قضايا إسلامية معاصرة المنهج الفقهي عند الإمام الشهيد الصدر محمد الحسيني

[lwptoc]

المنهج الفقهي عند الإمام الشهيد الصدر

محمد الحسيني

دار الهادي

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

 

في وقتٍ مبكر من حياته الشريفة حمل الإمام الشهيد محمد باقر الصدر مشروعاً نهضوياً متكاملاً لانبعاث الأمة الحضاري ووضعها في مسارها الصحيح، واستعادة دورها الريادي وفقاً لمتطلبات (المقولات) الإسلامية الأساسية في الفكر الإسلامي، من خلافةٍ وإشهادٍ وإعمارٍ للأرض.

وكما هي كلمات الإسلام متكاملة قوية وشاملة، جاء مشروعه الثقافي النهضوي متكاملاً قوياً وشاملاً، يحكي الترابط العضوي لمقولات الإسلام وقوانينه ومفاهيمه، ويجسّد القيمومة العامة لهذه المقولات على مناهي الحياة، حياة الفرد والمجتمع.

ومشروع من هذا القبيل لا يستوفي حقه عدد من السطور والكلمات وإن انتظمت بدقةٍ متناهية واختزلت مراحل الاستدلال والبرهان والشرح والبيان.

ووفقاً لهذه الملاحظة ــ المشار إليها آنفا ــ تكرس هذه السطور نفسها للحديث عن جانب مهمٍ من هذا المشروع الثقافي، وهو الجانب الفقهي والقانوني تحديداً.

لكن تجدر الاشارة إلى أنَّ هذه السطور وإن كانت تعنى بالدرجة الأساسية بالمشروع الفقهي للشهيد الصدر، إلاّ أنها لا تغفل المحيط الفقهي العام عبر مقطعٍ زمني طويل تطور فيه الفقه الإسلامي ــ وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام ــ تطوراً كبيراً، وقفز فيه الفقه قفزات هائلة، واجتاز مراحل فنية وفكرية عديدة، إنتقل فيها من (رحم) الحديث ولغته الخاصة المفعمة بالأسانيد والعنعنة إلى شيء من الانطلاق والتحرر من أسْرِ هذه القيود، ليعلن عن نفسه وذاته وإن أُبقي على متون الروايات والأحاديث في لغة الفقه وطريقة التعبير عن مسائله.

ومع تطور وتنامي الخبرات وتظافر الجهود أخذ الفقه يكتسب شخصية مستقلة وإطاراً خاصاً، ليتوفر على شيء من الاستدلال والبرهان بعد أن كان الفقيه يختزل هذه المراحل ليصل إلى النتيجة التي هي ــ في الغالب ــ متن الحديث نفسه.

وعلى خلفية إتساع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وتنامي حاجات المجتمع والأفراد، أخذ

الفقيه يفكر في كيفية استنطاق المصادر الأساسية وفقاً لما هو مأذون به شرعاً، فنشأت مدارس عديدة في دراسة الحجج وطرق التفكير الفقهي ووسائله وآلياته المشروعة. ومع هذا التطور الكبير أنتجت الذهنية الفقهية عدداً من (الكتب) والدراسات شكّلت في يوم من الأيام معلماً واضحاً في مسيرة الفقه، بما تضمنته من إبداعٍ وابتكار. لكن مع خلو الميدان العلمي من عقليات كبيرة في وقتٍ من الأوقات كانت تظهر عمليات المحاكاة والتقليد، والتي مهّدت لانتشار ما عرف بـ(الشروح والحواشي والتعليقات على المتون) ثم تجاوز هذه المرحلة كلما بزغ نجم هنا وطلع آخر هناك.

هموم الفقيه

إكتسب الفقيه ــ إسلامياً ــ وضعاً حقوقياً وسياسياً لا نظير له في أي مذهب أو إطار فكري غير الإسلام، خاصة على المستوى الإسلامي الشيعي الإمامي، حيث أصبح هذا الوضع من مسلّمات فقه الشيعة الإمامية، لتضفي عليه طابع القيمومة تارة والولاية والشهادة تارة أخرى، وإن إختلفت الصيغ القانونية الشرعية، في تصويرها ومداها وسعة دائرتها.

ولم يكن تكريس هذا المضمون الحقوقي والاجتماعي في شخص الفقيه محض رغبةٍ أو امتيازاً تاريخياً أهّل الفقيه لهذا المستوى المتقدم، وإنما هو عبارة عن موقف فكري حُمِّل على أساسه الفقيه مسؤولية التفكير في الشأن الإسلامي والعمل في سبيله والتضحية لأجله، وافترض أن تكون همومه كبيرة كما هي هموم الإسلام، وعطاءاته متواصلة كما هي عطاءات الإسلام حية ومتجددة وزاخرة.

وكلما إقترب الفقيه من مواقع الإسلام وتجسّدت فيه رؤى الإسلام والتحمت مع روحه وعقله وأفكاره ومبادئه كان الأقدر على تحقيق وانجاز مهامه المفترضة، والأجدر على اكتساب حقوق المركز القانوني للفقيه.

هذه الحقيقة أدركها الشهيد الصدر مبكراًً، ووعاها وعياً كاملاً قدر وعيه للإسلام وأهدافه وغاياته. كتب ــ رحمه الله ــ : «وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شدَّدت عليهم وتوقعت منهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقياً من كل ألوان الاستغلال للعلم، لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقاً» ((الصدر، محمدباقر، الفتاوي الواضحة ص93 ط دار التعارف / الثامنة / 1992 ــ بيروت.))

وبغض النظر عن مصداقية الشهيد الصدر ــ كفقيه ــ من حيث توفرة على ما افترضته الشريعة منخ صائص في الفقيه فثمة مهمة أساسية تتصدر مهام الفقيه، ونعني بها المهمة العلمية التي يفترض أن يتكفل بانجازها الفقيه في ضوء الضوابط الشرعية ومعاييرها.

وقد حدَّد الشهيد الصدر ــ فقهياً ــ هدف (الانتاج الفقهي) وعملية الاجتهاد إذ يقول: «وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد معركة الاجتهاد

معالم النظرية وتفاصيلها»((الصدر، محمدباقر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، (بحث) نشر في مجلة الأضواء النجفية، راجع (الاجتهاد والحياة) حوار على الورق، ص153، محمد الحسيني ط مركز الغدير، ط اولى / 1996 ــ بيروت.))، ولذلك لاحظ الشهيد الصدر على الفقهاء استغراقهم في التفكير الفردي وتقزيم الشريعة وتجزئة الاجتهاد وتضييقه.

وانطلاقاً من هذه الملاحظة شرع الشهيد الصدر في ملء الفراغ الذي تشكو منه المكتبة الفقهية، فكان كتابه (اقتصادنا) إنعطافاً كبيراً في حركة الاجتهاد والانتاج الفقهي، وكان كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) تحضيراً لاستنزال الفقه إلى الشارع وإلى حياة المجتمع البشري المسلم، في ظل المعطيات وتعقيدات الأوضاع الاقتصادية التي تخلَّف الفقه عن مواكبتها لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، فيما كانت الفتاوى الواضحة) تجسيداً لهموم الفقيه المجاهد والدؤوب على الحركة، لخلق أكثر الشروط ملاءمة لانطلاقة حضارية جديدة، يتاح للإسلام فيها القيمومة على حياة الانسان.

وفي زحمة همومه (رحمه الله) كفقيه تنبَّه إلى حجم التحديات والاشكالات التي تعيق حركة الفقه كعلم وتشريع حاكم يمارس قيمومته أو يفترض أن يمارسها، وقد حدَّد وفقاً لحجم هذه التحديات معالم مشروعه الثقافي في إطاره الفقهي لترشيد الذهنية الفقهية وتعميقها من جهة، وتعميم المعطيات الفقهية التي انتجتها حركة الفقه ودورته العلمية والاجتماعية على أكبر قطاع اجتماعي، وتنمية فاعليته في الحياة.

تعميق الثقافة الفقهية:

كان من أبرز معالم مشروع الشهيد الصدر الثقافي خطواته الجريئة ودوره الكبير في تعميق التفكير الثقافي وتأصيله. ومعاناته في هذا المجال واضحة على مستوى طرق الاستدلال وقراءة النصوص بدقة متناهية وعقلية مرهفة وملاحظات متعاقبة، فضلاً عن البعد الاستثنائي الذي تميزت به دراساته في حقل الفقه، من عمقٍ وجدّة إلى درجة لا يترك معها لخلفائه ــ من فقهاء وباحثين ــ ما يمكنهم إضافته أو تجديده. وتلك خصوصية استثنائية تؤطر دراسات الشهيد الصدر على تنوعها، وتصنفها ضمن الابداعات التأريخية لا الرائدة وحسب.

وقد لا تسمح هذه السور بمواكبة إبداعه الفقهي تفصيلياً ودوره الريادي فيه لجهة الطابع الاختصاصي لهذا الحقل العلمي وما يفرضه من قراءة دقيقة ومتأنية للنصوص الفقهية وملاحقتها في ثنايا البحوث والدراسات العالية في هذا المجال. وربما نوفق فيما يأتي من بحوث في الاشارة إلى بعض معالم مدرسته الفقهية وملامحها الرئيسة، على مستوى المنهج وعلى مستوى الخصائص.

ومهما يكن من أمر، فلا يخفى على القرّاء على اختلاف وتباين ثقافاتهم واختصاصاتهم الدور الريادي للشهيد الصدر في كتابة البحث الفقهي المعمق والمعاصر في آنٍ واحد، والذي تمظهر في كتابيه (إقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام)، إلى درجة لم يظهر معها إلى الآن كتاب في المكتبة الإسلامية يوحي بشيء من المضاهاة لهذين الكتابين، في الوقت الذي لم يفكر فيه الشهيد الصدر أن يكونا كذلك، بل افترض فيهما ــ معاً ــ أنهما بداية الطريق، وأنهما مجرد اقتراحات

فكرية ولبنات تأسيسية قابلة للتطوير والتأصيل.

وعوداً على بدء يمكن القول إنَّ (إقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام) هما الكتابان الفريدان من نوعهما في المكتبة الفقهية، اللذان توفرا على عنصري المعاصرة والوفاء بمتطلبات العصر والدقة العلمية فقهياً. ولاأجد أدنى مبالغة في تأكيد هذه الملاحظة، فما نتوفر عليه ــ اليوم ــ في المكتبة الإسلامية، إما أن يكون معاصراً خلواً من الاختصاص العلمي / الفقهي، وإما أن يكون وفياً للمنهج الفقهي التقليدي على نحو تغيب فيه روح المعاصرة ومعالجة الاشكاليات الحديثة غياباً تاماً.

أما على المستوى الفقهي ــ تقليدياً ــ فقد قُدّر للشهيد الصدر أن يلقي أبحاثه الفقهية العالية في ظرف زمني يقرب من العشرين عاماً تخرج من مجلسه عدد من الفقهاء ومن يقرب من درجة الفقاهة، وأنتجت هذه الممارسة الفقهية كتابه الفقهي المعروف بـ(بحوث في شرح العروة الوثقى) في أربعة أجزاء دون أن تكتمل، لتضيع أبحاثه الأخرى على خلفية همجية النظام الحاكم، وتشاغل طلابه عن مواصلة المسيرة والوفاء لمدرسة استاذهم.

ولو قُدّر ــ على الأقل ــ لكتابه ــ هذا ــ الاكتمال لأعطى للمكتبة الفقهية بُعداً لم تألفه الكتب الفقهية السابقة على قيمتها العلمية والتأريخية باعتبارها بحوثاً تعبّر عن ممارسة عملية فقهية كتبت بقلم الفقيه ــ الأستاذ ــ نفسه دونما اختزال أو حرقٍ لمراحل الاستدلال الفقهي كما هي عادة الفقهاء.

تعميم الثقافة الفقهية:

ولئن كان تعميق الثقافة الفقهية هو الأبرز في مشروع الشهيد الصدر الثقافي فقهياً، فإنه لم يمنعه من التفكير بتعميم الثقافة الفقهية في الوسط الاجتماعي، باعتبارها القانون (القيِّم) على حياة الانسانا لمسلم، والذي يحدد وفقاً لها موقفه تجاه الأشياء والأحداث.

وكما هو العلم بالقانون لا يختص بمواطن دون آخر، فالفقه كـ(القانون) لا يختص بمسلمٍ دون آخر، لأنه مشاع والناس فيه سواء. أما موضوع التخصص به فهو ينحصر بالاستدلال الفقهي وطرقه وحجيته ومستويات نتائجه ومعطياته، فضلاً عن الصناعة والتكييف الفنيين لأحكامه.

ووفقاً لهذه الملاحظة سعى الشهيد الصدر إلى تفعيل الفقه في حياة المسلم، وانفتاح الأخير على هذه الثقافة انفتاحاً مباشراً، بعيداً عن الاتكالية المطلقة. وباعتبار أنَّ ما يعرف بـ(الرسالة العملية) هي النافذة الرئيسة لإطلالة المسلم على الفقه، فقد توجهت جهود الشهيد الصدر إلى إعادة النظر فى هذا الفن الفقهي ودرجة تفاعـل المسلم المقلِّـد ــ بكسر اللام ــ معه وانفتاحه عليه، وقد لاحظ أنَّ هذا النوع من الكتابة الفقهية لا زال تقليدياً إلى حد كبير من جهة، ووفياً إلى اللغة القديمة والتقسيم الموروث من جهة أخرى، كما لاحظ على هذا الفن الفقهي أنه لا يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولا يربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تُعط فيه المسائل التفريعية والتطبيقية وصفها الصحيح بما هي أمثلة صريحة لقضايا أعم منها لكي يستطيع المقلِّد ــ بكسر اللام ــ أن يعرف الأشباه والنظائر، وبذلك فان المقلّد أن يكوِّن لنفسه الثقافة الفقهية المطلوبة على الأٌقل.

وقد تخطى الشهيد الصدر هذه الملاحظات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) حيث تكفل ذلك بتعديل كبير في اللغة الفقهية، وتغيير جذري للتقسيم الشكلي لمسائل الفقه وموضوعاته. ولم يأنف عن التخلي عن اللغة العلمية الاختصاصية ورموزها وطلاسمها لصالح المسلم المقلِّد، وحاول قدر الامكان تزويده بثقافة فقهية للأساس الشرعي لما اشتملت عليهالفتاوى من أحكام شرعية، والذي عنون له بـ(مصادر الفتوى)، كما تدرج في عرضه للمسائل لغة واصطلاحاً وقاعدة، لينتهي في التطبيقات المنتزعة من حياة المقلِّد نفسه.

وسيأتي الحديث مفصلاً في إنجاز الشهيد الصدر على مستوى تطوير (الرسالة العملية) على مستوى الشكل والمضمون واللغة.

تحديث الخطاب الفقهي:

وعلى صعيد الخطاب الفقهي لاحظ الشهيد الصدر غياب المنهج الواقعي الذي يجسّد حقيقة الترابط بين التشريعات الإسلامية وقيمومتها على حياة المسلم كفرد ومجتمع ودولة، ورفض ضمناً التقسيمات الشكلية الموروثة لمسائل الفقه، على خلفية ما توحي به من تجزيئية وتغييب لعدد كبير من التشريعات في أحايين كثيرة، فعمد إلى تقسيم جديد يقوم على أساس حضور الحقيقة المشار إليها ــ آنفاً ــ في حياة المسلم.

وانطلاقاً من النظرة الواعية لرسالة الإسلام وهدفها في صياغة الإنسان وضع تقسيمه الشكلي (الرباعي) للفقه كبديل عن التقسيم الموروث، والذي يبدو فيه الفقه أكثر حيوية وأكثر إنسجاماً مع الهدف والغاية، فشمل تقسيمه: العبادات والأموال بقسميها الخاص والعام، والسلوك الخاص والعام.

ومن أسف أن تتعثر جهوده في إكمال المشروع إذ صدر منه الجزء الأول فقط، والذي ضمّ القسم الأول منه.

وإنما عمد الشهيد الصدر إلى هذا التقسيم الجديد دون غيره من التقسيمات الموروثة والمتعارفة في الكتب الفقهية والرسائل العملية فذلك نظراً إلى ما تقدمه هذه الرسائل من إنطباع للشريعة وفقاً لهذه التقسيمات إذ أنَّ «أكثر الرسائل العملية تقدم عادة الصورة المحدودة لأنها تتعامل مع فرد متدين يريد أن يطبق سلوكه على الشريعة رغم تواجده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة»((الصدر، محمدباقر، الإسلام يقود الحياة ص65 ط دار التعارف / بيروت 1990.)) دونما إشارة إلى البعد المجتمعي للأحكام الشرعية والأبعاد الأخرى المرتبطة بفقه الدولة وحركتها.

أما على مستوى (النص الفقهي) نفسه فإنه يفتقر إلى تغيير كبير يأخذ بنظر الاعتبار تطور أساليب التعبير اللغوي من جهة، وتعقد الحياة وأساليبها ونشوء أوضاع جديدة من جهة أخرى، لذلك افترض الشهيد الصدر في الرسالة العملية أن تكون قادرة على (مواكبة التطور الشامل في مناهج ووقائع الحياة) وهو ما أخذه بنظر الاعتبار في رسالته (الفتاوى الواضحة)، وان كان قد تردد في أخذه في بحوثه ودراساته العليا، واعتذر عن مثل هذا التحديث على أمل توفر الشروط الموضوعية لانجازه.((الصدر، محمدباقر، بحوث في شرح العروة الوثقى ج1/المقدمة ط2/ايران/ 1408هـ .))

تأصيل التفكير الفقهي:

وقد نبَّه الشهيد الصدر في وقت مبكر إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقه، في مقام استنباط الحكم الشرعي والكشف عنه من أدلته المعتبرة شرعاً. وهي مناهج تتحدد ــ أساساً ــ طبقاً لهدف الاجتهاد نفسه، الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفراداً ومجتمعاتٍ ودولة.

وكمدخل لهذا التفكير لاحظ الشهيد الصدر على الفقيه بشكل عام إنصرافه إلى تغطية حاجات الفرد المسلم فقهياً، والاستغراق في تلبية هذه الحاجات على حساب الجانب المجتمعي وفقه الدولة، وهو انصراف أملته الظروف التاريخية، حيث أدت إلى انكماش هدف الاجتهاد في وعي الفقيه ليختزله في المجال التطبيقي الفردي، فضلاً عن تسرب الفردية إلى النظرة الفقهية نحو الشريعة نفسها، لتسود عدة قواعد فقهية مطلقة من قبل (الاحتياط) و (لا ضرر ولا ضرار)، دونما تمييز بين المجال الفردي والمجتمعي.

كما أدى ذلك إلى غياب الضابط الموضوعي للتمييز بين الأحكام الشرعية وبين الأحكام الولايتية.

وربما تساعد هذه الرؤية على حلِّ بعض الاشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص وفي المجالات الحيوية تحديداً. وعلى سبيل المثال نشير إلى مسألة حصر الزكاة في (الغلات الأربع)، وهي مسألة خطيرة جداً، إذ تستثني الغلات الأخرى على أهميتها ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.

ومن المعلوم أنَّ الموقف الفقهي السائد يميل إلى حصر الزكاة في هذه (الغلات الأربع) دونما تعدٍّ إلى غيرها إلاّ بالعناوين الثانوية ــ إن أمكن ذلك ــ كما لو فرض الحاكم الشرعي الزكاة على ما سوى الغلات الأربع، وهو موقف تبنّاه الشهيد الصدر نفسه.((الصدر، الإسلام يقود الحياة، المرجع السابق، ص52.))

وفي إطار الملاحظة السابقة حذَّر الشهيد الصدر من محاولات تقزيم الشريعة تبعاً للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتجه نفسياً نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة، وهو منهج لم يقتصر تأثيره على إخفاء بعض (المعالم التشريعية) بل أدى ــ أحياناً ــ إلى التضليل في فهم النص التشريعي.

ومن جهة أخرى، لاحظ الشهيد الصدر على المنهج الفقهي السائد أنه يميل إلى التجزئة في مقام فهم النصوص الشرعية، على خلفية الابتعاد عن الواقع وعلاقة هذه النصوص به، من حيث أنها تطبيقات له وفيه،

وقد كتب الشهيد الصدر في تقرير هذه الملاحظة ما نصه: «.. ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوَّغ الكثير لأنفسهم أن يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له. وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب الإجارة، فهناك مسألة هي: أن المستأجر هل يجوز له ــ بدوره ــ أن يؤجر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الايجار. وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهى عن ذلك، والنصوص ــ كعادتها ــ في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصة، فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة.

وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور، ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة إجتماعية عامة على أساسها سوف نتوقف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة، وبأنّ النهي مختص بتلك الموارد التي صرحت بها النصوص دون غيرها، وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية لا على مستوى التقنين الاجتماعي فاننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة».((الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، المرجع السابق، ص158.))

وقد جاءت تعليقة الشهيد الصدر على هذه المسألة من كتاب الاجارة في (منهاج الصالحين)((الصدر، محمدباقر، منهاج الصالحين، ج2 / 126 ط 2 بيروت / دار التعارف ــ 1976.))منسجمة إلى حد كبير مع هذه الملاحظة، فعمَّم الحكم على سائر الأعيان، ولم يقتصر على الأعيان المشار إليها في النصوص.

وقد نبَّه رحمه الله إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تسهم به هذه النظرة في تذليل بعض المشاكل الفقهية وفي مقدمتها ما يمكن أن نسمِّيه بـ«تشظي» الأحكام الشرعية وذلك لأن «كثيراً من الأحكام بُيِّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة ولم تبيّن بصورة إبتدائية وبلغة تقنينية، والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها فيجئ الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيناً للحكم في الحالة المسؤول عنها، فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب، كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي مُني بها السائل في حياته العملية وأبرزها في سؤاله، مع أننا قد نكون واثقين بأنَّ بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنما نشأ عن إختصاص السؤأل بتلك الحالات، وأما إذ أفهمنا النص فهماً إجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام».((الصدر، محمدباقر، الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق عليه السلام (بحث) في الاجتهاد والحياة، المرجع السابق، ص166.))

وربما تكون هذه الفكرة التي أشار إليها الشهيد الصدر هي أول مساهمة علمية من فقيه كبير لتذليل بعض الصعوبات الكبيرة التي تعترض عملية الاستنباط والبحث الفقهي، وقد جاءت ــ تاريخياً ــ كتعليق على ما كتبه الفقيه المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «فقه الإمام الصادق» والذي دعى إلى فهم إجتماعي للنص الفقهي، مستثنياً فقه العبادات.

ويمكن أن تخف هذه الفكرة من غلواء الطابع التعبدي وتعميمه ــ فقهياً ــ لجميع الأحكام الشرعية العبادات منها والمعاملات على السواء.

وفي هذا الاطار يمكن أن نشير إلى الجمود الحرفي على النصوص الشرعية خارج حقل العبادات، وكمثال على ذلك نذكر مسألة (بيع العبد الآبق) الذي ورد فيه نص خاص أجيز بمقتضاه بيعه مع الضميمة مباحثات فقهية بين الفقهاء حول مدى مشروعية التعدي إلى غيره في

البيع، بل في الاجارة أيضاً. والرأي المعروف ــ فقهياً ــ هو عدم جواز التعبدي.(( الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى ج12 / 8 قم / 1404هـ ، مكتبة المرعشي.))

لكن يلاحظ على الشهيد الصدر قوله بالتعدي من المورد الخاص إلى غيره، وقد علّق على (منهاج الصالحين) وبالتحديد على مسألة عدم جواز بيع غير المقدور على تسليمه ولو بالضميمة بقوله: «المنع عن بيعه مع الضميمة مشكل، بل لا يبعد الجواز بمعنى ان كل ما كان يجوز جعل الثمن بازائه ابتداءً، يجوز جعله بازاء المجموع منه ومن غير المقدور على تسليمه».((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج2 / 27.))

وربما يكون الشهيد الصدر أول من نبّه إلى دور المفاهيم الإسلامية في الاشعاع على بعض الأحكام الشرعية وتيسير مهمة فهم النصوص الشرعية، وهذا ما أشار إليه في كتابه «اقتصادنا» بشكل واضح.((الصدر، محمدباقر، إقتصادنا ص374 ط / العشرون ــ 1987 دار التعارف / بيروت.))

لكن تحسن الاشارة إلى أن دور المفاهيم الإسلامية في هذا الاشعاع إنما يمكن خارج إطار فقه العبادات وخارج إطار النظرة الفردية للأحكام الشرعية.((الصدر، محمدباقر، الإسلام يقود الحياة، المرجع السابق، ص64.))

فقاهة فريدة:

لا يخفى على أحد إنتماء الشهيد الصدر إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بل وإلى المدرسة الأصولية (نسبة إلى أصول الفقه) تحديداً. فمصادر التشريع عنده هي المصادر المعتبرة ــ شرعاً ــ في هذه المدرسة، والآليات التي يعتمدها في التفكير الفقهي هي الآليات السائدة فيها. ويجد الباحث عدداً من المناقشات التي خاضها الشهيد الصدر مع الأخباريين كما في بحث حجية ظواهر الكتاب((الحائري، كاظم، مباحث الأصول، تقريرات بحث الشهيد الصدر ج2 / 215 / ط قم.))، وفي بحث الاحتياط الشرعي((الحائري، المرجع السابق، ج3 / 387.))، وفي بحث حجية العقل((الحائري، المرجع السابق، ج1/487، وراجع بحوث في علم الأصول للهاشمي ج 4/119.))، وفي بحث الأساس النظري لحجية الاجماع(( الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول، تقريرات بحث الشهيد الصدر ج4 /314 ط قم / 1405.)).

والملاحظ على مناقشاته مع الأخباريين غياب الانفعال عنها، واتسامها بسمة الحياد النفسي والطابع الموضوعي، وقد يكون في مقدمتها مناقشته لدعوى بعض الأصوليين فيما نسبوه إلى الأخباريين من حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة((انعكست هذه الدعوى في بعض الدراسات الأصولية رغم أنها شديدة الصلة بمدرسة الشهيد الصدر، راجع: الايرواني، باقر، الحلقة الثالثة بأسلوبها الثاني، ج2 / 515، ط اولى ــ قم / 1415.))، أو تأثر الحركة الأخبارية بالنزعة

التجريبية الحسية التي نشأت في أوروبا كما نقل عن السيد البروجردي((في احدى محاضراته حول الاجتهاد في الإسلام قال الشهيد مرتضى المطهري: «أتذكر انني في سنة 1322هـ . ش سافرت إلى (بروجرد) حيث كان المرحوم آية الله البروجردي ما يزال هناك، أي قبل نزوحه إلى قم، وفي يوم من الأيام تناول الحديث فكر الأخباريين هذا، فقال المرحوم في مضمار انتقاد له، إن ظهور هذه الفكرة عند الاخباريين كان على أثر ظهور الفلسفة الحسية في أوربا، هذا ما سمعته يومئذٍ منه، وبعد ذلك عندما قدم إلى قم يدرس الأصول وبلغ في بحثه هذا الموضوع كنت أنتظر منه أن يشير إلى ذلك مرة أخرى، ولكنه مع الأسف لم يتطرق إليه، فأنا الآن لا أدري إن كان قوله ذاك مجرد حدس وتخمين، أم أنه كان عنده ما يستند إليه. أنا شخصياً لم أعثر على دليل يؤيد انتقال هذه الفكرة من الغرب إلى الشرق، وهو عندي مستبعد. ولكني، من جهة أخرى، أعتقد ان المرحوم آية الله البروجردي لم يكن ليدلي برأي بدون دليل، وإني لألوم نفسي على عدم الاستفسار منه» راجع «الاجتهاد في الاسلام» ص15 سلسلة محاضرات في الدين والاجتماع، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، ط / طهران، مؤسسة البعثة.))وقد ردّ الشهيد الصدر هذه الدعاوى بلغة علمية وموضوعية بالغة الدقة.((ذكر الشهيد الصدر كما ورد في تقريرات بحثه للسيد الهاشمي ما نصه: «ومن الطريف ما نقل عن السيد البروجردي (قده) من أن هذه النزعة التي ظهرت على يد الاسترابادي متسربة إلى الفكر الإسلامي من النزعة التجريبية الحسية في الفلسفة الأوربية آنذاك التي رفضت المدركات العقلية، حيث كانت النزعتان متقاربتين زماناً. وهذه الملاحظة غير صحيحة لما أشرنا إليه في (معالم الأصول) من أن الاتجاه التجريبي في الفلسفة الحديثة متأخر زماناً من المحدث الاسترابادي، فانها حصلت في أواخر القرن الثاني عشر بينما المحدث الاسترابادي كان يعيش في القرن الحادي عشر، فلو كان هناك تأثير متبادل بين النزعتين فلا بد وأن يكون بالعكس بأن تتسرب النزعة التجريبية من الاتجاه الذي أوجده المحدِّثون إلى الفلسفة الأوربية، إلاّ ان هذا كله على فرض التعامل مع مدعيات الاسترابادي على أساس أنها تمثل النزعة الحسية في نظرية المعرفة وهذا غير واضح، إذ ليس المستفاد من كلامه انه يروم حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة بل غرضه حصر المعرفة بالدليل الشرعي النقلي، وإلغاء الدليل العقلي النظري في مجال استكشاف الحكم الشرعي. بحوث في علم الأصول ج4 / 125.))

وقد حدّد الشهيد الصدر انتماءه الفقهي ــ والفكري العقيدي عموماً ــ إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في مقدمة كتابه (الفتاوى الواضحة) وذلك عن طريق تشخيص المصادر الشرعية للفتاوى التي اعتمدها، وقد حددها بـ : الكتاب الكريم والسنة الشريفة «المنقولة عن طريق الثقاة المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم»((الصدر، الفتاوى الواضحة، المرجع السابق، ص98.)).

ولا يزيدنا الشهيد الصدر شيئاً في خصوص الكتاب الكريم، فهو بلا اشكال المصدر الأول في التشريع الإسلامي عند المسلمين على تعدد مشاربهم وتنوع إتجاهاتهم، والأمر نفسه في خصوص

السنة الشريفة التي لا يختلف المسلمون على كونها المصدر الثاني للتشريع، إنما هناك خلاف بين المسلمين في شمول السنة لغير النبي (صلى الله عليه وآله) إذ ترى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ان السنة شاملة لغير النبي من الأئمة من أهل بيته الطاهرين «إذ تعتبر أقوالهم والنصوص الصادرة عنهم كالقرآن الكريم والسنة النبوية مصدراً تشريعياً يرجع إليها في مجال التعرف على أحكام الشريعة المقدسة».((الهاشمي، المرجع السابق، ج7 / 28.))

لكن ينبغي التذكير إلى أنّ هناك خلافاً في أوساط مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من حيث طبيعة قول الأئمة وفعلهم وتقريرهم، وهل هو عبارة عن بيانٍ للتشريع الصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو انه بمثابة تشريع مستقبل.

وهنا لا يخفي الشهيد الصدر في أبحاثه ميله إلى القول الأول إذ يقول ما نصه: «.. ان تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ يكون أيضاً أحد العوامل المستوجبة للتعارض بين الأحاديث والنصوص. ولكن التعارض على أساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تعم النصوص الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) لما ثبت في محله من إنتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلاّ بياناً لما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحكام وتفاصيلها..» ((الهاشمي، المرجع السابق، ج7 / 30ــ365.)).

لكن مع ذلك ذكر الشهيد الصدر «أنّ تشريع الأحكام ــ على ما يشهد له بعض الأخبار ــ كان متدرجاً حتى بلحاظ زمان الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، حتْ أنّ بعض الأحكام استبقي لزمان ظهور الحجة»((الحائري، كاظم، مباحث الأصول، تقريرات بحث الشهيد الصدر ج3 /127 ط أولى/ قم ــ 1415هـ .)) مما لا يكون منسجماً مع فرض كون الأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان الأحكام التشريعية الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك لأن إستبقاء بعض هذه الأحكام إلى ظهور الحجة على خلاف المقصود من التشريع، لذلك قد يريد بالتدرج ما ذكره هو في أبحاثه الأخرى، مما أسماه «التدرج في البيان» إذ قال ما نصه: «ومن أهم عوامل نشوء التعارض بين الروايات أيضاً، أسلوب التدرج الذي كان يسلكه أئمتنا (عليهم السلام) في مجال بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله وكل أبعاده دفعة واحدة وفي مجلس واحد في أكثر الأحيان، بل كانوا يؤجلون بيان التحديدات والتفاصيل إلى أن تحين فرصة أخرى، أو يتصدى الراوي بنفسه للسؤال عنها ثانية»((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج 7 / 33.)).

وهذا معنى منسجم مع مهمة البيان، لأن بيان الأحكام موكول إليهم، وهم أُمناء عليه، فلابد أنهم يقومون به وفقاً لوظيفتهم في إيصال الحكم الشرعي إلى المكلفين وبيانه إليهم.

وهذا كله بالنسبة للكتاب والسنة الشريفة، أما الأهم في كلام الشهيد الصدر وهو بصدد تحديد مصادر الفتوى فهو إشارته إلى مركز العقل والاجماع ودورهما في استكشاف الحكم الشرعي،

فانه وإن إختار حجية العقل على ما هو مختار الأصوليين خلافاً للأخباريين فانه قال: «وأما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا؟ فنحن وإن كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به، ولكنا لم نجد حكماً واحداً يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة»((الصدر، الفتاوى الواضحة، المرجع السابق، ص98.)).

وبصدد الاجتماع فانه من وجهة نظره «ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنة وإنما لا يعتمد عليه إلاّ من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات»((المصدر السابق.)).

ولذلك لم يعبأ الشهيد الصدر بالاجماع في عدد من المسائل التي ادعي الاجماع عليها من قبيل: الاجماع المدعى على نجاسة البئر بالملاقاة وإن لم يحصل التغير((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/69.))، ومن ذلك مناقشته الاجماع المدعى على نجاسة الخمر((المصدر السابق نفسه، ج3/320.))، وإن كان هو نفسه يلتزم بالنجاسة ولكن بوجه فقهي آخر. ومناقشته هذه لا نجد لها مثيلاً في أبحاث ودراسات نظرائه من الفقهاء.

وفي الاطار نفسه تشكيكه بصدقية الاجماع المدعى على نجاسة الكافر بنحو يشمل الكافر الكتابي، بل وبنحو يشمل غيره ــ أيضاً ــ باستثناء المشرك((المصدر السابق نفسه، ج3/339.)).

ولكنه قد يعتمد الاجماع في الحالات التي يكشف فيها عن الحكم الشرعي، ويظهر ذلك في بعض التطبيقات التي قد يكون من أوضحها ما ورد في بحثه في حجية (البينة) ومدى صلاحية الاستدلال بالاجماع على حجيتها.

فقد كتب ما نصه: «الثالث من الوجوه: الاجماع، ولا ينبغي الاستشكال فيه لمن لاحظ كلماتهم في الموارد المتفرقة في الفقه، التي يستظهر منها المفروغية عند الجميع عن حجية البينة على الاطلاق، فان كانه ذا الاجماع مستنداً إلى رواية مسعدة بن صدقة، كان بنفسه سبباً صالحاً للوثوق بالرواية، وإن كان مستنداً إلى استظهار الكلية من روايات القضاء، فهذا بنفسه يؤكد عرفية هذا الاستظهار وصحته، وإن كان غير مستند إلى ما تقدم فهو إجماع تعبدي صالح لأن يكشف عن تلقي معقده بطريق معتبر فالاعتماد على الاجماع في المقام بمثل هذا البيان ليس ببعيد»(( المصدر السابق نفسه، ج2/83.)).

ومما استقرب صلاحية الاجماع للاستدلال به ذلك في مسألة طهارة الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، فانه وإن أمكن المناقشة فيه ببعض المناقشات. كتب الشهيد الصدر: «وهذا الاجماع بصيغته الفتوائية حاله حال الاجماع المتقدم في دم ما لا نفس له، من حيث ورود تلك المناقشات عليه، غير أنه بالامكان صياغته في المقام بارجاعه إلى الارتكاز وعمل أصحاب الأئمة عليهم السلام، ومن بعدهم من المسلمين إلى زماننا هذا، فانَّ هذا البناء العملي والقولي

الموروث على معاملة الدم المتخلف معاملة الطاهر، مع عدم ورود أسئلة عنه في الروايات، رغم كثرة إبتلاء الناس والرواة بالمسألة وكونهم قد سألوا الأئمة عليهم السلام عن أشياء أقل أهمية في حياتهم اليومية. فأقول: إنَّ مثل هذا الاجماع القولي والعملي كاشف عن وضوح الطهارة في أذهان المتشرعة من أصحاب الأئمة عليهم السلام، إذ إحتمال غفلتهم عنه موضوعاً أو حكماً ينفيه كون الدم المتخلف محل ابتلائهم في حياتهم اليومية كثيراً، وكون حكم نجاسة الدم مركوزة في الجملة في أذهانهم، وافتراض أنهم سألوا عنها وافتاهم المعصوم عليه السلام بالنجاسة، ومع ذلك لم يصل إلينا كلامه، ينفيه أن شيوع الابتلاء بها يستلزم تظافر نقل الحكم بالنجاسة لو كان، وتأكيد الأئمة عليهم السلام والرواة على ترسيخه في ذهن المتشرعة من أصحابهم، فلا يبقى إلاّ أن يكون ذلك باعتبار موافقة المعصومين عليهم السلام مع ما هو مقتضى الطبع العقلائي، والأولى من عدم استقذار ما يتخلف في الذبائح بعد خروج المتعارف الكاشف عن طهارته شرعاً، وكون الطهارة على وفق الطبع الأولي مع عدم وجود ردع عنها هو الذي يفسر لنا عدم وقوع السؤال من الرواة عن طهارته كثيراً، وعدم توافر الدواعي على نقلها كذلك»((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/191.)).

وإن لم يصلح الاجماع مستنداً ومدركاً فلا أقل من اقتضائه للقول بالاحتياط من وجهة نظر الشهيد الصدر في عدة موارد فها على سبيل المثال لا الحصر الاحتياط في طهارة الدم المتخلف مما لا يؤكل لحمه لشبهة الاجماع المدعى من قبل عدد من الأصحاب على النجاسة مع ان الصحيح عنده هو عدم الفرق بين ما كان في الذبيحة المأكولة وغير المأكولة.(( المصدر السابق نفسه، ج3/198.))

وعوداً على بدء، يمكن القول إنَّ الفقاهة إنما تتحقق بالتوفر على التالي:

أولاً: الاطلاع الكبير على الأدلة التفصيلة وخاصة الأخبار.

ثانياً: فهم الأخبار والأدلة ــ بشكل عام ــ وتحديد دلالاتها.

ثالثاً: أن يكون هذا الفهم عرفياً، وفقاً لأصول المحاورات العقلائية، بعيداً عن الدقة العقلية وتحميل النصوص أكثر مما تحتمله من فروض وصور غير متعارفة وغير واقعية.

وفي ضوء ما ذكرناه يمكن الاشارة إلى عدة سمات طبعت مدرسة الشهيد الصدر على المستوى الفقهي، نشير إليها على نحو مختصر.

السمة الأولى ـ الاحاطة والشمول:

لعل من أبرز سمات المدرسة الفكرية للشهيد الصدر ــ عموماً ــ والفقهية بشكل خاص توفرها على خصيصة الاحاطة والاستيعاب لموضوعات البحث ودراسة الاشكاليات التي تكتنف البحث بشموليةٍ فريدةٍ ومميزة.

وسمة من هذا القبيل قلّما توفر عليها مفكر وبشكل عام، بحيث تستوعب تمام الموضوعات التي تقع في دائرة اهتمامه. ولا يخفى في هذا المجال سعة هذه الدائرة في مدرسة الشهيد الصدر التي تنوعت اهتماماتها وتعددت اتجاهاتها الفكرية بحيث شملت حقولاً فكرية متعددة قد لايجمعها جامع، من قبيل التاريخ والفلسفة والمنطق والاقتصاد، فضلاً عن علوم الفقه والاصول والتفسير وعلم الكلام.

وعلى هامش هذه الملاحظة يمكن أن نشير إلى شدة إعجاب الشهيد الصدر بمدرسة الشيخ الأنصاري، على خلفية تميّز الشيخ الأنصاري بالقدرة على التفريع والتنظير، وفقاً لمبانٍ عديدة واتجاهات مختلفة.((قال الشهيد الصدر في بحث «إحياء الموات» على ما هو مقرر عنه، وفي بحث تحليل الخمس والأنفال للشيعة: «وأما البحث عن التحليل بالنظر إلى مجموع الأخبار لا خصوص الصحاح منها فلابد من التأمل فيها لنرى انه هل تفترق النتيجة بناء على ملاحظة مجموعها عما إذا لاحظنا خصوص الصحاح منها أم لا، وببالي أن الشيخ الأعظم (قده) في كتاب الطهارة في مبحث الحيض في مسألة من المسائل ذكر وجهاً مبتنياً على مبنى ووجهاً آخر مبتنياً على مبنى آخر وهكذا… وهكذا إلى أن أنهاها إلى أحد عشر وجهاً. ولله دره فانه الذي علّم كيفية الاستنباط وعلم الناس كيفية الاجتهاد واستنباط الأحكام.» راجع «إحياء الموات» للشيخ محمد إبراهيم الأنصاري ص72 تقريراً لبحث الشهيد الصدر ط أولى دار التعارف / بيروت / 1993.))

وعوداً على بدء يمكن القول:

إنّ ما أضفى هذه السمة ــ الاحاطة والشمولية ــ على المدرسة الفكرية للشهيد الصدر هو توفره على عدة خصائص يتصدرها الصبر العلمي والذهنية الوقادة المبدعة، فقد أتاحت له الخصيصة الأولى ــ الصبر العلمي ــ قدرة هائلة على متابعة موضوعات بحثه ورصد أطراف البحث على سعتها وتشعبها من تعدد الاتجاهات إلى التطور التاريخي لهذه الاتجاهات((يمكن أن نشير إلى الميل التاريخي لديه في ضبط المسائل الفقهية أو الأصولية في مثالين، أولهما في الفقه ويمكن مراجعة «إحياء الموات» للأنصاري، المرجع السابق، ص50، وتحديداً في مقام التتبع التاريخي لمسألة أخبار التحليل، وثانيهما: في الأصول كما يظهر في عملية تأرخة آراء إستاذه السيد الخوئي وتطورها عبر الزمن، راجع الهاشمي ج6/ 127.))، فضلاً عن الإلمام بدقائق هذه الاتجاهات، مما أُتيح له ما يمكن تسميته بالنقض على الاتجاهات الأخرى وفقاً للمباني المتبناة لأربابها.(( راجع، بحـوث في شرح العـروة الوثقى، المــرجع السابق: ج1 / 72، ج1 /475، 2/210، 1/257، 2/229، 4/226.))

وبغية التحرر من العمومية في الحديث يمكن أن نشير إلى أهم التطبيقات الفقهية التي تكشف بوضوح عن السمة المشار إليها.

وفي هذا الاطار ننوه ببحثه المميز في تحقيق قاعدة الطهارة((بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 / 189 وما بعد.)) بشكل لا يعثر الباحث على نظير له في الأبحاث الأخرى، بما فيها المتأخرة التي عُرفت بالتحقيق والتنظير.

وفي الاتجاه نفسه نشير إلى بحثه في طهارة الكتابي((المصدر السابق نفسه، ج3/239.))، بما لا يجده الباحث في الأبحاث الفقهية الأخرى، وللمقارنة يمكن الرجوع إلى «مستند العروة الوثقى» للسيد الخوئي و«مستمسك العروة الوثقى» للسيد الحكيم كأحد أهم كتابين فقهيين في القرن الأخير.

والحال نفسه في بحثه الذي عقده لمسألة نجاسة الخمر(( المصدر السابق نفسه، ج3/319.))، فقد اشتمل على «نكات» وملاحظات لم تشتمل عليها دراسة أو بحث فقهي، خاصة بلحاظ الجمع بين الروايات المختلفة بل والمتعارضة.

كما يمكن أن نشير إلى بحثه المميّز في مسألة إعتصام ماء البئر(( المصدر السابق نفسه، ج2 / 51.))، ومعالجته للوجوه الصناعية التي ابتكرها الفقهاء في هذا الصدد، وهو بحث طريف جداً لا نظير له في الدراسات الفقهية المعاصرة فضلاً عن الدراسات القديمة.

ولا ننسى الاشارة إلى أبحاثه الطريفة الأخرى والتي تفرّد فيها ــ أيضاًــ من قبيل بحثه في مسألة الأسئار((المصدر السابق نفسه، ج2/283.))، وبحثه في نجاسة العصير العنبي((المصدر السابق نفسه، ج3/383.))، وكذلك بحثه الطريف في الوجوه الغنية ــ فقهياً ــ للجمع بين ما دلّ من الروايات على «أنّ الموات كلها للإمام» وبين ما دلّ منها على «أنّ ما أُخذ بالسيف فهو ملك للمسلمين» فانه ذكر وجوهاً صناعية لترجيح الطائفة الأولى غير مسبوقة.((إحياء الموات، المرجع نفسه، ص 14 وما بعد.))

كما يمكن مراجعة بحثه المدرسي في الاستدلال على طهارة الماء بعد فرض عدم الاشكال في المطهرية((بحوث في شرح العروة الوثقى، المرجع السابق، 1/18.))، وبحثه في إطلاق الماء والمجازية وعدمها((المصدر السابق نفسه، 1/9ــ 16.)) في هذه المسألة.

ومما يمكن أن يكون شاهداً على كثرة التفريع والاحتمالات ما يظهر في بحثه الطريف في تحديد إسم (كان) في جملة «إذا كان ذكياً» مما ورد عن الإمام عليه السلام في حكم فأرة المسك، فإنه إحتمل تسعة احتمالات((المصدر السابق نفسه، 3/115.))، لم أعثر على بحثٍ يضاهيه في مثل هذه الوجوه والاحتمالات، ويمكن مراجعة كتابي «المستند» للسيد الخوئي، و«المستمسك» للسيد الحكيم، كأهم كتابين في الفقه في القرن الأخير.

ولا يقل عن ذلك أهمية بحثه في تحديد الكر((المصدر السابق نفسه، 1/420ــ472.))، وكذلك بحثه في التغير التقديري((المصدر السابق نفسه، 1/260ــ272.))، فيما إذا كان موجباً للنجاسة أو لا.

السمة الثانية ـ الدقة والتأني:

ونلاحظ أن الصبر العلمي الذي طبع حياة الشهيد الصدر الفكرية كان قد أورثه الدقة والتأني في معالجاته الفكرية، ولا تجد في آثاره الفكرية ما يوحي بالخلاف، فهو مفكر من طراز قليل النظير، شعاره في حياته الفكرية الرؤية المستقلة والوضوح الفكري والثقافي، وهو ما أتاح له المتابعة الدقيقة لموضوعات بحثه، ووفّر له في الآن نفسه الحس النقدي، الذي أكسبه قدرة هائلة على التفكير والتأمل والتحليل، بعيداً عن التأثيرات الفكرية التي يفرضها الواقع العلمي أحياناً كثيرة.

ولما كان الحديث ــ في هذه السطور ــ منحصراً في الحقل الفقهي وما يتصل به من شؤون، نكتفي بالاشارة إلى عدة تطبيقات تكمل الصورة التي رسمناها للشهيد الصدر على المستوى النظري:

1ــ في فصل «النجاسات» من كتاب الطهارة وهو بصدد البحث عن نجاسة الكافر، يعثر الباحث على تتبع دقيق لمدلول هذا المصطلح في الروايات، يؤكد فيه الشهيد الصدر عدم معلومية هذا المصطلح في عصر النص على نحو يطابق ما هو مرتكز الآن في أذهان المتشرعة، وإن كانت النجاسة مشرّعة على نحو الاجمال.

كتب يقول: «.. لأن النجاسة وإن كانت مشرعة إجمالاً في ذلك الزمان، ولكن المتتبع يكاد أن يحصل له القطع بأن لفظة النجاسة لم تكن قد خصصت للتعبير عن القذارة الشرعية، وإنما كان يُعبّر عنها بتعبيرات مختلفة في الموارد المتفرقة. ولهذا نلاحظ أن مجيء لفظ (النجاسة) في مجموع الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما معدوم وإما نادر جداً، لا في طرقنا فقط، بل حتى في روايات العامة التي تشتمل على ستمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحكام النجاسة، ولم أجد فيها التعبير بعنوان النجس إلاّ في روايتين، في احداهما نقل الراوي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الهر ليس بنجس»، وفي الأخرى: نقل ان صحابياً واجه النبي وهو جنب فاستحى وذهب واغتسل واعتذر من النبي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «سبحان الله ان المؤمن لا ينجس». وهذا يكشف عن ضآلة استعمال لفظة النجاسة ودورانها في لسان الشارع، الأمر الذي ينفي استقرار الاصطلاح الشرعي بقرينة حالية خاصة، وهي ظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية، فلو حمل اللفظ على النجاسة غير الشرعية الاعتبارية لكان هذا إخباراً من قبل المولى عن أمر خارجي، وهو خلاف الظهور الحالي المذكور»((المصدر السابق نفسه، 3/259.)).

2ــ خصيصة التأني وفّرت للشهيد الصدر رصد مظاهر الخطأ والاشتباه وهو أمر طبيعي وإنساني، إنما نريد التأكيد على أن حسن الظن بالكبار والرموز الفكرية ورجال الفكر قد تؤدي إلى تكرار الخطأ واجتراره، غير أنه قد يختفي مع الدقة والتأني واستقلالية التفكير. ونلاحظ ذلك في عدد كبير من التطبيقات في مطاوي دراسات وأبحاث الشهيد الصدر، إنما نكتفي بذكر بعضها:

أ ــ في مسألة نجاسة العصير العنبي حالة الغليان استدل بعض الفقهاء على النجاسة برواية معاوية بن عمار((الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة.))، والتي ورد في بعض صيغها انه (خمر) فتثبت النجاسة بناء على ما يعرف بلغة الأصوليين (بالحكومة)، لكن نوقش في الرواية على مستوى المتن على أساس التهافت بين صيغة الرواية المشار إليها وصيغة (الكافي) للكليني التي لم تشتمل على هذه اللفظة. وثمة عدد من التقريبات إنما ما يهمنا هو ملاحظة الشهيد الصدر على الصيغة التي ورد فيها لفظة (خمر) إذ لاحظ ان أول من استدل بهذه الرواية بصيغتها المشار إليها هو الملا أمين الاسترابادي ــ أحد الفقهاء المتقدمين على أصحاب المجاميع الثلاثة ــ وانه اشتبه في نقلها وذكر أنها رواية محمد بن عمار، كما انه لم يسندها إلى كتاب التهذيب بالخصوص، بل لاحظ الشهيد الصدر انه لم يجد في كتب السابقين على الملا أمين الاسترابادي بهذه الرواية بصيغتها المشتملة على لفظة (خمر) بل صرّح جملة من الفقهاء منهم الشهيد الأول بأنه لم ير دليلاً على نجاسة العصير العنبي، بينما ذكر بعد سطرين من ذلك ان الفقاع نجس لأنه أطلق عليه الخمر في كلام الإمام عليه السلام، فلو كان وقف على كلمة (خمر) في رواية التهذيب لكان من المترقب أن يشير الشهيد الأول إلى إمكان استفادة النجاسة من ذلك.((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/447.))

ب ــ في معرض مناقشته للروايات التي استدل بها بعض الفقهاء ــ في مقابل المشهور ــ على نجاسة ولد الزنا، ذكر السيد الخوئي: أنّ من جملة ما استدل به الروايات الناهية عن الاغتسال من البئر الذي تجتمع فيه غسالة ماء الحمام، معللاً ذلك بأن فيها غسالة ولد الزنا، أو بأنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا». فناقش السيد الخوئي دلالات هذه الأخبار، ثم أردف بقوله: وذكره ــ ابن الزنا ــ مقارناً للنصارى واليهود لا يقتضي نجاسته، إذ النهي بالاضافة إليهم أيضاً مستند إلى الاستقذار العرفي كما أُشير إليه في بعض الروايات…» ((الميرزا علي، التنقيح في شرح العروة، تقريرات بحث في العروة، تقريرات بحث الخوئي ج3 / 72 ط النجف الأشرف.)).

وقد علّق الشهيد الصدر على ما ذكره استاذه السيد الخوئي قائلاً:

«.. غير انا لم نجد عطف اليهودي والنصراني على ولد الزنا في أي رواية من الروايات الناهية عن الاغتسال من بئر ماء الحمام، حتى تتوهم قرينيته على النجاسة، وإنما ذكر الناصب كما في هذه الرواية، أو الجنب أو الزاني، كما في بعض الروايات الآتية. اللهم إلاّ أن يريد مرسل الوشا الآتي، غير أنه لم يذكر فيه ماء الحمام أصلاً»((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/303 وراجع ج1/415.)).

ج ــ بل أكثر من ذلك فانه لاحظ على استاذه السيد الخوئي ــ في مبحث عرق الجنب من الحرام ــ انه نقل الاجماع على النجاسة. إذ قال السيد الخوئي في «التنقيح»: «بل عن الأمالي ان من دين الإمامية الاقرار بنجاسته. وظاهره ان النجاسة إجماعية عندنا».

في وقت لا يظهر من كتبهم ــ كما يقول الشهيد الصدر ــ سوى عدم جواز الصلاة في الثوب

الذي عرق فيه الجنب من الحرام، ولا نعلم باستلزام ذلك في نظرهم النجاسة. ((المصدر السابق نفسه، ج4/5.))

3ــ وفي الاتجاه نفسه سجّل الشهيد الصدر تحفظه على عدد من الدعاوى العلمية ــ إن صح التعبير ــ التي اتيح له اكتشاف زيفها وعدم صدقيتها، على خلفية خصيصة الدقة اعلمية والتأني أثناء التأمل الفكري.

ويمكن أن نشير إلى عدد من هذه الدعاوى التي ناقشها في هذا الاطار:

أ ــ في نجاسة البئر أو اعتصامه بملاقاة النجاسة، ثمة طائفتان: احداهما دلّت على النجاسة والأخرى دلّت على الاعتصام وعدم النجاسة لمجرد الملاقاة، وقد رجح بعض الاتجاهات الفقهية أخبار النجاسة بعد فرض استحكام التعارض، وذلك بدعوى انها متواترة إجمالاً خلافاً للطائفة الأخرى، فتكون الأخيرة من الروايات المخالفة للسنة القطعية، فتتقدم عليها الطائفة الأولى.

وبغض النظر عن المناقشة الأساسية التي ناقش بها الشهيد الصدر هذا التكييف الفقهي لهذا الوجه، فقد ردّ دعوى التواتر الإجمالي، وشرح كيفية تشكّل التواتر الاجمالي ومدى تأثره بالمعارض.((المصدر السابق نفسه، ج2/66.))

ب ــ بصدد إثبات قاعدة «لا ضرر» ثمة عدد من الطرق التي ذكرها الشهيد الصدر بغية إثبات سند القاعدة ومدركها، منها: دعوى التواتر الاجمالي، على نحو يمكن أن يقطع معه الفقيه بصدور سند هذه القاعدة على نحو الاجمال.

غير ان الشهيد الصدر ناقش في هذه الدعوى، إذ كتب يقول: «هذا إلاّ أنّ الانصاف قلة روايات الباب بدرجة لا تكفي حتى مع وحدة الموضوع المطروق فيها جميعاً لحصول التواتر، لأن الطائفة الأولى اثنتان يرويها راوٍ واحد، وهو زرارة، والطائفة الثانية اثنتان منها تكونان في طرقنا بسند واحد وراوٍ واحد وهو عقبة بن خالد، ورويت من طرق العامة عن عبدالله بن عباس وعبادة بن الصامت، والطائفة الثالثة كلها مراسيل. نعم قد يضم إلى ذلك شهرة هذه الرواية شهرة عظيمة جداً عند العامة والخاصة منذ قرون طويلة فيدعى حصول الاطمئنان بصدور مثل هذا المضمون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.» ((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج5/437.))

وهذا التمييز بين حصول التواتر الاجمالي من الروايات أو حصول الاطمئنان بفعل عوامل أخرى ضروري جداً، لئلا تختلط الأمور ويصبح من السهل تسويق الادعاءات بلغة علمية.

ج ـ وقد رد دعوى حصول التواتر الاجمالي للروايات في مسألة اثبات حجية خبر الواحد بالسنة، وذلك على نحو يمكن أن يقطع معه الفقيه بصدور بعض الأخبار التي يمكن أن يستدل بها على حجية خبر الواحد.

كما تمنى على الفقهاء والأصوليين أن تكون هذه الدعوى موضع عنايتهم واهتمامهم العلمي على غرار أبحاثهم في دلالة آية النبأ وغيرها مما استدلوا به على حجية خبر الواحد، «… فانهم لو كانوا حققوا أو دققوا النظر حقاً في أخبار الباب، كتدقيقهم في آية النبأ والنفر لعرفوا أنه لا تواتر أصلاً في المقام، فإنّ ما يدل منها على حجية خبر الواحد معدود جداً، ويوجد في كتاب جامع الأحاديث للسيد البروجردي ــ رحمه الله ــ ما يكون حوالي (170) حديثاً مما يستدل به على حجية خبر الواحد بينما الواقع: أنّ حوالي مائة وخمسين منها غير دال على المقصود أبداً»(( الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج2/484.)).

د ــ بل يسجل الشهيد الصدر تحفظه ــ على مثل هذه الدعاوى ــ بلغة مشوبة بالأسى العلمي، ولا يخفي إمتعاضه تجاهها، وتجاه تسويقها واجترارها دونما تدقيق أو تحقيق.

يقول تعليقاً على موقف بعض العلماء من أخبار التثليث((كما في قوله عليه السلام: «إنما الأمور ثلاثة: أمر بيِّن رشده فمتّبع، وأمر بيِّن غيّه فمجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله».)): «ثم إنه من العجيب ما يدّعى في الكتب الأصولية من أنّ أخبار التثليث لا تحتاج إلى مراجعة أسنادها، لأنها بالغة حدّ التواتر أو ما يشبه التواتر، مع أنه لا يوجد لدينا خبر يدل على التثليث إلاّ عن ثلاثة فقط: أحدهم نعمان بن بشير المقطوع فساده، والآخر عمر بن حنظلة الذي هو محل الكلام والبحث في وثاقته وعدم وثاقته، والخبر الآخر ضعيف سنداًً، وكأنّ هذا التوهم نشأ ــ بعد فرض عدم مراجعة مصادر الرواية ــ من كثرة ذكر حديث التثليث في كتب الأصول، وكثيراً ما ينشأ مثل هذه الدعاوى من عدم مراجعة مصادر الرواية، فينبغي مراجعتها حتى لا يقع الإنسان في مثل هذا الاشتباه»((المصدر السابق نفسه، ج3/435.)).

وهذه الملاحظة النقدية التي يذكرها الشهيد الصدر بصدد تعليقه على تواتر أخبار التثليث، تسري على مجموعة من الدعاوى التي يسوقها البعض في هذا الاتجاه، سواء كانت في حقل الفقه أو الأصول أو التأريخ، وهي جديرة بالتأمل.

4 ــ ولا تقتصر خصيصة الدقة والتأني في حياة الشهيد الصدر الفكرية على حقل دون آخر، وقد يلاحظ الباحث أنها حاضرة بشكلٍ متساوٍ ــ ربما ــ في الحقول المعرفية التي إهتم بها.

وفي الإطار الفقهي يمكن أن نشير إلى حضور هذه الخصيصة في ما يتصل بتحقيق صدور الروايات ــ مستند الأحكام الشرعية ــ إذ لاحظ بدقة وعمقٍ شديدين الخلل في بعض الأسانيد مما لم يكتشفه بعض أكابر أهل الحديث والرواية.

وثمة عدد من التطبيقات:

أ ــ بصدد التعليق على رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام أنه سأله: عن الفقاع؟ فقال: لا تشربه فانه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله»((الحر العاملي، المرجع السابق، باب 38 من أبواب النجاسات حديث رقم 5.)).

سجّل الشهيد الصدر على الشيخ الحر العاملي انه لم ينبّه إلى الفرق بين طريقي الشيخ الكليني الذي وقع فيه الارسال، وبين طريق الشيخ الطوسي عن الكليني في التهذيب من دون الارسال. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، 3/331.))

ب ــ في تعليقته على أسناد رواية إسماعيل بن جابر المتيقنة الصحة عند المشهور((الغروي، التنقيح، المرجع السابق، ج2/199، انظر الوسائل باب 10 من أبواب الماء المطلق حديث رقم 1.))، والتي استدل بها الفقهاء على تحديد مقدار الكر، لاحظ الشهيد الصدر على المشهور أنهم لم يتفطنوا إلى إسناها بشكل دقيق، وذلك لأنهم اقتصروا على ما نقله الحر العاملي في الوسائل، دونما رجوع إلى مصادر الوسائل ــ التهذيب والاستبصار ــ ليتعرفوا الفرق بين ما ورد في الوسائل وبين ما ورد في التهذيب والاستبصار، حيث ورد السند في «الوسائل» كالتالي: عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أيوب بن نوح، عن صفوان عن إسماعيل، في الوقت الذي ورد السند في التهذيب والاستبصار بشكل مختلف، فورد في الاستبصار كالتالي: «أخبرني الحسين بن عبيدالله عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن محمد بن أحمد بن يحيى…». وفي كلا السندين من لم تثبت وثاقته، ولذلك يرُدُّ على المشهور تصحيحهم السند بارجاعه إلى محمد بن أحمد بن يحيى عن طريق تصحيح بعض الطرق الصحيحة إلى كتاب محمد بن أحمد بن يحيى، وذلك لأن الشيخ لم ينقل الرواية عن كتاب محمد بن أحمد بن يحيى كما هو ظاهر تصريحه بطرقه ووسائطه إلى الرواية في التهذيب والاستبصار((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج1/463.)).

ج ــ وتبدو القدرات الفائقة للشهيد الصدر على مستوى تحقيق الأسانيد في عدد من الأبحاث الطريفة في هذا الاتجاه، سواء في دفع الاشكالات السندية أم في تكريس هذه الاشكالات تارة أخرى.

ويمكن مراجعة بحثه الطريف في تصحيح السند إلى رسالة «قطب الدين الراوندي» التي ألفها في أحوال أحاديث الأصحاب. ((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج7/349.)) وكذلك بحثه في تحقيق ما يعرف بـ(أصل زيد النرسي)، فهو وإن لم يكن يصحح إسناده، إلاّ أنه اشتمل على عدد مهمٍ من الملاحظات لم تكن معروفة لدى أقرانه ونظرائه من الفقهاء.(( الصدر، بحوث في العروة، ج3/419.))

وقد بلغت دقته وحسه النقدي أنه لا يعوِّل كثيراً على تصحيحات أسلافه من الفقهاء، وإن كان بعضهم من أهل الابداع. ويمكن أن نشير إلى ما سجّله من ملاحظة على استاذه السيد الخوئي وعلى السيد الحكيم في تصحيحهم رواية علي بن يقطين المروية عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرجل يتوضأ بفضل الحائض، قال: إذا كانت مأمونة فلا بأس»((الحر العاملي، الوسائل، المرجع السابق، باب 8 من الأسئار حديث رقم 5.))فقد لاحظ الشهيد الصدر على السيدين أنهما عبّرا عنها بالموثقة((الغروي، التنقيح، المرجع السابق، ج2/442، الحكيم، المستمسك، المرجع السابق، ج1/272.))، وهي ليست كذلك، لأن الشيخ يرويها باسناده إلى علي بن الحسن بن فضال عن أيوب عن محمد بن علي، واسناد الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال ضعيف، لوجود من لم يوثق فيه، وهو علي بن محمد بن الزبير.((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/289.))

السمة الثالثة ـ قوة الشخصية:

الخصائص العلمية التي توفر عليها الشهيد الصدر ــ بما أشرنا إليه تفصيلاً أو في مطاوي البحث ــ أكسبته شخصية قوية وذات استقلال فكري كبير.

وقد انعكست هذه السمة بوضوح في فتاواه وآرائه الفقهية أو في طريقة تفكيره الفقهي، والتي انعكست ــ أيضاً ــ في كتاباته ودراساته الفقهية على مستوى التأصيل والاستدلال.

ويمكن أن نشير إلى عددٍ من المسائل الفقهية المهمة التي أفتى فيها على خلاف الرؤية الفقهية السائدة، فيما يعرف بالمشهور أو المعروف أو المجمع عليه.. وإن لم يفت فلا أقل من تحفظه على ما هو كذلك.

وسرد بعض هذه المسائل قد يدعّم الاستنتاج المشار إليه أعلاه، ومن هذه المسائل:

1 ــ تحفظ الشهيد الصدر على الفتاوى المشهورة، والمدّعى الاجماع عليها، في خصوص نجاسة الكافر من غير الكتابي، ولذلك أفتى بالاحتياط في هذه المسألة على إطلاقها خروجاً من شبهة المخالفة، فيما أفتى بطهارة الكتابي، وكل من حكم بكفره من منتحلي الإسلام.((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج1/150، ج1/27. كتب معلقاً على منهاج السيد الحكيم في عدّ الكافر في «النجاسات»: «على الأحوط، والأقوى الطهارة في أهل الكتاب وفي كل من حكم بكفره من منتحلي الإسلام» وقال في موضع آخر: «الحكم بنجاسة سؤر الكافر غير الكتابي مبني على الاحتياط».))

وقد تبعه على ذلك بعض الفقهاء والمعاصرين((الحكيم، محمدسعيد، منهاج الصالحين، ج1/126ــ127، ط أولى/1994ــ دار الصفوة ــ بيروت.))، فيما عمَّق آخرون وجهة نظره على مستوى الفتوى بالطهارة على الاطلاق في هذه المسألة.

2ــ كما تحفظ على الفتوى المشهورة في خصوص نجاسة كل مسكر مائع بالأصالة، إذ أفتى بنجاسة خصوص الخمر، وهو المتخذ من العصير العنبي، دون غيره من المسكرات وإن كان حراماً. ((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج1/149ــ150.))

3 ــ وقد أفتى بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس الجامد الخالي من عين النجاسة، على خلاف المشهور عند الفقهاء. ((المصدر السابق نفسه، 1/19.))

4 ــ كما أفتى ــ على خلاف المشهور ــ بعدم حرمة مسّ المحدِث لاسم الجلالة وسائر أسمائه وصفاته إذا كانت في غير القرآن.

كتب في «الفتاوى الواضحة» في معرض حديثه عن حرمة مسّ المحدث كتابة المصحف

الشريف يقول:

«.. وإذا لم تكن الكلمة القرآنية أو الآية في المصحف بل كانت بكتاب أو برسالة أو بطاقة تهنئة أو ورقة تعزية أو نقش خاتم، فيجوز للمحدث أن يمسها.» (( الصدر، الفتاوى الواضحة، المرجع السابق، ص189.))

وكان قد علَّق على فتوى السيد الحكيم بالاحتياط الوجوبي في هذه المسألة بقوله: «هذا الاحتياط ليس بواجب»((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، 1/58.)).

5 ــ تحفظ على ما عرف عند مشهور الفقهاء ــ إن لم يكن المجمع عليه عندهم ــ من وجوب الغسل على المرأة بتحقق الجنابة، ولو من غير الجماع، إذ شكّك بما عرف من وجود المني عند المرأة، ولذلك أفتى بالاحتياط في مثل هذا الفرض.

فكتب: «المني بالمعنى المعروف في الرجل غير موجود في المرأة، فاذا أنزلت ماء من دون شهوة فليس عليها غسل، وإذا أنزلت ماء بشهوة احتاطت بالغسل وضمَّت إليه الوضوء إذا كانت محدثة بالأصغر.» ((المصدر السابق نفسه، 1/62.))

وقد عمَّق هذه الفكرة بعض الفقهاء((القاضي، عادل، وأحمد، أحمد، فقه الحياة، حوارات مع السيد فضل الله.))، وتبعه آخرون في الاحتياط.((الحكيم، محمد سعيد، الأحكام الفقهية، ص27، ط أولى/دار الصفوة ــ بيروت 1997.))

6 ــ إعتبر مبدأ تحقق النفاس ــ عند المرأة ــ وعدّ الأيام العشرة هو رؤية الدم، لا من يوم الولادة، كما لعله المشهور المعروف عند الفقهاء.((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، 1/97.))

7 ــ إستشكل ــ على خلاف ما هو المشهور ــ في جواز أخذ الهاشمي زكاة الهاشمي، فكتب في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم الذي أفتى بجواز أخذ زكاة الهاشمي للهاشمي: «.. على المشهور المدعّم بروايات عديدة، ولكنها جميعاً لا تخلو عن إشكال، كما يظهر بالملاحظة، والاحتياط سبيل النجاة»((المصدر السابق نفسه، 1/439.)).

8 ــ كما استشكل في ثبوت الخمس في الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، على خلاف ما هو المعروف المشهور عند الفقهاء، فكتب في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم: «لا تخلو المسألة من شوب إشكال»((المصدر السابق نفسه، 1/454.)).

وقد عمّق الاشكال المذكور بعض تلامذته، كما في كتاب الخمس.((الهاشمي، محمود، كتاب الخمس، 1/397، ط قم / مكتب السيد الهاشمي/1409هـ .))

9 ــ كما تحفظ الشهيد الصدر على ما اشتهر عند الفقهاء من التخيير في الصلاة بين القصر

والتمام في الأماكن الأربعة، المسجد الحرام، ومسجد النبي، مسجد الكوفة، الحائر، فكتب في تعليقته على (المنهاج): «في نفسي شيء من هذا التخيير، فلا يترك الاحتياط باختيار القصر»((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، 1/361.)).

10 ــ وتحفظ ــ أيضاً ــ على اشتراط السوم في وجوب الزكاة على الأنعام، وكذلك في شرطية عدم كونها من العوامل، على خلاف ما هو المشهور المعروف عندهم.((المصدر السابق نفسه، 1/418.))

11 ــ كما شكّك في ما عرف ــ عند مشهور الفقهاء ــ من مطهرية الشمس للثوابت، إذ كتب في تعليقته على عدّ الشمس في المطهرات: «لا تخلو أصل مطهرية الشمس من إشكال».((المصدر السابق نفسه، 1/171.))

12 ــ وتحفظ على ما هو المشهور عند الفقهاء من عدم جواز بيع ثمرة النخل والشجر قبل ظهورها عاماً واحد، بل هو المجمع عليه كما عن صاحب الجواهر((النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام، ج24/56 ط طهران / 1368ش.))، فمال إلى الجواز مضافاً لبعض الفقهاء، فكتب في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم: «على الأحوط، وللجواز وجه، وفاقاً للمحدث البحراني والمحقق الأردبيلي (قدس سرهما) بلحاظ أنه لم يرد مايعته بدلالته في مورد عدم الظهور إلاّ رواية الحلبي، لأن غيرها من روايات المنع وارد في مورد الظهور قبل بدو الصلاح، وفي مقابل ذلك روايتا بريد والحلبي وهما يصلحان قرينة على حمل النهي على الكراهة أو حفظ النظام، أو بنكتة تعرض المعاملة للانفساخ بعدم ظهور الثمر، ولو سُلّم عدم الجواز فلا يبعد جواز استئجار البستان سنة واحدة بلحاظ منافعه المتيقنة، ويشترط المستأجر على المؤجر على نحو شرط النتيجة أن تكون لثمرته له على تقدير ظهورها.»((الصدر، منهاج الصالحين، ج2/87.))

13 ــ كما تحفظ ــ أيضاً ــ على ما هو المعروف المشهور عند الفقهاء من إشتراط إسلام الذابح في حلية الذبيحة على نحو لا تحل معه ذبيحة الكتابي، ولو مع صدور التسمية منه، ولذلك أفتى بالاحتياط، فيما إذا سمّى الكافر ــ الكتابي ــ على الذبيحة، خلافاً لما هو المشهور من عدم حلية ذبيحته سمّى أم لم يسمّ.((المصدر السابق نفسه، ج2/356.))

14 ــ وتحفظ على ما هو المعروف من حرمة استقبال القبلة على المتخلي، ولذلك أفتى بالاحتياط،((المصدر السابق نفسه، ج1/28.)) خلافاً للمشهور.

15 ــ في التزامات الزوجة تجاه زوجها، وتحقق عنوان النشوز وعدمه، فصَّل الشهيد الصدر بين ثلاث حالات، فذكر في تعليقيه: «الزوجة تارة تكون مؤدية للزوج كل حقوقه الشرعية، وأخرى معلنة تمردها على الزوج والحياة الزوجية بترك البيت أو بمقاطعة الزوج في داخل البيت أو حرمانه من الاستمتاع على أساس رفض التعايش معه كزوجة، وثالثة وسطاً بين الأمرين، كما إذا امتنعت في بعض الأحيان عن الاستمتاع بدعوى عذر وبالتماس التأجيل إلى وقت آخر مما لا يخرجها عرفاً عن كونها زوجة منسجمة، وإن كانت آثمة بعدم التمكين، ولا شك في وجوب النفقة في الحالة الأولى كما لا ينبغي الشك في عدم وجوب النفقة في الحالة الثانية، وأما في الحالة الثالثة فالمشهور بين العلماء سقوط النفقة فيها، ومال البعض إلى وجوبها وهو الأحوط»(( المصدر السابق نفسه، ج2/303.)).

16 ــ وقد نقل عن الشهيد الصدر ــ وكما يظهر من بعض تلامذته((في أغلب الموارد التي يذكرها السيد الشهيد محمد الصدر من كتابه (ما وراء الطبيعة) بعنوان «بعض أساتذتنا» فهو يعني الشهيد الصدر، وفي بعض الحالات يعني السيد الخميني وقد أرسلت له رسالة لم يرجع جوابها بسبب استشهاده.))ــ انه كان يقول بجواز الموسيقى التصويرية، والتي كان يفسرها ــ كما نقل عنه ــ : أنها ما يكون صوتها مشابهاً لصوت شيء في الطبيعة، كصوت العاصفة أو نزول المطر أو تغريد البلبل أو غير ذلك.

وقد ناقش بعض تلامذته في ذلك بأنه صحيح بهذا المقدار، وبعبارة أخرى، إذا كانت الموسيقى التصويرية هي عبارة عن هذا التفسير فلا بأس بذلك، وإنما الكلام في ما هو المفهوم عرفاً من الموسيقى التصويرية، إذ يرى ان الموسيقى التصويرية ــ عرفاً ــ هي الموسيقى المنفردة الهادئة التي تعزف باستمرار بمناسبة ما، فيكون منها (جو) موسيقي متناغم ومستمر حسب ما يراه العازف مناسباً، ولا تعارَ بصوتها حديثاً أو خطاباً أو أي شيء آخر، وبذلك تكون هذه الموسيقى تابعة للغناء فاذا كان لهوياً فهي حرام، ولا إشكال ــ من وجهة نظره ــ في أنّ الموسيقى التصويرية بجميع أشكالها عادة لهوية فتكون محكومة بالحرمة.((الصدر، محمد، ما وراء الفقه، ج3 / 84 ط أولى / 1995 دار الأضواء ــ بيروت.))

ولكن بالعودة إلى تعريف الموسيقى التصويرية يمكن أن نحدّد الموضوع ــ موضوع النقاش ــ فهي إنما سميت بهذا الإسم «لأنها تحتاج إلى برنامج لشرح مصاحباتها الخارجية، وهي تحاول أن توقظ في ذهن المستمع شيئاً من الارتباط بالمعاني والموضوعات الخارجية، كأن تحكي قصة أو تصور مشهداً أو تستثير خاطراً».((الموسوعة العربية الميسرة ج2/1783 ط دار نهضة لبنان / بيروت.))

ولذلك فلا يمكن الحكم عليها بأنها لهوية، إلاّ إذا كانت بصدد إثارة جوٍ يمكن أن يصدق عليه عنوان محرّم.

17 ــ وقد تحفظ على مشروعية الاستخارة ــ كما نقل عنه بعض تلامذته على ما يظهر من بعض عباراته ــ وذلك لجهة عدم احتمال حصول سبب مما وراء الطبيعة يتدخل في نتيجة الخيرة ــ وعليه فتكون نتيجة الخيرة متوقفة على حصول المعجزة، وهو مما لا يحتمل حصوله، وعليه فتكون النتيجة مجرد صدفة، وليس ثمة تدخل إلهي فيها، وعندئذٍ ينتج بطلان الاستخارة على الاطلاق.((الصدر، محمد، المرجع السابق، ج2/201.))

18 ــ كما نقل عنه ــ كما يظهر من عبارات بعض تلامذته ــ انه لا يفتي بحرمة اللعب

بالورق، وذلك لعدم صدق عنوان «آلات القمار» عليها، ولذلك فهي محكومة بالحلية بالعنوان الأولي، إنما كان يفتي بحرمة اللعب بها بالولاية لا بالفتوى. (( المصدر السابق نفسه، ج3/172.))

19 ــ وقد ميّز بين شرائط المقلَّد ــ بالفتح ــ وبين الشرائط التي ينبغي توفرها في «المرجع» الذي يتولى الولاية العامة، ففي وقت اشترط فيه الشرائط ذاتها التي اشترطها المشهور في المقلّد ــ بالفتح ــ في الفتوى، فانه اشترط إضافة إلى ذلك في «المرجع» وتحديداً في الولاية العامة، أن يكون كفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً. ((المصدر السابق نفسه، ج3/172.))

20 ــ استقرب صحة الحج وعدم وجوب إعادته في حالة الاخلال بتسلسل الواجبات، كما لو أخل بالترتيب اللازم في واجبات يوم العيد فقدّم النحر على الرمي وإن كان عالماً عامداً. ((موجز أحكام الحج ص165، ص171.))

وتجدر الاشارة إلى أنّ مخالفة المشهور والخروج على الاجماعات السائدة في المدرسة الفقهية ليس مما يلجأ إليه الفقيه بشكل مزاجي وكيفي، وإنما يتجاوز هذه الخطوط الحمراء بفضل قدراته العلمية وما يُتاح له من مناقشة هذه المقولات السائدة، التي قد تشكِّل قيداً على حرية بعض الفقهاء، وقد لا تشكل قيداً على حريتهم، كما لو كان الفقيه واثقاً من قدراته العلمية، مطمئناً إلى نتائج بحثه.

ولذلك فلا يتجاوز الشهيد الصدر مثل هذه «الخطوط الحمراء» إن لم يكن ثمة ما يبرّر ذلك، كما لو كان ثمة متسالم أو ارتكاز متشرعي يكشف عن الحكم الشرعي بدرجة ما من الوضوح، وإن لم يكن ثمة دليل لفظي أو غيره يصلح أن يكون مستنداً للحكم. وكمثال في ذلك فقد ناقش الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على شرطية طهارة مسجد الجبهة في الصلاة، إلاّ أنه مع ذلك أذعن لتسالم والارتكاز في هذه المسألة. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج4/259.)) وذلك لأن الارتكاز المتشرعي وتسالم المتشرعة ــ إن لم يكن ثمة ما ينافي ــ قد يصلح دليلاً على الحكم الشرعي وكاشفاً عنه.

وإنما نقول بأنّ التسالم الفقهي قد يصلح دليلاً على الحكم الشرعي، لأنه قد يُشكِّك في قيام مثل هذا التسالم والارتكاز، وقد نجد لمثل هذا التشكيك في مناقشة الشهيد الصدر لمسألة دفع إشكال السيد محمد صاحب المدارك الذي ناقش في الاجماع والتسالم على نجاسة الميتة، على خلفية ثلمه من قبل الشيخ الصدوق، فردّ بعض الفقهاء هذا الاشكال بدعوى عدم تأثير ثلم الشيخ الصدوق لمثل هذا التسالم أو الاجماع لتفرده في هذا الموقف، فناقش الشهيد الصدر التسالم المشار إليه وقدرته على الثبات في وقت يخالف فيه الشيخ الصدوق مثل هذا التسالم، وذلك لأن دعوى عدم قدح مخالفة الواحد ليست صحيحة في كل مقام وفي كل وقت، إذ أن مخالفة الصدوق القائم على رأس (حوزة) يكثر فيها الفقهاء والمشايخ، قد تكشف عن عدم التسالم الارتكازي على النجاسة. ((المصدر السابق نفسه، ج3/76.))

ولذلك برّر الشهيد الصدر تقديم الروايات الدالة على نجاسة المني على الروايات الدالة على الطهارة وذلك بدعوى الاتفاق العملي من المتشرعة على الاحتراز منه والتجنب عنه((المصدر السابق نفسه، ج3/62.))، والتي يمثل إرتكازاً كاشفاً عن سقوط هذه الروايات عن الحجية، وبذلك يكون هذا التسالم قادراً على إثبات العكس تارة، كما يكون قادراً على إثبات ما هو المطلوب، كما في الأمثلة المتقدمة.

وقد يتعدى في عدم مخالفته للاجماع أو المشهور من التسالم والارتكاز إلى مجرد الوحشة في التفرد بالحكم المخالف. قال الشهيد الصدر في معرض حل التعارض بين ما دلّ من الروايات على أن الأرض التي يسلم أهلها طوعاً فهي لهم، وبين ما دلّ من الروايات من أنّ الموات كلها للإمام عليه السلام: «ولكن الصحيح هو الاحتمال الأول، فيكون المعنى: ان الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً مما لم يعمروه منها أصلاً لا حدوثاً ولا بقاءً لهم خصوصاً، إكراماً لإسلامهم ولعموم المسلمين، فيخصص بالرواية مما دلّ على ان الموات كلها للإمام عليه السلام، ولا وحشة فيه إلاّ وحشة الانفراد في الحكم. هذا في مقام البحث، وفي مقام العمل الخارجي حيث ان الحكم مخالف للمشهور، فالاحتياط حسن»(( الأنصاري، إحياء الموات، المرجع السابق، 32ــ33.)).

وعوداً على بدء، يمكن أن نُذكِّر: أن قوة الشخصية بما تعبِّر عن إستقلال في التفكير وتحلل من القيود التي يفرضها المحيط الثقافي ــ أي محيط ــ لا يعني التحلل من الثوابت الحقيقية التي تقوم عليها المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها المفكر أو الباحث، أو طريقة التفكير التي تقوم عليها هذه المدرسة.

ولا يخفى انتساب الشهيد الصدر إلى المدرسة الأصولية التي تجذرت واشتد عودها على أبطال معروفين في هذا الحقل العلمي، من أمثال الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والأصفهاني والعراقي والنائيني والسيد الخوئي أستاذ الشهيد الصدر نفسه..

ولذلك نجد سيادة الآليات نفسها في مدرسة الشهيد الصدر، فتركت بصماتها واضحة في فتاواه وطريقة تفكيره ومنهجه في الاستدلال.

ويمكن أن نشير إلى واحدةٍ من أهم المسائل الفقهية التي تكشف بوضوح عن طريقة التفكير هذه، وهي مسألة عدم جواز زواج أبى المرتضع في أولاد صاحب اللبن، مع أن النهي الصادر هو نهي متأخر جداً، لم يعرف قبل زمن الإمام الجواد عليه السلام والإمامين الرضا عليه السلام والعسكري عليه السلام، مع أن هذا الحكم مخالف لمقتضى القاعدة وهو محل إبتلاء المكلفين، فلماذا يتأخر بيان الحكم الشرعي إلى هذا الزمان.

ولم يجد الشهيد الصدر بأساً في الالتزام بهذه النتيجة الفقهية المشهورة، كما يظهر في تعليقته على (منهاج) السيد الحكيم((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج2/284.))، وذلك بناء على ما هو المعروف من «أن الأئمة عليهم السلام كلهم بمنزلة متكلم واحد، فإنهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي صلى الله عليه وآله، ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر

منهم، فإنه لولا أن كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحد بالخاص من شخص آخر، فاذاً يكون الخاص الصادر من الصادق عليه السلام مثلاً مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين عليه السلام مثلاً بحسب مقام الثبوت وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الإثبات، وكذا الخاص الصادر من الباقر عليه السلام مثلاً فكما أن الخاص المقدم زماناً يكشف عن عدم تعلّق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له، كذلك الخاص المتأخر يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولاً له، وكلاهما في مرتبة واحدة»((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج7/304ــ365.)).

وبغض النظر عن أصل الحكم الفقهي في هذه المسألة، فانه يمكن أن يقال ــ كما عن بعض أستاذتنا((فضل الله، رسالة في الرضاع، تقرير الشيخ محمد أديب قبيسي، ص119 ط دار الملاك، 1995. وقد وجدنا في باب الرضاع من الوسائل أكثر من ستين رواية عن الصادق عليه السلام، وهو أكثر من روي عنه في هذا الباب، كما في غيره فراجع الوسائل.)) ــ أنّ هذه الروايات الدالة على الحرمة مما صدر عن الأئمة المتأخرين، في وقت لا نجد فيه رواية واحدة مؤيدة لها صادرة عن الإمام الباقر عليه السلام أو الإمام الصادق عليه السلام على كثرة ما صدر عنهم من روايات في باب الرضاع، مع أنّ المسألة من المسائل المهمة، ومما يكثر بها الابتلاء يومذاك. فكيف يمكن أن يلتزم بهذه المقولة الأصولية على إطلاقها؟ فهل يعقل صدور الخاص في مسألة مهمة ــ تقوم عليها حياة الناس كما في الزواج وغيره من أمور المعاشرة ــ بعد زمن طويل جداً؟! وهل يمكن الالتزام بتجزئة الأحكام الشرعية على الناس، مع فرض أن الصادر عن الأئمة عليهم السلام هو بيان للحكم الشرعي الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله؟!

وربما تكون مسألة وجوب تقليد الفقيه الأعلم من أهم نتائج تفكير هذه المدرسة، بل تجد تشكيك الشهيد الصدر ــ وفقاً لمعطيات هذه المدرسة ذاتها ــ في بعض معطياتها المعروفة والمشهورة من قبيل قولهم بحرمة تقليد المجتهد، فيكشف الشهيد الصدر وفقاً للآليات السائدة نفسها عدم صحة هذه المقولة ــ على اشتهارها بينهم ــ وذلك فيما إذا كان الفقيه غير الأعلم يعترف بأنه المفضول وثمة أعلم منه في الفقهاء((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج4/18ــ 19.)).

لكن تحسن الاشارة إلى بحثه الطريف في كيفية التخلص من الخدش في قيمة آراء وفتاوى غير الأعلم، في صورة عدم التفاته إلى أعلمية غيره، فانه قدّم عدم تصورات يمكن بواسطتها التخلص من هذه الاشكالية، وتبرير حجية فتوى غير الأعلم مع مخالفتها لفتوى الأعلم.((نفس المصدر السابق.))

ولكن مع ذلك قد يخرج على بعض المقولات المشهورة في هذه المدرسة، من قبيل عدم حجية فتوى الفقيه الميت، وبالتالي عدم جواز تقليده ابتداءً، فانه ينقل عن الشهيد الصدر ميله إلى

خلاف هذه النظرية، ولكنه لم يلتزم بذلك بالعنوان الثانوي الذي يرى انه يكفي لتبرير القول بعدم حجية تقليد الميت ابتداء خشية تقويض الكيان المرجعي. ((خلاف هذه النظرية، ولكنه لم يلتزم بذلك بالعنوان الثانوي الذي يرى انه يكفي لتبرير القول بعدم حجية تقليد الميت ابتداء خشية تقويض الكيان المرجعي.))

السمة الرابعة ـ التواضع العلمي:

على أنّ هذه المدرسة التي تمتعت برصيد ٍعلمي وفكري كبير ــ قل نظيره ــ تمتاز بتوازن الشخصية والتواضع العلمي الكبير، إذ لا يلاحظ على لغتها ومنهجها شيء من الزهو أو الغرور الفكري، الذي قد يلقي بظلاله في أحيان كثيرة على مفكرين وعلماء، فيطبع لغتهم وأسلوبهم بالعنف اللامقصود.

وتجدر الاشارة إلى أن المنهج السائد في أبحاث الشهيد الصدر هو الخلق الرفيع واللغة العلمية الموضوعية، بعيداً عن التشنج أو القسوة والانفعال. ولم نلحظ ما يخالف ذلك إلاّ في موردين اثنين((راجع الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/350، ج3/425.))، قد يشكلان أكبر استثناء في لغته المفعمة بالشفافية والهدوء الكبير.

المنهج الفقهي: ملامح عامة

يمكن إدراج المنهج الفقهي في المنهج النقلي، وذلك لجهة تركيز الفقيه جهده العلمي على اكتشاف الحكم الشرعي ونفض غبار الزمن عن القانون الإسلامي، وإن كان ثمة دور عقلي ما في فهم (النص) واكتشاف دلالاته فهو دور لا يمكن أن يقلل من حقيقة تبعية (الفقيه) لمرجعية قانونية/ شرعية ليس بوسعه تجاوزها.

وعلى أية حال يمكن تحديد المراحل الأساسية للمنهج الفقهي بالتالي:

أولاً: مرحلة التوثيق.

ثانياً: مرحلة فهم النص.

ثالثاً:  مرحلة الموازنة بين النصوص المختلفة والمتعارضة.

رابعاً: مرحلة استخلاص النتائج.

مرحلة التوثيق:

طغيان المنهج النقلي في عملية تفكير الفقيه فرضت عليه أولاً وقبل كل شيء التثبت من المعطيات الأساسية التي يستند إليها في تفكيره وما يؤول إليه من نتائج.

وبكلمة أخرى: يتوجب على الفقيه الوثوق بصدور النصوص الشرعية
ــ المدّعى صدورها ــ عن الشارع، وأنها نصوص صحيحة صادرة عن المعصوم.

وللتثبت من صدور النص الشرعي عن المعصوم يلجأ الفقيه إلى جمع القرائن والامارات التي تتكفل إثبات صدوره على نحو قطعى أو اطمئناني أو ظني.

وفي هذا الصدد يبرز دور (علم الرجال) كأحد أبرز العلوم المساعدة على التحقيق والوثوق بنسبة النصوص الشرعية إلى مصدرها الحقيقي، بل يتأكد دور علم الرجال فيما لو بنى الفقيه على حجية خبر الثقة على نحو يكون ــ خبر الثقة ــ موضوعاً للحجية لا كأحد طرق الوثوق.

وقد تبنى الشهيد الصدر هذه النظرية أصولياً ــ نسبة إلى علم أصول الفقه ــ بل وجمع عدة

قرائن تؤكد ذلك((الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج2/567.))، وناقش في الاتجاه الآخر الذي تبنى حجية الخبر الموثوق بصدوره وإن لم يكن خبر ثقة.

ولما كان الاتجاه المتبنى ــ أصولياً ــ عند الشهيد الصدر هو حجية خبر الثقة، فقد تم تأصيل دور (علم الرجال) في أبحاثه الفقهية على مستوى التحقيق الصغروي في ملاحقة التوثيقات وفقاً لمعطيات علم الرجال
ــ تأريخياً ــ على مدى الزمن المتقادم ووفقاً لأصول هذا العلم، أو على مستوى التحقيق الكبروي في تأصيل بعض النظريات وتعميقها، كما سنشير إليه في مطاوي البحث.

البحث الصغروي:

ثمة مواضع عديدة ــ قد يصعب حصرها ــ في أبحاث الشهيد الصدر خصوصاً كتابه (بحوث في شرح العروة الوثقى) تُبرز ملكته في التحقيق والتوثيق، إن على مستوى التوثيق السندي، أو على مستوى غير التوثيق السندي، أي التحقيق والتوثيق الأعم من فحص الأسانيد والتحقق من وثاقة ونزاهة الرواة والاطمئنان إليهم في النقل.

والفوائد الرجالية وغيرها كثيرة في أبحاث الشهيد الصدر وهي منتشرة هنا وهناك، ربما يُتاح لنا ــ في يوم من الأيام ــ جمعها وتنسيقها، إلاّ أننا نشير إلى بعضها كنماذج علمية.

وقد لا يجد الباحث جديداً في تقييمه لبعض الرواة مثل تضعيفه لـ(سهل بن زياد) ((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/66.)) أو (عبدالله بن الحسن) ((المصدر السابق، ج3/421.)) أو (مسعدة بن صدقة) ((المصدر السابق، ج2/83.))، أو (ياسين الضرير) ((المصدر السابق، ج1/233.))… وإن كنّا لا نعرف الوجوه العلمية التفصيلية لهذه التضعيفات، ومدى اختلافها مع الموقف العام لعلماء الرجال، إلاّ اننا نجد الجديد في بعض التوثيقات ربما يتفرد بها من بين أقرانه، كما في توثيقه لـ(إسحاق بن يعقوب) بناء على حساب الاحتمال تارة، وأخرى على أساس القيمة الخاصة للتوقيع، فإن إفتراء توقيع على الإمام في مثل هذا الظرف لا يخلو من احتمالين: أما أن يكون راويه بدرجة كبيرة من الوثاقة أو كونه على درجة كبيرة من الخبث والسوء، ولا يخفى على الشيخ الكليني مع دقته المعهودة حال اسحاق بن يعقوب ــ وهو يروي عنه ــ لو كان على مثل هذه الدرجة من الخث والسوء، فيقطع بوثاقته. ((الحائري، المرجع السابق، ج2/513.))

بل نجد له طريقاً لتضعيف بعض الرواة يختلف عن الاتجاه العام، كما في تضعيفه لـ(سعد بن طريف) و (جابر بن يزيد النخعي) بناء على اتجاههم الباطني الذي يحاول غلق أبواب المعرفة وتلغيزها بذرائع عديدة.(( الحائري، المرجع السابق، ج2/229، الهاشمي، المرجع السابق، ج4/285.))

وثمة عدة تقييمات متناثرة في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية طالت المصادر الحديثية، قد لا يكون بعضها جديداً، كما في موقفه تجاه كتاب «الاحتجاج» الذي يشتمل في معظم رواياته على المراسيل((الهاشمي، المرجع السابق، ج7/347.))، أو تجاه كتاب «غوالي اللئالي»(( المصدر السابق، ج7/348.))الذي يشتمل على المراسيل، فضلاً عن الموقف العام من مؤلفه نفسه، وكذلك تجاه كتاب «الاختصاص» الذي نقل عنه تلميذه السيد الحائري تشكيكه في صحة نسبة الكتاب إلى الشيخ المفيد((الحائري، المرجع السابق، ج2/510.))، أو تجاه كتاب «فقه الرضا»((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/85.)).

بل تجاه كتاب «بصائر الدرجات» خلافاً لعدد من الأعلام وفيهم استاذه السيد الخوئي، إذ شكك الشهيد الصدر في الطريق الذي وصلنا به كتاب «بصائر الدرجات»((المصدر السابق نفسه، ج1/233، وراجع الحائري، المرجع السابق، ج2/349.)).

وقد اشتملت أبحاثه على تحقيقات ــ صغروية ــ إن صحّ التعبير، وهي وإن لم تندرج في البحث السندي، إلاّ أنها تندرج فيما يمكن تسميته بالتوثيق والتحقيق، كما في عدد من المواضع المهمة التي تترتب عليها آثار فقهية مهمة. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/447، ج3/417، ج3/403.))

البحث الكبروي:

ومن أسفٍ أن لا يجد الباحث نظريات الشهيد الصدر وآراءه في علم الرجال مكتوبة بشكل تفصيلي، لكن مع ذلك فقد ترك في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية عناوين إجمالية ــ في الغالب ــ لنظرياته في هذا الحقل المهم، يمكن أن تكوِّن بمجموعها ما يمكن تسميته بـ«الفوائد الرجالية» في أبحاثه، فيما لو أُتيح لبعض الباحثين جمعها واستقصاؤها.

1ــ بخصوص ما يعرف بالتوثيق الاجمالي سجّل الشهيد الصدر تحفظه على ظهور عبارات بعض مؤلفي الكتب الحديثية في إرادة التوثيق العام، كما في إرادة التوثيق العام في عبارة ابن قولويه((كتب في مقدمة كتابه: «وقد علمنا بأنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقاة من أصحابنا رحمهم الله برحمته ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم».))في مقدمة كتابه: «كامل الزيارات» واستظهر أنه ــ ابن قولويه ــ في مقام توثيق مشايخه المباشرين لا مطلق المشايخ ممن ورد اسمه في الكتاب كما استظهره السيد الخوئي ــ في مدة طويلة من الزمن ثم عدل عنه ــ وآخرون.

ولذلك لم يصحّح توثيق أحمد بن هلال العبرتائي((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/144.)) بناء على التوثيق العام في «كامل الزيارات»، وكذلك توثيق محمد بن يحيى المعاذي((المصدر السابق، ج2/192.))، وممد بن اسماعيل((المصدر السابق، ج2/290.))، والنوفلي((المصدر السابق، ج3/14.))، وزيد النرسي((المصدر السابق، ج3/418.))، وإن وثقه بواسطة قاعدة رجالية أخرى كانت موضع قبوله.

2ــ وعلى هامش الحديث عن موقفه من استظهار إرادة التوثيق العام في عبارات «ابن قولويه» يمكن أن نشير إلى أننا لم نعثر على موقفه تجاه «التوثيقات العامة» الأخرى، وفي مقدمتها: التوثيق العام لمشايخ النجاشي، وكذلك التوثيق العام لرواة تفسير علي بن إبراهيم.

لكن نقل عنه البعض((الجواهري، محمد، المفيد من معجم رجال الحديث.)) أنه لا يرى إرادة التوثيق العام لجميع رواة تفسير علي بن إبراهيم خلافاً لاستاذه السيد الخوئي.

وقد إنعكس هذا الموقف في موقفه من توثيق أحمد بن هلال العبرتائي((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج2/144.)) وهو أحد رواة التفسير المذكور فلو كان يرى التوثيق العام لكان ثقة من وجهة نظره، وكذلك موقفه من توثيق مسعدة بن صدقة. ((المصدر السابق، ج2/83.))

وقد استظهر التوثيق العام من عبارات الشيخ المفيد وبالتحديد فيما ورد في الرسالة العددية.

3ـ وفي الاطار نفسه تحفظ الشهيد الصدر على قاعدة توثيق مشايخ المشايخ الثلاثة (الكليني، الصدوق، الطوسي)، وقد انعكس ذلك في موقفه من محاولة تصحيح أحد التوقيعات المروية عن إسحاق بن يعقوب، فانه لاحظ عليه الخدش فيه ــ سنداً ــ على مستويين: أحدهما عدم توثيق إسحاق نفسه(( عدل الشهيد الصدر عن ذلك وصحّح السند بناء على ما ذكرناه سابقاً.))، وثانيهما: عدم توثيق محمد بن محمد بن عصام الكليني ــ الواسطة ــ إلاّ بناء على التوثيق العام المشار إليه((، وقد صرّح الشهيد الصدر ــ في بعض أبحاثه الأصولية ــ عدم تمامية هذه القاعدة من وجهة نظره((الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج3/237.)). وكذلك تحفظ على محاولة توثيق أحمد بن محمد بن يحيى.

4- و من الفوائد الرجالية المهمة التي وردت في مطاوي أبحاثه الفقهية والأصولية موقفه من تصحيح بعض روايات الشيخ الصدوق بدعوى: روايته لها بنحو الجزم، كما في مرسلته عن الإمام الصادق عليه السلام في جلود الميتة، فقد علّق الشهيد الصدر قائلاً: «… والصدوق وإن كان يرويها بنحو الجزم، حيث يقول سئل الصادق عليه السلام، إلاّ ان ذلك لا يكفي في شمول دليل الحجية له، ما دام لا يحتمل في حق مثل الصدوق أن ينقل الرواية عن الصادق عليه السلام بالحسن، أو ما يكون بحكمه، كأن تكون الرواية المذكورة متواترة النقل إلى زمانه، وان النقل بالنحو المذكور يكشف عن تأكد الصدوق من صدور الرواية، وهذا لا يكفي لحجيتها.»((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/75.))

5ـ ومن الفوائد الرجالية المهمة التي اشتملت عليها أبحاثه الفقهية والأصولية قاعدة «مشايخ الثقاة» الثلاثة أو مطلقاً، وهم المشايخ من الرواة الذين لا يروون إلاّ عن ثقة. وقد أفاد من هذه القاعدة في عدد غير قليل لتوثيق الرواة، كما في توثيق عثمان بن عيسى لروايته عن أحد الثلاثة (ابن أبي عمير، صفوان، البزنطي) ((المصدر السابق، ج1/329.))، وفي توثيق الحسن بن موسى الخياط لروايته عن ابن أبى عمير((المصدر السابق، ج3/340.))، وتوثيق الحسين بن زرارة لروايته عن صفوان((المصدر السابق، ج3/234.))، وتوثيق برد الاسكاف وسيف التمار لروايتهما عن صفوان((المصدر السابق، ج3/226.))، وتوثيق داود الرقي لروايته عن ابن أبى عمير((المصدر السابق، ج3/25.))، وتوثيق إبراهيم بن ميمون لروايته عن صفوان((المصدر السابق، ج3/150.))، وتوثيق يزيد بن خليفة لروايته عن صفوان((المصدر السابق، ج3/334.))، وتوثيق عمر بن حنظلة لروايته عن ابن أبي عمير أو توثيق يزيد المشار إليه الذي روى النص على وثاقته من الإمام عليه السلام. ((المصدر السابق، ج3/334، وراجع الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق ج7/370.))

ومن أسف أن لا يعثر الباحث على الصناعة الفنية التي أثبت بواسطتها الشهيد الصدر صحة هذه القاعدة، وإن كنّا نحتمل أن يكون ذلك بواسطة حساب الاحتمال الذي أفاد منه كثيراً في حقول المعرفة التي اهتم بها سواء كانت فقهية أم أصولية أم رجالية.

لكنّ نبه الشهيد الصدر على عدم جريان هذه القادة في مورد التعارض، كما لو ورد تضعيف ما بحق الوسيط، وعليه فتسقط الشهادة العامة بوثاقة الوسيط((المصدر السابق، ج4/264، وراجع الهاشمي، المرجع السابق، ج7/370.)) ولا يقال بالتخصيص لأنه انما يجري فيما إذا كان العام والخاص منتسباً إلى شخصٍ واحد أو بحكمه على نحو يعلم كون المراد

الجدي واحداً. ((عرفانيان، ميرزا غلام رضا، مشايخ الثقاة، ص37، ط الثانية / قم ــ 1409هـ .))

كما نبّه الشهيد الصدر على عدم جريان القاعدة المذكورة في حالات رواية الثلاثة بالواسطة عن الراوي المراد توثيقه، فانه في مثل هذه الحالة لا يكفي الرواية عنه بالواسطة دلالة على التوثيق أو الوثاقة.

وقد ذكر ذلك بمناسبة تعليقه على رواية سليمان الاسكاف فيما رواه عن الإمام الصادق عليه السلام عن شعر الخنزير((الحرالعاملي، المرجع السابق، كتاب الطهارة، باب 13 من أبواب النجاسات حديث رقم 3.))، فقد ذكر الشهيد الصدر في مقام البحث السندي أنّ «في سندها سليمان بن الاسكاف وهو لم يوثق، ولم يرو عنه أحد الثلاثة. نعم روى عنه ابن أبى عمير بالواسطة وهذا لا يكفي»((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/228.))، فانه روى عن سليمان الاسكاف بتوسط هشام بن سالم كما في هذه الرواية.

هذا كله في حالة ما إذا كان الوسيط مصرحاً باسمه كما لو روى ابن أبى عمير رواية عن راوٍ لم تثبت وثاقته، إنما الكلام في مراسليه ــ أيضاً ــ فكيف يمكن الافادة من هذه القاعدة؟

في تعليقه على روايات تحديد الكر، وتحدياً في تعليقه على مرسلة ابن أبي عمير(( الحرالعاملي، المرجع السابق، كتاب الطهارة باب 11 من أبواب الماء المطلق حديث 1ــ3.))  نبّه على إشكال مفاده: «أنا لو سلمنا دعوى الشيخ، يتشكل عموم يقتضي الشهادة من قبل ابن أبي عمير بوثاقة كل من يروي عنه، وحيث أن بعض الأشخاص الذي روى عنهم قد ورد في حقهم معارض أقوى يشهد بعدم الوثاقة، سقطت من أجل ذلك الشهادة الضمنية لابن أبي عمير بوثاقتهم عن الحجية، فحينما يرسل ابن أبي عمير يحتمل أن تكون الواسطة أحد أولئك الأشخاص الذين سقطت شهادته عن الحجية بالنسبة إليهم، وهذا يعني أنها شبهة مصداقية، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.» ((الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى، المرجع السابق، ج1/429، وعرفانيان، المرجع السابق، ص38.))

وقد أجاب عن الاشكال على مستوى الوسيط الوحيد وأخرى على مستوى تعدده. أما على المستوى الأول فانه أجاب عنه تارة بتفسير أن أفراد العموم ــ في شهادة المشايخ ــ هو الروايات لا الرواة(( عرفانيان، المرجع السابق نفسه.))، وأخرى بنفي صدق الشبهة المصداقية على المقام أصلاً((عرفانيان، المرجع السابق، ص38.))، وأخرى بتطبيق حساب الاحتمال على نحو يمكن الاطمئنان الشخصي بوثاقة الوسيط المجهول((المصدر السابق، ص40.)).

هذا على المستوى الأول، وأما على المستوى الثاني فقد أجاب عنه الشهيد الصدر على ضوء حساب الاحتمال أيضاً. ((المصدر السابق، ص42.))

على أن تطبيق حساب الاحتمال على النحو المذكور للتخلص من إشكال ضعف الوسيط مما يمكن تعميمه إلى غير المشايخ الثلاثة، بناء على قاعدة إستعراض تأريخ الراوي وملاحظة نسبة الثقاة في مشايخه، كما أشار إليه في تعليقه على بعض روايات الحسن بن محمد بن سماعة. ((الصدر، بحث في شرح العروة، المرجع السابق، ج4/355ــ295.))

6ــ ومن الفوائد الرجالية المهمة التي تعرَّض لها الشهيد الصدر استطراداً في بعض أبحاثه الأصولية قيمة شهادات التوثيق ومدى تأثرها ببعض العوامل التي قد توجب سقوطها من قبيل كثرة معارضة روايات الراوي لأمارات أخرى، أو كثرة رواياته المستبعد صدورها من الإمام.

فقد ذكر ــ كما في تقريرات بعض تلامذته ــ في شرح هذه الفائدة: «بقي هنا شيء وهو أنه قد تكثر من قبل ثقةٍ الأخبار المتعارضة لأمارات أخرى، والروايات المستبعد صدورها من الإمام، وقد ظهر مما مضى أنّ خبر الثقة حجة ولو لم يحصل الظن منه لمعارضته لأمارة أخرى، بل ولو حصل الظن بخلافه، لكننا نقول هنا: انه قد يسقط بحسب مقام الاثبات عن درجة وثاقته لنا بالمباشرة بحساب الاحتمالات، فقد يقع التزاحم بين ذاك الحساب والحساب الناشيء من ملاحظة هذه الأخبار العجيبة المستبعد مطابقتها للواقع، بنحو يختل الحساب الأول في التأثير، وإن فرض ثبوت وثاقته لنا بمثل شهادة الشيخ أو النجاشي ــ قدس سرهما ــ فان احتملنا أنّ الشيخ أو النجاشي كان في شهادته مستنداً إلى حساب الاحتمالات غالب على هذا الحساب الناشيء من ملاحظة هذه الأخبار منه بنحو يوجب العلم بالوثاقة بحيث لو اطلعنا على ذاك الحساب لوافقنا على ما يقوله الشيخ أو النجاشي كان قوله حجة، وان إطماننا بخلاف ذلك ــ كما هو كذلك عادة ــ ورأينا ان شهادته إما ناشئة من عدم اطلاعه على هذه الأخبار منه، أو غفلته عن هذه النكتة التي حتى الآن لم تكن ملتفتاً إليها في علم الأصول، أو تقديمه لذاك الحساب على هذا الحساب باجتهاد غير صحيح عندنا سقط قوله عن الحجية. وبهذا البيان الذي ذكرناه يسقط بعض المشهود بوثاقتهم في علم الرجال عن الوثاقة»((الحائري، مباحث الأصول، ج2/591.)).

7ــ وفي قيمة توثيقات المتأخرين وأنها في الغالب توثيقات حدسية إجتهادية لا حسية كما هي توثيقات المتقدمين من أمثال الشيخ والنجاشي ناقش الشهيد الصدر في صحة هذه المقولة على إطلاقها، فقد ذكر على هامش موقفه من توثيق أبي البركات علي بن الحسين العلوي الخوزي، والذي لم يرد فيه توثيق إلاّ من الحر العاملي صاحب الوسائل: «أن المقياس في نشوء إحتمال الاستناد إلى الحس في مقابل الحدس والاجتهاد ليس هو طول الزمان وقصره فحسب، وإنما تتحكم فيه أيضاً ملابسات ذلك الفاصل الزمني وظروفه، فقد يكون الفاصل قصيراً ولكنه قد مضى بنحو لا يوفر للباحث ما يحتاجه من المدارك الواضحة التي تستوجب حسية الشهادة من مدارك ومستندات، فمثلاً ترى أن التسلسل النسبي لأسرة علوية قد يكون محفوظاً عبر مئات السنين، فيستطيع أي فرد منها أن ينسب نفسه إلى أبيه ثم إلى جده وجد جده وهكذا إلى أزمنة سحيقة من

تأريخ آبائه وأجداده نتيجة الاهتمام الموجود تجاه هذا النسب المبارك، بينما لا يتأتى ذلك في حق الأنساب الأخرى ولو لأزمنة قصيرة من تأريخ الآباء والأجداد، وعلى هذا الأساس لو لاحظنا السنين التي تفصل بين الشيخ الطوسي ــ قده ــ وبين الرواة الذين شهد بوثاقتهم والتي هي أقصر بكثير من الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل ــ قده ــ والعلماء الذين يشهد بوثاقتهم ــ كأبي البركات مثلاً ــ نرى فارقاً كيفياً كبيراً بين الزمانين يميز الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل وأبي البركات من ناحية إمكانية الحصول فيه على مدارك حسية للشهادة بوثاقته. وذلك الفارق الكيفي يتمثل في توفر الضبط في النقل وشدة الاهتمام بمدارك التوثيق والجرح والتعديل، وشيوع كتب الرجال والاجازات والاسناد التي هي منفذ إطلاع الباحث على معرفة أحوال الرجال عادة وعدم توفر مثل هذه المدارك وإمكانات البحث والاطلاع في الفترة الزمنية بين الشيخ الطوسي وأصحاب الأئمة حتى أنه لم ينقل فهرست لأحد من الأصحاب في هذه الفترة غير البرقي ــ قده ــ »_((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق ج7/355.)).

8 ــ ومن الفوائد الرجالية التي اشتملت عليها أبحاثه الفقهية والأصولية رأيه في ما يعرف من التمييز بين التوثيقات الواردة في كتب الرجال من حيث القيمة وبين التوثيقات الواردة في غير الكتب الرجالية كما في الكتب الفقهية مثلاً، فانّ الموقف العام هو حدسية التوثيقات الواردة في الكتب الفقهية فلا تكون موضع الاعتماد والحجية على خلاف ما يرد من توثيقات في الكتب الرجالية.

وهو وإن لم يتعرض إلى أصل الكبرى والضابط الذي يتم وفقاً له مثل هذا التمييز، إلاّ أنه ناقش في بعض الصغريات استطراداً كما يظهر ذلك في توثيق عبدالأعلى بن أعين الذي لم يتعرض لتوثيقه الشيخ والنجاشي، إلا انه تعرض لتوثيقه الشيخ المفيد في «الرسالة العددية» وهي رسالة فقهية، فذكر كما في بعض تقريرات بحثه: «وما قد يناقش به في توثيق الشيخ المفيد وغيره من الفقهاء إذا كان في غير كتب الرجال من عدم حمله على الشهادة عن الحس لا يأتي في المقام، لأن شهادة الشيخ المفيد بشأن هذا الرجل شهادة مفصّلة وموضّحة لكونه من أولئك الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم. وأنه من الأعلام الذين لا يرتاب في فقههم وعلمهم، وشهادة من هذا القبيل لا يستبعد حملها على الشهادة عن الحس»(( الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج3/318.)) خاصة وإن الشيخ المفيد من العلماء المتقدمين ممن عاش في أوائل عصر الغيبة الكبرى وهو شيخ وأستاذ الشيخ الطوسي.

9ــ وقد يعثر الباحث على عدد من الفوائد الرجالية ذات الصلة بدلالات التوثيق من قبيل «الوجيه» و «المرضي» الذي استظهر الشهيد الصدر دلالتها على الوثاقة(( المصدر السابق، ج2/511.))، ودلالة «الإمام الزاهد» على الوثاقة، بل على مرتبة عالية من التوثيق لا يلقب بها إلاّ أجلاء علماء الطائفة((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج7/357.))،

كما اعتبر لفظ «مضطرب الحديث» دالاً على الجرح((المصدر السابق نفسه، ج4/284.))، على خلاف رأي السيد الخوئي الذي لم يرَ في اللفظ المذكور ما ينافي الوثاقة. (( الجواهري، المفيد من معجم رجال الحديث، المرجع السابق، ص613.))

وفي وقت استظهر فيه بعض علماء فن الرجال من صنعة الاتقان والاحكام في روايات بعض الرواة ما يدل على الوثاقة، فقد رفض الشهيد الصدر دلالة الاتقان والاحكام في روايات راوٍ ما على وثاقته، كما يظهر ذلك في موقفه من الراوي مسعدة بن صدقة، إذ ذكر ان كون رواياته متقنة ومحكمة إنما تدل على فضله لا على وثاقته. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/83.))

10ــ ومن الفوائد الرجالية المهمة التي يمكن أن تصنّف في دائرة الابداع ما أدخله على المنهج الرجالي بشكل عام من اعتماد حساب الاحتمال في تنقيح بعض الصغريات أو على مستوى القواعد الرجالية وإثبات مصداقيتها، كما يظهر ذلك في اعتماد أو تصحيح قاعدة توثيق مشايخ المشايخ الثقاة الثلاثة، أو على مستوى تنقيح بعض المعطيات الرجالية والتحقق من مصداقيتها كما في دعوى وضع «أصل زيد النرسي» فانه استبعد وفقاً لحساب الاحتمال الوضع بهذه الطريقة((المصدر السابق، ج3/419.))، بل في أصل قيمة شهادات الرجالين بتوثيق الرواة فانه ــ الشهيد الصدر ــ أشار إلى ما يمكن أن ينشأ من إمارة مغايرة (على الخلاف) على ضوء حساب الاحتمال.((الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج2/591.))

كما أفاد من حساب الاحتمال في إرجاع بعض الروايات إلى الأخرى وكونها ترجع إلى رواية واحدة، على ضوء بعض القرائن التي يمكن تجميعها في هذا الاطار. ((المصدر السابق، ج3/419.))

11ــ ومن أهم إنجازاته في حقل (الرجال)  والبحث الرجالي هو تنقيحه لما أسماه بنظرية (التعويض) وذلك عن طريق تصحيح الخلل الذي يقع في الأسانيد لجهة وقوع الراوي الضعيف فيها، بما يمنع الفقيه من الاعتماد عليه.

جدير بالذكر أن محاولة تصحيح الأسانيد ليست مبتكرة تماماً، فقد حاول عدد من الأعلام الإسهام في إنجاز هذه المهمة بغية تذليل الصعوبات التي تعترض الروايات على مستوى الأسانيد والاحتجاج بها للخدش السندي فيها، ولعلّ في مقدمة هؤلاء الأعلام الشيخ محمد الأردبيلي والشيخ المجلسي والسيد بحر العلوم والسيد الخوئي، على ما نقل عنه أو كما هو موجود في (معجم رجال الحديث).

لكن مع ذلك لا يمكن القول: إن هناك نظرية علمية لتفادي هذه الصعوبات، على نحو يمكن تلمّس ضوابطها وشروطها في كلمات هؤلاء الأعلام. (( راجع البحث القيم الذي كتبه الباحث (ثامر العميدي) بعنوان (الجديد في علمي الدراية والرجال عند الشهيد الصدر) المنشور في مجلة (قضايا إسلامية) العدد 3/1996/ ص109.))

وهنا تبدو محاولة الشهيد الصدر بما هي إنجاز كبير، بل وابتكار ــ أيضاً ــ على عادته في التأسيس والتنظير.

ومن خلال مراجعة كلماته في تقريرات بحثه الأصولي أو في ما نقل عن بعض تلاميذه((راجع: الحائري، مباحث الأصول ج3/238، والقضاء في الفقه الإسلامي ص52، والطهراني، مهدي الهادوي، تحرير المقال في كليات علم الرجال ص129، ط 1/ قم ــ 1412هـ .))،

يمكن أن نحدّد شرائط تطبيق نظرية (التعويض) بما يلي:

الشرط الأول: إنما يمكن تطبيق نظرية التعويض في حالة وجود راوٍ ضعيف ــ مطلقاً ــ((سواء كان مجهولاً أم مهملاً أم مجروحاً.)) في سند الرواية، إذا كان فوق الراوي الضعيف راوٍ ثقة((اقتصر بعض تلاميذ الشهيد على هذا الشرط كما عن السيد محمدباقر الحكيم في بحثه (النظرية السياسية عند الشهيد الصدر) في حديثه عن نظرية التعويض، راجع: قضايا إسلامية، المرجع أعلاه، ص256.))، أو كان قبله راوٍ ثقة((اقتصر الشيخ باقر الايرواني على هذا الشرط كما في كتابه (دروس تمهيدية في القواعد الرجالية) ص294 ط قم.)).

ويمثل للأول بما رواه الشيخ في الاستبصار عن الإمام الكاظم عليه السلام في الحية والوزع يقعان في الماء فلا يموت أيتوضأ منه للصلاة.. بما سنده: (عن الحسين بن عبيد الله عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن محمد بن أحمد بن يحيى عن العمركي عن علي بن جعفر)، والطريق ضعيف بالراوي (أحمد بن محمد بن يحيى) الذي لم يرد في حقه توثيق من الرجاليين. ويلاحظ وجود راوٍ (ثقة) فوق أحمد بن محمد بن يحيى (الضعيف) وهو محمد بن أحمد بن يحيى، وللشيخ طريق صحيح إلى هذا الراوي الثقة، سوى هذا الطريق الضعيف.

ويمثل للثاني ــ بما افترضه الشهيد الصدر إفتراضاً(( وقد أشار إلى ذلك أيضاً السيد الحائري، (القضاء في الفقه الإسلامي) ص58.))ــ فيما إذا وقع قبل الراوي الضعيف راو ثقة أقرب إلى الشيخ الطوسي من الراوي الضعيف، وكان للثقة المذكور طريق صحيح إلى ثقة أو إلى الإمام مباشرة بما يمكن أن يُعوَّض به الخلل الذي وقع في وسط السند.

الشرط الثاني: لكن ينبغي التذكير بعدم كفاية تحقق الشرط الأول، وذلك لعدم الاطمئنان برواية الثقة المذكور ــ سواء وقع قبل أو بعد الضعيف ــ لنفس (شخص) الرواية التي رواها الراوي الضعيف، ولذلك لابدّ من إفتراض ان الشيخ الطوسي ــ مثلاً ــ روى جميع كتبه

ورواياته((بحث الشهيد الصدر في محتملات هذه العبارة بما يخدم نظرية التعويض راجع، الحائري، مباحث الأصول، ج3/240.)) بعدة طرق منها الطريق الضعيف، وطرق أخرى صحيحة، فيصار إلى التعويض بالصحيح عن الطريق الضعيف واستبداله.

ففي المثال الأول الذي ذكرناه في (الشرط الأول) للشيخ الطوسي في (فهرسته) طريقان إلى جميع كتبه ورواياته، أحدهما شخص طريق الرواية والآخر صحيح، وعليه فان ظاهر عبارة الشيخ ان تمام ما وصل إليه بالطريق الضعيف وصل إليه بالطريق الصحيح أيضاً، وبذلك يمكن استبدال الطريق الضعيف بالطريق الصحيح، فيتم التعويض.

وقد صحّح الشهيد الصدر رواية علي بن جعفر عن الكاظم عليه السلام((الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج4/51.))المشار إليها وفقاً لتوفر الشرطين (الأول والثاني)، وكذلك صحّح رواية حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام(( المصدر السابق نفسه، ج3/125ــ126، و ج1/464.)) في عدم فساد الماء بالميتة إلاّ ما كان له نفس سائلة، بناء على توفر الشرطين أيضاً، على خلاف تصحيح السيد الخوئي((الغروي، التنقيح في شرح العروة، المرجع السابق، ج2/463.)) للرواية المشار إليها من دون تعرض لكيفية التصحيح ولا إشارة إلى ضرورة توفر الشرط الثاني الذي لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال.

بل يمكن التعدي وتصحيح السند السقيم وتعويضه بالسند الصحيح إذا كان سند الشيخ الطوسي ــ مثلاً ــ ضعيفاً وللشيخ النجاشي طريق صحيح سوى الطريق الضعيف الذي للشيخ الطوسي، فيمكن التعويل على سند الشيخ النجاشي، لكن بشرط الاطمئنان بأن ما ينقله الشيخ النجاشي ينقله ويرويه الشيخ الطوسي، وذلك باستظهار عبارة الشيخ النجاشي في كتابه «الرجال» والذي يذكر فيه أن له طريقاً إلى جميع كتب (المروي عنه) ويذكرها على نحو التفصيل، وكذلك يشير إليها الشيخ الطوسي على نحو التفصيل، فيعلم من ذلك أن ما يرويه الشيخ النجاشي يرويه الشيخ الطوسي، فيتم بذلك التعويض. (( الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج3/245.))

بل يمكن التصحيح على نطاق أوسع وذلك فيما إذا كان للشيخ الطوسي ــ مثلاً ــ طريق ضعيف إلى أحد الرواة، وكان للشيخ الصدوق طريق صحيح إليه، فانه يمكن التعويض وذلك بناء على استظهار أن حوالة الشيخ الطوسي في خاتمة كتابيه (التهذيب) و (الاستبصار) على فهارس الشيوخ، حوالة خارجية تشمل الفهارس التي كانت متداولة يومذاك ومنها فهرس الشيخ الصدوق، أي مشيخته، فاذا استظهر ذلك أمكن التعويض وتصحيح السند((المصدر السابق نفسه، ج3/250 وما بعد.))، وإلا فلا يتم هذا الوجه من وجوه التعويض. (( ناقش السيد الحائري في تمامية هذا الاستظهار فكتب: «وعلى أي حالٍ فالانصاف أن هذا الشكل الأخير من التعويض غير صحيح لما قلنا من أن مشيخة الفقيه ليست فهرستاً، ولا معنى لفرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لها» (القضاء في الفقه الإسلامي س65).))

الشرط الثالث: كما يشترط في جريان نظرية التعويض ــ من وجهة نظر الشهيد الصدر ــ أن يكون الراوي (الثقة) الذي يمكن بواسطته التعويض عن السند السقيم ممن بُديء به السند، بحيث يكون المنسوب إليه من الروايات مما أُسند إليه ونسب إليه في كتابٍ له، لا مطلق وقوعه في السند، وهذا هو المستظهر من عبارة الشيخ الطوسي ــ مثلاً ــ في فهرسته من قوله: «أخبرنا بكل رواياته وكتبه..» ولا أقل من الإجمال، من وجهة نظر الشهيد الصدر، فيقتصر على هذا المورد، ولا يتعدى إلى النطاق الأوسع، ولذلك عبّر الشهيد عن النطاق الأوسع: ــ أي امكانية التعويض لمجرد وقوع الراوي (الثقة) في السند، وان لم يبتدأ به ــ بأنّ نظرية التعويض بهذا العرض العريض غير مقبول لدينا. ((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج5/60، وراجع: الصدر، شرح العروة الوثقى، المرجع السابق، ج1/329.))

مرحلة فهم النص:

في حال ثبتت نسبة الدليل الشرعي (النص) إلى الشارع المقدس على نحو قطعي أو اطمئناني أو ظني معتبر، فانه يعمد إلى قراءته ومحاولة فهم دلالته.

ولا إشكال ان قراءة الفقيه للنص الشرعي لا تختلف عن قراءة النصوص الأخرى الصادرة باللغة العربية، وربما تفرد الشارع بأسلوب معين، كما لو قامت القرائن على ذلك، وهو حاصل فعلاً، لكن مع ذلك لا يختلف فهم النص الشرعي عن فهم أي وثيقة مكتوبة باللغة العربية، وذلك لجهة أن الشارع في أسلوبه البياني اللغوي وفقاً لأصول وقواعد المحاورات عندهم((ذكر السيد الخميني في كتابه «الاستصحاب» ص220: «وليس مخاطبة الشارع مع الناس إلاّ كمخاطبة بعضهم بعضاً..» ط أولى / 1417هـ ــ قم / نشر مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني.))، ولذلك دأب الفقهاء على فهم هذه النصوص وفقاً لما عليه العرف، إلى درجة يمكن أن تكون معها مرتكزات العرف قرائن للتعميم تارة، وللتخصيص تارة أخرى، كماهو الحال في ما يعرف بقاعدة «مناسبات الحكم والموضوع». لكن مع ذلك نجد هناك إتجاهاً لا يستهان به أخذ يميل إلى قراءة النصوص الشرعية بطريقة فلسفية، ودخلت معها ليس فقط لغة الفلسفة والمنطق وحسب، بل آلياتهما وقواعدهما أيضاً.

مرحلة الموازنة بين النصوص:

قد لا تكون قراءة النصوص الشرعية وتحديد دلالاتها عسيرة وشاقة. خاصة في الإطار التجزيئي، إنما ثمة عدد من المشكلات أضفت على هذه المهمة طابعاً شديد القساوة، معها بدت

مهمة الفقيه صعبة وحرجة، فهو مدعو إلى الموازنة بين النصوص(( راجع: الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع الساق، ج7/28 وما بعد. وقد تحدث الشهيد الصدر عن العوامل التي تفسر ظاهرة التعارض بين النصوص فراجع.)) التي ربما وجد بعضها ينتمي إلى حقبة زمنية معينة وأخرى إلى حقبة زمنية مختلفة، مع افتراض كونها صادرة عن مصدر واحد غير متعدد.

هذا مع كون بعض هذه النصوص صادراً في ظرف معين، وبمعنى آخر، ليس ثمة إطلاق زماني لمثل هذه النصوص مع افتراض تقييدها بزمن صدورها، كما لو كان صدر عن المشروع بصفته ولياً ومدبّراً للشأن العام لا مشرعاً ليمكن تعميم الحكم الشرعي إلى الحالات الأخرى على اختلاف أزمنتها. ((الصدر، اقتصادنا، ص391.))

هذا مع ملاحظة أنّ بعض النصوص قد يكون صادراً على خلاف (أصالة الجهة)، بمعنى أنه صادر في ظرف التقية، ولم يكن صادراً عن المشرع على نحو جدّي ومراد له جداً.

وهنا لابدّ من التنويه إلى أن هذا العامل من العوامل شديدة الخطورة، ويحتاج الفقيه إلى التعاطي معه بشكل دقيق يفتقر إلى فهم كامل للتأريخ والظرف الذي عاشه المعصوم، إذ لم تكن التقية بمستوى واحد عند المعصومين، ففي وقت لا يمكن تصور صدور نص شرعي من النبي صلى الله عليه وآله على نحو التقية، فانه يمكن أن يتصور صدور مثل هذا النص من الإمام على هذا النحو، لكن مع اختلاف ظروف الأئمة عليهم السلام أيضاً. ((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج7/333.))

وقد اختلفت الآراء وتنوعت في المدرسة الاثنا عشرية في تفسير ظاهرة لجوء الإمام (المعصوم) إلى خيار التقية من حيث السعة والضيق، ففي الوقت الذي يميل فيه بعض الأعلام ــ مثل العلامة المجلسي ــ إلى التوسع وبذلك حُملت مجموعة كبيرة من الروايات الصادرة عن الأئمة عليهم السلام على التقية، يؤكد البعض الآخر من الأعلام أن هذا الخيار لا يصل إلى هذا المستوى، خاصة وأن الأئمة لم يكونوا بصدد التقية إلاّ في ما يتصل بالشأن السياسي أو ما يمس المرتكزات العامة والاتجاه العام عند المسلمين.((السيستاني، علي، اختلاف الحديث، تقريرات بحثه بقلم السيد هاشم الهاشمي، ص   لم يطبع بعد.))

وهنا لابدّ من الاشارة إلى رأي يتبناه بعض الأعلام ــ كما عن السيد محمد تقي الحكيم ــ وذلك بتحديد التقية في الشأن السياسي وما يتصل بهذا الشأن، مما يترك حساسية مفرطة لدى السلاطين تجاه الأئمة عليهم السلام(( الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص355، ط قم ــ المجمع العالمي لأهل البيت / 1997.)).

ويبدو من خلال مراجعة كلمات الشهيد الصدر انه لا يحدّد خيار التقية في هذا الاطار، بل يتسع هذا الخيار على نحوٍ يشمل ليس ــ فقط ــ ما يشكِّل تحدياً للسلاطين، بل وما يشكِّل تحدياً

للمرتكزات الموروثة للعامة، أو للمذاهب الشائعة عند المسلمين((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج7/35.)).

قال الشهيد الصدر كما في تقريرات بحثه: «وواضح على ألسنة هذه الروايات ما ذكرناه من أن تقية الأئمة لم تكن تحفظاً من الحكّام فحسب، بل كانت مراعاة للناس والمذاهب المختلفة التي راجت عندهم أيضاً»((المصدر السابق، ج7/38.)).

ولكن مع ذلك لا يبدو هذا الخيار على إطلاقه، فهو خيار لا يتم اللجوء إليه بطريقة جزافية، بل هو آية أُريد منها حفظ النوع والانسجام مع الوسط العام ومحاولة مداراته.

ولذلك لاحظ الشهيد الصدر على علمائنا الأقدمين التوسع في تفسير الاختلاف في الروايات والأخبار وردّه إلى خيار (التقية) وتقديمه على الخيارات الأخرى في وقت ليس ثمة ما يبرر اللجوء إلى خيار (التقية) أصلاً(( الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج3/243ــ244.))، مما يوحي بغياب الضابط العلمي الذي يمكن بواسطته تحديد ما إذا كان الخبر صادراً على نحو جديّ أو على نحو يناقض أصالة الجد أو الجهة كما يصطلح عليها.

وقد حدّد الشهيد الصدر ــ كما يبدو من موارد متفرقة في أبحاثه ــ عدة خصائص للنص الصادر من المعصوم في ظرف التقية، وهو تحديد غير مسبوق فيما أعلم، ويمكن الاشارة إليه بالتالي:

أولاً: لمعرفة ما إذا كان النص الشرعي صادراً عن (المعصوم) في ظرف التقية لابدّ من صحة إفتراض إتقاء (الإمام) من الآخر، سواء كان سلطاناً أم كان أمة ومذهباً واتجاهاً فكرياً، ففي المسائل التي يعمّ الابتلاء بها ويكون اتفاق العامة فيها على خلاف المتبنى من قبل أهل البيت يبعد عدم وقوع بعض الحالات التي تفرض التقية فيها بيان الحكم على وفقها، ولهذا فلاحظ في مسائل من هذا القبيل وجود روايات على طبق مذهب العامة إلى جانب الروايات التي تبين الحكم الواقعي((المصدر السابق، ج3/254.))، ويبررها كون الأئمة عليهم السلام في ظرفٍ لا يريدون تحدي ما هو سائد ومتبني من المذاهب الشائعة السائدة والتي شكلت الاطار العام للجماعة، بما يعني الافتاء على خلافه خروجاً على الجماعة وتحدياً لها.

أما لو كان الآخر لا يمتع بهذه المنزلة والعمق الاجتماعي والديني فانه لا يعقل أن يكون عائقاً عن التصدي لبيان الحكم الواقعي وإن كان مخالفاً له، لأن افتراض التقية بهذا المعنى غير محتمل عادة في نفسه((المصدر السابق، ج3/250.)).

وينبغي التنويه إلى أنّ لجوء الإمام إلى خيار التقية مرتكز على أساس حفظ النوع من جهة، وتدعيم أسس المجتمع الإسلامي وحمايته من الانقسام والتشرذم، وعليه فما يبرر الافتاء خلافاً

للحكم الواقعي هو تحقيق مصلحة أقوى وأهم في وقت يمكن أن يبيّن الإمام الحكم الواقعي في ظرف آخر بما لا يتنافى وهذه المصلحة الأهم.

ولذلك فما يصدر عن الإمام في ظرف التقية لا يهدف إلى تبرير الأخطاء أو التغاضي عنها ولو كانت منسوبة إلى الحكّام والسلاطين، لأنه من غير الممكن أن نتصور الإمام في منزلة من هذا القبيل في وقت نجد فيه إباء بعض فقهاء العامة عن مثل هذا السلوك، فكيف يمكن تصوره في حياة الأئمة عليهم السلام وهم المعصومون المنزّهون عن كل خطأ؟! ((المصدر السابق، ج3/350.))

وعليه فيمكن حمل بعض الروايات والأخبار على التقية فيما إذا كان ثمة إحتمال معتدٍ به، أما إذا لم يكن ثمة إحتمال من هذا القبيل فلا يمكن الحمل على التقية، كما لو لم يكن هناك أقوال للعامة تبرر صدور روايات طبقاً لهذه الأقوال والآراء. ((المصدر السابق، ج1/426.))

ثانياً: أن يتم التعبير عن هذا الخيار (خيار التقية) بطريقة متناسبة واللجوء إليه، وذلك وفقاً للتالي:

1ــ أن لا يكون التعبير بطريقة صريحة واضحة ومعلَّلة ومفصِّلة، وذلك لأن «لسان التقية عادة لسان الاجمال والاضطراب لا التفصيل والتغليل والتأكيد»((المصدر السابق، ج3/351، ج3/254.))، مما تفرضه طبيعة الموقف من الاضطرار إلى التعبير عن الرأي المخالف للحكم الواقعي، وهو لا يسوِّغ أكثر من التعبير عن الرأي ــ وفقاً للتقية ــ خالياً ومجرداً عن كل ما هو تفصيلي أو ما كان مشتملاً على الاستدلال أو التعليل.

ولأجل ذلك استبعد الشهيد الصدر حمل روايات طهارة الخمر على التقية ــ كما هو مختار عدد من الفقهاء إن لم يكن المشهور ــ وذلك لأن «روايات الطهارة بحسب ألسنتها لا تناسب الحمل على التقية لوضوحها وصراحة بعضها واشتمالها على التعليل بأن الله إنما حرّم شربها لا الصلاة فيها…» (( المصدر السابق، ج3/351.)).

ومثله موقفه من حمل روايات طهارة الكتابي على التقية، إذ لاحظ الشهيد الصدر على هذه الروايات أنها مما لا يتناسب ولغة التقية وخصوصياتها. (( المصدر السابق، ج3/254.))

لكن نلاحظ عليه لجوءه إلى حمل بعض الروايات على التقية مع اشتمالها على التعليل أو التفصيل والاستدلال مما يستبعد معه احتمال التقية، وذلك في موقفه تجاه رواية محمد بن مسلم(( الحر العاملي، الوسائل، المرجع السابق، كتاب الأطعمة باب 5 / حديث رقم 6.))، الصريحة في إمضاء نفي الآية((قوله تعالى: «قل لا أجد فيما أُوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير، فانه رجس أو فسقاً أُهلّ لغير الله به» الأنعام/145.)) لمحرّم سوى ما ذكر فيها وإلى الأبد، فحملها على

التقية وموافقة العامة، وإن كان ذكر ذلك مضافاً إلى عدم الالتزام الفقهي بالنتيجة المذكورة، وإبائها من حيث السياق عن التخصيص. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/194ــ195.))

2ــ أن لا يكون الراوي ــ في الروايات المحتمل صدورها تقية ــ من المقربين للإمام ومما لا يتقي منه، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، ولذلك استبعد حمل روايات طهارة الكتابي على التقية، لكون بعض رواتها من أمثال علي بن جعفر((المصدر السابق، ج3/254.))، أو محمد بن مسلم أو زرارة.

3ــ أن لا تكون الروايات ــ المحتمل صدورها تقية ــ كثيرة وبما يستبعد معه صدورها عن الإمام على هذا النحو، لأنه قد يجتزيء بموقف أو أكثر بما يوافق الاتجاه العام، لا أن يصدر منه عدد كبير من الروايات. ((نفس المصدر السابق.))

ولذلك استبعد الشهيد الصدر حمل روايات طهارة الكتابي على التقية، لكثرتها وتعددها وبما لا ينسجم مع أسلوب التقية، وكذلك موقفه من روايات طهارة الخمر، وكذلك موقفه من حمل روايات النزح أو النجاسة، في خصوص ماء البئر ــ على التقية، إذ استبعد مثل هذا الحمل لكثرة هذه الروايات إلى حد لا يعقل معه صدور جميعها تقية، وذلك لأن «التقية قد تعرض للإمام، ولكن عروضها بهذا الشكل المستمر المتكرر مع اختلاف الأحوال والرواة وطرق الأداء بحيث يفوق البيانات الجدية بمراتب دون أن يكون فيها إشارة أو تعريض إلى كون الحال حال تقية، وعدم تكفل الأخبار الدالة على الاعتصام، شيئاً من الاشارة أو التعريض بذلك… مستبعد جداً لمن لاحظ الأحاديث الواردة تقية في الفقه، وخصوصياتها…» (( المصدر السابق، ج2/63.)).

4ــ أن تكون هناك مبررات عقلائية تفرض اللجوء إلى خيار التقية، فإن لم تكن ثمة مبررات تدعو لذلك، فانه لا يلزم حمل الروايات ــ المحتمل صدورها تقية ــ على التقية، بل يمكن أن تفسّر تفسيراً آخر.

ولذلك استبعد الشهيد الصدر حمل خبر أبي مريم الأنصاري((الحر العاملي، الوسائل، باب 8 من أبواب الماء المطلق، حديث رقم 12.)) ــ المشتمل على أنّ الإمام عليه السلام توضأ من ماء الدلو الذي رأى فيه الراوي العذرة ــ على التقية، وذلك «لأن التقية لا تلزم عادة باستعمال ماء الدلو المشتمل على العذرة مع وجود مبررات طبعية لعدم الاستعمال(( الصدر، بحوث في شرح العروة، المرجع السابق، ج1/387.)).

وإن لم تكن الروايات صادرة على خلاف أصالة الجهة، أي لم تصدر تقية، فانه تصل النوبة

ــ عندئذٍ ــ إلى معرفة ما اذا كان بالامكان حلّ التعارض والتنافي وفقاً لقاعدة الجمع العرفي.

وها هنا أبحاث عديدة وموسعة لمعرفة النسبة بين الأدلة المتعارضة أو المتنافية ــ أو التي تبدو كذلك ــ ليتم حلّ التعارض وفقاً لعدد من المثولات العلمية، كما في (الحكومة) أو (الورود)، أو التخصيص والتقييد، وللشهيد الصدر في هذا المجال باع كبير وإبداع لا نظير له، سنشير إليه فيما يأتي من أبحاث.

مرحلة استخلاص النتائج:

كل ما تقدم يلقي الضوء على الجهد الكبير الذي يبذله الفقيه بغية الوصول إلى الحكم الشرعي، ابتداء من التوثيق وفهم الدلالة ومروراً بالموازنة بين النصوص، وانتهاء باستخلاص النتائج، التي تمثل الغاية النهائية التي يتطلع إليها الفقيه.

لكن مع ذلك تبقى نتائجه عرضة للخطأ ــ مهما بذل من جهد ــ ولذلك لا يجزم بصحتها في الواقع، وإن كان راجحة من وجهة نظره، وذلك إما لعدم صحة النص في الواقع، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص. أو لعدم إستيعاب النصوص الأخرى ــ ذات دلالة في الموضوع ــ ذهل عنها أو عاثت بها القرون.((الصدر، إقتصادنا، المرجع السابق، ص393، 394.))

نعم هذه (النتائج) شرعية، بمعنى أنها تنتسب إلى الشارع بوجه من الوجوه، ولو كان ذلك الانتساب إعتبارياً، لجهة إمضاء الشارع للمقدمات التي تتم وفقاً لها استخلاص النتائج.

خصائص المنهج عند الشهيد الصدر

الشهيد الصدر ــ فقيهاً ــ ينتمي إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويعتمد فيما يعتمد من آليات لاكتشاف الحكم الشرعي ما هو مشروع من وجهة نظرهم.

ولذلك حدّد بوضوح ــ في كتابه الفتاوى الواضحة ــ مصادر الفتوى من وجهة نظره كفقيه، فاعتمد الكتاب والسنة الشريفة، فيما رفض الاعتماد على القياس والاستحسان ونحوهما مما لم يثبت المسوغ الشرعي للاعتماد عليه. ((الصدر، الفتاوى الواضحة، المرجع السابق، ص98.))

وقد طبعت منهج الشهيد الصدر ــ كفقيه ــ عدة خصائص شكّّلت المعالم الرئيسية لمنهجه الفقهي، ويمكن تحديدها بالتالي:

أولاً: الطابع الدقي (الاتجاه العقلي):

ينتمي الشهيد الصدر إلى المدرسة الفقهية الجديدة التي نشأت مؤخراً، منذ عهد الوحيد البهبهاني وعصر الأنصاري، والتي توطدت دعائمهامع أعلام الأُصوليين من أمثال الآخوند الخراساني والنائيني والعراقي والأصفهاني والقمي والخوئي أستاذ الشهيد الصدر، وعدد آخر من الفقهاء لسنا بصدد استقرائهم وحصرهم.

وهذه المدرسة الجديدة ذات اتجاه عقلي يحاول ــ إن صحّ التعبير ــ عقلنة الفقه، ومحاولة استكشاف الوجوه الصناعية، وفقاً لقراءة دقيقة لدلالات الأدلة الشرعية.

ويلاحظ الشهيد الصدر أنّ طريقة الاستدلال ــ عند المتأخرين ــ على عدد من الأحكام

الشرعية تغيّرت تغيراً كلياً عمّا عليه عند القدماء، في الاستدلال على هذه الأحكام، ولم يبق منها إلاّ النتائج التي لو قُدِّر للفقهاء المناقشة فيها ــ فضلاً عن مناقشتهم في طرق الاستدلال عليها ــ لكانت النتيجة مختلفة تماماً، واستلزم ذلك إلى تأسيس فقه جديد كما يقولون، ولذلك سعى المتأخرون من الفقهاء إلى تلمّس عدد من الآليات الجديدة من قبيل بحث السيرة(( الحائري، مباحث الأصول، المرجع السابق، ج2/94ــ131.)).

ولا يقتصر الاختلاف الجوهري بين المتأخرين والأقدمين على طرق الاستدلال وحسب، بل يتعدى ذلك إلى اللغة والتعبير أيضاً، فيجد الباحث لغة المتأخرين مثقلة باصطلاحات الفلسفة والمنطق، وسيادة القواعد الأصولية مما لم يعهده القدماء.

وهذه اللغة وهذا الأسلوب حاضر بقوة في أبحاث الشهيد الصدر وآثاره الفقهية وغيرها. (( الصدر، بحوث في شرح العروة، ج1/404، ج1/393، ج2/216ــ217.))

ثانياً ـ الطابع العرفي:

وعلى الرغم من انتمائه للمدرسة العقلية ــ الدقّية ــ فقد يلاحظ الباحث على منهج الشهيد الصدر سمة التعاطي العرفي مع الأدلة الشرعية، في فهمها واقتناص المدلول الشرعي منها، إنسجاماً مع طريقة الشارع المقدس في المحاورة والتشريع، كما أشار إليه الشهيد الصدر في بعض أبحاثه، وتحديداً في بحث أخذ قصد القربة في متعلق الحكم، فبالرغم من استحالته عقلاً، فانه ذكر أن الشارع وإن كان دقيقاً إلاّ انه في مقام المحاورة والتشريع يتبع نفس الطريقة العرفية التي يتعامل فيها مع قيد قصد القربة كما يتعامل مع سائر القيود في مقام المحاورة. ((الهاشمى، بحوث في علم الأصول، المرجع السابق، ج2/96.))

ولذلك لاحظ الشهيد الصدر على أجوبة الشيخ الأنصاري ــ وغيره ــ في مقام دفع إشكال كثرة التخصيصات على قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) انها لا تأخذ بنظر الاعتبار مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية، وذلك بلحاظ أن الشريعة بحسب المرتكز العقلائي لابد أن تشتمل على قواعد وأنظمة تستتبع لا محالة تحميل الناس وتحديدهم، ولكنه ليس ضرراً من وجهة النظر العرفية والعقلائية، ولذلك يندفع الاشكال من أساسه لعدم التخصيص، لأن المورد ليس من موارده، بل من موارد التخصص. ((المصدر السابق، ج5/472.))

وقد شكّل هذا التعاطي العرفي ــ في فهم مراد الشارع ــ عنصراً رئيساً في خطاب الشارع المقدّس، كما يظهر ذلك في عدد من المسائل الفقهية، وكشاهد على ذلك ما استدل به الشهيد الصدر من روايات على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة مثل الصوف والشعر والعظم والقرن….

فاستدل بطائفتين من الروايات منها ما دلّ على الطهارة بعنوان كلي ينطبق على ما ليس فيه روح ولا تحله الحياة من الأجزاء، ومنها ما دل على طهارة بعض هذه العناوين، كما في السؤال عن بيضة الميتة وأنفحتها وعظمها وشعرها.. ولم يجد الشهيد الصدر بأساً في الاستدلال بالطائفة الثانية من الروايات وإن لم تكن في مقام إعطاء ضابط كلي، وذلك لجهة عدم إستبعاد دعوى

استفادة القاعدة الكلية منها بحمل ما ورد فيها من العناوين على المثالية واقتناص الجامع المنتزع منها بحسب فهم العرف والمناسبات التي يراها للحكم المذكور وجعله موضوعاً للحكم بالطهارة، ولذلك فمن القريب من وجهة نظر الشهيد الصدر أن يقال: «إن العرف يفهم من العناوين المذكورة أنها كلها بنكتة مشتركة قد حكم عليها بالطهارة، وهي كونها مما لا تحلها الحياة ولم تكن مصب الروح الحيوانية وإن كانت بالنظر العقلي الدقيق فيها شيء من الحياة»((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/86.)).

ويلاحظ حضور الفهم العرفي في هذا الاستدلال من جهتين، الأولى: في استظهار المثالية مما ورد من عناوين في هذه الأخبار، وهو استظهار يقوم على الفهم العرفي أساساً بناء على مناسبات الحكم والموضوع، وبذلك يستغني الفقيه عن التفتيش عن الضابط الكلي من روايات أخرى، والثانية: عدم منافاة هذه الروايات لما دلّ بالنظر العقلي الدقيق على وجود الحياة والنمو في هذه الأجزاء، وذلك لوضوح أخذ مفهوم الحياة من هذه الأدلة بما هو معروف لدى العقلاء وما هو متعارف لديهم، لا بما هو مفهوم علمي دقيق.

ويظهر ذلك ــ أيضاً ــ في مناقشة الشهيد الصدر لما نسب إلى الشيخ الطوسي من تفصيل في مسألة انفعال الماء القليل وعدمه بين ما يدركه الطرف وبين ما لا يدركه، فقد ذكر الشهيد الصدر بعد استبعاد إختصاص ذلك بالدم قائلاً: «.. بل يمكن أن يحمل كلامه على ان الأفراد العقلية للدم والبول وغيرهما ليست موجبة للتنجيس ما لم تكن أفراداً عرفية. فكل ماهيته إذا لوحظ لحاظاً عقلياً، يرى أن الكمية لم تؤخذ فيها، ولكن إذا لوحظت بالنظر العرفي، يرى أن حداً أدنى من الكمية مأخوذ في مفهوم اللفظ الدال عليها، فلو نقص فرد عن تلك الكمية لم يكن مصداقاً لمفهوم اللفظ عرفاً، وإن كان فرداً حقيقياً من الماهية عقلاً…» ((المصدر السابق، ج1/415.)).

ويمكن أن نلاحظ الطابع العرفي الذي إتسمت به مدرسة الشهيد الصدر في عدة تطبيقات منها:

1ــ في مسألة نجاسة الخمر أو طهارته ثمة عدد من الروايات منها ما دلّ على النجاسة، ومنها ما دلّ على الطهارة كما في رواية الحسين بن أبى سارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس إنّ الثوب لا يسكره إذ استدل بها على طهارة الخمر ــ فضلاً عن عدم المانعية في الصلاة ــ وذلك بضم الدلالة الالتزامية على الطهارة من عدم مانعية الخمر عن الصلاة، أو من التعليل الوارد في الرواية بأنّ الثوب لا يسكر، إذ يكون المحذور في الاسكار وهو لا يسري إلى الثوب.

ولكن رغم ذلك فقد استظهر بعض الفقهاء ــ كما عن السيد الحكيم((الحكيم، المستمسك، المرجع السابق، ج1/402.))ــ ان هذه الرواية على النجاسة أدل، بتقريب: إنّ الثوب لو كان يسكر لما جازت الصلاة فيه، وليس ذلك إلاّ لنجاسة المسكر، ويتحصل من ذلك أن الخمر نجس ولكنه غير منجس للثوب.

وقد ردّه الشهيد الصدر بأنه لا معنى «لدعوى دلالة التعليل على عدم جواز الصلاة فيا لثوب

لو كان يسكر لنجاسته، لأن النجس هو المسكر لا السكران، والعبارة التي وردت تعليلاً إنما تقال عرفاً في العادة لبيان أنه لا محذور سوى الاسكار في الخمر، من دون نظر إلى ما هو الحكم لو فرض محالاً أن الثوب كانمسكراً أو كان يسكر»((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/338.)).

2ــ في مسألة الاعراض عن الملك وأنه يوجب زوال الملكية أو لا؟ وقع نزاع بين الفقهاء لتحديد أي الرأيين أرجح وأكثر انسجاماً مع السيرة العقلائية، ولعلّ مشهورهم الزوال بالاعراض، واختار عدد من الفقهاء كما عن السيد الحكيم في (منهاج الصالحين) (( الصدر، منهاج الصالحين للسيد الحكيم مع تعليقته، ج2/184.))، والسيد الخوئي في «مستند العروة الوثقى»((البروجردي، مرتضى، مستند العروة الوثقى، تقريرات بحث الخوئي، كتاب الاجارة ص459.)) عدم زوال الملك به.

وقد اختار الشهيد الصدر زوال الملكية بالاعراض، كما يظهر في تعليقته على «منهاج الصالحين»((الصدر، منهاج الصالحين، ج2/184.)) ، ولعله مستند على استظهار السيرة العقلائية والعرف القائم، أو على فهم بعض الأخبار على نحو عرفي مستبعداً الخصوصية. ((الحر العاملي، الوسائل، المرجع السابق، كتاب اللقطة، باب 11/حديث 1ــ2 وباب 13/حديث 1ــ2.))

3ــ لا إشكال في نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم من أخبار، إنما البحث عند الأصوليين في التعدي من مخالفة الكتاب الكريم كمعيار لرد الخبر المخالف إلى مخالفة السنة القطعية سواء كانت نبوية أو مطلق السنة.

وقد كان الشهيد الصدر في بحثه «إحياء الموات» كما هو منعكس في تقريرات بحثه((الأنصاري، إحياء الموات، ص44.)) لا يرى إمكانية التعدي لعدم الدليل عليه، وانعكس ذلك في كتابه «إقتصادنا»((الصدر، اقتصادنا، ص705.))، لكنه ــ كما يظهر من تقريرات بحثه الأصولي ــ استقرب التعدي فيما بعد وذلك بناء على الفهم العرفي، والذي لا يرى للكتاب الكريم خصوصية إلاّ كونه قطعي الصدور، وبذلك يتم التعدي من الكتاب الكريم إلى السنة القطعية.

قال الشهيد الصدر: «.. ولكن لا يبعد دعوى أن المنسبق إلى الذهن العرفي من هذه الروايات الحكم بالغاء ما يخالف الكتاب الكريم على أساس كونه قطعياً سنداً، لأن قطعية السند هي الصفة البارزة والطابع العام الواضح لدى المتشرعة عن القرآن الكريم كدليل شرعي.. فالصحيح تعميم الحكم بالطرح إلى المخالفة مع كل دليل قطعي السند»((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج7/333.)).

4 ــ وقع نزاع فقهي بين الفقهاء في مسألة فقهية معروفة وهي ما اذا وقع التزاحم بين وجوب

الحج على المستطيع في وقت يجب عليه الوفاء بالنذر في يوم التاسع من عرفة، كما لو نذر زيارة الإمام الحسين عليه السلام في هذا اليوم، فهل يجب عليه الوفاء بالنذر ويسقط عنه الحج بلحاظ سقوط الاستطاعة شرط وجوب الحج، أو يسقط عنه النذر ويجب عليه الحج.

وقد إختار عدد من الفقهاء وجوب الوفاء بالنذر، فيما إختار آخرون وجوب تقديم الحج، وهو مختارا لشهيد الصدر أيضاً، لكنه في مقام التوجيه ذكر عدة تقريبات أوصلها إلى أربعة، في جملتها تقديم وجوب الحج بناء على الفهم العرفي، وذلك باعتبار «ان المستظهر عرفاً من أدلة وجوب الوفاء اشتراط القدرة الشرعية الولائية فيه لا مجرد القدرة الشرعية بالفعل، أي أن المستفاد منها اشتراط عدم أمر شرعي بالخلاف في نفسه، وبقطع النظر عن وجوب الوفاء، لأن الظاهر من القبلية في قوله «شرط الله قبل شرطكم» أن التكاليف والالتزامات الشرعية المفروضة من قبل الله تعالى لابد وأن تلحظ في المرتبة السابقة على شروطكم وبقطع النظر عنها، فاذا كانت ثابتة كذلك فلا يصل الدور إلى شروطكم..» (( المصدر السابق، ج7/140.)).

5 ــ في مسألة تأثر (إنفعال) ماء البئر بالنجاسة، ثمة طائفتان من الروايات، إحداهما: ما دلّ على الاعتصام وعدم التأثر ما لم يتغير، وثانيهما: ما دلّ على الانفعال بمجرد الملاقاة. وفي الطائفتين ما هو صحيح سنداً وسليم الدلالة، ولذلك وقع البحث في التخلص من إشكالية التعارض بين الطائفتين المشار إليهما.

وقد عولج هذا التعارض المدعى بعدة وجوه منها: أن يحمل النجاسة في الطائفة الثانية على مرتبة ضعيفة لا تكون منشأ لآثار لزومية بل تنزيهية، والنجاسة بهذا المعنى تجتمع مع الطهارة بالمعنى المقابل للمرتبة اللزومية من النجاسة التي تكون منشأ للحكم ببطلان الوضوء بالماء ونحوه.

وقد أشكل السيد الخوئي ــ في التنقيح((الغروي، التنقيح في شرح العروة، ج1/296.))ــ فيما أشكل به على هذا الوجه بأنه جمع غير عرفي قال: «ان الجمع على هذا الوجه ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان إذا عرضنا عليهم المتعارضين، ولا يكادون يفهمون من الطهارة طبيعيها، إلا من النجاسة مرتبة ضعيفة منها»، ولذلك فالتعارض مستحكم ولا يجب عليه هذا الوجه.

وقد لاحظ الشهيد الصدر على استاذه السيد الخوئي بأنه خلاف الذوق العرفي، وذلك لأن «تعدد المراتب للقذارة أمر عرفي وثابت في القذارات العرفية، وبذلك يكون حمل دليل النجاسة على المرتبة لضعيفة في مقام التعارض حملاً عرفياً، بعدم ارتكازية تعدد المراتب من قبيل حمل دليل الطلب على المرتبة الضعيفة في مقام التعارض مع دليل الجواز، بلحاظ ارتكازية تعدد مراتب الطلب في النظر العرفي، وإنما لا يصح مثل هذا الحمل والجمع في الأحكام التي ليس لها مراتب في نظر العرف من قبيل الملكية والزوجية مثلاً»((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج2/56.)).

وقد ذكر الشهيد الصدر هذه شواهد ومؤيدات على هذا الجمع وكونه مما ينجسم مع الفهم

العرفي.((نلاحظ تشابهاً كبيراً بين ما ذكره الشهيد الصدر وبين ما كتبه السيد محمد سعيد الحكيم في كتابه «مصباح منهاج الصالحين» ج1/188 ــ ط مؤسسة المنار /قم 1996، ولم يشر السيد الحكيم إلى ذلك.))

6ــ في إطار التخطيط لبنك إسلامي ذكر الشهيد الصدر أنّ من حق صاحب رأس المال ــ في حالة إيداع ما له في البنك ــ الاحتفاظ بالقيمة الحقيقية لنقده فيما إذا طرأت أوضاع وظروف أدت إلى انخفاض قيمة النقد، وعندئذٍ يتوجب على البنك ردّ المال إليه لا بما هو نقد ورقي قلّت قيمته الأساسية، بل ردّ ما يقابل القيمة الحقيقية للنقد المودع.

وقد حاول التنظير لهذه الرؤية في إطار عمل البنك الإسلامي ومحاولاته لتجميع النقد من دون اللجوء إلى الأساليب الرأسمالية، وذلك عن طريق تعهد البنك للمودعين بارجاع أموالهم المودعة أو عن طريق «الاحتفاظ بالقيمة الحقيقية لنقده، وتوضح ذلك: أن قيمة النقود في هبوط مستمر والتضخم النقدي يسبب انخفاضاً باستمرار في القوة الشرائية للنقد وبالتالي في قيمته الحقيقية، فلو أراد الشخص أن يحتفظ بنقوده في حوزته فترة طويلة منا لزمن لم يكن هذا في الحقيقة إلاّ احتفاظاً شكلياً بصورة تلك الأوراق النقدية، وأما القيمة الحقيقية فتفقدها تلك الأوراق بعد فترة من الزمن، وهنا تظهر الميزة الايجابية لاحتفاظ البنك بتلك الأوراق على صورة القرض، فانّ البنك يضمنها بقيمتها الحقيقية لأن الأوراق النقدية وإن كانت مثلية ولكن مثلها ليس هو الورق فحسب، بل ما يمثل قيمتها، فليس من الربا أن يدفعالبنك لدى الوفاء ما يمثل قيمته ما أخذ، وتقدر القيمة الحقيقية على أساس الذهب وسعر الصرف بالذهب».((الصدر، الإسلام يقود الحياة، المرجع السابق، ص199ــ200))

والشهيد الصدر وإن لم يذكر الوجه في تشخيص مقدار القوة الشرائية بسعر الصرف بالذهب، فقد ذكر بعض تلاميذه أن يكون الوجه في ذلك دعوى عرفية هذا التقدير، باعتبار أن العرف ينظر إلى الذهب بمنظار كونه نقداً وثمناً ذاتياً.. ((الحائري، كاظم، (بحث) الأوراق المالية الاعتبارية، المنشور في مجلة رسالة الثقلين  ص100، العدد التاسع، السنة الثالثة، 1994، الصادرة عن المجمع العلمي العالمي لأهل البيت/قم.))

7ــ وقد تبدو عرفية الشهيد الصدر بأجلى مظاهرها في تحديده مفاد كلمة «الضرر» فانه بحث في مدى انطباق «الضرر» على حالات لا تكون من الضرر المطلق، بل هي من الضرر الملحوظ من زاوية ما، كما في حالات إعتبار الغرض مثل التاجر الذي يبتغي من وراء عمله الربح، فهل يصدق على حالة عدم ربحه أنه متضرر أو لا؟ وكذلك حالة ما إذا لم يكن ثمة نقص ملحوظ كما في حالات الاحتكار التجاري الذي يمنع بعض التجار من العمل ويحجبهم عن السوق، فهل يصدق عليه أنه ضرر؟

في إطار تحليل ما إذا كانت هذه الموارد مما يصدق عليه عنوان الضرر أو لا لجأ الشهيد الصدر إلى الفهم العرفي في تحديد مفهوم الضرر، فهو وإن لم يكن يعتبر النقص الملحوظ من زاوية الغرض من الضرر المطلق المشمول بالعنوان المذكور إلاّ أنه لم يمنع من صدق العنوان

عليه إذا كانت الحيثية عامة عرفاً بحيث يعتبر ذلك النقض ضرراً مطلقاً بحسب الانظار العرفية والعقلائية.((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج5/450.))

وكذلك المورد الثاني فانه من الممكن ــ من وجهة نظره ــ إدراجه في النقص لأنه نقص لحق العمل أو حرية الإنسان، فهو سلب للحق فيكون ضرراً، فيدخل تحت إطلاق القاعدة لأنه مضافاً إلى شمول عنوان الضرر لمثل هذه الأضرار عرفاً يكون مورد الرواية النقص في حق من هذا القبيل. (( المصدر السابق نفسه، ج5/451.))

وكذلك ينطبق عنوان الضرر ــ من وجهة نظره ــ على كل مورد يصدق عليه أنه نقص لحقٍ مركوز عقلائياً، كما في حق الشريك في الشفعة وخيار الغبن لمن وقع عليه الغبن وخيار تبعض الصفقة للمشتري، وهي موارد وإن لم تشتمل على الضرر الحقيقي إلاّ ان هذه الخيارات حقوق عقلائية، وفوتها على صاحبها يعدُّ ضرراً من وجهة النظر العرفية والعقلائية فتكون مصداقاً لقاعدة «لا ضرر..» ((المصدر السابق نفسه، ج5/472.)).

وعلى هامش الحديث عن البعد العرفي في مدرسة الشهيد الصدر تحسن الاشارة إلى الإفادة التي سجّلها في بعض أبحاثه الأصولية لشرعنة بعض الأوضاع المستجدد، وذلك عن طريق تعميم الخطابات الشرعية للمصاديق العرفية المستجدة التي لم تكن معروفة في عصر الشارع، وذلك عن طريق نكتتين توجبان ذلك:

«إحداهما: إذا فرض أنّ فرداً من أفراد الضرر في عرفنا المعاصر لم يكن موجوداً في عصر الشارع بشخصه ولكنه كان ثابتاً بنكتته، أي ان ذلك الحق المشروع في عرفنا المعاصر كان نظيره أو كبراه مركوزاً في عصر التشريع أيضاً ولم يردع عنه الشارع بل أمضاه، كفى ذلك في شمول القاعدة له، فالعبرة بسعة النكتة العقلائية الممضاة في عصر التشريع لا بالحدود الواقعة خارجاً من مصاديق تلك النكتة كما أشرنا إلى ذلك في بعض البحوث السابقة.

الثانية: انه عند الشك في ثبوت هذا الحق في زمن التشريع أو دخوله تحت نكتة ممضاة من قبله لا نحتاج إلى إثبات ذلك بالشواهد التاريخية القطعية، الأمر الذي يتعسر غالباً أو يتعذر، بل يمكن إثبات ذلك بطريق آخر تعبدي وهو إجراء أصالة الثبات في الظهور لما ذكرنا من أن هذه الأفراد العناية توجب ظهوراً وتوسعة في مدلول الخطاب لفظاً أو مقاماً بحيث يشمل الخطاب هذه الأفراد، فاذا شك في إمضاء الشارع لها رجع إلى الشك في تحديد ظهور الخطاب وإنّ ما نفهمه اليوم من إطلاقه هل كان ثابتاً له في عصر التشريع أيضاً أم لا، فيكون من موارد التمسك بأصالة الثبات وعدم النقل في الظهور»((المصدر السابق نفسه، ج5/488.)).

ولكن قد يلاحظ الباحث على الشهيد الصدر أنه ينأى عن التعاطي العرفي ــ أحياناً ــ في فهم الأدلة الشرعية واقتناص الحكم الشرعي منها، خاصة في ظل توقد ذهنه وقدرته على التحليل بما

يقرّبه إلى المنهج العقلي أكثر منه إلى المنهج العرفي.

وربما يظهر ذلك في تطبيقه لقاعدة أصولية في باب التعارض، وهي إن تمت تكون سيّالة في عدة موارد فقهية، صحّح ببركتها بعض النتائج الفقهية المشهورة، وتقوم هذه الفكرة كما يشرحها الشهيد الصدر على أساس تصنيف الروايات المتعارضة إلى مراتب من حيث الصراحة والظهور..

يقول رحمه الله: «.. إنّ الأصحاب جَروا في مورد تعارض الخاصين المطابق أحدهما لعام فوقي على الالتزام بتساقط الخاصين والرجوع إلى العام بنكتة انّ العام لا يصلح لمعارضة الخاص المقابل فيكون مرجعاً بعد تساقط الخاصين، ولكنهم دأبوا في نفس الوقت حينما توجد طائفتان متعارضتان في مسألة بدون جمع أو مرجح إلى إيقاع التعارض والتساقط بينها جميعاً دون تصنيف لروايات كل من الطائفتين من ناحية درجة دلالتها على الحكم، مع أنه قد تشتمل إحدى الطائفتين على درجتين من الدلالة على الحكم، وتكون الطائفة الثانية كلّها صالحة للقرينية على الدرجة الثانية دون الأولى، ففي مثل ذلك تكون الروايات ذات الدرجة الثانية من الطائفة الأولى بمثابة العام الفوقاني، وإن كان الموضوع واحداً في جميع الروايات، غير أنّ نكتة سلامة العام الفوقي عن المعارضة وتعينه للمرجعية جارية فيها أيضاً…» (( الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/352 وراجع ج1/390، واقتصادنا، ص703.)).

والقاعدة المذكورة وإنك انت صحيحة من وجهة النظر الدقّي إلاّ أنها قد لا تكون قريبة من الفهم العرفي مع ان حلّ التعارض لا بد وأن يرتكز على الفهم عرفي لا على فهم دقيقٍ لا يلتفت إليه العرف.

ومهما يكن من أمر، فقد أفاد رحمه الله من هذه القاعدة في عدد من المسائل المهمة على صعيد الفقه.

ومن هذه المسائل:

1ــ تعارض روايات انفعال الماء (الكر) بالنجاسة وعدمها((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج1/389.)).

2ــ تعارض روايات نجاسة الخمر مع روايات الطهارة. ((المصدر السابق، ج3/352.))

3ــ تعارض روايات نجاسة النبيذ مع روايات الطهارة(( المصدر السابق، ج3/356.)).

4ــ تعارض روايات نجاسة الكلب مع روايات الطهارة((المصدر السابق، ج3/221.)).

5ــ تعارض روايات نجاسة المني مع روايات الطهارة((المصدر السابق، ج3/221.)).

6ــ تعارض الروايات في ملكية الإمام للأرض المحياة وحقه في الخراج((الصدر، إقتصادنا، ص701.)).

ثالثاً ـ مرجعية الكتاب (القرآن الكريم):

من المسائل المهمة التي لم يبلغ البحث فيها مداه مسألة تحكيم مرجعية الكتاب الكريم ولا نعني به كونه المصدر الأساسي للتشريع، فانّ ذلك مما لا ريب فيه عند المسلمين جميعهم، بل نعني به مرجعية الكتاب الكريم في فهم الأخبار والروايات، وبمعنى آخر فانَّ السنة الشريفة ينبغي أن تفهم ــ وتُحدّد دلالاتها ــ في إطار المنظومة القرآنية.

وفي هذا الاتجاه تبدو عدة تطبيقات بذلها الشهيد الصدر في تحكيم الكتاب الكريم وفهم الأخبار والروايات في ضوء مرجعيته وفي إطار منظومته.

وفي مقدمة هذه التطبيقات موقفه مما ذكره بعض الفقهاء في مسألة وجوب الأكل على الحاج من هديه وإهداء ثلثه والتصدق بثلثه على بعض الفقراء، مشترطين الايمان (بالمعنى الاصطلاحي) فيمن يُهدى إليه ويتصدق به عليه، ولضمان تطبيق ذلك مع ندرة الفقير المؤمن في ذلك المكان ذكروا بامكان الحاج أن يتوكل عن فقير مؤمن ولو في بلده فيقبض الحاج ثلثه نيابة عنه، وبذلك يؤدي الوظيفة الشرعية.

وقد لاحظ الشهيد الصدر على هذا الرأي إبتعاده عن الفهم العرفي من جهة، وعدم انسجامه مع الدلالات القرآنية من جهة أخرى.

كتب الشهيد الصدر في هذا الاتجاه: «.. والصحيح إن هذا التصرف من الأساس ليس بواجب على هذا الوجه في هدي حج التمتع، فلا يجب على الحاج أن ياكل من ذبيحته وإنما يرخص له في ذلك ويجب عليه أن يطعم الفقراء من ذبيحته إذا تمكن من ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)، ولا يشترط في الفقير هنا الايمان، فانّ لكل كبد حرى أجر، وقد ورد ــ بسند معتبر على الأظهر ــ عن الامام الصادق عليه السلام ان علي بن الحسين عليه السلام كان يطعم ذبيحته الحرورية، وهم الخوارج الذين يعادون مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، واطعام البائس الفقير الذي يأمر به القرآن الكريم لا ينطبق عرفاً على تقبّلالحاج للثلث نيابة عن فقير يبعد عن منى مئات الفراسخ، ولا يحصل على شيء من الذبيحة، فانّ المأمور به عنوان الاطعام لا مجرد إنشاء التمليك…»(( الصدر، محمد باقر، موجز أحكام الحج، ص168 نشر دار الإسلام، مؤسسة العارف ــ بيروت / 1995.)).

كما تظهر هذه المرجعية في فهمه للروايات والأخبار التي تصوغ العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار المؤسسة الزوجية، وتحديداً مسألة قيمومة الرجل على المرأة، فقد فهمها الشهيد الصدر في إطار قرآني، وبذلك لا تتجاوز القيمومة المشار إليها المؤسسة الزوجية وذلك للربط بين الانفاق والقيمومة قرآنياً، ولذلك لا قيمومة للرجل على المرأة مطلقاً، بناء على ظهور الآية الكريمد، من وجهة نظره في أن القيمومة بسبب الانفاق، فمع التخلف عنه لا قيمومة. ((الصدر، منهاج الصالحين، ج2/307.))

ولكن مع ذلك قد لا نجد هذه المرجعية ــ بهذه القوة ــ في عدد من  المسائل الحرجة التي تحتاج إلى جواب كبير وواضح وشاف أيضاً، ولعلّ في مقدمتها ما يعرف بحق المرأة في

المعاشرة الجنسية ولزوم إجابة الزوج لها على حدّ إستجابتها له.

رابعاً ـ روح الإسلام كمبدأ أعلى:

قد تكون من المسائل المهمة التي لم تعط حقها بالبحث في الأوساط العلمية السائدة ما يعرف بـ«روح الإسلام» والمبادئ العليا والمقاصد الإسلامية والأهداف التي قامت عليها التشريعات الإسلامية، فقد يلاحظ على المنهج الفقهي السائد ما يمكن تسميته بالعقلية التقعيدية الصارمة، أو ما يسميه بعض الأعلام بالعقلية الهندسية، التي تنحو منحى عقلياً صارماً في فهم الأدلة الشرعية، بعيداً عن الأسس التي قامت عليها.

وكمثال على ذلك فاننا نجد أن من المسلّم به على مستوى المفهوم الإسلامي استخلاف الله تعالى الانسان على الثروات الطبيعية بما يحقق الهدف الأسمى الذي رسمته السماء، وبكلمة أخرى: لا يبقى ثمة حق لهذا الانسان في هذه الثروات إلاّ في هذا الاطار، ولكن من وجهة نظر فقهية نجد أن الملكية من أقدس الحقوق التي لا يمكن مسُّها، وعليه فكيف يمكن التوفيق بين هذا المفهوم وهذا التشريع القانوني الذي لا شك انه مترشح عنه ومشرع في إطاره؟!

هذه الرؤية خلقت عند الشهيد الصدر حساً إسلامياً في فهم النصوص الشرعية، ربما يحقق هذا التوازن بين التشريع الإسلامي والفكري والعقيدي.

ربما لا نجد الكثير من التطبيقات لكن ثمة عدد منها يعثر عليه الباحث في مطاوي بحوثه الفقهية وغيرها.

وفضلاً عن ذلك فقد حاول أن يؤسس لهذه النظرة أُصولياً وذلك في إطار بحثه مسألة «التعارض» وتحديداً في حجية الأخبار التي لا توافق الكتاب الكريم، فذكر «أنه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم أو ما ليس عليه شاهد منه طرح ما يخالف الزوج العامة للقرآن الكريم وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حنيئذٍ أن الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الجدية مع آياته..» ((الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج7/333.)).

وفي الاطار نفسه ذكر في مقام تفسير حجية الأخبار الموافقة للكتاب: «أن يكون المقصود بموافقة الكتاب الكريم الملائمة للمزاج والاطار العام للقرآن، بأن لا يكون مخالفاً لمسلّمات الشريعة التي يكون مثالها الكامل هو القرآن، باعتبار أن القرآن هو كتاب الشريعة ودستورها، وبناء على هذا الاحتمال يكون محصّل هذه الأخبار هو أنه كلما ورد حديث غير موافق في المضمون للاطار والذوق العام للكتاب الكريم كان هذا الحديث ساقطاً سواء كان في الأحكام أو في العقائد..» (( الحائري، مباحث الأصول، ج2/355.)).

وعليه فإنّ هناك روحاً عامة للكتاب الكريم ــ من وجهة نظره ــ وهذه الروح تتجاوز المضمون الحدي للآيات الكريمة التي اشتمل عليها القرآن الكريم. ولذلك رفض الشهيد الصدر بعض الأخبار والروايات، وفيها الصحيح سنداً ودلالة.

ففي معرض تعليقه على رواية عبد الله بن سنان: «عن ولد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ قال: كفار يحشرون إلى جهنم» ذكر: «إن تلك الروايات منافية بظاهرها للعدل الالهي»((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج3/297.)).

كما رفض عدداً من الروايات التي تتنافى والروح الإسلامية والمبادئ التي أُسست عليها، كما في روايات تحليل الكذب والإيذاء في اليوم التاسع من ربيع الأول(( الحائري، المرجع السابق، ج2/ص255.))، وروايات ذم بعض الطوائف من البشر وبيان خستهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن((الهاشمي، المرجع السابق، ج7/334.)).

وانطلاقاً من هذه النظرة استدل على وجوب ردع الطفل عن شرب المسكر بعدد من الوجوه منها ما أسماه بمذاق الشارع ومرامه في قطع مادة الفساد من خلال الاستفادة الاجمالية من مجموع ما ورد من الأدلة المختلفة والتشريعات العديدة. ((الصدر، بحوث في شرح العروة، ج4/352.))

وربما رأيه في وجوب دفع الزكاة في حالة الفرار منها من هذا الوادي(( الصدر، منهاج الصالحين، ج1/419.)).

هنا لا بدّ من التنويه إلى ان في كتاباته خارج الاطار الفقهي المدرسي أكثر انطلاقاً بهذا المنهج منه في الاطار الفقهي المدرسي، وقد نلاحظ ذلك في عدد من المسائل الفقهية التي عرضها في كتبه غير الفقهية.((الصدر، الإسلام يقود الحياة، ص197.))

خامساً ـ النزعة التاريخية:

وثمة نزعة تاريخية طبعت المنهج الفكري للشهيد الصدر عموماً، والمنهج الفقهي خصوصاً، وهي نزعة ليست علمية على المستوى المنهجي وحسب، بل يمكن أن تلقي بظلالها على النتائج موضوع البحث التي يصبو إليها الفقيه… فقد تبدو للفقيه نتائج قد يقتنع بها إلاّ أنها لا تثبت أمام النقد من وجهة نظر تاريخية، أو ما يمكن تسميته بالمناسبات التاريخية وفقاً لاصطلاح الشهيد الصدر نفسه.(( الصدر، بحوث في شرح العروة، ج1/63.))

وهنا يمكن أن نلفت النظر إلى أنّ غياب البعد التاريخي في التفكير الفقهي قد يؤدي إلى نتائج وخيمة قد تقلب النتائج المرجوة فقهياً وتبدو بصورة مغايرة تماماً لما هو الواقع.

ومهما يكن من أمر، فيمكن أن نُصنِّف النزعة التاريخية لديه في إتجاهين:

الأول: يمثل الميل العلمي لتحقيق المسائل موضوع بحثه على اختلاف موضوعاته وتنوع مسائله.

الثاني: ويمثل الميل لفحص مصداقية بعض النتائج التي قد تبدو للفقيه بمعزل عن المناسبات التاريخية والأوضاع التاريخية.

ويندرج تحت الاتجاه الأول ملاحظاته التاريخية المتنوعة والمتناثرة في مطاوي أبحاثه، من قبيل إشارته إلى منهج الأقدمين في عدم التمييز بين المناهي على مستوى التحريم أو على مستوى الكراهة والتنزيه، وعدم التمييز بين الأوامر على مستوى الوجوب أو على مستوى الاستحباب((المصدر السابق، ج3/250.))، أو اشارته إلى ماكان عليه الفقه الشيعي/الامامي قبل الشيخ الطوسي ــ وتحديداً مع تصنيف كتابه المبسوط ــ فقد لاحظ الشهيد الصدر انه على مستوى ممارسة الفتوى لم يتجاوز مضامين الروايات مما ينعكس على قيمة الاجماعات في مثل هذه الموارد((المصدر السابق، ج3/247.))، أو ملاحظته على المنهج الفقهي السائد عند الأقدمين في مسألة الجمع بين الأخبار، إذ لاحظ سيادة وشيوع الحمل على التقية عند الأقدمين على حساب ما يعرف بالجمع العرفي(( المصدر السابق، ج3/243.))، فضلاً عن ملاحقة الآراء الفقهية تاريخياً. (( المصدر السابق، ج3/370.))

ويبدو الاتجاه الثاني في عدة تطبيقات منها:

1ــ في مسألة جواز رفع الحدث بماء الورد ــ في حال الاختيار فضلاً عن الاضطرار ــ استدل له بما رواه الشيخ الكليني عن أبي الحسن عليه السلام: «.. عن الرجل يغسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة؟ قال: لا بأس بذلك».

وقد ذكر السيد الخوئي ان ماء الورد يشمل عدة أقسام: المعتصر من الورد، والمجاور المخلوط به، والمصعد، والأول ماء مضاف، فيبقى القسمان (الثاني والثالث) من الماء المطلق.

ومع خروج الماء المجاور عن مدلول الكلمة يبقى نحوان من ماء الورد: الماء المعتصر والماء المصعد، أما الماء المعتصر فهو المتيقن من الكلمة، وأما الماء المصعد فهو محل بحث ودراسة، وقد استقرب ــ من خلال المناسبات التاريخية ــ أن لا يكون (المصعد) متعارفاً إلى زمان الشيخ الطوسي، لأن الشيخ عند التعليق على الرواية المشار إليها في كتاب (التهذيب) لم يتعرض إلاّ لقسمين من ماء الورد، وهما المعتصر والمخلوط به الورد، ولم يتعرض للمصعد أصلاً، وبذلك ينحصر المدلول الواقعي للكلمة ــ بمعونة المناسبات التاريخية ــ بالماء المعتصر، وإلاّ فانه سيكون مشمولاً بالكلمة. ((المصدر السابق، ج1/80 وينبغي التنويه إلى اننا في مقام ملاحقة المفردات المنتشرة في أبحاثه والتي تكشف عن حسه التاريخي، ولسنا بصدد الاستدلال النهائي في المسألة.))

2ــ وقع ماء البئر موضوعاً لطائفتين من الروايات احداهما دلت على انفعاله بملاقاته النجاسة، وثانيهما دلت على عدم انفعاله بالملاقاة، بل ينجس بالتغير.

وقد مال السيد الخوئي في بعض أبحاثه إلى أن التعارض مستحكم ولا يمكن الترجيح على أساس موافقة الكتاب، فتصل النوبة إلى إعمال المرجح الثاني، وهو مخالفة العامة، فتقدم أخبار

الطهارة والاعتصام، لأن العامة متفقون على انفعال ماء البئر بالملاقاة، وعليه فتحمل الروايات الدالة على النجاسة على التقية.

غير أن هذه النتيجة لم تلق القبول من قبل الشهيد الصدر، وذلك بناء على نزعته التاريخية، وذلك لعدم معلومية ذهاب فقهاء العامة المعاصرين للصادقين عليهما السلام إلى القول بالنجاسة… (( المصدر السابق، ج2/64.))

3ــ في مسألة طهارة المني أو نجاسته ثمة طائفتان دلّت احداهما على النجاسة مما هو موضع إتفاق فقهاء الإمامية، فيما دلّت الطائفة الثانية على الطهارة وفيها الصحيح أيضاً على مستوى السند والوضوح على مستوى الدلالة. وقد حاول البعض حمل الطائفة الثانية على التقية بلحاظ موافقتها لفتاوى الشافعية والحنابلة.

وقد ردّ الشهيد الصدر هذا الوجه من علاج التعارض بالقرينة التاريخية التي يمكن أن تنتج عكس ما تشبث به صاحب المحاولة.

قال في ردّ هذا الوجه: «وفيه أن هذين المذهبين قد نشئا في زمن متأخر عن صدور هذه الروايات، حيث أنها صادرة عن الصادق عليه السلام بينما نشأة المذهبين متأخرة عن زمانه عليه السلام. وأما احتمال كون الفتوى المتأخرة بالطهارة امتداداً لشيوع ذلك بين فقهاء العامة المعاصرين للإمام الصادق عليه السلام على نحو يصح حينئذٍ معه حمل روايات الطهارة على التقية فيرد عليه أولاً: ان الأمر كان على العكس في أيام الإمام الصادق عليه السلام فان الحنفي والمالكي معاً كان يفتيان بالنجاسة….» ((المصدر السابق، ج3/62.)).

4 ــ في مسألة نجاسة الكافر ناقش الشهيد الصدر الوجوه المدعاة على نجاسة الكافر ــ مطلقاً ــ على نحو يشمل الكتابي وغير المشرك، وذلك من خلال عدة مناقشات، كرّس بعضها لما يمكن تسميته بالقرائن التاريخية، وذلك أما لجهة عدم ثبوت الاجماع المدعى على النجاسة من خلال تتبع كلمات الفقهاء الأقدمين على نحو يستكشف منه عدم ادعائهم الاجماع(( المصدر السابق، ج3/239.))، أو على نحو يكشف فيه التشكيك بأصل دعوى الاجماع وارادة الاجماع فعلاً أو ادعائه، وذلك عن طريق جمع القرائن، من خلال تتبع سير الفتاوى تاريخياً((المصدر السابق، ج3/240.))، أو لجهة سبر التاريخ الإسلامي، بغض النظر عن فتاوى الفقهاء ــ على عهد النبي صلى الله عليه وآله إذ «ان ابتلاء المسلمين بالتعايش مع أصناف من الكفار في المدينة وغيرها على عهد النبي صلى الله عليه وآله كان على نطاق واسع، واختلاطهم مع المشركين كان شديداً جداً خصوصاً بعد صلح الحديبية، ووجود العلائق الرحمية وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لانعكس وانتشر وأصبح من

الواضحات، ولسمعت من النبي صلى الله عليه وآله توضيحات كثيرة بهذا الشأن…» ((المصدر السابق، ج3/242.)).

ويمكن أن يقال ــ من وجهة نظر الشهيد الصدر ــ : «اننا إذا رجعنا إلى عصر أقدم من عصور الفقه الإمامي، أي عصر الرواة، نجد أن قضية نجاسة الكفار لم تكن أمراً مركوزاً في أذهان الرواة إلى زمان الغيبة، ولهذا كثر السؤال عن ذلك بين حين وحين…» ((المصدر السابق، ج3/242.)).

5 ــ في مسألة طهارة الخمر أو نجاسته ثمة طائفتان دلّت إحداهما على النجاسة ــ كما هو المشهور في الفقه الإمامي ــ ودلّت الثانية على الطهارة، ولذلك وقع البحث في تشخيص الوظيفة الفقهية تجاه الطائفتين المتعارضتين، وثمة عدة وجوه من بينها طرح روايات الطهارة، وذلك لجهة موافقتها للعامة فتحمل على التقية.

وهنا يبدو الميل التاريخي واضحاً في التفكير العلمي ــ عند الشهيد الصدر ــ فقد كتب في تحقيق ما عليه الفقه السني العام تاريخياً: «والتحقيق ان المشهور في الفقه السني بمختلف مذاهبه هو الحكم بالنجاسة، حتى ذكر السيد المرتضى ــ قدس سره ــ «انه لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم»، وأكثر من نسب إليهم القول بالطهارة من فقهاء السنة ممن لا يمكن افتراض اتقاء الإمام الصادق عليه السلام منهم، فضلاً عن الباقر عليه السلام، فقد قيل: إنّ الطهارة أحد القولين للشافعي أو قول بعض الشافعية، ومن الواضح ان ولادة الشافعي بعد وفاة الإمام الصادق عليه السلام، فلا معنى لاتقائه منه، ونسب القول بالطهارة إلى ليث بن سعد، وهو وإن كان معاصراً للإمام الصادق عليه السلام غير أنه كان يسكن في مصر، فهل يحتمل عادة أن الإمام وهو في الحجاز أو العراق يتقي من فقيه في مصر، ولا يعتني بما ذهب إليه فقهاء الحجاز والعراق؟ وإذا افترضنا صدور بعض نصوص الطهارة من الإمام الباقر عليه السلام المتوفى سنة 114هـ كان عدم تعقل اتقائه من ليث في غاية الوضوح، لأن ليث ولد سنة 93هـ فيكون عمره حين وفاة الباقر عليه السلام حوالي عشرين عاماً. ونسب القول بالطهارة إلى داود المولود سنة 202، وهو متأخر ولادة عن وفاة الصادق، فكيف يفرض الاتقاء منه؟ ونسب هذا القول إلى ربيعة، وهو وإن كان معاصراً للإمام الصادق عليه السلام ولكنه كان فقيهاً منعزلاً، ولم يتحقق له في حياته من المقام الرسمي أو الاجتماع ما يناسب الاتقاء منه، خصوصاً إذا قبلنا صدور بعض النصوص السابقة في الطهارة من الإمام الباقر عليه السلام الذي كان ربيعة شاباً عند وفاته..» ((المصدر السابق، ج3/349ــ350.)).

سادساً: المعطى العلمي

في ظل التطور العلمي والتقني في العالم تقفز إلى ساحة البحث الفقهي عدة مسائل، تفتقر إلى أجوبة شرعية شافية وواضحة، وسيكون الفقيه ملزماً بتقديم الحلول الشرعية تجاه هذه الصيغ والأوضاع المستجدة التي لا يمكن تجاوزها والقفز عليها، لأنها أوضاع بدأت تفرض هيمنتها على حياة المسلمين..

وهناك عدد كبير من المسائل المستجدة التي طرحت على بساط البحث الفقهي من قبيل: التقليح الصناعي، أطفال الأنابيب، عقد الرحم، تنظيم النسل عن طريق بعض الوسائل الطبية من قبيل اللولب، التشريح، مني المرأة، الكحول الطبية، ثبوت الهلال بالوسائل الفلكية الحديثة…

ولا يخفى دور الشهيد الصدر في الاجابة على تحديات العصر، بل لا يخفى دوره الريادي في هذا المضمار، ويقف كتابه «إقتصادنا» وكتابه «البنك اللاربوي في الإسلام» وكتابه «الإسلام يقود الحياة»، بل وكتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» شاهداً على ما نقول..

لكن ثمة تطبيقات عديدة يمكن إلتقاطها من مطاوي أبحاثه الفقهية التخصيصية ويلاحظ في بعضها إطلاع الشهيد الصدر على النظريات الحديثة في مجالات عديدة، بل وتسجيل ملاحظاته عليها، كما يظهر ذلك في استعراضه لبعض النظريات الحديثة في تفسير تكوّن المياه، وتحديداً تلك الفرضية التي تفسِّر تكونها عن طريق نزولها من السماء. ((المصدر السابق، ج1/20.))

وتظهر عنايته بالمعطى العلمي في مسألة تشخيص «الاسبرتو» وهل هو محكوم بالطهارة أو لا؟ وقد حكم السيد الخوئي بطهارة الاسبرتو سواء ما كان منه متخذا من الأخشاب لعدم صدق عنوان الخمرية عليه، أم ما كان منه متخذاً من الخمر، وذلك لاستحالته بالتبخير، كما في تبخير البول وغيره..

وبصدد تشخيص حقيقة «الاسبرتو» يتصدى الشهيد الصدر إلى ملاحقة الواقع الذي عليه «الاسبرتو»، وفقاً للمعطيات العلمية السائدة.((المصدر السابق، ج3/360.))

ويخلص الشهيد الصدر إلى ان الاسبرتو المتخذ من الأخشاب ليس هو المتعارف في المجال الطبي وإنما هو سم محض وليس مسكراً، والمتخذ من الخمر ليس هو المتعارف طبياً، والمتعارف طبياً لا يؤخذ من الخمر بل من أخرى.. ((المصدر السابق، ج3/361ــ362.))

وفي الاتجاه نفسه تحقيقه لمسألة وجود المني عند المرأة أو عدم وجوده، فانه اعتماداً على المعطيات العلمية ــ التي تنفي وجود المني عند المرأة كما هو الحال عند الرجل ــ شكّك الشهيد الصدر بوجوب الغسل على المرأة من غير الجماع، وان أفتى بالاحتياط في هذه المسألة.((الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج1/62.))

ومن التطبيقات الفقهية التي أفاد فيها الشهيد الصدر من المعطيات العلمية مسألة إحراز النسب وذلك بامكان التعويل على الطرق العلمية الحديثة في إحرازه.

كتب في تعليقته على منهاج السيد الحكيم: «.. وأما إذا أحرز النسب الشرعي بوجه قطعي عن طريق القرائن والعلامات فلا بأس بالتعويل على ذلك، وكذلك الأمر في الطرق العلمية الحديثة.» ((المصدر السابق، ج2/11ــ12.)).

وقد يكون الأهم ــ من هذه التطبيقات ــ في هذا الاتجاه تعويله على معطيات علم الفلك الحديث لإثبات هلال شهر رمضان، على تفصيل في الدور الايجابي ــ الاثبات ــ أو السلبي ــ النفي ــ ، بل أخذ الشهيد الصدر بالاعتبار النبوءة العلمية ــ فضلاً عن الحقائق العلمية ــ في إثبات الرؤية وعدمها وذلك لأن احتمال الخطأ في حسابات النبوءة العلمية وإن كان موجوداً، ولكنه قد يكون أبعد أحياناً عن احتمال الخطأ في مجموع تلك الشهادات أو على الأقل لا يسمح بسرعة حصول اليقين بصواب الشهود في شهاداتهم. (( الصدر، الفتاوى الواضحة، ص630.))

المنهج على مستوى الشكل

كان البحث ــ فيما مضى ــ بصدد تلمّس المعالم العامة للمنهج السائد في مدرسة الشهيد الصدر على مستوى المحتوى والمضمون، ويحسن أن لا نغفل منهجه على مستوى الشكل أيضاً.

ونريد بالمنهج الشكلي ــ في الحقل الفقهي ــ طريقة تقسيمه للمسائل الفقهية ولغته في هذا الحقل، ومعرفة ما إذا كانت ثمة انجازات له في هذا المضمار.

وبغض النظر عن طريقته المنهجية في كتابه «إقتصادنا» وكتابه «البنك اللاربوي في الإسلام»، فاننا أمام ثلاثة إنجازات له تتمثل في: بحثه الرائع فيما أسماه «بحوث في شرح العروة الوثقى» والذي صدر منه أربعة أجزاء ضخمة، وتعليقته على «منهاج الصالحين» للسيد محسن الحكيم في جزئين، وكتابه الفقهي الفتوائي الموسوم بـ«الفتاوى الواضحة» الذي اشتمل على خلاصة آرائه الفقهية، فيما يعرف بـ«الرسالة العملية» والتي صدر منها جزء واحد فقط، وتحديداً في فقه العبادات وفقاً لتقسيمه، وإلاّ فإنه لم يتم حتى قسم العبادات وفقاً للتقسيم الموروث.

وتجدر الاشارة إلى أنّ منهجه في الكتاب الأول ــ وهو كتاب إستدلالي موسّع ــ لم يتجاوز المنهج الفقهي السائد، خاصة وأنه كان أسير «المتن الفقهي» الذي اشتملت عليه العروة الوثقى» للسيد اليزدي، من  حيث الشرح والتعليق والمناقشة مع التطوير في طرق الاستدلال.

وقد اعتذر الشهيد الصدر عن مجاراته الأسلوب التقليدي، في وقت كان ينتظر منه تجديد وتحديث المنهج الشكلي أيضاً، في أوسع بحث وأدقه وأتقنه، فقد كتب في المقدمة: «.. وواضح لديّ ــ وأنا أُلاحظ بحوث هذا الكتاب ــ أن المنهج بحاجة إلى تطوير أساسي يعطي للبحث الفقهي أبعاده الكاملة، كما أنّ عبارة الكتاب بحكم أنها لم تعد لغرض التأليف، وإنما تمت صياغتها وفق متطلبات الموقف التدريسي، تتسم بقدر كبير من استهداف التوضيح والتوسع في الشرح، وبهذا فقدت جانب الاختزال والتركيز اللفظي الذي يميز الكتاب الفقهي عادة، وهذه النقاط إن كان لابدّ من الاعتراف بها فالمبرر لها هو أنّ الكتاب يمثل ــ كما ذكرنا ــ ممارسة تدريسية قد خضعت لنفس الأعراف المتبعة في مجال التدريس السائد من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشرح والتوضيح، واتجهت إلى تعميق المحتوى والمضمون كلما أُتيح لها ذلك تاركة تطوير المنهج ولغة البحث إلى حين تتوفر الظروف الموضوعية..».

أما كتابه الثاني فهو في الأساس تعليقة (هوامش فقهية) على كتاب فقهي «منجز» حاول فيها تسجيل فتاواه وآرائه الفقهية مجردة عن الاستدلال كما هو شأن كل الفتاوى، وإن اشتملت على

الاستدلال ــ أحياناً ــ فهو خلاصة عنه لا أكثر.

نعم، تم تطوير المنهج على مستوى الشكل في كتابه الثالث (الفتاوى الواضحة) وهو عبارة عن الفتاوى الفقهية ــ أيضاً ــ المجردة عن الاستدلال، والتي أراد لها الشهيد الصدر أن تكون في متناول المقلدين ــ بالكسر ــ والمستفتين.

وقد يحسن الحديث ــ أولاً ــ عن تطور البحث الفقهي والأشكال التي مرّ بها، ثم نعطف بالحديث عن الاضافات التي حاول الشهيد الصدر أن ينجزها في هذا المجال.

ومهما يكن من أمر، فقد اتخذ البحث الفقهي أشكالا مختلفة، تبعاً لعوامل عديدة لسنا بصدها الآن، انما يمكن أن نصنّف هذه الأشكال التاريخية إلى:

الشكل الأول: وقد اقتصر فيه الفقهاء على نقل الحديث أو الرواية كجوابٍ على الاستفتاء، دونما تعليق أو صناعة علمية، إلى درجة احتفظ معها بالسند أيضاً. ولذلك طغى ــ في مرحلة من مراحل البحث والتفكير الفقهي ــ شيوع كتب الحديث وغياب أي لونٍ من ألوان الكتابة الفقهية الأخرى.

الشكل الثاني: ومع تقادم الزمن وتطور التفكير الفقهي، وعلى خلفية كثرة الأحاديث والروايات التي كانت موضوع بحث الفقيه ــ سنداً ودلالة ــ أخذ الفقيه في تلك الفترة يجيب على الاستفتاء بما ثبت عنده من الروايات والنصوص الشرعية وما صحّ منها، متخلياً عن الالتزام بذكر السند، تاركاً ذكره في المجال الذي يناسبه، وهو كتب الحديث وموسوعات الرواية.

الشكل الثالث: ثم تحلل الفقيه شيئاً فشيئاً عن الالتزام بمتن الحديث، لأنه يجد نفسه في مقام الافتاء، وإعطاء الرأي لا في مقام نقل الرواية. وفي هذه الفترة ظهرت عدة كتب فقهية كـ(فتاوى مجردة) عن الاستدلال من جهة، ومتحررة من لفظ الحديث والرواية من جهة أخرى، إلاّ أن هذا التغير لم يكن كبيراًً، إذ يلاحظ الباحث على هذه الكتب أنها لا تبتعد كثيراً عن لفظ الحديث، وان فعل مصنفوها ذلك فهو تعديل يسير.

الشكل الرابع: وقد تكون تلك المراحل السابقة بمثابة التأسيس للكتابة الفقهية، حيث استنفدت أغراضها، فأخذ بعض الفقهاء يفتش عن لونٍ جديد من الكتابة الفقهية لغرض تعميقها من جهة، ولغرض الوفاء بمتطلبات الزمان التي تفرض وتحتم إبتكار مناهج للكتابة جديدة وغير مألوفة، فضلاً عن ابداع مناهج للتفكير أيضاً.

وفي هذه الفترة ظهرت [الشروح] التي غالباً ما يميل مؤلفوها من الفقهاء إلى شيء من الاستدلال، وسبر للأقوال في المسائل الفقهية موضوع البحث.

الشكل الخامس: إلاّ أنّ هذه [الشروح] لم تفِ بالغرض فهي على مستوى الاستدلال تأتي مقتضبة، وغالباً ما يقفز الفقيه ــ فيها ــ إلى النتائج عبر عملية حرق واسعة لمراحل الاستدلال، فانطلق عدد من المتأخرين إلى التوسع في الشروح، وتطويرها منهجاً ومضموناً.

وقد يكون ظهور هذا الشكل الأخير من الكتابة الفقهية مديناً إلى ما يعرف بـ(البحث الخارج) وشيوع هذا النمط من أنماط التعليم الفقهي الذي يعرض فيه الفقيه على تلامذته معظم ما توصل إليه من نتائج ماراً بالأدلة والمدارك والمرتكزات التي أثمرت مثل هذه النتائج، وهي بحوث موسعة ودقيقة يعمد التلاميذ ــ أحياناً ــ إلى تسجيلها وتدويها، وعرفت في الوسط العلمي

بـ[التقريرات]، وقد يعمد (الأستاذ) الفقيه نفسه إلى تدوينها.

والكتابة الفقـهـيــة ــ في أشــكالــها الأخـيرة ــ إتـســمت باللـغــة العلمـية التخصصية، وهي مهما بلغت من السعة والشرح فانها تبقى موجزة ومقتضبة أيضاً، وذلك لأنها لم تكن إلاّ للعالم والمتخصص، ولغرض الجدل العلمي، كما هو في معظم الدراسات العلمية السائة اليوم في الجامعات والحواضر العلمية.

وفي ضوء هذه الملاحظة إلتفت الفقهاء إلى تغطية حاجة المسلم العادي فقهياً والوفاء بمتطلباته، والاجابة على استفتاءاته بشكل يتناسب وثقافته، وقد اتخذت وسائل إتصال الفقيه بالجمهور أشكالاً ثلاثة وهي:

أولاً: المشافهة، وهي وسيلة مباشرة، يجيب الفقيه وفقاً لها على استفتاء السائل، وهي وسيلة لا تزال قائمة، وفي الغالب لا تنطوي على مشاكل علمية أو لغوية، ولكنها لا تتاح دائماً للسائل لسبب وآخر.

ثانياً: المراسلة، وهي وسيلة غير مباشرة، يجيب من خلالها الفقيه على استفتاء السائل، وهي تخضع لوسائل الاتصال من جهة ولظروف الفقيه والسائل من جهة أخرى، وهذه الوسيلة قديمة، وقد ترك لنا الفقهاء من أمثال السيد الشريف المرتضى والطوسي وأستاذهما الشيخ المفيد وغيرهم تراثاً كبيراً في هذا المجال وفي شتى الحقول المعرفية ــ فضلاً عن الفقه ــ ولكن ــ وللأسف ــ أخذت هذه الوسيلة طريقها إلى الفتوز والاضمحلال أيضاً.

ثالثاً: الرسالة العملية، وهي لون من ألوان الكتابة الفقهية، التي أُريد منه تعميم الفتاوى ــ والثقافة الفقهية بشكل عام ــ على أوسع قطاعات الجمهور المتدين، بعيداً عن الاتصال المباشر أو غير المباشر، وهو فن لم يعرف قديماً، وإن كانت جذوره معروفة.

وقد انتشرت الرسالة العملية ــ كفنٍ من الفنون الفقهية على مستوى الكتابة ــ في القرون الهجرية الأخيرة وبشكل واسعٍ وملحوظ، إلاّ أننا لانعرف على وجه التحديد بداية نشأتها وظهورها، وإن كان الشهيد مرتضى المطهري(( المطهري، مرتضى، الإسلام وإيران، ج3/96 مترجم إلى العربية، محمد هادي اليوسفي ط/إيران.)) أرّخ بداية الظهور هذه مع كتاب [الجامع العباسي] الذي كتبه الشيخ البهائي المتوفى عام (1030 أو 1035) أحد أبرز فقهاء جبل عامل المقيمين في إيران يومذاك، وقد كتبه الشيخ البهائي للسلطان الصفوي الشاه عباس، وقد كتبت باللغة الفارسية.

وإذا كان قد لبّى هذا اللون من الكتابة الفقهية حاجات الجمهور المتدين إلاّ انه ــ وللأسف ــ كفّ عن تطوير نفسه في الحقبة المتأخرة، وجمد على اللغة نفسها والأسلوب نفسه الذي اتسم به هذا اللون من الكتابة الفقهية يوم نشأته وظهوره، وإن تطوّر فهو تطور غير ملحوظ أو لا يعد كذلك.

وفي هذا السياق يأتي إسهام الشهيد الصدر، لتطوير الرسالة العملية من حيث وظيفتها ودورها، ان على مستوى اللغة أو على مستوى الشكل.

مبررات التجديد

أما المبررات التي تدعو إلى هذا التطوير ــ من وجهة نظر الشهيد الصدر ــ فإنها تنبثق من الملاحظات التي سجّلها على (الرسالة العملية) بشكل عام وما تشكوه من ثغرات، ولكنه ــ مع ذلك ــ لا يتنكر للدور المهم والرئيس الذي قامت به.

كتب الشهيد الصدر ــ بصدد الحديث مبررات التطوير ــ يقول: «وقدمت الرسائل العملية بدور مهمّ وجليل في هذا المجال، ولكن على الرغم مما تمتاز به عادة من الدقة في التعبير والايجاز في العبارة توجد فيها على الأغلب ملاحظتان تستدعيان التغيير والتطوير.

الملاحظة الأولى: ان هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجية الفنية في تقسيم الأحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الأبواب المختلفة. ومن نتائج ذلك حصل ما يلي:

أولاً: ان كثيراً من الأحكام أُعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعاً للأبواب ولم تعطِ لها صيغة عامة يمكن للمقلد أن يستفيد منها في نطاق واسع.

ثانياً: ان عدداً من الأحكام دس دساً في أبواب أجنبية عنه لأدنى مناسبة حرصاً على نفس التقسيم التقليدي للأبواب الفقهية.

ثالثاً: إن جملة من الأحكام لم تذكر نهائياً لأنها لم تجد لها مجالاً ضمن التقسيم التقليدي.

رابعاً: انه لم يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولم تربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تعط المسائل التفريعية والتطبيقية، بوصفها أمثلة صريحة لقضايا أعم منها لكي يستطيع المقلد أن يعرف الأشباه والنظائر.

خامساً: افترض في كثير من الأحيان وجود صورة مسبقة عن العبادة أو الحكم الشرعي، ولم يبدأ بالعرض من الصفر، اعتماداً على تلك الصورة المسبقة.

سادساً: انطمست المعالم العامة للأحكام عن طريق نثرها بصورة غير منتظمة، وضاعت على المكلف فرصة استخلاص المبادئ العامة منها.

الملاحظة الثانية: إن الرسائل العملية لم تعد تدريجاً بوضعها التاريخي المألوف كافية لأداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة، ذلك أنّ الرسالة العملية تعبّر عن أحكام شرعية لوقائع من الحياة، والأحكام الشرعية بصيغها العامة وإن كانت ثابتة ولكن أساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر إلى عصر آخر، ووقائع الحياة تتجدد وتتغير، وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل وآخر.

فاللغة المستعملة تاريخياً في الرسائل العلمية كانت تتفق مع ظروف الأمة السابقة إذ كان قراء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين، لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة لم تكن متعلمة، وأما اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ إذا كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لابدّ للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلدين وفقاً لذلك.

والمصطلحات الفقهية التي تعتمد عليها الرسائل العملية غالباً للتعبير عن المقصود قد كان من مبرراتها تاريخياً إقتراب الناس من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم وتضاءلت معلوماتهم الفقهية حتى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب غريبة تماماً.

وعرض الأحكام من خلال صور عاشها فقهاؤنا في الماضيك ان أمراً معقولاً، فمن الطبيعي

أن تعرض أحكام الاجارة مثلاً من خلال افتراض استئجار دابة للسفر، ولكن إذا تغيرت تلك الصور فينبغي أن يكون العرض لنفس تلك الأحكام من خلال الصور الجديدة، ويكون ذلك أكثر صلاحية لتوضيح المقصود للمقلد المعاصر.

والوقائع المتزايدة والمتجددة باستمرار بحاجة إلى تعيين الحكم الشرعي، ولئن كانت الرسائل العملية تاريخياً لتفي بأحكام ما عاصرته من وقائع فهي اليوم بحاجة إلى أن تبدأ تدريجاً باستيعاب غيرها مما تجدد في حياة الانسان.

والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتة قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابدّ لرسالة عملية تعاصر تغيراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي، فمثلاً الشرط الضمني ــ على حد تعبير الفقهاء ــ واجب ونافذ، وهو كل شرط دلّ عليه العرف العام وإن لم يصرح به في العقد، ولكن نوع هذه الشروط ــ لما كان العرف هو الذي يحددها ــ تختلف فقد يكون شيء ما شرطاً ضمنياً مع العقد في عصر دون عصر. وهكذا ينبغي للرسالة العملية أن تأخذ العرف المتطور بعين الاعتبار في تحديد ذلك القسم من الأحكام التي يرتبط بالعرف»(( الصدر، الفتاوى الواضحة، ص94، 97.)).

والنص ــ الذي حرصنا على نقله بتمامه ــ أول محاولة جادة لنقد الخطاب الفقهي ومحاولة تطويره، وهو ــ بحق ــ برنامج عملي لتطوير هذا الخطاب وتعميمه وتفعيله في حياة الانسان المسلم.

وقد دأب الشهيد الصدر على تفادي هذه الملاحظات، فجاءت (الفتاوى الواضحة) خالية منها، إن من حيث اللغة أو العرض أو التنظيم..

لكن الأهم ــ ربما ــ في هذه المحاولة هو عزوفه عن التقسيم الشكلي الموروث للأحكام الشرعية، وهو التقسيم الرباعي الذي يعود تاريخه إلى عصر المحقق الحلي (ت 676هـ)، وعن التقسيم الثنائي الذي أصبح مألوفاً في الأزمنة اللاحقة، والذي يقوم على تصنيف المسائل الفقهية إلى عبادات ومعاملات.

أما تقسيم الشهيد الصدر فهو رباعي أيضاً، ولكنه يأخذ بالاعتبار ليس فقط التطور الحضاري الذي عليه المجتمع المسلم، بل يأخذ بالاعتبار التركيبة الكلية للتشريع الإسلامي أيضاً.

وقد جاء التقسيم الشكلي للأحكام الشرعية عند الشهيد الصدر كالتالي:

1ــ العبادات: وهي الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة والكفارات.

2ــ الأموال وهي على نوعين:

(أ) الأموال العامة: ونريد بهاكل مالٍ لمصلحة عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، فإنها على الرغم من كونهما عبادتين يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز، وكذلك يدخل ضمنها الخراج والأنفال وغير ذلك، والحديث في هذا القسم يدور حول أنواع الأموال العامة، وأحكام كل نوعٍ وطريقة إنفاقه.

(ب) الأموال الخاصة: ونريد بها ما كان مالاً للأفراد واستعراض أحكامها في بابين:

الباب الأول ــ في الأسباب الشرعية للتملك أو كسب الحق الخاص سواء كان المال عينياً ــ أي مالاً خارجياً ــ أو مالاً في الذمة، وهي الأموال التي تشتغل بها ذمة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة، ويدخل في نطاق هذا الباب أحكام الأحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين وغير ذلك.

الباب الثاني: في أحكام التصرف في المال، ويدخل في نطاق ذلك البيع والصلح والشركة والوقف والوصية وغير ذلك من المعاملات والتصرفات.

2ــ السلوك الخاص: ونريد به كل سلوك شخصي للفرد لا يتعلق مباشرة بالمال ولا يدخل في عبادة الانسان لربه. وأحكام السلوك الخاص نوعان:

الأول: ما يرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمبارات والظهار والايلاء وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاص في غير ذلك المجال، ويدخل فيه أحكام الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن وآداب المعاشرة وأحكام النذر واليمين والعهد والصيد والذباحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرمات والواجبات.

4 ــ السلوك العام: ونريد به سلوك ولي الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك أحكام الولاية العامة والقضاء والشهادات والحدود والجهاد وغير ذلك.» (( المصدر السابق، ص132 وما بعد.))

ولم يأخذ هذا التقسيم المقترح مداه في (الرسائل العملية) التي صدرت في السنوات الأخيرة((علّق السيد محمد حسين فضل الله على الفتاوى الواضحة ــ متفرداً ــ كما انه أفاد منها في كتابه الفتوائي الأخير «فقه الشريعة».))، ولم يخضع للدراسة والتمحيص والتطوير أيضاً، انما هناك ملاحظة سجّلها بعض الباحثين على هذا التقسيم إذ كتب معلقاً عليه: «ومن المناهج الجيدة الحديثة لفقهائنا المحدثين التنظيم الذي يذكره الشهيد المحقق الصدر ــ رحمه الله ــ في مقدمة كتابه «الفتاوى الواضحة»… وهو تنظيم جيد يخلو من نقطتي الضعف اللتين ذكرناهما لتنظيم الشيخ مصطفى الزرقا، فليس فيه إقتباس واضح من منهجية الفقه الوضعي، والعلاقة العضوية (الاشتقاقية) بين الأبواب أو ما يعبّر عنه بـ«الحصر العقلي» موجود إلى حدّ ما. إلاّ أنه مع ذلك لم يخضع لدراسة نقدية توضح نقاط الضعف فيه، ولسنا الآن بصدد ذلك، وإنما نشير فقط إلى أن موضع (الخمس والزكاة) في الأموال العامة ليس وضعاً دقيقاً، فان قدماء فقهائنا يضعونهما في العبادات لاشتراط النية فيهما، والمحدثون من الفقهاء يضعونهما وسائر الأموال العامة كالأنفال والخراج في شؤون الدولة أو ما يطلق عليه بالأمور السلطانية أو الولاية العامة. وهذا الباب هو أنسب الأبواب الثلاثة للخمس والزكاة، والأرث وإن كان يدخل بموجب هذا التنظيم في الأموال الخاصة في قسم الأسباب الشرعية للتملك إلاّ انه أكثر انسجاماً بالأحوال الشخصية ــ أي القسم الأول من السلوك الخاص ــ ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا النهج لو توفر له نقد علمي دقيق وجرى عليه تعديل في ضوء هذا النقد يصلح أن يكون أساساً جيداً لتنظيم أبواب الفقه»((الآصفي، محمد مهدي، مقدمة النهاية ونكتها للمحقق الحلي «حياة المحقق الحلي»  ص120، ص122، ط اولى، نشر مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين ــ قم.)).

لكن يُلاحظ على هذا النقد: انه لم يأخذ بالاعتبار المحور الذي اعتمده الشهيد الصدر في تقسيمه من جهة، ولم يأخذ بالاعتبار ــ أيضاً ــ المباني الفقهية للشهيد الصدر من جهة أخرى.

فما ذكره من كون الخمس والزكاة من العبادات وفقاً لرأي الأقدمين ومن شؤون الدولة ــ الأمور السلطانية ــ وفقاً لرأي المحدثين ليس دقيقاً، لأن الزكاة ــ من وجهة نظر الشهيد الصدر ((الصدر، منهاج الصالحين، ج1/442.))ــ وإن كان يُشترط فيها نية القربة إلاّ انه احتياطي، ولذلك يصح دفع الزكاة ويجزي في الحالات التي لا يشتمل الدفع على نية التقرب.

كما ان وضع الخمس والزكاة في شؤون الولاية ليس صحيحاً لأنهما وإن كانا موضوعاً لتصرف الولي أو الحاكم إلاّ انموضوع تصرفاته أعم من المال، إذ يشمل تصرفه المال وغيره، ولذلك فان تصنيف الشهيد الصدر من هذه الجهة لا غبار عليه.

أما ما ذكره الناقد من أن الأنسب في وضع الميراث هو الأحوال الشخصية فليس صحيحاً إذ مع أنه ــ مصطلح غير شرعي ــ فقد لاحظ الناقد علي الزرقا أنه في تقسيمه أقرب إلى الفقه الوضعي، وهذا المصطلح منه أيضاً، كما أنّ الشهيد الصدر في تقسيمه أخذ عنوان السلوك وليس عنوان الشخص ليقال له إن الميراث مما يتصل بالشخص، لأن الميراث ليس من السلوك لا الخاص ولا العام أيضاً.