الفقه السياسي والدستوري

[lwptoc]

تمهيد:

تُمثِّل (أُسس الدولة الإسلامية) المعروفة بـا(الأُسس) إختصاراً، وكتاب (الإسلام يقود الحياة)، أهم المستندات التأريخية لرصد نشوء وتبلور وتطور التفكير السياسي والدستوري عند الشهيد الصدر.

وكان قد كتب الشهيد الصدر (الأسس) كأصول للدستور السياسي المقترح والمزمع كتابته فيما بعد، لتكون المادَّة الفكرية والثقافية في منهاج (حزب الدعوة الإسلامية)، ويعود تاريخها إلى أواخر الخمسينات من القـــــرن العشرين الميلادي، وهي الفترة نفسها التي أُسس فيها حزب الدعوة الإسلامية.

وتعتبر هذه الأسس من وجهة نظر بعض الباحثين “” أول مجموعة أصول للدستور الإسلامي، إذ لم يعهد قبلها أنْ وضعت أصول للدستور الإسلامي””. وهي عبارة عن أصول للدستور وليست دستوراً. ويبلغ عددها ـ كما وصلت إلينا فعلاً، ونشرتها في كتابي الأول عن الشهيد الصدر ـ تسعة، لكن ذكر بعض تلامذته وروّاد العمل الإسلامي أنَّ عددها يصل إلى أكثر من ثلاثين، وكان يقوم الشهيد الصدر نفسه بشرحها على روّاد العمل الإسلامي يومذاك.

والذي أدّى إلى ضياع بعضها ونسيان البعض الآخر، هو طابعها السرّي الذي كان يفرض عدم نشرها، وحصرها بين أعضاء الحزب، وإلى فترة قريبة.

وأما كتاب (الإسلام يقود الحياة) فهو آخر ما أنجزه الشهيد الصدر فكرياً، وقد اشتمل على أفكاره السياسية والدستورية في عدد من حلقاته المختصرة، وتحديداً (اللمحة الفقهية التمهيدية عن مشروع الدستور الإيراني) و(خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) و(منابع القدرة في الدولة الإسلامية).

وقد ذكر بعض تلامذته أن هناك بحثاً كتبه الشهيد الصدر في بداية تكوين التصور السياسي، ناقش فيه جميع الأدلة التي يذكرها الفقهاء على الصيغة الخاصة للحكم الإسلامي، سواء روايات ولاية الفقيه المطلقة، أو دليل الحسبة الذي كان يراه دليلاً قاصراً عن الوفاء بجميع متطلبات الحكم الإسلامي، وذكر ـ أيضاً ـ أنه أطلع عليها الشيخ حسين الحلي أحد أشهر فقهاء النجف الأشرف يومذاك.

المسألة السياسية:

كانت المسألة السياسية جزءً من مشروع الشهيد الصدر الفكري، وجزءً من همّه الاجتماعي أيضاً، وهي إن كانت كذلك، فإنها تجد مبررها الكافي في طبيعة الإسلام الشمولية نفسها، باعتبارها نظاماً متكاملاً يهدف إلى بناء الإنسان، وفقاً لرؤية متجانسة تنتمي إلى عالم الكمال المطلق، وتتفق مع فطرة الإنسان.

وقد كتب الشهيد الصدر في هذا الصدد: “”فالإسلام إذاً مبدأ كامل، لأنه يتكون من عقيدة كاملة في الكون، ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأسس وأهم حاجتين للبشرية، وهما القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي””.

وتتصل المسألة السياسية بالمشكلة الاجتماعية أصلاً، والتي تُحدَّد صيغتها باختصار في التساؤل عن النظام الذي يصلح للإنسانية، وتسعد به في حياتها الاجتماعية. والنظام الإسلامي ولا شك هو الأصلح من وجهة نظر الشهيد الصدر، شأنه في ذلك شأن جميع الإسلاميين، وهو ما يفسِّر جهوده التي تركزت على التنظير لهذا المشروع المتكامل والتعريف به، والكشف عن مزاياه في المقارنة مع الأنظمة السائدة الأخرى. وإذا كان الإسلام بوجوده وجوداً فكرياً خالصاً (قبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران)، إلاّ أنه ببقائه في ذهن الأمة الإسلامية أصبح “”أملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون””، والقضية التي “” يجب أن ننذر حياتنا لها”” على حد تعبير الشهيد الصدر، وهو ما دأب الشهيد الصدر على العمل لأجله، وبرهن على مدى مصداقيته وإخلاصه في هذا الاتجاه.

وهو إذ يؤكد على مشروعية بل لزوم عمل من هذا القبيل، فإنه يرى أنَّ هناك جناية ضخمة يمارسها كل من يسهم في حجز الإسلام في القمقم وتجميد طاقاته الهائلة البنّاءة، وإبعادها عن مجال البناء الحضاري لهذه الأمة. فالمسألة السياسية همٌّ ثابت متأصل في مشروع الشهيد الصدر، لأنه من وجهة نظره يعتبر الحكم والسياسة جزءً من المشروع النبوي نفسه الذي دأب الأنبياء للعمل من أجله، ويعتبر اختيار النظام الإسلامي منهجاً في الحياة وإطاراً للحكم أداءً لفريضة من أعظم فرائض الله، وإعادة لروح التجربة التي مارسها النبي الأعظم (ص)، وجاهد من أجلها أمير المؤمنين علي (ع) والأئمة (ع)، وهو ما يفسِّر ـ حسب رأي الشهيد الصدر ـ الموقف الشيعي عموماً، إذ “”عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيّرة، عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والإصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين””. ولذلك يُعدُّ التخلي عن وظيفة كرَّس الأنبياء جهودهم وجندوا أرواحهم لأجل تحقيقها، تفريطاً بجزء من أهم أسس الدعوات الإلهية وتحديداً الدعوة الإسلامية.

ومن وجهة نظر الشهيد الصدر يجب على المسلمين التصدي للحكومات أو الأنظمة غير الإسلامية واستبدالها بالدولة الإسلامية، بل ويجب إسقاط الحاكم الذي يرأس الدولة الإسلامية نفسها في حالة انحرافه وتنكُّره للإسلام وتعاليمه وإصراره على ذلك.

آليات العمل الإسلامي:

ولقد حدَّد الشهيد الصدر الآليات السياسية التي يتم بها تحقيق بناء الدولة الإسلامية والوصول إلى هذا الهدف، ويتقدمها العمل الحزبي أو التنظيمي الشائع المعروف في التنظيمات المعاصرة، مع تطوير شكلها مع ما تقتضيه مصلحة الدعوة إلى الإسلام. ويجد العمل الحزبي مسوّغه من وجهة نظر الشهيد الصدر في فائدته، إذ “” أثبتت التجربة في مختلف التنظيمات العالمية أن التنظيم هو الأسلوب الناجع في تغيير المجتمع باتجاه الخير أو الشر””، فضلاً عن مشروعيته، لأن “”أسلوب الدعوة إلى الإسلام إنما هو الطريق الذي يمكن بواسطتها إيصال الإسلام إلى أكبر عدد من الناس وتربيتهم بثقافة الإسلام تربية مركزّة تدفعهم للقيام بما فرض الله عليهم. وحيث أن الشريعة لم تأمر بإتباع أسلوب محدد في التبليغ جاز لنا شرعاً انتهاج أية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الإسلام وأحكامه وتغيير المجتمع بها ما دامت طريقة لا تتضمن محرماً من المحرمات الشرعية. وأية حرمة شرعية في أن تتشكل الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في هيئة وجهاز، وتكوِّن كياناً موحّداً وفعالية منتجة في الدعوة إلى الله عز وجل””، بل “”أنَّ الرسول القائد صلى الله عليه وآله لو كان في عصرنا لاستعمل بمقتضى حكمته الأساليب الإعلامية والتبليغية المعاصرة والملائمة. والحق إنّ أسلوبه صلى الله عليه وآله في الدعوة ما كان عن التنظيم الحلقي ببعيد””.

ويتعدى الشهيد الصدر بالعمل الحزبي من كونه جائزاً ومشروعاً ذا فائدة كبيرة على مستوى النتائج وتحقيق الأهداف، إلى كونه واجباً، إذا انحصر الوصول إلى إقامة الحكم الإسلامي وتأسيس الدولة الإسلامية به وتوقف عليه. فكتب في هذا الصدد: “”إنَّ تجميع الجهود من أجل الإسلام وتنسيقها بحكمةٍ واختيار الطريقة الأفضل لتنظيم ذلك ليس مجرد أمر جائز في عصرنا وحسب، بل هو واجب ما دام تغيير المجتمع وتعبيده لله ومجابهة الكفر المنظم متوقفاً عليه””.

وإذا كان ثمة سمة للتنظيم الغربي، فإنَّ ذلك لا يعني إسقاطها بالضرورة على التنظيم الإسلامي، وذلك للفرق بينهما، وكون الأخير “” ينبع من طبيعة الإسلام وطبيعة المبادئ الأخرى””.

ونستنتج مما تقدم أن مسوّغ التنظيم بالأصل كونه الطريقة العقلائية التي لا حرمة فيها، فضلاً عن المعيار التجريـبي الذي أثبت نجاعة طريقة من هذا القبيل. لكن ذكر السيد الحكيم في بعض كتاباته عن الشهيد الصدر إيمانه ، على إمكان إقامة الحكم{وأمرهم شورى بينهم}واعتقاده بدلالة قوله تعالى:  الإسلامي، وذلك باعتبار أن الحكم وإقامة الدولة يمثِّل أمراً مهماً من أمور المسلمين، ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم، لأن التجاهل يؤدي إلى تهديد أصل الدين، بالإضافة إلى سيطرة الكفّار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي، على نحو تكون الآية الكريمة بصدد إثبات مشروعية الحكم نفسه، فضلاً عن صيغة الحكم وشكله، وهو ما يفهم من كلام السيد الحكيم عمّا أسماه شك السيد الشهيد في صحة العمل الحزبي نفسه الذي لا معنى له إلاّ إذا كان يتضمن تصوراً كاملاً عن نظرية الحكم وطريقة ممارسته.

ولا أجدني متفاعلاً مع رواية من هذا القبيل، وذلك لجهتين:

الأولى: بلحاظ طبيعة الاستدلال بهذه الآية الكريمة على مشروعية الحكم، لأنها أجنبية عنه، إذ هي بصدد الحديث عن الشورى في أمرهم، والذي يفترض أن يكون الحكم منه، وهو ـ أي الحكم ـ ثابت بمشروعيته في مرتبة سابقة، فهم يتشاورون في أمرٍ ثبت في الدين، وإن كان كذلك فلا يجوز تجاهله، خاصة وأنَّ الحكم والدولة ـ على الأقل من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ من طبيعة الإسلام وتكوينه، وهو ما يوحي به كامل تراث الشهيد الصدر.

والثانية: بلحاظ ما عرفناه من ارتكاز العمل الحزبي على فائدة التنظيم، وكونه أمراً مشروعاً لم يدل الدليل على حرمته، بل الدليل على جوازه، ووجوبه أيضاً. وهذا ما يتصل بأصل مشروعية العمل للإسلام والتبليغ بالرسالة وتعبيد الناس، ولا علاقة له ـ مباشرة ـ بصيغة الحكم وشكله. ولذلك اتفق المسلمون على مشروعية الحكم الإسلامي، بل ضرورته، واختلفوا في الصيغ القانونية والفقهية المتعلقة بشكله وآليات التنفيذ. وعندئذٍ سيكون شك الشهيد الصدر شكاً في (الأسس) التي كتبها كأصول للدستور الإسلامي، والتي تستند ـ أساساً ـ على آية الشورى(23)، ولا علاقة لهذا الأمر بالعمل الإسلامي وصيغته، بل أنَّ العمل الإسلامي نفسه والدعوة إلى الإسلام لا تتوقف على صيغة التنظيم والعمل الحزبي. بل إننا لو قبلنا روايةً من هذا القبيل فسنشرِّع لصيغ التقاعس جميعها التي سادت في الأوساط الدينية، والتي يمكن أن تتذرع بالشك في هذه الصيغة أو تلك، أو بخفاء أو عدم تمامية الأدلة وغير ذلك.

وعوداً على بدء، يجب التنويه إلى طبيعة هذا العمل التنظيمي أو الحزبي، من حيث الأسلوب الذي يعمد إليه الحزب الإسلامي، في التوصل إلى أهدافه، وبناء الدولة الإسلامية وإقامة الحكم الإسلامي، إذ نوَّه السيد الشهيد في صدد حديثه عن وجوب إسقاط الحكم اللاإسلامي، وإبداله بالإسلامي إلى أنَّ الطرق التي تستعمل في هدمه وإبداله تقدَّر من حيث درجة العنف والقوة طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدد الإسلام منها، وطبقاً لإمكانات العاملين، واحتمال عود جهادهم بنتيجة على الإسلام. كما أنَّ إسقاط الحاكم في الدولة الإسلامية نفسها لو أصرَّ على انحرافه مشروط بعدم الوقوع في الحرب الداخلية.

الدولة الإسلامية:

الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشهيد الصدر “” لا تنبع من إعتناق الأشخاص الحاكمين للإسلام، وإنما تنشأ من اعتناق نفس الدولة، كجهاز حكم الإسلام. ومعنى اعتناق الدولة للإسلام ارتكازها على القاعدة الإسلامية، واستمدادها من الإسلام تشريعها ونظريتها للحياة والمجتمع””. وما لم تستهدِ الدولة بالإسلام عقيدة وشريعة فهي دولة كافرة، حكمها حكم كافر وجاهلي.

ولكن الدولة الإسلامية هذه ـ بالمواصفات السابقة ـ وإن كانت تستهدي الإسلام عقيدة وشريعة، فهي ليست معصومة عن الخطأ، وبالتالي لا تكون لأوامرها وقراراتها صفة اللزوم المطلقة، لأن مثل هذا النموذج أو النحو من الحكم مختص بحكم النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).

ويذكر الشهيد الصدر نحوين آخرين للدولة الإسلامية:

النحو الأول: وهي الدولة الإسلامية التي تكون بعض التشريعات والتنفيذات فيها متعارضة مع الإسلام، ولكنه تعارض ناشىء من عدم إطلاع السلطة الحاكمة على حقيقة الحكم الشرعي أو طبيعة الموقف.

النحو الثاني: وهي الدولة الإسلامية التي تشذ فيها الحكومة في تصرفاتها التشريعية أو التنفيذية، فتخالف القاعدة الإسلامية الأساسية عن عمدٍ، مستندة في ذلك إلى هوى خاص أو رأي مرتجل.

والنحو الأول من الدولة الإسلامية يجب على المسلمين إطاعة السلطة فيها، وفي كل الحقوق والمجالات التي تشملها صلاحياتها الشرعية. لكن يجب على المسلمين أن يشرحوا للدولة هذه ما تجهله من أحكام الإسلام. وإن أصرت على وجهة نظرها الخاطئة عن حسن نية، ولم يكن لمن يختلف معها في وجهة نظرها أن يثبت لها رأيه، فإنه يجب عليه إطاعة أوامرها وقراراتها، إذا كانت مما يجب فيه توحيد الرأي، مثل: الجهاد، والضرائب، وأمثالها، وإلاّ فهو في حلّ من متابعتها في القضايا التي لا تتصل بالأمن العام وغير ذلك.

والنحو الثاني من الدولة الإسلامية يجب على المسلمين فيها عزل السلطة الحاكمة واستبدالها بغيرها، لأن العدالة من شروط الحكم في الإسلام، وهي تزول بانحراف الحاكم، وتصبح سلطته غير شرعية. وإذا لم يتمكن المسلمون من عزلها وجب عليهم ردعها بأية طريقة طبقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي حالة من هذا القبيل لا يجب على المسلمين إطاعة أوامر وقرارات هذه السلطة، إلاّ في الحدود التي تتوقف عليها مصلحة الإسلام، كما إذا داهم الدولة الإسلامية خطر مهدد وغزو كافر، فيجب على المسلمين ـ عندئذٍ ـ الوقوف إلى جانبها وإلى صفها بالرغم من انحرافها، غير أنَّ ذلك منحصر بما يتصل بتخليص الإسلام والأمة من الغزو أو الخطر.

نُذكِّر أنَّ الدولة الإسلامية من حيث الوحدة السياسية ـ عند الشهيد الصدر ـ دولة فكرية، وذلك انعاكساً للوحدة الفكرية القائمة بين الجماعة والأمة. وتعني الوحدة الفكرية عنده “” إيمان جماعة من الناس بفكرةٍ واحدةٍ تجاه الحياة، يقيمون على أساسها وحدتهم السياسية””.

غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ المسلمين في هذه الدولة على درجة واحدة من الالتزام والإيمان بهذه الفكرة، فهناك المسلم الواقعي، وهناك المسلم الظاهري الذي التزم الإسلام ظاهراً وبإعلانه الشهادتين، ومع ذلك فقد لوحظ ـ تاريخياً ـ أنَّ الدولة الإسلامية تساوي في الحقوق والواجبات بين المسلمين من حيث الأحكام العامة، بغض النظر عن الواقع، وإنْ كانت تحتاط تجاه من تخشى نفاقه مما يعني حرمانه من بعض الوظائف والمهام التي يشكّل إسنادها إليه خطراً على الدولة الإسلامية ونظامها وأمنها.

وفي هذا الاتجاه نشير إلى رأي يتفرد به الشهيد ـ ويتبنّاه حزب الدعوة الإسلامية ـ مفاده: “” أن المرتد عن الإسلام سواء كان مليّاً أو فطرياً إذا تاب وأناب، فإنّ الدولة تقبل إسلامه واقعاً وظاهراً، وتعامله كبقية المسلمين””. وهو رأي على خلاف المعروف والمشهور ـ عند الفقهاء ـ من عدم قبول توبة المرتد الفطري (المسلم عن أبوين مسلمين) ظاهراً، وقبولها واقعاً. مما استدعى ملاحظة بعض الفقهاء (وفي مقدمتهم السيد الخوئي) على الرأي المذكور لكونه مخالفاً للمشهور. وقد دافع عنه الشهيد الصدر ـ حينذاك ـ في لقائه السيد الخوئي، إثر عرض (الأسس) عليه.

وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة فكرية، تقوم على إيمان جماعة من الناس بفكرة واحدة، فإنَّ ذلك لا يعني التنكر لحقوق غير المسلمين ممن انضوى تحت سلطة هذه الدولة والتزم نظامها السياسي، ولذلك تتعهد الدولة الإسلامية لغير المسلمين من مواطنيها الذين يؤمنون بالانتماء السياسي إليها، بممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله، فضلاً عن حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية والمذهبية.

مهام الدولة الإسلامية:

حدَّد السيد الشهيد مهام الدولة الإسلامية كما في (الأسس) بأربع وظائف، وهي:

أولاً: بيان الأحكام، وهي القوانين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية المقدسة بصيغها المحدّدة الثابتة، وهي “”الأحكام الثابتة التي بُيِّنت في الشريعة بدليلٍ من الأدلة الأربعة، الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فلا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير لأنها ذات صبغة محددة وشاملة لجميع الظروف والأحوال، فلابد من تطبيقها دون تصرف””، كما في إلزام الأمة الإسلامية بإعداد ما تستطيع من القوة في مواجهة الأعداء، وقاية لأمنها من المخاطر، فإنه حكم ثابت شامل لجميع الظروف والأحوال.

ثانياً: وضع التعاليم (التعليمات)، وهي التفصيلات القانونية التي تنطبق فيها أحكام الشريعة على ضوء الظروف. ويتكون من مجموع هذه التعاليم النظام السائد لفترة معينة، تطول وتقصر تبعاً للظروف والملابسات. وهي “”أنظمة الدولة التفصيلية والتي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعية الدستورية، لظرف من الظروف. ولذا فهي قوانين متطورة تختلف باختلاف ظروف الدولة، ومنشأ التطور فيها أنها لم ترد في الشريعة مباشرة وبنصوص محدَّدة، وإنما تستنبط من أحكام الشريعة على ضوء الظروف والأحوال، التي هي عرضة للتغير والتبدل””. ولعلَّ أوضح مثال عليه ـ كما عن الشهيد نفسه ـ إلزام المسلمين القادرين بالتدريب على حمل السلاح، ولم يكن على العهد الأول وصدر الإسلام، لعدم اقتضاء الظروف لإلزامٍ من هذا القبيل، ويدخل في هذا الإطار قانون الشرطة، وقانون الاستيراد والتصدير، وقوانين العمل والتعليم.

ثالثاً: تطبيق أحكام الشريعة ـ الدستور ـ والتعاليم المستنبطة منها ـ القوانين ـ على الأمة. وينبّه السيد الشهيد على أنَّ رعاية شؤون الأمة التي عُهد بها إلى السلطة في الدولة الإسلامية هي نفسها لابد أن يراعى فيها تطبيق الدستور والقوانين الإسلامية، فيجب أن تكون في ضوء ما حدَّده الإسلام.

رابعاً: القضاء في الخصومات الواقعة بين أفراد الرعية، أو بين الراعي والرعية على ضوء الأحكام والتعاليم.

نشير إلى أن الشهيد الصدر لا يرى أن جميع هذه المهام من شؤون رعاية الدولة لتكون داخلة في صلاحيات الحكومة بوصفها حكومة، وإن كانت لازمة للدولة.

فبيان الأحكام الشرعية من شؤون (الإفتاء) وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها ـ أيضاً ـ المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحِّداً، كما في مجالات السياسة والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهداً، أو يختار اجتهاداً من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم. لكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ.

وربما يختزن هذا الرأي ـ ضمناً ـ قدراً كبيراً من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، مالم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية، ولكن ذكر الشهيد الصدر في (فلسفتنا): “”إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسدَّدة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها””. و لا نعرف ما إذا كان هذا يعني احتكار الحكومة التعليم.

وكذلك القضاء، فليس من مهمات الحكومة بوصفها حكومة، لأنه لا يثبت للحاكم لمجرد كونه حاكماً، بل يثبت لمن نصَّت الشريعة عليه نصّاً خاصاً، وهم الفقهاء. فإن كان الحاكم فقيهاً جاز له القضاء، ولكنه لا يمنع غيره من الفقهاء من القضاء، ما لم يكن ثمة مصلحة تقضي بتوحيد القضاء على اجتهاد معين، فمن كان من الفقهاء مصوِّباً لهذا الاجتهاد فهو يقضي وفقاً له بلا إشكال، وإلاّ قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يصوِّب أو يرتأي الاجتهاد المذكور.

ومهما يكن من أمر، فليس للحكومة أن تمنع فقيهاً من القضاء، وليس لها أن تمنحه لغير الفقهاء. لكن يجب عليها أن تقوم بتوفير الكادر القضائي، وذلك بإعداد أو توفير القدر اللازم من القضاة، لأنّ ذلك يندرج في شؤون رعاية الأمة التي تدخل في صلاحيات الحكومة.

ثمة تفصيلات فقهية كثيرة لهذه (الأسس) وفي هذه المسألة تحديداً لم يُشر إليها الشهيد الصدر، لأنه ليس بصددها وهو في مقام بيان أصول الدستور لا الدستور نفسه، فضلاً عن النظام القضائي، ولذلك أحال السيد الشهيد التفصيل إلى بحوث الفقه، غير أنه من اللازم الإشارة إلى أنَّ هذا الرأي يستبطن الإيمان بفصل القضاء عن السلطة (الحكومة التنفيذية) وهو ما يجري الآن في العالم المعاصر، وسبق إليه النظام الإسلامي.

وبالمقارنة مع ما كتبه الشهيد الصدر في (الإسلام يقود الحياة) لا نجد ثمة تفصيلات، بل أشار بعمومية شديدة إلى مهام وأهداف الدولة الإسلامية، ولكنه أشار إلى تنوّع أهدافها على المستويين الداخلي والخارجي.

فأهداف الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشهيد الصدر على المستوى الداخلي:

أولاً: تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.

ثانياً: تجسيد روح الإسلام بإقامة مبادئ الضمان الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في المعيشة، وتوفير حدٍّ أدنى كريم لكل مواطن، وإعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة، وبالطريقة التي تحقق هذه المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية.

ثالثاً: تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصية الإسلامية العقائدية في كل مواطن، لتتكون القاعدة الفكرية الراسخة التي تمكن الأمة من مواصلة حمايتها للثورة.

وأهدافها على المستوى الخارجي:

أولاً: حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كله.

ثانياً: الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.

ثالثاً: مساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطغيان، وبخاصة في العالم الإسلامي.

السلطة السياسية:

ويبدو للباحث في تراث الشهيد الصدر أنه اتّجه بالبحث في هذه المسألة في اتجاهين:

الأول: في مصدر هذه السلطة.

الثاني: في تحديد الحاكم أو الهيئة الحاكمة.

وفي البحث الأول: يرى الشهيد الصدر ـ كإِسلامي ـ “”أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً””، وهو ما يعني تأسيس ما يعرف بالأصل الأولي، وهو نفي أية سلطة على الإنسان سوى السلطان الإلهي، الذي يبرّره كون الإنسان مخلوقاً وعبداً له. وعليه “”فالسيادة لله وحده””، و””وأن الإنسان حرٌّ ولا سيادة لإنسانٍ آخر و لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه””.

ويتفرع على ذلك أن “”الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدّد عن الله تعالى””، لأنه هو مصدر السلطات، وكل ما ثبت من سلطةٍ بمقتضاها فهي سلطة شرعية، لأنها سلطة تنتسب إليه، وتجد مبررها في هذا الأصل الأولي، وهو مبرر الشكل الإلهي للحكم، والذي “”يعني حكم الفرد المعصوم الذي يستمد صلاحياته من الله مباشرة ويمارس الحكم بتعيين إلهي خاص دون دخل لاختيار الناس وآرائهم””، وهو شكل من الحكم مقصور على المعصومين، مما يميزه عن الشكل الإلهي الذي عُرف في الفقه الدستوري المعاصر، لأن “”السيادة لله تعالى التي دعا إليها الأنبياء تحت شعار ـ لا إله إلا الله ـ تختلف اختلافاً أساسياً عن الحق الإلهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين، فإنّ هؤلاء وضعوا السيادة إسمياً لله لكي يحتكروها واقعياً من أنفسهم خلفاء لله على الأرض. وأما الأنبياء والسائرون في موكب التحرير الذي قاده هؤلاء الأنبياء والأُمناء من خلفائهم وقواعدهم فقد آمنوا بهذه السيادة وحرّروا بها أنفسهم والإنسانية من أُلوهية الإنسان بكل أشكالها المزوّرة على مرّ التاريخ، لأنهم أعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعي المحدد والمتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء، فلم يعد بالإمكان أن تستغل لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة إلهية”” .

ويحدد الشهيد الصدر هذا الحق بصورته الصحيحة بدقة متناهية، إذ يعتبر من وجهة نظره أن “”الضمان الأساسي في الشكل الإلهي من الحكم هو العصمة من الهوى والخطأ، التي تشكل الضمان الحتمي لاستقامة الحكم ونزاهته””(50). ولذلك لن تكون هناك سلطة مطلقة على الإطلاق ما لم تكن معصومة، وإنما هي سلطة محدَّدة بالشريعة الإسلامية، وعندئذٍ يلزم أن تكون ممارسة السلطة “”ضمن الحدود الشرعية””، وإلاّ فستفقد شرعيتها ويجوز للمسلمين عزلها بل يجب عليهم ذلك. لأن الصفة الإسلامية للدولة وللحكم مرهون بمدى “”اعتناق نفس الدولة كجهاز حكم الإسلام، ومعنى اعتناق الدولة للإسلام ارتكازها على القاعدة الإسلامية واستمدادها من الإسلام تشريعها ونظريتها للحياة والمجتمع””.

وفي البحث الثاني: وتحديداً في شكل الحكم وتحديد الحاكم، فإنَّ للشهيد الصدر عدة نظريات، يمكن رصدها في تراثه الفكري، ابتداءً بمطلع حياته الفكرية، ومروراً ببروزه وظهور دوره المرجعي، وانتهاءً بإعلانه حالة التعاطف السافر مع الثورة الإسلامية ومحاولة التنظير لأسس نظامها الدستوري وشكل الحكم المقترح لها.

نظرية الشورى أو حكم الأمة:

وقد انعكست هذه النظرية في (الأسس) والتي يعود تاريخها إلى أواخر الخمسينات من القرن العشرين الميلادي، كما مرَّت الإشارة إليه.

ويرى السيد الشهيد أنَّ في كل حالةٍ يخلو فيها النص على الحاكم الشرعي أو تحديده أو تشخيصه، كما هو الحال في النص على ولاية النبي (ص) أو ولاية الأئمة (ع) فإنَّ الحكم في هذه الحالة (وهو ما ينطبق على عصر غيبة الإمام) شوري، يرجع إلى الأمة، ولها ولاية الأمر والحكم، غير أنَّ ولايتها مشروطة باحترام الحدود الشرعية وبما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية.

والأساس أو المصدر التشريعي لهذا الشكل من الحكم من وجهة نظر الشهيد الصدر ، فإنَّ هذه الآية الكريمة الواردة في(وأمرهم شورى بينهم}””قوله تعالى:  سياق صفات المؤمنين التي تستحق المدح والثناء تدل على إرتضاء طريقة الشورى وكونها طريقة صحيحة، حينما لا يوجد نص من قبل الله ورسوله. وأما حيث يوجد وما كان لمؤمن ولا}النص فلا مجال لاعتبار الأمر شورى، لأنه سبحانه يقول:  ، فالأمر{مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم إنما يجوز أن يكون شورى بينهم فيما إذا لم يقض النص الشرعي بقضاء معين. ومن الواضح أن مسألة شكل الحكم في الوقت الحاضر لم تعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً””. وعليه فإن “”الشكل الشوري للحكم شكل صحيح في أساسه، في ظرف عدم وجود الشكل الإلهي المتقدم، وعدم وجود النص الشرعي على كيفية معينة لممارسة الحكم””. وعندئذٍ “”فيصح للأمة إقامة حكومة تمارس صلاحيتها في تطبيق الأحكام الشرعية، ووضع وتنفيذ التعاليم المستمدة منها. وتختار لتلك الحكومة الحدود التي تكون أكثر اتفاقاً مع مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة، وعلى هذا الأساس فإن أي شكل شوري من الحكم يعتبر شكلاً صحيحاً ما دام ضمن الحدود الشرعية. وإنما قيَّدنا الكيفية التي تمارس بها الأمة حق الحكم بأن تكون ضمن الحدود الشرعية، لأنه لا يجوز لها أن تختار الكيفية التي تتعارض مع شيء من الأحكام الشرعية، كأن تسلم زمام الأمر إلى فاسقٍ أو فسَّاق، لأن الإسلام نهى عن الركون إلى فاسقٍ بالأخذ بقوله في مجال الشهادة فضلاً عن مجال الحكم ورعاية شؤون الأمة، فلابد للأمة حين تختار كيفية الحكم والجهاز الذي يباشر الحكم أن تراعي الحدود الشرعية””.

وبلغةٍ أكثر تفصيلاً يضع الشهيد الصدر عدة شروط لممارسة الأمة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم:

أولاً: أن يكون اختيار شكل الحكم الجهاز الحاكم ضمن الحدود الشرعية الإسلامية، وغير متعارض مع شيء من أحكام الإسلام الثابتة.

ثانياً: أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتفاقاً مع مصلحة الإسلام التي تعني الوضع الأفضل للإسلام باعتباره دعوة عالمية وقاعدة للدولة.

ثالثاً: أن يكون اختيار الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتفاقاً مع مصلحة المسلمين بوصفهم أمة لها جانبها الرسالي والمادي.

وخارج إطار هذه الحدود تبقى الأمة حرَّة في اختيار الشكل والجهاز الحاكم، ويبقى الاحتكام لصناديق الاقتراع وحكم الأكثرية في مقام الترجيح بين وجهات النظر المختلفة.

وقد ذكر السيد الشهيد قيداً على هذا الحق، وذلك على خلفية تمييزه بين حالة ما إذا كانت الأمة على وعي بالإسلام وظروفها الحياتية والدولية، وبين ما إذا لم تكن على هذه الحال، فإنه من وجهة نظر الشهيد الصدر “”إذا تم للأمة بشكل عام مثل هذا الوعي فإنَّ باستطاعتها أن تختار شكل الحكم وأن تنتخب الجهاز الكفوء لرعاية شؤونها، ويتساوى حينئذٍ في ممارسة هذا الحق كل المكلفين بأحكام الإسلام من الأمة، ممن بلغ السن الشرعية، من المسلمين والمسلمات. أما إذا لم تكن هذه الشروط متوفرة في الأمة لعدم وجود الوعي العام للإسلام، وبالتالي عدم معرفة الحدود الشرعية التي يجب أن تراعى في اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم بما يتفق مع مصلحة الإسلام والأمة، فإنه لابد للدعوة بوصفها طليعة الأمة الواعية لحدود الإسلام ومصلحته، الواعية لظروف الأمة ومصلحتها أن تقيم في الأمة شكلاً للحكم الإسلامي، وتختار جهازاً حاكماً حتى يجيء الظرف المناسب لاستفتاء الأمة لاختيار شكل الحكم””.

ليس ثمة تفصيلات في هذه المسالة بالذات، فلا نعرف ما هي الخطوات التي يخطوها الحزب لترشيد الأمة وتأهيلها لهذا الدور، كما لا نعرف الظرف الزمني الذي يتطلبه مثل هذا الإعداد، خاصة في ظل خطورة الهيمنة التي قد تفرض ولفترة طويلة. كما أننا لا نعرف الأساس الشرعي لذلك، فهل هو ما يعرف بـا(ولاية عدول المؤمنين)، أو تطبيقاً لأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قد تشمل المقام.

نظرية ولاية الفقيه:

وقد عدل السيد الشهيد عمّا أسماه بالحكم الشوري أو حكم الأمة إلى نظرية ولاية الفقيه. ويعود تاريخ عدوله إلى أواخر الثمانينات الهجرية، أي أواخر مرجعية السيد الحكيم، كما نقل عنه بعض تلاميذه.

وقد انعكست نظرية ولاية الفقيه في رسالته العملية المعروفة با(الفتاوى الواضحة)، إذ كتب الشهيد الصدر: “”.. المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد.. جاز للمكلف أن يقلده كما تقدم. وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً””.

وإذا كان الشهيد الصدر في رأيه هذا على وفاقٍ مع المشهور في تفسير الولاية مما أُسمي عندهم بالنصب العام للفقيه، فإنه قد أضاف شرطاً لم يلتفت أو على الأقل لم ينبِّه غيره عليه، وهو شرط الكفاءة الواقعية وهو شرط يُجنِّب الأمة تصدي بعض الفقهاء لأمور المسلمين، في الوقت الذي لا تتوفر فيهم الكفاءة، وإن توفرت فيهم الكفاءة من حيث الاجتهاد والعدالة.

ويرجع عدول الشهيد الصدر عن نظرية الشورى إلى نظرية الفقيه، إلى إعادةِ نظره في دلالة آية الشورى، التي استفاد منها التأسيس لما أسماه حكم الشورى أو حكم الأمة، فضلاً عن توفره على دليل لفظي يصلح لإثبات الولاية للفقيه.

وقد نقل بعض تلاميذه أنه كان يورد على الاستدلال بآية الشورى كأساسٍ لنظرية الحكم الشوري ملاحظتين:

الأولى: أنَّ الآية لو كان لها الدلالة على جعل الولاية للشورى، فهي لا تدل على الولاية أكثر من الدليل (الأصل)، الذي يدل على مسؤولية الإنسان عن نفسه وعمله. نعم تضيف إليه أمراً آخر، وهو أن يتشاور المسلمون في شؤونهم بدل أن يتخذوا القرار بشكل فردي، لأن الآية ليس فيها دلالة على أن الولاية سوف تكون للأكثرية من المتشاورين، بل أن المسلمين الذين يكون كل واحد منهم مسؤولاً عن نفسه، يجب عليهم أو يحسن بهم أن يتشاوروا في أمورهم. فقد يكون المراد فيها الحث على التشاور، وإنما يكون الإلزام بالقرار عندما يكون إجماعياً، مع ملاحظة أن الآية لا تتحدث عن خصوص التشاور في الأمر والذي هو الولاية، الذي يعني جميع المسلمين بل تتحدث عن جميع أمور المسلمين، وبإطلاقها يمكن شمول الأمر للأمر الذي يهمّ جميع المسلمين. وبهذا الفهم للآية لا يمكن أن نلتزم رأي الأكثرية ـ بإدعاء أن تحصيل الإجماع على القرار لما كان أمراً غير ممكن التحقق عادة ـ فإذا أردنا التقيد بالإجماع، فإن ذلك يعني أن يصبح مضمون الآية لغواً، لعدم تحقق مصداقٍ له في الخارج، لأننا بهذا الفهم يمكن أن نحمل الآية على الأمور الأخرى غير الولاية، من مختلف قضايا وأشكال أمور الجماعات الإسلامية، ودوائر التشاور، ومن المعقول أن يكون القرار إجماعياً في كثير من هذه الحالات، وإن كان في حالة معينة لا يمكن أن يكون إجماعياً، وهي حالة انتخاب الولي، ولكن ذلك لا يضر بفهم الآية، لأنه لا يؤدي إلى تخصيص الأكثر، أو أن لا يكون له مصداق.

الثانية: إن الأمر الذي تتناوله الآية، وتمدح المؤمنين على التشاور فيه ليس هو أصل الحكم والولاية، وإنما هي أمور أخرى، وذلك بقرينة أن الحكم الذي كان يمارسه النبي (ص) في زمن نزول الآية لم يكن قائماً بالأصل على الشورى. والظاهر من مجموع الأوصاف التي وردت في سياق هذا الوصف في الآيات الكريمة أنها أوصاف فعلية وعملية، والمسلمون مدعوون للعمل بها فعلاً، وهذا لا ينسجم مع ما قرره القرآن الكريم من أن الولاية ـ في وقت نزول الآية ـ للرسول ، بل أنَّ هذه الآية{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}وحده  نزلت في مكة، ولم يكن للمسلمين مجتمع قائم وإنما كانوا يعيشون ضمن المجتمع المكي الكافر، فلابد أن يكون المقصود أو القدر المتيقن منها القضايا ذات الطابع الشخصي أو العادي، أو تكون منسوخة بالآيات الدالة على لزوم إطاعة الرسول وأولي الأمر المنصوبين من قبله.

وقد ذكر السيد الشهيد في ما كتبه بعنوان (بحث حول الولاية): أنَّ نظام الشورى لو كان قد أُقر كصيغة تشريعية للحكم فهو نظام سياسي جديد لم تألفه الحياة العربية ولا يكفي طرحه على المستوى الذي طرح فيه أو كما يبدو، لأنه بهذه الصورة مفهوم غائم ويفتقر إلى عددٍ من التفصيلات، وهو ما يُفسِّر عدم طرحه كنظام سياسي عقيب وفاة النبي (ص) مع توفر الدواعي على طرحه بين الصحابة، ولا يعقل إغفاله منهم وبشكل جماعي، يصل إلى حدّ الإطباق، لأن هناك عدداً من الصحابة لم يسهم في الأحداث السياسية، مما يعني عدم وجود الدواعي عندهم لإغفال نظام الشورى وإخفاءه لو كان قد اُقرّ كصيغة للحكم وتداول السلطة.

وفي الوقت الذي تأمل فيه السيد الشهيد في دلالة آية الشورى على تأسيس نظام الشورى كصيغة من صيغ الحكم، صحّح فيه بعض أدلة (ولاية الفقيه) سنداً ودلالة وبالتحديد توقيع إسحاق بن يعقوب، الذي رواه عن الإمام الثاني عشر (ع). والذي ورد الجواب فيه: “”أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتيّ عليكم، وأنا حجة الله””. ونقل بعض تلاميذه أنَّ تصحيح سند التوقيع المذكور كان بناءً على نظرية التعويض الرجالية التي نقحها السيد الشهيد. ويبدو لي أنه غير صحيح، لأنه لا علاقة لتصحيح السند المذكور بنظرية التعويض التي مرَّ توضيحها في الحديث عن المنهج الفقهي عند الشهيد، وذلك لأن الإشكال السندي في التوقيع يقع في الراوي الأساسي وهو إسحاق بن يعقوب نفسه. وربما لهذه الجهة تنبَّه السيد الحكيم إلى هذه النقطة فأغفلها من بحثه (النظرية السياسية عند السيد الشهيد الصدر) فيما نشره لاحقاً.

نظرية خلافة الأمة وإشراف الفقيه:

وهي النظرية التي ترجع إلى أواخر حياته، وتبدو من خلال كلماته التي وردت في ما كتبه في تلك الفترة، كرسائل مختصرة نشرت بمجموعها في كتاب (الإسلام يقود الحياة) إلاَّ أننا لا نعرف بالضبط إرهاصات هذه النظرية وبواكيرها، وفيما إذا كانت حاضرة في ذهنه بصيغتها هذه في الفترة التي قيل إنه عدل فيها عن نظرية الشورى إلى نظرية ولاية الفقيه.

ومهما يكن من أمر، فإنَّ الشهيد الصدر، كما في كتاب (الإسلام يقود الحياة) يرى أنَّ الأمة ـ إذا كانت قد حرَّرت نفسها من الطاغوت وحكم الظالم ـ هي مصدر السلطات، وهي صاحبة الحق في ممارسة السلطة التشريعية والتنفيذية. ويستند هذا الحق إلى فكرة الخلافة العامة التي تقوم على أساس قاعدة الشورى، التي تمنح الأمة حق ممارسة أمورها بنفسها.

. وهنا تبرز{وأمرهم شورى بينهم}والمصدر التشريعي لهذا الحق قوله تعالى:  معالم النظرية الأولى ـ نظرية حكم الأمة ـ التي بدت أُسسها في ما كتبه كأصول للدستور الإسلامي. ولئلا يرجع الإشكال التاريخي الذي أثاره الشهيد الصدر نفسه بوجه الاستدلال بآية الشورى على نظام الشورى كصيغة حكم، فإنه يستدل هذه المرَّة بصيغة أعمق. فكتب في هذا الصدد: “”وتمارس الأمة دورها في وأمرهم شورى}الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين:  والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن}، {بينهم . فإنَّ النص الأول يعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق{المنكر الشورى ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك. والنص الثاني يتحدث عن الولاية، وأنَّ كل مؤمن وليّ الآخرين، ويريد بالولاية تولي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه. والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف””.

وكتب الشهيد الصدر في هذا الاتجاه نفسه: “”وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي ـ مع أنه القائد المعصوم ـ أن يشاور الجماعة ويشعرهم بمسؤوليتهم في ،{وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}الخلافة من خلال التشاور،  ويعتبر هذا التشاور من القائد المعصوم عملية إعداد للجماعة من أجل الخلافة وتأكيد عملي عليها. كما أن التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصياءه تأكيد من الرسول على شخصية الأمة وإشعار لها بخلافتها العامة، وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها، وأن الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء، ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه. ولا شك في أنَّ البيعة للقائد المعصوم واجبة لا يمكن التخلف عنها شرعاً، ولكن الإسلام أصرَّ عليها واتخذها أُسلوباً من التعاقد بين القائد والأمة، لكي يُركّز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامة للأمة””. وفضلاً عن ذلك فإننا “”إذا لاحظنا الجانب التطبيقي من دور النبوة الذي مارسه خاتم المرسلين (ص) نجد مدى إصرار الرسول على إشراك الأمة في أعباء الحكم ومسؤوليات خلافة الله في الأرض، حتى أنه في جملة من الأحيان كان يأخذ بوجهة النظر الأكثر أنصاراً، مع اقتناعه شخصياً بعدم صلاحيتها، وذلك لسبب واحد، وهو أن يُشعر الجماعة بدورها الإيجابي في التجربة والبناء””.

ويشير الشهيد الصدر إلى مقولةٍ فقهية غاية في الأهمية، وربما لم تكن واضحة عند غيره، وهي “” إنَّ عدداً من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية يتجاوز قدرة الفرد، ويعتبر حكماً موجهاً نحو المجتمع””، ومن ذلك الأحكام المتعلقة بالحكم والدولة. ولذلك “”دأب القرآن الكريم على أن يتحدث إلى الأمة في قضايا الحكم توعية منه للأمة على دورها في خلافة الله على ،{وإذا حكمتم بين الناس أنْ تحكموا بالعدل}الأرض”” كما في قوله تعالى:  والمؤ}، و{أنْ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}ومنون والمؤمنات بعضهم والسارق والسارقة}، و{أولياءُ بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ….{والزانية والزاني فاجلدوا كلِّ واحدٍ منهما} ، و{فاقطعوا أيديهما..

غير أنَّ هذه الولاية والخلافة مشروطة وليست مطلقة، كما هو الأصل الذي يقرر أنَّ السيادة لله تعالى، وأنَّ الولاية بالنيابة ولاية محدَّدة، بمقتضى قانون الإستنابة والاستخلاف نفسه، ولذلك “” فالجماعة البشرية التي تتحمل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله. ولهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى، لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف. وإنما تحكم بالحق، وتؤدي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده. وبهذا تتميز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، فإنَّ الجماعة في هذه هي صاحبة السيادة ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتب على ذلك أنها ليست مسؤولة بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعي في الحكم، بل يكفي أن تتفق على شيء..””.

والفقيه المرجع جزء من هذه الأمة “”وهو عادة من أوعى أفراد الأمة وأكثرها عطاءً ونزاهة، وعلى هذا الأساس وبوصفه جزءً من الأمة يحتل موقعاً من الخلافة العامة للإنسان على الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ما له من وجود في الأمة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها””.

وثمة صفة أخرى للمرجع من وجهة نظر الشهيد، وهي كونه شاهداً وشهيداً، والشهيد بتعبير الشهيد الصدر “” مرجع فكري وتشريعي من الناحية الإيديولوجية، ويشرف على سير الجماعة.. ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافاً في مجال التطبيق””.

ويتمثل خط الشهادة في: الأنبياء، والأئمة باعتبارهم امتداداً ربانياً للنبي في هذا الخط، وفي المرجعية التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبي والإمام في خط الشهادة. غير أن المرجع ليس معصوماً، لأن العصمة التي ترجع إلى الرابطة الربانية بين الله والعبد مما لا يمكن اكتسابه بشرياً بالجهد والترويض، وإنما تكتسب بالاصطفاء الإلهي. أما المرجع فهو “”الإنسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الأمد استيعاباً حياً وشاملاً ومتحركاً للإسلام ومصادره، وورعاً معمقاً، يروض نفسه عليه، حتى يصبح قوة تتحكم في كل وجوده وسلوكه، ووعياً إسلامياً رشيداً، على الواقع وما يزخر به، من ظروف وملابسات، ليكون شهيداً عليه.

وبموجب هذا الموقع وبقدر تجسده للإسلام حاز المرجع منصب النيابة عن الإمام (عليه السلام)، وفقاً لقوله (عليه السلام): ((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله))، وهو منصب محدود بحدود التنصيب نفسه، الذي دلَّ عليه النص المذكور، والذي يرى السيد الشهيد فيه أنه يعتبر الفقهاء “”المرجع في كل الحوادث الواقعة بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة، لأنَّ الرجوع إليهم بما هم رواة أحاديثهم وحملة الشريعة يعطيهم الولاية بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة وحق الإشراف الكامل من هذه الزاوية””.

وتحديد هذه القيمومة يتوقف على معرفة الموضوعات التي يمارس فيها ولي الأمر صلاحياته، وهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: وهو ما يختص بموارد تعيين الموضوعات الخارجية للأحكام الشرعية من قبيل تشخيص مصلحة الأمة في الجهاد أو غير ذلك.

القسم الثاني: وهو ما يختص بموارد ملء منطقة الفراغ التي تركت من قبل الشريعة لوليّ الأمر، على أن يقوم بملء هذه المناطق وفقاً للمؤشرات العامة والثابتة في الشريعة، من قبيل: منع الاحتكار، أو فرض الزكاة في غير الموارد المنصوص عليها. ومن المعلوم أنَّ هذه الصلاحيات التي أُسندت للفقيه في هذا القسم لا تتصل بتشخيص مصلحة الأمة مباشرة، بل تتصل بالإطار العام للعناصر الثابتة التي يختص الفقيه بمعرفتها التفصيلية بحكم إطلاعه الواسع على المصادر التشريعية الأساسية للتشريع الإسلامي، فيكون الفقيه هو الحجة والمرجع بموجب إرجاع الإمام (عليه السلام) إليه واعتباره حجة على الأمة.

والظاهر اختصاص القيمومة والمرجعية بالقسم الثاني، فيكون الفقيه مرجعاً في كل ما يتصل بتطبيق الشريعة والإشراف على ذلك من هذه الزاوية. ولا يكون الفقيه ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ المرجع في القسم الأول بما هو فقيه، وإنما قد يكون له دور ما بوصفه جزء من الأمة، كما سبقت الإشارة إليه.

وإذا كانت الشريعة قد عيَّنت الفقيه المرجع كقيِّم وشهيد على مسيرة الأمة الإسلامية، فإنه تعيين يختلف عن التعيين الرباني للنبي والإمام، لأنَّ المرجع “”معين تعييناً نوعياً، أي أنَّ الإسلام حدّد الشروط العامة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكد من انطباق الشروط إلى الأمة نفسها””.

وعليه فالمرجع “”الشهيد معيَّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص، أي بالشرائط العامة.. ومعيَّن من قبل الأمة بالشخص، إذ تقع على الأمة مسؤولية الاختيار الواعي له””، و””من هنا كانت المرجعية كخطٍ قراراً إلهياً، والمرجعية كتجسيدٍ في فردٍ معيَّنٍ قراراً من الأمة””.

ولمّا كانت المرجعية حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمة، فيجب أن يتوفر في الشخص الذي يجسِّد هذه المقولة عدة شروط، حدَّدها الشهيد الصدر في التوفر على:

أولاً: صفات المرجع الديني من الاجتهاد المطلق والعدالة.

ثانياً: أن يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وأبحاثه واضحاً في الإيمان بالدولة الإسلامية وضرورة حمايتها.

ثالثاً: أن تكون مرجعيته بالفعل في الأمة بالطرق الطبيعية المتَّبعة تاريخياً.

رابعاً: أن يرشحه أكثرية أعضاء مجلس المرجعية، ويؤيد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية ـ يحدد دستورياً ـ كعلماء، وطلبة في الحوزة، وعلماء وكلاء، وأئمة مساجد، وخطباء، ومؤلفين، ومفكرين إسلاميين. وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط، يعود إلى الأمة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام.

هنا يُلفت الشهيد الصدر الانتباه إلى شرطٍ غايةٍ في الأهمية، وهو توفر الفقيه على الإيمان الفعلي بالدولة الإسلامية وضرورة حمايتها، وهو ما يفترض أن يكون له حضورٌ تاريخي يشهد له على تبني هذا الهمّ والعمل من أجله، وإلاّ مع فقد شرط من هذا القبيل، يكون تنصيبه في موقعٍ مميزٍ كهذا تفريطاً بأعظم وأشرف موقع إسلامي، فضلاً عمّا يمكن أن يتسبَّب فيه هذا التنصيب اللاواعي، من نتائج كارثية، تعرِّض الأمة من جهة إلى المخاطر، وتفقد الموقع رصيده التاريخي ودوره الكبير، من جهة أخرى.

وإنما لم ينحصر خط الخلافة والشهادة ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ في الفقيه، لأنَّ اندماج الخطين “” لا يصح إسلامياً إلاّ في حالة وجود فرد معصومٍ قادر على أن يمارس الخطين معاً. وحين تخلو الساحة من فرد معصوم، فلا يمكن حصر الخطين في فرد واحد””، وذلك حرصاً على “”توفير جو العصمة بالقدر الممكن دائماً. وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم ـ بل مرجع شهيد ـ ولا أمة قد أُنجزت ثورياً بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية ـ بل أمة لا تزال في أول الطريق ـ فلابد أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة الدور الاجتماعي الرباني، بتوزيع خطي الخلافة والشهادة””.

وإذا كان الشهيد الصدر قد حدَّد قيمومة المرجع في القسم الثاني مما مرت الإشارة إليه، وفي إطار التجانس بين خط الخلافة والشهادة، فإنه نبّه على اندماج الخطين معاً في الفقيه، وذلك فيما إذا كانت الأمة محكومة للطاغوت، ولم تكن قد أفلتت من قبضته، فيكون الفقيه المرجع قيَّماً على الأمة، إلاّ أنها قيمومة ناقصة ومحدودة وضيقة، لأنها لا تتعدى حدود تصرفات الأشخاص والتي أُرجعت إلى الفقيه، لضرورة عدم رضا الشارع بتفويتها، وهي الشؤون التي تعرف باصطلاح الفقهاء، بالأمور الحسبية.

فصل السلطات:

قد يجد مبدأ فصل السلطات مبرّره عند السيد الشهيد في غياب المعصوم الذي يُشكّل الضمانة الوحيدة من (تغويل) النظام واتجاهه نحو الدكتاتورية والتسلط. وفي غياب المعصوم نظَّر الشهيد الصدر لمبدأ فصل خط الخلافة عن خط الشهادة، والذي يضمن قدراً كبيراً من توفير ما أسماه السيد الشهيد بالرؤية المعصومة.

وكما ذكرنا فإنَّ النظام السياسي عند السيد الشهيد نظام شوري، يعتمد على نظام الشورى والمشاركة الفعلية من قبل الشعب، ويتجلى ذلك في:

1ـ انتخاب المرجع القائد، إما عن طريق تأييد النخب المثقفة، من العلماء والمفكرين وأئمة مساجد وخطباء ومؤلفين وفقاً لآلية دستورية لم يحددها السيد الشهيد، أو عن طريق الاستفتاء الشعبي العام المباشر في حالة تعدد المرجعيات المتكافئة.

2ـ انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد ترشيحه من المرجعية أو من غير المرجعية.

3ـ انتخاب مجلس أهل الحل والعقد.

وهنا، تظهر ثلاث سلطات، وهي سلطة المرجع، والسلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية.

وتقوم السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس أهل الحل والعقد، أو مجلس الشورى كما يعرف الآن في إيران بالوظائف التالية:

1ـ إقرار أعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية لمساعدته في ممارسة السلطة.

2ـ تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة، فيما إذا كان ثمة أكثر من اجتهاد، فيكون تحديد أحدها موكولاً إلى السلطة التشريعية على ضوء المصلحة العامة.

3ـ ملء منطقة الفراغ، وذلك بتشريع القوانين المناسبة، على أن لا تتعارض مع الدستور.

4ـ الإشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها.

وتقوم المرجعية بالوظائف التالية:

1ـ قيادة الجيش، بوصف المرجع القائد الأعلى للدولة.

2ـ ترشيح أو إمضاء فوز رئيس السلطة التنفيذية.

3ـ تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.

4ـ البت في دستورية القوانين التي تصدر عن مجلس أهل الحل والعقد بصدد ملء منطقة الفراغ.

5ـ إنشاء محكمة عليا للمحاسبة في كل مخالفة محتملة في المجالات السابقة.

6ـ إنشاء ديوان المظالم في كل البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والمتظلمين وإجراء المناسب بشأنها، على أن يكون عمل المرجع بمعونة مجلس المرجعية المؤلف من عددٍ كبير من المشاورين وأهل الخبرة.

أما السلطة التنفيذية فلم يتحدث عنها الشهيد الصدر بإسهاب، وكأنه افترض أن كل ما يتصل بتصريف شؤون الدولة وتنفيذ القوانين يدخل في صلاحياتها، على أن تكون تحت نظر مجلس أهل الحل والعقد.

والذي يبدو من خلال تصنيف الاختصاصات ـ وفقاً لوجهة نظر السيد الشهيد ـ أن الوزارات والهيئات التنفيذية جميعها من اختصاصات السلطة التنفيذية، وليس للمرجع شأن مباشر في هذه الاختصاصات، عدا كونه القائد الأعلى للجيش، وهو ما يضمن عدم التداخل وينسجم مع نظرية السيد الشهيد في كون المرجع نائباً عن الإمام (عليه السلام) فيما يتصل بتطبيق الشريعة والإشراف من هذه الزاوية. ولذلك انحصر دوره ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ في ترشيح رئيس السلطة التنفيذية أو إمضاء فوزه، والبت الدستوري في القوانين، والمحاسبة عبر محكمة مختصة فيما يتصل بالإخلال في هذه المجالات، فضلاً عن الإشراف على ديوان المظالم الذي يكفل له سماع شكاوي المتظلمين. وبذلك لا يكون المرجع بديلاً لا عن المجلس المنتخب من الأمة، ولا بديلاً عن السلطات التنفيذية.

على أنَّ هناك عدداً من التفصيلات تركها الشهيد الصدر إما بداعي الاختصار أو بداعي الإحالة على تفصيل سيأتي، أو تفصيل موكول إلى أهل الاختصاص في هذا الشأن الدستوري المهم، الذي يفتقر إلى أهل الخبرة والتجربة التاريخية في هذا المجال.

غير أن المهم في هذا المجال إغفاله الحديث عن السلطة القضائية، على أهمية هذا الشأن، الذي ذكر الشهيد الصدر فيما تقدم من (الأسس) أنه من مهام ومتطلبات الدولة الإسلامية. وربما يتبنى الرأي نفسه الذي اختاره في (الأسس)، وهو في المحصلة ينسجم مع مبدأ فصل السلطات أيضاً، وذلك لجهة الحرية التي تتوفر للفقهاء في طريقة تنصيبهم أو على مستوى تنفيذ أحكامهم ومدى الحجية التي تتصف بها هذه الأحكام.

الأثر الفكري لما بعد الصدر:

لا يخفى مدى التأثير الفكري، وتحديداً في المسألة السياسية والفقه الدستوري، الذي تركه الشهيد الصدر على مسيرة (حزب الدعوة الإسلامية في العراق)، وربما على حزب الدعوة الإسلامية في لبنان قبل حلِّة، بل وحزب الدعوة الأفغاني، الذي شكلّه تلامذة ومريدو الشهيد الصدر. وهو تأثير يضرب أعماقه في الجذور خاصة بالنسبة إلى (حزب الدعوة الإسلامية) العراقي الذي أشرف الشهيد الصدر شخصياً على بناء ووضع اللبنات الأساسية لفكره السياسي والدستوري.

إنما المهم الإشارة إلى التأثير الذي تركه الشهيد الصدر ـ وتحديداً فيما كتبه كمشروع أَوليٍّ للدستور الإيراني وفيما أسماه اللمحة الفقهية ـ على الصياغة النهائية على الدستور الإيراني، والذي لاحظ عليه الباحثون مدى تأثره بفكر الشهيد الصدر، ومخططاته الدستورية المقترحة، على نحو تعتبر فيه اقتراحات الشهيد الصدر “”النواة الأساسية لمشروع الدستور الإيراني””، لجهة كثرة “”التوافق بين ما كتبه الشهيد الصدر في اللمحة الفقهية وبين ما جاء في بنود الدستور الإيراني””.

وقد أفرد الباحث اللبناني شبلي الملاَّط فصلاً خاصاً لدراسة تأثير اقتراحات الشهيد الصدر على الدستور الإيراني، وهو ما ورد بعنوان (أصول الدستور الإيراني) تحديداً، وقد لاحظ أنَّ “”لمحة الصدر الفقهية هي أحد المخططات الأولية، وقد تكون المخطط الأول، للدستور الذي تبنَّتـه طهران في فترة لاحقة””، وذلك بناء على الخلفية التاريخية التي ترجع إليها اللمحة الفقهية، والتي كتبها الشهيد الصدر ـ بناء على تساؤل مجموعة من العلماء اللبنانيين ـ قبيل الانتصار في المعركة الأخيرة، التي خاضتها الثورة ضد فلول الشاه وبقايا مؤسساته. ولذلك يصعب ـ من وجهة نظر الملاّط ـ على المرء ألاَّ يؤخذ بأوجه الشبه بين الدستور الإيراني، وبين ما أورده الصدر في لمحته. ويُصرُّ الملاّط على التأكيد “”بأن اللمحة كانت أساساً للدستور الإيراني في عام 1979، لأن التشابهات بين الدستور الإيراني اللاحق والمؤسسات المتبنَّاة في النص ـ وهي أحياناً حرفية ـ بارزة بوضوح، مما يستبعد إمكانية الصدف أو توارد الأفكار””. وقد نقل الملاّط أن تأكيده المشار إليه في كتابه سبَّب بعض الامتعاض في أوساط عدد من العلماء والمفكرين الإيرانيين الذين التقاهم، وأظهروا بعض المضض في الاعتراف بوثاقة صلة لمحة الصدر بالدستور الإيراني.

ويبدو لي أنَّ امتعاضاً ومضضاً من هذا القبيل، له ما يبرّره في ظل الاعتداد بالنفس، والذي دأب الإيرانيون على إظهاره، وهو يفترض بالمحصلة عدم الاعتراف بالفضل للآخرين، وإن كانوا بقامة محمد باقر الصدر . غير أنَّ هناك كتّاباً إيرانيين أذعنوا لتأثير الصدر على الدستور الإيراني، بناء على عدة معطيات وشواهد، التاريخي منها والتحليلي، الذي يظهر في القراءة التحليلية والمقارنة بين أفكار الصدر والدستور الإيراني.

وإذا كنَّا نؤكد على التأثير الذي تركه فكر الشهيد الصدر على الدستور الإيراني، فإنَّ الحاجة ماسة إلى التأكيد على الفرق بين نظرية الشهيد الصدر وتصوره لطبيعة إدارة البلاد الإسلامية، وبين نظرية الحكم، كما هي الآن في الدستور الإيراني، إذ يُلاحظ الدور الكبير وربما شبه المطلق للفقيه في الدستور الإيراني، في الوقت الذي يُلاحظ فيه محدودية هذا الدور وفقاً لتصورات الشهيد الصدر، وكما شرحناه وأوضحناه. إلاّ أنَّ هناك شبهاً عملياً بين ما كان عليه الدور العملي للإمام الخميني وبين تصورات الشهيد الصدر، إلاَّ أنَّ الحال كما عليه الآن مختلفة إذ يُلاحظ الدور العملي للفقيه في إيران أكبر وأعمق.

وثمة تأثيرات أخرى تركها الشهيد الصدر على أعمال فكرية لمفكرين إسلاميين، فتجد تأثيره بارزاً في أعمال الشيخ شمس الدين الفكرية، إن في ما أسماه الشيخ شمس الدين نظرية ولاية الأمة على نفسها، إذ أنها ترجع في جذورها إلى (أسس الدولة الإسلامية) التي كتبها الشهيد الصدر، والتي كان شمس الدين على مقربة من أجوائها لصلته بالشهيد الصدر نفسه، وعلاقته بحزب الدعوة الإسلامية. كما أنها لا تبتعد عمّا كتبه الشهيد الصدر في اللمحة الفقهية، أو في تأثيرات الصدر على شمس الدين في تأصيله لاستقلال القضاء في الدولة الإسلامية، وقد رأى أن دعوى أن الفقيه لا يتعين للقضاء إلاّ بالنصب الخاص من قبل الفقيه الولي ـ رئيس الدولة الإسلامية ـ لا دليل عليها. إلاّ لجهة الضرورة التنظيمية التي تقضي بتعيين فقهاء متفرغين للقضاء، وهو لا يعني ولا يستلزم تبعية القاضي المنصوب للفقيه الولي وكونه خاضعاً لسلطته، وهو ما أصَّله الشهيد الصدر في (الأسس) وقد مرَّ شرحه.

كما تحسن الإشارة إلى التمييز بين الخطابات الشرعية الموجهة للأفراد والخطابات الموجهة للأمة، والذي قال الشيخ شمس الدين: إنه ربما أول من تنبَّه إلى مثل هذا التمييز، مع أنه مسبوق ـ قطعاً ـ بما نبّه عليه الشهيد الصدر في كتابه (الإسلام يقود الحياة) وأشرنا إليه فيما سبق، ويبعد أن لا يكون الشيخ قد اطلع على كتاب (الإسلام يقود الحياة).

كما نجد تأثيرات فكر الشهيد الصدر ـ على المستوى السياسي وفقه الدستور ـ على أعمال مفكر إسلامي آخر، وهو الشيخ محمد مهدي الآصفي، إذ ناقش الشيخ نظرية (النصب العام) كمدلولٍ فقهي منتزع من الأدلة التي دلَّت على ولاية الفقيه، وأصَّل ما أسماه بنظرية (التأهيل)، وبكلمة أكثر وضوحاً، فإنَّ هذه الأدلة ـ من وجهة نظر الشيخ الآصفي ـ بصدد الإشارة إلى الشرائط اللازم توفرها في الحاكم، ويبقى من مهام الأمة اختيار الحاكم إما عن طريق انتخابه من قبل مجلس أهل الحل والعقد، أو مباشرة من الأمة وفقاً لمعيار الأكثرية.

وبصمات فكر الشهيد الصدر واضحة في هذه النظرية بالمقارنة مع ما شرحناه وأوضحناه، وإنْ كان الشيخ الآصفي قد ذكر أنه اتجاه فقهي غير معروف، في إشارة إلى الجدَّة في طرحه، إلاَّ أنه غير صحيح قطعاً، ويبعد أن لا يكون الشيخ قد اطلع على فكر الشهيد الصدر، وإن كنّا نلاحظ على الشيخ الآصفي عموماً إغفاله الشهيد الصدر في معظم أبحاثه، في وقت يعتمد على مصادر متواضعة وليست ذات شأن كبير.

هذا، ويلاحظ تأثره بالصدر في التمييز بين الأحكام الشرعية الموجهة إلى الأفراد وبين الموجّه منها إلى الأمة.