علم النفس والأخلاق: ص 127.))

قال تعالى:(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)( الزمر:29)

فليتأمل التطابق بين الدلالة في الآية وقول (هارفيلد) .إلى ما لا يحصى من القوانين والمبادئ والقواعد التي اكتشفها – صاغها – الإنسان ونقصد ما يتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، ولو رجع الكاتب إلى كتاب (الوسائل والغايات) أولدوس هكسلي ، ولـ (ما : الإنسان) مارك توين ؛ لقال بإسلامية هؤلاء ، أو ابتعد عن اطلاقاته وتعميماته غير الموثقة ، وعوداً إلى المدرسة القرآنية نجد وضوح الرؤية حسب السيد الشهيد(رض)في هذا الاتجاه حيث يحدد (رض) أن (القرآن لم يطرح نفسه بديلاً عن قدرة الإنسان الخلاقة عن مواهبه وقابليته في مقام الكدح ، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة، وعليه فليس من الطبيعي أن نرتقب منه –أي القرآن – استعراض مبادئ عامة بكل واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل إلى اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها)(( السيد الشهيد الصدر (رض) ، المدرسة القرآنية، دار التعارف – بيروت: 46.))

4- محاولة تحجيم واختزال الموضوع (المفهوم القرآني للتاريخ) حسب الشهيد الصدر(رض) ، يقول الكاتب : ( لقد انطلق الشهيد الصدر (رض) في بحثه الاجتماعي عن الظاهرة المشار إليها – يعني الدين – من تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم ، وانتخب (السنن التاريخية) (موضوعاً) لهذا الجانب وألتقط من هذه (السنن) ظاهرة (الدين) ليدلل من خلالها على أن الدين (سنة تاريخية …){{89- قضايا إسلامية}}.

وفي الدرس الثالث (السنن التاريخية في القرآن الكريم) يقول السيد الشهيد الصدر (رض) الآن نوجه هذا السؤال :

ما هو الموضوع الأول الذي سوف نختاره للبحث ؟

هو: (سنن التاريخ في القرآن) ويطرح السيد الشهيد (رض) مجموعة تساؤلات تكون المحاضرات أو الدروس التي تلتها إجابة عليها ، فلم يوضح الكاتب مبرراته الموضوعية لهذا الحصر وكيفية انتزاعه له ، علماً أن الأسئلة التي طرحها السيد الشهيد (رض) هي :

هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم ؟

هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره ؟

ما هي هذه القوانين التي تتحكم في التاريخ البشري ؟

كيف بدأ التاريخ البشري ؟ وكيف تطور ؟

ما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ ؟

ما هو دور الإنسان في العملية التاريخية ؟

ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة البشرية ؟ ((المدرسة القرآنية، م.س: 42-43.))

ويتضح أن تأكيد الكاتب على أن (الدين) ظاهرة اجتماعية ، تعزيزاً لرؤيته أولاً وتأثراً بمنظور علم الاجتماع الأرضي .

5- يقول الكاتب:

 (ولعل أهم ما في هذا التمهيد هو تفسيره – أي الشهيد الصدر (رض) – للظاهرة الدين …) {{93- قضايا إسلامية }}.

(نجد أن الشهيد الصدر يخطف عابراً إلى مناقشة بعض الاتجاهات الاجتماعية في تحديدها لما هو (اجتماعي) وتميزه عما هو (فردي) …) {{100- قضايا إسلامية}}.

إنَّ محاولة الكاتب مع خط سير بحثه يؤكد كون (الدين) ( ظاهرة اجتماعية)، وكون بحث السيد الشهيد (رض) بحث اجتماعي ، والقارئ للمدرسة القرآنية كما أوضحنا من المحاضرة الثالثة وإلى المحاضرة الأخيرة يتجلى له أن ما يتناوله السيد الشهيد (رض) بحث في المفهوم التاريخي والنظرية التاريخ حسب القرآن الكريم ، وإنَّ الدين أحد أَشكال السنن الحاكمة في التاريخ وهو سنة اتجاهية والسنة غير الظاهرة والأخيرة محكومة للسنن وخاضعة لها .

وقد تناول السيد الشهيد (رض) غير ما يشير إليه الكاتب ، حيث تناول العمل الموجي (العمل ذو الأبعاد الثلاثة) وحسب الشهيد الصدر(رض)، إنه هو : ( موضوع لسنن التاريخ هذا العمل هو عمل المجتمع لكن لا ينبغي أن يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين الفلاسفة الأوروبيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الأفراد وكل فرد فرد ليس إلا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير، هكذا تصور هيجل مثلاً وجملة من الفلاسفة الأوروبيين … إذن كل قابلية وكل إبداع وكل فكرة هو قابلية ذلك العملاق وإبداع ذلك العملاق وفكر ذلك العملاق الطاغية).(( المدرسة القرآنية، م.س: ص 99- 100.))

ويضيف الشهيد الصدر (رض) (إلا أن هذا التصور ليس صحيحاً ولسنا بحاجة إليه .. أي الانحراف في الخيال إلى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الأسطوري من هؤلاء الأفراد ، ليس عندنا إلا الأفراد إلا زيد وبكر وخالد، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ). {{11- قضايا إسلامية}}.

ويستطرد الكاتب بقوله : (حيث أوضح الصدر أن هذا التصور فرضية أسطورية لا واقع لها بقد ما ينبغي النظر إلى المجتمع بصفته مجموعة من الأفراد تكسب سمته الاجتماعية إذا تعدى أثرها إلى الآخرين ) {{91- قضايا إسلامية}}.

فالكاتب يتناول المسائل التي يطرحها الشهيد الصدر(رض) حسب رؤيته ووفقاً لذوقه وينسبه إلى السيد الشهيد (رض) بعد إجراء تحوير عليه بما يتناسب ومنظوره مع ملاحظة أنه يقتطع النصوص بما يعزز رؤيته الخاصة أيضاً وهذا تهافت وخلاف الموضوعية ، نقلاً ونقداً وتقويماً.

ويتجلى ذلك للقارئ إذا ما قارن نص السيد الشهيد (رض) السابق باستنتاج  وتحليل الكاتب أعلاه – علماً أنه قد نقله في مقالته – وهذا غريب منه وتتكثر التقاطعية والتباين بين ما يذهب إليه الشهيد (رض) وما يبغيه الكاتب إذا ما قارنا بين النصوص المستقاة من المدرسة القرآنية وما يذكره منها الكاتب في مقالته .

6- يورد الكاتب إشكالاً منهجياً كما يدعي في معالجة السيد الشهيد الصدر (رض) لأنواع المثل الأعلى – الثلاثة- حيث تناول السيد الشهيد (رض) المثل المستمد من الواقع ، والثاني المستمد من طموح غد المستقبل للتداخلية بينهما ثم تناول المثل الأعلى (المطلق) ، فالمثل الأول والثاني يقعان تحت اصطلاح السيد الشهيد (رض) (المثل المنخفض) – وكلاهما مستمد من الواقع دون شك – فلا نرى قيمة موضوعية لإشكال الكاتب : ( يجدر بنا أن نشير من الزاوية المنجية لو أن هذا النمط الذي يستمد مادته من الواقع ينبغي أن يتأخر الحديث عنه لأنه ترتب على النمط الآخر وهو المثل الذي يستمد مادته من الطموح إلى المستقبل) {{96- قضايا إسلامية}}.

وبمتابعة الدرس التاسع من دروس المدرسة القرآنية،وهو حول المثل الأعلى نجد أن السيد الشهيد (رض) قد فصل ذلك من الناحية النظرية وأعطى مصاديق عن المجتمعات التي واجهت الأنبياء (حينما جاء الأنبياء إلى تلك المجتمعات بمُثِل عُليا حقيقية ترتفع عن الواقع). فقد واجهت هذه المجتمعات دعوات الأنبياء ورسالاتهم لأنها منشدة – أي تلك المجتمعات – إلى المُثل المنخفضة ، ويرى السيد الشهيد (رض) (إن تبني هذا النوع من المُثل العليا له أحد سببين :

السبب الأول : الألفة والعادة والخمول والركود والضياع في قوم في مجتمع حينئذٍ يتجمد ذلك المجتمع لأنه سوف يصنع آلهة من واقعه سوف يحول هذا النوع النسبي المحدود الذي يعيشه إلى حقيقة مطلقة إلى مثل أعلى إلى هدف يرى وراؤه شيئاً ، والسبب الثاني لتبني هذا المثل الأعلى -المنخفض- هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ ، الفراعنة على مر التاريخ حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع إلى المستقبل وفي أ تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه زعزعة لوجودهم وهزاً لمراكزهم من هنا مصلحة الفرعون على مر التاريخ أن يغمض عيون الناس عن هذا الواقع أن يحول الواقع الذي يعيشه الناس إلى مطلق إلى إله) . ((المدرسة القرآنية، م.س:ص 149.))

وهذه الفقرات التي اقتطعناها من الدرس التاسع تحل التوهم الذي وقع فيه الكاتب حيث يقول أن السيد الشهيد لم يتوافر على الربط بين سببي المثل المستمد من الواقع وهما : (الألفة والفرعنة ) وهذا ما لم يتوفر الشهيد الصدر عليه){{96- قضايا إسلامية}}.

فإذا كان ما تضمنته رؤية السيد الشهيد (رض) التفصيلية في بداية الدرس ونهايته بذكر السببين لتبني المثل موضوع البحث وأرجعهما إلى الخمول والضياع والركود وأخيراً تجمد المجتمع ، وعزاه إلى ذات الإنسان – سبب نفسي – حسب تعبير السيد الشهيد (رض)، فما يُريد الكاتب وراء ذلك ، ولو توفر الكاتب عل تعليلية غير هذه وأبانها بما ينسجم وسياق وحدة الموضوع ، لا استطراداً بعيداً عن مسائل البحث والقصد الذي توافر عليها السيد الشهيد (رض) خلال حلقاته الفكرية: وضوح الرؤيا ، هدفية الرسالي الأمين على رسالته، وموضوعي من أجل أن يقول الإسلام كلمته عالية، وتلك مقومات الشخصية الإسلامية، لأتضح بذلك ما يقصده ، ولكنه أبهم بما لا يستوضح القارئ منه ما يُريده من هذا الأشكال، غير الوارد على قارئ هذا المبحث متابعاً السيد الشهيد (رض).

7- ثم يستعير الكاتب ذهنية القارئ ليطرح إشكالاً آخر فيقول : (بيد أن القارئ يتوقع من السيد الصدر أن يلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب كأن يوضح بأن السبب عائداً إلى (نمط) المثل ، وليس (وحدته) فحسب) !! {{97- قضايا إسلامية}}.

ونقتصر على اقتطاع نص من المدرسة القرآنية ليستنير به القارئ حول ما يذهب إليه الكاتب، فالذي يتناوله ويطرح السيد الشهيد (رض) منسجماً مع دلالات المفاهيم القرآنية لا مع منظور علم الاجتماع بنمطيه.

يقول السيد الشهيد (رض):

(فبقد ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات صالحة وممتدة ، وبقدر ما يكون هذا المثل محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً ) .(( المدرسة القرآنية، م.س: ص 145.))

فمن الواضح أن دلالة النص أن المقصود هو (نوع) المثل لا وحدته .

8- وفي محاولة الكاتب إعطاء محور لما تناوله السيد الشهيد (رض) في (السنن التاريخية في القرآن الكريم) يعمد إلى تحجيم الأطروحة وحصر المحور في : ( أن الشهيد الصدر يحدثنا عن [ شريحة] اجتماعية محدودة هي : المجتمع الشرقي أو العالم الثالث أو المجتمع الإسلامي والعربي){{97 – قضايا إسلامية}}.

ومع غض النظر عن كون السنن التاريخية عامة ، ومطردة ، وفعلية (ناجزة) واتجاهية ، وإن الدين قانون داخل في صميم فطرة الإنسان وإن السنن حاكمة على تاريخ الإنسانية لا أقل من عهد الاختلاف وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نتساءل والقارئ من كاتب المقال إذا كانت الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والعربي (شريحة اجتماعية) !! فماذا يطلق على جماعة العلماء ، عمال البناء، والخبازين …. الخ مما يتشكل منه جزء من فئة أو طبقة أو مجموعة انحداراتها مختلفة ؟!!!

إنَّ منظور الكاتب قصُّر به وَحدَّه بهذا الشكل والاتجاه ، ولا نقول أكثر من أن موضوع السنن، تفسير الحركة التاريخية حسب المنظور القرآني ، وقد كانت محاولة السيد الشهيد (رض) موفقة في اكتشاف وصياغة وبناء مبادئ وآليات عمل السنن القرآنية في الأمم والشعوب والمجتمعات، وإن تناول مصداقاً وجعله الأمة الإسلامية أو المجتمع الشرقي – حسب الكاتب شريحة اجتماعية – لأن الخطاب القرآني موجهاً لها وللإنسان أينما كان وفي أي زمان كانت حركته وتحركه، والأمة الإسلامية هي حاملة لنور الرسالة، فإشارة السيد الشهيد (رض) مظهراً – لخطه العام في نظرياته – للهدفية والقصد .

9- العدل :

يقول الكاتب هنا يقرر الشهيد الصدر (بأن العدل في واقعه صفة من صفات الله تعالى إلا أنه أُفرز لارتباطه بالبعد الاجتماعي ) ثم يعقب بقوله :

(بيد أن طرحه لمظاهر العدل تظل موضع مناقشة طالما (نخبر جميعاً بأن العدل أفرزت عن الصفات الأخرى باليوم الآخر)، وليس لارتباطها بالبعد الاجتماعي أي من حيث العدالة تترتب عليها الإثابة والعقاب … ومن ثم لا مانع من الذهاب إلى أمر يكتسب أهمية أشد من العناصر الأخرى لكن دون أن يتشاحنا مثل هذا التصور لأهمية العدالة بأن نسحبها على ظاهرة دنيوية دون أن نملك دليلاً شرعياً أو اجتماعياً على ذلك ) {{104 – قضايا إسلامية}}.

ويلاحظ على الكاتب :

أولاً:

التعميم (نخبر جميعاً) ، ولا نرى له وجه ، ومن ثم وحسب ادعاء الكاتب ذلك حصر لعدل الله تعالى بالآخرة  فيترتب عليه – أي على ما طرحه الكاتب – لوازم فاسدة كما يقولون … وعدل الله سبحانه وتعالى أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة .

ثانياً :

إن العدل من المباحث الكلامية وأفرز قبالة من جوز على الله سبحانه وتعالى فعل القبيح لأنه (ل يسأل عما يفعل وهم يسألون) ولذا أُطق على القائلين به – الإمامية والمعتزلة – العدلية مقابل الأشاعرة ، وأما بالنسبة لمعنى العدل (فيمكن أن يتصور للعدل مفهومان خاص وعام ، أحدهما رعاية حقوق الآخرين والثاني إصدار الفعل على وجه الحكمة , بحيث تعتبر رعاية حقوق الآخرين من مصاديقه). ((الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة: ج 1 ، ص 189- 191.))

ثالثاً :

إن استنتاج الكاتب وما راتب عليه من الاحتياج إلى دليل شرعي وآخر اجتماعي، يحتاج إلى برهنة وتدليل وإثبات ، ولا يثبت لأنه فرض غبر مؤسس ولا علاقة لمثل هذه المباحث بالدليل الاجتماعي كما يراه وذهب إليه هو .

ويجب الإشارة إلى (ثمة حقائق لابد من تأكيدها لدى محاولة تقسيم المفكر والمرجع الإسلامي الكبير آية الله العظمى السيد الشهيد (رض) فيما تناولته أقلام الدارسين واتجاهاتهم وهم يرمون من تعريف به ، والإشادة بفكره أو مجرد استعراض نتاجاته في حقول المعرفة التي أنتج فيها السيد الشهيد فكراً جديراً بالدراسة والاهتمام والتقييم ولا تبدو أمامنا ثمة مشكلة تذكر لو أننا اتبعنا مناهجاً علمية وموضوعية لتقييم هذا الرجل العظيم .. ولكن المشكلة تكمن عندنا في تظافر جملة عوامل نجم عنها ذلك التقصير الفادح في ذا الرجل على نحو قصَّر في معرفته أو اكتشافه ولربما أدى إلى تشويهه عن قصد أو من غير قصد ، الأمر الذي أدى إلى شيوع حالة من الجهل فتحت الأبواب على مصراعيها للتشكيك والطعن والتحريف فيما أبدعه السيد الشهيد الصدر).(( زين الدين البكري، صحيفة لواء الصدر، العدد 666- 1994م.))