أطروحة التفسير الموضوعي عند الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر

[lwptoc]

قراءة فاحصة

أحمد عبدالله أبو زيد

الإهداء

إلى من عاش صامتاً ورحل بصمت إلى الشهيد علي أهدي ثواب هذا الجهد أحمد 

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّد الخلق محمّد وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين.

وبعد، فلا يخفى على الباحثين في شؤون الفكر والثقافة في العالم الإسلامي خطورة الدور الذي لعبه الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) في نهضة الفكر الإسلامي وانبعاثه في النصف الثاني من القرن المنصرم.

ولا يخفى كذلك علوُّ المنزلة التي احتلّها في قلوب المسلمين؛ باعتباره الفقيه غير المنازَع على تفجير مكنونات النصوص الإسلاميّة بنحوٍ عبقريٍّ خلّاق أتاح للأمّة الإسلاميّة المشاركة في سباق المعرفة وتجربة الحكم من موقع القوّة والاقتدار.

وقد استدعت اليدُ الإلهيّة ربيب تعاليمها المخلص في بداية انطلاقته الكبرى وانبعاثه العملاق الذي أطلقه بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران؛ فالتحق العاشق بمعشوقه مطبقاً جفونه الساهرة ومريحاً قلمه المنهك بعد أن اكتحلت عيناه برؤية مشروع الدولة الإسلاميّة يتحقّق، المشروعِ الذي كان يأمل أن تستحيل أشجار فكره المتعانقة وقوداً يرفد مسيرته المتنامية.

وعلى الرغم من رحيله المبكر في ربيعه الخامس والأربعين، فقد خلّف الصدرُ وراءه تركة فكريّة مميّزة أحلّته كرسيَّ الصدارة في كلّ ما قدّم، فأوقفنا أمام هذا الإرث موقف المسؤول الذي إذ يعترف بأنّه لا يقوى على ملأ الفراغ بعد أن «ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء»، فإنّه في الوقت نفسه يُدرك جيّداً جسامة المسؤوليّة التي تفرضها التبعيّة للمنهج الأصيل الذي خطّ الصدرُ معالمه في ثرى المعرفة.

ومع أنّ المكتبة الإسلاميّة اشتملت على الكثير من الأبحاث التي كتبت حول تراث الشهيد الصدر الفكري، حتّى اجتمع لديّ منها بضعُ مئات في مختلف الميادين، إلّا أنّ جدة العطاء الصدري وأصالته تتيحان على الدوام للمنقّبين فرصة المشاركة في رفد هذه التجربة والمساهمة في تصحيحها وتوضيحها وتعميقها وتطويرها.

وبعد صدور كتابي خماسي الأجزاء (محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق) في التأريخ لسير الشهيد الصدر ومسيرته، كنتُ أتحيّن الفرص لملأ بعض المساحات الفكريّة التي لا زالت بنظري بحاجة إلى مزيدٍ من الإشباع، فاغتنمت فرصة التحاقي بقسم الدراسات العليا في كليّة القرآن والحديث الكائنة في مدينة قم المشرّفة والتابعة لجامعة طهران على هامش دراستي في الحوزة العلميّة، واخترت ـ وبتشجيعٍ من أستاذ مادة مناهج التفسير فضيلة الشيخ الدكتور كاظم قاضي زاده ـ منهج التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر بوصفه مادة بحثيّة فصليّة يُقدّم فيها التلميذ دراسة مختصرة ليتمرّس على كتابة الرسالة الجامعيّة.

وعلى هذا الأساس اغتنمتُ الفرصة لإشباع رغبتي في تكوين رؤية تصديقيّة فاحصة حول قناعات الشهيد الصدر في حقل التفسير الموضوعي للقرآن الكريم تبارح إطار التصوّرات والانطباعات، فعكفتُ على كتابة هذا البحث الذي تضاعف إلى حدّه الحالي، والذي لم يستهدف تقصّي ما كُتب حول مناهج التفسير الموضوعي من فروع وشقوق وعرضَ مختلف الآراء المقدَّمة في دراسة جامعة بقدر ما استهدف التركيز على دراسة الأطروحة التي تقدّم بها الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه).

وفي خضمّ ما كتب حول هذه الأطروحة، نحوتُ نحوَ دراسة مفاصلها ومعالجة جذورها على ضوء فكر الشهيد الصدر في مدَياته الأوسع، فاستهديتُ بمبانيه الفكريّة المتناثرة محلّلاً ومستنطقاً، فاستحالت مداداً أتاح إكمال اللوحة في بعض مساحاتها غير المكتملة.

وبعد أن تبنّى مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت ـ مشكوراً ـ طباعة الكتاب، اغتنمت فرصة العطلة الدراسيّة ورجعت إليه لأدخل عليه بعض التعديلات، فانتهى إلى صورته الحاليّة.

وفي الختام أسأل الله تعالى أن يتقبّل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وينفعني به ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، ويُسقط به يسيراً من عظيم ما للشهيد الصدر في عنق هذه الأمّة.

وأرجو أن تساهم هذه الدراسة في توضيح أطروحة التفسير الموضوعي الصدري وتجليتها وتعميقها، وأن ينفع بها روّاد العلم والمعرفة ؛ إنّه سميعٌ مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

أحمد عبد الله أبو زيد

عربصاليم ـ لبنان

15/شعبان/1431هـ

27/7/2010م

تمهيد

يعتقد الكثيرون أنّ منهج التفسير الموضوعي من المناهج المستحدثة والطارئة على ميدان التفسير، والتي لم تظهر إلّا في العقود الأخيرة، وبخاصّة مصطلح التفسير الموضوعي؛ إذ من العبث البحثُ عنه في تراث السلف((حسين علوى مهر، آشنايى با تاريخ تفسير ومفسران، الصفحة 364.))؛ فإنّه لم يظهر «إلّا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قُرِّرت هذه المادّة ضمن مواد قسم التفسير بكليّة أصول الدّين بالجامع الأزهر»((الدكتور مصطفى مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 17.))، وقد امتازت بعض دراسات المستشرقين حول القرآن الكريم بأنّها انتهجت هذا المنهج((الدكتور محمّد حسين علي الصغير، المستشرقون والدراسات القرآنيّة، الصفحة 83.)).

وإذا سلّمنا جدلاً بصحّة هذا الأمر بالنسبة إلى المصطلح، فإنّنا سنكون قد أغمضنا الطرف عن حقيقة مهمّة بالنسبة إلى المُصطَلَح عليه، وهي أنّه ليس في العلوم علمٌ ينشأ مكتملاً، وأنّ تطوّر العلوم وتكاملها التدريجي سنّة لا تتخلّف، والنظريّات البشريّة تعبّر عن تراكمات طويلة الأمد لجهودهم المتظافرة، وليست مظهراً دفعيّاً لها.

وليس الحديث عن نشأة التفسير الموضوعي ببدع عمّا ذكرناه؛ فهو منهجٌ قديم، ولكنّ تجلّياته كانت أقلّ رونقاً من تجلّياته المعاصرة، بل قد يتعذّر أحياناً المقارنة بينها من حيث الكمّ والكيف، ولهذا بات مبرّراً الاعتقاد بحداثة هذا المنهج بالكليّة.

ولا شكّ بأنّ سلامة المنهج تحتّم علينا الدخول في تعريف التفسير الموضوعي أوّلاً؛ ليتسنّى لنا في مرحلة لاحقة الحديثُ عن تاريخ البحث فيه؛ لأنّ دخول نوعٍ من التفاسير في التفسير الموضوعي أو خروجه عنه رهينُ الضابط الذي يحدّده لنا التعريف.

ولكن، حيث توجد صورة مرتكزة ـ ولو أوّليّة ـ حول تعريف التفسير الموضوعي، فإنّنا سنجعلها نقطة الانطلاق من أجل الدخول في تاريخ البحث حول هذا المنهج التفسيري، لنعمد في مرحلة أخرى إلى لملمة التعريفات؛ لأنّ الرؤية التاريخيّة نفسها قد تنسحب على التعريف النهائي لتؤثّر فيه.

ثمّ إنّنا اقتصرنا في هذا البحث على دراسة وتقييم المعطيات النظريّة لما كتب أساساً في التنظير ـ ولو بشكل خجول ـ لهذا اللون من التفسير، فلم نَقُم بتوليد رؤى نظريّة لعطاءات تطبيقيّة جاءت مجرّدةً عن روح التقعيد.

وعلى هذا الأساس، فقد أهملنا الدراسة التفصيليّة التطبيقيّة للعديد من الدراسات، من قبيل: (دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمّد عبدالله درّاز، (مفاهيم القرآن) للشيخ جعفر السبحاني، (نفحات القرآن) بدورتيه الأولى والثانية للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، (معارف القرآن) للشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي، (التفسير الموضوعي للقرآن) للشيخ عبدالله جوادي الآملي، (المدخل إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم) للسيّد محمّد باقر الأبطحي، و(نحو منهج في التفسير الموضوعي.. دراسة تطبيقيّة على آيات الحجاب في القرآن الكريم) للدكتور صبري المتولّي، وغيرها الكثير من الدراسات.

بل إنّنا عندما وصلنا إلى أطروحة الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر ـ التي درسناها بشكل مفصّل في الفصل الثالث ـ أهملنا كذلك عطاءه التطبيقي على ما أشرنا إليه هناك، واقتصرنا على دراسة محاضرتيه الأوليين اللتين خصّصهما للتنظير لمنهجه في التفسير الموضوعي.

الفصل الأوّل

التعريف بأهمّ مناهج التفسير الموضوعي

التفسير الترتيبي، التفسير التجزيئي((السيّد محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، الصفحات 20، 21، 22، 23، 24، 26، 27، 28…))، التفسير الموضعي((الدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدي، التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 40.))، التفسير التسلسلي((الدكتور أحمد رحماني، مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 56.))، التفسير التحليلي((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 42.))… كلّها عناوين لمُعَنْوَنٍ واحد، وهو عبارة عن التفسير الذي يتناول آيات القرآن الكريم آيةً آيةً، محاولاً توضيح معانيها وكشف القناع عن مراداتها:

فهو ترتيبي؛ لأنّه يسير مع آيات القرآن الكريم بحسب ترتيبها في المصحف الشريف.

وهو تجزيئي؛ لأنّه يتعامل مع أجزاء القرآن الكريم وآياته، ولا يتعامل معه بوصفه كلاًّ واحداً.

وهو موضعي؛ لأنّه يتعامل مع آيات الكتاب الكريم موضعيّاً؛ حيث «يرجع فيه المفسّر إلى موضوعٍ واحدٍ من القرآن الكريم، متتبّعاً ترتيب الآيات في سورها»((المصدر نفسه، الصفحة 40.)).

كما عَبّر بعضهم عن هذا الاتّجاه بـالتفسير الإجمالي((الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 17.))، وإن كان الإجمالي خصوص ما قام على الإجمال والإيجاز والاختصار((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 27.))، بل قد يُسمّى بـالتفسير التقطيعي؛ حيث يقوم المفسّر بقطع الآيات مورد البحث عن الآيات السابقة واللاحقة((الدكتور محمّد علي الرضائي الإصفهاني، منطق تفسير قرآن (2).. روشها وگرايشهاى تفسيرى قرآن، الصفحتان 381 ـ 382.)).

ويستهدف هذا الاتّجاه ـ بحسب الغزّالي ـ شرح «الألفاظ والتراكيب والأحكام»((الشيخ محمّد الغزّالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الصفحة 6.)).

وإذا كان ثمّة اتّفاق عام حول الهدف من وراء ممارسة هذا النوع من التفسير، فهناك تفاوتٌ في الآليّات المتّبعة لتحقيق هذا الهدف، وذلك تبعاً لقناعات المفسّر وموقفه من شرعيّة الأدوات التفسيريّة المتاحة؛ فتراه يلجأ تارةً إلى اللغة، وأخرى إلى الحديث، وثالثةً إلى العقل، إلى غير ذلك من الأدوات المعرفيّة المتاحة.

وإذا كان ثمّة اتّفاق أيضاً على تعريفٍ للتفسير الترتيبي (= التجزيئي = الموضعي) ومقاصده والغايات التي يستهدفها، فلا يكاد يتّفق الباحثون في التفسير الموضوعي إلّا على مغايرته للتفسير الترتيبي. ولعلّ السبب في اتّفاقهم على ذلك من ناحية، واختلافهم في تعريف البديل ـ أو المكمّل ـ من ناحية أخرى: أنّهم أجمعوا على عدم وفاء التفسير الترتيبي بإعطاء القرآن الكريم دوره المناسب في منظومة الحياة، ولكنّهم اختلفوا في تصوّرهم للبديل الذي من شأنه أن يملأ هذا الفراغ.

ولهذا نجد أنّ عنوان التفسير الموضوعي كثيراً ما يكون مشتركاً لفظيّاً بين مختلف الاتّجاهات التي ولجت مضماره، وإن كان بعضهم ـ كالدكتور أحمد رحماني ـ قد حاول تقديم تعريف جامعٍ يشملها جميعاً، ولهذا قال:

«التفسير الموضوعي منهجٌ مستحدثٌ في دراسة القرآن، يستهدف سبر أغوار الموضوعات المختلفة، من اجتماعيّة وأخلاقيّة وكونيّة وغيرها، إمّا من خلال تفسير سورة القرآن باعتبارها كلّاً موحّداً يعبّر عن موضوعٍ واحد، أو من خلال تفسير آيات جُمعت لبناء موضوعٍ تشكّل عناصره الأساسيّة، والغرض فيهما هو الخروج بتصوّر سليم حول الموضوع، أو نظريّة علميّة فيه»((الدكتور أحمد رحماني، مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 26؛ مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 14.)).

بل إنّه أخذ على بعض تعريفات التفسير الموضوعي عدم وفائها بالشمول لمختلف ألوانه، وهو ما عابه مثلاً على تعريف الدكتور الفرماوي والدكتور مصطفى مسلم((المصدر نفسه، الصفحة 13.)).

مع أنّ التعريف الذي سيضطر إلى تقديمه لا بدّ أن يشتمل على ما يشبه الجامع الانتزاعي؛ لأنّ بين هذه المناهج تغايراً حقيقيّاً، وما يجمعها أقرب ما يكون إلى المشترك اللفظي، وهو العنوان، فلا يكون من الضروري ـ والحال هذه ـ أن نحمّل أنفسنا عبء البحث عن تعريف جامعٍ لمختلف ألوان التفسير الموضوعي، فقط لنحوّل الاشتراك اللفظي إلى اشتراك والتقاء حقيقيّين، وهو أمرٌ لا أمل في تحقيقه.

ثمّ إنّ بعض الباحثين قد أورد الكثير من الأصناف والألوان التي يتشعّب إليها التفسير الموضوعي، وذلك وفق تقسيمات واعتبارات مختلفة تخرج عن مهمّة هذه الدراسة((راجع: الدكتور توفيق العلوان، فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحات 281 ـ 480. وكذلك الدكتور محمّد إبراهيم السيّد شريف في دراسته التي ذكر فيها نماذج للتفسير الموضوعي بمختلف ألوانه: الهدائي، الأدبي والعلمي: اتّجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم، الصفحات 328، 433 و504.))، بينما اكتفى آخرون بالقسمة الثنائيّة؛ باعتبار أنّ البحث التفسيري إمّا يتناول موضوعاً واحداً أو موضوعين مرتبطين، وعلى هذا الأساس يكون تارةً تفسيراً موضوعيّاً اتّحاديّاً، وأخرى ارتباطيّاً((راجع: آشنايى با تاريخ تفسير ومفسران، الصفحتان 364 ـ 365؛ محمّد علي الرضائي الإصفهاني، دروس في المناهج والاتّجاهات التفسيريّة للقرآن، الصفحتان 312 ـ 313.)).

وفي المقابل قدّم بعضهم الآخر دراسات نقديّة لمختلف أقسام مدوّنات التفسير الموضوعي، تعريفاً ومنهجاً و…، فعمد إلى إخراج بعض العطاءات عن دائرة التفسير الموضوعي، من قبيل الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم للشيخ محمّد محمود حجازي((علي سراقي، آسيب شناسی تفسير موضوعی، مجلّة معرفت، العدد 107: 105.))، بيد أنّه لم يقدّم تصوّره حول التعريف الصحيح للتفسير الموضوعي ليبرّر به هذا الإقصاء.

وصحيحٌ أنّ تحديد المراد من التفسير الموضوعي رهينٌ في الدرجة الأولى لتحديد المراد من الموضوع، ولكنّنا لم نتعرّض لمعنى الموضوع لغةً؛ بعد أن وقع التسالم على أنّ الموضوع ـ بالمعنى الذي سنبحثه ـ معنى مستحدث وأجنبي عن معناه اللغوي.

وإذا كنّا سنرفض في ثنايا هذه الدراسة إدراج جملة من ألوان التفسير الموضوعي الآتية ضمن المنهج الموضوعي المرتضى والمتبنّى، فإنّنا سندخلها مبدئيّاً من باب الشأنيّة، أي باعتبار أنّ من شأنها الدخول بدواً في مناهج التفسير الموضوعي، وإن تبيّن بعد البحث والتدقيق عدم استيفائها الشروط اللازمة، تماماً كما تدخل بعض المسائل في علم الأصول، وإن تبيّن بعد البحث أنّها ليست دليلاً وعنصراً مشتركاً في الاستنباط، فيكون البحث عنها فيه متمحوراً حول دليليّتها((راجع: السيّد محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، الصفحة 174.))

الموضوع بالمعنى الذي تكون فيه آليات القرآن مادةً للبحث

لم نجد من لجأ إلى هذا التعريف وما يشتمل عليه من ضابطٍ في التمييز، ولكنّه يفي ـ على ما يبدو ـ بإبراز فوارق أساسيّة بين هذا اللون من التفسير الموضوعي وبين غيره من الألوان.

ففي العديد من الأبحاث التي كتبت حول التفسير الموضوعي تمّ التعرّض لحداثة هذا التفسير وعراقته، فنقض أنصارُ عراقته على مدّعي حداثته بوفرة الأبحاث التي قدّمها علماؤنا الأقدمون حول الناسخ والمنسوخ والأقسام والإعجاز في القرآن وغيرها((هناك أمثلة كثيرة على ذلك، راجع مثلاً كلام الدكتور مصطفى مسلم في: مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحتان 20 ـ 21، وكلام الدكتور توفيق العلوان في: فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحة 480.))، الأمر الذي يبرّر لنا الاعتقاد بأنّهم تعاملوا معها بوصفها من صميم بحث التفسير الموضوعي.

ومن جملة الذين صنّفت عطاءاتهم ضمن التجلّيات الأولى للتفسير الموضوعي: قتادة بن دعامة السدوسي (ت118هـ) في (الناسخ والمنسوخ)، علي بن المديني (ت234هـ) في (أسباب النزول)، الجاحظ (ت255هـ) في (إعجاز القرآن)، ابن قتيبة (ت271هـ) في (مشكل القرآن)، أبو عبيد القاسم (ت224هـ) وأبو جعفر النحّاس في (الناسخ والمنسوخ)، الرمّاني (ت386هـ) والخطابي (ت388هـ) والباقلاني (ت403هـ) في (إعجاز القرآن)، الشريف الرضي (ت406هـ) في (مجاز القرآن)، أبو الحسن الواحدي (ت468هـ) في (أسباب النزول)، الجرجاني (ت471هـ) في (إعجاز القرآن)، ابن قيّم الجوزيّة (ت721هـ) في (أقسام القرآن)، الفيروزآبادي (ت817هـ) في (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)، والبقاعي (ت885هـ) في (تناسب الآيات والسور).

وعلى هذا الأساس أفرد بعض الباحثين مبحثاً خاصّاً عرض فيه للكتب المصنّفة في الناسخ والمنسوخ ومجاز القرآن ومشكله وأقسامه وأمثاله بوصفها البذور الأولى للتفسير الموضوعي((محمّد محمود بني الدومي، التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة (أطروحة ماجستير غير منشورة)، الصفحات 37 ـ 46.)).

بل إنّ الدكتور مصطفى مسلم مثّل للتفسير الموضوعي «المشهور في عرف أهل الاختصاص»، والذي «يتتبّع الموضوع من خلال سور القرآن الكريم ويستخرج الآيات التي تناولت الموضوع، وبعد جمعها والإحاطة بتفسيرها يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع من خلال الآيات الكريمة»((مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 27.)) بما كتب في إعجاز القرآن والناسخ والمنسوخ وأحكام القرآن وأمثاله ومجازه، حتّى إنّه اعتبرها «أمثلة ناطقة على أهميّة هذا اللون من التفسير عند السلف الصالح من علماء هذه الأمّة»((المصدر نفسه، الصفحة 28.))، وكذلك فعل قبله الدكتور محمّد حسين الذهبي((الدكتور محمّد حسين الذهبي، التفسير والمفسّرون، ج1، الصفحة 148.)).

وإذا كان ذلك ينطبق على ما كتب في مجال أحكام القرآن الكريم، فإنّه لا ينطبق على البقيّة بحسب تصوّر الدكتور مسلم نفسه عن التفسير الموضوعي المشهور في عرف أهل الاختصاص؛ فإنّ هذا السنخ من الدراسات خارجٌ موضوعاً عن أبحاث التفسير الموضوعي، وبيئته التي ينتمي إليها هي أبحاث علوم القرآن؛ إذ ـ ببساطة ـ يوجد فرقٌ بين بحث الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم مثلاً وبين بحث النفاق في القرآن الكريم؛ لأنّ القرآن الكريم لم يتحدّث عن ظاهرة النسخ ـ بمعناه العلمي الاصطلاحي ـ ولم يتناوله (بحسب تعبير الدكتور مصطفى مسلم)، بل اعتمده ولجأ إليه في جملةٍ من الموارد (بناءً على صحّة دعوى وجود نسخ اصطلاحي في القرآن الكريم)، بينما تعامل مع موضوع النفاق بوصفه مادّةً يبدي موقفه منها، فتناولها من مختلف الأبعاد.

وإذا كان هناك مجالٌ للتمييز بين أبحاث من قبيل الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم وبين أبحاث من قبيل الأقسام أو الأمثال في القرآن الكريم، فإنّ هذا لا يعني إدراج الأولى ضمن أبحاث التفسير الموضوعي لمجرّد ذلك؛ فقد نسلّم بأنّها دراسة موضوعيّة، ولكن ليست كلّ دراسة موضوعيّة داخلة ضمن أبحاث التفسير الموضوعي؛ إذ يشترط قبل ذلك أن تكون دراسة تفسيريّة.

وإذا رمنا المزيد من التدقيق، فإنّنا عندما ندرس موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم بوصفه ظاهرةً أو أسلوباً لجأ إليه القرآن الكريم، فهذا خارجٌ عن مهمّة التفسير الموضوعي؛ لأنّ القرآن الكريم لم يظهر موقفه إزاء ظاهرة النسخ ولم يتناولها.

ولكنّنا إذا أردنا دراسة موضوع حكم الخمر في القرآن الكريم مثلاً، فهذا بالتأكيد داخلٌ ضمن مَدَيات التفسير الموضوعي؛ لأنّ للقرآن الكريم موقفاً واضحاً من ذلك، غاية الأمر أنّنا سنضطرّ في الأثناء إلى التعرّض إلى موضوع نسخ الآيات (بناءً على وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن)، وهذا سيكون بمثابة البحث الضمني، ولكنّ أصل موضوع النسخ ليس من موضوعات التفسير الموضوعي.

إذاً، في هذا المنهج يقع القرآن الكريم نفسه مادّةً للبحث، فيُبحث عن شؤونه وأحواله ومنهجه وأساليبه وما يرتبط بهذا الجانب، دون أن يكون للموضوعات التي طرقها القرآن الكريم دخلٌ في البين. وهذا ما برّر لنا التمييز بين المعنى الأوّل هنا وبين المعنى الخامس القادم.

وقد تنبّه بعضُ الباحثين إلى وجود فرقٍ بين طبيعة الأبحاث المطروقة في كلّ لونٍ من ألوان التفسير الموضوعي، ولهذا اقترح تصنيفها ضمن أبحاث علوم القرآن لا ضمن أبحاث التفسير الموضوعي، معتبراً أنّ «المفسّرين والعلماء السابقين لم يبحثوا في التفسير الموضوعي باعتباره علماً محدّداً له منهجٌ وطريقةٌ وخطّة»((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 38.))، فاعتبرها تمهيداً «للتفسير الموضوعي بالمفهوم الذي نعنيه، حيث قام بعض العلماء بجمع الآيات القرآنيّة التي تندرج ضمن مبحث من مباحث علوم القرآن وإفراد مؤلَّفٍ خاصٍّ بها»((المصدر نفسه، الصفحتان 35 ـ 36.))، وهو ما حسمه باحثٌ آخر، ناسباً إيّاه إلى عموم العلماء، باعتبارهم قد بحثوها ضمن علوم القرآن((الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 53.)).

وعلى هذا الأساس يعتبر الشيخ محمّد هادي معرفت أنّ البحث عن شؤون القرآن خارجٌ عن مهمّة التفسير الموضوعي، ومحلّه علوم القرآن((الشيخ محمّد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب ج2، الصفحة 521 ضمن الطبعة الجديدة من: التمهيد في علوم القرآن، بعد أن غاب هذا البحث عن الطبعة العربيّة الأولى، وتمّت إضافته في الطبعة الفارسيّة والطبعة العربيّة الجديدة، فلاحظ.)). 

الموضوع بمعنى مقصد السورة ومحورها وشخصيتها

وقد يُطلق على هذا التفسير (التفسير الكشفي)((مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 48؛ مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 12.))، وغالباً ما يعبّر عنه ببحث (الوحدة الموضوعيّة) بدل (التفسير الموضوعي).

لقد أبدى جملةٌ من علماء السلف اهتماماً في إبراز التناسب والتناسق القائم بين آيات السورة الواحدة((راجع حول الموضوع وتوضيحه: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن، الصفحة 159.))، وإن كان «يهمله بعض المفسّرين أو كثيرٌ منهم»((بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج1، الصفحة 62.))، وهو بحثٌ متوقّفٌ ـ بطبيعة الحال ـ على القول بتوقيفيّة ترتيب الآيات الكريمة((المصدر نفسه، ج1، الصفحة 64.))، والذي نقل الزركشي في (البرهان)((المصدر نفسه، ج1، الصفحة 323.)) والسيوطي في (الإتقان)((جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن ج1، الصفحة 121.)) إجماع الأمّة عليه. ولهذا قال ابن عاشور في (التحرير والتنوير):

«واتّساق الحروف واتّساق الآيات واتّساق السور كلّه عن رسول الله[ (صلّى الله عليه وآله)]، فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسبٌ في الغرض أو في الانتقال منه، أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتّصل‏»((محمّد بن طاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير ج1، الصفحة 78.)).

وبحسب الشيخ أبي الحسن الشهراباني، فإنّ أوّل من أظهر ببغداد علم المناسبة كان الشيخ أبا بكر النيسابوري (ت324هـ)((البرهان في علوم القرآن ج1، الصفحة 62.)).

ولكنّ الفخر الرازي (544 ـ 606هـ) كان أبرز المشتغلين بذلك، وذلك في تفسيره الشهير (مفاتيح الغيب)، حيث يقول:

«من تأمّل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما إنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته. ولعلّ الذين قالوا: إنّه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك، إلّا أنّي رأيت جمهور المفسّرين معرضين عن هذه اللطائف، غير متنبّهين لهذه الأمور»((الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج7، الصفحة 107.)).

وفطن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط البقاعي (809 ـ 885هـ) في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) إلى المناسبة بين البسملة وموضوع السورة وبين عنوان السورة وموضوعها، فقد «استهدف منذ البداية البحث في التناسب بين سور القرآن وآياته، ممّا جعله ينهج نهجاً متميّزاً يكتشف به حقّاً الوحدة الموضوعيّة في السور القرآنيّة، ويضع يده على العلاقات التي تربط الآيات في السورة الواحدة، والتي تربط السور في القرآن كلّه»((مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 6.)).

وقد اعتَبَر البقاعيُّ نفسَه رائد هذا الفن، حيث يقول: «هذا كتابٌ عجاب رفيع الجناب في فنٍّ ما رأيت من سبقني إليه، ولا عوّل ثاقب فكره عليه»((المصدر نفسه، الصفحة 6، نقلاً عن: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ج1، الصفحة 3.))، مع أنّ الفخر الرازي كان قد سبقه إليه كما رأينا.

ومن أنواع المناسبات التي أشار إليها جلال الدين السيوطي (849 ـ 911 هـ) في كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) تفصيل بعض السور لما أجمل في بعضها؛ فسورة البقرة فيها تفصيل لمعاني سورة الفاتحة، ثمّ فصلت سورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام في معاني سورة البقرة.

وكثيراً ما اعتمد هذا المنهج العلّامةُ محمّد حسين الطباطبائي في (الميزان في تفسير القرآن) دون أن ينظّر له ببحث تقعيدي. يقول (قدّس سرّه):

«والسورة من القرآن تختصّ ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهيّة المتعلّقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها الخارقة، وهذه خاصّة غير الخاصّة التي يختصّ بها مجموع القرآن الكريم، والعدّة من السور، كالعشر والعشرين منها، تختصّ بخاصّة أخرى، وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوّع فيها؛ فإنّها أبعد من احتمال الاتّفاق‏»((السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج10، الصفحة 167 ـ 168.)).

ويقول سيّد قطب في (في ظلال القرآن):

«ومن ثمّ يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أنّ لكلّ سورة من سوره شخصيّة مميّزة، شخصيّة لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حيّ مميّز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي أو عدّة موضوعات رئيسيّة مشدودة إلى محورٍ خاص. ولها جوّ خاص يظلّل موضوعاتها كلّها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معيّنة، تحقّق التناسق بينها وفق هذا الجو»((سيّد قطب، في ظلال القرآن ج1، الصفحة 28.)).

وقد لاقى هذا اللون من الدراسات عنايةً خاصّةً من قبل الباحثين في القرن العشرين، فتناولوا بشكل مفصّل وحدة الموضوع الذي تتكفّل السورة ـ بحسب هذا الرؤية ـ بيانه ومعالجته.

وقد يستوحي الناظر في مقدّمة الشيخ محمّد محمود حجازي المصري على أطروحته حول (الوحدة الموضوعيّة في القرآن) التي تقدّم بها للأزهر سنة 1967م أنّه من أصحاب الاتّجاه الأوّل؛ حيث أفرد بحثاً لطيفاً حول التناسب الموجود بين السور القرآنيّة بالنحو الذي نظّر له الفخر الرازي، إلّا أنّه كان في الواقع تمهيداً منه لطرح معنى جديد يلتئم مع المعنى الخامس الذي سنطرحه، فانتظر.

وممّن عُني بهذا اللون من البحث الشيخ محمّد الغزّالي في كتابه (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم)، والذي سعى فيه إلى تقديم تفسير موضوعي لكلِّ سورة من الكتاب العزيز، «من خلال محاولة رسم صورة شمسيّة لها تتناول أوّلها وآخرها، وتتعرّف على الروابط الخفيّة التي تشدّها كلّها، وتجعل أوّلها تمهيداً لآخرها وآخرها تصديقاً لأوّلها»((نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الصفحتان 5 ـ 6.)).

إذاً، وبحسب هؤلاء، فـالموضوع المأخوذ في التفسير الموضوعي يرجع إلى نظم الآيات بحسب الفخر الرازي((مفاتيح الغيب ج7، الصفحة 107.))، أو إلى المقاصد والأغراض وبيان جامع لغرض من الأغراض الإلهيّة بحسب العلّامة الطباطبائي((الميزان في تفسير القرآن ج10، الصفحتان 167 ـ 168.))، أو شخصيّة السورة القرآنيّة ومحورها المشدودة إليه بحسب سيّد قطب((في ظلال القرآن ج1، الصفحة 28.))، أو الصورة الشمسيّة للسورة بحسب الشيخ محمّد الغزّالي((نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الصفحة 6.)).

 

كلمة لا بدّ منها:

خلصنا إلى أنّه في هذا المنهج تجعل السورة القرآنيّة هي الوحدة الموضوعيّة((دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، الصفحتان 70 ـ 71.))، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تسمية هذا الاتّجاه بالتفسير الموضوعي لا يتواءم كثيراً مع ما يتبادر من هذا المصطلح؛ فقد أشرنا في أوّل البحث إلى وجود مرتكز

معيَّن مفروغ عنه يسمح لنا بالبناء عليه قبل الدخول في التعريفات الاصطلاحيّة. ومن هنا اعتبر الدكتور الحسيني أبو فرحة أنّ التفسير الموضوعي ـ بالمعنى الخامس الوارد في دراستنا ـ هو «الذي ينسبق إلى الذهن عند إطلاق لفظ التفسير الموضوعي»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20، نقلاً عن: الدكتور الحسيني أبو فرحة، الفتوحات الربّانيّة في التفسير الموضوعي ج1، الصفحتان 5 ـ 6.)).

ولا نريد بهذه الملاحظة تخطئة من جعل هذا الاتّجاه ضمن اتّجاهات التفسير الموضوعي؛ إذ قد يقال بأنّ العمليّة اصطلاحيّة لا أكثر، وأنّ تبادر الذهن إلى المعنى الخامس مردّه إلى كثرة استعمال الاصطلاح فيه فحسب، ولكنّنا أردنا التنبيه إلى وجود فارقٍ جوهري بين هذا المعنى وبين المعنى الخامس الشائع، الأمر الذي يدفعنا إلى تسجيل عدّة ملاحظات:

1 ـ إذا أمعنّا النظر في المعنى المطروح هنا للتفسير الموضوعي وفي المعنى الخامس الآتي، ثمّ حاولنا البحث عن معالم تمايز بينهما، فسنقف بسرعة على اختلاف وتمايز على صعيد الأهداف والآليّات.

ولكنّنا قبل ذلك نلاحظ الفارق بينهما على صعيد متعلَّق الدراسة؛ فالتفسير الموضوعي بالمعنى الخامس ـ وكما سنرى ـ يتناول بالبحث موضوعاً تناوله القرآن الكريم واتّخذ منه موقفاً وأبدى تجاهه رؤيةً ونظرة، بينما يتناول المعنى الحالي بالدرس والتحليل بنيةَ السورة وشخصيّتها وصورتها الشمسيّة واتّجاهها ومحورها، وهو أمرٌ أقرب إلى عالم الهيئات والهندسات منه إلى عالم المواد والنظريّات، حيث يتمّ دراسة السورة من ثلاث زوايا: من زاوية الموضوعات والأهداف، من زاوية الأشكال والأبنية: الأفقيّة، الطوليّة والمقطعيّة، ثمّ من زاوية العلاقات((الدكتور محمود البستاني، التفسير البنائي للقرآن الكريم 1: 9.)).

وإذا كانت هذه الدراسات تتناول ـ ضمن ما تتناوله ـ موضوعات السورة، فذلك لرسم صورتها الشمسيّة وبناء هندستها الأفقيّة أو الطوليّة أو المقطعيّة، بهدف معرفة وجهة سيرها، وليس لمعرفة موقف القرآن الكريم من مختلف الموضوعات، خاصّة أنّه لا معنى للحديث عن موقف السورة القرآنيّة بعينها تجاه الموضوع المطروح طالما أنّ الحجيّة منحصرة بموقف القرآن الكريم كلّه، فلا يصحّ القول بأنّ التفسير الموضوعي بمعناه الخامس يدرس موقف القرآن الكريم من الموضوع محلِّ البحث، بينما يدرس المعنى الحالي موقف السورة القرآنيّة، وهو ما ظهر في كلمات بعضهم كما يظهر في النقطة الرابعة القادمة.

وربّما لهذا السبب ذهب أمثال الدكتور عبد الستّار سعيد إلى خطأ إدخال (الوحدة الموضوعيّة) ضمن أبحاث التفسير الموضوعي((الدكتور عبد الستّار سعيد، المدخل إلى التفسير الموضوعي، الصفحتان 25، 33.))، وهو محقٌّ في ذلك، لكن لا لأنّ استخراج هدف السورة أمر التماسيٌّ اجتهادي تختلف فيه الأنظار وعدم صحّة قيام التفسير على الاحتمال؛ لأنّ هذا الإشكال مطّرح، بل لما ذكرناه من أنّ موضوع السورة في الوحدة الموضوعيّة أشبه بما يكون خطّةً ومنهاجاً لبنية السورة، وليس موضوعاً عالجته السورة وأبدت موقفها منه.

وربّما يُستوحى من بعض الدراسات فصلها بين دراسات الوحدة الموضوعيّة وبين دراسات التفسير الموضوعي((آشنايى با تاريخ تفسير ومفسران، الصفحتان 362 ـ 363.)).

وعلى هذا الأساس، فقد نرفض دخول الوحدة الموضوعيّة ضمن أبحاث التفسير الموضوعي، ونعني بذلك الوحدة الموضوعيّة للسورة القرآنيّة، ونوافق على إدخال الوحدة الموضوعيّة للقرآن الكريم، بل إنّ الأخيرة ستكون بنفسها مرادفة للتفسير الموضوعي المنشود.

2 ـ إذا كان الأمر كذلك، فلا جدوى من محاولة تقديم تعريف للتفسير الموضوعي يصدق على كلا النوعين؛ لأنّ اشتراكهما في لفظ الموضوع اشتراكاً لفظيّاً لا يرغمنا من زاوية منهجيّة على اصطناع تعريف شاملٍ أقرب ما يكون إلى الجامع الانتزاعي((مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 16.)).

ولعلّ ما ذكرناه يفسّر لنا هشاشة العديد من التعريفات المقدّمة في هذا المجال؛ إذ إنّها بذلت قصارى جهدها في سبيل تقديم تعريف جامع لكلا النوعين، ولكن دون جدوى.

3 ـ إذا اتّضح ذلك، سيكون واضحاً ضعفُ بعض الإشكالات التي سجّلت على مجموعة من تعريفات التفسير الموضوعي بالمعنى الخامس؛ إذ يبدو أنّ الفارق الذي أبرزناه بين هذين النوعين كان مركوزاً في أذهان جملة من الباحثين،

الأمر الذي حداهم إلى إقصاء النوع الثاني الذي بين أيدينا، باعتبار أنّ مصطلح الوحدة الموضوعيّة أَلْيَق به، وجَعَلَهم يقصرون نظرهم على النوع الخامس، وقدّموا تصوّراتهم حوله باعتباره الأكثر لياقةً بمصطلح التفسير الموضوعي، فأتى مِن بعدهم مَنْ أشكل عليهم بعدم الجامعيّة كما سيظهر لنا واضحاً في الفصول القادمة((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحتان 20، 24؛ الدكتور زياد خليل محمّد الدغامين، منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 15.)).

وقد اتّضح مسبقاً عدم وجاهة هذا الإشكال. ولهذا عاد بعض المستشكلين بنفسه ليميل إلى فصل هذين النوعين وإفراد كلٍّ منهما بتعريف خاصٍّ به((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحتان 28 ـ 29.))، مبرّراً ذلك بأنّ المتبادر من اصطلاح التفسير الموضوعي هو النوع الخامس بحسب تقسيمنا.

والحقيقة هي أنّ المسألة تتعدّى تبرير ذلك بمسألة الإطلاق والتبادر؛ لاختلاف هذين النوعين اختلافاً جوهريّاً في عالم الثبوت (بحسب المصطلح الأصولي)، وهو ما عاد ليقرّه هذا الباحث عمليّاً من خلال تعريفه للوحدة الموضوعيّة للسورة، حيث «منهج البحث قائم والخطّة مرسومة في إطار السورة القرآنيّة بأسلوبها المعجز، ووسائلها وأسباب هدايتها، وطرق معالجتها الفريدة من نوعها لموضوعها وقضاياها، لكنّ الذي على الباحث أن يتوصّل إليه ويكتشفه إنّما هو الموضوع الذي اختصّت به هذه السورة عمّا عداها، وهذه مهمّة في غاية الصعوبة، عزّت على الكثيرين، ولم تتّفق عليها كلمة أكثر الباحثين، فضلاً عن اختلاف المحاولين في تحديد موضوع السورة الواحدة عند تناولها من أكثر من واحد؛ فترى كلّاً منهم قد اختار موضوعاً لها يختلف عمّار اختاره من سبقه أو أعقبه، ممّا زاد الأمر تعقيداً، وجعل الشكّ يقيناً لدى المعارضين»((المصدر نفسه، الصفحتان 30 ـ 31.)).

4 ـ بعد ذلك، نجد خللاً في التمييز بين التفسير الموضوعي بلونه المعروف «المشهور في عرف أهل الاختصاص» ـ وهو اللون الخامس بحسب دراستنا ـ وبين هذا اللون المبحوث عنه هنا على أساس دائرة البحث؛ فقد اعتبر الدكتور مصطفى مسلم أنّ هذا اللون «شبيهٌ باللون الثاني [بحسب دراسته، الخامس بحسب دراستنا]، إلّا أنّ دائرة هذا اللون أضيق من دائرة سابقه؛ حيث يبحث في هذا اللون عن الهدف الأساسي في السورة الواحدة، ويكون هذا الهدف هو محور التفسير الموضوعي في السورة»((مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 28.)).

فقد اتّضح لنا أنّ الفارق بين هذين اللونين أعمق من أن نأطّره بدائرة البحث، بل المبحوث عنه هنا يتناول شخصيّة السورة ـ بحسب تعبير سيّد قطب الذي مثّل الدكتور مصطفى مسلم بعطاءاته ـ وهويّتها وأسلوب تدرجّها في تناول مختلف موضوعات الآيات، أي إنّه يرجع إلى هيئة السورة أكثر من رجوعه إلى مادّتها، بينما يبحث اللون الخامس عن موقف القرآن الكريم إزاء موضوعٍ من الموضوعات.

الموضوع بمعنى محور القرآن الكريم

إلى جانب اللون التفسيري الذي يرمي استخلاص المحور الذي تدور حوله السورة القرآنيّة، برز في الآونة الأخيرة اتّجاهٌ حاول تعميم الأمر إلى القرآن الكريم برمّته. وتأكّد هذا الاتّجاه مؤخّراً بعد انطلاقة التفسير الموضوعي المتمحور حول مقصد السورة ومحورها، حيث وفّر ذلك الأرضيّة المناسبة لانطلاقة هذا البحث، وهو متوقّفٌ على القول بتوقيفيّة ترتيب السور القرآنيّة، وهو ما رجّحه الزركشي مثلاً((البرهان في علوم القرآن ج1، الصفحتان 64، 329.))، وإن ذهب جمهور العلماء إلى كونه اجتهاداً من الصحابة((الإتقان في علوم القرآن ج1، الصفحة 124.)).

وعلى كلّ حال، فالذي بنى على هذه التوقيفيّة وجد نفسه مطالباً بتقديم تدعيم نظري لدعواه، فلجأ إلى البحث عن تناسق خاصٍّ بين السور يفلسف التوقيفيّة.

وتتلخّص عقيدة هذا الاتّجاه بأنّ «كلّ سورة من السور قد تناولت موضوعاً واحداً محدّداً، الذي يشكّل بمجموع السور الوحدةَ الموضوعيّة المتكاملة للقرآن الكريم… هذا الكتاب يتناول القرآن كموضوعٍ واحد ركّز عليه وجمع بين مختلف الموضوعات المتفرّقة، مبيّناً أنّ القرآن يدور حول موضوع التوحيد..»((الدكتور محمود أحمد سعيد الأطرش، الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم والسورة القرآنيّة، الصفحة 10.)).

ومن هنا أطلق أصحاب هذا الاتّجاه على أطروحتهم اسم: الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم، حيث يتمّ إعطاء نظرة عامّة للقرآن الكريم وبيان هدفه الأساسي، الذي هو إيجاد التوحيد السليم، ثمّ إيجاد الأنظمة الحياتيّة التي تخدم هذا الهدف وتحقّقه((المصدر نفسه، الصفحة 17.)).

وقد يُلاحظ على هذا الاتّجاه ـ الذي اعترف أصحابه بوجود اصطلاحين آخرين، هما عبارة عن الثاني والخامس بحسب ترتيبنا ـ أنّه يُمكن إدخاله ضمن الاتّجاه الخامس، فلا يكون اتّجاهاً برأسه؛ لأنّه إذا كان قائماً على أساس بيان نظرة القرآن الكريم العامّة وأهدافه الرئيسيّة، فبإمكاننا أن نجعله موضوعاً من الموضوعات المتعدّدة التي يتناولها الاتّجاه الخامس، فإلى جانب بحثنا عن النبوّة والإمامة والشفاعة و… في القرآن الكريم، نبحث عن أهداف القرآن الكريم الرئيسيّة.

وصحيحٌ أنّ هذه الملاحظة سليمةٌ إلى درجة ما، ولكن يُمكن التخلّص منها باعتبار أنّنا ـ وبحسب هذا الاتّجاه ـ نغوص في القرآن الكريم بحثاً عن أهدافه ومحاوره العامّة وقبل أن نضع إصبعنا على هدفٍ أو محورٍ ما بعينه، بخلاف ما نفعله في الاتّجاه الخامس، حيث نقوم بتحديد الموضوع أوّلاً ـ ولو كان القرآن الكريم نفسه منشأ التحديد ـ ، ثمّ نغوص في القرآن الكريم مسكونين بهدف البحث عن موقفه من هذا الموضوع المحدّد.

أو نقوم بالتمييز بينهما على أساس درجة وضوح الموضوع الذي يطرحه القرآن الكريم؛ حيث إنّ موضوع البحث في الاتّجاه الخامس عادةً ما يكون موضوعاً طرحه القرآن الكريم في مختلف آياته وسوره على المستوى اللفظي الواضح، فنقوم بجمع تلك الآيات لاستخلاص موقف كاملٍ متكامل للقرآن الكريم من ذلك الموضوع المحدَّد، بينما نسعى في هذا الاتّجاه إلى استكشاف الموضوع الواحد الذي تدور حوله رحى آيات القرآن الكريم بأسرها؛ فهو غير واضح لدينا مسبقاً، أو إذا اتّضح لدينا ـ لسببٍ ما ـ قبل عمليّة البحث، فلا يُمكن على كلّ حال دعوى أنّ درجة وضوحه تماثل درجة وضوح الموضوعات التي يطرحها القرآن الكريم ابتداءً ويقوم بمعالجتها وإبداء الموقف منها. ولكنّ هذا التمييز لا ينطبق على التفسير الموضوعي بالمعنى الذي أضافه الشهيد الصدر؛ إذ غالباً ما تكون موضوعات التجربة البشريّة غير واضحة على صعيد الألفاظ القرآنيّة.

الموضوع بمعنى المصطلح القرآني

وقد يُطلق التفسير الموضوعي على الدراسات التي تتتبّع مصطلحاً قرآنيّاً بوصفه اصطلاحاً دالّاً على معنى ما، لا بوصفه مسألة من المسائل التي طرحها القرآن الكريم.

فالمفسّر هنا «يبقى مع المفردة القرآنيّة التي اختارها، ويتابع معناها في معاجم اللغة واشتقاقاتها وتصريفاتها في القرآن، ويلاحظ ما طرأ على وضع هذه اللفظة القرآنيّة من تغييرات في آيات القرآن، ويحاول أن يعلّل ذلك، ثمّ يستخرج لطائف ودلالاتٍ من سيره مع هذا المصطلح القرآني، ويلتفت إلى الدلالات العامّة ذات الأبعاد الواقعيّة التي تهمّ مسلمي هذا العصر»((التفسير الموضوعي بين النظريّةوالتطبيق، الصفحة 54.)).

ولعلّ أوّل من طرق هذا الباب مقاتل بن سليمان البلخي (ت150هـ) في (الوجوه والنظائر).

والمراد من الوجوه: المعاني المختلفة للّفظ القرآني في مواضعه من القرآن الكريم، ومن النظائر: المواضع القرآنيّة المتعدّدة للوجه الواحد، والتي اتّفق فيها معنى اللفظ، فيكون معنى اللفظ في هذه الآية نظيرَ معنى اللفظ في الآية الأخرى.

وإن شئت قلت: إنّ علم الوجوه والنظائر يقضي بتتبّع موارد اللفظ القرآني الواحد في القرآن الكريم من أجل استخلاص وجوهه والمعاني التي جاء فيها. وهذا نحوٌ من أنحاء التفسير الموضوعي.

وجاء بعد مقاتل بن سليمان: أبو علي الحسين بن واقد المروزي (ت159هـ) في كتابه (وجوه القرآن)، هارون بن موسى الأعور (ت.ح170هـ) في (الوجوه والنظائر)، يحيى بن سلام (ت200هـ) في كتاب (التصاريف)، أبو عبيدة (ت206هـ) في (مجاز القرآن)، أبو زكريّا الفرّاء (ت207هـ) في (معاني القرآن)، أبو بكر السجستاني (ت330هـ) في غريب القرآن، الدامغاني (ت478هـ) في (إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم)، الراغب الإصفهاني (ت502هـ) في (المفردات في غريب القرآن) الذي تتبّع فيه مادة الكلمة القرآنيّة وبيّن دلالاتها في مختلف الآيات، ابن الجوزي (ت597هـ) في (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)، وابن العماد (ت887هـ) في (كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر).

ومن الدراسات المعاصرة في هذا المضمار كتاب (التحقيق) للعلّامة المصطفوي، والذي تتبّع فيه موارد اللفظ القرآني، محاولاً إرجاع مختلف المعاني التي ورد فيها إلى معنى واحدٍ جامع متضَمَّنٍ فيها.

ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذه الدراسات أقرب إلى العطاءات اللغويّة منها إلى العطاءات التفسيريّة، أو قل: هي خطوة أولى ضروريّة للعطاء التفسيري. لذا، فإنّ إدراجها ضمن مباحث التفسير الموضوعي ليس موضع إجماع الباحثين، بل شذّ من اعتبرها ضمنها.

وعلى هذا الأساس ناقش الدكتور زياد الدغامين في وجاهة إدراجها ضمن مباحث لتفسير الموضوعي، وذلك لعدّة أسباب:

1 ـ إنّ البحث عن مفردة قرآنيّة واستخداماتها في القرآن لا يتأتّى لجميع مفردات القرآن؛ باعتبار أنّ بعض الألفاظ ورد مرّةً واحدة، من قبيل: لفظ مسخ ومسد وأمشاج.

2 ـ إنّ البحث عن لفظ ما واستخدامه في القرآن لا يقصد منه التفسير الموضوعي غالباً، بل التعرّف بجلاء على معانيه الدقيقة من خلال الاستعمال القرآني.

3 ـ اختلاف غاية هذا النوع من الدراسات عن الغايات التي يتوخّاها التفسير الموضوعي.

4 ـ إفضاء هذه الدراسات إلى التجزيئيّة؛ حيث إنّها لا تُعطي تصوّراً شموليّاً عن موضوعات القرآن الكريم((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحتان 14 ـ 15.)).

نعم، نحن نوافق على الإشكال من ناحية اختلاف الغايات، ولكنّ الإشكال الأوّل ليس في محلّه؛ لأنّ دراسة موضوع المسخ في القرآن الكريم دراسة موضوعيّة بالمعنى المنشود سيواجه ـ إلى جانب وكذلك سائر الموضوعات التي لم يتعرّض لها القرآن الكريم إلّا مرّة واحدة ـ المشكلة نفسها، فهل سيكون ذلك داعياً إلى إخراج التفسير الموضوعي بمعناه المنشود عن أبحاث التفسير الموضوعي؟!

ولهذا، من الممكن إدراج الدراسات التي تتناول المصطلح القرآني والمعاني التي ورد فيها اللفظ ضمن الخطوات اللازمة أحياناً للتفسير الموضوعي المنشود، لكن لا على نحو الدوام، دون اعتبارها برأس نوعاً أو لوناً من ألوان التفسير الموضوعي.

وما يبرّر لنا ذلك هو أنّ الحاجة تستدعي منّا أحياناً أن ندرس موارد إطلاق اللفظ في القرآن الكريم ونحوَ استعمالاته من أجل الخروج بصورة واضحة عن المراد منه، وذلك لكي تكون الصورة التي نخرج بها عن الموقف القرآني منسجمة مع الاستعمال القرآني؛ حيث يشترط في التفسير الموضوعي القائم على دراسة الموضوع في مختلف الآيات أن يخرج بنتيجة لا تتعارض مع كلّ موردٍ من موارد آحاد الآيات كما سنرى في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

الموضوع بمعنى المسألة المطروحة في رحاب القرآن

التفسير الموضوعي المشهوري

بعد إقصائنا مباحثَ الناسخ والمنسوخ وأخواتها من مباحث علوم القرآن عن دائرة التفسير الموضوعي، تبقى نماذج أخرى ادّعي تشكيلُها البذرةَ الأولى للتفسير الموضوعي، من قبيل حديث الجاحظ عن النار في القرآن الكريم((أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، الصفحة 98 وما بعد.))، وغير ذلك من الأبحاث والدراسات.

وإذا كان تقييم بعض الدراسات ومدى استيفائها للضوابط التي تدخلها ضمن دائرة التفسير الموضوعي أمراً غير يسير، فلا يخفى على الباحث أنّ ما دوّن في آيات الأحكام هو نحوٌ من أنحاء التفسير الموضوعي؛ لأنّه يهدف إلى جمع الآيات القرآنيّة المتعلّقة بموضوع فقهي معيَّن.

وممّا كتب في هذا المجال: (أحكام القرآن) للشافعي (ق3)، (آيات الأحكام) للجصّاص (ق4)، (أحكام القرآن) للكياهراسي (ق5)، (فقه القرآن) للراوندي (ق6)، (آيات الأحكام) لابن العربي (ق6)، (آيات الأحكام) للجرجاني (ق10)، (زبدة البيان) للمقدّس الأردبيلي (ق10)، (آيات الأحكام) للاسترآبادي (ق11)، (مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام) للكاظمي (ق11).

ولكنّ هذا الأمر لا يقتصر على العطاءات القرآنيّة الفقهيّة، وإن كان تجلّى فيها بوضوح أكبر، ولكنّه على كلّ حال قد تجلّى في (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي، من قبيل معالجته لموضوع المعاد في القرآن الكريم((التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة، الصفحة 62 وما بعد.)).

أو حتّى في متفرِّق تراث السلف، من قبيل ما ذكره ابن هشام الأنصاري (708 ـ 761هـ) في كتابه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) عن وحدة القرآن الكريم كلّه؛ حيث يقول: «قالوا: وإنّما صحَّ؛ لأنّ القرآن كلّه كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾((سورة الحجر: الآية 6.))، وجوابه: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾((سورة القلم: الآية 2.))»((ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ج1، الصفحة 217.)).

ناهيك عن ذلك، وبعيداً عمّا ورد في تراثتا الروائي ممّا يُمكن أن يكون إشعاعاً لهذا اللون من التفسير((راجع: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، نفحات القرآن، ج1، الصفحات 12 ـ 15.))، فإنّ من غير الممكن تجاهل ما اشتملت عليه المجاميع الحديثيّة عند الإماميّة، خاصّةً (بحار الأنوار) للعلّامة المجلسي (ت1110هـ)، والذي صدّر أبوابه الحديثيّة بذكر الآيات القرآنيّة المتعلّقة بذلك الموضوع.

ومن باب المثال، فقد استخرجنا عشوائيّاً من كتاب (البحار) موضوع (درجات الإيمان وحقائقه)((الشيخ محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج69، الصفحة 154. وانظر حول عطاء المجلسي: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، نفحات القرآن ج1، الصفحات 16 ـ 17.))، وقبل أن يورد العلاّمة المجلسي الروايات الواردة في هذا الباب، ذكر الآيات التالية: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾((سورة آل عمران: الآية 163.))، ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾((سورة الأنعام: الآية 83.))، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾((سورة الأنعام: الآية 132.))، ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾((سورة يوسف: الآية 76.))، ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾((سورة الإسراء: الآية 21.))،

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾((سورة الأحقاف: الآية 19.))، ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ﴾((سورة الواقعة: الآية 7 ـ 39.))، ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾((سورة الواقعة: الآية 88 ـ 94.))، ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾((سورة الحديد: الآية 10.))،﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾((سورة المجادلة: الآية 11.))، ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾((سورة الحشر: الآية 8 ـ 10.)).

إلّا أنّ هذا لا يمنعنا من التأريخ لمرحلة جديدة دخلها التفسير الموضوعي في مطلع القرن العشرين؛ لأنّ هذه الحقبة بالذات هي التي شهدت التنظير الجدّي لهذا الاتّجاه، بعد أن كانت عطاءات تطبيقيّة مجرّدة عن روح التنظير والتقعيد. وحتّى بعض التفاسير العصريّة المرموقة التي تجلّى فيها هذا الاتّجاه بشكل ملموس، لم تكن بعدُ قد دخلت مرحلة التنظير، من قبيل تفسير (المنار) للشيخ محمّد عبده.

أمّا العوامل التي وقفت خلف اهتمام المسلمين بهذا اللون من التفسير في العصر الحديث فعديدة، ونحن ملخّصون هنا ما ذكره الدكتور صلاح الخالدي:

1 ـ الطبيعة العامّة لهذا العصر، حيث انتشر الكفر وفشت الجاهليّة الحديثة، وشعر المسلمون بالحاجة إلى اللجوء إلى القرآن الكريم.

2 ـ الوضع العام المحزن للمسلمين في هذا العصر، حيث شهد هذا العصر انحسار الإسلام عن واقع المسلمين، الأمر الذي دعا العلماء إلى العودة إلى القرآن الكريم ودعوة المسلمين إليه.

3 ـ مواكبة التطوّر العلمي المعرفي في هذا العصر، حيث سادت الدراسات المنهجيّة، الأمر الذي دعا المسلمين إلى مماثلتها من القرآن الكريم.

4 ـ مساعدة ما صدر من أعمال علميّة موضوعيّة ومعجميّة عامّةٍ الباحثينَ في القرآن على الوقوف على موضوعات القرآن.

5 ـ التفات أقسام التفسير في الدراسات العليا في الكليّات الشرعيّة والجامعات الإسلاميّة إلى أهميّة الدراسات الموضوعيّة القرآنيّة((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحتان 49 ـ 50، وراجع: أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زادة، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحتان 287 ـ 288.)).

وربّما لا نكون مبالغين إذا قلنا بأنّ المعنى الأكثر شيوعاً للتفسير الموضوعي هو هذا المعنى الذي سنتطرّق إلى تعريفه والحديث عنه، حتّى راح جملةٌ من الباحثين في التفسير الموضوعي يقدّمون تعريفاتٍ تستهدف بالدرجة الأولى التعريف بهذا اللون بالذات، ولو قصرت عن شمول غيره، الأمر الذي جعلهم عرضةً للنقد((انظر على سبيل المثال نقد الدكتور الدغامين لتعريف الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم في: منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 13.)).

وقبل أن نتعرّض لتعريف هذا اللون من ألوان التفسير الموضوعي، نشير باختصار إلى أنّه من المبرَّر الاعتقاد بأنّ إحدى محاولاته الرائدة كانت محاولة الدكتور محمّد عبدالله درّاز في أطروحته التي تقدّم بها إلى جامعة السوربون ودافع عنها في 15/12/1947م، بعد أن كان قد بدأ بكتابتها سنة 1941م، وقد نشرت بالفرنسيّة عام 1950م من قبل مشيخة الأزهر تحت عنوان (La Morale Du Coran)، أو (دستور الأخلاق في القرآن) بحسب الترجمة العربيّة الصادرة سنة 1973م بترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين.

حتّى إنّنا اعتبرنا في الفصل القادم المخصّص لدراسة أطروحة الشهيد الصدر أنّ المنهج الصدري الجديد كان قد تجلّى في أطروحة الدكتور محمّد درّاز من حيث اشتماله على عنصر مهمٍّ جدّاً ركّز عليه الشهيد الصدر، وهو عنصر التشبّع بالتجربة البشريّة وحملها على القرآن الكريم للتوحيد بينهما في سياقٍ واحد.

والمنقول أنّ الشهيد الصدر كان يواكب كتابات الدكتور درّاز؛ فلعلّ اطّلاعه على أطروحته ساهم في بلورة الفكرة لديه قبل أن يقوم بالتنظير لها ببضع محاضرات.

كما إنّ من المحطّات المهمّة في هذا المجال تجربة الشيخ محمّد محمود حجازي في أطروحته حول (الوحدة الموضوعيّة في القرآن) التي تقدّم بها للأزهر سنة 1967م.

عوداً على بدء، فقد اعترف أصحاب التفسير الموضوعي بمعناه الثاني بوجود معانٍ أخرى له، منها ما أسماه بعضهم: التفسير التجميعي((مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 48؛ مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 15.)) أو المنهج التجميعي التكاملي للموضوع الواحد من القرآن((الدكتور أحمد جمال العمري، دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، الصفحتان 72 ـ 73.))؛ فها هو الغزّالي صاحب الاتّجاه الثاني يقول:

«وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعى لم أتعرّض له، وهو تتبّع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه، وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثيرٍ من القضايا على هذا الأساس»((نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الصفحة 6.)).

وسنذكر في ما يلي أبرز تعريفات التفسير الموضوعي((راجع تعريفات أخرى لم نذكرها في: فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحات 30، 33، 34، 36، 37، 38، 39، 40 و43.))؛ حيث سنلجأ إلى ما يشبه التعريف بالمنهج بدل التعريف بمعناه العلمي؛ لأنّ العديد من الباحثين لم يقدّموا بحثاً حول التفسير الموضوعي في جانبه النظري، ولكنّ ذلك لن يمنعنا من الإشارة إلى تصوّراتهم، دون الدخول في دراستها.

وأبرز هذه التعريفات:

تعريف الشيخ محمود شلتوت:

جاء في بعض كلمات الشيخ محمود شلتوت توضيحٌ وافٍ لهذا المنهج؛ ففيه «يعمد المفسّر أوّلاً إلى جمع الآيات التي وردت في موضوعٍ واحد، ثمّ يضعها أمامه كمواد يحلّلها ويفقه معانيها ويعرف النسبة بين بعضها وبعض، فيتجلّى له الحكم ويتبيّن المرمى الذي ترمي إليه الآيات الواردة في الموضوع، وبذلك يضع كلَّ شيء موضعه، ولا يُكرِه آيةً على معنى لا تريده، كما لا يغقل عن مزية من مزايا الصوغ الإلهي الحكيم. وهذه الطريقة في نظرنا هي الطريقة المثلى، وخصوصاً في التفسير الذي يُراد إذاعته على الناس بقصد إرشادهم إلى ما تضمّن القرآن من أنواع الهداية، وإلى أنّ موضوعات القرآن ليست نظريّات بحتة يشتغل بها الناس من غير أن يكون لها مثل واقعيّة فيما يحدث للأفراد والجماعات من أقضية ويتّصل بحياتهم من شؤون»((دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، الصفحة 63، نقلاً عن: الشيخ محمود شلتوت، الإسلام والعلاقات الدوليّة، الصفحة 10.)).

تعريف الدكتور محمّد عبدالله درّاز:

ما سنذكره هنا ليس تعريفاً قدّمه الدكتور محمّد درّاز (1894 ـ 1958م) للتفسير الموضوعي، بل هو تعريفٌ رسمه لمنهجه في دراسته المهمّة (دستور الأخلاق في القرآن)، حيث قال:

«فلمّا كنّا أوّلاً لا نرى من اللازم أن نستوعب النصوص والآيات ذات الاتّصال بالموضوع، فقد اكتفينا بأنْ سقنا بعضاً منها ذا دلالة كافية على القواعد المختلفة للسلوك، ثمّ حاولنا من بعد ذلك أن نتجنّب التكرار بقدر الإمكان. واتّبعنا أخيراً نظاماً منطقيّاً بدلاً من التزام نظام السور.. أو النظام الأبجدي للمفاهيم..؛ فالنصوص في عملنا هذا مجمّعة في فصول بحسب نوع العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها، وقد ميّزت في داخل كلّ طائفة عدّة مجموعات صغيرة من النصوص، وضعنا لها عنواناً فرعيّاً يوجز التعليم الخاص الذي يُستقى منها»((الدكتور محمّد عبدالله درّاز، دستور الأخلاق في القرآن، الصفحة 85.)).

تعريف الشيخ أمين الخولي:

ربّما اعتبر الشيخ أمين الخولي (1895ـ 1966م) من أوائل المنادين باتّباع المنهج الموضوعي في الدراسات القرآنيّة، وإن كان للحديث عن مدى انسجام منهجه مع المنهج السائد في التفسير الموضوعي مجالٌ؛ إذ نجد نقاشاً في ذلك من قبل بعض الباحثين. وربّما أمكن الإشارة إلى منهجه في ما لخّصته عنه تلميذته الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، وهو أقرب إلى تعريف المنهج منه إلى تعريف العلم:

أ ـ الأصل في المنهج التناول الموضوعي لما يراد فهمه من كتاب الإسلام، ويبدأ بجمع كلّ ما في الكتاب المحكم من سور وآيات في الموضوع المدروس.

ب ـ في ما يتعلّق بفهم ما حول النصّ: ترتّب الآيات فيه على حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان، كما يُستأنس بالمرويّات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية، دون أن يفوتنا ما تكون العبرة فيه بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.

ج ـ في ما يتعلّق بفهم دلالات الألفاظ: فاللغة العربيّة هي لغة القرآن، فيتمّ التماس الدلالة اللغويّة الأصيلة التي تعطينا حسّ العربيّة للمادّة في مختلف استعمالاتها الحسّيّة والمجازيّة، ثمّ يُخلَص إلى لمح الدلالة القرآنيّة باستقراء كلّ ما في القرآن من صيغ اللفظ، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة، وسياقها العام في القرآن كلّه.

د ـ أمّا في ما يتعلّق بفهم أسرار التعبير، فنحتكم إلى سياق النصّ في الكتاب المحكم، ملتزمين ما يحتمله نصّاً وروحاً. ثمّ تُعرض عليه أقول المفسّرين، فيُقبل ما يقبله النصّ، ويُتحاشى ما أقحم على كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليّات وشوائب الأهواء المذهبيّة وبدع التأويل((الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، التفسير البياني للقرآن الكريم، ج1، الصفحتان 10 ـ 11.)).

تعريف الشيخ محمّد محمود حجازي:

أمّا الشيخ محمّد محمود حجازي فنجده في بحثه حول (الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم) ينهي مقدّمة أطروحته ـ والتي شرح فيها الوحدة الموضوعيّة المبنيّة على التناسب القائم بين آيات السور الواحدة ـ بقوله:

«أمّا الكلام عن جمع الآيات التي في معنى واحد وجعلها تحت عنوان واحد، وتفسيرها تفسيراً منهجيّاً موضوعيّاً، فذلك منهجٌ جديدٌ لكليّة أصول الدّين.. أمّا جمع الآيات التي في موضوع واحد وترتيبها حسب النزول، مع الوقوف على أسباب النزول ودراستها دراسة منهجيّة موضوعيّة كاملة، لتعطينا موضوعاً واحداً له وحدة موضوعيّة متكاملة متناسقة لا تباين فيها ولا اختلاف، حتّى تلتقي جميع هذه النصوص كلّها في مصبٍّ واحدٍ، مع التعرّض لمناسبة الآيات في سورها، فلم يتعرّض لها أحدٌ من المفسّرين القدامى»((الدكتور محمّد محمود حجازي، الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم، الصفحتان 24 ـ 25.)).

ولهذا اعتبر أنّ المراد من الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم: «البحث عن القضايا الخاصّة التي عرض لها القرآن الكريم في سوره المختلفة ليظهر ما فيها من معانٍ خاصّة تتعلّق بالموضوع العام الذي نبحثه؛ لنحقّق الهدف، وهو الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحتان 33 ـ 34.)).

وقد بنى الشيخ حجازي نظريّته على دعائم أربع:

أ ـ تكرار الموضوع الواحد في القرآن الكريم((المصدر نفسه، الصفحة 35.)).

ب ـ ذكر الموضوع غير تام في السورة((المصدر نفسه، الصفحة 67.)).

ج ـ كمال الوحدة الموضوعيّة وتناسقها في جميع السور التي تكرّر فيها الموضوع((المصدر نفسه، الصفحة 93.)).

د ـ عدم كمال الوحدة الموضوعيّة بالنسبة لكلّ سورة ذكر فيها الموضوع على حدة((المصدر نفسه، الصفحة 111.)).

تعريف الدكتور عبد الحي الفرماوي:

ومن تعريفات منهج التفسير الموضوعي المبكرة ما تقدّم به الدكتور عبد الحي الفرماوي حيث عرّفه بقوله:

«اسم التفسير الموضوعي اصطلاحٌ مستحدثٌ أطلقه العلماء المعاصرون على جمع الآيات القرآنيّة ذات الهدف الواحد التي اشتركت في موضوع ما، وترتيبها حسب النزول ما أمكن ذلك، مع الوقوف على أسباب نزولها، ثمّ تناولها بالشرح والبيان والتعليق والاستنباط، وإفرادها بالدرس المنهجي الموضوعي الذي يبيّن الباحث معه الموضوع على حقيقته، ويجعله يدرك هدفه بسهولة ويسر، ويحيط به إحاطة تامّة تمكّنه من فهم أبعاده والذود عن حياضه»((مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 38 ؛ التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 22، كلاهما نقلاً عن: الدكتور عبد الحي الفرماوي، البداية في التفسير الموضوعي.)).

وقد سجّل عليه الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم عدّة ملاحظات يُمكن عرضها بالنحو التالي:

أ ـ قصور التعريف عن تقديم توضيح مستوفٍ للمنهج الموضوعي الذي تحدّث عنه.

ب ـ عدم صحّة ما جاء في التعريف من الوزن بميزان العلم الصحيح، باعتبار أنّ الآيات هي ميزان الأفكار والتصوّرات البشريّة. وهو محقٌّ في ذلك؛ إذ لا مرجع في قوله: «وزنها» سوى إلى الآيات الكريمة، فيكون الإشكال في محلّه.

ج ـ إنّ بعض ما ذكره في التعريف يشترك فيه التفسير الموضوعي مع التفسير التحليلي أو البياني أو غيرهما، على أساس أنّه يتمّ فيها أيضاً جمع الآيات وترتيبها ومعرفة أسباب نزولها وتناولها بالشرح والبيان والتعليق والاستنباط.

ولكنّ الحقّ أنّ الدكتور الفرماوي تحدّث عن «جمع الآيات القرآنيّة ذات الهدف الواحد التي اشتركت في موضوع ما»، ولم يتحدّث عن جمع الآيات مطلقاً ليشترك بذلك التفسير الموضوعي مع غيره.

إضافةً إلى أنّ الهدف من جمع الآيات في التفسير الموضوعي يختلف عنه في غيره كما سنرى لدى حديثنا عن فارق التفسير الموضوعي عن تفسير القرآن بالقرآن.

تعريف الشيخ جعفر السبحاني:

أمّا الشيخ جعفر السبحاني، فيلخّص عمليّة التفسير الموضوعي في «جمع كلّ الآيات المتعلّقة بمفهوم معيّن من المفاهيم وموضوع معيّن من المواضيع في مكان واحد، ثمّ تصنيف هذه الآيات، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاتّخاذ نظرة واحدة متكاملة وفكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات»((الشيخ جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن، ج1، الصفحة 15.)).

تعريف الشيخ عبدالله جوادي الآملي:

يرى الشيخ عبدالله جوادي الآملي أنّ «التفسير الموضوعي يتولّى بحث مواضيع خاصّة حلّلها القرآن».

وبعد حديثه عن اعتماد التفسير الموضوعي على الترتيبي يذكر أنّ المفسِّر «بعد التعرّف على مضمون الآيات يأتي إلى التفسير الموضوعي برأسمال التفسير الترتيبي، فيختار موضوعاً من المواضيع ويبحث حوله، أي يقوم بجمع آيات من القرآن تحوي هذا الموضوع ويرتّبها، ثمّ يقوم بجمع وترتيب الروايات الواردة في ذلك المجال. وفي المرحلة النهائية يقوم بترتيب ثالث لما تحصّل لديه من الآيات والروايات، حتى يستطيع تقديم ذلك بوصفه رأي الإسلام والقرآن والعترة»((الشيخ عبدالله جوادي الآملي، جمال المرأة وجلالها، الصفحتان 37 ـ 38.)).

وسنرجع مجدّداً إلى تعريف الشيخ الآملي في الفصل الثاني لدى حديثنا عن اعتماد مصادر الإسلام غير القرآنيّة في التفسير الموضوعي.

تعريف الدكتور زاهر الألمعي:

لخّص الدكتور زاهر بن عواض الألمعي خطوات هذا التفسير في «ذكر الموضوع، ثمّ جمع الآيات المتفرّقة في سور القرآن ممّا له علاقة به، سواءٌ اشتركت معه في اللفظ والمعنى أو ارتبطت بالموضوع ارتباطاً قويّاً ولو من بعض الوجوه»((دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 9.)).

وهو ما يتكرّر منه أثناء حديثه عن أهميّة التفسير الموضوعي؛ حيث يظهر منه أنّ عمليّة التفسير الموضوعي تقتضي «التوفّر على موضوع واحد معيّن وتتبّع موارده ومآخذه في القرآن كلّه ـ مكّيِّه ومدنيِّه ـ لتجلية جوانبه كلّها»((المصدر نفسه، الصفحة 16.)).

وقد لاحظ عليه الدكتور توفيق العلوان عدّة ملاحظات، نكتفي منها باثنتين:

منها: عدم ذكره العلم، بعد إطباق السلف والخلف على تعريف التفسير عموماً بأنّه علم.

ومنها: أنّ ما ذكره عبارة عن منهج البحث في التفسير الموضوعي وليس تعريفاً له((فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحتان 31 ـ 32.)).

تعريف الدكتور محمّد محمّد:

عرّف الدكتور محمّد عبد السلام محمّد منهج التفسير الموضوعي بأنْ «يُختار موضوعٌ من الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم، فتجمع الآيات والسور التي وردت بشأنه، ثمّ تفسّر على نحوٍ يضمّ أجزاءها ويجمع متفرّقَها ويربط بعضها ببعض، فتكتمل بذلك صورة الموضوع؛ إذ إنّ القرآن الكريم يفسّر بعضه بعضاً. هذا النوع لم نجد من عني به من الأقدمين، وإنّما وجدت جهود متأخّرة في الرسائل العلميّة تقدّم طرفاً منه»((الدكتور محمّد عبد السلام محمّد، دراسات في القرآن الكريم من التفسير الموضوعي، الصفحة 22.)).

تعريف الدكتور الحسيني أبو فرحة:

اعتبر الدكتور الحسيني أبو فرحة أنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاق لفظ التفسير الموضوعي هو: «بيان الآيات القرآنيّة ذات الموضوع الواحد، واستيفاء الموضوع بما يُضاف إلى الآيات من سنّة نبويّة شريفة في نفس الموضوع، وترتيب هذه النصوص بحيث تشكّل موضوعاً واحداً يغطّي جوانبه المختلفة»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20، نقلاً عن: الدكتور الحسيني أبو فرحة، الفتوحات الربّانيّة في التفسير الموضوعي، ج1، الصفحتان 5 ـ 6.)).

وقد أخذ عليه الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم أنّه ليس دقيقاً في إعطاء الصورة الواضحة للتفسير الموضوعي؛ لأنّ بيان الآيات ذات الموضوع الواحد مستوفاةً بالأحاديث لا يخرج عن كونه تفسيراً بالمأثور.

إضافةً إلى أنّ ما أخذه في التعريف من ترتيب النصوص ليس ركناً من أركان التفسير الموضوعي، بل هو عامل مساعد على البحث والتدبّر في الآيات((المصدر نفسه، الصفحة 21.)).

تعريف الدكتور أحمد السيّد الكومي:

عرّف الدكتور أحمد السيّد الكومي والدكتور محمّد أحمد يوسف القاسم التفسير الموضوعي بأنّه عبارة عن «بيان الآيات القرآنيّة ذات الموضوع الواحد وإن اختلفت عباراتها وتعدّدت أماكنها، مع الكشف عن أطراف ذلك الموضوع حتّى يستوعب المفسّر جميع نواحيه، ويلمّ بكافّة أطرافه، وإن أعوزه ذلك لجأ إلى التعرّض لبعض الأحاديث المناسبة للمقام لتزيدها إيضاحاً وبياناً»((الدكتور أحمد السيّد الكومي والدكتور محمّد أحمد يوسف القاسم، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحتان 16 ـ 17؛ التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 24، نقلاً عنه.)).

وسجّل عليه الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم ما يمكن حلّه إلى نقاط:

أ ـ عدم شمول التعريف للتفسير الموضوعي بمعنى الوحدة القرآنيّة.

ب ـ إنّه يمكن تفسير الآيات المتعلّقة بموضوع واحد عبر أحد أنواع التفاسير الأخرى ـ الإجمالي، التحليلي والمقارن ـ ومع ذلك، فقد لا يتحقّق الغرض الخاص المرجو تحقيقه من منهج التفسير الموضوعي.

ج ـ إنّ الإلمام بأطراف الموضوع يحتاج إلى النظر في كلّ الأحاديث الواردة فيه، ولا يُكتفى بالنظر في بعضها، إلى جانب المعارف الأخرى الضروريّة((المصدر نفسه، الصفحة 24.)).

تعريف الدكتور مصطفى مسلم:

لم يقدّم الدكتور مصطفى مسلم تعريفاً خاصّاً به، وإنّما استعرض تعريفات من سبقه((من قبيل تعريف الشهيد الصدر، لكن دون أن يسمّيه، بل دون أن يشير إليه في مصادر دراسته، مع أنّه كان ناظراً إليه في كتابه.))، ثمّ رجّح تعريف التفسير الموضوعي بأنّه: «علمٌ يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنيّة من خلال سورة أو أكثر»، وقد برّر ترجيحه هذا التعريف بسبب «خلوّه عن التكرار، ولإشارته إلى نوعيه الرئيسيّين»((مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 16.))، أي: التفسير الموضوعي بالمعنى الخاص، والتفسير الموضوعي بمعنى الوحدة القرآنيّة.

وقد اعتبر الدكتور زياد الدغامين هذا التعريف أجمع هذه المعاني وأشملها((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 14.)).

ولكن إلى جانب الإشكالات الجزئيّة التي أوردها الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، والتي ترجع إلى عدم الجامعيّة وعدم المانعيّة((راجع: التفسير الموضوعي في كفّتي الميزان، الصفحتان 26 ـ 27.))، نضيف إشكالاً مهمّاً لم يذكره، وهو أنّ أحد أسباب ترجيح هذا التعريف كان إشارته إلى نَوْعَي التفسير الموضوعي الرئيسَيْن كما قلنا.

ولكنّ التفسير الموضوعي بمعنى الوحدة الموضوعيّة ـ وكما رأينا ونبّهنا إليه سابقاً ـ لا يختلف عن التفسير الموضوعي بمعناه الخاص من حيث دائرة البحث سعةً وضيقاً، بل الموضوع فيه عبارة عن المحور الذي تدور حوله السورة وتسبح في فلكه، وليس قضيّةً من القضايا التي تطرحها السورة؛ فهو بالتالي عضو بنيوي داخلي للسورة، وليس خارجاً عنها.

فإذا كان المقصود من خلال هذا التعريف الإشارة إلى الوحدة القرآنيّة بواسطة قيد (من خلال سورة)، وإلى النوع الثاني بواسطة قيد (أو أكثر)، فهذا إيهامٌ بأنّ الفارق بينهما إنّما هو في ضيق دائرة البحث وسعتها، والحال أنّ الأمر ليس كذلك.

تعريف الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم:

بعد أن استعرض الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم مجموعةً من التعريفات ونقض عليها، تواردت لديه الخواطر بعدّة تعاريف باعتبارها جامعة لنوعي التفسير الموضوعي الرئيسَيْن (المعنى الشائع والوحدة الموضوعيّة)، فقدّم اقتراحاتٍ ثلاثة:

أ ـ منهجٌ في التفسير مختصٌّ بالكشف عن العلوم والهدايات الربّانيّة في الموضوعات المتناولة في الآيات والسور القرآنيّة.

ب ـ العلم الذي يبحث عن مراد الله وحكمه وإرشاده وهديه في القضايا والموضوعات المطروحة للبحث في آيات القرآن الكريم وسوره.

ج ـ العلم الذي يكشف عن منهج القرآن وأسلوبه في معالجة الموضوعات والقضايا الجزئيّة المحدّدة في إطار سورة أو أكثر، تحقيقاً لهداية القرآن في ما قصر فيه جهد البشر((المصدر نفسه، الصفحة 28.)).

ومن الملاحظ أنّ هذه التعريفات الثلاثة ـ وكما ذكر صاحبها ـ استهدفت شمول كلا نوعَي التفسير الموضوعي الرئيسين (الثاني والخامس بحسب تقسيمنا)، الأمر الذي أوقعها في ما ذكرناه لدى حديثنا عن النوع الثاني، وهو عدم القدرة على تقديم تعريف متين لأيٍّ منهما؛ نتيجة اختلاف هذين النوعين في طبيعتهما اختلافاً جوهريّاً في عالم الثبوت:

فالتعريف الأوّل ليس واضحاً في شموله للوحدة الموضوعيّة؛ لأنّها ـ كما شرحنا سابقاً ـ ليست موضوعاً تطرحه السورة القرآنيّة، بل هي محورٌ تدور حوله، أو هي صورتها الشمسيّة كما أسماها الشيخ محمّد الغزّالي، وكذلك هي حال التعريف الثاني.

أمّا التعريف الثالث فلعلّه أقرب إلى إقصاء التفسير الموضوعي بمعناه الشائع بعد أن حاول الاقتراب من الوحدة الموضوعيّة؛ لأنّ التفسير الموضوعي بمعناه الشائع يستهدف الكشف عن موقف القرآن الكريم من القضايا المطروحة لا عن منهجه وأسلوبه في معالجتها.

ومن هنا، كان حريّاً بأصحاب هذه التعريفات التحرّر من هاجس تقديم تعريفٍ جامعٍ للمختلِفَين، والإقرار بفكرة تعريف كلٍّ منهما تعريفاً يناسب طبيعَتَه، وهو ما انتقل إليه الدكتور عبد الرحيم نفسه بعد أن رجّح فكرة التمييز بينهما؛ حيث انتقل إلى تقديم تعريف خاصٍّ به، فاعترف بادئ الأمر بأنّ المعاني اللغويّة المذكورة للمصدر الميمي (الموضوع) ليست مرادة من استعمال هذا اللفظ في الكتابات وعلى الألسنة؛ فقد أصبح هذا اللفظ حقيقةً عرفيّة في القضيّة العلميّة المطروحة للنقاش والبحث.

وبعد أن أشار إلى استعمال (الموضوعيّة) في التزام الباحث أو المتحدّث بالبحث والحديث وعدم التعرّض لما لا يمتّ له بصلة، اعترف بوجود معانٍ أخرى للموضوعيّة، ولكنّه لم يذكرها((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

وبعيداً عن ذلك، فقد قدّم تعريفين آخرين لا يشملان التفسير الموضوعي بمعنى الوحدة القرآنيّة:

أ ـ هو المنهج الذي يتّخذه المفسّر سبيلاً للكشف عن مراد الله من خلال الموضوعات التي يطرحها والقضايا التي يعالجها، توضيحاً لهداية القرآن وتجليةً لوجوه إعجازه.

ب ـ هو العلم الذي يتّخذ من الموضوعات الظاهرة أساساً في الكشف عن منهج القرآن وأسلوبه في معالجته لها، متّخذاً من القواعد والشروط المرعيّة في التفسير سلّماً للوصول إلى هدى الكتاب وجلال شأنه((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

ولعلّ التعريف الأوّل أوفر حظّاً من الثاني؛ لأنّ التفسير الموضوعي لا يستهدف الكشف عن منهج القرآن في التعامل مع الموضوعات والقضايا المطروحة بقدر ما يستهدف الكشف عن موقفه منها، إضافةً إلى عدم وضوح مراده من (الموضوعات الظاهرة)، الأمر الذي دفع تلميذه الدكتور زياد الدغامين إلى الإشكال على التعريف((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 13.))1.

ولكن مع ذلك، فالتعريف الأوّل لم يقدّم الشيء الكثير، بل جاء نتيجة قَوْلَبة لتعريف التفسير التحليلي الذي عرّفوه بأنّه «علمٌ يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشريّة»((الشيخ محمّد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، 423. وانظر: الشيخ محمّد فاضل اللنكراني، مدخل التفسير، الصفحة 169.))8.

وهناك إشكالٌ آخر سجّله الدكتور الدغامين على التعريفين معاً، وهو أنّهما لم يبيّنا ما إذا كانت هذه الموضوعات تتجلّى من خلال القرآن كلّه أو من خلال سورة واحدة((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 13.)).

الفصل الثاني

في رحاب التفسير الموضوعي المشهوري

سنعمد في هذا الفصل إلى استعراضٍ سريعٍ ومختصر للعديد من النقاط المرتبطة بالتفسير الموضوعي بمعناه الأخير، وهو ما أسميناه: (التفسير الموضوعي المشهوري)، وذلك بهدف إشباع البحث فيه، من خلال توضيح الشروط المفروضة والتعرّض للإشكالات المطروحة:

أهميّة التفسير الموضوعي ووجهُ الحاجة إليه:

من ثمرات التفسير الموضوعي الجليّة أنّه يُعطي «مدّاً جديداً لانتشار تعاليم هذا القرآن وتناولها بالدراسات في وحدة موضوعيّة؛ ذلك لأنّ التوفّر على موضوع واحد معيّن وتتبّع موارده ومآخذه في القرآن كلّه ـ مكّيّه ومدنيّه ـ لتجلية جوانبه كلّها يهيّئ له من العناية والبيان والدراسة ما لا يتهيّأ له لو درس في أثناء التفسير العام. كما إنّ هذا النوع من التفسير يفسح المجال للدارسين في شتّى التخصّصات ليحاول كلٌّ منهم تجلية ما يتعلّق باختصاصه من القرآن بصورة أعمق ممّا تناوله غيره»((دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 16.)).

وبشكل عام، تظهر أهميّة التفسير الموضوعي في عدّة مجالات:

1 ـ يعتبر التفسير الموضوعي من العوامل الأساسيّة في حلّ مشكلات المسلمين المعاصرة وتقديم الحلول لها على أساس القرآن، وفيه علاجٌ لأدواء أمّة الإسلام.

2 ـ يعتبر التفسير الموضوعي وسيلةً ضروريّةً منهجيّة لتقديم القرآن تقديماً علميّاً منهجيّاً لإنسان هذا العصر.

3 ـ يقدّم التفسير الموضوعي خطاباً لكافّة الثقافات بموضوعات القرآن الكريم.

4 ـ يكفل التفسير الموضوعي بيان مدى حاجة الإنسان المعاصر إلى الدين عموماً، وإلى الإسلام والقرآن خصوصاً.

5 ـ يقوم العلماء والباحثون عن طريق التفسير الموضوعي بالوقوف أمام الأعداء وتفنيد أفكارهم الجاهليّة، ودحض الشبهات المعاصرة ضدَّ الإسلام.

6 ـ يتمّ ـ عن طريق التفسير الموضوعي ـ عرض أبعاد ومجالات وآفاق جديدة لموضوعات القرآن، ويكشف هذا التفسير عن بحرٍ من المعجزات القرآنيّة.

7 ـ يكشف هذا المنهج عن الصور المتعدّدة من الموضوع الواحد الذي يعرض له القرآن أكثر من مرّة؛ فالإحصاء والترتيب يساعد على استنباط حقائق الأشياء بالصور المختلفة التي حاولها القرآن بحسب مناسبة النزول وقرائن الأحوال.

8 ـ يُظهر التفسير الموضوعي الحيويّة الواقعيّة للقرآن الكريم، فلا ينظر الباحثون إلى موضوعات القرآن بوصفها موضوعات قديمة.

9 ـ يكشف التفسير الموضوعي كشفاً فريداً عن الروابط الباهرة بين موضوعات القرآن الكريم.

10 ـ يحقّق التفسير الموضوعي المقاصد الأساسيّة للقرآن وأوّليّاته في حياة المسلمين.

11 ـ يقف التفسير الموضوعي أساساً لتأصيل الدراسات القرآنيّة وعرضها أمام الباحثين عرضاً قرآنيّاً علميّاً منهجيّاً، ويقدّم دراسات قرآنيّة مركّزة بجهود عالية، ويثري البحث العلمي التفسيري الجامعي.

12ـ إعادة التفسير الموضوعي توثيقَ الصلة القرآنيّة لمختلف العلوم الشرعيّة الإسلاميّة.

13 ـ يقدّم التفسير الموضوعي مناهج الدعوة والحركة والإصلاح.

14 ـيقف التفسير الموضوعي أساساً للتأصيل القرآني للعلوم والموضوعات والمعارف الإنسانيّة والحضاريّة المختلفة.

15 ـ يوسّع التفسير الموضوعي دلالات الآيات القرآنيّة ومضامينها.

16 ـ يعتبر التفسير الموضوعي امتثالاً لأمر الله تعالى بتدبّر القرآن، وتطبيقاً لنداء القرآن الكريم بالسياحة في الكتاب الكوني.

17 ـ يصل الباحثون من خلال التفسير الموضوعي إلى الغاية من الآيات والموضوعات القرآنيّة.

18 ـ يعتبر التفسير الموضوعي وسيلةً منهجيّةً علميّةً للارتفاع بمستوى التفكير العلمي الموضوعي عند الباحثين.

19 ـ نتيجة محدوديّة مساحة التفسير الموضوعي، فإنّ إنجاز دراسة موضوعيّة لا تتطلّب ما تتطلّبه إنجاز دراسة تجزيئيّة كاملة((دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 16.)).

وقد ذكر الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم أثناء استعراضه لأهميّة هذا اللون من التفسير ومزاياه عدّة نقاط، نلخّصها في ما يلي:

أوّلاً: اختلافه عن المنهج القائم على التحليل اللفظي، الذي يُدخل الباحث في عمليّة قلّما لا تشتّت الفكر وتشوّش الذهن وتتعب العقل وتنهك القوى القلبيّة والروحيّة.

ثانياً: امتيازه بالنظرة الأكثر شموليّةً، والتي كثيراً ما تعطي نظرة أدقّ وصورةً أوضح للشيء المعروض للبحث.

ثالثاً: قربه إلى تحقيق الغاية التي نزل من أجلها الكتاب تيسيراً للهداية.

رابعاً: كبح جماح المتطرّفين الذين يكيلون التهم الباطلة لهذا الدّين.

خامساً: معاودة النظر في أسلوب الدعوة الذي أصبح عديم الجدوى وقليل الفائدة، ولا أثر له في إصلاح الفساد الذي استشرى((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحات 37 ـ 42.)).

شروط التفسير الموضوعي:

وضع بعضهم للتفسير الموضوعي شروطاً ينبغي على الباحث فيه التحلّي والتقيّد بها؛ فقد وضع الدكتور عبد الستّار سعيد مثلاً القواعد التالية على سبيل التمثيل لا الحصر:

1 ـ الالتزام التام بعناصر القرآن.

2 ـ التقيّد التام بصحيح المأثور في التفسير.

3 ـ تجنّب الحشو والاستطراد في التعليق.

4 ـ التدقيق التام قبل التقعيد والتأصيل.

5 ـ مراعاة خصائص القرآن الكريم((المدخل إلى التفسير الموضوعي، الصفحات 67 ـ 90.)).

كما لخّص الدكتور صلاح الخالدي أهمّها في ما يلي:

1 ـ تسجيل الباحث أهدافه الخاصّة التي يريد تحقيقها من بحثه، ولا يكتفي بالأهداف العامّة، من قبيل خدمة القرآن الكريم.

2 ـ تحديد الباحث مدى الحاجة المعاصرة إلى بحثه.

3 ـ أن لا يكون عند الباحث غرض مسبق يريد ترسيخه من خلال القرآن الكريم.

4 ـ اطّلاع الباحث على الأبحاث والدراسات القرآنيّة الأخرى.

5 ـ أن يقرأ الباحث قراءةً عامّة شاملة.

6 ـ إدراك المهمّة الأساسيّة للقرآن.

7 ـ التركيز على الأبعاد الواقعيّة للموضوعات القرآنيّة.

8 ـ التزوّد بزادٍ ثقافيٍّ معاصر((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحات 61 ـ 62، 76 ـ 81. وراجع: فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحات 267 ـ 271.)).

أمّا الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، فبعد أن اعتبر أنّ عدم التنصيص على شروط أهليّة الباحث فيه يعتبر من جملة الأمور التي تقف حائلاً دون انطلاقة التفسير الموضوعي((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 63.))، ذكر عدّة شروط ترجع إلى ما يُمكن اعتباره حالةً روحيّة للمفسّر:

1 ـ أن يكون المفسّر من المؤمنين حقّاً، الذين أشرقت في قلوبهم أنوار الإيمان.

2 ـ أن يكون من ورثة الكتاب من العلماء الربّانيّين, ولا ينظر إلى طريق علمهم ومعرفتهم؛ فإنّ الذي أورثهم قادرٌ على أن يعلّمهم كما علّم رسله وأنبياءه.

3 ـ أن يكون من المتّقين لله حقَّ تقاته، ومن المطهّرة قلوبهم، الزكيّة نفوسهم((المصدر نفسه، الصفحات 66 ـ 71.)).

كما ذكر بعض الباحثين اثنتي عشرة قاعدة بمثابة قواعدة التفسير الموضوعي وشروطه((الشيخ محمّد فاكر الميبدي، قواعد التفسير لدى الشيعة والسنّة، الصفحات 420 ـ 426.)).

اعتماد مصادر الإسلام غير القرآنيّة:

أ ـ ذكر الدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدي أنّ من شرط الدراسات القرآنيّة الموضوعيّة عدم الخروج «إلى باقي مصادر الإسلام الأخرى، كالحديث والفقه والعقيدة والتاريخ واللغة وغير ذلك»، وإن اعتبرها دراساتٍ إسلاميّةً على كلّ حال، ولكنّه قرّر أنّ «الدراسات الإسلاميّة العامّة الشاملة ليست دراسات قرآنيّةً خاصّة، وليست قريبةً من التفسير الموضوعي، مع أنّها صورةٌ من صور الفكر الإسلامي»؛ فهي «ليست نماذجَ لدراساتٍ تمثّل التفسير الموضوعي؛ لأنّها لا تسير على الخطّة النموذجيّة للتفسير الموضوعي، ولا تلتزم بالمنهج الموضوعي للتفسير الموضوعي»((المصدر نفسه، الصفحة 37.)).

ثمّ أكّد على هذه الحقيقة لدى حديثه عن القواعد التي ذكرها الدكتور سعيد على الالتزام التامّ بعناصر القرآن؛ حيث إنّ «على الباحث في التفسير الموضوعي البقاء مع آيات القرآن التي جمعها لموضوعه، وأن لا يخرج من ظلال القرآن إلى أيّ موضوع آخر؛ لأنّ دراسته قرآنيّة وليست إسلاميّة عامّة. وإذا عاد الباحث إلى الأحاديث النبويّة الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين، فإنّه يورد المناسب من ذلك باعتباره شارحاًَ وموضّحاً للآيات القرآنيّة التي بين يديه، وليس باعتباره مادّةً علميّة مستقلّة، تضيف عناصر جديدة إلى موضوعه القرآني»((المصدر نفسه، الصفحة 76.)).

ب ـ ولكنّ الدكتور عبد الستّار سعيد بعد أن أكّد ضمن حديثه عن خطوات التفسير الموضوعي وشروطه على ضرورة تقيّد المفسّر بقواعد التفسير الموضوعي وضوابطه العلميّة من حيث البقاء مع القرآن الكريم، فتح الباب أمام التقيّد التام بصحيح المأثور في التفسير((المدخل إلى التفسير الموضوعي، الصفحات 67 ـ 73.)).

كما التزم الدكتور الفرماوي بإمكانيّة تكميل الموضوع محلّ البحث بما ورد في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) إن احتاج الأمر إلى ذلك، وذلك بهدف تكميل هيكله وزيادته وضوحاً وبياناً، وجعل هذه القضيّة خطوةً قائمةً بنفسها في هذا المنهج((مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 18، نقلاً عن الدكتور الفرماوي.)).

ولم يبعد عنه كثيراً الدكتور أحمد السيّد الكومي، حيث اعتبر أنّه «إن أعوزه((أي: المفسِّر.)) ذلك لجأ إلى التعرّض لبعض الأحاديث المناسبة للمقام لتزيدها إيضاحاً وبياناً»((الدكتور أحمد السيّد الكومي والدكتور محمّد أحمد يوسف القاسم، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحتان 16 ـ 17.)).

كما إنّ الدكتور الحسيني أبو فرحة ضمّن التفسير الموضوعي «استيفاء الموضوع بما يُضاف إلى الآيات من سنّة نبويّة شريفة في نفس الموضوع»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20، نقلاً عن: الدكتور الحسيني أبو فرحة، الفتوحات الربّانيّة في التفسير الموضوعي، ج1، الصفحتان 5 ـ 6.)).

وتعرّض لذلك أيضاً الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم؛ فبعد أن أقرّ بشرط الإحاطة بالموضوع مورد البحث، اعتبر أنّ هذه الإحاطة لا تتأتّى «دون النظر في كلّ الأحاديث الواردة فيه، ما دمنا نقرّ بأنّ السنّة هي الأصل الأصيل في التفسير»((المصدر نفسه، الصفحة 24.)).

وهو ما ذكره بعض الباحثين عندما اعتبر السنّة الشريفة ضمن أدوات التفسير الموضوعي ((أبو طالب محمّدي، منابع و روشهاى تفسير موضوعى در سده چهاردهم، مجلّة (پژوهش هاى قرآنى)، العدد 7، الصفحة 151.))، لكن دون أن يتّجه التفسير الموضوعي للقرآن نفسه إلى تصنيف الروايات وتبويبها؛ فإنّ ذلك موكولٌ إلى فقه الحديث، وإنّما يُستفاد من الروايات بمقدار قرينيّتها على تفسير الآيات وتوضيح المراد منها((علي نصيري، مبانى کلامى تفسير موضوعى، مجلّة (انديشه نوين دينی)، العدد 3، الصفحة 77.))، بينما وضع آخرُ السنّةَ إلى جانب الكتاب في كونهما معاً الركنين الداخليّين للتفسير الموضوعي، وهو ـ بحسب رأيه ـ ما لا نقاش فيه ولا كلام، وذلك في مقابل الركن الخارجي، وهو عبارة عن معارف المفسّر اليقينيّة التي يرد من خلالها إلى البحث((السيّد هدايت جليلي، تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها، الصفحة 170.)).

أمّا الدكتور مصطفى مسلم، فقد نبّه على لزوم المحافظة على قرآنيّة الموضوع، دون أن يُلغيَ ذلك دور السنّة الشريفة، التي يظهر دورها في التوضيح والبيان والاستدلال((مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 39.)).

ويقف الشيخ عبدالله جوادي الآملي إلى جانب من اعتبروا السنّة عنصراً فاعلاً في عمليّة التفسير الموضوعي؛ حتّى إنّه لم يفصل بينها وبين القرآن الكريم، وقد سبق أن نقلنا عنه قوله:

«..أي يقوم بجمع آيات من القرآن تحوي هذا الموضوع ويرتّبها، ثمّ يقوم بجمع وترتيب الروايات الواردة في ذلك المجال. وفي المرحلة النهائية يقوم بترتيب ثالث لما تحصّل لديه من الآيات والروايات، حتى يستطيع تقديم ذلك بوصفه رأي الإسلام والقرآن والعترة»((جمال المرأة وجلالها، الصفحتان 37 ـ 38.))؛ فكأنّه وحّد بين العنصرين وجعلهما وقود عمليّة واحدة.

والذي قد يُطرح بدواً في رحاب هذا البحث أمران:

الأمر الأوّل: إنّنا يجب أن نميّز بين بحثنا في التفسير الموضوعي عن موقف القرآن الكريم وبين بحثنا عن موقف الشريعة كلّها. وحيث إنّ المفروض بهذه الأطروحة هو الحديث عن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، فلا شكّ بأنّ السنّة مقصاة مبدئيّاً عن البحث، إلّا إذا قلبنا المهمّة إلى البحث عن موقف الشريعة.

وقد يُلاحظ عليه: إنّ التمييز بين موقف القرآن الكريم وبين موقف الشريعة أو الإسلام يصبح عرضةً للسؤال عند من يعتبر أنّ المعبّر الشرعي عن الموقف الإسلامي هو القرآن الكريم وحده، فلا معنى للفصل بين موقف الإسلام وبين موقف القرآن، بحيث تدخل السنّة على الأوّل وتخرج على الثاني، بل هي خارجة على كلّ حال.

كما إنّ هذا التمييز لا يستقيم عند الفريق المقابل الذي يعتبر أنّ الموقف المستفاد من السنّة ليس مفصولاً عن موقف الإسلام؛ لأنّ موقف الإسلام لا يُمكن تحديده على أساس القرآن الكريم فقط، بل المستفاد من حديث الثقلين اقتران القرآن الكريم بالعترة. وربّما فسّر هذا ما نقلناه آنفاً حول رؤية الشيخ جوادي الآملي.

الأمر الثاني: إنّنا قد نلتزم بدخول السنّة لاعباً رئيساً في مرحلة التفسير التجزيئي للقرآن الكريم بعد أن يكون المفسّر قد حسم موقفه المعرفي تجاه شرعيّة اللجوء إليها، ولكن مع ذلك فإنّ من الممكن إقصاءها عن البحث في مرحلة التفسير

الموضوعي؛ إذ قد يقتصر دورها على توضيح المراد من الآيات في محلّها، دون أن يتعدّى ذلك إلى الكشف عن الموقف القرآني.

وقد يُلاحظ على ذلك: أنّ التمييز بين مرحلة التفسيرالموضوعي وبين مرحلة التفسير التجزيئي ـ على صعيد دخالة السنّة وعدمها ـ يكاد يكون نظريّاً؛ لأنّه يصعب ـ من ناحية منهجيّة ـ إقحام السنّة في عمليّة التفسير التجزيئي ثمّ إقصاؤها بالكامل في مرحلة التفسير الموضوعي؛ إذ غالباً ما يستعين بها المفسّر التجزيئي نتيجة اعتقاده باستحالة فهم الآيات القرآنيّة بدونها، فيُدّعى حينئذٍ توقّف فهم الموقف القرآني عليها، أو ـ على أقلّ تقدير ـ دخالتها في توضيح الموقف القرآني تجاه الموضوع محلِّ البحث؛ إذ طالما اعترف الباحث بحجيّتها فمن غير المنطقي أن يعتبرها لاعباً فاعلاً في مرحلة التفسير التجزيئي ثمّ يقصيها بالكامل في مرحلة التفسير الموضوعي.

بل إنّ الرواية قد لا تكون ناظرة إلى مورد الآية فلا تنفع تجزيئيّاً، ولكنّها تكون ناظرة إلى الموضوع الذي نريد تحديد موقف القرآن الكريم منه فتنفع موضوعيّاً.

وهذا البحث يحتاج في الحقيقة إلى دراسة مستقلّة لكثرة ما يستبطن من مقدّمات ويستثير من تساؤلات، ولكن قد يدّعي الملتزمون بضرورة المحافظة على الطابع القرآني للبحث وتهميش السنّة المشرّفة إمكانيّة الفصل بين المرحلتين ـ وبالتالي ضمّ السنّة في مرحلة التفسير التجزيئي ثمّ إقصائها في مرحلة التفسير الموضوعي ـ على أساس ما سنشير إليه في الفصل الثالث لدى حديثنا عن الخلفيّات الفكريّة للشهيد الصدر الدخيلة في أطروحة التفسير الموضوعي، وهو الالتزام بحكومة روح الموقف القرآني على السنّة، على تفصيلٍ يأتي توضيحه هناك.

فإذا التزمنا بهذا المسلك، فإنّ الوصول إلى الروح القرآنيّة يتوقّف فقط وفقط على أخذ النصّ القرآني بعين الاعتبار، وهو ما تؤمّنه في الحقيقة عمليّة التفسير الموضوعي. ثمّ على أساس ما ينتهي إليه الباحث يستطيع أن يُحاكم السنّة نفسَها.

ولكنّ هذا الطرح ـ مع جودته ـ يكاد يكون في جزء منه نظريّاً، أو أنّه يعبّر عن المرحلة غير النهائيّة للتفسير الموضوعي؛ لأنّنا إذا توصّلنا إلى تحديد الروح القرآنيّة تجاه موضوع من الموضوعات ثمّ قسنا السنّة عليها، اقتصرت دائرة الروايات المطروحة على ما خالف القرآن الكريم ولو بروحه، فلا مبرّر لإقصاء الروايات الباقية غير الساقطة، وبالتالي سيستدعي ذلك منّا أن نأخذ هذه الروايات بعين الاعتبار في عمليّة تفسير موضوعي جديدة تُعتبر تعميقاً للنتيجة القرآنيّة السابقة.

الفوارق بين التفسير الموضعي وبين التفسير الموضوعي:

ذكرت عدّة فوارق بين التفسيرين: الموضعي والموضوعي، نكتفي بذكر الأهمِّ منها:

1 ـ الفارق الذي يتفرّع عن المعنى الذي تفرّد به الشهيد الصدر (قدّس سرّه)، وهو نقطة الانطلاق التي سيلتقي عندها التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي (المشهوري)؛ فبينما ينطلق التفسير التجزيئي والموضوعي (المشهوري) من القرآن الكريم، ينطلق التفسير الموضوعي (الصدري) من الواقع الخارجي المحمّل بالتجارب البشريّة، وهو ما سنبحثه مفصّلاً في الفصل المخصّص للحديث عن أطروحة الشهيد الصدر.

2 ـ الفارق الثاني هو للشهيد الصدر (قدّس سرّه) أيضاً، وهو الدور الاستنطاقي للنصّ القرآني، والذي يتجلّى في عمليّة التفسير الموضوعي أكثر من تجلّيه في عمليّة التفسير التجزيئي.

3 ـ يعمد المفسّر التجزيئي إلى بذل جهده في تحليل الآيات إلى جمل وألفاظ وحروف، باحثاً عن مواطن الجمال والكشف عن دلالاتها التفصيليّة، بينما يعمد المفسّر الموضوعي إلى توجيه اهتمامه إلى الجمع بين الدلالات التفصيليّة المتفرّقة في أنحاء الكتاب في ما يتعلّق بموضوعٍ بعينه((فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحة 137.)).

فبينما يكتفي المفسّر في التفسير الموضعي التحليلي بتحليل الآيات وجملها وتركيباتها واستخراج دلالاتها التفصيليّة الجزئيّة، يعمد المفسّر تفسيراً موضوعيّاً إلى الجمع بين هذه المدلولات التفصيليّة والتنسيق بينها والوصل بين جزئيّاتها المفردة، وبين الكلّ العام الجامع لها، فيستخرج من مجموعها نظريّةً قرآنيّة واقعيّةً تامّة((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 43.)).

4 ـ يقدّم المفسّر في التفسير الموضعي للمسلمين علماً تفسيريّاً نظريّاً ومعلومات تفسيريّة ثقافيّة، بينما يقدّم المفسّر في التفسير الموضوعي للمسلمين فكراً وحضارة وحلولاًَ قرآنيّة لمشكلاتٍ واقعيّة، وحقائق قرآنيّة عن قضايا اجتماعيّة وحضاريّة((المصدر نفسه، الصفحة 43.))، أي معارف عمليّة دعويّة شديدة الحرارة والحماسة والواقعيّة((فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحة 138.)).

5 ـ يؤدّي التفسير الموضوعي إلى النضج والنموّ العلمي أكثر من التفسير الترتيبي، ويشهد لذلك تجربة المحدّثين والفقهاء، حيث فاق الأخيرون الأوّلين بفعل ممارسة العمليّة الموضوعيّة في الفقه اعتماداً على الحديث((انظر: دروس في المناهج والاتّجاهات التفسيريّة للقرآن، الصفحة 315.)).

 

علاقة التفسير الموضعي بالتفسير الموضوعي:

أكّد جملة من الباحثين في التفسير الموضوعي على فكرة مهمّة للغاية، وهي أنّ الاهتمام بالتفسير الموضوعي وعظيمَ الحاجة إليه لا يعنيان على الإطلاق التقليل من أهميّة التفسير التحليلي (الموضعي)، الذي يعتبر (الأصل) بالنسبة إلى التفسير الموضوعي (الفرع)؛ فالدخول إلى ميدان التفسير الموضوعي دون معرفة بقواعد التفسير وشروطه أشبه ما يكون بدخول ميدان المواجهة دون عدّة أو استعداد، ولهذا لا يمكن للتفسير الموضوعي بحال أن يستغني عن التفسير التحليلي((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 24. وانظر: تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها، الصفحات 54 ـ 57؛ مبانى کلامى تفسير موضوعى، مجلّة (انديشه نوين دينی)، العدد 3، الصفحة 89.)).

وسنرجع إلى هذا النقطة لدى حديثنا عن مفاصل أطروحة الشهيد الصدر (قدّس سرّه)، فانتظر.

 

طريقة البحث في التفسير الموضوعي ومراحل العمل فيه:

ذكرت بعض الدراسات مناهج العمل المقترحة لكلّ لونٍ من ألوان التفسير الموضوعي، فتحدّثت عن مراحل التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحات 62 ـ 68.))، وللتفسير الذي يستهدف الكشف عن الوحدة القرآنيّة للسورة القرآنيّة((المصدر نفسه، الصفحات 72 ـ 75.)).

وسنكتفي في ما يلي بإيراد مراحل التفسير الموضوعي بمعنى المسألة المطروحة في رحاب القرآن الكريم، وذلك بحسب ما ورد في كلمات مختلف الباحثين، وعلى نحو الإشارة السريعة، ودون الخوض في التفاصيل:

I ـ

ذكر الشيخ محمود شلتوت حول طريقة العمل في التفسير الموضوعي أنّ المفسّر يعمد «أوّلاً إلى جمع الآيات التي وردت في موضوعٍ واحد، ثمّ يضعها أمامه كمواد يحلّلها ويفقه معانيها ويعرف النسبة بين بعضها وبعض، فيتجلّى له الحكم ويتبيّن المرمى الذي ترمي إليه الآيات الواردة في الموضوع»، ثمّ اشترط في تتمّة كلامه أن «لا يُكرِه آيةً على معنى لا تريده، كما لا يغفل عن مزية من مزايا الصوغ الإلهي الحكيم»((دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، الصفحة 63، نقلاً عن: الشيخ محمود شلتوت، الإسلام والعلاقات الدوليّة، الصفحة 10.)).

II ـ

ويُستفاد من كلام الشيخ محمّد محمود حجازي تلخّص منهج البحث في التفسير الموضوعي في جمع الآيات التي في موضوع واحد وترتيبها حسب النزول، مع الوقوف على أسباب النزول ودراستها دراسة منهجيّة موضوعيّة كاملة، لتعطينا

موضوعاً واحداً له وحدة موضوعيّة متكاملة متناسقة لا تباين فيها ولا اختلاف، حتّى تلتقي جميع هذه النصوص كلّها في مصبٍّ واحدٍ، مع التعرّض لمناسبة الآيات في سورها((الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم، الصفحة 25.)).

III ـ

أمّا الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، فقد قسّم الموضوعات التي يمكن أن يطرحها التفسير الموضوعي إلى دنيويّة ودينيّة((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحات 71 ـ 73.)):

أوّلاً: الموضوعات الدنيويّة:

أ ـ أن يكون الموضوع من الواقع الذي يشغل فكر الناس.

ب ـ أن يلمّ المفسّر موضوعيّاً بالمشكلة أو القضيّة إلمامَ المتخصّص بها، المحيط بها من كلّ جوانبها.

ج ـ أن يعود بنظره إلى واقع الأمّة التي نزل عليها القرآن الكريم.

د ـ أن يعود المفسّر إلى القرآن الكريم ليبحث في آياته وسوره عن كلّ ما يتعلّق بالموضوع، ويجيب عن الأسئلة المطروحة.

هـ ـ العمل بحسب خطّة البحث المرسومة على تجلية هدى القرآن والكشف عن أسرار إعجازه وتحدّيه.

ثانياً: الموضوعات الدينيّة:

أمّا الموضوعات الدينيّة، فإضافةً إلى الشروط المأخوذة في الموضوعات الدنيويّة، فقد اشترط الدكتور عبد الرحيم فيها أن يكون الباحث سالكاً سبيلَ معرفته، مقتدياً بأهل خصوصيّته.

IV ـ

وقد لخّص الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد هذه الخطوات بما يلي:

1 ـ المعرفة الدقيقة لمعنى التفسير الموضوعي، وهذه الخطوة بمثابة الشرط.

2 ـ تحديد الموضوع القرآني المراد بحثه تحديداً دقيقاً.

3 ـ اختيار عنوان للبحث مأخوذ من نفس ألفاظ القرآن.

4 ـ جمع الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالموضوع.

5 ـ تصنيف الآيات من حيث المكّي والمدني وترتيبها من حيث زمن النزول إن تيسّر ذلك.

6 ـ فهم الآيات التي جمعت.

7 ـ تقسيم الموضوع إلى عناصر مترابطة.

8 ـ التقيّد التامّ في كلّ هذه الخطوات بقواعد التفسير الموضوعي وضوابطه العلميّة، من حيث البقاء مع القرآن وتجنّب الحشو((المدخل إلى التفسير الموضوعي، الصفحات 56 وما بعد.)).

V ـ

ذهب الدكتور أحمد رحماني إلى إمكان حصر خطوات التفسير الموضوعي بما يلي:

1 ـ تحديد موضوع البحث.

2 ـ جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع لغرض تفسير القرآن بالقرآن والإدراك الشامل لعناصر الموضوع وأهدافه وغاياته ونتائجه.

3 ـ تصنيف الآيات المتعلّقة بالموضوع باعتبار الزمان والمكان (مكّي ـ مدني)، وباعتبار العناصر الجزئيّة للقضيّة الكليّة المبحوث عنها، وباعتبار التناسب القائم بين العناصر الجزئيّة.

4 ـ تقسيم الموضوع إلى عناصر مترابطة وترتيبها وفق خطّة محكمة.

5 ـ العمل على فهم تلك الآيات في إطار السياق التاريخي وفي إطار السياق الذي وضعت فيه بالنسبة إلى الموضوع المبحوث عنه.

6 ـ بحث الملابسات المتعلّقة بالآيات، مثل النسخ وعلاقة الآيات بالأحاديث..

7 ـ قراءة التفاسير للاستعانة بمفهوم المفسّرين.

8 ـ تفسير الآيات واستنباط الأحكام والحكم والنتائج.

9 ـ الخروج بتصوّر أو نظريّة حول الموضوع، الأمر الذي يتوقّف على عمق المنهج وذكاء الباحث((مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحات 17 ـ 19.)).

VI ـ

أمّا الدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدي، فقد انتهى إلى تسجيل الخطوات التالية:

1 ـ اختيار الموضوع القرآني للبحث.

2 ـ تسجيل الأسباب التي دفعته لاختيار الموضوع.

3 ـ جمع الآيات التي تتحدّث عن الموضوع.

4 ـ استخراج معاني الألفاظ السابقة التي اختارها.

5 ـ حصر الآيات التي استعملت المصطلحات الأساسيّة لموضوعه.

6 ـ تسجيل ما يدور حول الآيات التي استخلصها.

7 ـ قراءة تفسير الآيات التي استخلصها.

8 ـ بيان الأبعاد المعاصرة للآيات.

9 ـ استخلاص الدلالات والعبر واللطائف من الآيات المجموعة.

10 ـ الاطّلاع على الدراسات والأبحاث القرآنيّة الخاصّة المعاصرة التي لها صلة بموضوعه.

11 ـ صياغة الموضوع((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحات 70 ـ 72.)).

VII ـ

أمّا الدكتور محمود أحمد سعيد الأطرش، فقد سجّل عدّة خطوات:

1 ـ جمع الآيات القرآنيّة.

2 ـ ترتيب الآيات حسب السورة ورقم الآية.

3 ـ تفسير الآيات.

4 ـ وضع عنوان لكلّ آية.

5 ـ ترتيب الآيات ترتيباً موضوعيّاً.

6 ـ مقارنة منهج القرآن بغيره.

7 ـ صياغة الموضوع((الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم والسورة القرآنيّة، الصفحات 21 ـ 25.)).

VIII ـ

لخّص الدكتور أحمد جمال العمري خطوات البحث في التفسير الموضوعي بما يلي:

1 ـ جمع المفسِّر المادّة العلميّة التي تخدم موضوعه.

2 ـ ترتيب الآيات حسب النزول.

3 ـ التوفيق بين الآيات.

4 ـ تفسير الآيات أثناء عرضها.

5 ـ الالتزام بشروط البحث العلمي.

6 ـ الأخذ بمطلق اللغة.

7 ـ التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوّة الشرع((دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، الصفحات 73 ـ 75.)).

IX ـ

وقد لخّص الدكتور زاهر بن عواض الألمعي مراحل هذا التفسير في خمس خطوات:

1 ـ جمع الآيات التي تخدم الموضوع.

2 ـ ترتيبها حسب النزول.

3 ـ إزاحة ما قد يكون بين الآيات من موهم الاختلاف والتناقض.

4 ـ تفسير الآيات أثناء عرضها تفسيراً يفهم منه الحكمة في إيراد الآيات، والغرض من هذا التشريع الإلهي.

5 ـ إخراج الموضوع في صورة متكاملة تامّة البناء والإحكام((دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 22.)).

X ـ

ذكر الشيخ عبدالله جوادي الآملي أنّه «لو أراد شخصٌ بحث موضوع من وجهة نظر القرآن والعترة، يجب على الأقل قطع [ستّ] مراحل تحقيقيّة حتّى يشخّص رأي الإسلام حول ذلك الموضوع:

المرحلة الأولى: بجمع الآيات الواردة في ذلك المجال. في هذه المرحلة يجب ان يكون لديه من الخبرة والاطلاع على القرآن الكريم ما يمكّنه من استخراج جميع الآيات التي لها دخل في الموضوع نفياً وإثباتاً، ولا يكتفي في هذا الصدد بخصوص الآيات التي تتضمّن ذلك الموضوع لفظاً، بل يجعل المحور في جمع الآيات هو المحتوى وليس اللفظ.

المرحلة الثانية: ينسّق الآيات التي جمعت، أي: يقوم بترتيب المطلقة مع المقيّدة، والعامّة مع الخاصّة، والمجملة مع المبيّنة، والمتشابهة مع المحكمة، والأجزاء المناسبة إلى جانب بعضها البعض، كي يحصّل النتائج الصحيحة من دراسة الآيات.

المرحلة الثالثة: يصل الدور إلى سيرة العترة الطاهرة، فيجمع الروايات الواردة في هذا المجال نفياً وإثباتاً، سواء كانت الروايات أقوالاً للمعصومين (عليهم السلام) أو أفعالاً صادرة منهم.

المرحلة الرابعة: يرتّب بين هذه الروايات المجموعة، أي يقرن المطلقة بالمقيّدة، والعامّة مع الخاصّة، والمحكمات الروائيّة مع المتشابهات، والناسخة مع المنسوخة، والمجملة مع المبيّنة. ويجب أن يقوم في كل موضوع بنفس العمل الذي يعمل في الاستنباط الفقهي؛ لكي يستطيع تحصيل النتائج الصحيحة من بحث الروايات.

المرحلة الخامسة: يستخرج النتائج المتعدّدة التي حصلت من الآيات بصورة قاعدة مهمّة، ويقدّم كذلك الثمرات المتنوّعة الحاصلة من الروايات بصورة قاعدة جامعة .

المرحلة السادسة: يقوم في هذه المرحلة بترتيب نهائي بين النتائج الحاصلة من القرآن والثمرات المستنبطة من الروايات لكي يستنبط موضوعاً منسجماً مع القرآن والعترة.

إذا قطع هذه المراحل التحقيقيّة وأراد أن يتكلّم حول الموضوع، فإنّ الأدب الديني والاحتياط العلمي يقتضيان أن يقول: إنّ مقتضى هذه الآية هو هذا، أو: إن مقتضى هذه الرواية هو هكذا، لا أن يقول: الإسلام يقول هكذا. وإذا أراد نقل رأي الإسلام لا يسنده إلى نفسه، وينقل حصيلة تحقيق المحقّقين الذين قطعوا هذه المراحل الاستنباطيّة الستّ، ويقول: إنّ محقّقينا كان هذا رأيهم، وإنّ نظر الإسلام في هذا المجال هو هذا»((جمال المرأة وجلالها، الصفحات 39 ـ 41.)).

XI ـ

ذكر بعض الباحثين أنّ الكتابة في التفسير الموضوعي تتمّ على أربع مراحل:

1 ـ المرحلة التمهيديّة: وتشتمل على ستّ خطوات((محمّد علي لساني الفشاركي وحسين مرداني الزنجاني، روش شناسى تحقيق موضوعى در قرآن كريم، الصفحات 39، 46، 47، 48، 56 و68.)):

أ ـ اختيار عنوان البحث وتحديد مداخله.

ب ـ تحضير الأوراق الأوّليّة للبحث.

ج ـ تحرير صفحة العنوان وتدوين تقرير بدء البحث.

د ـ إعداد فهرس الآيات.

هـ ـ إعداد فهرس السياقات.

و ـ تدوين الإحصاء المرتبط باستعمال الألفاظ المدخليّة.

2 ـ المرحلة الثانية: انتزاع المفهوم((المصدر نفسه، الصفحات 75، 76، 77، 87، 88، 101، 102، 104 و106.)):

أ ـ تدوين النصّ الكامل للآيات.

ب ـ تلاوة الآية بصورة مكرّرة.

ج ـ البحث حول مفاهيم الآية.

د ـ تدوين الأسئلة المثارة.

هـ ـ البحث في مفاهيم الآية ضمن سياق الآيات.

و ـ تسجيل التناسب القائم بين الآيات.

ز ـ النكات المكمّلة.

ح ـ النظرة الكليّة والشاملة إلى المفاهيم المتحصّلة.

ط ـ مراجعة المصادر التفسيريّة.

3 ـ المرحلة الثالثة: مرحلة توسعة أو تضييق دائرة البحث((المصدر نفسه، الصفحات 111 ـ 116.)):

أ ـ سبل توسعة البحث الموضوعي.

ب ـ سبل تضييق البحث الموضوعي.

4 ـ المرحلة الرابعة: مرحلة التدوين((المصدر نفسه، الصفحات 116، 128 و132.)):

أ ـ لملمة مخطّط الأقسام والفصول.

ب ـ وضع ترقيم للمفاهيم المتحصّلة.

ج ـ التدوين.

XII ـ

وأخيراً، فقد ذكر بعض الباحثين خمس خطوات للتفسير الموضوعي هي عبارة عن:

أ ـ تحديد الموضوع مورد البحث.

ب ـ تحديد الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها.

ج ـ جمع كلّ النصوص ذات العلاقة بالموضوع المحدّد.

د ـ محاولة كشف علاقة كلّ مدلول تفصيلي للآيات والنصوص المجتمعة بالمداليل الأخرى لتوحيد هذه المدلولات جميعاً.

هـ ـ محاولة تركيب المداليل وتنظيمها جميعاً في مركّب نظري واحد شامل((السيّد منذر الحكيم، النظريّة الاجتماعيّة الإسلاميّة.. دراسة في فكر السيّد محمّد باقر الصدر: 37 ـ 38.)).

 

الفصل الثالث

أطروحة التفسير الموضوعي عند المفكّر الشهيد الإمام محمد باقر الصدر

1 ـ ظروف الانبعاث

2 ـ الأنا في عين الآخر

3 ـ اكتناه الخلفيّات

4 ـ توصيف البناء السفلي

5 ـ ركائز البناء العلوي

6 ـ استكمال معالم المنهج

7 ـ إطلالة على التجربة التطبيقيّة

انتهينا إلى المحطّة الرئيسيّة من بحثنا، وهي التي عقدنا الفصلين السابقين تمهيداً لها، والتي نستهدف من خلالها بسط الكلام حول الأطروحة التي قدّمها الإمام الشهيد الصدر (قدّس سرّه) في محاضرتيه الأولى والثانية (وبداية الثالثة) حول التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، مهملين تحليل التجربة التطبيقيّة التي قدّمها في المحاضرات الباقية.

وإذا كنّا قد شهدنا العديد من الأبحاث والدراسات التي كتبت حول الأطروحة المذكورة، فما يبرّر لنا الدخول إلى الميدان نفسه هو أنّنا اعتمدنا منهجاً مختلفاً يحاول المزاوجة بين النظرتين الفاحصة والشاملة.

وعلى هذا الأساس عمدنا إلى دراسة مفردات أطروحة الشهيد الصدر (قدّس سرّه) بشكل مستوفٍ ومفصّل، بحيث لم ندع مطلباً واحداً من المطالب التي تشكّل العمود الفقري لأطروحته التي عرضها في مقدّمته النظريّة من خلال المحاضرتين الأوليين إلّا واستعرضناه ضمن عنوانٍ مناسبٍ يعبِّر عنه، وذلك ضمن ثلاثة محاور رئيسيّة:

أ ـ قمنا في الأوّل منها بتوصيف البناء السفلي لمنهج التفسير الموضوعي، ونعني بالبناء السفلي: منهج التفسير التجزيئي، الذي يشكّل ـ كما سنرى بوضوح ـ القاعدة التي يقوم عليها صرح البناء العلوي المتمثّل في أطروحة التفسير الموضوعي.

وقد استوحينا هذه التسمية ممّا ذكره الشهيد الصدر (قدّس سرّه) في (اقتصادنا)؛ فكما يُعتبر المذهب والقانون طابقين من البناء النظري الذي يُشكّل المذهب فيه قاعدةً نظريّة للقانون، بينما يُشكّل الأخير الطابق العلوي الذي يتكيّف وفقاً للمذهب((السيّد محمّد باقر الصدر، اقتصادنا، الصفحة 426.))، وهو الذي يعكس محتوى القاعدة وخصائصها العامّة، ويعبّر عن عموميّاتها في كلّ تفصيلاته وتفريعاته دون تناقض أو نشاز((السيّد محمّد باقر الصدر، اقتصادنا، الصفحات 428، 432، 464.)).. فكذلك الأمر بالنسبة إلى البناء النظري للتفسير؛ حيث يُشكّل التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي طابقَي البناء النظري للتفسير، ويمثّل التفسير التجزيئي قاعدةً نظريّة للتفسير الموضوعي، بينما يُشكل الأخير البناء العلوي والطابق الفوقي الذي يتكيّف وفقاً للتفسير التجزيئي، ويعبّر عن عموميّاته في كلّ تفصيلاته وتفريعاته.

ب ـ ثمّ عمدنا إلى أفق التفسير الموضوعي الصدري على وجه الخصوص، فحاولنا ملامسته بعقليّة صدريّة تقوم على الخلفيّات الفكريّة التي استجليناها في باب خاص، وأوضحنا قوام البناء العلوي (منهج التفسير الموضوعي) وركائزه الرئيسيّة التي يشتمل عليها، وذلك من خلال بسط المقولات الرئيسيّة وإيضاح مكتنفاتها، مستعينين بمختلف مؤلّفات الشهيد الصدر (قدّس سرّه) وآثاره لقراءة ما وراء السطور، متعرّضين ضمن ذلك لمختلف الإشكالات التي سجّلت على هذه الأطروحة.

ونقصد بركائز البناء العُلوي : الركائز التي يشتمل عليها الطابق العُلوي، لا ركائز الطابق السفلي التي يقوم العُلوي عليها كما بات واضحاً.

ج ـ وفي المحور الأخير وبعد أن تبيّنّا هيكليّة البناء العلوي، عمدنا إلى لملمة ما تبقّى من مفردات مرتبطة به، وقمنا باستكمال الصورة ورسم التصميم العام لأطروحة التفسير الموضوعي.

وبعد إضافة بعض المباحث الهامشيّة والمتفرّقة، ارتأينا أن يقع هذا الفصل ضمن سبعة أبواب:

1 ـ ظروف الانبعاث.

2 ـ الأنا في عين الآخر.

3 ـ اكتناه الخلفيّات.

4 ـ توصيف البناء السفلي.

5 ـ ركائز البناء العلوي.

6 ـ استكمال معالم المنهج.

7 ـ إطلالة على التجربة التطبيقيّة.

الباب الأوّل

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري ظروف الانبعاث ((انظر: أحمد عبدالله أبو زيد العاملي (كاتب السطور)، محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الجزء 4، الصفحات 84 ـ 89.))

قبل عام ونيّف من استشهاده، تعرّض الشهيد الصدر في أجواء أحد دروسه الفقهيّة إلى مشكلة عدم اهتمام الحوزة العلميّة بالقرآن الكريم، ودفعته شفافيّته وإخلاصه إلى الاستشهاد بتجربته الشخصيّة؛ فقال في طيّات حديثه:

«عندما بلغتُ الثامنة عشرة من عمري علّقتُ مع الشيخ عبّاس الرميثي تعليقة كاملة حول معظم أبواب الفقه، وكان الفقه في يدي ينصاعُ كما تنصاع العجينة في يد الخبّاز، ولا زالت تلك المباني بأغلبها هي بنفسها المباني التي لديّ الآن. ورغم ذلك، فقد سألني بعض الطلّاب أنّه: كيف يبعث الله نبيّاً مع رسول عندما تكون رسالة الرسول رسالة عالميّة كرسالة موسى (عليه السلام) الذي بعث معه هارون، وهو بمثابة جنديٍّ عند موسى (عليه السلام)، فما معنى نبوّة هارون وهما في منطقة واحدة وفي زمانٍ واحد؟! فقلتُ له: ومن قال: إنّ هارون كان نبيّاً؟! فلعلّه لم يكن نبيّاً في عرض نبوّة موسى، فأجابني أحد الحاضرين بآية صريحة تنفي هذا الاحتمال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾((سورة مريم، الآية: 53.)).

وقد بعث لي أحد الفرنسيّين برسالة عبر أحد الأشخاص يذكر لي أنّ لديه بحثاً يُظهر فيه أنّ في التوراة تناقضاً داخليّاً، وكذلك في الإنجيل، إضافةً إلى التناقض الحاصل بينهما وبين الحقائق العلميّة في عالم الخارج، ولكنّه لم يجد تناقضاً من هذين القبيلين في القرآن الكريم، وطلب منّي أن أدلّه على المصادر التي تدعم ما توصّل إليه((من المؤكّد أنّه يقصد الجرّاح الفرنسي موريس بوكاي (Dr. Maurice Bucaille) الذي أصدر في أيّار/1976م كتابه باللغة الفرنسيّة (La Bible, le Coran et la Science.. éditions Seghers, Paris, 1976 )، والذي ترجم إلى العربيّة تحت عنوان: (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم.. دراسة الكتب المقدّسة في ضوء المعارف الحديثة).)).

وقد قلتُ في نفسي: إنّ هذا الرجل المسيحي الذي يبحث في هذه القضايا هو أكفأ منّا نحن أهل الفقه والحوزة، فإلى من أُرجعه من أهل الحوزة بحيث يستطيع أن يجيبه؟! نحن نعرف الأحكام الشرعيّة ولكنّنا لم نكتشف كنوز كتاب الله الذي بين أيدينا. ومن هنا فأنا أدعوكم إلى إقامة دروس في القرآن الكريم».

وقد يعجب القارئ إذا سمع حديثاً عن إهمال الدرس القرآني في الحوزات العلميّة، ولهذا سنترك الكلام إلى كاسر طوق هذا الإهمال وأستاذ التفسير الأكبر في فترتنا المتأخّرة، عنيت بذلك العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (قدّس سرّه)؛ حيث يقول:

«وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلاميّة ـ وهي العلوم الدينيّة والأدبيّة ـ عن القرآن، مع أنّ الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيّبة التي ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾((سورة إبراهيم، الآية: 24.))؛ وذلك أنّك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم، وجدت أنّها نظّمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى إنّه يمكن لمتعلّم أن يتعلّمها جميعاً: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول، فيأتي آخرها، ثمّ يتضلّع بها، ثمّ يجتهد ويتمهّر فيها وهو لم يقرأ القرآن ولم يمسّ مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله»((السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 5، الصفحة 276.)).

ويقول الإمام السيّد علي الخامنئي (دام ظلّه):

«وقد كنتُ أقول في درس التفسير الذي كنت أعقده في مشهد: إنّه ـ وللأسف ـ قيل: إنّ بإمكاننا بدء الدراسة ومواصلتها حتّى نمنح إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرّة واحدة، أي: [إنّ] دروسنا ومنهجنا التدريسي قد رُسم بطريقة

بحيث إنّ الطالب من أوّل تعلّمه ودراسته وإن لم يكن قد راجع القرآن ولو مرّة واحدة، مع هذا يُمكن طي الطريق والوصول إلى الاجتهاد..»((السيّد علي الخامنئي، الحوزات العلميّة وتطوير البرامج، مجلّة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 35، الصفحة 155.)).

ويبدو أنّه ناظرٌ إلى كلام صاحب (الميزان)، كما يبدو مشاركته له في هذا الاعتقاد والهمّ.

ولنأخذ بعين الاعتبار أنّ حديث الشهيد الصدر (قدّس سرّه) ناظرٌ بالدرجة الأولى إلى حوزة النجف الأشرف التي لا تزال تعيش إلى يوم كتابة هذه السطور بُعداً عن جوِّ تدريس التفسير على صعيد طبقة العلماء الأولى والمرجعيّات؛ بخلاف حوزة قم، التي استطاع العلّامة الطباطبائي ـ من خلال إصراره الدؤوب وتضحيته بمستقبله المرجعي ـ أن يكرّس فيها درس التفسير، وتمكّن من تربية طبقة من العلماء استطاعت أن تعمّق هذا الجوّ، حتّى بات عاديّاً جدّاً أن يكون للمرجع درسٌ في التفسير إلى جانب درسه الفقهي أو الأصولي المعتاد، وهو ما لا نلمسه في حوزة النجف الأشرف.

ويكفي تأكيداً لما ذكرناه وجود جوٍّ في حوزة النجف الأشرف سمح بإيجاد ضغوطات دفعت مرجع الطائفة الأعلى السيّد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) إلى ترك درس التفسير الذي كان قد شرع به، بينما تحمّل السيّد محمّد حسين الطباطبائي هذه الضغوط وأكمل مشروع تفسيره (الميزان).

وفي حوارٍ جرى بين السيّد الخوئي وبين السيّد رضا الشيرازي (رحمهما الله)، ذكر الأوّل أنّ السيّد الطباطبائي قد ضحّى بنفسه عندما خطا خطوته تلك، غير مبالٍ بالضغوط التي تعرّض لها لثنيه عن السير في دروس التفسير والفلسفة والحكمة((راجع: الشيخ مرتضى المطهّري، ده گفتار، (فارسي)، الصفحة 226؛ السيّد محمّد حسين الطهراني، روح مجرّد (فارسي)، الصفحتان 106 ـ 107، الروح المجرّد، الصفحة 115؛ السيّد محمّد محسن الطهراني، اسرار ملكوت (فارسي)، الجزء 1، الصفحتان 88 ـ 89)).

وقد علّق الشهيد مطهّري في (ده گفتار)((الشيخ مرتضى المطهّري، ده گفتار (فارسي)، الصفحة 226.)) على هذا الموضوع بما خلاصته: إنّ من العجيب أن يؤدّى اهتمام الواحد منّا بالقرآن الكريم إلى تهميشه وتعرّضه للضغوطات والمتاعب الحياتيّة، بينما يؤدّي به اهتمامه بكتاب (كفاية الأصول) إلى أن يملك كلّ شيء..

عودٌ على بدء:

وعلى كلّ حال، فبعد أن حاول الشهيد الصدر لفت نظر الطلّاب إلى أهميّة تفعيل الدرس القرآني في الحوزة العلميّة انبرى إليه أحد تلامذته وقال له: «ليس لها إلّا أنت، وعليك أنت أن تتصدّى لذلك لكي يمشي الأمر في الحوزة»، فقال (قدّس سرّه): «أنا في تفسير القرآن إن لم أكن أقلّ منكم، فمثلكم»، فأجابه أحد الطلبة: «كيف يا سيّدي؟! وأنت بحرٌ بعيد الغور في قدرتك على التفسير؟! سبق وأن سألت سماحتكم عن تفسير آية فأجدتم في تفسيرها وتعمّقتم في جوهرها»، فأجابه السيّد: «إنّك تريد أن تشجّعني؛ لو بعث شيخنا الطوسي أو حاضر السيّد الطباطبائي هنا في النجف لكنت أحد التلاميذ»، وأضاف: «أنا لا أستطيع أن أقيم بحثاً للفقه وآخر للأصول وثالثاً للقرآن»، فقال له أحد طلّابه: «ليس من الضروري أن يكون درس الفقه خمسة أيّام في الأسبوع، فليكن درس القرآن ولو ليومين في الأسبوع مكان درس الفقه»، فوافق السيّد الصدر وقال: «يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء يكونان لدرس التفسير».

وقد تخوّف بعض طلاّبه من عدم استمرار الحضور، فقال (قدّس سرّه): «مسألة الحضور اتركوها لي، فأنا أضمن ذلك، ولكنّني أطلب ملاحظات وآراء أخرى».

واشترط الشهيد الصدر بادئ الأمر أن يكون الحاضرون من طلبة العلوم الدينيّة في مختلف مراحلهم الدراسيّة؛ وذلك منعاً لتفسير السلطة ذلك بوصفه تحرّكاً سياسيّاً في وجهها. وكان ينوي فسح مجال الحضور ـ في مرحلة لاحقة ـ أمام أبناء الأمّة على اختلاف مستوياتهم، وذلك بعد أن يصبح درس التفسير واقعاً لا تقوى السلطة على منعه.

ولأهميّة هذا المجلس شجّع على فكرة تسجيل البحث وتوزيعه من خلال أشرطة الكاسيت؛ ليتمكّن غير الحاضرين من من الاطّلاع على الأفكار والآراء التي تمثّل موقف المرجع من مختلف القضايا في المستقبل؛ فقد كان (قدّس سرّه) يعتقد أنّ المرجعيّة تفتقد إلى الكثير من وسائل الصلة بالأمّة؛ حيث تنحصر صلة الناس بالمرجع بقنوات ضعيفة، كصلاة الجماعة أو الجلسة اليوميّة العامّة، وهي قنوات غير فاعلة وغير مؤثّرة بالنحو الكافي، ولا يستطيع المرجع من خلالها أن يبيّن مواقفه للأمّة.

ومن هنا وجد أنّ فكرة التفسير الموضوعي للقرآن تحقّق هدفين في وقت واحد:

الهدف الأوّل: كتابة تفسير موضوعي للقرآن على طراز جديدٍ وفريد.

الهدف الثاني: إيجاد منبر للمرجع يتمكّن من خلاله من بيان وجهات نظره للأمّة كلّما دعت الحاجة، فيلغي المحاضرة التفسيريّة ليتحدّث عن أيّ حدث أو أمر من الأمور الحسّاسة ويبيّن موقف المرجعيّة منه.

بعد إقرار المشروع، قدّم الشهيد الصدر (قدّس سرّه) إلى تلميذه السيّد محمّد الحيدري قائمةً تضمّ أكثر من أربعين كتاباً حول موضوع السنن التاريخيّة، ومعظمّها لكتّاب غربيّين، وطلب منه استعارتها من مكتبة الخلّاني وإيصالها إليه على دفعات. وبالفعل عثر السيّد الحيدري في المكتبة على معظمها، وأوصلها إليه على ثلاث دفعات.

وبعد ذلك بدأ الشهيد الصدر بإلقاء المحاضرات يوم الثلاثاء في 17/ 1/1399 (17/4/1979م)، وذلك في مسجد الشيخ الطوسي (رحمه الله) عند الساعة العاشرة صباحاً من يومي الثلاثاء والأربعاء من كلّ أسبوع.

ولأوّل مرّة في حياته التدريسيّة منذ أكثر من عقدين من الزمن، لم يجد الشهيد الصدر بدّاً من ارتقاء المنبر؛ وذلك بسبب كثافة الحضور؛ حيث امتلأ المسجد بطلّاب العلوم الدينيّة وأساتذتها، وقد حضر هذا الدرس مجموعةٌ كبيرة من الطلاّب والشخصيّات من الذين لم يكونوا يحضرون درسه المعتاد، كالمرحوم الخطيب السيّد جواد شبّر مثلاً.

استمرَّ درس التفسير الموضوعي لسبعة أسابيع ألقى الشهيد الصدر خلالها أربع عشرة محاضرة، خصّص محاضرتين منها للحديث عن منهج التفسير الموضوعي، وخمساً للحديث عن السنن التاريخيّة في القرآن الكريم، وسبعاً للحديث عن عناصر المجتمع في القرآن الكريم. وقد ألقى المحاضرة الأخيرة يوم الأربعاء في 4 أو 5/ رجب/1399هـ (31/5/1979م)، وقد تحدّث في القسم الأعظم منها حول السلوك وذمّ الدنيا، وبكى وأبكى الحضور، وكان ذاك اليوم يوماً مشهوداً.

لقيت محاضرات التفسير الموضوعي قبولاً واسعاً من أفراد الأمّة وانتشرت بسرعة، وكان لها الأثر الكبير في تعبئة الحوزة العلميّة؛ فقد امتلأ المسجد بالطلبة من الاتّجاهات كافّة، وربّما لم يحصل أن حظي درسٌ في الحوزة العلميّة بالعدد الذي حظي به درس التفسير الموضوعي، حتى إنّ الأشرطة راحت تنتشر بسرعة بين الناس ودخلت البيوت، وأرسلت إلى لبنان وبثّت هناك قبل أن يكتمل عددها.

ومن شدّة تأثير هذه الدروس على السلطة قال رجالها: «لو أنّ السيّد سبّ الحكومة آلاف المرّات كان أهون عليها من هذه الدروس الموضوعيّة المحكمة».

والذي يقرأ ما بين السطور ويدرك الخفايا التي بثّها الشهيد الصدر في ثنايا كلماته ـ خاصّةً في المحاضرة التاسعة حول (التسلّط الفرعوني) ـ لا يعجب من خوف السلطة أبداً.

ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أنّ هدف الشهيد الصدر لم يكن علميّاً، وإنّما كان يريد أن يبعث برسائل سياسيّة إلى السلطة عبر الحديث عن التسلّط الفرعوني على المجتمع.

ولكنّنا نلاحظ بوضوح أنّ تفعيل الدرس التفسيري والبحث القرآني كان هدفاً بحدّ نفسه وضعه الشهيد الصدر نصب عينيه، ولا يمنع ذلك من توفّر دوافع أخرى ساهمت في رفد محفّزاته.

وأخيراً، فإنّ الملفت للنظر أنّ الشهيد الصدر ألمح في المحاضرة الثالثة من محاضراته ـ في 25/جمادى الأولى/1399 هـ (24/4/1979م) ـ إلى دنوّ أجله؛ حيث قال:

«…الآن أودّ أن أذكر مبرّراً عمليّاً، وهو أنّ شوط التفسير التقليدي شوطٌ طويلٌ جدّاً؛ لأنّه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس. وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل إكماله إلى فترة زمنيّة طويلة أيضاً، ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الأعلام إلّا عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته.

ونحن نشعر بأنّ هذه الأيّام المحدودة المتبقّية لا تفي بهذا الشوط الطويل، ولهذا كان من الأفضل اختيار أشواط أقصر؛ لكي نستطيع أن نكمّل بضعة أشواط من هذا الجولان في رحاب القرآن الكريم.

من هنا سوف نختار موضوعات متعدّدة من القرآن الكريم، ونستعرض ما يتعلّق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء. وسوف نحاول أن يكون البحث مضغوطاً بقدر الإمكان لكي نستطيع أن نصل إلى عدد من المواضيع المهمّة، فنقتصر على الأفكار الأساسيّة والمبادئ الرئيسيّة بالنسبة إلى كلّ موضوع. وسوف أحرص على أن لا يستوعب كلّ موضوع إلّا عدداً محدوداً من المحاضرات، أرجو أن يكون بين خمس محاضرات إلى عشر محاضرات؛ لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوّعة من القرآن الكريم»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 45 ـ 46.)).

الباب الثاني

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري الأنا في عين الآخر

قبل أن ننتقل إلى اكتناه خلفيّات أطروحة الشهيد الصدر (قدّس سرّه) ثمّ استبيان مفرداتها فتحليل مقولاتها، رأينا من المفيد أن نستعرض بعضاً ممّا قيل حول أهميّتها ومرتبتها في سلّم العطاءات المقدّمة في هذا المجال، حتّى إذا تصوّر القارئ محلَّها ومكانتها، انتقل إلى الأبواب القادمة علّه يجد ما يبرّر له إحلالَها هذا المحل ويدعوه إلى التصديق بصحّة ذلك.

1 ـ بدايةً اعتبر الدكتور لبيب بيضون تجربة الشهيد الصدر (قدّس سرّه) تجربة غير مسبوقة((الدكتور لبيب بيضون، التفسير التجزيئي‏ والتفسير التوحيدي‏ (الموضوعي) للقرآن الكريم‏ (غير منشور)، أرشيف مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، رقم 186.)).

2 ـ واعترف الدكتور زياد خليل محمّد الدغامين بجودتها((الدكتور زياد خليل محمّد الدغامين، منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 27.)).

3 ـ واعتبرها الباحث الأردني حسن العمري «نقلة نوعيّة في مسار تطوّر حركة التفسير القرآني في التاريخ الإسلامي»((الأستاذ حسن العمري، إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر، الصفحتان 116 ـ 117.)).

4 ـ وممّن توقّف عند هذه المحاولة: الدكتور أحمد رحماني، الذي استعرض تطبيق الشهيد الصدر لمنهجه على موضوع السنن التاريخيّة، ثمّ خلص إلى التقييم والنقد التاليين:

«هذه الدراسة التي قام بها محمّد باقر الصدر في كتابه (مقدّمات في التفسير الموضوعي) تعدّ من أنضج التجارب التفسيريّة في مجالها، خاصّةً في مجال السنن التاريخيّة، وهي في الواقع عبارة عن محاضرات ألقيت على طلبة كليّة الشريعة، ولكن ما يميّزها ـ بعد العمق ـ هو طبيعة الموضوع الذي درس والطريقة المتّبعة في إنجاز هذه الدراسة؛ فقد كان باقر الصدر فيها قادراً على التحليل العلمي المنظّم، وقد ساعده على ذلك قدرته على فهم أعماق النصوص ومحاولة سبر أغوار الآيات القرآنيّة. وربّما كان القسم النظري الذي خصّص له المحاضرتين الأولى والثانية ليبيّن فيه تصوّره لمفهوم التفسير الموضوعي ومنهجه أحدَ العوامل الأساسيّة التي ساعدت على إنجاز العمل التطبيقي بصورته الفذّة التي تجلّت في دراسة السنن الكونيّة.

على أنّ إجادته في هذا البحث لا تخلو من بعض النقائص ذات الطابع المنهجي، التي ربّما أوقعه فيها كون الكتاب عبارة عن محاضرات؛ فقد كانت الدروس [الأربعة عشرة] خاليةً من العناوين، ممّا يصعّب فهم موضوعها بدقّة؛ إذ هناك فرقٌ بين أن نحدّد نحن موضوع المحاضرة وبين أن يحدّده المحاضر نفسه؛ إذ إنّ ذلك ييسّر فهم المقاصد التي يرمي إليها والأفكار التي يسعى لتحليلها. أمّا خلوّ المحاضرة من العنوان، فإنّه يجعلنا نجد صعوبةً في تحديد الأفكار التي تتناولها المحاضرات.

ثمّ هناك مشكلة أخرى تعترضنا في هذا الكتاب، وهي خلوّه من الفهرس، وهذه المشكلة مترتّبة عن المشكلة السابقة.

هذا مع ذلك، فإنّ الدراسة التي قام بها باقر الصدر في هذا الكتاب تعدُّ بحقٍّ نموذجاً فذّاً لطلبة العلم في مجال التفسير الموضوعي.

نقول ذلك ونحن نعلم أنّ خلوَّ الكتاب من المقدّمة وخلوَّه من الخاتمة والإحالات وإهماله لوجهات نظر المفسّرين من جهة، وإهماله لشقٍّ هامٍّ في التفسير الموضوعي ـ وهو التفسير الكشفي الذي يُعنى بالوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم وسوره ـ قد يؤثّر على قيمة الكتاب بعض التأثير، ولكنّه لا ينتقص من كونه نموذجاً في جانب، هو جانب التفسير الموضوعي التجميعي»((الدكتور أحمد رحماني، مصادر التفسير الموضوعي، الصفحتان 47 ـ 48.)).

كما أشاد الدكتور رحماني بعمق تجربة الشهيد الصدر في أبحاث كتابه اللاحقة، والتي خصّصها لقراءة التجارب الأخرى، فيقول مثلاً وهو بصدد قراءة تجربة الدكتور عبد الستّار فتح الله سعيد في كتابه (المدخل إلى التفسير الموضوعي):

«.. ومع أنّ كتاب باقر الصدر كان قد ألّف قبل هذه الفترة((نبّه الدكتور رحماني سابقاً إلى أنّ محاولة الشهيد الصدر عبارة عن محاضرات ملقاة، وأنّها ليست كتاباً مدوّناً، فراجع: المصدر نفسه، الصفحة 47.)) وطُبع في السنة نفسها، فإنّ الدكتور عبد الستّار لم يذكره هنا، ولعلّه لم يعثر عليه، فيكون بذلك قد خسر الاستفادة من منهجيّة باقر الصدر، ومن تحديده للمفهوم، لا سيما ما يتعلّق بالخروج بوحدة التصوّر، أو بنظريّة في الموضوع المفسَّر»((المصدر نفسه، الصفحة 49.)).

ثمّ يضيف: «وأحسبُ أنّ الدكتور عبد الستّار فتح الله لو أضاف إلى تجربَتَي الكومي (1980) والفرماوي (1977) الاستفادة من تجربة الصدر في كتابه السابق وتجربة محمّد محمود حجازي المرسومة بـ(الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم)، لكان بحثه قد اتّجه وجهةً أكثر عمقاً وتنوّعاً؛ لأنّ تجربة الصدر ستعمّق المفهوم في إطار المنهج التجميعي خاصّة، وفي إطار المنهج الكشفي بصفة عامّة»((المصدر نفسه، الصفحتان 50 ـ 51.)).

وفي موضعٍ لاحق، يأخذ الدكتور رحماني على تجربة الباحث علي حسن الخفاجي في أطروحته الجامعيّة حول التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، والتي كتبها تحت إشراف الدكتور محمّد حسين آل الصغير تجاهلها تماماً لأطروحة الصدر، فيقول:

«والغريب أنّ باقر الصدر كان قد سبق إلى تعريف التفسير الموضوعي تعريفاً جيّداً، كما سبق إلى التفرقة بين التفسير التسلسلي والتفسير الموضوعي، ولكنّ الباحث قد تجاهل ذلك. وأظنّ أنّ سبب التجاهل يعود إلى التعصّب المذهبي الذي كثيراً ما يجني على البحث العلمي»((المصدر نفسه، الصفحة 56.)).

وعندما وصل إلى تجربة الدكتور مصطفى مسلم أخذ على تعريفه عدم ذكره أهمَّ عنصر في التفسير الموضوعي، وهو الخروج بنظريّة أو تصوّر في الموضوع، «على الرغم من أنّ الباحث في هذا الكتاب قد عرض لتعريف باقر الصدر الذي يتميّز بالإشارة إلى هذا الجانب»((المصدر نفسه، الصفحة 65.)).

5 ـ أمّا الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، فقد ذكر أنّ «أمر الشهادة بالحقّ يقتضينا أن نقرّر أنّ محاولته في التفسير الموضوعي كانت من أوّل المحاولات في هذا المجال، وقدّم من الدراسات التطبيقيّة بحثاً في السنن التاريخيّة في القرآن الكريم، ما يجعله رائداً لكلّ من جاء بعده، متقدّماً عليهم بجودة البذل والعطاء»((الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 47.)).

وكان الدكتور عبد الرحيم قد نصّ قبل صفحات على أنّ درجة التفسير الموضوعي درجة متفوّقة في التفسير التقليدي، وأنّ غيرَ العالم المتخصّص في التفسير ـ الذي هو على درجة كبيرة من الأهليّة ـ قد يسيئ في الوقت الذي يتصوّر فيه أنّه يحسن((المصدر نفسه، الصفحة 36.))؛ لأنّ عمليّة تجميع الآيات وأخذ النتيجة منها تحتاج إلى دقّة وظرافة وذوق ووعي كامل وإحاطة تامّة بالآيات القرآنيّة والتفاسير((الشيخ ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، نفحات القرآن، الجزء 1، الصفحة 20.)).

وفي موضعٍ لاحقٍ من كتابه، تعرّض الدكتور عبد الرحيم إلى العطاء التطبيقي للشهيد الصدر في موضوعَي السنن التاريخيّة وعناصر المجتمع، فقال:

«..بالرغم من عدم التزامه بالحرفيّة لشكل المنهج ـ فلم نره قد جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع ورتّبها حسب النزول أو حسب ترتيب المصحف ـ إلّا أنّه قدّم نموذجاً رائعاً في التفسير الموضوعي؛ حيث جسّد الثمرة المرجوّة من المنهج علميّاً في هذا البحث.

بل نراه بالفعل قد اتّبع حقيقة المنهج، وتجلّت روحه في البحث ظاهرةً للعيان؛ فإنّ الشكليّة التي أشرنا إليها لا تمثّل صلب المنهج، وإنّما هي وسيلة من الوسائل وسببٌ من الأسباب التي تسهّل على الباحث أمر الاسترشاد بها، وبما يجمع حولها من كتب التفسير بما يخدمه في بحثه.

أمّا إذا كان من العلماء الراسخين، فلا عليه أن يبدأ من حيث ينتهي إليه بحث المتعلّمين؛ فقد حالفه التوفيق في اختيار الموضوع، وفي ما أثاره من أسئلة حسّاسة حوله، وفي عرضه للموضوع؛ فبعد أن كشف عن صلة القرآن الكريم بالعلوم المختلفة بإيجاز مفيد، وضّح وجه صلته بهذا الموضوع من وجه كونه كتابَ هداية وعمليّة تغيير، واستنطق الآيات القرآنيّة بفراقين الهداية الحقّة.

وقد ظهرت شروط الأهليّة جليّةً في طريقة عرضه وتحليله واستنتاجه؛ فتراه وهو يتحدّث: عالماً اجتماعيّاً فاق ما وصل إليه علماء الاجتماع، وتاريخيّاً سبق بالنظرة الثاقبة والفهم الصائب في الكشف عن السنن الربّانيّة في التغيير كما توضحه الآيات القرآنيّة، الأمر الذي تنجلي على ضوئه فلسفة التاريخ.

بالإضافة إلى ذلك، فقد اتّخذ من واقع الأمّة التي نزل عليها القرآن، ومن سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) وصحابته الكرام نقطة الانطلاق، والمرجع الأساسي في تقرير الحقائق التي كشفت عنها ونطقت بها آيات الكتاب المبين.

وبالفعل، فقد جاء بحثه جديداً ومفيداً، جزاه الله كلَّ خير»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحتان 86 ـ 87.)).

6 ـ لكن من الغريب ما وقع من بعض الباحثين، حيث صنّف أطروحة الصدر ضمن الدراسات التجزيئيّة؛ فبعد أن عرّف الأصل التجزيئي بأنّه: «أن تلحظ كلّ آية على انفراد، أو ما يُسمّى بالمبدأ التفكيكي…» قال: «ثمّ إنّ التفسير التجزيئي على نوعين: 1 ـ التفسير التجزيئي بلحاظ كلّ آية منفردة. 2 ـ التفسير التجزيئي بلحاظ الوحدات الموضوعيّة، كانتزاع الحركة الجدليّة التاريخيّة من المفهوم القرآني كما سار عليه مالك بن نبي والسيّد الصدر»((الشيخ محمّد محمّد طاهر آل شبير الخاقاني، القرآن والأصول الموضوعيّة العامّة، الجزء 2، الصفحات 10 ـ 11، 223 ـ 224.)).

ولم يوضح الباحث كيف يكون التفسير الذي قدّمه الشهيد الصدر تفسيراً تجزيئيّاً؟! وإذا صحّت تسميته بالتجزيئي على أساس أنّ الموضوع الذي تناوله كان جزءاً، فما هو الموضوع الذي يُمكن تناوله ولا يكون جزءاً كي لا يكون تفسيره بالتالي تجزيئيّاً؟!

 

الباب الثالث

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري اكتناه الخلفيّات

لم يكن المعنى الذي طرحه الشهيد الصدر (قدّس سرّه) حول عمليّة التفسير الموضوعي طفرةً في منظومته الفكريّة، بل كان تجلّياً منطقيّاً لمبانيه وآرائه المعرفيّة.

حتّى إنّنا إذا أمعنّا النظر في آخر ما كتبه قبل استشهاده (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء)((الإسلام يقود الحياة، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الصفحتان 159 ـ 160.)) على سبيل المثال ـ فسنجد أنّه يقول عمليّاً بأنّ على المرجع الديني أن يكون مفسّراً موضوعيّاً، وإن لم يقدّم أطروحة مدوّنة في موضوعات معيّنة.

ويحدونا إلى الاعتقاد بذلك ما اشترطه في المرجع من أن يكون مجتهداً في الشريعة وأن يحافظ عليها، ويكون في الوقت نفسه رقيباً على الأمّة ويقدّم لها الحلول، وما ذلك إلّا صياغة أخرى للتفسير الموضوعي القائم عنده ـ في أنصع صوره ـ على المزاوجة بين الواقع وبين النصّ الديني، بمعنىً سنقوم بتوضيحه قريباً إن شاء الله تعالى.

والحقيقة أنّ الوقوف على خلفيّات الشهيد الصدر الفكريّة التي أولدت أطروحة التفسير الموضوعي يحتاج بنفسه إلى دراسة مستقلّة، ولهذا نكتفي في المقام بالإشارة السريعة إلى أبرز هذه الخلفيّات والثوابت التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند دراسة أطروحة مهمّة لديه على مستوى أطروحة التفسير الموضوعي، مكتفين غالباً بتسجيل نصوصه الناطقة:

الشريعة الإسلاميّة وتربيتها على الثقافة الإلهيّة:

بحسب الشهيد الصدر((الفتاوى الواضحة، موجز في أصول الدين، الصفحتان 76 ـ 77.))، فإنّ الرسالة التي طلع بها النبي (صلّى الله عليه وآله) على العالم ـ متمثّلةً في القرآن الكريم والشريعة الإسلاميّة ـ تميّزت بخصائص كثيرة:

منها: أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهيّة عن الله سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشريّة ووحدة رسالتهم.

ومنها: أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان والعمل والعلاقات الاجتماعّية، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام.

شموليّة الفكر الإسلامي وواقعيّته:

ربّما يكون واضحاً لمتتبّعي تراث الشهيد الصدر الفكري أنّه كان كثير الاستحضار لثنائي (النص ـ الواقع)، وقد تجلّى هذا الثنائي في مختلف كتاباته بعدّة مظاهر لا يسعنا التعرّض لها في هذه العجالة.

وبشكل عام، يعتقد الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنّ الشريعة قد جاءت شاملةً لجميع مجالات الحياة، مستوعبةً لها؛ فإنّ «شمول الشريعة واستيعابها لجميع مجالات الحياة من الخصائص الثابتة لها.. فنحن نستطيع أن نجد في هذه المصادر نصوصاً تؤكّد بوضوح على استيعاب الشريعة وامتدادها الى جميع الحقول التي يعيشها الإنسان، واعتنائها بالحلول لجميع المشاكل التي تعترضه في شتّى المجالات»((المدرسة الإسلاميّة، الصفحتان 144 ـ 145.)).

فـ «ما نتوقّعه من الفكر الإسلامي صفة الشمول من ناحية، وصفة الواقعيّة من ناحية أخرى، أي: أن يتناول الواقع؛ لأنّ الفكر الإسلامي كلّه مرتبط بالواقع الخارجي وليس لدينا فيه ما هو غير مرتبط به، ولكنّ هذا الواقع فيه غيب وفيه شهادة.

فالواقعيّة إذاً في الفكر الإسلامي أحد فلسفاته الرئيسيّة، وكذلك الشموليّة، بمعنى أنّه استوعب الواقع كلّه بكلّ مفرداته ولم يدع جانباً منه إلّا وغطّاه، ولذلك فهو قادر على نقل الإنسان من فكر يعتنقه إلى فكر آخر، وهو فكره.

ومن هنا نجد أنّ الذي يحرّك الإنسان في الحقيقة عبارة عن أمرين: إيمانه بواقعيّة الفكر أوّلاً، وإيمانه بشموليّته ثانياً.

وباعتبار أنّ مصدر الفكر الإسلامي هو مصدر الواقع نفسه، فهو من ناحيةِ عنصر الواقعيّة مطابقٌ للواقع مائة في المائة، ومن ناحية عنصر الشموليّة هو أقدر من أيّ فكر آخر مطروح على تحريك الإنسان؛ فهو قادرٌ على تحريك الإنسان بأعلى مراتب التحريك ودرجاته.

إذاً، بالنسبة لنا، بالنسبة إلى طالب العلم، بالنسبة إلى من يرغب في دراسة الإسلام والتعرّف عليه، يجب أن لا نُغفل هذين المبدئين الرئيسيّين: الواقعيّة والشموليّة… يتوقّع الإنسان أن يقدّم له الإسلام فكراً شاملاً وتصوّراً شاملاً حول الواقع، بحيث لا توجد ظاهرة في الواقع الاجتماعي البشري أو في الواقع التاريخي إلّا ويفسّرها من زاوية إسلاميّة، ولا يوجد جزءٌ من أجزاء الوجود الكوني أو جزءٌ من أجزاء المسيرة التاريخيّة إلّا ويحدّد له موقعه المحدّد»((السيّد محمّد باقر الصدر، خصائص الفكر الإسلامي (محاضرة تُنشر قريباً لأوّل مرّة)، الصفحات 13ـ 14، 17.)).

وعلى هذا الأساس ردّ الشهيد الصدر فكرة نقصان الشريعة وعدم كفاية الكتاب والسنّة، واعتبرها فكرةً تطوّرت «وتفاقم خطرها بالتدريج؛ إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة ـ أي البيان الشرعي ـ بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألةَ نقصان في البيان والتوضيح، بل في التشريع الإلهي بالذات»((السيّد محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، الصفحة 54.)).

القرآن الكريم هو الحجّة الأولى والمربّي الأوّل والمرجع الأعلى:

يحتلُّ القرآن الكريم في المنظومة الإسلاميّة مساحةً واسعة على مختلف الصعد: التربويّة، النفسيّة، التشريعيّة، وغيرها الكثير. وهو «الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين (صلّى الله عليه وآله)»((المصدر نفسه، الصفحة 48.))، وهو نصٌّ سالمٌ عن التحريف، فشكّلت سلامته هذه «الشرطَ الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها»((الفتاوى الواضحة، موجز في أصول الدين، الصفحة 88.)).

وهو حجّة على أصل الدين قبل مرتبة الأولياء؛ فإنّ «ربط الناس بالإمام فرع إقامة الحجّة على أصل الدين، المتوقّفة على فهم القرآن وإدراك مضامينه»((السيّد محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، الصفحتان 309 ـ 310.)).

«ولا يزال القرآن الكريم كما كان بالأمس وحده القادر على إعطاء هذه الرسالة وإنشاء الأمّة على أساسها كقوّة رائدة إلى طريق الخلاص للبشريّة كلّها… فهكذا اليوم يجب ـ لكي يؤدّي القرآن الكريم دوره من جديد ـ أن ينشئ القيادة الصالحة ثمّ الأمّة الواعية.

فلا بدّ للمسلمين أن يختمر القرآن في عقول القادرين منهم على الارتفاع إلى مستوى الرسالة الإسلاميّة والاندماج في إطارها؛ ليحصل القرآن عن هذا الطريق على قيادة واعية تعبّد له الطريق إلى قلوب الناس جميعاً وعقولهم، ليمارس بالتدريج بناء الأمّة وتربيتها»((السيّد محمّد باقر الصدر، ومضات، الصفحتان 217 ـ 218.)).

فـ «ما نتوقّعه من الفكر الإسلامي صفة الشمول من ناحية، وصفة الواقعيّة من ناحية أخرى، أي: أن يتناول الواقع؛ لأنّ الفكر الإسلامي كلّه مرتبط بالواقع الخارجي وليس لدينا فيه ما هو غير مرتبط به، ولكنّ هذا الواقع فيه غيب وفيه شهادة.

فالواقعيّة إذاً في الفكر الإسلامي أحد فلسفاته الرئيسيّة، وكذلك الشموليّة، بمعنى أنّه استوعب الواقع كلّه بكلّ مفرداته ولم يدع جانباً منه إلّا وغطّاه، ولذلك فهو قادر على نقل الإنسان من فكر يعتنقه إلى فكر آخر، وهو فكره.

ومن هنا نجد أنّ الذي يحرّك الإنسان في الحقيقة عبارة عن أمرين: إيمانه بواقعيّة الفكر أوّلاً، وإيمانه بشموليّته ثانياً.

وباعتبار أنّ مصدر الفكر الإسلامي هو مصدر الواقع نفسه، فهو من ناحيةِ عنصر الواقعيّة مطابقٌ للواقع مائة في المائة، ومن ناحية عنصر الشموليّة هو أقدر من أيّ فكر آخر مطروح على تحريك الإنسان؛ فهو قادرٌ على تحريك الإنسان بأعلى مراتب التحريك ودرجاته.

إذاً، بالنسبة لنا، بالنسبة إلى طالب العلم، بالنسبة إلى من يرغب في دراسة الإسلام والتعرّف عليه، يجب أن لا نُغفل هذين المبدئين الرئيسيّين: الواقعيّة والشموليّة… يتوقّع الإنسان أن يقدّم له الإسلام فكراً شاملاً وتصوّراً شاملاً حول الواقع، بحيث لا توجد ظاهرة في الواقع الاجتماعي البشري أو في الواقع التاريخي إلّا ويفسّرها من زاوية إسلاميّة، ولا يوجد جزءٌ من أجزاء الوجود الكوني أو جزءٌ من أجزاء المسيرة التاريخيّة إلّا ويحدّد له موقعه المحدّد»((السيّد محمّد باقر الصدر، خصائص الفكر الإسلامي (محاضرة تُنشر قريباً لأوّل مرّة)، الصفحات 13ـ 14، 17.)).

وعلى هذا الأساس ردّ الشهيد الصدر فكرة نقصان الشريعة وعدم كفاية الكتاب والسنّة، واعتبرها فكرةً تطوّرت «وتفاقم خطرها بالتدريج؛ إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة ـ أي البيان الشرعي ـ بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألةَ نقصان في البيان والتوضيح، بل في التشريع الإلهي بالذات»((السيّد محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، الصفحة 54.)).

القرآن الكريم هو الحجّة الأولى والمربّي الأوّل والمرجع الأعلى:

يحتلُّ القرآن الكريم في المنظومة الإسلاميّة مساحةً واسعة على مختلف الصعد: التربويّة، النفسيّة، التشريعيّة، وغيرها الكثير. وهو «الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين (صلّى الله عليه وآله)»((المصدر نفسه، الصفحة 48.))، وهو نصٌّ سالمٌ عن التحريف، فشكّلت سلامته هذه «الشرطَ الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها»((الفتاوى الواضحة، موجز في أصول الدين، الصفحة 88.)).

وهو حجّة على أصل الدين قبل مرتبة الأولياء؛ فإنّ «ربط الناس بالإمام فرع إقامة الحجّة على أصل الدين، المتوقّفة على فهم القرآن وإدراك مضامينه»((السيّد محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، الصفحتان 309 ـ 310.)).

«ولا يزال القرآن الكريم كما كان بالأمس وحده القادر على إعطاء هذه الرسالة وإنشاء الأمّة على أساسها كقوّة رائدة إلى طريق الخلاص للبشريّة كلّها… فهكذا اليوم يجب ـ لكي يؤدّي القرآن الكريم دوره من جديد ـ أن ينشئ القيادة الصالحة ثمّ الأمّة الواعية.

فلا بدّ للمسلمين أن يختمر القرآن في عقول القادرين منهم على الارتفاع إلى مستوى الرسالة الإسلاميّة والاندماج في إطارها؛ ليحصل القرآن عن هذا الطريق على قيادة واعية تعبّد له الطريق إلى قلوب الناس جميعاً وعقولهم، ليمارس بالتدريج بناء الأمّة وتربيتها»((السيّد محمّد باقر الصدر، ومضات، الصفحتان 217 ـ 218.)).

وهذه الأهميّة الكبرى التي يحتلّها القرآن الكريم ودعوة المسلمين إلى الانصهار به تسير في سياق أنّ التعبّد بالنصّ الإسلامي ـ أيّ النص الصحيح ـ يعبّر عن أرقى درجات الانصهار بالرسالة؛ وذلك على أساس «أنّ الاتّجاه الذي يمثّل التعبّد بالنصّ يمثّل الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها، وهو لا يرفض الاجتهاد ضمن إطار النصّ وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي منه»((السيّد محمّد باقر الصدر، التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية)، الصفحتان 55 ـ 56.)).

وهناك بحوثٌ طويلة حول مرجعيّة النص القرآني يُمكن العثور عليها في ما بحثه الشهيد الصدر مفصّلاً في ما يُعرف ببحث (التعارض) في علم الأصول، ولكنّ الدخول في تفاصيلها سيخرجنا عن أصل البحث، ومن هنا نكتفي بتسجيل بعض كلماته الواردة في مواضع أخرى:

فها هو في فدك في التاريخ يردّ حديثاً مناقضاً للقرآن الكريم بقوله:

«ونعرف ممّا سبق أن صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما أراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم، ومصيرها الإهمال حينئذٍ… لأنّ المعارض للقرآن باطل بلا ريب; لأنّه الحقّ، وهل بعد الحقّ إلّا الضلال؟!»((السيّد محمّد باقر الصدر، فدك في التاريخ، الصفحة 157.))؛ إذ «لا يجوز أن يرد من جهتهم (عليهم السلام) ما يضادّ القرآن وينافيه»((السيّد محمّد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى، الجزء 3، الصفحة 309.))، ولهذا إذا تعارض النصّ القرآني مع خبر الواحد «قُدّم الدليل القرآنيّ القطعيّ ولم يكن خبر الواحد حجّةً في مقابله»((في علم الأصول، الحلقة الثانية، الصفحة 383.))، فيسقط في مادة الاجتماع إذا عارضه بالعموم من وجه((دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، الصفحة 351؛ بحوث في شرح العروة الوثقى، الجزء 1، الصفحة 83.)).

ونجد أنّ الشهيد الصدر (قدّس سرّه) عندما يصل إلى قول السيّد محسن الحكيم (قدّس سرّه): «الأحوط القراءة بإحدى القراءات السبع، وإن كان الأقوى جواز القراءة بجميع القراءات التي كانت متداولةً في زمان الأئمّة (عليهم السلام)»؛ يعلّق قائلاً: «ولم يعلم بمخالفتها لواقع النصّ القرآني»((منهاج الصالحين، الجزء 1، الصفحة 254.)).

روح القرآن الكريم هي الحاكمة على نصوص الشريعة:

من الأفكار المهمّة جدّاً التي يظهر ميلُ الشهيد الصدر إلى تبنّيها، والتي من شأنها أن تُحدث تغييراً جوهريّاً في تحديد الموقف من العلاقة التي تحكم القرآن الكريم بالسنّة الشريفة، ولكن لم يتسنَّ له تطبيقها وتسييلها بنحوٍ كافٍ: فكرة حكومة الروح العامّة للقرآن الكريم على النصوص؛ فقد تعرّض (قدّس سرّه) في بحث أخبار الطرح من كتاب (التعارض) إلى ثلاثة طوائف من هذه الأخبار:

الطائفة الأولى: مفادها استنكار صدور ما يخالف كتاب الله عن المعصومين (عليهم السلام).

الطائفة الثانية: مفادها إناطة العمل بالرواية على أن تكون موافقةً لكتاب الله وعليها شاهدٌ منه.

الطائفة الثالثة: ومفادها نفي حجيّة ما يخالف كتاب الله، و قد اشتملت هذه الطائفة على عقدين: أحدهما سلبي يردع عن حجيّة ما خالف الكتاب الكريم، وآخر إيجابي يأمر بأخذ ما وافق الكتاب الكريم.

وقال (قدّس سرّه) في النقطة التاسعة وهو في مقام التعليق على هذه الأخبار:

«قد أشرنا في ما سبق إلى أنّه يمكن تفسير مفاد هذه الأخبار بنحو آخر لا يُحتاج معه إلى جلّ الأبحاث المتقدّمة، و ذلك التفسير هو: أنّه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه: طرح ما يخالف الروح

العامّة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذٍ: أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجّة، و ليس المراد المخالفة والموافقة المضمونيّة الحدّيّة مع آياته.

فمثلاً: لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق، أو أنّهم قسمٌ من الجن، قلنا: إنّ هذا مخالفٌ مع الكتاب، الصريحِ في وحدة البشريّة جنساً وحسباً، ومساواتهم في الإنسانيّة ومسؤوليّاتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم.

وأمّا مجي‏ء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً، فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحثّ على التوجّه إلى الله والتقرّب منه عند كلّ مناسبة وفي كلّ زمان ومكان.

وهذا يعني أنّ الدلالة الظنيّة المتضمّنة للأحكام الفرعيّة في ما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنيّة الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامّة، خصوصاً إذا ثبتت حجيّتها بالكتاب نفسه.

وممّا يعزّز هذا الفهم ـ مضافاً إلى أنّ هذا المعنى هو مقتضى طبيعة الوضع العام للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ودورهم في مقام بيان الأحكام، الأمر الذي كان واضحاً لدى المتشرّعة ورواة هذه الأحاديث أنفسهم، والذي على أساسه أمروا بالتفقّه في الدين والاطلاع على تفاصيله وجزئيّاته التي لا يمكن معرفتها من القرآن الكريم، ممّا يشكّل قرينة متّصلة بهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى ـ ما نجده في بعضها من قوله: ([فـ]وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من [كتاب الله])((محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، الجزء 2، الصفحة 222، الحديث 4.))؛ فإن التعبير بـ(الشاهد) ـ الذي يكون بحسب ظاهره أعمّ من الموافق بالمعنى الحرفي، مع عدم الاقتصار على شاهد واحد ـ خيرُ قرينة على أنّ المراد: وجود الأمثال والنظائر، لا الموافقة الحديّة.

وقد جاء هذا المعنى في رواية الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح: «قال: إذا جاءك الحديثان المختلفان فَقِسهُما على كتاب الله وأحاديثنا: فإن أشبهها فهو حقّ، وإن لم يشبهها فهو باطل»((محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، الجزء 27، الصفحة 123، الباب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، الحديث 48.)).

وهذه الرواية وإن كانت واردة في فرض التعارض، إلّا أنّها ـ بحسب سياقها ـ تشير إلى نفس القاعدة المؤكّد عليها في مجموع أخبار الباب.

وعلى هذا الأساس يتّضح أنّه لا يستفاد من أخبار الطرح إلغاء الأدلّة الظنيّة المعارضة مع الكتاب الكريم معارضةً لا توجب إلغاء أصل مفادٍ قرآنيٍّ واضح، كما في موارد التعارض غير المستقر، بل التعارض بنحو العموم من وجه أيضاً، وإنّما نحكم بسقوطها في مورد المعارضة بمقتضى القاعدة المتقدّم شرحها في المسألة السابقة»((السيّد محمّد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، الجزء 7، الصفحات 333 ـ 335. وانظر: مباحث الأصول ق2، الجزء 5، الصفحتان 652 ـ 653.)).

وقريبٌ من هذا المعنى ما ورد في تقرير بحث السيّد علي السيستاني (حفظه الله)؛ حيث ذكر وهو في صدد مناقشة نسبة القول بالقياس إلى ابن الجنيد:

«أنّ معظم الأصوليّين المتأخّرين فسّروا الأحاديث الآمرة بعرض الخبر على الكتاب والسنّة ـ نحو: (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف [كتاب الله فدعوه])((الكافي، الجزء 1، الصفحة 69، الحديث 1.)) ـ بالموافقة والمخالفة النصّيّة، بمعنى: أنْ يعرض الخبر على آية قرآنيّة معيّنة، فإن كانت النسبة بينهما هي التباين أو العموم من وجه طرح الخبر، وإن كانت النسبة هي التساوي أو العموم المطلق أخذ.

ولكنّنا نفهم أنّ المراد بالموافقة: الموافقة الروحيّة، أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الإسلاميّة العامّة المستفادة من الكتاب والسنّة، فإذا كان الخبر مثلاً ظاهره الجبر فهو مرفوض؛ لمخالفته قاعدة الأمر بين الأمرين المستفادة من الكتاب والسنّة بدون مقارنته مع آية معيّنة.

وهذا المفهوم الذي نطرحه هو الذي يعبّر عنه علماء الحديث المتأخّرون بالنقد الداخلي للخبر، أي مقارنة مضمونه مع الأصول العامّة والأهداف الإسلاميّة، وهو المعبَّر عنه في النصوص بالقياس، نحو: ([فقسهما] على كتاب الله)((وسائل الشيعة، الجزء 27، الصفحة 123، الباب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، الحديث 48.))»((السيّد علي السيستاني، الرافد في علم الأصول، الجزء 1، الصفحتان 11 ـ 12.)).

وإذا لم تكن الفرصة قد سمحت للشهيد الصدر بتسييل هذا المبدأ كما ذكرنا، فهذا لا يعني أنّه لم يُعمله أساساً في أبحاثه وما وصلنا منه؛ لأنّ أطروحته في اكتشاف المذهب الاقتصادي في (اقتصادنا) قامت على ما بات يُعرف بـ(فقه النظريّة)، وقد أشرنا بإيجاز إلى هذا المنهج في الباب الخامس، تحت عنوان: التفسير الموضوعي يستهدف الخروج بنظريّة (مركّب نظري).

عدم نفاد القرآن الكريم يؤمّن جانب الشموليّة:

إنّ من خصائص القرآن الكريم الهامّة، والتي تشكّل مبرّراً معرفيّاً لبحث التفسير الموضوعي: ديمومته وعدم نفاد كلماته؛ فإنّ «كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرّك في اتّجاه المطلق لا يتوقّف»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 23.))، و«القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي بين أيدينا الذي يوفّر للإنسان جانب الشموليّة في فكره.

ومن هنا، فلا ينبغي أن يحلّ بديلاً عنه أيّ كتاب من الكتب الأخرى؛ فإنّ بعض الدراسات القائمة حول أصول العقائد ومسائلها أو في الفكر الإسلامي يحتاج إليها الإنسان في تعلّمه، ولكن من غير الممكن أن يتجاهل الكتاب الكريم بوصفه المصدر الأساس للفكر الإسلامي الشامل؛ لأنّ الشموليّة مفقودة في غير كتاب الله عزّ وجلّ»((خصائص الفكر الإسلامي (محاضرة غير منشورة)، الصفحة 16.)).

أمّا ما نزل القرآن الكريم لعلاجه، فلا ينبغي افتراضه مانعاً دون الاستفادة المتجدّدة والمعاصرة منه، وهو ما تشير إليه الروايات المعروفة بـ(أخبار الجري)، والتي معناها «أنّه إذا ورد حكم عامّ أو مطلق فلا ينبغي فرض تخصيصه وتقييده بخصوص الظروف والملابسات التي اشتمل عليها المصداق الذي كان سبب النزول لذلك الحكم العامّ»((بحوث في شرح العروة الوثقى، الجزء 1، الصفحة 44.)).

القرآن الكريم يبني الحياة إلى جانب إعماره القلوب:

إنّ «القول بأنّ الشريعة تنظِّم سلوك الفرد لا المجتمع يتناقض مع نفسه، إضافةً الى اصطدامه بتلك النصوص((وهي نصوص سبق للشهيد الصدر أن عرضها في بحثه.)); لأنّه حين يفصل سلوك الفرد وتنظيمه عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير؛ من ناحية أنّ النظام الاجتماعي لأيِّ جانب من الجوانب العامّة في المجتمع ـ سواء كان اقتصاديّاً، أم سياسيّاً، أم غير ذلك ـ يتجسّد في سلوك الفرد، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد بصورة منعزلة عن تنظيم المجتمع»((المدرسة الإسلاميّة، الصفحة 146.))، فكان «الإسلام ثورة لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعي عن المحتوى الروحي، ومن هنا كان ثورةً فريدةً على مرّ التاريخ»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 32.)).

وعلى هذا الأساس لم يكن القرآن الكريم كتاباً سماويّاً يعمر قلوب الناس فحسب، بل هو كتاب بناءٍ للحياة؛ فإنّ «القرآن لا يحمي العالم الإسلامي من النفوذ الكافر ولا يهدّد البلاد الاستعماريّة بالذات لو لم يكن كتاب دين يعمر القلوب، ومبدأ بناء لحياة الأمم»((ومضات، الصفحة 290.))، وذلك من خلال تطبيقه على الأرض؛ فإنّ «هذا القرآن الكريم مجرّد كونه فطريّاً لا يكفي لحلّ مشكلة الاُمّة، بل لا بدّ وأن نقول للمجتمع إنّ هذا القرآن جاهز لأنْ يطبّق، وأن يحلّ مشاكلكم في كلّ لحظة وفي أيّ وقت، ويأخذ طريقه إلى الحياة»((ومضات، الصفحة 405.)).

وكيف لا يكون كذلك! وقد «دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث الى الاُمّة في قضايا الحكم توعيةً منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 153.))، فقدّم الدين صوراً رائعةً «في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع الذاتيّة وسُبُل الخير في الحياة، ويطوّر من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقيّة العامّة للإنسانيّة التي يحدّدها الإسلام مترابطتان»((اقتصادنا، الصفحة 357.)).

ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ القرآن الكريم نزل مرّتين: «نزل دفعة ككلّ لإعداد القائد ، ونزل تدريجيّاً كأجزاء لإعداد الأمّة»((ومضات، الصفحة 216.)).

علاقة النصّ بالواقع علاقة تغيير لا تبرير:

يعتبر الشهيد الصدر أنّ الإسلام «ثورةٌ لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم ، وليس تفسيراً موضوعيّاً للواقع»((اقتصادنا، الصفحة 362.))، ويجب أن نعيشه ـ بخلاف متأوّليه ـ «خالصاً وبعيداً عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه»((المصدر نفسه، الصفحة 449.)).

ولذلك فإنّنا عندما نتحدّث عن علاقة النصّ بالواقع لا نتحدّث عن تبرير الواقع وشرعنته على ضوء النصّ؛ فإنّ «عمليّة تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس ـ بقصد أو بدون قصد ـ إلى تطوير النصوص وفهمها فهماً خاصّاً يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين ممّن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يُخضع النصّ للواقع بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النصّ»((المصدر نفسه، الصفحة 448.)).

وهذه العمليّة تقود إلى عمليّة دمج النصّ ضمن إطار معيّن، أي «دراسة النصّ في إطار فكري غير إسلامي، وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش وقد لا يكون، فيحاول الممارس أن يفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله واجتازه إلى نصوص اُخرى تواكب إطاره أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير»((المصدر نفسه، الصفحة 449.)).

هذه محطّات مختصرة جدّاً تعبّر عن ومضات من الأسس التي تقوم عليها أطروحة التفسير الموضوعي الصدري.

وقد اكتفينا بالإطلالة عليها بالقدر الذي يخدم أطروحتنا، وإلّا فإنّ لتوضيحها والتوسّع فيها مجالاتٍ أخرى. كما إنّنا لم نشر عند كلّ مبدأ إلى موارد الإفادة منه في ثنايا الأطروحة، بل سكتنا عن ذلك واكتفينا بالعرض، ليقف القارئ الكريم بنفسه لاحقاً على موارد الإفادة منها.

ونودّ أن نشير أخيراً إلى أنّه إذا كان استحضارنا لجملة من مباني الشهيد الصدر (قدّس سرّه) الفكريّة يؤدّي إلى رفع عددٍ من الإشكالات التي سجّلت على محاولته، فهذا لا يعني تعريضاً بأصحاب هذه الإشكالات واتّهامهم بعدم أخذ هذه المباني والأسس بعين الاعتبار؛ فإنّ من يدرس أطروحة الشهيد الصدر حول التفسير الموضوعي ليس معنيّاً بنحو ملزم بالرجوع إلى مختلف مؤلّفاته ومقالاته ومحاضراته ليتجنّب إشكالاً هنا أو هناك، ولكنّ ذلك ـ في الوقت نفسه ـ لا يسلبنا الحقَّ في بيان ما من شأنه توضيح العديد من الملابسات، وربّما لو كان شهيدنا الصدر قد وفّق إلى تدوين هذه المحاضرات بنفسه وإخراجها من صيغة المحاضرة إلى الصيغة العلميّة المكتوبة لوفّر علينا الكثير من الكرّ والفرّ.

الباب الرابع

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري توصيف البناء السفلي

لم تكن أطروحة التفسير الموضوعي التي قدّمها الشهيد الصدر عام 1979م محاولته الأولى في هذا المجال؛ فقد سبق أن نشر قبل ما يقرب من عقدين ثلاثة مقالات مختصرة في هذا المجال، وهي عبارة عن: العمل الصالح في القرآن((مجلّة الأضواء، العدد السابع، السنة الثانية، رمضان المبارك 1381 هـ.))، الحريّة في القرآن((مجلة الأضواء، العدد الأول، السنة الثانية، 15 ربيع الأول 1381هـ))، دروس من القرآن الكريم((مجلة الأضواء، العدد 7 ـ 8، السنة الثالثة، رمضان وشوال 1382 هـ))، وقد تجلّت فيها بعض ملامح منهجه، خاصّة في المقالَين الأوّلين.

ومع ذلك، فإنّنا سنهمل في هذا الباب العطاءات التطبيقيّة المذكورة ـ بل والعطاءات التطبيقيّة لمحاضرات التفسير الموضوعي كما أشرنا سابقاً ـ ، وسنكتفي بتركيز الجهد على المحاضرتين الأوليين من محاضرات التفسير الموضوعي؛ حيث سنفي بما وعدنا به في بداية الفصل الثالث ونقوم باستبيان مفردات هذه الأطروحة كما عرضها صاحبها، وذلك تمهيداً للدخول في حيثيّات المعنى الصدري الذي تميّز عن المعنى المشهوري.

وسنتبيّن في هذا الباب مفردات (البناء السفلي) لأطروحة التفسير الموضوعي، وقد عنينا به ـ كما أشرنا سابقاً ـ أطروحة التفسير التجزيئي التي تقوم عليها أطروحة التفسير الموضوعي، والتي سنعبّر عنها بـ(البناء العلوي).

وإذا كان من المنطقي أن ندلّل للقارئ كيفيّة ابتناء منهج التفسير الموضوعي على منهج التفسير التجزيئي وتشكيل الأخير القاعدة والبناء السفلي له، فإنّ بعض المبرّرات المنطقيّة كذلك تدعونا إلى إرجاء ذلك ريثما تتّضح أطروحة التفسير الموضوعي، ولهذا سنعتبر ذلك الآن من الأصول الموضوعة، على أن نبيّن ذلك في الباب السادس لدى حديثنا عن استكمال معالم المنهج و(عدم إغناء التفسير الموضوعي عن التفسير الترتيبي).

تنوّع مذاهب التفسير:

صدّر الشهيد الصدر محاضراته بالحديث عن «تنوّع التفسير واختلاف مذاهبه وتعداد مدارسه والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته»، ثمّ عدّد مجموعة من المذاهب المختلفة، فقال:

«فهناك التفسير الذي يهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني، وهناك التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى والمعنى والمضمون، وهناك التفسير الذي يركّز على الحديث ويفسّر النصّ القرآني بالمأثور عنهم (عليهم السلام) أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين، وهناك التفسير الذي [يعتمد] العقل أيضاً كأساس من عمق التفسير وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى، وهناك التفسير المتحيّز الذي يتّخذ مواقف مذهبية مسبقة يحاول أن يطبّق النصّ القرآني على أساسها، وهناك التفسير غير المتحيّز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه، ويطبّق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي، إلى غير ذلك من الاتّجاهات المختلفة في التفسير الإسلامي»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 20.)).

وقد سجّل الشيخ محمّد فاكر الميبدي على هذا الكلام خمسة إشكالات، ثمّ خلص إلى نتيجة((الشيخ محمّد فاكر الميبدي، التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحتان 231 ـ 232.)):

الأوّل: «إنّ المباحث الأدبية والبلاغية ليست من تفسير القرآن في الحقيقة؛ إذ الباحث يهتمّ فيها بغير المعنى ـ أعني المباحث التصريفيّة والنحويّة والبلاغيّة المرتبطة باللفظ ـ دون أن يركّز همّه على محتوى القرآن ومعناه؛ ولذلك فهو ليس قسيماً للتفسير اللغوي اللفظي وسائر التفاسير».

الثاني: إنّ التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى «ليس قسيماً لما بعده، بل هو مقسم له؛ لأنّ التفسير الذي يهتمّ بجانب المعنى والمضمون، إما يركّز على القرآن، أو على الرواية، أو العقل، أو غير ذلك».

الثالث: «التفسير المتحيّز ليس قسماً على حدة، بل هو في نفسه مَقسَم للتفاسير المتنوّعة مع الاتجاهات الفكريّة المسبقة».

الرابع: «التفسير غير المتحيّز الذي يحاول المفسّر فيه استنطاق القرآن ليس قسيماً ولا مقسماً لما قبله».

الخامس: إنّ التفسير التجزيئي والموضوعي «من أساليب التفسير، وقد يجتمعان مع ما قبلهما؛ فليسا قسيمين لسائر التفاسير، وإن كان كلُّ واحد منهما قسيماً للآخر».

النتيجة: اختلاط مناهج التفسير باتّجاهاته وأساليبه في كلام الشهيد الصدر.

ولكنّنا نلاحظ على هذه الإشكالات أنّها لم تتعاطَ بالشكل السليم مع عبارة الشهيد الصدر؛ فصحيحٌ أنّ الشهيد الصدر لم يكن يدوّن كتاباً يصيغ عباراته بطريقة منطقيّة، ولكنّنا إذا دقّقنا في عبارته فسنجد فيها ستّة شقوق موزّعة على ثلاث مجموعات ثنائيّة، بحيث يلتئم عنصرا كلّ مجموعة منها حول اعتبارٍ أو لحاظ معيّنين.

وليس ذكر الشهيد الصدر لهذه الأزواج الثلاثة بنحوٍ متتالٍ ناجماً عن احتمال كونه «غير هادفٍ لبيان الأقسام على أساس التقسيم المنطقي، وإنّما على أساس العرفي الخالي من التدقيقات المنطقيّة»((المصدر نفسه، الصفحة 232.))، بل إنّه كان بصدد تقسيمها تقسيماً منطقيّاً، غير أنّه لم يأخذ في عين الاعتبار كلّ اللحاظات التي تُذكر عادةً في مناهج التفسير، بل اكتفى بما يراه مهمّاً منها وقال: «إلى غير ذلك من الاتّجاهات المختلفة في التفسير الإسلامي».

والآن نرجع إلى عبارة الشهيد الصدر لنقرأها من جديد مع ما وراء السطور:

1 ـ ينقسم التفسير بلحاظ طبيعة اهتمامه إلى «التفسير الذي يهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني» وإلى «التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى والمعنى والمضمون».

2 ـ ينقسم التفسير بلحاظ الأداة المعرفيّة الرئيسيّة المعتمدة في التفسير إلى «التفسير الذي يركّز على الحديث ويفسّر النصّ القرآني بالمأثور عنهم (عليهم السلام) أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين» وإلى «التفسير الذي [يعتمد] العقل أيضاً كأساس من عمق التفسير وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى».

3 ـ ينقسم التفسير بلحاظ درجة التزامه بالضوابط العلميّة الموضوعيّة في التفسير إلى «التفسير المتحيّز الذي يتّخذ مواقف مذهبية مسبقة يحاول أن يطبّق النصّ القرآني على أساسها» وإلى «التفسير غير المتحيّز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه، ويطبّق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي».

4 ـ ينقسم التفسير بلحاظ اكتفائه بـ«إبراز المدلولات التفصيليّة للآيات القرآنية الكريمة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 34.)) وعدمه إلى التفسير التجزيئي وإلى التفسير الموضوعي الذي «يوحّد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركّب نظري واحد»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 35 ـ 36.)).

نعم، ما يُمكن ملاحظة على العبارة الواردة في محاضرة الشهيد الصدر أنّها لم تنصّ على المعايير التي قسّم التفسير على أساسها، لا أكثر، وهذا يرجع ـ بحسب الظاهر ـ إلى الموقف التدريسي الذي يختلف جوهريّاً عن موقف الكتابة والتدوين، ومع ذلك فالإشكالات المتقدّمة غير واردة:

أمّا الإشكال الأوّل فينحلّ في الحقيقة إلىشقّين:

أوّلهما: خروج المباحث الأدبيّة والبلاغيّة عن التفسير مع الاعتراف بدخول التفسير اللفظي، وقد علّل ذلك بأنّ «الباحث يهتمّ فيها بغير المعنى دون أن يركّز همّه على محتوى القرآن ومعناه»، ولهذا عبّر بالمباحث الأدبيّة لا التفاسير.

وثانيهما: عدم كون التفسير الأدبي والبلاغي قسيماً للتفسير اللفظي وسائر التفاسير.

وكلاهما مدفوع:

أمّا اندفاع التفصيل بين التفسير اللفظي وبين المباحث الأدبيّة والبلاغيّة؛ فلأنّ ملاك خروج التفاسير ـ أو المباحث ـ الأدبيّة والبلاغيّة إن كان عدم تركيزها على محتوى القرآن ومعناه، فهذا ينطبق على التفاسير اللفظيّة التي تعنى باللفظ، بل انطباقه عليها أوضح وآكد؛ لظهور اللفظيّة في ما يقابل المعنويّة والمضمونيّة، والغريب أنّه عرّف المباحث الأدبيّة بأنّها «المباحث التصريفيّة والنحويّة والبلاغيّة المرتبطة باللفظ»، وأركّز على عبارة «المرتبطة باللفظ».

وبعبارة أخرى: إنّ التفسير اللفظي مركّبٌ من جزءين: التفسيريّة واللفظيّة، وتفسيريّته تقتضي ـ بحسب المستشكل ـ أن يركّز على المعنى والمضمون، بينما تقتضي لفظيّته تركيزه على اللفظ، أي على ما يقابل المعنى والمضمون، وهو كما ترى! فإمّا أن تخرج المباحث اللفظيّة والأدبيّة والبلاغيّة عن التفسير معاً وإمّا أن تدخل معاً.

ثمّ إنّهم قد عرّفوا التفسير بأنّه «علمٌ يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشريّة»((الشيخ محمّد عبد العظيم الرزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، الجزء 1، الصفحة 423، وانظر: الشيخ محمّد فاضل اللنكراني، مدخل التفسير، الصفحة 169.))، وما تحدّث عنه الشهيد الصدر هو «التفسير الذي يهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني»، أي إنّه افترضه في المرتبة الأولى تفسيراً يستهدف الكشف عن مراد الله تعالى، غاية الأمر أنّه يركّز اهتمامه على الألفاظ أكثر من تركيزه على المعاني، وليس الشهيد الصدر بصدد الحديث عن كتاباتٍ تتناول القرآن الكريم فتعدّد تشبيهاته واستعاراته وكناياته دون أن توظّفها في سبيل الكشف عن مراد الله تعالى.

أمّا الشقّ الثاني، فإنّ الشهيد الصدر لم يدّعِ على الإطلاق أنّ التفسير الأدبي والبلاغي قسيماً للتفسير اللفظي لكي ندفع ذلك بأنّه ليس تفسيراً من رأس حتّى يكون قسيماً له، بل إنّ اللفظي والأدبي والبلاغي في كلام الشهيد الصدر عبارة عن مركّب واحد، ولم يبيّن المستشكل ما دفعه إلى الاعتقاد بأنّ التفسير (الأدبي والبلاغي) مركّب في مقابل التفسير (اللفظي)، ولماذا لم يحلّ هذا المركّب إلى جزءين لنحصل على ثلاثة تفاسير: لفظيّة، أدبيّة وبلاغيّة!

2، 3، 4، 5 ـ أمّا اندفاع الإشكالات: الثاني والثالث والرابع والخامس فواضحٌ لا يحتاج إلى بيان، وبذلك تندفع النتيجة.

ولكنّ الغريب ما ذكره في الإشكالين الثالث والرابع عندما تحدّث عن التفسير المتحيّز وغير المتحيّز؛ فذكر في الإشكال الثالث أنّ التفسير المتحيّز «ليس قسماً على حدة، بل هو في نفسه مَقسَم للتفاسير المتنوّعة»، بينما ذكر في الإشكال الرابع أنّ التفسير غير المتحيّز «ليس قسيماً ولا مقسماً لما قبله»، مع أنّ هذين القسمين ينتميان إلى معيار واحدٍ في القسمة، فإن كان الأوّل مقسماً فكذلك الثاني، وهو واضح.

تعريف التفسير التجزيئي:

قال الشهيد الصدر في مستهلّ أطروحته:

«ونعني بالاتجاه التجزيئي: المنهج الذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف. والمفسّر في إطار هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسّر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير، من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو العقل أو الآيات الاُخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم

بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها، مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الإعتبار من كلّ تلك الحالات»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 20 ـ 21.)).

ونفهم على ضوء هذا النصّ أنّ على المفسّر التجزيئي أن يتوفّر على معتقدات ومواقف محدّدة تجاه أساليب تفسير النصّ، وهو ما أشار إليه باختصار في النصّ المتقدمّ، ولكنّه أوضحها بشكل أكثر تفصيلاً في مقالاته حول علوم القرآن((المدرسة الإسلاميّة، علوم القرآن، الصفحات 309 ـ 312.))، حيث وضع أربعة شروط أساسيّة للمفسّر إلى جانب ما يُمكن أن يوضع من شروط جزئيّة، وتناول ما نحن فيه ضمن الشرط الأخير:

الشرط الأوّل: يجب على المفسّر أن يدرس القرآن ويفسّره بذهنيّة إسلاميّة، أي: ضمن الإطار الإسلامي للتفكير، فيقيم بحوثه دائماً على أساس أنّ القرآن كتاب الهي أنزل للهداية وبناء الإنسانيّة بأفضل طريقة ممكنة، ولا يخضع للعوامل والظروف والمؤثّرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الإنسانيّة؛ فإنّ هذا الأساس هو الأساس الوحيد لإمكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقة صحيحة…

الشرط الثاني: يجب أن يتوفّر في المفسِّر مستوى رفيع من الاطّلاع على اللغة العربيّة ونظامها؛ لأنّ القرآن جاء وفق هذا النظام، فما لم تكن لدينا صورة عن النظام العام للّغة العربيّة لا نستطيع أن نستوعب معاني القرآن; فيحتاج المفسِّر إلى الاطلاع على علم النحو والصرف والمعاني والبيان، وغيرها من العلوم العربيّة.

والقدر اللازم توفّره من هذا الشرط يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسِّر معالجتها من القرآن الكريم؛ فحين يريد أن يدرس فقه القرآن مثلاً، لا يحتاج إلى التعمّق في أسرار اللغة العربيّة بالدرجة التي يحتاجها المفسِّر إذا درس الفنَّ القصصيَّ في القرآن، أو المجاز في القرآن مثلاً.

الشرط الثالث: ولا بدّ للمفسّر أن يحاول إلى أكبر درجة ممكنة الاندماج كليّاً في القرآن عند تفسيره.

ونقصد بالاندماج في القرآن: أن يُدرس النص القرآني ويُستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معيَّن غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثيرٌ من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبيّة، فلا يدرسون النصَّ ليكتشفوا اتجاهه، بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص، وهذا ليس تفسيراً وإنّما هو محاولة تبرير للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني.

ولهذا كان من أهمّ الشروط في المفسِّر أن يكون بدرجة من التحرّر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي إطار مذهبي بدلاً عن جعل الاتجاه المذهبي المحدَّد قاعدة لفهم القرآن.

الشرط الرابع: لا بدّ للمفسر من منهج عام للتفسير يحدّد فيه ـ عن اجتهاد علمي ـ طريقته في التفسير ووسائل الإثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده على ظهور اللفظ وعلى السنّة، وعلى أخبار الآحاد، وعلى القرائن العقليّة في تفسير النص القرآني؛ لأنّ في كلّ واحد من هذه الأمور خلافاً علميّاً، ووجهات نظر عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون درس تلك الخلافات درساً دقيقاً، والخروج من دراستنا بوجهات نظر معيّنة تؤلّف المنهج العام للمفسِّر الذي يسير عليه في تفسيره.

ولمّا كانت تلك الخلافات تتّصل بجوانب من الأصول والكلام والرجال وغيرها، كان لزاماً على المفسِّر لدى وضعه للمنهج ودراسته لتلك الخلافات أن يكون ملمّاً إلماماً كافياً بتلك العلوم.

ومهما يكن من أمر، فقد أشكل الشيخ محمّد فاكر الميبدي على تعريف الشهيد الصدر للتفسير التجزيئي بإشكالين يرجعان إلى عدم جامعيّته، وقد أوردهما كذلك الأستاذ أحمد الأزرقي:

الإشكال الأوّل: وهو أنّ «حصر التفسير التجزيئي بما يوافق تسلسل تدوين الآيات في المصحف مشكل؛ إذ لو أراد المفسّر تفسير عددٍ من آيات القرآن في السور المتعدّدة، هادفاً فهمها فقط، لكنّه ابتدأ بتفسير ما كان في وسط القرآن، ثمّ ما كان في أوّله، ثمّ أخذ بتفسير ما كان في آخره، فإنّه يصدق على عمله التفسيرُ التجزيئي، مع عدم كونه موافقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف»((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 232.)).

الإشكال الثاني: أنّ المفسّر «إذا أراد تفسير آيات القرآن على ترتيب النزول، فلن يكون ـ على هذا ـ تفسيره تجزيئيّاً؛ لعدم موافقته لتسلسل المصحف»((المصدر نفسه.)).

وخلص من هذين الإشكالين إلى لزوم حذف قيد «وفقاً لتسلسل تدوين الآيات» أو تبديل اسم (التجزيئي) باسم (الترتيبي)، «سواء كان من أوّل المصحف أو أوّل السورة، وسواء كان حسب النزول أو حسب المصحف».

ولكنّ هذين الإشكالين غير واردين، لا لأنّ الشهيد الصدر لم يكن في مقام تقديم تعريف منطقي جامع مانع للتفسير التجزيئي، ولكن لأنّه حدّد ما هو التفسير التجزيئي الذي أخذه بعين الاعتبار.

وربمّا لم يلتفت المستشكل إلى عبارة الشهيد الصدر التي ذكرها بعد ذلك مباشرةً حيث قال: «طبعاً نحن حينما نتحدّث عن التفسير التجزيئي نقدّمه في أوسع وأكمل صورة التي انتهى إليها، فالتفسير التجزيئي تدرّج تأريخيّاً إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئيّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 21.)).

ولا شكّ في أنّ أوسع صورة للتفسير التجزيئي هي التي قدّم فيها المفسّرون تفاسيرهم من أوّل القرآن الكريم إلى آخره بحسب ترتيب تدوين المصحف لا ترتيب النزول. كما إنّهم يبدؤون عادةً من أوّل القرآن وينتهون عند آخره مروراً بوسطه.

نعم، لا يعني ذلك أنّ ما نقض به المستشكل ليس من التفسير التجزيئي، بل هو كذلك، غاية الأمر أنّ النقض به على الشهيد الصدر ليس في محلّه بعد أن حدّد بنفسه ما وقع في دائرة لحاظه واعتباره.

ولكن من الغريب ما اقترحه حول تبديل التجزيئي إلى ترتيبي «سواء كان من أوّل المصحف أو أوّل السورة، وسواء كان حسب النزول أو حسب المصحف»؛ إذ الاحتفاظ بتسمية التجزيئي أجدى؛ لكونه أعمَّ من الترتيبي، وعلى هذا الأساس أصاب الأستاذ الأزرقي في تصويبه اصطلاح التجزيئي بدل الترتيبي((الأستاذ أحمد الأزرقي، منهج السيّد محمّد باقر الصدر في فهم القرآن، الصفحة 345.)).

التفسير التجزيئي يستهدف فهم مدلول اللفظ ولا يقدّم نظريّة:

ذكر الشهيد الصدر في عدّة مواضع أنّ التفسير التجزيئي يستهدف فهم مدلول اللفظ القرآني، وذلك تمهيداً للحديث عن فارق جوهريٍّ بينه وبين التفسير الموضوعي الذي يستهدف الخروج بمركّب نظري، فـ«التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيليّة للآيات القرآنيّة الكريمة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 34.))، وهو «يستهدف فهم مدلول اللفظ»((المصدر نفسه، الصفحة 24.))، ولهذا فمن الطبيعي أن يكون عطاءً محدوداً؛ لأنّ «التفسير اللغوي ينفد؛ لأنّ اللغة لها طاقات محدودة، وليس هناك تجدّد في المدلول اللغوي، ولو وجد تجدّد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن، ولو وجدت لغة أخرى بعد القرآن لا معنى لأنْ يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعيّة استحدثت بعد القرآن»((المصدر نفسه، الصفحة 31.)).

وإذا كان الأمر واضحاً من خلال ما عرضناه من نصوص الشهيد الصدر، فقد وقع ـ وللأسف الشديد ـ خطأٌ فاحشٌ في الطبعات المختلفة لكتاب (التفسير الموضوعي) أو (المدرسة القرآنيّة) يغيّر المعنى بالكليّة؛ فبعد أن جاء في الطبعة الأولى للكتاب والتي طبعت في حياة الشهيد الصدر (وإن لم يراجعها باعتبار حجزه في المنزل من قبل السلطات البعثيّة): «فهم مدلول اللفظ»((مقدّمات في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحة 11.))، تغيّر الأمر في الطبعة الثانية لهذه المحاضرات ـ والتي طبعت بعد استشهاد الشهيد الصدر بسنة ـ إلى : «فهم مدلول الله»((المدرسة القرآنيّة (ط. دار التعارف)، الصفحة 10.)).

وهو ما سرى إلى الطبعات اللاحقة بأسرها((السنن التاريخيّة في القرآن، الصفحة 29.))، حتّى الطبعة المُعتنى بتحقيقها، حيث صحّحت إلى: «فهم مدلول كلمة الله» بإضافة كلمة: «كلمة»((التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعيّة في المدرسة القرآنيّة، الصفحة 17.)).

وكذلك في الطبعتين الأولى والثانية المحقّقتين الصادرتين عن (مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر)((المدرسة القرآنيّة (ط المؤتمر1 و2)، الصفحة 21.)). بينما الوارد في محاضرة الشهيد الصدر الصوتيّة: «مدلول اللفظ»، وقد نبّهنا اللجنة العلميّة على ذلك، فتمّ تصحيحها ابتداءً من الطبعة الثالثة((المدرسة القرآنيّة (ط المؤتمر3)، الصفحة 21.)).

عوامل شيوع التفسير التجزيئي:

اعتبر الشهيد الصدر أنّ سيادة النزعة الروائيّة والحديثيّة في التفسير ساعدت على شيوع الاتّجاه التجزيئي في التفسير، حيث قال:

«ومما ساعد على شيوع الاتّجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قروناً عديدة: النزعةُ الروائيّة والحديثيّة للتفسير; حيث إنّ التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية إلّا شعبة من الحديث بصورة وأخرى، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريباً، مضافاً إلى بعض المعلومات اللغويّة والأدبيّة والتاريخيّة، كان هو الأساس الوحيد مضافاً إلى بعض هذه المعلومات التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن.

ومن هنا لم يكن بإمكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والأئمّة…أن يتقدّم خطوة أخرى، وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظريّة من وراء هذه المدلولات اللفظيّة.

التفسير كان بطبعه تفسيراً لفظيّاً..ومثل هذه العمليّة لم يكن بامكانها أن تقوم بدور اجتهادي مبدع في التوصّل… إلى الأفكارالأساسيّة التي حاول القرآن الكريم أن يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 24 ـ 25.)).

ولكن لا يسعنا بهذا الصدد أن نغفل حقيقة في غاية الأهميّة، وهي أنّنا وإن كنّا نصادق على هذه المقولة في الجملة، ولكن ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ سير الفكر ـ أيّ فكر ـ نحو النزعة التنظيريّة لا يُمكن أن ينبثق إلّا عند توفّر ظروفه الموضوعيّة، ولم يكن يعيش المسلمون في ذلك العصر أيّة إيحاءات أوّليّة حول ما نسميّه اليوم بالنظريّات والمركّبات النظريّة، والتي لم تظهر بشكل بارز في الفكر الإسلامي إلّا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، دون أن نعني بذلك اختفاءها بالكليّة في تلك المرحلة.

مبرّ رات التوسّع التدريجي للتفسير التجزيئي:

اعتبر الشهيد الصدر أنّ التفسير التجزيئي نما طرداً مع بُعد الناس عن فهم اللغة فهماً صحيحاً وازدياد حاجتهم إلى تفسير ألفاظها وتركيباتها، «وطبعاً نحن حينما نتحدّث عن التفسير التجزيئي نقدّمه في أوسع وأكمل صورة التي انتهى إليها؛ فالتفسير التجزيئي تدرّج تاريخيّاً إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئيّة. وكان بدأ في عصر الصحابة والتابعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنيّة وتفسير لمفرداتها، وكلّما امتدّ الزمن ازدادت الحاجة إلى تفسير المزيد من الآيات، إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدّم فيها ابن ماجه والطبري وغيرهما كتبهم في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكانت تمثّل أوسع صورة من المنهج التجزيئي في التفسير.

فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث إنّه كان يستهدف فهم مدلول اللفظ، وحيث إنّ فهم مدلول اللفظ كان في البداية متيسّراً لعدد كبير من الناس، ثم بدأ اللفظ يتعقّد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطوّر الأحداث والأوضاع، من هنا توسّع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النصّ القرآني من غموض ومن شكّ في تحديد مفهوم اللفظ، حتى تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير؛ حيث إنّ المفسّر يبدأ من الآية الأولى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، فيفسّر القرآن آية آية; لأنّ كثيراً من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة إلى إبراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك.

هذا هو التفسير التجزيئي»((المصدر نفسه، الصفحتان 21 ـ 22.)).

مساعدة التفسير التجزيئي على إعاقة الفكر القرآني:

اعتبر الشهيد الصدر وهو بصدد المقارنة بين التفسيرين التجزيئي والموضوعي أنّ انتشار التفسير التجزيئي ساعد على«إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المستمرّ، وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكراريّة، حتى نكاد نقول: إنّ قروناً من الزمن متراكمة مرّت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي لم يحقّق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظلّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلّا قليلاً خلال تلك القرون، على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين»((المصدر نفسه، الصفحة 27.)).

أمّا كيف يكون هذا هو حال التفسير التجزيئي، فقد أوكل الشهيد الصدر ذلك إلى مرحلة المقارنة بين منهجي التفسير التجزيئي والموضوعي: «وسوف يتّضح إن شاء الله تعالى من خلال المقارنة بين الاتّجاهين ـ الاتّجاه التجزيئي والاتّجاه التوحيدي ـ السبب والسّر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة»((المصدر نفسه، الصفحة 27.)).

وقد أكّد الدكتور صلاح الخالدي على أنّ السابقين لم يعرفوا التفسير الموضوعي «بالصورة التي نعرفها نحن الآن، وأنّهم كانوا مشغولين بالتفسير التحليلي وفق ترتيب الآيات والسور في المصحف»، ثمّ أضاف ناظراً إلى كلام الشهيد الصدر: «وهذا لا يعيبهم ولا ينقص قدرهم؛ لأنّهم حقّقوا حاجات مسلمي عصرهم، ولا نطالبهم أن يرتقوا لمستوى حاجاتنا المتجدّدة»((الدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدي، التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 39.)).

ولكنّه اعترف على أيّة حال لدى حديثه عن الفارق بين التفسير الموضعي والتفسير الموضوعي أنّ المفسّر موضعيّاً يقدّم للمسلمين علماً تفسيريّاً نظريّاً ومعلومات تفسيريّة ثقافيّة، بينما المفسّر موضوعيّاً يقدّم لهم فكراً وحضارة وحلولاًَ قرآنيّة

لمشكلاتٍ واقعيّة، وحقائق قرآنيّة عن قضايا اجتماعيّة وحضاريّة((المصدر نفسه، الصفحة 43.))، وهذا اعتراف ضمنيٌّ بأنّ سيادة التفسير الموضعي حرمت المسلمين فكراً وحضارةً وحلولاً لمشكلاتٍ واقعيّة.

وسيأتي مزيد توضيحٍ لذلك عند استعراض مناقشة الدكتور عبد الرحيم؛ فبعد أن نقل الأخير كلام الشهيد الصدر المتقدّم قام بتخطئته؛ وذلك باعتبار أنّ الفكر الإسلامي القرآني كان ولا يزال مكتملاً عند ورثة الكتاب الذين أودع الله صدورهم أنواره وأسراره، من الأئمّة المجدّدين والعلماء الوارثين لعلم النبيّين الكاملين المكمّلين، وأنّ كتب التفسير في كلّ عصر قد حوت ثقافات ذلك العصر واستوعبت كلّ صور الفكر، وأعطت صورة واضحة عن حالة الأمّة الإسلاميّة وما مرّت به من الأدوار المتعاقبة من رقيٍّ وازدهار، أو تأخّر وانحطاط، وبعد تفسير الطبري والرازي والطوسي جاءت عشرات التفاسير ذات المناهج المختلفة في مجاراة كلّ احتياجات عصرها.

وقد أرجع الدكتور عبد الرحيم انحطاط الأمّة الإسلاميّة وجمودها إلى عوامل خارجة عنها؛ فهي تعود إلى الاستعمار وعمله على تغريب الأمّة وإقصائها عن دينها، ولهذا التفتت الأمّة الإسلاميّة إلى التفسير الموضوعي بعد تحرّرها، ولم يكن التفسير التحليلي على الإطلاق هو السبب في إعاقة الفكر الإسلامي((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحات 44 ـ 46.)).

ولكنّنا نورد على كلامه إشكالين:

الإشكال الأوّل:

وهو أشبه ما يكون بالإشكال النقضي المستمدّ من كلام الدكتور عبد الرحيم نفسه؛ إذ لو رجعنا إلى مزايا التفسير الموضوعي التي ذكرها الدكتور، فستوقفنا عدّة أمور:

أ ـ فمن ناحية، ذكر الدكتور عبد الرحيم ضمن المزيّة الأولى من مزايا التفسير الموضوعي أنّه «يختلف عمّا جرت به العادة من تناول الألفاظ بالتحليل اللفظي كلمةً كلمة، ثمّ المعنى التركيبي جملةً جملة، وبكلّ ما يكتنفها من قضايا وصور المعارف اللغويّة والبيانيّة والفكريّة والعقائديّة والعلميّة، وغالباً ما تظهر استقلاليّة بعلوم متنوّعة قلّ من يستطيع أن يخرج من خلالها غير مشتّت الفكر، مشوّش الذهن، متعب العقل، منهك القوى القلبيّة والروحيّة.

فتراك تشعر وأنت تعيش مع الكلمة في تجلية معانيها اللغويّة وتحليلها الصرفي أنّك في خضمّ بحرٍ من المعاني والاشتقاق الذي يصعب على غير الغوّاص الماهر أن يصل إلى الأعماق حتّى يستخرج اللآلئ من صدفها، التي هي بيت القصيد من عمليّة الغوص.

وأنت كذلك تنتابك الحيرة والدهشة أمام استعراض أوجه الاختلاف النحويّة وصورها الإعرابيّة، وتجد القلق والاضطراب [بادياً] عليك وأنت تشاهد صوراً من الاختلافات المذهبيّة والنزاعات الفكريّة، والاجتهادات العقليّة، وما يتولّد عنها من آراء متضاربة واتّجاهات متعارضة، ممّا قد حشيت به أكثريّة كتب التفاسير الموسّعة.

علماً بأنّ هذا ليس هو الغاية، بل إنّ العلوم التي اشترطها العلماء في المفسّر لا تتعدّى أن تكون وسائل يستعان بها على فهم كتاب الله، والوقوف على مراد الله من كلامه، وتحقيق هذه الغاية هي حقيقة التفسير»((المصدر نفسه، الصفحتان 39 ـ 40.)).

ب ـ ومن ناحية أخرى أقرّ بأنّ التفسير الموضوعي «أقرب إلى تحقيق الغاية التي نزل من أجلها الكتاب تيسيراً للهداية، وإزالةً للّبس الذي يعتري العقول، والحيرة التي تمتلك القلوب في كثيرٍ من المعضلات التي تواجه الإنسان، وبالتالي فإنّه يجعل القرآن أقرب إلى التناول، مع التركيز على المقصود، دون تشتيت للذهن بمباحث جانبيّة نجدها في كثيرٍ من الأحيان لا تعدو أن تكون شكليّة، ابتعد بسببها التفسير عن أن يقدّم هداية عمليّة في الواقع المعاش لدى الإنسان، وبكلّ ما يحمله هذا الواقع من قضايا متجدّدة ومشاكل متنوّعة، خصوصاً وأنّه لمن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم ينزل إلّا للهداية العمليّة التي يستعين بها المؤمن على أن يصهر الواقع في بوتقتها، فيشهد كيف أنّ الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض»((المصدر نفسه، الصفحة 41.))..

ج ـ ومن ناحية ثالثة اعترف بتركيز الشهيد الصدر على أهميّة التفسير التحليلي (التجزيئي) وعدم غفلته عن دوره في الوصول بالتفسير الموضوعي إلى كماله بتحقيق أهدافه وغاياته((المصدر نفسه، الصفحة 47.))..

فإذا ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها البعض، فإنّ النزاع حينئذٍ سيقترب من كونه لفظيّاً، بل سيكون كلام الدكتور المستشكل نفسه تأكيداً لكلام الشهيد الصدر؛ فهو يعترف بأنّ المباحث الجانبيّة التي يحفل بها التفسير التحليلي «ابتعد بسببها التفسير عن أن يقدّم هداية عمليّة في الواقع المعاش لدى الإنسان»، وهذا هو بالتحديد ما قصده الشهيد الصدر من تعبيره بالإعاقة..

إعاقة.. إبعاد.. إزباد.. كلّها تعبيرات عن معنى واحد.

الإشكال الثاني:

وهو إشكالٌ حلّي، وفيه نوضح مراد الشهيد الصدر بحيث لا يرد عليه أصلُ الإشكال؛ إذ نلاحظ بوضوح أنّ الدكتور عبد الرحيم لم يلتفت إلى قيد مهمٍّ وأساسي ذكره الشهيد الصدر، وهو ما جاء في عبارته المتقدّمة حيث قال: «ساعد انتشار التفسير التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النموّ المكتمل، وساعد على اكتسابه حالةً تشبه الحالات التكراريّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 27.)).

فالشهيد الصدر لم يتحدّث البتّة عن إعاقة التفسير الترتيبي أو التجزيئي للفكر الإسلامي عموماً ولوضع الأمّة الإسلاميّة وحالتها المزرية سياسيّاً وثقافيّاً و…، بل تحدّث عن إعاقته للفكر الإسلامي القرآني على وجه الخصوص؛ إذ «لم يكن بإمكان تفسير يعتمد على هذه الروايات التي تستثار من قبل أسئلة عقليّة من هذا القبيل، لم يكن بإمكانه أن يتقدّم خطوة أخرى وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظريّة من وراء هذه المدلولات اللفظيّة»((المصدر نفسه، الصفحة 24.))، وذلك بخلاف الطريقة الموضوعيّة التوحيديّة التي كانت «عاملاً في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد»((المصدر نفسه، الصفحة 28.)).

ونسجّل في المقام أربع وقفات:

الوقفة الأولى: في تحديد المراد من الإعاقة:

فإنّنا لو دقّقنا في تعبيرات الشهيد الصدر فسنجد أنّ ما عبّر عنه (قدّس سرّه) هنا بـ(الإعاقة) عبّر عنه أثناء تسجيله بعض الملاحظات على التجربة الفقهيّة بـ(الانكماش)؛ حيث قال: «الانكماش في الأبعاد الفقهيّة لا بدّ من القضاء عليه»((ومضات، الصفحة 380.)).

وقال في مناسبة أخرى:

«إنّ الانكماش في الهدف وأخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط نجم عنه انكماش الفقه من الناحية الموضوعيّة؛ فقد أخذ الاجتهاد يركّز باستمرار على الجوانب الفقهيّة الأكثر اتّصالاً بالمجال التطبيقي الفردي، وأهملت المواضيع التي تمهّد للمجال التطبيقي الاجتماعي نتيجة لانكماش هدفه واتّجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه، بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعيّة.

وهذا الاتّجاه الذهني لدى الفقيه لم يؤدِّ فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعيّة، بل أدّى بالتدريج إلى تسرّب الفرديّة إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها»((المصدر نفسه، الصفحة 471.)).

ومراده من الانكماش هنا نفس ما أراده من الإصابة بالإعاقة في البحث القرآني؛ فـ«أعقت فلاناً عن الحركة» و«كمشته عنها» بمعنى واحد.

ولهذا نجد أنّ الشهيد الصدر يلجأ في كتاباته ومحاضراته إلى استخدام مفردة السلبيّة التي تعبّر عن الإصابة بالإعاقة وعن الانكماش بالمعنى العدمي((راجع مثلاً: دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، الصفحة 103؛ الحلقة الثالثة، الصفحة 108؛ بحوث في علم الأصول، الجزء 7، الصفحة 32.))، لا بمعناها الوجودي؛ فنحن عندما نقول: «اتّخذ فلانٌ منّي موقفاً سلبيّاً»:

تارةً: نقصد أنّه بقي صامتاً ولم يحرّك ساكناً، في الوقت الذي كنّا نتوقّع فيه نصرته ومعونته، ومن هنا كانت الحيثيّة عدميّة.

وأخرى: نقصد انّه حرّك علينا الناس وأثارهم ضدّنا مثلاً، ومن هنا كانت الحيثيّة وجوديّة.

وما يقصده الشهيد الصدر هو الأوّل، بمعنى أنّ التفسير التجزيئي لم يُساهم في تحريك الفكر القرآني وتفعيله وإبرازه على مسرح الحياة. ولهذا نجده سيصف موقف المفسّر التجزيئي بالسلبيّة، بعد أن يوضح أنّ موقفه هو موقف المستمع الساكت((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 30.)).

الوقفة الثانية: في تحديد متعلَّق الإعاقة:

أمّا الوقفة الثانية، فمن الغريب أن يُفسّر كلام الشهيد الصدر على أنّه حمّل التفسير التجزيئي مسؤوليّة تخلّف الأمّة الإسلاميّة أو الفكر الإسلامي عموماً.

ولو ركّز المستشكلون على تعبيره بـ(الفكر) لما ذهبوا بعيداً غاية البعد؛ لأنّ الشهيد الصدر أراد الإشارة إلى البُعد البشري في العمليّة، فقصد من الفكر القرآني: العطاءات القرآنيّة، أي: ما يقدّمه الباحثون في دراساتهم القرآنيّة من أطروحات وأفكار، أي: المجاميع التفسيريّة التي يدوّنها المفسّرون في الدرجة الأولى، وما يسير في ركبها من دراسات وعطاءات يقدّمها الباحثون.

وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك حتماً ـ فمن الطبيعي أن يكون التفسير الموضوعي أقدر من التفسير التجزيئي على صعيد تنويع هذه العطاءات وإثرائها.

الوقفة الثالثة: موقف الشهيد الصدر من دور الاستعمار:

وتأكيداً على أنّ مراد الشهيد الصدر من الفكر القرآني هو ما ذكرناه لا ما فهمه المستشكلون، نعقد هذه الوقفة للقول: إنّ ما ذكره الدكتور عبد الرحيم حول دور الاستعمار في إعاقة الأمّة وهو في مقام تعميق إشكاله على كلام الشهيد الصدر يتبنّاه الشهيد بشكل كامل.

وكيف لا يكون كذلك وقد صدّر كتاب (فلسفتنا) بقوله:

«غزا العالم الإسلامي ـ منذ سقطت الدولة الإسلاميّة صريعةً بأيدي المستعمرين ـ سيلٌ جارفٌ من الثقافات الغربيّة القائمة على أسُسهم الحضاريّة ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع، فكانت تمدّ الاستعمار إمداداً فكريّاً متواصلاً في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمّة وسرّ أصالتها، المتمثّل في الإسلام»((فلسفتنا، الصفحة 6.)).

كما يذكّر في (اقتصادنا) بأنّ تفكّك قوّة الأمّة الإسلاميّة وانحلالها كان«نتيجةً لعمل الاستعمار ضدّها في العالم الإسلامي»((اقتصادنا، الصفحة 25.)).

ثمّ يصرّح بوضوح وفي فترة زمنيّة متاخمة لأطروحة التفسير الموضوعي  بأنّ «الإسلام الذي حجزه الاستعمار عسكريّاً وسياسيّاً في قمقم ليصبغ العالم الإسلامي بما يشاء من ألوان قد انطلق من قمقمه في إيران…»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 17.))، وبأنّ الاستعمار والمستعمرين عملوا على «تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها الثوري الرشيد»((المصدر نفسه، الصفحة 181.))، وبهذا تكون «الأمّة في العالم الإسلامي عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر والالتفاف منذ وطأ الرجل الأبيض الغربي أرضنا الطاهرة بأسلحته وأفكاره ومناهجه»((المصدر نفسه، 186.)).

ونجده في الوقت نفسه يشيد بإيمان هذه الأمّة الذي كان «أقوى من تلك المؤامرات والمخطّطات الاستعماريّة جميعاً استطاع أن يثبت وينتصر في المعركة، فظلّت محتفظةً بإيمانها بإسلامها العظيم»((رسالتنا، الصفحة 11.)).

ومن هنا أكّد الشهيد الصدر على أنّ «الأمّة بحكم حسّاسيّتها الناتجة عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلّا على أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الأمّة ببلاد المستعمرين أنفسهم، ولا توجد هذه القاعدة إلّا في الإسلام نفسه»((ومضات، الصفحة 104.)).

الوقفة الرابعة: حول إقصاء عطاءات الوحدة الموضوعيّة:

ثمّ إنّ الدكتور عبد الرحيم حاول لفت نظر الشهيد الصدر إلى المحاولات التي بذلها المسلمون ضمن إطار التفسير الموضوعي بمعناه الآخر، أي الوحدة الموضوعيّة، وذلك باعتبارها مساهمات متطوّرة في هذا المجال، فلا يصحّ والحال هذه اتّهام التفسير الترتيبي بتهمة الإعاقة المتقدّمة، وقد اعتذر له بأنّه «لم يلتفت إلى هذا النوع من التفسير الموضوعي للقرآن الكريم كما ذكرنا، بل قصره على النوع الآخر»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 47.)).

ولكنّنا نسجّل على كلامه ملاحظتين:

الأولى: أنّ عدم ذكر الشهيد الصدر لهذا النوع من التفسير الموضوعي قد يكون راجعاً إلى عدم إدخاله إيّاه ضمن دراسات التفسير الموضوعي. وقد بيّنا في الفصل الأوّل أنّ لهذا الإقصاء مبرّراته القويّة التي تبنّيناها. بل إنّ الدكتور عبد الرحيم ـ وكما رأينا سابقاً ـ قد تبنّى هذا الإقصاء((المصدر نفسه، الصفحتان 28 ـ 29.)).

الثانية: أنّنا إذا صرفنا النظر عن الإشكال الأوّل، فإنّ كلام الشهيد الصدر انصبّ على عطاءات التفسير التجزيئي، ولم يعمّم نسبة الإعاقة إلى كلّ ألوان التفسير التي لا تنسجم مع المعنى الذي روّج له. وبالتالي فلا يصحّ النقض عليه بعطاءات التفسير الموضوعي بمعنى الوحدة الموضوعيّة؛ لأنّها ليست من التفسير التجزيئي، فلا تطالها دائرة الاتهام.

مساعدة التفسير التجزيئي على ظهور التناقضات المذهبيّة:

ضمن حديثه عن خصائص التفسير التجزيئي، اعتبر الشهيد الصدر أنّ التفسير التجزيئي عاملٌ ساعد في ظهور التناقضات المذهبيّة العديدة؛ فقد «أدّت حالة التناثر ونزعة الاتّجاه التجزيئي في النظر التفسيري إلى ظهور التناقضات المذهبيّة العديدة في الحياة الإسلاميّة؛ إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسّر أو ذاك آية تبرّر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع، كما وقع في كثير من المسائل الكلاميّة، كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلاً…بينما كان بالامكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أنّ المفسّر التجزيئي خطا خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي، كما نرى ذلك في الاتّجاه الثاني»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 23.)).

وعلّق الدكتور عبد الرحيم على هذا الكلام بقوله:

«ليس صحيحاً أنّ التفسير التحليلي كان وراء ظهور التناقضات المذهبيّة العديدة في الحياة الإسلاميّة؛ فإنّ التزام قواعد التفسير وشروطه التي وضعها العلماء للمفسّر كفيلة بأن تجعل أمثال هذا التفسير سبباً في الهداية وجمع الكلمة وتوحيد الصفّ وتبديد كلّ إشكال وشبهة… أمّا ما دامت العصبيّة قائمة.. فسيقوم الاختلاف ويتمّ الانقسام… ساد المنهج التحليلي أو الموضوعي»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 46.)).

في حين يقول بنفسه: «وتجد القلق والاضطراب [بادياً] عليك وأنت تشاهد صوراً من الاختلافات المذهبيّة والنزاعات الفكريّة، والاجتهادات العقليّة، وما يتولّد عنها من آراء متضاربة واتّجاهات متعارضة، ممّا قد حشيت به أكثريّة كتب التفاسير الموسّعة»((المصدر نفسه، الصفحة 40.)).

وأبدى السيّد محمّد باقر الحكيم ملاحظةً شبيهة بملاحظة الدكتور عبد الرحيم؛ فنقض على أستاذه بأنّ التناقضات المذهبيّة قد تظهر في التفسير الموضوعي على حدّ ظهورها في التفسير التجزيئي، ثمّ حاول التقليل من وجود الاختلافات المذهبيّة الناشئة من التفسير التجزيئي، وذلك باعتبار أنّنا لا نصادق على تفسير الآية بمعزل عن غيرها من الآيات، فإذا كان الأمر كذلك فلا دليل على انتهاء التفسير التجزيئي إلى تناقضات مذهبيّة((السيّد محمّد باقر الحكيم، تفسير سورة الحمد، الصفحة 101، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحة 41.)).

ولكنّ السيّد محمّد علي الأيازي ردّ كلام السيّد الحكيم بأنّه لم يقف على مراد الشهيد الصدر؛ فإنّ مراد الأخير هو أنّ ما ينتج عن التفسير الموضوعي بالمعنى الصدري ـ أي بمعنى حمل التجارب البشريّة على القرآن الكريم من أجل الخروج بموقف قرآني تجاهها ـ لن يعكس التناقضات المذهبيّة على حدّ تلك التي يولّدها التفسير التجزيئي، أي إنّ مراد الشهيد الصدر من التفسير الموضوعي الذي يحدّ من ظهور التناقضات المذهبيّة هو التفسير الموضوعي الذي يُعنى بالشأن الخارجي لا الداخلي((السيّد محمّد علي الأيازي، تفسير موضوعى از نگاه شهيد صدر (فارسي)، مجلّة پيام جاويدان، العدد 12، الصفحة 43.)).

كما توقّف الشيخ محمّد فاكر الميبدي عند كلام الشهيد الصدر، ولكن بعد أن نقله علّل ذلك بالقول: «والسرّ في ذلك هو التراكم العددي للمعلومات، والذي يختصّ به التفسير التجزيئي، خلافاً للموضوعي؛ لأنّ المفسّر لم يقتصر فيه على تجميع عددي، بل يتقدّم خطوةً على المفسّر التجزيئي، فيحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها»((الشيخ محمّد فاكر الميبدي، التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 236.))، ولو استحضر تعليل الشهيد الصدر نفسَه لكان أفضل.

نعم، لا شكّ بأنّ الاختلاف المذهبي قد يظهر أيضاً في التفسير الموضوعي، ولا يقتصر على التفسير التجزيئي، ولكن حيث إنّ الثاني بمثابة الفرع بالنسبة إلى الأوّل، فمن الطبيعي أن يكون تجلّي التمذهب أكثر وضوحاً في الأصل منه في الفرع، وهو غير بعيد عن مراد الشهيد الصدر، الذي سبق أن سجّلنا له نصّاً سجّله لدى حديثه عن المفسّر بمعناه السائد، أي التجزيئي؛ حيث اشترط في المفسّر «أن يدرس النص القرآني ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معيَّن غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبيّة، فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه، بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص.

وهذا ليس تفسيراً، وإنّما هو محاولة تبرير للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني، ولهذا كان من أهمّ الشروط في المفسِّر أن يكون بدرجة من التحرّر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي إطار مذهبي بدلاً عن جعل الاتجاه المذهبي المحدّد قاعدة لفهم القرآن»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 312.)).

ويظهر في هذه العمليّة إعمال الجانب الذاتي في في قبال الجانب الموضوعي، أي: «تحكيم موقف مسبق على النصّ القرآني ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرّأي المتبنّى والمرغوب للمفسّر؛ فإنّه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كلٍّ منها أَنْ يستدلَّ بالقرآن على مذهبه ورأيه، وهو استغلالٌ للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال… وهذا من أشنع الأعمال وجديرٌ أَنْ يعبّر عنه بالكفر والهوى؛ إذ هو مساوقٌ مع تحريف الحقائق والدلائل، وبالتالي عدم الإيمان بمرجعيّة القرآن الكريم»((بحوث في علم الأصول، الجزء 4، الصفحة 287.)).

ويُمكننا تبرير ضمور ظاهرة التمذهب في دائرة التفسير الموضوعي على ضوء التصوّر ـ الذي سيأتي لاحقاً ـ حول طبيعة هذا التفسير، خاصّة على ضوء المفهوم الذي يقدّمه الشهيد الصدر حول المركّب النظري متجانسِ العناصر؛ إذ من الطبيعي أن تنحسر حدّة الآراء المذهبيّة عند محاولة الخروج بمركّب نظري حول موضوعٍ ما؛ لأنّه لو قدّر لطرف من الأطراف النجاح في تقديم رؤى مذهبيّة يُمكن تدعيمها بآية هنا أو هناك، فإنّ نتوءات هذه الآراء المذهبيّة ستتجلّى واضحةً في مرحلة التفسير الموضوعي عند محاولة بلورة مركّب نظري متجانس يرتكز إلى مختلف الأفكار الجزئيّة.

بل حتّى لو قدّم المفسّر التجزيئي رأيه مستعيناً بمختلف الآيات القرآنيّة، فطالما أنّه لم يقدّم نظريّة أو مركّباً نظريّاً حول الموضوع محلّ البحث، فسيكون أكثر عرضةً للتناقضات المذهبيّة من التفسير الموضوعي الذي يقدّم نظريّة حول ذلك.

وهذا أمرٌ في غاية الوضوح على صعيد علم المناهج؛ إذ غالباً ما يبدو ستر العيوب أمراً ممكناً في نطاق النظرة التجزيئيّة للأمور، بخلافه في النظرة الموضوعيّة، حيث تصبح التناقضات أكثر عرضةً للكشف والتعرية، ولهذا فـ«الرؤية التجزيئيّة كثيراً ما تجني على الفكرة وتسيئ إليها؛ لأنّها تقدّمها مشوّهة ومنقوصة»((الأستاذ الأسعد بن علي التونسي، التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر، مجلّة المنهاج، العدد 30، الصفحة  65.)).

ولكنّ التفسير الموضوعي لن ينجح على كلّ حال في التحرّر بالكليّة من صفة التمذهب، ولكنّه سيحدّ منها بالتأكيد، ولهذا نجد أنّ الشهيد الصدر عبّر بالقول: «بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات…»؛ فهو لم ينفِ كلّ ألوان التناقض عن التفسير الموضوعي، وإنّما ادّعى قلّتها بالقياس إلى التفسير التجزيئي.

وعلى هذا الأساس يندفع إشكال الشيخ الميبدي الذي نقض على كلام الشهيد الصدر بالقول:

«إنّ هذا الأثر السلبي لم ينشأ من الاتجاه التجزيئي، وإلّا لزم أن لا يكون له أثرٌ في التفاسير الموضوعيّة المدوّنة لدى الفرق الكلاميّة، مع أنّه موجود بعينه في الاتجاه الموضوعي هناك»((الشيخ محمّد فاكر الميبدي، التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 236.)).

ثمّ إنّ الشيخ الميبدي قال: «لو كان من اللازم في التفسير التجزيئي الاستعانة بسائر الآيات، لم يبق مجال للتناقض فيه أيضاً»((المصدر نفسه، الصفحة 236.))، وهو قريبٌ ممّا نقلناه آنفاً عن السيّد الحكيم((السيّد محمّد باقر الحكيم، تفسير سورة الحمد، الصفحة 101، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحة 41.)).

وهو غريب؛ إذ لعلّه فهم من التناقض: التناقض الداخلي في تفسير الآيات الكريمة، أي تفسير إحداها بما يتناقض مع تفسير الأخرى ولا ينسجم معه، ولهذا اعتبر أنّ الاستعانة بسائر الآيات يجنّب الوقوع في التناقض.

بينما تحدّث الشهيد الصدر عن التناقض المذهبي، عانياً بذلك أنّ سيادة التفسير التجزيئي تسهّل ظهور الفرق الإسلاميّة والكلاميّة التي تستند كلّ واحدةٍ منها إلى القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه تعيش تناقضاً مذهبيّاً في ما بينها، ولهذا جاء تعبيره على النحو التالي: «ظهور التناقضات المذهبيّة العديدة في الحياة الإسلاميّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 23.))، وهو من أوضح الواضحات.

وإذا كان من غير السليم الاستشهاد على ذلك بكلام المستشرق جولدتسهر ـ على سبيل المثال ـ الذي يقول فيه:

«فكلّ تيّار فكري بارز في مجرى التاريخ الإسلامي زاول الاتّجاه إلى تصحيح نفسه على النصّ المقدّس، وإلى اتّخاذ هذا النصّ سنداً على موافقته للإسلام، ومطابقته لما جاء به الرسول [ (صلّى الله عليه وآله)]. وبهذا وحده كان يستطيع أنّ يدّعي لنفسه مقاماً وسط هذا النظام الديني وأن يحتفظ بهذا المقام»((المستشرق إجنتس جولدتسهر، مذاهب التفسير الإسلامي، الصفحة 3.)).

فإنّ العلّامة الطباطبائي يردّد معنىً قريباً منه في مقدّمة تفسيره حيث يقول:

«واختيار المذاهب الخاصّة واتّخاذ المسالك والآراء المخصوصة وإن كان معلولاً لاختلاف الأنظار العلميّة أو لشيء آخر، كالتقاليد والعصبيّات القوميّة، وليس ها هنا محلّ الاشتغال بذلك، إلّا أنّ هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمّى تطبيقاً لا تفسيراً؛ ففرقٌ بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ماذا يقول القرآن؟ أو يقول: ماذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإنّ القول الأوّل يوجب أن ينسى كلَّ أمر نظريٍّ عند البحث، وأن يتّكئ على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريّات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها. ومن المعلوم أنّ هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثاً عن معناه في نفسه»((السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 1، الصفحة 6.)).

ومن هنا أكّد الشهيد الصدر ضمن شروط المفسّر التي عرضناها في مطلع البحث على أنّه «لا بد للمفسِّر أن يحاول إلى أكبر درجة ممكنة الاندماج كليّاً في القرآن عند تفسيره. ونقصد بالاندماج في القرآن أن يُدرس النص القرآني ويُستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معيَّن غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبيّة، فلا يدرسون النصَّ ليكتشفوا اتجاهه، بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص، وهذا ليس تفسيراً و إنما هو محاولة تبرير للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني.

ولهذا كان من أهمّ الشروط في المفسِّر أن يكون بدرجة من التحرّر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي إطار مذهبي بدلاً عن جعل الاتجاه المذهبي المحدَّد قاعدة لفهم القرآن»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 312.)).

دور المفسّر التجزيئي دور سلبي:

تكرّر من الشهيد الصدر ـ وهو بصدد المقارنة بين منهجي التفسير التجزيئي والموضوعي ـ أنّ «الاتّجاه التجزيئي يكون دور المفسّر فيه دوراً سلبيّاً: يستمع ويسجّل»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 30.))؛ فهو «يبدأ بتناول النّص القرآني المحدّد آية مثلاً أو مقطعاً قرآنيّاً دون أيّ افتراضات أو طروحات مسبقة، ويحاول أن يحدّد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتّصلة والمنفصلة.

العمليّة في طابعها العام عمليّة تفسير نصّ معيّن، وكأنّ دور النّص فيها دور المتحدّث ودور المفسّر هو الإصغاء والتفهّم، وهذا ما نسمّيه بالدور السلبي.

المفسّر هنا شغله أن يستمع لكن بذهن مضيء، بفكر صاف، بروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، بمثل هذه الروح، بمثل هذه الذهنيّة وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع، فهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور إيجابي، والقرآن يعطي حينئذٍ، وبقدر ما يفهم هذا المفسّر من مدلول اللفظ يسجّل في تفسيره»((المصدر نفسه، الصفحة 28 ـ 29.)).

وهذه المحدوديّة ترجع في الحقيقة ـ وإذا صحّ التعبير ـ إلى الدائرة المغلقة التي يعيش فيها المفسّر التجزيئي، وذلك باعتبار أنّه «يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن، ليس فيه حركة من الواقع إلى القرآن ومن القرآن إلى الواقع، وإنّما يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن. دور المفسّر هنا دور سلبي كما شرحنا بالأمس: يخلّي ذهنه من أيّ سوابق، من أيّ أطروحات، يجلس جلوس المستمع لا جلوس المحاور، لا جلوس المستفهم، بل جلوس من يستمع ويسجّل ما ينطبع في ذهنه نتيجة هذا الاستماع»((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

وبعد أن أوضحنا لدى حديثنا عن إعاقة التفسير التجزيئي للفكر القرآني ما هو المراد من السلبيّة، لا نجد داعياً لتحليل هذه المقولة الناطقة بنفسها، خاصّةً أنّ هذا المعنى سيتأكّد عند توضيح مفاصل أطروحة التفسير الموضوعي الصدري الذي يقف فيه المفسّر موقفاً إيجابيّاً، فانتظر.

 

الباب الخامس

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري ركائز البناء العلوي

ونقصد بركائز البناء العُلوي ـ كما ذكرنا في بداية الفصل الثالث ـ الركائز التي يشتمل عليها هذا الطابق الذي عبَّرنا به عن أطروحة التفسير الموضوعي، لا ركائز الطابق السفلي الذي عبَّرنا به عن التفسير التجزيئي:

مقدّمة حول الموضوع والموضوعيّة:

لقد استعمل مصطلح (الموضوع) في عدّة معانٍ؛ حيث استعمل عند الأصوليّين في معنىً مغايرٍ لما عليه عند الفلاسفة، وكذلك المناطقة والبيانيّين والنحاة والطبيعيّين((راجع: الشيخ محمّد محمّد طاهر آل شبير الخاقاني، عناصر العلوم، الصفحتان: 410 ـ 411.)).

وقد ذكر بعض الأعلام المعاصرين أنّ الموضوع يطلق على أربعة معاني:

المعنى الأوّل: الموضوع مقابل المحمول؛ فإنّ المناطقة ذكروا أنّ القضيّة ـ لفظيّة كانت أم ذهنيّة ـ إن كانت حمليّة فهي مركّبة من موضوع ومحمول، سواءٌ أكانت ثبوتيّة أم سلبيّة.

المعنى الثاني: الموضوع في مقابل العرض؛ فقد ذكر الحكماء في بيان العرض والجوهر أنّ العرض ماهيّة لو وجدت كان وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها، والجوهر ماهيّة لو وجدت وجدت لا في موضوع؛ فالجوهر في غنىً عن أعراضه وإن لم يكن في غنىً عن جوهر آخر؛ فالمادة مع كونها جوهراً لا تستغني في وجودها عن الصورة النوعيّة المحصّلة لها.

المعنى الثالث: الموضوع بمعنى الأصل؛ فقد ذكر أرباب العلوم أنّ لكل علم أصولاً موضوعة يعبَّر عنها بالمبادىء التصديقيّة، وهذه المبادىء لا بدّ من ثبوتها بالبداهة أو في علم آخر.

المعنى الرابع: الموضوع بالمعنى اللغوي، وهو محور البحث والحديث في كلّ كلام وعلم؛ فلا يخلو عنه علم((راجع: السيّد علي السيستاني، الرافد في علم الأصول، الجزء 1، الصفحات 95 ـ 97.)).

ولكنّ المعنى الأخير ـ الذي اعتُبر المعنى اللغوي ـ هو في الحقيقة معنى لغوي متأخّر ومعاصر، ولم يعرفه قدماء العرب؛ فقولك اليوم: «إنّ موضوع حديثي هو كذا» و«ما الموضوع؟» ليس مفهوماً للعرب الأقدمين؛ ولهذا لا نجد في معاجم اللغة المتقدّمة تعريفاً للموضوع بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل ترد كلمة (الموضوع) في قولهم: «دابّة حسنة الموضوع»((كتاب العين، الجزء 2، الصفحة 196؛ الصحاح، الجزء 3، الصفحة 1300؛ المحيط في اللغة، الجزء 2، الصفحة 104؛ معجم مقاييس اللغة، الجزء 6، الصفحة 118؛ لسان العرب، الجزء 8، الصفحة 396.))، مشتقّة من (الموضع)، ثمّ كثر استخدام هذه الكلمة لاحقاً لوصف الحديث المكذوب، فقيل: «حديثٌ موضوع».

ولهذا أشرنا في مقدّمة الكتاب التمهيديّة إلى أنّه قد وقع التسالم على أنّ (الموضوع) بالمعنى المأخوذ في التفسير الموضوعي معنى مستحدث وأجنبي عن معناه اللغوي، وأنّ المعاني اللغويّة المذكورة للمصدر الميمي (الموضوع) ليست مرادة من استعمال هذا اللفظ في الكتابات وعلى الألسنة؛ فقد أصبح هذا اللفظ حقيقةً عرفيّة في القضيّة العلميّة المطروحة للنقاش والبحث((راجع: التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 34.)).

والمعنى اللغوي المعاصر يقابله (Subject) في الإنجليزيّة و(Sujet) في الفرنسيّة، وهو على الأغلب لم يكن متداولاً لدى الأقدمين، وإن بدأ الاقتراب من تداوله في القرون الهجريّة الأولى، وربّما كان ذلك بفعل انتشار ترجمة الآثار المنطقيّة والفلسفيّة اليونانيّة إلى العربيّة؛ إذ ربّما ساهم رواج مصطلح (الموضوع) بمعناه المنطقي والفلسفي ـ والذي يقابل المحمول ـ في تقريب الذهن العربي إلى المعنى المقصود لنا هنا، وإن لم يطابقه؛ فإنّ موضوع القضيّة التي يُحمل عليه المحمول هو ركيزتها، فربّما عُمّم الحديث عن موضوع القضيّة ـ وهو ركيزتها ـ إلى ركيزة كلّ شيء وإن لم يكن على نحو القضيّة المنطقيّة.

ولهذا نجد في القرن الخامس إطلاقات قريبة إلى إطلاقاتنا المعاصرة، كما في قول الماوردي (ت450هـ) في (أدب الدنيا والدين): «لأنّ موضوع خطابه وشواهد أحواله..»((الماوردي، أدب الدنيا والدين، الصفحة 293.))، أي: ركيزة خطابه. ولو كان كلامه بمعنى: «ما وُضع له خطابه» لكان قريباً من قول أبي الهلال العسكري (ت295هـ) في (الصناعتين): «وإذا كان موضوع الكلام على الإفهام، فالواجب أن تقسّم طبقات الكلام على طبقات الناس»((أبو الهلال العسكري، الصناعتين، الصفحة 29.)).

وإلى جانب المعنى المعاصر الذي ذكرناه للموضوع ـ والذي يقابله كما قلنا: (Subject) و(Sujet) ـ هناك معنى معاصر آخر دخل في ثنائي (الذات والموضوع)، ولعلّ سلخ صفة المعاصرة عنه وإمكانيّة اشتقاقه من الإطلاق المنطقي أو الفلسفي لدى حديثهم عن (الواقع الموضوعي) أسهل وأيسر من صاحبه. وربّما أمكن إرجاع هذا الثنائي بنحوٍ من الأنحاء إلى ثنائي (الأنا والآخر).

وقد قيل: إنّ «معنى كلمتَي (ذات) و(موضوع) قد طرأ عليه في تاريخ الفكر الفلسفي ما قلب أوضاعه»((جون ديوي، المنطق.. نظريّة البحث، الصفحة 171.))، وإنّ الكلمتين المشتقّتين منهما (الموضوعي والذاتي) «كلمتان فلسفيّتان مثقلتان بالاستعمال المتناقض لهما، وبالمناقشات الحادّة التي لا تتوقّف حولهما»((كارل بوبر، منطق البحث العلمي، ترجمة وتقديم الدكتور محمّد البغدادي، الصفحة 79.)).

وعلى كلّ حال، فقد بات يُعبَّر عمّا يرجع إلى الأنا بـ(الذاتي)، وعمّا يرجع إلى الآخر ولا يرتهن إلى الأنا بـ(الموضوعي). ومن هنا توصف الأبحاث التي لا يرتهن نتاجها بالحيثيّات والأطر الفكريّة للشخص وأناه بـ(الموضوعيّة)، وهي التي سيعبّر عنها الشهيد الصدر في أطروحته بـ(غير المنحازة).

ومن اللطيف أن نشير إلى أنّنا إذا استعملنا كلمة (موضوع) بمعنى (المسألة) قابلها حينئذٍ في الإنجليزيّة والفرنسيّة كلمتا (Subject) و(Sujet).

لكنّنا إذا استعملناها بوصفها الجزء الثاني من ثنائي (الذات ـ الموضوع) فسيقابل (الموضوعَ) هنا كلمتا (Object) و(Objet)، وبالتالي سيقابل كلمة (الموضوعي) كلمةُ (Objectif) في الإنجليزيّة والفرنسيّة لا (Subjectif).

وإذا أردنا بعد هذا أن نمرّ على الإطلاقات الصدريّة لمصطلح (الموضوع) و(الموضوعيّة)، مهملين ما يأتي بمعنى (المسألة المطروحة)، وهو المعنى الذي قام عليه تعريف التفسير الموضوعي المشهوري كما رأينا في الفصلين الأوّل والثاني، ومبتعدين في الوقت نفسه عن الاصطلاحات الرائجة في بيئة علم الأصول والتي ستدخلنا في متاهات لا ثمرة لها في بحثنا الحالي، فسنميّز بدواً بين إطلاقين صدريّين للفظ (الموضوعيّة):

الموضوعيّة بمعنى النزاهة العلميّة:

وهو المعنى الذي قدّم له الدكتور فؤاد زكريّا ثلاثة معاني مختزنة فيه، وهي عبارة عن: الروح النقديّة والنزاهة والحياد((الدكتور فؤاد زكريّا، التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 3، الصفحات 212، 218 و223.))، وقد قام الباحث السوري نزيه الحسن بقديم نماذج صدريّة تدلّل على توفّره على هذه الصفات((نزيه الحسن، السيّد محمّد باقر الصدر.. دراسة في المنهج، الصفحة 247 وما بعد.)). وقد لجأ الشهيد الصدر إلى هذا المعنى في عدّة مواضع خارج محاضرات التفسير الموضوعي التي نحن فيها، وجعله وصفاً للبحث العلمي((اقتصادنا، الصفحة 116.))، وقرنه بالأصالة والاستقلال((المصدر نفسه، 474.)).

الموضوع بمعنى الواقع والخارج:

وهو مصطلحٌ كثيرُ التردّد في الكتابات الفلسفيّة عند الحديث عن الواقع الموضوعي الذي قد يرد أحياناً بمعنى مطلق ما له وجود خارجي ولو غير مادّي، وأخرى بمعنى خصوص ما له وجود واقعي خارجي مادّي. وقد تردّد هذا المعنى كثيراً في تراث الشهيد الصدر((انظر مثلاً: فلسفتنا، الصفحات 76، 79، 96، 142، 189؛ الأسس المنطقيّة للاستقراء، الصفحات 124، 160 ـ 161؛ اقتصادنا، الصفحات 129، 284، 353.)).

ولكنْ هناك إطلاقات أخرى كثيرة قد لا تندرج بشكل واضح تحت أحد المعنيين المتقدّمين، وإنّما تنتمي إلى معنى ثالث كلّي يُمكن إرجاع المعنَيَيْن المتقدِّمَين إليه، وهو (الموضوع بمعنى مطلق ما يقابل الذات)؛ فإنّ نزاهة البحث تتلخّص في ابتعاده عن حيثيّات الذات وما يؤثّر منها في انحياز البحث وعدمه. ويُمكن كذلك إرجاع الواقع الموضوعي إلى ما يقابل الذات عندما ننظر إليه من منظارها، وإن كانت بنظرة أوسع جزءاً منه.

ولعلّ هذا المعنى هو الأكثر شيوعاً على ألسنة المناطقة والفلاسفة والمفكّرين الجدد؛ فقد استعمله كَنْت للقول بأنّ «ما يميّز المعرفة العلميّة هو إمكانيّة وضع أسس مستقلّة عن أهواء الأفراد تقوم عليها»((منطق البحث العلمي، ترجمة وتقديم الدكتور محمّد البغدادي، الصفحة 79.))؛ وقد استعرض كَنْت عند الحديث عن تمثّل نقيضة الذوق القول القائل بأنّ لكلّ واحدٍ ذوقه الخاص، والآخر القائل بأنّه لا مشاحّة في الذوق؛ واعتبر أنّ معنى القول الأوّل هو أنّ مبدأ تحكيم حكم الذوق مبدأ ذاتي، بينما الآخر موضوعي((إمانوئيل كَنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، الصفحة 272.)).

وقد تردّد هذا المعنى كثيراً في تراث الشهيد الصدر، خاصّة في (اقتصادنا)((اقتصادنا، الصفحات 218، 263، 288، 302، 327، 334، 454، 567، 719، 757.))، وما ذكره في تعريفه التوالد الموضوعي في المعرفة((الأسس المنطقيّة للاستقراء، الصفحة 140؛ محاضرات تأسيسيّة، الصفحة 39.)).

استبعاد الموضوعيّة بمعنى عدم التحيّز عن البحث:

عالج الشهيد الصدر في أبحاثه الأصوليّة مسألة مهمّة تتعلّق بتفسير القرآن الكريم بالرأي، والذي ورد فيه نصوص ذامّة كثيرة، وأبدى احتمالاً أساسيّاً للمراد من التفسير بالرأي، وهو «أن يراد به: إعمال الجانب الذاتي في التفسير في قبال الجانب الموضوعي، أي: تحكيم موقف مسبق على النصّ القرآني ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرّأي المتبنّى والمرغوب للمفسّر؛ فإنّه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كلٍّ منها أَنْ يستدلَّ بالقرآن على مذهبه ورأيه، وهو استغلالٌ للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال.

والحاصل [أنّ] المراد: التفسير بما يرغبه الإنسان وما توافق مصلحته، لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه. وهذا من أشنع الأعمال وجديرٌ أَنْ يعبّر عنه بالكفر والهوى؛ إذ هو مساوقٌ مع تحريف الحقائق والدلائل، وبالتالي عدم الإيمان بمرجعيّة القرآن الكريم.

والفرق بينه وبين الاجتهاد الشخصي: أنَّ الاجتهاد الشخصي قد يكون موضوعيّاً، أي على أساس البرهان والدليل العقلي، كما في تفاسير المعتزلة؛ بخلاف هذا المسلك في تفسير القرآن»((بحوث في علم الأصول، الجزء 4 ، الصفحة 287.)).

وعلى هذا الأساس اشترط الشهيد الصدر في مفسّر القرآن الكريم وإلى أكبر درجة ممكنة محاولة الاندماج الكلّي في القرآن الكريم عند تفسيره.

ويقصد بالاندماج في القرآن كما أشرنا سابقاً: «أن يُدرس النص القرآني ويُستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبيّة، فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 312.)).

وكنّا قد أشرنا عند اكتناهنا الخلفيّات الفكريّة لأطروحة الشهيد الصدر «أنّ الاتّجاه الذي يمثّل التعبّد بالنصّ يمثّل الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها، وهو لا يرفض الاجتهاد ضمن إطار النصّ وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي منه»((التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية)، الصفحتان 55 ـ 56.)).

وإذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن أن تتولّد لدينا عدّة قراءات للنصّ، وتتحكّم بكلّ واحدة منها عوامل ذاتيّة؛ فالفقيه قد «يخطئ في تشخيص معنى النص؛ إمّا لجهله باللغة وعدم اطلاعه على دقائقها، أو لغفلته عن وجود بعض القرائن، أو قرينيّة الموجود منها، أو لعدم معرفته بطروّ تغيير في بعض الأوضاع اللغويّة؛ فهو يفهم النصَّ في ضوء ما يراه معنىً له بالفعل، ثمّ يفترض أنّه كان معنى اللفظ في زمان صدور النص أيضاً، ولو من جهة أصالة عدم النقل والثبات العقلائيّة»((بحوث في علم الأصول، الجزء 7، الصفحة 29.)).

وعلى هذا الأساس اعتبر الشهيد الصدر أنّ لدينا في المسيرة الفقهيّة نصّاً، «ولدينا في المقابل فهمٌ لهذا النص، وما يُفهم من النص يُنسب دائماً إلى الفقيه نفسه، فيقال: فهم الفقيه الفلاني أو فتوى الفقيه الفلاني، وحتّى لو أتى الفقيه اللاحق وأكّد ما فهمه سلفه، بل لو اتّفق الجميع على هذا الفهم، فيبقى في النهاية فهماً للنص، ولا يرقى إلى مستوى كونه بنفسه نصّاً»((خصائص الفكر الإسلامي (محاضرة غير منشورة)، الصفحة 19.)).

واعتبر كذلك أنّ للاتجاه النفسي للباحث «أثره الكبير على عمليّة فهم النصوص. ولكي تتّضح فكرة الموقف نفترض شخصين يمارسان دراسة النصوص: يتّجه أحدهما نفسيّاً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتّصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتّجاه نفسيٍّ نحو الأحكام التي تتّصل بالسلوك الخاصّ للأفراد؛ فإنّ هذين الشخصين ـ بالرغم من أنّهما يباشران نصوصاً واحدة ـ سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص، فيحصل كلّ منهما على مكاسب أكبر في ما يتّصل باتّجاهه النفسي وموقفه الخاصّ، وقد تنطمس أمام عينيه معالم الجانب الإسلامي الذي لم يتّجه إليه نفسيّاً.

وهذا الموقف النفسي الذي تفرضه ذاتيّة الممارس لا موضوعيّة البحث لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدّي أحياناً إلى التضليل في فهم النصّ التشريعي والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه، وذلك حينما يريد الممارس أن يفرض على النصّ موقفه الذاتي الذي اتّخذه بصورة مسبقة، فلا يوفّق حينئذ إلى تفسيره بشكل موضوعي صحيح»((اقتصادنا، الصفحتان: 457 ـ 458.)).

نعم، يستثني الشهيد الصدر من الذاتيّة المذمومة مجالاً وحيداً «يُسمح به للجانب الذاتي لدى محاولة تكوين الفكرة العامّة المحدّدة عن الاقتصاد الإسلامي((وهو مورد بحثه، وإلّا فلا خصوصيّة له.))، وهو مجال اختيار الصورة التي يراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام من بين مجموع الصور التي تُمثّل مختلف الاجتهادات الفقهيّة المشروعة»؛ فـ«الاجتهاد يتمتّع بصفة شرعيّة وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدّد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنّة، ووفقاً للشروط العامّة التي لا يجوز اجتيازها… ومن الممكن حينئذٍ أن نتخيّر في كلّ مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام.

وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حرّيته ورأيه، ويتحرّر عن وصفه مكتشفاً فحسب، وإن كانت هذه الذاتيّة لا تعدو أن تكون اختياراً وليست إبداعاً؛ فهي تحرّرٌ في نطاق الاجتهادات المختلفة، وليست تحرّراً كاملاً»((المصدر نفسه، الصفحتان 459 ـ 460.)).

أمّا في أبحاث التفسير الموضوعي، فقد قام في بداية المحاولة باستبعاد معنى معيّن من معاني الموضوعيّة، وهو معنى النزاهة في البحث العلمي وعدم إعمال الجوانب الذاتيّة، فيقول:

«ولا نقصد بالموضوعيّة هنا الموضوعيّة في مقابل التحيّز، مثلاً: ما يقال عادةً من أنّ هذا البحث موضوعي في مقابل أن يكون بحثاً متحيّزاً أو منحازاً.

طبعاً، الموضوعيّة بذلك المعنى مفروضة في التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي معاً؛ ليست الموضوعية بذلك المعنى من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي، الموضوعيّة بذلك المعنى عبارة عن الأمانة في البحث، عبارة عن الاستقامة على جادّة البحث، تلك الموضوعيّة مفترضة في كلا الاتّجاهين، وإنّما الموضوعيّة التي نجعلها في مقابل التجزيئية غير تلك الموضوعيّة التي تقابل الذاتيّة والتحيّز»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 36.)).

التفسير الموضوعي يحدّد موقف السماء تجاه تجربة الأرض:

حدّد الشهيد الصدر بوضوح أحد الأهداف الرئيسيّة التي يسعى التفسير الموضوعي إلى تحقيقها؛ إذ «يستهدف التفسير التوحيدي الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلاميّة من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون»((المصدر نفسه، الصفحة 23.))؛ «لأنّ في القرآن ما يمكن أن نستشفّ منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض»((المصدر نفسه، الصفحة 31 ـ 32.)).

وقريبٌ من كلام الشهيد الصدر كلامُ الشيخ جعفر السبحاني الذي اعتبر أنّ مهمّة التفسير الموضوعي هي تحديد النظرة القرآنيّة تجاه الموضوع((الشيخ جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن، الجزء 1، الصفحة 15.)).

وقد تميّز الشهيد الصدر بتعبير (الموقف)، وهو ما راح يستحضره بعض الباحثين لاحقاً؛ فها هو الدكتور الدغامين يرفض إدخال الدراسات الأولى التي تناولت الناسخ والمنسوخ ومجاز القرآن وإعجاز القرآن ضمن أبحاث التفسير الموضوعي؛ لأنّه «لم يقصد به حقيقة التفسير ولا التعرّف على موقف القرآن من كلّ موضوع بعينه»((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 19.)).

التفسير الموضوعي يستهدف الخروج بنظريّة (مركّب نظري):

وهو ما جعله بعضه مائزاً بين التفسير الترتيبي والموضوعي((السيّد محمّد علي أيّازي، تفسير موضوعى چيست؟! (فارسي)، الصفحة 66.)). وهذه النقطة هي معلمٌ آخر ممّا يميّز بوضوح أطروحة الشهيد الصدر حتّى على مستوى المعنى المشهور للتفسير الموضوعي؛ وذلك لأنّهم لم يركّزوا على هذه النقطة كما فعل، بل لعلّهم لم يعبّروا عن مُعطى التفسير الموضوعي بالنظريّة، هذا مع قطع النظر عن استشكال بعضهم في هذا التعبير على ما سيأتي قريباً.

ونستعرض في ما يلي بعضاً من نصوص الشهيد الصدر:

 أ ـ «وإنّما الدراسة الموضوعيّة هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة وتتّجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 27.)).

ب ـ «أي إنّه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنيّة لكن في حالة تناثر وتراكم عددي، دون أن نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، دون أن نحدّد في نهاية المطاف نظريّة قرآنيّة لكلّ مجال من مجالات الحياة.

فهناك تراكم عددي للمعلومات، إلاّ أنّ مجموعَ ما بين هذه المعلومات، الروابطَ والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحوّلها إلى مركّبات نظريّة ومجاميع فكرية، بالإمكان أن نحضّر على أساسها نظريّة القرآن في مختلف المجالات والمواضيع»((المصدر نفسه، الصفحتان 22 ـ 23.)).

ج ـ «وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظريّة التي بإمكانه أن يستلهمها من النّص»((المصدر نفسه، الصفحة 29.)).

د ـ «التفسير الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك، يتطلّع إلى ما هو أوسع من ذلك، يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيليّة، يحاول أن يصل إلى مركّب نظري قرآني، وهذا المركّب النظري القرآني يحتلّ في إطاره كلّ واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسمّيه بلغة اليوم بالنظريّة. يصل إلى نظريّة قرآنيّة عن النبوّة، نظريّة قرآنيّة عن المذهب الاقتصادي، نظريّة قرآنيّة عن سنن التاريخ، وهكذا عن السماوات والأرض.

فهنا التفسير الموضوعي يتقدّم خطوة على التفسير التجزيئي بقصد الحصول على هذا المركّب النظري الذي لا بدّ أن يكون معبّراً عن موقف قرآني تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة»((المصدر نفسه، الصفحتان 34 ـ 35.)).

ومن الواضح لدى متابعي تراث الشهيد الصدر الفكري أنّ ما يذكره هنا كان قد طبّقه في كتاب (اقتصادنا) الذي يُمكن أن نعتبره بحقّ نموذجاً فذّاً للمنهج الموضوعي الصدري، لكن في نطاق البحث الفقهي.

فقد تخطّى هناك المفردات الجزئيّة وسعى إلى اكشتاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، أي المركّب النظري الذي نقف من خلاله على موقف الإسلام من مختلف المسائل الاقتصاديّة؛ فقد قال هناك:

«وأمّا حين يكون درسنا لتلك الأحكام وعرضنا لها جزءاً من عمليّة اكتشاف المذهب الاقتصادي فلا يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب وإن اكتفت بحوثُ كثيرٍ من الإسلاميّين بهذا القدر، بل يتحتّم علينا أن ننجز عمليّة تركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كلّ واحد منها بوصفه جزءاً من كلّ، وجانباً من صيغة عامّة مترابطة؛ لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامّة التي تشعّ من خلال الكلّ أو من خلال المركّب، وتصلح لتفسيره وتبريره. وأمّا في طريقة العزل والنظرة الانفراديّة فلن نصل إلى اكتشاف»((اقتصادنا، الصفحة 438.)).

«وبعد أن نستوعب الجوانب المختلفة للنظريّة في ضوء الأبنية العلْويّة التي يختصّ كلّ واحد منها بأحد تلك الجوانب، نجمع في النهاية خيوط النظريّة كلّها في مركّب واحد، ونعطيها صيغتها العامّة»((المصدر نفسه، الصفحة 586.))، «لنستخلص في عمليّة تنسيق للبناء العلْوي الجديد النتائج العامّة التي يؤدّي إليها، ثمّ نوحّد بين تلك النتائج في مركّب نظري مترابط»((المصدر نفسه، الصفحة 686.))،.

وقد بسط (قدّس سرّه) الكلام في الجزء الثاني من كتاب (اقتصادنا) حول كيفيّة تكوين هذا المركّب.

إذاً، نحن نجد من ناحية أنّ الشهيد الصدر اعتبر أنّ «أحكام الشريعة تقوم على اُسس موحّدة»((المصدر نفسه، 464.))، وأكّد في آخر ما وصلنا من تراثه الفكري لدى حديثه عن (المؤشّرات العامّة لاقتصاد المجتمع الإسلامي) على وجود ما أسماه بـ(اتّجاه التشريع)، وهو مؤشّرٌ «يعني أن تتواجد في الشريعة ـ وضمن العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلامي ـ أحكامٌ منصوصة في الكتاب والسنّة تتّجه كلّها نحو هدف مشترك، على نحو يبدو اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشّراً ثابتاً، وقد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة لكي يضمن بقاء الهدف أو السير به إلى ذروته الممكنة»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 45.)).

ثمّ لدى حديثه عن المؤشّر الثالث ـ وهو مؤشّر القيم الاجتماعيّة التي أكّد الإسلام على الاهتمام بها ـ أكّد على «أنّ في النصوص الإسلاميّة من الكتاب والسنّة ما يؤكّد على قيم معيّنة وتبنّيها، كالمساواة والأخوّة والعدالة والقسط ونحو ذلك. وهذه القيم تشكّل أساساً لاستيحاء صيغ تشريعيّة متطوّرة ومتحرّكة ـ وفقاً للمستجدات والمتغيّرات ـ تكفل تحقيق تلك القيم وفقاً لصلاحيات الحاكم الشرعي في ملء منطقة الفراغ»((المصدر نفسه، الصفحة 49.)).

ومن ناحية أخرى نسترجع ما أشرنا إليه في الباب الثالث ـ لدى محاولتنا اكتناه الخلفيّات الفكريّة لأطروحة التفسير الموضوعي ـ حول فكرة مهمّة طرحها الشهيد الصدر، وهي فكرة هيمنة روح القرآن الكريم على التشريع؛ حيث ذهب إلى أنّه «لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه: طرح ما يخالف الروح العامّة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذٍ: أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجّة، و ليس المراد المخالفة والموافقة المضمونيّة الحدّيّة مع آياته»((بحوث في علم الأصول، الجزء 7 ، الصفحة 333. وانظر: مباحث الأصول ق2، الجزء 2، الصفحة: 376؛ ق2، الجزء 5، الصفحتان 652 ـ 653.)).

وهو ما صادق عليه السيّد علي السيستاني (حفظه الله)، الذي فهم من موافقة الحديث للكتاب الكريم «الموافقة الروحيّة، أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الإسلاميّة العامّة المستفادة من الكتاب والسنّة»((الرافد في علم الأصول، الجزء 1، الصفحة 11.)).

ونحن نجد أنّ بإمكاننا أن نربط أو نقارب بين مقولة المركّب النظري التي عالجها في (اقتصادنا) وبين مقولة روح القرآن المتقدّمة؛ فنقارب بينهما لنستوحي منهج العمل في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، دون أن يكون ذلك تحميلاً أو افتراضاً تجريديّاً بحتاً.

وكيف تكون كذلك وقد استحضر الشهيد الصدر هذه الروح وهو بصدد تطبيق منهجه في التفسير الموضوعي؛ حيث قال: «الروح العامّة للقرآن تؤكّد على هذه الحقيقة الأولى، وهي حقيقة الاطّراد في السنّة التاريخيّة الذي يعطيها الطابع العلمي من أجل تربية الإنسان على ذهنيّة واعية علميّة يتصرّف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 70.)).

ثمّ استحضر هذه الروح وأدخلها عنصراً في عمليّة الخروج بمركّب نظري، وذلك عندما اعتبر أنّ «الدولة… تنطلق في رسم سياستها في هذا المجال من التركيب بين حقائق أو قضايا مستمدّة من مذهبها الاقتصادي، ومستوحاة من الروح العامّة للتشريع الإسلامي»((الإسلام يقود الحياة، الصفحة 205.)).

ويُمكننا هنا أيضاً أن نسترسل لنعتبر أنّ (الدليل الاستقرائي) الذي تعرّض له في علم الأصول يسير في الاتجاه التقنيني ذاته. والدليل الاستقرائي «هو الدليل المستمدّ من تتبّع حالات كثيرة، كما إذا استطعت أن تعرف أنّ أباك يأمرك بالإحسان إلى جارك الفقير؛ عن طريق تتبّعك لذوقه وأمره بالإحسان إلى فقراء كثيرين في حالات مماثلة»((المعالم الجديدة للأصول، الصفحة 137.)).

«ومن ألوان الدليل الاستقرائي أن ندرس عدداً كبيراً من الأحكام الشرعيّة فنجد أنّها تشترك جميعاً في اتّجاه واحد، فنكتشف قاعدةً عامةً في التشريع الإسلامي عن طريقها»((المصدر نفسه، الصفحة 203.)).

وإذا كان الشهيد الصدر قد مثّل هناك ببعض النماذج الفقهيّة، فإنّه يُمكننا تطبيق هذا المنهج على نصوص القرآن الكريم لنخرج من خلال دراسة عدّة آيات بقاعدة عامّة تمثّل ذوق القرآن الكريم واتّجاهه حول ذلك الموضوع، وبالتالي تحديد موقف القرآن الكريم.

وقبل الانتقال إلى الملاحظات التي سجّلت حول النظريّة أو المركّب النظري، دعونا نتممّ الحديث عن المركّب النظري بالتنبيه إلى شرطين اثنين يعتبرهما الشهيد الصدر في أيّ مركّب نظري قيد الدرس:

في المركّب النظري يأخذ كلّ عضو دوره الطبيعي:

لا شكّ بوجود فارقٍ بين دراسة كلّ عضو ـ أو آية ـ بمعزل عن الأعضاء الأخرى، وبين دراسة هذه الأعضاء وهي تمثّل جزءاً من لوحة فنيّة كبيرة؛ حيث تظهر العلاقات التي تربط كلّ عضو بغيره، وفي الوقت نفسه تتجلّى القاعدة العامّة التي تمثّل المحور الذي تدور حوله الأعضاء كلّها.

يكتب الشهيد الصدر في (اقتصادنا):

«بل لا بدّ أن ندرك باستيعاب أيضاً الروابط التي تشدّ أحدهما إلى الآخر; باعتبارهما مندمجين في مركّب عضوي نظري واحد»((اقتصادنا، الصفحة 426.))، «فإنّ مبدأ تنمية الإنتاج والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حدّ((هذه أمثلة مورديّة ذكرها (قدّس سرّه) في محلّ البحث، وما يهمّنا هو المنهج.)) هو جزء من كلّ ، فيتفاعل في كلّ مذهب مع بقيّة الأجزاء ، ويتكيّف وفقاً لموقعه من المركّب وعلاقاته مع سائر الأجزاء»((المصدر نفسه، الصفحة 721.)).

وهذا هو بالذات ما ذكره عند حديثه عن دراسة حياة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) دراسة موضوعيّة تستهدف الكشف عن المحور الذي يلئم حوله كافّة الأئمّة (عليهم السلام) في سلوكهم، فقال:

«وإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمّة (عليهم السلام) على هذين المستويين فسوف نواجه على المستوى الأوّل اختلافاً في الحالات وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشخصيّة بين الأدوات التي مارسها الأئمّة (عليهم السلام)؛ فالحسن (عليه السلام) هادن معاوية، بينما حارب الحسين (عليه السلام) يزيد حتّى قُتل، وحياة السجّاد (عليه السلام) فائحة بالدعاء، بينما كانت حياة الباقر (عليه السلام) فائحة بالحديث والفقه ، وهكذا..

وأمّا على المستوى الثاني حينما نحاول اكتشاف الخصائص العامّة والأمور والدور المشترك للأئمّة ككلٍّ، فسوف تزول كلّ تلك الاختلافات والتناقضات؛ لأنّها تبدو على هذا المستوى مجرّد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وإنّما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مرّ بها كلّ مام ، وعاشتها القضيّة الإسلاميّة والشيعة في عصره من الظروف والملابسات التي مرّت بالرسالة في عهد إمام آخر.

ويمكننا عن طريق دراسة الأئمّة على أساس النظرة الكلّيّة أن نخرج بنتائج أضخم من مجموع النتائج التي تتمخّض عنها الدراسات التجزيئيّة; لأنّنا سوف نكشف ترابطاً بين أعمالهم»((أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، الصفحة 54؛ وانظر: أهل البيت.. تنوّع أدوار ووحدة هدف، الصفحتان 141 ـ 142.)).

المركّبات النظريّة أجزاء من مركّب حضاري إسلامي واحد:

لا تنتهي رحلة التفسير الموضوعي عند استخراج المركّب النظري المتعلّق بموضوع ما؛ إذ إضافةً إلى لزوم انسجام المُعطى النظري مع مختلف العناصر العضويّة التي كوّنته، يجب أن يكون هذا المركّب النظري منسجماً مع مختلف المركّبات النظريّة الأخرى المستخرجة حول موضوعات مختلفة؛ لأنّ هذه المركّبات تنتهي في نهاية المطاف إلى مركّب حضاري واحد تصدر عنه.

فالاقتصاد الإسلامي مثلاً «جزءٌ من المذهب الإسلامي الشامل لشتّى فروع الحياة»((اقتصادنا، الصفحة 361.))، ونحن «حين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصاديّة داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتّش في ضوئها عن مركّب حضاري قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلّف، ولا بدّ حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمّة ونفسيّتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة»((المصدر نفسه، الصفحتان 21 ـ 22.))، «وفي سبيل تحديد الأساس الفكري للتنمية لا يمكن أن نفصل المذهب الاقتصادي ـ بوصفه جزءاً من مركّب حضاري كامل ـ عن الحضارة التي ينتمي إليها ومفاهيمها عن الحياة والكون»((المصدر نفسه، الصفحة 742.)).

ومن أمثلة تطبيقات هذه الرؤية أنّ الشهيد الصدر ميّز في أطروحة (البنك اللاربوي في الإسلام) بين «موقف مَن يريد أن يخطّط لبنك لاربويّ ضمن تخطيط شامل للمجتمع، أي بعد أن يكون قد تسلّم زمام القيادة الشاملة لكلّ مرافق المجتمع»، وبين «موقف مَن يريد أن يخطّط لإنشاء بنك لا ربويّ بصورة مستقلّة عن سائر جوانب المجتمع، أي مع افتراض استمرار الواقع الفاسد والإطار الاجتماعي اللاإسلامي للمجتمع»، وخلص إلى أنّ «هذين الموقفين يختلفان اختلافاً أساسيّاً؛ إذ على مستوى الموقف الأوّل يطبَّق حكم الإسلام بتحريم الربا على البنك ضمن تطبيق شامل للنظام الإسلامي كلّه، وبذلك يؤتي تحريم الربا في مجال التطبيق كلّ ثماره المرجوّة… الصعوبة لا تكمن في إعطاء صيغة إسلامية لاربوية للبنك، بل في إعطائه هذه الصيغة مع افتراض أن يعيش ضمن الواقع الفاسد ومؤسّساته المختلفة»((البنك اللاربوي في الإسلام، الصفحتان 17، 22.)).

الملاحظات على الحديث عن استخراج مركّب نظري قرآني:

لوحظ على حديث الشهيد الصدر عن استهداف التفسير الموضوعي الخروج بنظريّة أو مركّب نظري عدّة ملاحظات، نذكرها في ما يلي:

الملاحظة الأولى: عدم لزوم خروج التفسير الموضوعي بنظريّة:

حيث أخذ الدكتور أحمد رحماني على تعريف الشهيد الصدر أنّه «على أهميّته يعبّر عن التفسير الموضوعي التجميعي وحده، ولعلّ الإضافة التي يضيفها هي التأكيد على الخروج بنظريّة قرآنيّة بصدد الموضوع.

ولكن عند النظر نجد أنّ التفسير الموضوعي لا يخرج دائماً بنظريّة حول الموضوع؛ ففي بعض الأحيان نخرج فقط بتصوّر واضح حول الموضوع»((مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 14.)).

ومع أنّ من غير البعيد أن يكون مصطلح النظريّة شاملاً لما أسماه الدكتور رحماني تصوّراً، لكن عموماً قد تكون هذه الملاحظة وجيهة من ناحية فنيّة.

ولكنّ الشهيد الصدر يضع نصب عينيه التفسير الموضوعي الذي من شأنه أن يحدث تغييراً في الواقع، وهو الذي عادةً ما يقدّم نظريّة قرآنيّة تجاه التجارب البشريّة.

الملاحظة الثانية: عدم سلامة التعبير بالنظريّة:

سجّل الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم ملاحظةً حول قول الشهيد الصدر في التعريف: «للخروج بنظريّة قرآنيّة»؛ باعتبار عدم دقّة التعبير؛ «لأنّ مفهوم النظريّة في المجال العلمي: أنّها تلك التي لم تزل محطَّ النظر والبحث والتجربة، ولم ترقَ بعدُ إلى درجة الحقيقة العلميّة التي لا تقبل مجالاً للشكّ والنظر، حيث أصبحت من الأمور البدهيّة المسلّم بالمعلومات التي تتضمّنها.

ولا يخفى على مسلم أنّ كلّ ما تكلّم به القرآن هو من الحقائق العلميّة الثابتة، لا يتطرّق إلى عقل أيّ مسلم بمصداقيّتها، حتّى وإن خفي عليه بعضٌ منها»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20.)).

وإذا صحّ تعريفه للنظريّة ـ مع أنّ للنقاش في ذلك مجالاً واسعاً ـ فإنّ التعبير عن المُعطى القرآني بالنظريّة مبرَّر من ناحية منهجيّة؛ لأنّه ليس مطروحاً غالباً على مستوى التنصيص القرآني، بل غالباً ما يكون حصيلة جهد كبير بذله المفسّر الموضوعي، وهذا ما يُكسبه في الحقيقة صفة النظريّة؛ فهو كذلك بلحاظ المفسّر نفسه وما توصّل إليه، وليس بلحاظ المفسَّر نفسه وما يتّصف به من عصمة وكمال مطلقين.

وهذا ما يعترف به الدكتور عبد الرحيم ضمنيّاً؛ فقد نصَّ أثناء حديثه عن التفسير الموضوعي بمعنى الوحدة القرآنيّة على أنّ مهمّة اكتشاف الموضوع الذي اختصّت به السورة «مهمّة في غاية الصعوبة عزّت على الكثيرين، ولم تتّفق عليها كلمة أكثر الباحثين، فضلاً عن اختلاف المحاولين في تحديد موضوع السورة الواحدة عند تناولها من أكثر من واحد»((المصدر نفسه، الصفحة 31.))، وبالتالي فالعمليّة تختلف فيها الأنظار، شأنها في ذلك شأن أيّ عطاء بشري آخر، وهو ما يقع في طريق التفسير الموضوعي الذي نتحدّث عنه.

ولهذا نجد أنّ الشهيد الصدر يلجأ إلى تعبيرات من قبيل: «والنظريّة التي بإمكانه أن يستلهمها من النصّ»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 29.))؛ «ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسّر أن يفهمه، أن يستشفّه، أن يتبيّنه من خلال مجموعة آياته الشريفة»((المصدر نفسه، الصفحة 30.)).

كما قال وهو بصدد الحديث عن التجربة الفقهيّة والمقارنة بينها وبين التجربة التفسيريّة: «لا بدّ من التوغّل عموديّاً أيضاً إلى تلك النظريّات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشريّة»((المصدر نفسه، الصفحة 38.)).

وقد أشار الشهيد الصدر إلى إنسانيّة المركّب النظري الذي يخرج به المجتهد والباحث في كتاب (اقتصادنا) حيث قال:

«فالاجتهاد إذاً عمليّة معقّدة تواجه الشكوك من كلّ جانب. ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد فهو لا يجزم بصحّتها في الواقع ما دام يحتمل خطأه في استنتاجها: إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدا له صحيحاً((وقد عنى بذلك نصوص السنّة الشريفة، والكلام لا يجري في النصّ القرآني؛ للقطع بصحّته.))، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون((والوصف الأخير لا يتأتّى أيضاً في النصّ القرآني.))»((اقتصادنا، الصفحة 462.)).

كما أعاد التأكيد على هذا المضمون في محاضرة له عن خصائص الفكر الإسلامي حيث قال:

«لقد أشرنا إلى هذه المسألة بهدف التمييز بين النص وبين ما نفهمه نحن من النص؛ فما يأتي به النص ثابت ونقف عنده، بينما يخضع ما نفهمه إلى مستوى الإنسان و[الظروف] التي يعيشها في المجتمع، وإلى التصوّرات التي [تحيط به].

وهذا بنفسه ما نعيشه في مسيرتنا الفقهيّة، حيث لدينا نصٌّ ولدينا في المقابل فهمٌ لهذا النص، وما يُفهم من النص يُنسب دائماً إلى الفقيه نفسه، فيقال: فهم الفقيه الفلاني أو فتوى الفقيه الفلاني، وحتّى لو أتى الفقيه اللاحق وأكّد ما فهمه سلفه، بل لو اتّفق الجميع على هذا الفهم، فيبقى في النهاية فهماً للنص ولا يرقى إلى مستوى كونه بنفسه نصّاً»((خصائص الفكر الإسلامي (محاضرة غير منشورة)، الصفحة 19.)).

وبتعبير منطقي: لدينا في المقام نصٌّ إلهيٌّ ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾((سورة فصّلت، الآية: 42.))، ولدينا جهدٌ بشريٌّ مبذولٌ في سبيل فهم هذا النصّ والكشف عن الموقف القرآني بحدود الطاقة البشريّة. والنتيجة ـ كما هو معلومٌ ـ تتبع أخسَّ المقدّمات، فكان التعبير عن الموقف أو المُعطى القرآني بالنظريّة نسبةً إلى أخسّ المقدّمتين المذكورتين في هذه العمليّة.

ولكنّ الملاحظ أنّ بعض الباحثين الذي سجّلوا إشكالاتٍ ظاهريّةً جدّاً على التعريف وقريبةً إلى الروح السلفيّة ـ وهي ما يأتي قريباً ـ لم يلتفتوا إلى هذه الناحية، ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ التعبير بالنظريّة ليس ظاهراً على الدوام في الأمور غير المحسومة، القابلة للتعديل.

الملاحظة الثالثة: المفسّر يكشف عن النظريّة ولا ينشئها:

نقل الدكتور مصطفى مسلم عدّة تعريفات للتفسير الموضوعي دون أن ينسب أكثرها إلى قائلها، ثمّ رجّح أحدها. وأوّل هذه التعريفات التي ذكرها تعريفه بأنّه: «بيان ما يتعلّق بموضوع من موضوعات الحياة الفكريّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده»((الدكتور مصطفى مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 16.)).

وتفوح من هذا التعريف بوضوح رائحة الشهيد الصدر، الذي جاء في كلامه: «هذا الاتّجاه… يحاول القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة.. ويستهدف.. من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم ـ وبالتالي للرسالة الإسلاميّة ـ من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 23.)).

فالظاهر أنّ تعريف الشهيد الصدر هو المقصود، ولكنّه لم يسمِّه.

وعلى أيّة حال، فقد أورد الدكتور توفيق العلوان على هذا التعريف أربعة إيرادات:

1 ـ أنّ التفسير الموضوعي علم وليس بياناً.

2 ـ عدم انحصار الموضوعات بكونها فكريّة ـ اجتماعيّة ـ كونيّة؛ لأنّ ذلك تضييق لدائرة التفسير الموضوعي.

3 ـ أنّ التعبير بـ(زاوية قرآنيّة) لا يتناسب مع التعريف الجامع المانع لعلمٍ برسوخ علم التفسير، وأنّه يحسن اختيار ألفاظ قرآنيّة معبّرة عن المعنى، مثل (مقاصد قرآنيّة) أو (بيان قرآني) أو (أحكام القرآن) وغيرها من «الألفاظ الشرعيّة المعتبرة»!

4 ـ أنّ قول الشهيد الصدر: «للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده» مردود؛ لأنّ المفسّر الموضوعي لا ينشئ نظريّات قرآنيّة، بل يكشف ويبيّن النظرة القرآنيّة على هيئتها في الكتاب؛ فدوره الكشف والتجلية وليس إنشاء وخلق النظريّات((الدكتور توفيق العلوان، فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحتان 36 ـ 37.)).

وإذا كان الذي يهمّنا فعلاً هو الملاحظة الرابعة، فإنّ ذلك لن يمنعنا من الوقوف عند أخواتها:

1 ـ أمّا الإيراد الأوّل، فهو يطال التعريف الذي ذكره الدكتور مصطفى مسلم، وهو مستفاد من كلمات الشهيد الصدر الذي لم يأتِ على استخدام لفظ (البيان).

وعلى كلّ حال، فالإيراد ليس ذا بال بعد أن كان البيان أحد معاني التفسير؛ لأنّهما يشتركان في الكشف؛ فكأن صاحب التعريف يقول: «إنّ التفسير الموضوعي هو بيان ما يتعلّق …»، وما الضيرُ في ذلك؟!

بل ما الضيرُ في أن يكون بصدد تعريف التفسير الموضوعي بوصفه علماً ثمّ يأتي بما ذكره؟! فيؤول التعريف إلى قولنا: «علم التفسير الموضوعي هو العلم ببيان ما يتعلّق…»، وذلك على حدّ تعريف علم الأصول مثلاً بالقول: «علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عمليّة استنباط الحكم الشرعي»((دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، الصفحة 46؛ الحلقة الثانية، الصفحة 172؛ الحلقة الثالثة، الصفحة 18.))، فيبقى المعرِّف الحقيقي للتفسير الموضوعي هو «بيان ما يتعلّق بموضوع..».

2 ـ أمّا الإيراد الثاني، فبعد التنبيه إلى أنّ الشهيد الصدر درج على استخدام مصطلح (العقائديّة) بدل (الفكريّة)، فإنّنا نكاد نجزم بأنّ ذلك كان من باب التمثيل لا أكثر.

هذا إذا لم ندخل في مماحكة المستشكل للقول: إنّه يكاد لا يخلو موضوعٌ يتصوّره من أن يكون إمّا فكريّاً وإمّا اجتماعيّاً وإمّا كونيّاً.

فتحديد مجال البحث وتقييده كان من خلال عمليّة الإطلاق إن صحّ التعبير، كما لو قال لك أحدُهم: «كل ما شئت»، فالقضيّة مقيّدة من حيث الهيئة، ولكنّ القيد في نفسه مطلق، فتكون القضيّة بروحها مطلقة.

3 ـ أمّا الإيراد الثالث، فنريد أوّلاً التأكيد على أنّ الشهيد الصدر قد استخدم فعلاً مصطلح (الزاوية القرآنيّة) في عدّة موارد؛ حيث قال: «الدراسة الموضوعيّة هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة، وتتّجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 27.))، «ما هي عناصر المجتمع من زاوية نظر القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 106.))، «الاستخلاف هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 108.))، «ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ من زاوية النظرة القرآنيّة»((المصدر نفسه، الصفحة 113.))، «دور الإنسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 114.))، «دور الإنسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 115.)).

إلّا أنّ ملاحظة الدكتور العلوان غامضة وغريبة في آن:

أمّا غموضها؛ فلأنّه لم يتّضح لنا وجه عدم مناسبة تعبير (زاوية قرآنيّة) مع تعريف التفسير.

أمّا غرابتها؛ فلأنّه لو علّل ذلك بأنّه يعبّر عن عدم قطعيّة الموقف القرآني المستخرج كما مرّ معنا في ملاحظات سابقاً أجبنا عنها لكان أولى، ولكنّ الظاهر منه أنّه ربط شرعيّة المصطلح واعتباره بوروده في القرآن الكريم.

وعليه، فإذا لم يكن مصطلح (زاوية قرآنيّة) مصطلحاً قرآنيّاً بسبب عدم وورده في القرآن الكريم، فكذلك مصطلحات (مقاصد قرآنيّة) أو (بيان قرآني) أو (أحكام القرآن) المقترحة من قبله.

ولماذا لا يسوغ للشهيد الصدر التعبير بـ(الزاوية القرآنيّة) ويسوغ له التعبير بـ(السياحة في الكتاب الكوني)((فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحة 265.)) الواردة في بعض كلماته؟!

4 ـ أمّا الإيراد الرابع، وهو محطّ نظرنا، فهو أنّ الدكتور العلوان أورد على قول الدكتور مصطفى مسلم: «للخروج بنظريّة قرآنيّة» أنّ التفسير يكشف عن النظريّة ولا يُنشئها. وقد أشرنا سابقاً أنّ التعبير المذكور هو للشهيد الصدر أساساً.

ولكنّ صحّة هذا الإيراد متوقّفة على أن نفهم من الخروج بنظريّة إنشاءها، والحال أنّه ليس ظاهراً فيه. بل إنّ المعنى اللغوي يساعد على الاكتشاف لا الإنشاء؛ فـ «خَرَجَ خُرُوجاً: برز من مقرّه أو حاله‏»((الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن، الصفحة 278.))، و«الخُروج: نقيض الدخول.. وقد أَخْرَجَهُ وخَرَجَ به»((ابن منظور، لسان العرب، الجزء 2، الصفحة 249.)).

فالخروج بالنظريّة معناه: إخراجُها، وإخراج الشيء فرعُ وجوده كما هو معلوم، فيكون المعنى هو الاكتشاف لا الإنشاء.

كما إنّ من الواضح لدى متابع نتاجات الشهيد الصدر الفكريّة أنّ مراده هو الاكتشاف لا الإنشاء، ويكفي أنّه قال: «وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظريّة التي بإمكانه أن يستلهمها من النّص»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 29.)).

ويصبح الأمر أكثر وضوحاً إذا آمّنا بتماثل منهج التفسير الموضوعي مع منهج كتاب (اقتصادنا) كما أشرنا سابقاً ونشير لاحقاً؛ فإنّ أطروحة (اقتصادنا) تقوم على اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام ـ كما نُصَّ عليه في عنوان الكتاب ـ لا على إنشائه.

ارتكاز التفسير الموضوعي على عمليّة الحوار والاستنطاق:

تتّصل هذه النقطة بالنقطة السابقة اتّصالاً وثيقاً، وهي تتناول آليّة العمل في التفسير الموضوعي.

ونستعرض في ما يلي بعضاً من نصوص الشهيد الصدر:

أ ـ «ومن هنا أيضاً كانت عمليّة التفسير الموضوعي عمليّة حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست مجرّد استجابة سلبيّة، بل استجابة فعّالة وتوظيفاً هادفاً للنّص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وهو يتحدّث عن القرآن الشريف: ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديثَ عن الماضي، ودواءَ دائكم، ونظمَ ما بينكم).

التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن (عليه الصلاة والسلام) أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حواراً مع القرآن الكريم وطرحاً للمشاكل الموضوعيّة عليه بقصد الحصول على الإجابة القرآنيّة عليها»((المصدرنفسه، الصفحة 29 ـ 30.)).

ب ـ «إنّ التفسير الموضوعي… يستنطق القرآن الكريم على حدّ تعبير الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، ويكون دوره دور المستنطق، دور الحوار، يكون دور المفسّر دوراً ايجابياً أيضاً، دور المحاور، دور من يطرح المشاكل، من يطرح الأسئلة، من يطرح الاستفهامات على ضوء تلك الحصيلة البشريّة، على ضوء تلك التجربة الثقافيّة التي استطاع الحصول عليها، ثم يتلقّى من خلال عمليّة الاستنطاق، من خلال عملية الحوار مع أشرف كتاب، يتلقّى الأجوبة من ثنايا الآيات المتفرّقة»((المصدر نفسه، 33 ـ 34.)).

وفي (نهج البلاغة): «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»((الشريف الرضي، نهج البلاغة، الصفحة 223.)).

وقد سبق للشهيد الصدر أن استشهد بهذا الحديث في كتاباته السابقة؛ فقد قال في (المدرسة الإسلاميّة):

«وفي (نهج البلاغة) أنّ أميرالمؤمنين عليّاً (عليه السلام) قال يصف الرسول (صلّى الله عليه وآله) والقرآن الكريم : (أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه : ألا إنّ فيه ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم)((المصدر نفسه، الصفحة 223؛ الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 1، الصفحة 60، الحديث 7.)). إنّ هذه النصوص تؤكّد بوضوح استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة»((المدرسة الإسلاميّة، الصفحة 144 ـ 145.)).

وقد وردت صيغة الحديث في كتاب (الكافي) على النحو التالي: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق لكم أخبركم عنه: إنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمتكم»((الكافي، الجزء 1، الصفحة 60، الحديث 7.)).

وقد سجّل الشيخ محمّد فاكر الميبدي عدّة إشكالات على أطروحة الشهيد الصدر الاستنطاقيّة((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحتان 237 ـ 238.)):

الإشكال الأوّل:

«إنّ عملية الحوار مع القرآن واستنطاقه تقابل ـ في الحقيقة ـ الآراء البشريّة ومواقفها وحصيلة تجاربها مع القرآن، أو تمثّل تطبيقاً لمجموعة الأفكار البشريّة على المعارف القرآنيّة، مع أنّ تفسير القرآن ـ في كلا الاتجاهين ـ عبارة عن فهم مراده تعالى، سواء كان للبشر رأيٌ ونظر أو لا».

ومن الملاحظ على هذا الإشكال أنّه أغمض النظر عن إحدى الخلفيّات الفكريّة التي تقوم عليها أطروحة التفسير الموضوعي، وهي حكومة القرآن الكريم على الواقع وقدرته المتجدّدة وغير المحدودة على معالجة قضاياه.

ولم يأخذ هذا الإشكال بعين الاعتبار أنّ الشهيد الصدر عندما يتحدّث عن مفاصل هذه الأطروحة فإنّه يستهدف بالدرجة الأولى ما يرتبط بالواقع الخارجي وينعكس عليه، دون أن يعني ذلك إهماله لجوانب التفسير الموضوعي الأخرى.

فلا يصحّ إشكال المستشكل بأنّ تفسير القرآن في الاتجاهين التجزيئي والموضوعي «عبارة عن فهم مراده تعالى، سواء كان للبشر رأيٌ ونظر أو لا»؛ لأنّ الشهيد الصدر لا يُخرج دائرة الموضوعات التي لا يكون للبشر فيها رأيٌ عن مديات التفسير الموضوعي، غاية الأمر أنّه يركّز على التفسير الموضوعي الذي يتشبّع فيه المفسّر من التجارب البشريّة، ثمّ يحضر مائدة القرآن بهذه الخلفيّة.

وسنذكر لاحقاً تحت عنوان (العلاقة بين الموضوعيّة المشهوريّة والموضوعيّة الصدريّة) أنّ تداول الموضوع في أروقة المعرفة يدفع الباحث المؤمن بالقرآن الكريم إلى بذل جهد طوارئي في استنطاق النص القرآني ومحاولة قراءته بعقليّة من ينقّب عن النفط وهو يقطع بوجوده تحت الأرض، لا بعقليّة عابر السبيل الذي لا يملك ما ينبّهه إلى التطلّع إلى ما تحت الثرى.

وهذا ما يجعل ثمرات التفسير الموضوعي أكثر تمظهراً.

الإشكال الثاني:

«لا تنحصر عمليّة الاستنطاق بالتفسير الموضوعي، بل يمكن تطبيقها في التفسير التجزيئي أيضاً، والدليل عليه إطلاق الخبر العلوي».

ثمّ يقول: «أمّا الاستدلال بكلام علي (عليه السلام) فمحلّ نظر؛ إذ تعبير الاستنطاق يشمل كلا الاتجاهين في تفسير القرآن، فلو كان هذا التعبير دالّاً على التفسير الموضوعي فقط ولا علاقة له بالتفسير التجزيئي، لانحصر تفسير القرآن بالتفسير الموضوعي لا محالة، فلا يكون معنى للتفسير التجزيئي رأساً»((المصدر نفسه، الصفحة 240.)).

ومع أنّ هذا الكلام صحيحٌ لا غبار عليه، فإنّنا نتحفّظ على الاستدلال على شرعيّة عمليّة الاستنطاق في مجال التفسير التجزيئي بإطلاق النصّ العلوي السابق؛ لأنّ التمسّك بإطلاق النصّ العلوي متوقّف على كونه في مقام البيان، والحال أنّه ليس كذلك.

إذاً، لا إشكال في جريان عمليّة استنطاق القرآن الكريم في مجال التفسير التجزيئي إذا كان المقصود بالاستنطاق جعل الآية تنطق لتفسّر الآية الأخرى.

لكنّ الشهيد الصدر لم يدّعِ عدم إمكان إجراء الاستنطاق في مجال التفسير التجزيئي، لكن لا شكّ في نهاية الأمر في أنّ نطق النصّ القرآني له مراتب ودرجات، وإلّا لما اختلفت تعابير الروايات بين النطق تارةً والاستنطاق أخرى؛ ففي بعضها: «كتاب الله.. ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض»((نهج البلاغة، الصفحة 192.))، أي إنّه ينطق بلا استنطاق، وفي بعضها الآخر ـ كما رأينا ـ : «ذلك القرآن فاستنطقوه».

فيتحصّل: أنّ للقرآن الكريم منطوقات تحصل وفق عمليّة قرآنيّة محضة غير شديدة التعقيد، حيث ينطق بعضه ببعض، وإلى جانبها منطوقات لا يُمكن الوقوف عليها إلّا من خلال استخراج مُستخرِج وجعل النصّ القرآني ينطق بها.

ونحن لا نريد هنا القول بأنّ مجال التفسير التجزيئي هو الأوّل والموضوعي هو الثاني، بل نريد التأكيد على أصل وجود درجات متفاوتة من النطق القرآني.

وإذا كان الأمر كذلك وقلنا بأنّ المفسّر التجزيئي يمارس عمليّة استنطاق للنصّ القرآني على المستوى الذي لا ينطق به القرآن من نفسه، ولكن مع ذلك فلا شكّ بأنّ جعل القرآن الكريم ينطق بموقفه ـ من خلال تقديم مركّب نظري يتناول مجموع المدلولات التفصيليّة والجزئيّة لمجموعة من الآيات ـ يعبّر عن عمليّة أكثر تعقيداً من الأولى.

ثمّ يزداد الأمر صعوبةً عندما نريد جعل القرآن الكريم ينطق بموقفه تجاه موضوع خارجي يختزن في داخله مركّب شديد التعقيد من التجارب البشريّة المتناقضة والمتضاربة والمتداخلة، حيث لن يتسنّى ذلك لكلّ أحد، بل سيكون حكراً على أشخاص عاشوا مفاهيم الرسالة الإسلاميّة بعقلهم وروحهم معاً وتشرّبوا بها قلباً وقالباً.

هذا هو الأفق الذي يروّج فيه الشهيد الصدر لأطروحته، ولم يكن بصدد تأطير الاستنطاق بعمليّة التفسير الموضوعي ونفيها عن التجزيئي، بل بصدد الإشارة إلى أنّ الحذاقة في ممارسة عمليّة الاستنطاق يُحتاج إليها بشكل واضح وجلي في التجربة الموضوعيّة لا التجزيئيّة، وبعبارة أخرى: إنّ عمليّة التفسير الموضوعي أكثر تمحّضاً في الاستنطاق من عمليّة التفسير التجزيئي، ولهذا أسمى بعض الباحثين الأخيرة بـ(الطريقة السكونيّة)((الدكتور محمّد عبد اللاوي، فلسفة الصدر.. دراسات في المدرسة الفكريّة للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، الصفحة 367.)).

الإشكال الثالث:

«إذا كان القرآن قد نزل بلغة العرب الرائجة في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فلا بدّ في تفسيره من مراعاة تلك اللغة ومعانيها المستودعة فيها في ذاك الزمان، سواء في ذلك التفسير التجزيئي أو الموضوعي، فلا ينحصر ذاك التناهي ـ لو فرض ـ بالتفسير التجزيئي».

والجواب: صحيحٌ أنّ التفسير الموضوعي يراعي لغة العرب على حدّ التفسير التجزيئي، ولكنّ ذلك لن يجعله أسير التناهي؛ لأنّ اللغة ليست العنصر الوحيد الدخيل في عمليّة التفسير الموضوعي، خاصّة في أطروحة الشهيد الصدر التي تتجلّى في صورها العالية في التشبّع من التجارب البشريّة، ثمّ حضور مائدة القرآن الكريم الذي صرّح «بأنّ كلمات الله لا تنفد»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 31.))، ثمّ محاولة استنطاقه بهدف استكشاف موقفه تجاه الموضوع محلّ البحث ضمن مركّب نظري يعبّر عن هذا الموقف؛ فإنّ هذه العمليّة لا تخضع للّغة فقط لكي يكون التفسير الموضوعي محدوداً ومتناهياً على حدّ التفسير التجزيئي.

ومن الممكن توضيح هذه الفكرة بالاستعانة ببحث المعنى الحرفي المطروح في علم الأصول((دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، الصفحة 227 ؛ الحلقة الثالثة، الصفحة 80.))؛ فالمعنى الحرفي المتقوّم بطرفيه يتغيّر مع تغيّر أحد الطرفين، بمعنى أنّه كلّما تبدّل أحد الطرفين حصلنا على معنى حرفي جديد يُضاف إلى ما كان قائماً بين الطرفين السابقين.

فبينما يقف القرآن الكريم طرفاً ثابتاً لا يتبدّل، فإنّ قدرة الإنسان المستنطق على الاستنطاق تتعمّق دائماً، والتجارب البشريّة المرتبطة بالموضوع محلّ البحث عرضة للتغيّر والتعمّق الدائم، الأمر الذي يُنتج باستمرار ـ وبحسب التعبير الأصولي ـ معاني حرفيّة جديدة يتجلّى فيها عدمُ نفاد القرآن الكريم.

وهذا ما يقصده الشهيد الصدر من عدم النفاد أو عدم التناهي، وإذا كان قد وصف التفسير التجزيئي بالمتناهي ولم نسلّم بتناهيه، فإنّ المراد تناهيه إذا قسناه بالتفسير الموضوعي.

الإشكال الرابع:

«لا معنى لكون القرآن متحدّثاً والمفسّر التجزيئي مستمعاً ومسجِّلاً، كما لا معنى لكون القرآن معطياً والمفسّر آخذاً؛ إذ تعبيره الآخر: (لن ينطق) ينفي قول الصدر في الدور السلبي للتفسير التجزيئي والدور الإيجابي للقرآن؛ لأنّ إصغاء المفسّر واستماعه إنّما هو فيما إذا كان القرآن ناطقاً ومتحدّثاً، والقرآن لن ينطق!».

والغريب أنّ المستشكل بعد أن صرّح بعدم ناطقيّة القرآن الكريم هنا، صرّح بخلافه بعد أسطر على ما يأتي في إشكاله الخامس.

وعلى كلّ حال، فإذا كان البعض قد اعتبر استنطاق القرآن الكريم وتحديد موقفه أمراً ضروريّاً؛ «… لكونه المصدر الأساس للعطاء الفكري المستجدّ لما يقتضيه بناء الإنسان في مجتمعه نحو التكامل والسمو لا لوقت محدّد، بل لكل عصر وزمان، بما في حركة الواقع الإنساني وتطوّرها، وبمقتضى ضرورة مواكبة ما يحدث لكلّ زمن أن يكون هذا السفر الخالد ـ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من كلّ جانب ـ شاملاً مستوعباً، يستطيع الذهن الإنساني أن يبلغ كنهه على مراحل، و ليس بالضرورة مرّة واحدة»((أبو الفضل الفيضي الدكني، سواطع الإلهام في تفسير القرآن (مقدّمة المحقّق الدكتور السيّد مرتضى آيت الله زاده الشيرازي)، الجزء 1، الصفحتان 38 ـ 39.))، فإنّنا أمام إشكاليّة يثيرُها ذيلُ النصّ العلوي المتقدّم حيث جاء: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق» كما في (نهج البلاغة)، أو «ولن ينطق لكم» كما في (الكافي)؛ حيث التصريح بأنّ القرآن الكريم لن ينطق، «ولكن أخبركم عنه» كما في (النهج).

وهذا تعبيرٌ آخر عن حصر القدرة على جعل القرآن الكريم ينطق بمنطوقاته في الإمام علي (عليه السلام) وما يمثّله من إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، فكيف يدعو الشهيد الصدر إلى عمليّة استنطاق والحال أنّها محالة؟! وهذا بدوره يفتح علينا ـ معرفيّاً ـ الباب أمام موقع النصّ المأثور عنهم (عليهم السلام) في التفسير، ولكنّه خارجٌ عن محلّ كلامنا فعلاً.

ومن هنا ربّما يُلجأ في مقام تعميق فهمنا لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه» إلى ما روي «عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: خرج علينا رسول الله[ (صلّى الله عليه وآله)] في مرضه الذي توفّي فيه ونحن في صلاة الغداة، فقال: إنّي تركت فيكم كتاب الله عز وجلّ وسنّتي، فاستنطقوا القرآن بسنّتي؛ فإنّه لن تعمى أبصاركم ولن تزلّ أقدامكم ولن تقصر أيديكم ما أخذتم بهما»((الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقّه، الجزء 1، الصفحة 275؛ القاضي نور الله الشوشتري، إحقاق الحق وإزهاق الباطل‏، الجزء 9، الصفحة 317، الجزء 24، الصفحة 170؛ السيّد مير حامد حسين، عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، الجزء 9، الصفحة 416؛ الشيخ علي الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، الجزء 5، الصفحة 501.))؛ حيث تتمّ عمليّة الاستنطاق من خلال السنّة.

ولكنّ المشكلة تكمن في عدم اعتبار الحديث المذكور.

وقد دعت هذه الإشكاليّة بعضَ الباحثين إلى تفسير كلام الشهيد الصدر على أنّه «لا يزعم أكثر من أنّ المفسّر طالبٌ للمدد من القرآن، ومستعينٌ به على أمرٍ فرض عليه بحكم الصراع؛ فليس المفسّر الموضوعي مستجوباً للقرآن»((الشيخ شكيب علي بن بديرة، التفسير الموضوعي والكلام الحديث.. دراسة على ضوء فكر الشهيد الصدر، مجلّة رسالة الثقلين، العدد 56، الصفحة 102.)).

ولكنّ الذين تعرّضوا لهذه العبارة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يفهموا الحصر بهذا المعنى، بل بما يمثّله الإمام علي (عليه السلام) من مرحلة راقية من معايشة القرآن الكريم واستيعابه، فيكون غيره ـ ممّن رجع في فهم مستغلقات التفسير إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وعاش الرسالة الإسلاميّة بروحه وكيانه ـ مشمولاً بالحديث، خاصّةً إذا رجعنا إلى الحديث المتقدّم: «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض»((نهج البلاغة، الصفحة 192.))، الظاهر في نطقه بنفسه دون إخبارٍ من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

وعلى هذا الأساس، وفي مقام التوفيق بين عبارة «ناطقٌ لا يعيا لسانُه» وبين عبارة «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه» قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:

«العبارات المذكورة تفسّر بعضها البعض الآخر؛ لأنّ القرآن حين يعبّر عن القرآن بالصامت والناطق فمفهوم ذلك أنّ كلّ تعبير ناظر لشي‏ء.

مثلًا يمكن القول: القرآن صامت من حيث الظاهر، لكنّه في الواقع تحدّث بصوت جلي بليغ.

أو أنّه صامت إزاء الأفراد السطحيّين، بينما هو ناطق تجاه العلماء المفكّرين.

أو أنّه ناطق في مواصلة الطرق العمليّة الأصوليّة، أمّا بالنسبة لتطبيقها على مصاديقها استنباط الأحكام الفرعيّة (كقضيّة التحكيم في حادثة معركة صفّين) فيجب على المجتهدين أن ينطقوا عنه»((الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، نفحات الولاية، الجزء 5، الصفحة 296.)).

وخلص في موضع آخر إلى أنّ قوله: «ولن ينطق» ناظرٌ إلى بطون القرآن التي تقف وراء ظواهره، وإلّا فإنّه نزل بلسان عربيٍّ مبين((الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، پيام امام اميرالمؤمنين (عليه السلام) (فارسي)، الجزء 6، الصفحة 191.)).

كما ذكر السيّد محمّد تقي المدرّسي أنّ الإمام (عليه السلام) أراد «من قوله: (ولن ينطق) أنّنا لن نقرأ في ظاهر القرآن كلّ المناهج الحضاريّة للحياة، ولا مضامينه العلميّة، إنّما نجدها بالتفكير و التدبّر في آياته، الذي يفتح لنا كنه الذكر الحكيم و يبصّرنا محتوياته و تأويلاته الواقعيّة في جوانب الحياة المختلفة»((السيّد محمّد تقي المدرّسي، من هدى القرآن، الجزء 14، الصفحة 457.)).

أمّا الشيخ جعفر السبحاني فقال:

«إنّ من تمعّن في القرآن الكريم وتدبّر في معانيه ومفاهيمه يقفُ على سعة آفاق دلالته على مقاصده. غير أنّ ثلّة من الفقهاء مرّوا على القرآن مروراً عابراً… و يدلّ على سعة دلالته أيضاً… (ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق لكم‏)… والسابر في روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يقف على أنّهم كانوا يستنبطون من الآيات نكاتٍ بديعة ومعاني رفيعة عن مستوى الأفهام.

وربّما يتصوّر الساذج أنّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي وفرض على الآية، ولكن بعد الإمعان في الرواية والوقوف على كيفيّة استدلالهم (عليهم السلام) يذعن بأنّ لها دلالة خفيّة على ذلك المعنى الرفيع الشامخ وقد غفل عنه الآخرون»((الشيخ جعفر السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه، الصفحات 25، 26، 28.)).

فكأنّه جعل من يتّبع طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير مشمولاً بالحديث، فيكون بإمكان العالم المتمكّن المستوعب لأبعاد الرسالة الإسلاميّة أن يستنطق القرآن الكريم، الأمر الذي يرفع المشكلة المثارة طرّاً.

وربّما على هذا الأساس ذهب الشيخ جوادي الآملي إلى أنّ الاستنطاق بالأصالة ممكنٌ لأهل البيت، وهو بالتبع لتلامذتهم، وأنّ السيّد الشهيد الصدر كان على مستوى الاعتصام بكتاب الله والرقيّ في هذا المسار الصاعد((السيّد محمّد الحسيني، الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر.. دراسة في سيرته ومنهجه، الصفحة 154.)).

وأخيراً: إذا كان للمفسّر التجزيئي ـ على ضوء ما قدّمناه ـ دورٌ إيجابيٌّ في عمليّة الاستنطاق، فإنّ دور المفسّر الموضوعي سيكون أكثر إيجابيّةً من دور المفسّر التجزيئي؛ لأنّ مهمّة المفسّر الموضوعي في استنطاق القرآن الكريم للحصول على مركّب نظري أصعب من مهمّة المفسّر التجزيئي في استنطاق آيةٍ بهدف تفسير آية أخرى.

 الإشكال الخامس:

«كما إنّ عليّاً (عليه السلام) فيما أخبر به عن القرآن لم يصل إليه بالتفسير الموضوعي ولا أنّ ما فسّره من القرآن ينحصر به؛ فالقرآن إذاً ناطق؛ لأنّه ينطق بعضه بعضاً، وبما أنّه لن ينطق مستنطق((كذا في المتن المطبوع، ولعلّ المراد: «فيُستنطق».))، فالنطق والاستنطاق مرحلتان لفهم القرآن، وهما يجريان في كلا اتجاهي التفسير»((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 240.)).

أمّا النقض بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) لم يصل إلى ما أخبر به عن القرآن بالتفسير الموضوعي فغريب؛ لأنّه لم يصل إليه بالتفسير التجزيئي أيضاً.

وأغرب منه أنّ ما فسّره من القرآن لا ينحصر به.

وأغرب من هذين الإشكالين ـ اللذين يُغفلان مصدر الإمام عليٍّ (عليه السلام) في الإخبار عن القرآن الكريم وغيره ـ خلوصه إلى أنّ القرآن الكريم ناطق، وذلك بعد نقضه في الإشكال السابق بأنّه ليس بناطق.

أمّا أنّ الاستنطاق يجري في كلا التفسيرين، فقد أوضحنا في أجوبة الإشكالات السابقة ما هو مراد الشهيد الصدر (قدّس سرّه).

حقيقة الموضوعيّة الصدريّة ونسبتها إلى الموضوعيّة المشهوريّة:

نلاحظ في أطروحة الشهيد الصدر تكرّر ثلاثة مصطلحات بشكل مستمر: التجزيئي، التوحيدي والموضوعي. وإذا كان قد اتّضح ما هو المراد من مصطلح (التجزيئي)، واتّضح إجمالاً ما هو المراد من مصطلح (الموضوعي)، نعكف في ما يلي على بيان المراد من مصطلحي (التوحيدي) و(الموضوعي) بشكل مفصّل.

ولا بدّ لنا بدايةً من نفي ما نسبه بعض الباحثين إلى الشهيد الصدر من لجوئه إلى مصطلح (التوحيدي التطبيقي)((علي نصيري، مبانى کلامى تفسير موضوعى (فارسي)، مجلّة انديشه نوين دينی، العدد 3، الصفحة 81.))؛ إذ لم يرد هذا المصطلح على لسان الشهيد الصدر على الإطلاق.

الموضوعيّة والتوحيديّة:

من خلال تتبّع إطلاقات الشهيد الصدر، نجد أنّه دأب على استخدام مصطلحَي (الموضوعيّة) و(التوحيديّة) في معنىً واحد؛ فليست التوحيديّة مباينةً للموضوعيّة، إلّا على تفصيلٍ يُحمل عليه كلا المعنيَين معاً.

يقول الشهيد الصدر: «ونطلق.. على الآخر اسم: الاتّجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 20.))، «الاتجاه الثاني نسمّيه: الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير»((المصدر نفسه، الصفحة 23.))، «ولماذا تكون الطريقة الموضوعيّة والاتّجاه التوحيدي عاملاً في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد؟!»((المصدر نفسه، الصفحة 28.))، «وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي»((المصدر نفسه، الصفحة 29.))، الأمر الذي يؤكّد لنا توحيده بين المصطلحين تأكيداً باتّاً.

ونودّ الإشارة هنا إلى فارقٍ اصطلاحي بين التفسير التوحيدي عند الشهيد الصدر وبين هذا المصطلح في كتابات الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي؛ لأنّ منشأ المصطلح مختلف عند الأخير؛ فقد قدّم الشيخ اليزدي ثلاثة اقتراحات حول المناهج المتّبعة في التفسير الموضوعي:

الاقتراح الأوّل: ولعلّه التبويب المألوف لدى الذهن أكثر من غيره، وهو قائم على المضمون الثلاثي للدين: العقائد، الأخلاق والأحكام.

ولكنّ هذا التقسيم يواجه صعوبةً في توزيع المباحث على هذه الأبواب وإدراجها فيها، إضافةً إلى وجود تكلّف في الربط بين هذه الأقسام الثلاثة.

الاقتراح الثاني: التقسيم وفق محور الإنسان ذي الأبعاد المختلفة: الماديّة، المعنويّة، الاجتماعيّة، الدنيويّة والأخرويّة.

ولكنّ الشيخ اليزدي لا يحبّذ هذا التقسيم باعتبار أنّ القرآن الكريم يطرح محوريّة الله تعالى، وليس محوريّة الإنسان كما هو الحال عند أصحاب الاتّجاه الإنساني (Humanism).

الاقتراح الثالث: وهو التقسيم القائم على أساس محوريّة الله تعالى>

وهو ما رجّحه الشيخ اليزدي لأسباب ذكرها((الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن، الجزء 1، الصفحات 13 ـ 16.)).

وعلى هذا الأساس، فإذا تردّد مصطلح التوحيديّة بالنظر إلى التقسيم الذي اختاره الشيخ اليزدي (وإن كان الأدقّ استخدام مصطلح محوريّة الله)، فهو يختلف عن مصطلح التوحيديّة عند الشهيد الصدر؛ فالأوّل مأخوذ من توحيد الله تعالى، والثاني من التوحيد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم.

موضوعيّة بمعنى جديد:

يقدّم الشهيد الصدر في ثنايا أطروحته عدّة تعريفات للمنهج الموضوعي في التفسير، ولا بدّ لنا ـ ونحن بصدد تحديد مراده من الموضوعيّة ـ من سرد نصوصه التي تلقي الضوء على المعنى الجديد الذي طرحه، قبل أن ننتقل إلى تحديد ما إذا كان مراده النهائي مغايراً لما عليه مشهور المفسّرين تفسيراً موضوعيّاً أم مرادفاً أم مكمّلاً له؟!

يقول الشهيد الصدر (قدّس سرّه):

أ ـ «هذا الاتّجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة، فيبيّن ويبحث ويدرس مثلاً عقيدة التوحيد في القرآن، أو يبحث عن النبوّة في القرآن، أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن، أو عن سنن التاريخ في القرآن، أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم، وهكذا»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 23.)).

ب ـ «وإنّما الدراسة الموضوعيّة هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة وتتّجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده»((المصدر نفسه، الصفحة 27.)).

ج ـ «وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي؛ فإنّه لا يبدأ عمله من النّص، بل من واقع الحياة، يركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثمّ يأخذ النصّ القرآني، لا ليتّخذ من نفسه بالنسبة إلى النّص دور المستمع والمسجّل فحسب، بل ليطرح بين يدي النّص موضوعاً جاهزاً مشرّباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشريّة، ويبدأ مع النّص القرآني حواراً، سؤالاً وجواباً، المفسّر يسأل والقرآن يجيب، المفسّر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشريّة الناقصة، من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكّرون على الأرض، لا بدّ وأن يكون قد جمع حصيلةً ترتبط بذلك الموضوع، ثمّ ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبّراً، فيبدأ مع النّص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظريّة التي بإمكانه أن يستلهمها من النّص، من خلال مقارنة هذا النّص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتّجاهات…

ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيّار التجربة البشريّة؛ لأنّها تمثّل المعالم والاتّجاهات القرآنية لتحديد النظريّة الإسلاميّة بشأن موضوع من مواضيع الحياة»((المصدر نفسه، الصفحة 29.)).

د ـ «وظيفة التفسير الموضوعي دائماً وفي كلّ مرحلة وفي كلّ عصر أن يحمل كلّ تراث البشريّة الذي عاشه، يحمل أفكار عصره، يحمل المقولات التي تعلّمها في تجربته البشريّة ثمّ يضعها بين يدي القرآن، بين يدي الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ; ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسّر أن يفهمه، أن يستشفّه، أن يتبيّنه من خلال مجموعة آياته الشريفة.

إذاً، فهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة. التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشريّة، بل هذه العمليّة عمليّة تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن القيّم بوصفه المصدر الذي يحدَّد على ضوئه الاتّجاهات الربانيّة بالنسبة إلى ذلك الواقع»((المصدر نفسه، الصفحة 30 ـ 31.)).

هـ ـ «التفسير الموضوعي ـ كما شرحنا بالأمس ـ يبدأ بالواقع، بالواقع الخارجي، بحصيلة التجربة البشرية، يتزوّد بكلّ ما وصلت إلى يده من حصيلة هذه التجربة ومن أفكارها ومن مضامينها، ثم يعود إلى القرآن الكريم ليحكّم القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 33.)).

و ـ «الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود إلى القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

فالذي قد يظهر للبعض من هذه النصوص أنّ الموضوع المأخوذ في التفسير الموضوعي هو بمعنى الواقع الخارجي، وهو عبارة عن مسرح الحياة العقائديّة والاجتماعيّة والكونيّة؛ فيكون ـ مبدئيّاً ـ مغايراً للمعنى المطروح في كلمات من تناول التفسير الموضوعي بالبحث والدراسة، وهو ـ كما رأينا في الفصلين الأوّل والثاني ـ عبارة عن المسألة المطروحة في رحاب القرآن الكريم.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنّ الشهيد الصدر هو أوّل من استخدم مصطلح الموضوعيّة بهذا المعنى، ناقلاً بذلك التفسير الموضوعي إلى مستوى أكثر عمقاً((علي اصغر هادوي نيا، شهيد صدر وروش تفسير موضوعى ـ علمى قرآن كريم با رويكرد اقتصاد اسلامى (فارسي)، ضمن مقالات المؤتمر الدولي لأفكار الشهيد الصدر الاقتصاديّة،، الصفحة 411، وانظر: السيّد هدايت جليلي، تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها (فارسي)، الصفحة 84.))، وإن اعترض السيّد محمّد باقر الحكيم على فكرة أنّ التفسير الموضوعي أعمق من التجزيئي باعتبار أنّ من الممكن أن يتّصف كلا الاتّجاهين بالعمق((تفسير سورة الحمد، الصفحة 97 ـ 98، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحة 44.)).

وقد اعتبر الشيخ الدكتور عبد الجبّار الرفاعي ما قدّمه الشهيد الصدر في هذه الأطروحة في ما يتعلّق بالتوحيد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم أمراً «لم نعثر عليه في جلّ المحاولات التي جاءت بعد مشروع الشهيد الصدر أو سبقته بقليل وأسمت نفسها تفسيراً موضوعيّاً؛ لأنّها لم تتعرّف على مقوّمات هذا النوع من التفسير، فانزلقت تجاربها إلى نتائج لا تتطابق مع ما ترمي له نظريّة التفسير الموضوعي»((الشيخ عبد الجبّار الرفاعي، المدلول الاجتماعي لأصول الدين عند الشهيد الصدر، الصفحة61.)).

وربّما لهذا السبب اعتبر الدكتور شبلي الملّاط محاضرات الشهيد الصدر استثنائيّةً في ثروتها الفكريّة والتحليليّة، حيث تضمّنت مزجاّ فعّالاً بين الملاحظات التاريخيّة والسياسيّة والمنهجيّة على نصّ القرآن وأهميّته البارزة((الدكتور شبلي الملّاط، تجديد الفقه الإسلامي.. محمّد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، الصفحة 21.)).

كما اعتبر السيّد محمّد علي الأيّازي هذا العنصر من أبرز عناصر رؤية الشهيد الصدر في التفسير الموضوعي(( السيّد محمّد علي الأيازي، تفسير موضوعى از نگاه شهيد صدر (فارسي)، مجلّة پيام جاويدان، العدد 12، الصفحة 44.)).

وذهب الدكتور حبيب فيّاض إلى أنّ منهج الشهيد الصدر الموضوعي الطولي من النادر أن يغيب عن المباحث الكلاميّة عنده، حتّى يُمكن القول: إنّ هذا المنهج من القبليّات الكامنة في ذهنه(( الدكتور حبيب فيّاض، التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر، الصفحة 173.)).

ولكنّ السيّد محمّد باقر الحكيم خالف أستاذه في اعتبار النظر إلى الواقع من خصائص التفسير الموضوعي؛ باعتبار ظهور هذه السمة في محاولات التفسير التجزيئي على مرّ العصور((تفسير سورة الحمد، الصفحة 99 ـ 100، موسوعة الحوزة العلميّة والمرجعيّة.. الشهيد الصدر، الصفحة 132، الإمام الشهيد الصدر، الصفحة 139، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحة 39.)).

وإذا قدّر أن سلّمنا بأصل هذا الإشكال، يبقى الفارق بين حجم تناول التفسيرين للواقع وأخذه بعين الاعتبار كبيراً جدّاً، وهو ما يبرّر تصنيف هذه الميزة ضمن ميّزات المنهج الموضوعي.

 الموضوعيّة بمعنيين تستتبع توحيديّة بمعنيين:

وإذا كان الشهيد الصدر قد رادف بين الموضوعيّة والتوحيديّة كما أشرنا سابقاً، فإنّ من الطبيعي أن يكون للتوحيديّة معنيان يقابل كلٌّ منهما معنى من معنَيَي الموضوعيّة اللذين أوضحناهما مؤخّراً:

أ ـ فبلحاظ ما يقابل الطابع الاستماعي للتفسير التجزيئي، يكون التفسير الموضوعي التوحيدي:

موضوعيّاً؛ باعتبار أنّه ينطلق من الواقع أو الموضوع الخارجي إلى القرآن الكريم ليحاوره ويجد عنده الحلّ.

وتوحيديّاً؛ باعتبار أنّه يوحّد بين الواقع وبين التجربة القرآنيّة.

وهذا هو معنى مصطلح (التوحيديّة) الوارد في كلام الدكتور الرضائي الإصفهاني حين اعتبر أنّ التفسير التوحيدي هو الذي يوحّد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم((الدكتور محمّد علي الرضائي الإصفهاني، منطق تفسير قرآن (2)، روشها وگرايشهاى تفسيرى قرآن (فارسي)، الصفحة 381.)).

ب ـ وبلحاظ ما يقابل اكتفاء التفسير التجزيئي بإبراز المدلولات التفصيليّة للآيات، يكون التفسير الموضوعي التوحيدي:

موضوعيّاً؛ باعتبار أنّه يجمع بين الآيات التي ترجع إلى موضوع واحد ليخرج منها بمركّب نظري.

وتوحيديّاً؛ باعتبار أنّه يوحّد بين مختلف الآيات الواردة حول مسألة معيّنة ليخرج بالنظريّة أو المركّب النظري.

وهذا هو معنى مصطلح (التوحيديّة) الوارد في كلام الدكتور الخالدي حين اعتبر أنّ التفسير الموضوعي سمّي بالتوحيدي؛ لأنّ «المفسّر يوحّد الآيات المختلفة التي تتحدّث عن موضوع واحد، ويجمع بينها، ويستخرج حقائقها وإيحاءاتها المختلفة بعد هذه النظرة النظرة التجميعيّة التوحيديّة»((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 41.)).

وربّما دمج الدكتور أحمد رحماني بين هذين المعنيين في تصنيفه الشهيد الصدر ضمن من «ركّز في تعريفه لهذا التفسير على المنهج التجميعي الذي يستهدف دراسة الموضوعات المختلفة من عقديّة واجتماعيّة وكونيّة من خلال القرآن»((مصادر التفسير الموضوعي، الصفحة 24.)).

 هل رفض الصدر الموضوعيّة المشهوريّة؟

تناول الشهيد الصدر ـ وهو بصدد الحديث عن أوجه الفرق بين التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي ـ فارقين أساسيّين، ونركّز على كونهما اثنين:

الأمر الأوّل: الطابع الاستماعي للتفسير التجزيئي في مقابل الطابع الحواري للتفسير الموضوعي. وقد تعرّضنا لهذه الخصّيصّة بشكل أوسع تحت عنوان: ارتكاز التفسير الموضوعي على آليّة الحوار والاستنطاق.

الأمر الثاني: اكتفاء التفسير التجزيئي بإبراز المدلولات التفصيليّة للآيات، بينما يسير التفسير الموضوعي نحو إعطاء مركّب نظري يحتضن هذه المدلولات التفصيليّة، وقد تعرّضنا لهذه الخصّيصّة بشكل أوسع تحت عنوان: التفسير الموضوعي يستهدف الخروج بنظريّة (مركّب نظري).

وإذا دقّقنا في نصّ الشهيد الصدر وتتبّعنا روابط كلامه فسنجد أنّه يطرح معنيين للموضوعيّة، يترشّح أحدهما عن الأمر الأوّل المتقدّم، وهو عامل الاستماع والحوار، والآخر عن الأمر الثاني وهو الخروج بمركّب نظري:

الموضوعيّة بالمعنى الأوّل:

«كون التفسير موضوعيّاً على ضوء الأمر الأوّل، بمعنى أنّه يبدأ من الموضوع، من الواقع الخارجي، من الشيء الخارجي، ويعود إلى القرآن الكريم. فنعبّر عن التفسير بأنّه موضوعيٌّ على ضوء الأمر الأوّل باعتبار أنّه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم، وتوحيديٌّ باعتبار أنّه يوحّد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 35.)).

الموضوعيّة بالمعنى الثاني:

«على أساس الأمر الثاني أيضاً: كون التفسير موضوعيّاً باعتبار أنّه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد. وهو توحيدي باعتبار أنّه يوحّد بين هذه الآيات، يوحّد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركّب نظري واحد»((المصدر نفسه، الصفحتان 35 ـ 36.)).

وعلى هذا الأساس يلخصّ الشهيد الصدر رؤيته حول الموضوعيّة فيقول:

«الموضوعية هنا بمعنى: أن يبدأ من الموضوع وينتهي إلى القرآن، هذا الأمر الأوّل. الأمر الثاني: أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعمليّة توحيد بين مدلولاتها، من أجل أن يستخرج نظريّة قرآنيّة شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع»((المصدر نفسه، الصفحة 36.)).

وعلى هذا الأساس نجد أنّ المعنى الأوّل الذي يطرحه للموضوعيّة هو ما أوضحناه مؤخّراً على ضوء كلماته تحت عنوان: (معنى جديد للموضوعيّة)، بينما يلتئم المعنى الثاني مع المعنى المشهوري بمعنى المسألة المطروحة في رحاب القرآن الكريم.

وقد اعتبر بعض الباحثين أنّ الشهيد الصدر كان أوّل من سبق إلى هذا التقسيم الثنائي وأنّ من أتى بعده تبعه في ذلك((علي نصيري، مبانى کلامى تفسير موضوعى (فارسي)، مجلّة انديشه نوين دينی، العدد 3، الصفحة 79.)).

وهذا هو في الحقيقة ما يفترض أن يخلص إليه الباحث عند مطالعة أطروحة الشهيد الصدر، وهو ما يظهر من: السيّد محمّد باقر الحكيم((السيّد محمّد باقر الحكيم، علوم القرآن، الصفحتان 345 ـ 346، موسوعة الحوزة العلميّة والمرجعيّة.. الشهيد الصدر، الصفحتان 131، 133، الإمام الشهيد الصدر، الصفحتان 138، 140، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحة 33.))، السيّد كمال الحيدري((السيّد كمال الحيدري، اللباب في تفسر الكتاب، الجزء 1، الصفحة 47.))، السيّد محمّد الحسيني((السيّد محمّد الحسيني، محمّد باقر الصدر.. حياة حافلة.. فكرٌ خلّاق، الصفحة 591.))، الدكتور صائب عبد الحميد((الدكتور صائب عبد الحميد، الشهيد محمّد باقر الصدر.. من فقه الأحكام إلى فقه النظريّات، الصفحة 149.))، الأستاذ جواد علي كسّار((الأستاذ جواد علي كسّار، التفسير الموضوعي.. مقارنات بين السيّد الصدر وآخرين، مجلّة الفكر الإسلامي، العدد 24 و25، الصفحتان 74 ـ 75؛ التفسير الموضوعي.. مقارنات بين السيّد الصدر وآخرين، الصفحة 107.)) والباحثين الأستاذ رياض الأخرس والدكتور قاضي زادة((أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زاده، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحة 265)).

وختاماً: وجدنا أنّ من المنبّهات على تبنّي الشهيد الصدر الموضوعيّة المشهوريّة وعدم رفضه لها تمثيله للاتجاه الموضوعي بالتجربة الفقهيّة على ما سنوضحه في تتمّة هذه الدراسة، مع أنّنا سنلاحظ أنّ التجربة الفقهيّة نفسها تعتبر تجسيداً فقهيّاً للمعنى المشهوري ولم تطبِّق المعنى الصدري المطروح هنا، بل تعرّضت مراراً لإشكال الشهيد الصدر بعدم أخذها الواقع بعين الاعتبار وعدم تشبّعها بالتجربة البشريّة، وهو ما سنقف عنده بشكل مناسب قريباً تحت عنوان: (استنفاد طاقة الاتجاه القرآني الموضوعي استهداءً بالتجربة الفقهيّة)، فنترك توضيح الحال إلى هناك.

الواقع الموضوعي بين منشأٍ للبحث ومنطَلَقٍ للباحث؟

لم نجد أحداً ممّن كتب في التفسير الموضوعي دون النظر إلى محاولة الشهيد الصدر استحضر عامل الواقع الخارجي والتجربة البشريّة بالنحو الذي ذكره الصدر.

وقد يعتقد البعض أنّ الكثيرين استحضروا أهميّة الواقع في عمليّة التفسير الموضوعي، وبالتالي تقاطعت رؤاهم مع رؤى الشهيد الصدر وأطروحته.

ومن باب المثال، فقد ذكر الدكتور صلاح الخالدي وهو بصدد التمييز بين التفسير الموضوعي لمصطلح القرآني وبين المعنى المشهور المنشود أنّ بحثَ الباحث في التفسير الموضوعي «أعمّ وأشمل من الأوّل، وميدانه في البحث أوسع، ووقفاته الفكريّة معه أكثر، ومعالجته الواقعيّة لحاجات ومشكلات أمّته من خلاله أوضح؛ إنّه ينظر في الآيات التي عرضته والآيات

الأخرى التي عرضت ألفاظاً أخرى قريبةً منه، والآيات التي عرضت موضوعاتٍ تتّصل به أو تساعد على توضيحه، ويتوسّع في هذه الجوانب على حساب التحقيقات اللغويّة والبيانيّة واللطائف البلاغيّة والأسلوبيّة»((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحتان 54 ـ 55.)).

وقد أشار الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم أثناء قراءته لتجربة الشهيد الصدر إلى نكتة أراد من خلالها التدليل على أنّ معنى الموضوعيّة الذي طرحه الأخير معنى قديم، بل قام عليه تنزيل الكتاب، معتبراً أنّ الصدر لم يتفطّن لهذه النكتة، بل لم يجد من تنبّه إليها.

فقد ذكر في مقام توضيح هذه النكتة أنّ ربّ العزّة جلّ جلاله إنّما اختار تنزيل القرآن على قلبه (صلّى الله عليه وآله) منجّماً «ليبثّ روح الحياة وأسرار القدرة وجلال العلم الإلهي… وشهود هيبته وعزّته في كلّ قضيّة من القضايا التي تثار، وفي كلّ مسألة من المسائل التي تطرح، ومع كلّ حدث من الأحداث وموقف من المواقف، وعند كلّ مواجهة من المواجهات… وماذا تعني الموضوعيّة أكثر من أن يكون هناك موضوع أو قضيّة قيد الجدل والنزاع، ثمّ تأتي الآيات القرآنيّة لتأخذ زمام المبادرة في تقرير الأحكام، وإحقاق الحقّ ونسخ صور الوهم والباطل من الأذهان»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 54.)).

ونحن في الوقت الذي لا ننكر فيه على الدكتور عبد الرحيم لطافة هذه النكتة الجديرة بالملاحظة، إلّا أنّ ما طرحه الشهيد الصدر يرتبط بعمل المفسّر الموضوعي من حيث كونه إنساناً، ولا يُمكن قياسه على تنزيل ربّ القرآن الكريم؛ فالمفسّر الموضوعي عند الصدر يوحّد بين الواقع وبين التجربة البشريّة ويستنطق القرآن الكريم ليستكشف موقفه من الموضوع محلّ البحث كما اتّضح لحدّ الآن، بينما يرتكز ما ذكره الدكتور على أنّ القرآن الكريم كان يبدي موقفه ممّا يجري في الواقع، فإذا تقاطع المعنيان فإنّهما لا يترادفان.

ولذا، فعندما نتحدّث عن جدة المعنى الذي طرحه الشهيد الصدر وروّج له، فإنّنا نعي أنّه لا معنى للتشبّع من التجارب البشريّة في عصر نزول الوحي؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يمارس عمليّة تفسير بشريّة على حدّ ما نمارسه نحن، إضافةً إلى أمور أخرى لا يسع المقام لذكرها.

وربّما لأجل ما ذكرناه اعتبر الدكتور في موضع آخر أنّ الإضافة الحقيقيّة التي يقترب بها المنهج الموضوعي من تحقيق الأهداف المرجوّة هي إضافة الشهيد الصدر القائمةُ على الانطلاق من الواقع ومحاورة المفسّر للنصّ القرآني، حيث «سبق غيره في لفت الأنظار نحو هذا الموضوع»(( المصدر نفسه، الصفحة61، علماً بأنّ الدكتور عبد الرحيم لم ينصّ على كون الإضافة هي عمليّة المحاورة، بل ارتكز إلى نصّ الشهيد الصدر برمّته (المدرسة القرآنيّة، الصفحة 29)، وحيث أمكن اختصار نصّ الشهيد الصدر المنقول بهذين الأمرين، ذكرنا ما في المتن.)).

وهنا نثير مسألة في غاية الأهميّة لم تلقَ الاهتمام الكافي:

هل قصد الشهيد الصدر من أطروحته أنّ المفسّر يتناول موضوعاً يثيره واقع الحياة الخارجيّة والمعاصرة، فيوحّد بينه وبين القرآن الكريم ليكتشف موقف الأخير منه؟! فيكون قد عنى بأطروحته أنّ الواقع الخارجي هو منشأ البحث؟!

هذا ما فهمه جماعة من الباحثين، وهو ما يظهر من طبيعة النكتة التي أثارها الدكتور عبد الرحيم آنفاً. ولهذا صنّف الشيخ محمّد هادي معرفت نظريّة الشهيد الصدر ضمن التجارب التي رجّحت الاتّجاه الذي يدرس المسائل والموضوعات المعروضة على القرآن، لا المطروحة في القرآن((الشيخ محمّد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون، الجزء 2، الصفحة 521 (ضمن الطبعة الجديدة من: التمهيد في علوم القرآن).))، وكذلك فعل آخرون((السيّد إبراهيم سجّادي، شكوفايى تفسير موضوعى در بستر قرن اخير (فارسي)، مجلّة پژوهش هاى قرآنى، العدد 7، الصفحة 143.)).

وبالتالي فقد فهم هؤلاء الباحثون أنّ الفارق بين المعنى المشهوري للتفسير الموضوعي وبين المعنى الصدري يكمن في منشأ الموضوع محلّ البحث؛ فينما اتّفق المشهور على أنّه يجب اختيار الموضوع المطروح للبحث من بين دفّتي الكتاب، اعتبر الشهيد الصدر أنّه يجب اختياره من واقع الحياة المعاصرة، لتتجلّى قيمومة الكتاب وديمومته.

بدايةً، قد نبرّر لهذا الفريق تبنّيه هذا الفارق ضمن الدائرة التي طُرح ضمنها؛ باعتبار أنّ بعض نصوص الشهيد الصدر قد توحي بذلك، فقد ذكر الأخير وهو بصدد المقارنة بين المجالين القرآني والفقهي على صعيد الاتجاه الموضوعي:

«غير أنّ القسم الأعظم من الكتب الفقهيّة والدراسات العلميّة في هذا المجال لم تتّجه هذا الاتّجاه، بل صنّفت البحث إلى مسائل وفقاً لوقائع الحياة، وجعلت في إطار كلّ مسألة الأحاديث التي تتّصل بها، وفسّرتها بالقدر الذي يلقي ضوءاً على تلك المسألة ويؤدّي إلى تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة. وهذا هو الاتّجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي، بينما ذاك هو الاتّجاه التجزيئي في تفسير الأحاديث على هذا الصعيد.

كتاب (الجواهر) في الحقيقة شرحٌ لروايات الكتب الأربعة، شرح كامل شامل لروايات الكتب الأربعة، ولكنّه ليس شرحاً يبدأ بالكتب الأربعة رواية رواية، وإنّما يصنّف روايات الكتب الأربعة وفقاً للحياة، وفقاً لمواضيع الحياة: كتاب البيع، كتاب الجعالة، كتاب إحياء الموات، كتاب النكاح، ثمّ يجمع تحت كلّ عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتّصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها، يخرج بنظرية…»(( المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 25 ـ 26.)).

ويقول في موردٍ آخر:

«…أنّ الاتّجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن أن يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلى النظرية، ينتهي إلى الشريعة. هذا كان ديدن العلماء، ديدن الفقهاء: يبدؤون بالواقع، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم على شكل جعالة، مضاربة، مزارعة، مساقاة، رهن، نكاح، كانت هذه الحوادث وهذه الوقائع تنعكس عليهم ثم يأخذون هذا الواقع ويأتون إلى مصادر الشريعة لكي يستنبطوا الحكم من مصادر الشريعة. هذا اتجاه موضوعي; لأنّه يبدأ بالواقع وينتهي إلى الشريعة في مقام التعرّف على حكم هذا الواقع»((المصدر نفسه، الصفحة 37.)).

فمن الواضح من خلال هذين النصّين النصّ ـ وبمقتضى المقابلة ـ أنّ الشهيد الصدر عنى أنّ معترك الحياة هو الذي يثير الموضوع الذي يتناوله المفسّر الموضوعي بالبحث والتحليل، فيكون الواقع هو منشأ البحث، لا القرآن الكريم.

وإذا كان هذا هو مراد الشهيد الصدر فعلاً، وانطلقنا محمّلين بهذا الانطباع نحو نصوصه التالية:

«التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن»((المصدر نفسه، الصفحة 30.)).

«فهنا الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود إلى القرآن الكريم، بينما التفسير التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن»((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

 «كون التفسير موضوعيّاً على ضوء الأمر الأوّل بمعنى أنّه يبدأ من الموضوع، من الواقع الخارجي، من الشيء الخارجي، ويعود إلى القرآن الكريم، فنعبّر عن التفسير بأ نّه موضوعيٌّ على ضوء الأمر الأوّل باعتبار أنّه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 35.))

فعندها سنخرج بنتيجة مفادها أنّه يميّز بين ما هو مطروح في القرآن الكريم أساساً وبين ما تثيره وقائع الحياة الخارجيّة، وأنّ المفسّر الموضوعي عندما يريد أن يحدّد موضوع بحثه، فعليه أن يختاره من واقع الحياة الخارجيّة، ولهذا قال في نصّه الأخير: «يبدأ من الموضوع، من الواقع الخارجي، من الشيء الخارجي..».

ومن وجهة النظر هذه يُعتبر الواقع عند الشهيد الصدر منشأً للموضوع؛ لأنّه هو الذي يثير الموضوع محلّ البحث ويدفع المفسّر الموضوعي إلى بحثه ودراسته.

لكنْ، إذا كانت المقابلة المتقدّمة بين الدرس الفقهي والدرس القرآني ستدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ دور الواقع في أطروحة التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر هو أنّه منشأ الموضوع الذي يتناوله المفسّر بالبحث، فإنّنا نلاحظ من ناحية أخرى أنّ القرآن الكريم يشكّل جزءاً من الواقع، وبالتالي فما يثيره يعتبر من موضوعات الحياة التي على المفسّر الموضوعي أن يدرسها.

وعلى هذا الأساس فإنّنا نعتبر أنّ ما ذكره الشهيد الصدر في النصّين المتقدّمين وهو بصدد التمثيل بالعمليّة الفقهيّة يعبّر عن البُعد الأفقي لأطروحته فحسب، ولا يعبّر عن بعدها العمودي.

فقد تحدّث الشهيد الصدر عن بُعدين للبحث الموضوعي الفقهي، وعن اتّجاهين يجب أن يتوسّع باتجاههما:

التوسّع الأوّل: التوسّع الأفقي:

حيث لا بدّ للفقه من أن يمتدّ «أفقيّاً على هذه الساحة أكثر; لأنّ العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتّجاه الموضوعي عبر قرون متعدّدة كانوا حريصين على أن يأخذوا هذه الوقائع ويحوّلوها دائماً إلى الشريعة لكي يستنبطوا أحكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع، ولكنّ وقائع الحياة تتجدّد، تتكاثر باستمرار، تتولّد ميادين جديدة من وقائع الحياة، لابدّ لهذه العمليّة باستمرار من أن تنمو، من أن تحوّل كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة، من أن تبدأ من الواقع.

لكنّ ذاك الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو الذي كان يعيشه المحقق الحلّي، ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصر الشيخ الطوسي، كان يفي بحاجات عصر المحقق الحلّي، لكن كم من باب وباب من أبواب الحياة فتحت بالتدريج، لا بدّ من عرض هذه الأبواب على الشريعة، إذا أردنا أن يستمرّ الاتّجاه الموضوعي في البحث الفقهي لا بدّ وأن نمدّده أفقيّاً على مستوى ما استجدّ من أبواب الحياة.

كم من باب ومن أبواب الحياة استجدّ لم يكن معروفاً سابقاً، التجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة كانت تمثّل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمئة سنة، ولكنّ اليوم السوق، المعاملات، العلاقات الاقتصاديّة أوسع من هذا النطاق، أكثر تشابكاً من هذا النطاق؟

إذاً، لا بدّ للفقه من أن يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على أن يعكسوا كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة، لا بدّ أيضاً من أنّ هذه العملية تسير أفقيّاً كما سارت أفقيّاً في البداية»((المصدر نفسه، الصفحتان 37 ـ 38.)).

التوسّع الثاني: التوسّع العمودي:

«من الناحية العموديّة أيضاً لا بدّ من أن يتوغّل هذا الاتّجاه الموضوعي في الفقه، لابدّ وأن يتوغّل، لابدّ وأن ينفذ عموديّاً، لابدّ وأن يصل إلى النظريّات الأساسيّة، لابدّ وأن لا يكتفي بالبناءات العلويّة، بالتشريعات التفصيليّة، لا بدّ وأن ينفذ من خلال هذه التشريعات التفصيلية، من خلال هذه البناءات العلويّة إلى النظريّات الأساسيّة التي تمثّل وجهة نظر الإسلام; لأنّنا نعلم أنّ كلّ مجموعة من التشريعات في كلّ باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريّات أساسيّة، ترتبط بتصوّرات رئيسيّة، أحكام الإسلام، تشريعات الإسلام في مجال الحياة الاقتصاديّة ترتبط بنظريّة الإسلام، بالمذهب الاقتصادي في الإسلام. أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظريّاته الأساسيّة عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل.

هذه النظريّات الأساسيّة التي تشكّل القواعد النظريّة لهذه الأبنية العلويّة لابدّ أيضاً من التوغّل إليها، لا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه، بوصفه ترفاً، بوصفه نوع تفنّن، بوصفه نوع أدب، ليس كذلك، بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه، لا بدّ من النفاذ، لابدّ من التوغّل عموديّاً أيضاً إلى تلك النظريّات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشريّة»((المصدر نفسه، الصفحة 38.)).

الانطلاق من الواقع في أطروحة التفسير الموضوعي أفقي وعمودي:

وإذا كانت المقابلة بين الدرس الفقهي وبين الدرس القرآني في البُعد الأفقي تدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ الشهيد الصدر يعني من الانطلاق من الواقع أنّ الواقع الخارجي المتجدّد هو الذي يثير موضوع البحث في ذهن المفسّر الموضوعي، فإنّ المقابلة بينهما في البُعد العمودي يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّه يقصد من الانطلاق من الواقع أنْ يحمل المفسّر الموضوعي تراث البشريّة ويتشبّع بالحصيلة المعرفيّة التي توصّلت إليها، ثمّ ينطلق نحو النصّ القرآني محاولاً استنطاقه من وحي تلك الحصيلة المعرفيّة، وهو ما عبّر عنه في عدّة موارد بـ«التجربة البشريّة»((المصدر نفسه، الصفحات 29، 30، 33، 35، 39.))، أو «تجارب الفكر الإنساني»((المصدر نفسه، الصفحة 29.)).

وعلى هذا الأساس نحن نعتقد أنّ الواقع في أطروحة التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر يعبّر في آن عن منشأ البحث وعن منطَلَق الباحث.

لكن هل الموضوعات المطروحة في القرآن الكريم خارجة عن دائرة التفسير الموضوعي الصدري كما فهم بعضهم من أطروحة الشهيد الصدر كما أشرنا سابقاً؟!

لا يسعنا في هذا المجال سوى الإجابة بالنفي؛ فقد نصّ الشهيد الصدر في مواضع ثلاثة على أنّ بإمكان الباحث أن يختار موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة((المصدر نفسه، الصفحة 23، 27، 29.))، والموضوعات القرآنيّة تمثّل جزءاً من هذا الواقع، وليس القرآن الكريم منفصلاً عن الواقع لكي نصنّف الموضوعات إلى قرآنيّة وواقعيّة، وكلّ ما طرحه القرآن الكريم اندكّ في الحياة وأصبح جزءاً منها في أبعداها العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة. وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ هذه القيود الثلاثة تكاد تشمل كلّ الموضوعات المحتملة.

ولهذا فللقرآن الكريم حيثيّتان:

الحيثيّة الأولى: كونه جزءاً من الواقع والحياة المتجدّدة، فيدخل في البُعد الأفقي للاتجاه الموضوعي، ويكون مشمولاً لحديث الشهيد الصدر عن الانطلاق من الواقع، فيشكّل مبدأً من مبادئ البحث الموضوعي بهذا اللحاظ.

الحيثيّة الثانية: كونه مرجعاً معرفيّاً يتكفّل تحديد موقف الرسالة الإسلاميّة تجاه الموضوع المُثار، فيمثّل بلحاظ البعد العمودي منتهى البحث الموضوعي.

وممّا يعزّز ما ذكرناه حول دخول القرآن الكريم ضمن دائرة موضوعات المفسّر الموضوعي ما ذكره الشهيد الصدر من أنّ المفسّر الموضوعي «..يبحث ويدرس مثلاً عقيدة التوحيد في القرآن، أو يبحث عن النبوّة في القرآن، أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن، أو عن سنن التاريخ في القرآن، أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم، وهكذا»((المصدر نفسه، الصفحة 23.)).

ومن الواضح أنّنا إذا قبلنا بالتصنيف الثنائي (قرآني ـ واقعي) وأردنا تصنيف موضوعَي التوحيد والنبوّة لصنّفناهما ضمن الموضوعات القرآنيّة.

وعلى هذا الأساس، حتّى لو اختار المفسّر الموضوعي موضوع (الجنّ) ـ الذي نفترض مبدئيّاً أنّه لا يعالج قضيّة من قضايا الأمّة الإسلاميّة ـ فإنّه يدخل عند الشهيد الصدر في مَدَيات التفسير الموضوعي، ويتوجّب على المفسّر الموضوعي أن يقف على ما قدّمته البشريّة في موقفها من هذه القضيّة، ثمّ يحمل التجارب البشريّة ويوحّد بينها وبين القرآن الكريم ليستخرج ـ في إطار هذه التجارب ـ الموقف القرآني من الموضوع المطروح.

وسنتماشى الآن مع من يؤمن بثنائيّة القرآني ـ الواقعي ونعيد قراءة نصوص الشهيد الصدر، لنرى أنّها لا تأبى عن حمل (الانطلاق من الواقع) على انطلاق المفسّر الموضوعي في معالجة أيّ موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة وهو مشبع بحصيلة التجربة البشريّة وتجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع:

«وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي فإنّه لا يبدأ عمله من النّص، بل من واقع الحياة»((المصدر نفسه، الصفحة 29.)).

«التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أ نّه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية»((المصدر نفسه، الصفحة 30.)).

«التفسير الموضوعي ـ كما شرحنا بالأمس ـ يبدأ بالواقع، بالواقع الخارجي، بحصيلة التجربة البشرية، يتزوّد بكلّ ما وصلت إلى يده من حصيلة هذه التجربة ومن أفكارها ومن مضامينها، ثم يعود إلى القرآن الكريم ليحكّم القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 33.)).

«فهنا الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود إلى القرآن الكريم، بينما التفسير التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن، ليس فيه حركة من الواقع إلى القرآن ومن القرآن إلى الواقع»((المصدر نفسه، الصفحة 34.)).

«كون التفسير موضوعياً على ضوء الأمر الأوّل، بمعنى أ نّه يبدأ من الموضوع، من الواقع الخارجي، من الشيء الخارجي، ويعود إلى القرآن الكريم، فنعبّر عن التفسير بأ نّه موضوعيٌّ على ضوء الأمر الأوّل باعتبار أ نّه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحة 35.)).

«الاتّجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن أن يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلى النظرية، ينتهي إلى الشريعة»((المصدر نفسه، الصفحة 37.)).

ثلاثة أدوار للواقع في التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر:

إذا ضممنا ما انتهينا إليه عند تحليل أطروحة الشهيد الصدر إلى نكتة سنضيفها نحن، فسنجد أنّ للواقع ثلاثة أدوار رئيسة تدخل في بنية التفسير الموضوعي:

الدور الأوّل: دور موضوعي أفقي:

ونقصد بالموضوع هنا: المسألة المختارة للبحث؛ حيث تبيّن أنّ من شأن الواقع المتجدّد تكثير عدد الموضوعات التي يُمكن أن يقع عليها اختيارُ الباحث؛ باعتبار أنّ حركيّة الواقع الخارجي وارتفاع مخزون المعارف والتجارب البشريّة يزيدان من عدد الموضوعات التي تُثار أمام المفسّر الموضوعي للبحث.

وقد نفينا آنفاً أن تكون موضوعات القرآن الكريم الداخليّة ـ إذا صحّ التقسيم أساساً ـ خارجة عن دائرة اهتمام المفسّر الموضوعي في أطروحة الشهيد الصدر أو عن مَدَيات التعريف الذي قدّمه.

الدور الثاني: دور استنطاقي أفقي:

ونقصد بذلك أنّ المفسّر الموضوعي إذا تشبّع من التجربة البشريّة ومن حصيلة الفكر الإنساني المقدّم في مجالٍ من المجالات فإنّ ميدان عمله وممارسته سيكون أوسع وأرحب؛ لأنّ استنطاقه لآيات القرآن الكريم بعقليّة المتشبّع بالمعارف البشريّة سيفتح له الباب أمام رؤية خيوط تربط الآيات بالموضوع محلّ البحث بعد أن كانت معالمُها خافيةً عليه.

وبهذا تتّخذ عمليّة الاستنطاق بُعداً أفقيّاً من حيث عدد الآيات القرآنيّة الداخلة ضمن دائرة البحث بعد كانت محدودة نسبيّاً.

ومن باب المثال: لو افترضنا أنّ خبيراً عسكريّاً أراد دراسة موضوع من الموضوعات العسكريّة دراسة موضوعيّة قرآنيّة، فإنّ تشبّعه من التجارب البشريّة المقدّمة في هذا الإطار سيتيح له توسعة مظلّته البحثيّة لتستوعب آياتٍ لم تكن بالحسبان، وستؤمّن له نظّارته العسكريّة رؤية شبكة العلاقات والروابط التي تربط بين الآيات وبين الموضوع محلّ البحث بنحوٍ لا يتيسّر لغيره.

الدور الثالث: دور استنطاقي عمودي:

وهذا الدور ناجمٌ أيضاً عن عمليّة الانطلاق من الواقع إلى النصّ بعقليّة المتشبّع من التجارب والمعارف البشريّة، لكن ببُعدها العمودي.

وفي سبيل الوقوف على المعنى المراد نستحضر تجربتين قريبتين من جوّ بحثنا:

1 ـ تجربة الدكتور محمّد درّاز في كتابه (دستور الأخلاق في القرآن)؛ فلولا تشبّع الدكتور درّاز من التجارب البشريّة وما قدّمته وطرحته وأثارته في مجال الأخلاق ودستورها لما أتت دراسته بتلك الجدة والسعة والإتقان؛ لأنّ تداول الموضوع في أروقة المعرفة يدفع الباحث المؤمن بمرجعيّة القرآن الكريم وقيمومته وديمومته إلى بذل جهد طوارئي في استنطاق النص القرآني ومحاولة قراءته بعقليّة من ينقّب عن النفط وهو يقطع بوجوده تحت الأرض، لا بعقليّة عابر السبيل الذي لا يملك ما ينبّهه إلى التطلّع إلى ما تحت الثرى.

2 ـ تجربة الشهيد الصدر في كتاب (اقتصادنا) التي تُعتبر بحقّ نموذجاً فذّاً للاتجاه الموضوعي في مجاله الفقهي؛ حيث عكف الشهيد الصدر في الجزء الأوّل من الكتاب على دراسة ما قدّمته المذاهب الفكريّة المعاصرة في المجالات المرتبطة بالأطروحة دراسة مشبعة، قبل أن ينتقل في الجزء الثاني إلى محاولة اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام وهو مسكونٌ بأسئلة يؤمن بحتميّة اشتمال الرسالة الإسلاميّة على أجوبة لها.

ومن هنا تميّزت محاولته عن كثيرٍ من المحاولات التي انطلقت من الفقه بأفق واقعي أضيق بكثيرٍ من الأفق الذي طار هو إليه.

وفي سبيل تعميق الفكرة، نستعين بنصوص صدريّة ذات صلة بمحلّ الكلام، منها نصٌّ تناول فيه العلاقة الطرديّة بين علم الفقه وعلم الأصول، حيث يقول:

«وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنيّة الأصوليّة على صعيد النظريّات من ناحية، وبين الذهنيّة الفقهيّة على صعيد التطبيق من ناحية أخرى; لأنّ توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظريّة خطوةً إلى الأمام; لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريّات العامّة لحلولها.

كما أنّ دقّة البحث في النظريّات الأصوليّة تنعكس على صعيد التطبيق؛ إذ كلّما كانت النظريّات أوفر وأدقّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقّةً وعمقاً أكبر»((دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، الصفحة 53.)).

يريد الشهيد الصدر أن يقول في هذا النص: إنّ مواجهة الفقيه لمشكلة فقهيّة تدعوه إلى إلقائها إلى علم أصول الفقه من أجل الخروج بقاعدة علميّة تؤسّس لمعالجتها، فيأخذ الفقيه هذه القاعدة ويُحاول تطبيقها في علم الفقه، فيكتشف ـ نتيجةً لهذا التطبيق ـ أموراً لم تكن بالحسبان، فيرجع مرّة ثانية إلى علم الأصول ليعمّقه ويصقله، ثمّ ليعود من جديد إلى تطبيق المعطيات الجديدة، وهكذا.

وعلى هذا الأساس تدفع البحوث التطبيقيّة بالبحوث النظريّة خطوةً إلى الأمام، لينعكس هذا التقدّم النظري بدوره تعميقاً في التطبيق. ومن هنا كانت فكرة التفاعل المتبادل المشترك بين علم الفقه وبين علم الأصول.

وهذا القانون الذي أورده الشهيد الصدر هنا تحت عنوان (التفاعل بين الفكر الأصوليِّ والفكر الفقهي) اصطلح عليه في موردٍ آخر بـ(قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة)؛ فتراه يقول:

«وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة; ذلك لأنّ الإنسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازداد سيطرةً عليها وتمكّناً من تطويعها وتذليلها لحاجاته.

وحيث إنّ كل خبرة هي تتولّد في هذا الحقل عادة من الممارسة، وكلّ ممارسة تولّد بدورها خبرة، ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانوناً موضوعيّاً يكفل حلّ هذا التناقض، يقدم الحلّ المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة; إذ يتضاءل جهل الإنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة، يكتسب خبرة جديدة، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة، فيمارس على الميدان الجديد، وهذه الممارسة بدورها أيضاً تتحوّل إلى خبرة، وهكذا تنمو الخبرة الإنسانيّة باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعيّة أو بشريّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 158.)).

ونحن لا نرمي من وراء استحضار هذين النصّين أن نوحي ـ خطأً ـ بمطابقة علاقة الفقه بالأصول أو علاقة التجربة بالممارسة مع علاقة التفسير الموضوعي بالواقع؛ لأنّ علم الأصول أو التجربة يمثّلان في نهاية المطاف جهداً بشريّاً قابلاً للتطوير وللتفاعل، فلا غضاضة في افتراض تطوّر علم الأصول نتيجة تطوّر علم الفقه، ثمّ انعكاس ذلك مجدّداً على علم الفقه نفسه، أو في افتراض التفاعل المتبادل بين التجربة وبين الممارسة، بينما يُعتبر النصّ القرآني نصّاً إلهيّاً معجزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

لكن مع ذلك، فلن يكون استحضار هذين النصّين ـ وبالتالي هذه الفكرة ـ أمراً مرفوضاً؛ لأنّنا إذا حوّلنا أنظارنا عن النصّ القرآني الإلهي نفسه، وأدرناها إلى عمليّة التفسير التي تمثّل في نهاية المطاف جهداً بشريّاً قابلاً للتطوير والنموّ، فسنجد أنّ التشبّع من التجارب البشريّة سوف يعمّق فهمنا للنصّ، ولن يطال النصَّ نفسه بطبيعة الحال.

ومن هنا سننفي في ما يلي وبشدّة أن يكون مراد الشهيد الصدر تفسير النصّ على أساس الواقع، بل مراده هو استكشاف موقف النصّ تجاه الواقع، وبين المعنيين مَسْقَطُ الرجال.

هل أراد الشهيد الصدر تفسير النصّ من خلال الواقع؟

لا ينسى الشهيد الصدر التنبيه على مسألة في غاية الأهميّة؛ إذ قد يظنّ البعض أنّ المراد من التوحيد بين الواقع وبين النص هو حمل الأخير على الأوّل، فيجيب الشهيد الصدر قائلاً:

«نعبّر عن التفسير بأنّه … توحيديٌّ باعتبار أنّه يوحّد بين التجربة البشريّة وبين القرآن الكريم، لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن، لا بمعنى أنّه يُخضع القرآن للتجربة البشريّة، بل بمعنى أنّه يوحّد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج ـ نتيجة هذا السياق الموحّد من البحث، يستخرج ـ المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكريّة التي أدخلها في سياق بحثه»((المصدر نفسه، الصفحة 35.)).

ولهذا أردف لاحقاً بكلامٍ يصبّ في خانة نفي ما يُصطلح عليه بالتفسير العلمي الذي ينزع إلى تفسير القرآن الكريم على ضوء ما يستجدّ من علوم في الواقع المعاصر، فيقول:

«فهو كتاب هداية وتغيير، وليس كتاب اكتشاف. ومن هنا لا نترقّب من القرآن الكريم أن يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامّة للعلوم الأخرى، ولا نترقّب من القرآن الكريم أن يتحدّث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان.

صحيح أنّ في القرآن الكريم إشارات إلى كلّ ذلك، ولكنّها إشارات بالحدود التي تؤكّد على البعد الإلهي للقرآن، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي استطاع أن يسبق التجربة البشريّة مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرّقة في الميادين العلميّة المتفرّقة، لكنّ هذه الإشارات القرآنيّة إنّما هي لأجل غرض عملي من هذا القبيل، لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء»((المصدر نفسه، الصفحة 48.)).

وعلى الأساس نفسه، أكّد الشهيد الصدر في بحوث قرآنيّة متقدّمة زماناً على أنّه «يجب على المفسّر أن يدرس القرآن ويفسّره بذهنيّة إسلاميّة، أي: ضمن الإطار الإسلامي للتفكير، فيقيم بحوثه دائماً على أساس أنّ القرآن كتاب الهي أنزل للهداية وبناء الإنسانيّة بأفضل طريقة ممكنة، ولا يخضع للعوامل والظروف والمؤثّرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الإنسانيّة؛ فإنّ هذا الأساس هو الأساس الوحيد لإمكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقة صحيحة»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 309.)).

وقد استحضر بعضهم هذا التنبيه على الفارق بين العمليّتين: تفسير النصّ على أساس الواقع وتقديم موقف النصّ من الواقع((أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زاده، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحة 276؛ محمّد فاكر الميبدي، قواعد التفسير لدى الشيعة والسنّة، الصفحة 409.))، في حين يبدو ممّا سجّله بعض الباحثين أثناء دراستهم نظريّةَ الشهيد الصدر في التفسير الموضوعي أنّه فسّر أطروحته بوصفها دعوةً إلى تفسير القرآن الكريم وفق الواقع؛ حيث طرح (إشكاليّة معياريّة) حول «معيار صحّة الحقائق المعتمد في التفسير: النصّ أم الواقع؟ واستطراداً: هل يؤسّس النصّ لتشكيل الواقع؟ أم الواقع هو الضمان لصدقيّة النصّ؟»((الدكتور حسين سعد، الأصوليّة الإسلاميّة العربيّة المعاصرة.. بين النصّ الثابت والواقع المتغيّر، الصفحة 319.)).

وكيف يكون هذا هو مراد الشهيد الصدر وهو الذي تحدّث بإطناب في دراسته التطبيقيّة عن المثل الأعلى المنخفض الذي «يكون منتزعاً من واقع ما تعيشه الجماعة البشريّة من ظروف وملابسات»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 121.)).

وقد سبق أن نقلنا عنه قوله: إنّ «عمليّة تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس ـ بقصد أو بدون قصد ـ إلى تطوير النصوص وفهمها فهماً خاصّاً يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين ممّن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يُخضع النصّ للواقع بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النصّ… فيحاول الممارس أن يفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله واجتازه إلى نصوص اُخرى تواكب إطاره أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير»((اقتصادنا، الصفحتان 448 ـ 449.)).

وكان الدكتور حسين سعد قد سجّل قبل هذه الإشكاليّة (إشكاليّة معرفيّة) حول مشروعيّة عمليّة التفسير الموضوعي؛ فالأوائل كانوا «يحرصون على استبيان دلالة الألفاظ من أساليب النحو العربي، وما درج العرب على فهمه من الآيات. أمّا عندما توسّعت أبواب المعرفة وذهب البعض إلى مناهج جديدة للتفسير ـ كما فعل سيّد قطب في (في ظلال القرآن) ومحمّد باقر الصدر في (المدرسة الإسلاميّة) ـ بقياس ما في الكتاب الكريم على ما في نظريّات العقل والعلم، فهذا المنهج لم يحترز احترازاً كاملاً من الخطأ في استخراج الأحكام وربط النتائج بالمقدّمات، فأين هي ضمانة التفسير الموضوعي؟ وكيف نتبيّن الأدلّة الصادقة على الأحكام المستخرجة؟»((الدكتور حسين سعد، الأصوليّة الإسلاميّة العربيّة المعاصرة.. بين النصّ الثابت والواقع المتغيّر، الصفحة 319.)).

وما افترضناه بالنسبة إلى فهم الباحث لأطروحة الشهيد الصدر يبدو واضحاً بعد أن عبّر بأنّ هذا المنهج الجديد يدعو إلى «قياس ما في الكتاب الكريم على ما في نظريّات العقل والعلم»، والحال أنّ الأطروحة أجنبيّة عمّا يريده هنا من القياس وإن كانت قياساً بمعنىً آخر، خاصّة أنّ الشهيد الصدر أكّد على حقيقة في غاية الأهميّة، وهي أنّ مرحلة التفسير الموضوعي محكومة ـ لا محالة ـ للنتائج التي يخرج بها التفسير التجزيئي، والذي يعتمد كما يقول الدكتور سعد على أساليب النحو العربي في استبيان دلالة الألفاظ.

أمّا الضمانات في مرحلة التفسير الموضوعي بعد اجتياز مرحلة التفسير التجزيئي فهي منوطة بالشروط والقيود الموضوعيّة التي يضعها المفسّر لمنهجه، ومن الممكن وضع قيود موضوعيّة لا تقلّ موضوعيّةً عن اعتماد أساليب النحو العربي أساساً في استبيان دلالة الألفاظ، وهو عبارة عن القيد الموضوعي الحاكم في دائرة التفسير التجزيئي.

وعلى هذا الأساس فـ«موضوعيّة المنهج تعني حينئذٍ أن يوفّر المنهج الضوابط التي تؤدّي إلى نتيجة ونظريّة تعبّر عن أقرب التصوّرات لواقع التشريع الإسلامي، وليس للأفكار الذاتيّة المسبقة التي قد يحملها الفرد ويحاول أن يسلّطها على الموضوع»((الشيخ باقر برّي، فقه النظريّة، الصفحة 51.)).

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ سعي الشهيد الصدر في كتاب (اقتصادنا) إلى اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام يعبّر بوضوح عن الاتّجاه الموضوعي الذي نحاول شرحه هنا، لكن بمقاربة فقهيّة؛ ففي (اقتصادنا) خصّص الشهيد الصدر الجزء الأوّل لشرح المبادئ الفكريّة والفلسفيّة التي تقوم عليها الماركسيّة (والرأسماليّة إلى حدٍّ ما)، وذلك تمهيداً لبحث النظام الاقتصادي الإسلامي؛ فإنّ الباحث إذا تشبّع بمذهب الماركسيّة والرأسماليّة في الاقتصاد سيتعمّق نحوُ تعامله مع النصّ القرآني، وسيكون مسكوناً بهاجس اكتشاف وبلورة مفاهيم إسلاميّة لأهمّ المفاصل التي ارتكزت عليها التجربتان الماركسيّة والرأسماليّة، ولولا تشبّعه من هاتين التجربتين لم يكن ليدخل في أزقّة دقيقة يتطلّب اقتحامها مقدرة علميّة غير ميسورة لكلّ أحد.

وما ذكرناه هنا ينطبق على تجربة الدكتور محمّد عبدالله درّاز في كتابه (دستور الأخلاق في القرآن)؛ فإنّه لم يرد البحث القرآني إلّا بعد أن كان مشبعاً بالأطروحات البشريّة حول علم الأخلاق ودستوره.

وإذا لم تكن تجربة (اقتصادنا) تعني تفسير المذهب الاقتصادي الإسلامي على أساس مبادئ الماركسيّة ومباني الرأسماليّة وحمل هذه المبادئ والمباني على الفقه الإسلامي، فإنّ الأمر ينطبق بعينه على أطروحة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

العلاقة بين الموضوعيّة المشهوريّة وبين الموضوعيّة الصدريّة:

بعد أن أوضحنا أبرز المفاصل التي تضمّنتها الأطروحة الصدريّة، ننتقل إلى معالجة شبهة قد تطرأ إلى ذهن الباحث؛ فبعد أن تبيّن مصادقة الشهيد الصدر على المعنى المشهوري للموضوعيّة وعدم رفضه للموضوعيّة بمعنى المسألة المطروحة في رحاب القرآن الكريم، وبعد أن تبيّن أيضاً أنّ ما أضافه عبارة عن معنى جديد((وإن كنّا نفضّل تسمية ذلك بالمعالجة الجديدة لا المعنى الجديد.)) يرتكز على النظر إلى الواقع والتوحيد بينه وبين النص، بعد هذا وذاك قد يُتوهّم أنّنا أمام عمليّتين:

الأولى: عمليّة دراسة المسألة المطروحة في رحاب القرآن الكريم، وهو ما طرحه مشهورُ من بحث في التفسير الموضوعي.

الثانية: عمليّة التشبّع من التجارب البشريّة ثمّ التوحيد بينها وبين النص في سياق واحد، وهو ما اختصّ الشهيد الصدر بطرحه.

فيُسأل حينئذٍ عن العلاقة بين هاتين العمليّتين؟ وعن موقعهما في سلّم التراتبيّة المنطقيّة والعمليّة؟! وهل من الممكن ممارسة الموضوعيّة المشهوريّة على حدة وبمعزل عن الموضوعيّة الصدريّة، وبالعكس؟!

قد يُدّعى استقلال الموضوعيّة المشهوريّة عن الموضوعيّة الصدريّة؛ وذلك باعتبار وجود طوليّتين مستقلّتين يطوي المفسّر خلالهما المراحل الثلاث التالية:

1 ـ المرحلة الأولى: مرحلة التفسير التجزيئي.

2 ـ المرحلة الثانية: وتقع في طول المرحلة الأولى، وهي مرحلة التوحيد بين مختلف الآيات الواردة حول موضوع معيَّن بهدف الخروج بمركّب نظري قرآني يعبّر عن موقف القرآن تجاه الموضوع مورد البحث.

3 ـ المرحلة الثالثة: وتقع في طول المرحلة الثانية، وهي مرحلة التوحيد بين الواقع والتجربة البشريّة وبين القرآن الكريم، أي بين الواقع وبين المركّب النظري الذي سبق أن خرجنا به في المرحلة السابقة؛ إذ لا معنى للحديث عن التوحيد بين الواقع وبين الآيات القرآنيّة المبعثرة قبل انطوائها تحت المركّب النظري الذي تؤمّنه المرحلة الثانية.

وقد يُقال ـ على ضوء هذا المدّعى ـ بتباين هذه المراحل الثلاث وتمايزها؛ بحيث يُمكن ممارسة المرحلة الثانية قبل الوصول إلى الثالثة وبمعزل عنها.

لكن قد يُقال في مقابل ذلك: إنّ الفصل بين المرحلتين الثانية والثالثة لا يُمكن أن يكون حديّاً؛ شأنه في ذلك شأن الفصل بين التفسير التجزيئي وبين التفسير الموضوعي الذي نفى عنه الشهيد الصدر سمة الحديّة((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 24.))، فيُقال حينئذٍ: إنّ طبيعة العمل تتفاوت بين موردٍ وآخر بحسب طبيعة الموضوع:

أ ـ فبعض الموضوعات لم تقدّم تجاهها البشريّة عطاءات معرفيّة، مع قطع النظر عن منشأ إثارتها.

ب ـ وبعضها الآخر ممّا تعرّضت له التجارب البشريّة وعالجته، لكن بمقدارٍ ضئيل.

ففي هذه الحالة يُدّعى أنّ بالإمكان الجلوس على مائدة القرآن الكريم بمعزلٍ عن التجارب البشريّة وبهدف استخراج المركّب النظري الذي يعبّر عن موقف القرآن الكريم تجاه الموضوع محلّ البحث بنسبة كبيرة.

وفي هذه الحالة يقتصر أثرُ التشبّع من الواقع في المرحلة الثالثة على تعميق الموقف القرآني بمقدار يسير؛ بحيث لا تختلف صورته في جوهرها عن الصورة المُستخرجة في المرحلة الثانية.

ج ـ وبعضها الآخر ممّا يدخل في صميم التجارب البشريّة، وهو الذي يدخل في حيّز اهتمام الشهيد الصدر في الدرجة الأولى؛ لارتباطه بالواقع من ناحية، ولندرة ما كُتب فيه من ناحية أخرى، وباعتباره يُمثّل تحديّاً صعباً أمام الفكر وأهله من ناحية ثالثة.

وفي هذه الحالة، حتّى لو أمكن تكوين موقف قرآني حول الموضوع محلِّ البحث بمعزلٍ عن الواقع والتجارب البشريّة، فإنّ من شأن قراءة النصّ القرآني مرّة أخرى وبعقليّة المتشبّع من الواقع أن تمكّن المفسّر من تفجير مكنونات هذا النص وكشف خباياه، وبالتالي تعميق الموقف القرآني بدرجة كبيرة ومؤثّرة.

وعلى كلّ حال، فالأمر سهلٌ بعد أن أوضحنا في الأبحاث السابقة دور الواقع في عمليّة التفسير الموضوعي؛ حيث أكّدنا على أنّ موضوعات التفسير الموضوعي لا تقتصر على الموضوعات التي يكون القرآن الكريم هو منشأ إثارتها. وإذا كان واقع الحياة المتجدّدة شريكاً في ذلك، فعادةً ما تكون موضوعاتها مصحوبة بتجارب بشريّة معتدٍّ بها.

أمّا إذا تناولنا موضوعاً قرآنيّاً خارجاً عن دائرة اهتمام البشر، فلا يضرّ ذلك بأطروحة الشهيد الصدر ولا يخرم تعريفه؛ لأنّنا سنقتصر والحال هذه على تطبيق كلامه في الانطلاق من الواقع على البعد الأفقي، وقد اتّضح أنّ القرآن الكريم جزءٌ من الواقع ببعده الذي يكون فيه منشأً للبحث لا منطَلَقاً للباحث.

الإجابة عن بعض الإشكالات على ضوء ما تقدّم:

مع الشيخ محمّد هادي معرفت:

تقدّم معنا أنّ الشيخ محمّد هادي معرفت اعتبر المعنيين المتقدّمين (المشهوري والصدري) لونين مختلفين من ألوان التفسير الموضوعي، ثمّ قام بتصنيف نظريّة الشهيد الصدر ضمن التجارب التي رجّحت الاتّجاه الذي يدرس المسائل والموضوعات المعروضة على القرآن، لا المطروحة في القرآن((الشيخ محمّد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون، الجزء 2، الصفحة 521 (ضمن الطبعة الجديدة من: التمهيد في علوم القرآن).))، وكذلك فعل آخرون((السيّد إبراهيم سجّادي، شكوفايى تفسير موضوعى در بستر قرن اخير (فارسي)، مجلّة پژوهش هاى قرآنى، العدد 7، الصفحة 143.)).

وقد صار واضحاً خطأ هذا التصنيف؛ فقد بيّنّا أنّ الشهيد الصدر لا يميّز بين الموضوعات المطروحة داخل القرآن الكريم وبين الموضوعات المطروحة في الواقع والمعروضة على القرآن الكريم، وأنّه قصد في أطروحته أنّه حتّى لو كان منشأ المسألة هو القرآن الكريم نفسه، فإنّ على المفسّر الموضوعي أن يحمل حصيلةَ التجارب البشريّة تجاه هذه المسألة المطروحة في القرآن ويعرضها على القرآن الكريم.

وبهذا تكون المسألة مطروحةً في القرآن ومعروضةً عليه في آن، فلا يصحّ تمييز الشيخ معرفت.

مع الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم:

وعلى ضوء مجموع ما أوضحناه تندفع كذلك ملاحظة الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم الذي اعتبر أنّه ليس بالضرورة أن تكون الموضوعات المطروحة للبحث والمناقشة على هذه الصورة هي كلّ ما في التفسير الموضوعي بالرغم من أهميّتها؛ «حيث التعريف بالدّين والكشف عن معطيات القرآن الكريم من خلالها يعطي ميزةً خاصّة وإقبالاً عليه منقطع النظير؛ إذ لا مانع من بلورة القضايا القرآنيّة المطروحة وهي على درجة كبيرة من الأهميّة، ولو لم تكن من جملة اهتمامات العصر من أجل لفت النظر إليها، وتوجيه الفكر للاهتمام بها حيث كانت كذلك لا غنى لكلّ بشر عن مواجهتها والتعرّض لها في الحياة أو بعد الممات، وبذلك يكتمل المنهج وتتّضح الصورة»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 62.)).

فقد تصوّر الدكتور أنّ الشهيد الصدر يحصر موضوعات التفسير الموضوعي بما يثيره الواقع المعاصر، ويغمض النظر عمّا يثيره القرآن الكريم نفسه، فكأنّه اعتبر أنّ التعريف الذي يقدّمه الشهيد الصدر ليس جامعاً؛ لأنّه لا يتحدّث سوى عن دائرة معيّنة من الموضوعات.

وربّما لهذا عمد لاحقاً ـ عند حديثه عن منهجيّة البحث ـ إلى تقسيم الموضوعات إلى دنيويّة ودينيّة((المصدر نفسه، الصفحة 71 ـ 73.)).

بينما اتّضح لنا أنّ الشهيد الصدر يقصد في أحد ابعاد كلامه حملَ المفسّر الموضوعي للتجارب البشريّة على النصّ لتحديد موقف النصّ منها، سواءٌ كان القرآن الكريم هو الذي أثار الموضوع في ذهن المفسّر أم الواقع الخارجي

مع الشيخ محمّد فاكر الميبدي:

سجّل الشيخ محمّد فاكر الميبدي على الشهيد الصدر إشكالاً جاء فيه:

«التفسير الموضوعي مرتبطٌ دائماً بالتجربة البشريّة ومجموعة أفكارها، وعلى هذا، لو أراد المفسّر أن يدرس موضوعاً من الموضوعات القرآنيّة، مع قطع النظر عن التجارب البشرية وأفكارها، أو يبيّن موضوعاً ما ليس له في الفكر البشري أثر، فلن يكون تفسيره تفسيراً موضوعيّاً، مع أنّه يصدق عليه التفسير الموضوعي والتوحيدي»((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 233.)).

ولا نجدنا بحاجة إلى مزيد كلامٍ بعد أن اتّضح أنّ المعنى الذي طرحه الشهيد الصدر يرتقي إلى أفقه الذي يطمح إليه، مع عدم إنكاره المعنى المشهور السائد.

مع الدكتور زياد الدغامين:

لاحظ الدكتور زياد الدغامين على أطروحة الشهيد الصدر أنّ وظيفة التفسير الموضوعي لا تقتصر على ما جاء في الأطروحة؛ «لأنّ دراسة موضوع معيّن في القرآن الكريم على ضوء الواقع المعاش لا تقتصر فائدتها على تحكيم القرآن في تجارب البشريّة أو إطلاق أحكام تصحيحيّة أو تخطيئيّة على تلك التجارب؛ لأنّ القرآن في هذا الحال يتقيّد ويفقد خاصيّة الانطلاق، أعني: أن يكون القرآن مهيمناً على حياة الناس، لا في تقويم إعوجاجهم وتصحيح انحرافهم فحسب، بل كذلك في إثبات وجهة القرآن في هذا الموضوع ليطابقها الواقع ويتمثّل بها، وليس بالضرورة أن يكون واقع الناس مخالفاً لوجهة القرآن في ذلك الموضوع؛ فقد يكون هذا الموضوع منفذاً إلى عمارة الأرض وتذليل سبلها، وتحقيقاً لمطلب القرآن بصرورة السير في الأرض؛ للقيام بمهام الخلافة وتحقيق الشهود الحضاري.

ويهدف كذلك إلى إنشاء منهجيّة واضحة في الدرس القرآني والتأمّل القرآني، وتأصيل أطر عامّة وقواعد ثابتة في ذلك الموضوع. وتلك المنهجيّة وذلك التأصيل تعدّ أسساً في عمليّة بناء الحياة الإسلاميّة على القيم واتعاليم الربّانيّة. وبعبارة أخرى: إنّ التفسير الموضوعي يقعّد أسس ومبادئ النهضة الإسلاميّة الشاملة»((منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 28.)).

واعتبر أنّ ذهاب الشهيد الصدر إلى انطلاق المفسّر من الواقع ورجوعه إلى القرآن الكريم «يفتقر إلى النظرة الشموليّة ويقتصر على وجهة واحدة؛ وذلك أنّ العمليّة إجمالاً تنطلق من القرآن الكريم إلى الواقع، ومن الواقع إلى القرآن الكريم؛ فهما انطلاقتان متكاملتان، تتضافران لإبراز الحقائق والمواقف القرآنيّة في كلّ ميدان:

الانطلاقة الأولى: تعني وضع الآية القرآنيّة تحت المجهر التحليلي التأمّلي، فتبدأ من القرآن الكريم متّجهةً إلى الواقع للقيام بعمليّة البناء وتحقيق كلّ السبل المؤدّية إلى الكشف عن نواميس الكون والسنن التي انتظمت بها شؤون الحياة وقانونها، ليسير الكون ـ الذي هو من صنع الله ـ والقرآن ـ الذي هو من كلام الله ـ في اتّجاه واحد لإرساء دعائم الوحدة التي تسود هذا الوجود….

الانطلاقة الثانية: وتعني وضع الواقع الحياتي للأمّة تحت المجهر المخبري القرآني التحليلي؛ فتبدأ من الواقع وتتّجه إلى القرآن الكريم للقيام بعمليّة العلاج للتوصّل إلى الشفاء؛ لأنّ هذه العمليّة بمقدورها أن تهتدي إلى الأسقام والأوجاع التي تعاني منها البشريّة، وأن تهديها إلى الدواء الحقيقي..»((المصدر نفسه، الصفحة 28 ـ 29.)).

وقد أطلق الدكتور الدغامين على الانطلاقة الأولى من القرآن إلى الواقع عنوان: (الكشف والبناء)، وعلى الانطلاقة الثانية (دواء وشفاء).

وإذا كان الدكتور قد تحدّث عن عمليّتَي انطلاق، فإنّ بعض الأجزاء لا تنتمي إلى حقل التفسير؛ لأنّ عمليّة البناء في الانطلاقة الأولى ليست من وظيفة المفسّر بما هو مفسّر؛ لأنّه إذا بنى الواقع لا يبنيه بوصفه مفسّراً، بل بوصفه مرجعاً أو قائداً، فلاحظ.

ثمّ إذا افترضنا أنّ الانطلاقة الثانية ترادف ما أراده الشهيد الصدر من التوحيد بين الواقع وبين النص، لم يبقَ متّسعٌ للإشكال بعد أن أقصيت الانطلاقة الأولى واتّحد المراد من الانطلاقة الثانية.

مع مجموعة من الباحثين:

نعم، لوحظ على التعريف الذي قدّمه الشهيد الصدر عدم جامعيّته من جهة عدم شموله للوحدة الموضوعيّة. وبهذا الصدد قال الدكتور أحمد رحماني: «ثمّ إنّ هذا التعريف لا يشمل التفسير الموضوعي الذي يُعنى بالوحدة الموضوعيّة في السورة »((مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 14.)).

ثمّ علّق قائلاً: «ولعلّ تعريفه الذي يتحدّث فيه مستخدماً مصطلح الاتّجاه التوحيدي أهمّ من التعريف السابق؛ إذ يقول فيه: (هو اتّجاه يحاول القيام بالدراسة القرآنيّة………. من موضوعات الحياة أو الكون). إنّ هذا التعريف ـ كالتعريف السابق ـ يتحدّث عن التفسير الموضوعي التوحيدي ـ أو التجميعي ـ بعيداً عن بيان خطوات المنهج المتّبع في التفسير الموضوعي بصفة عامّة، سواءٌ التفسير الموضوعي التوحيدي أو التفسير الموضوعي الذي يكشف عن الوحدة الموضوعيّة»((المصدر نفسه، الصفحة 14.)).

وهو بالتحديد ما أخذه الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم على تعريف الشهيد الصدر، حيث قال:

«واضحٌ أنّه أسقط من الاعتبار ما يتعلّق بالوحدة الموضوعيّة للسورة القرآنيّة»((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20.)).

وهو ما كرّره الباحث محمّد محمود بني الدومي((محمّد محمود بني الدومي، التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة (أطروحة ماجستير غير منشورة)، الصفحة 230.)).

وإذا كان إسقاط الشهيد الصدر هذا النوع من بحثه من رأس «لم يكن عن غفلة عن هذا الاصطلاح»((أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زاده، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحة 271.)) بحسب بعض الباحثين، فإنّ التفسير الموضوعي الذي طرحه الشهيد الصدر هو ـ على كلّ حال ـ المعنى «الذي يسبق إلى الذهن عند إطلاق لفظ التفسير الموضوعي» كما اعترف الدكتور الحسيني أبو فرحة((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحة 20، نقلاً عن: الدكتور الحسيني أبو فرحة، الفتوحات الربّانيّة في التفسير الموضوعي، الجزء 1 ، الصفحتان 5 ـ 6. وانظر: أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زاده، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحة 271.))، ولهذا السبب عاد الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم ليفصل بينهما باعتبار الاختلاف الجوهري بينهما((التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، الصفحتان 28 ـ 29.)).

وقد مِلنا في الفصل الأوّل إلى إخراج هذا اللون عن دائرة التفسير الموضوعي من أصل، فراجع.

استنفاد طاقة الاتجاه القرآني الموضوعي استهداءً بالتجربة الفقهيّة:

على ضوء الأطروحة التي تقدّم بها الشهيد الصدر، «تبقى للقرآن حينئذٍ قدرته على القيمومة دائماً، قدرته على العطاء المستجدّ دائماً، قدرته على الإبداع دائماً; لأنّ المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ، طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية، بينما القرآن الكريم دلّت الروايات على أنّه لا ينفد، وصرّح القرآن الكريم بأنّ كلمات الله لا تنفد..

إذاً، هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن، التي نصّ عليها القرآن نفسه ونصّت عليها أحاديث أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، هذه الحالة من عدم النفاد تكمن في هذا المنهج، في منهج التفسير الموضوعي; لأنّنا نستنطق القرآن، وإنّ في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي; لأنّ في القرآن دواء دائنا، لأنّ في القرآن نظم ما بيننا، لأنّ في القرآن ما يمكن أن نستشفّ منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 31 ـ 32.)).

استحضرنا هذا النصَّ تمهيداً لمقاربة الشهيد الصدر بين التجربة الفقهيّة والتجربة القرآنيّة؛ فبعد أن أكّد على «أنّ البحث الفقهي اتّجه اتّجاهاً موضوعيّاً»((المصدر نفسه، الصفحة 35.))، وأنّ «الاتّجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهيّة، بينما الاتّجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنيّة»((المصدر نفسه، الصفحة 27.))، اتّجه إلى استحضار التجربة الفقهيّة للتدليل على ثمرات البحث القرآني إذا نحى المنحى نفسه.

وقبل أن ننتقل إلى نصوص الشهيد الصدر، نشير إلى أنّ استعانته بالتجربة الفقهيّة من أجل إقناع مخاطّبيه بضرورة نقل هذه التجربة إلى بساط البحث القرآني إذا كان يرجع من ناحية إلى الشبه القائم بين التجربتين القرآنيّة والفقهيّة، فإنّه يرتكز من ناحية أخرى إلى شدّة رسوخ التجربة الفقهيّة في أذهان مخاطبيه الذين يستهدف تحويل عقولهم وذهنيّاتهم إلى الاتجاه الموضوعي في ساحة القرآن الكريم.

وهذا يجعلنا نستحضر نصّاً ـ بل درساً ـ أطلقه أثناء تحليله ثورةَ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ حيث قال:

«ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عامّاً، وحاصل هذا الدرس: أنّ عمليّة التغيير في أخلاقيّة الأمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهة واضحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الأمّة; لأنّ المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الأمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الأمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الأمّة.

حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الأمّة التي ماعت أخلاقيّاً لا بدّ لنا أيضاً في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الأمّة، فلا بدّ له أن يفكّر في انتهاج طريق في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الأمّة، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الأمّة إلّا إذا حافظ باستمرار على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الأمّة»((أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، الصفحتان 356ـ357.)).

ومن الواضح أنّنا لسنا بصدد تشبيه مخاطبي الشهيد الصدر بمخاطبي الإمام الحسين (عليه السلام) من جهة كونهم مهزومين، بل نقصد أنّهم لم يكونوا يعيشون أفق البحث الموضوعي القرآني، بل عاشوا موضوعيّة البحث الفقهي.

ولهذا لم يستفزّهم الشهيد الصدر عندما روّج لأطروحة التفسير الموضوعي القرآني؛ لأنّه جاملهم من خلال استحضاره التجربة الفقهيّة التي تحظى بنظرهم بالشرعيّة، فقال: إذا كانت هذه مشروعة ومعتمَدَة في البحث الفقهي، فهذه تناظرها في البحث القرآني، فلماذا لا تُعتمد؟! وقد مهّد بذلك لنقل التجربتين القرآنيّة والفقهيّة إلى معنىً أعمق يعبّر عن التوسّع الأفقي كما رأينا في ثنايا هذه الأطروحة، وسيأتي التأكيد عليه بعد قليل.

عوداً على بدء، فإنّنا نعتذر من القارئ الكريم عن إثبات نصوص طويلة للشهيد الصدر، خاصّةً أنّنا أثبتنا بعض مقاطعها في ما تقدّم من الدراسة، ولكنّ وضوح بيانها يغني عن كثيرٍ من التعليق.

يقول الصدر وهو بصدد الدعوة إلى تطبيق الاتجاه الموضوعي في الدراسات القرآنيّة على حدّ ما تمّ تطبيقه في البحث الفقهي:

«ويمكننا أن نقرّب إلى أذهانكم فكرة هذين الاتّجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهيّة؛ فالفقه هو بمعنى من المعاني تفسيرٌ للأحاديث الواردة عن النبي والأئمّة (عليهم السلام)، ونحن نعرف من البحث الفقهي أنّ هناك كتباً فقهيّة شرحت الأحاديث حديثاً حديثاً، تناولت كلَّ حديث وشرحته وتكلّمت عنه دلالة أو سنداً أو متناً، أو دلالة وسنداً ومتناً على اختلاف اتّجاهات الشرّاح، كما نجد ذلك في شرّاح الكتب الأربعة وشرّاح الوسائل، غير أنّ القسم الأعظم من الكتب الفقهيّة والدراسات العلميّة في هذا المجال لم تتّجه هذا الاتّجاه، بل صنّفت البحث إلى مسائل وفقاً لوقائع الحياة، وجعلت في إطار كلّ مسألة الأحاديث التي تتّصل بها، وفسّرتها بالقدر الذي يلقي ضوءاً على تلك المسألة ويؤدّي إلى تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة. وهذا هو الاتّجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي، بينما ذاك هو الاتّجاه التجزيئي في تفسير الأحاديث على هذا الصعيد.

كتاب (الجواهر) في الحقيقة شرحٌ لروايات الكتب الأربعة، شرح كامل شامل لروايات الكتب الأربعة، ولكنّه ليس شرحاً يبدأ بالكتب الأربعة رواية رواية، وإنّما يصنّف روايات الكتب الأربعة وفقاً للحياة، وفقاً لمواضيع الحياة: كتاب البيع، كتاب الجعالة، كتاب إحياء الموات، كتاب النكاح، ثمّ يجمع تحت كلّ عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتّصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها، يخرج بنظرية ; لأنّه لا يكتفي بأن يفهم معنى هذه الرواية فقط بصورة منفردة، ومعنى هذه الرواية بصورة منفردة ; إذ مع هذه الحالة من الفرديّة لا يمكن أن يصل إلى الحكم الشرعي، وإنّما يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤوليّة توضيح حكم واحد أو باب واحد من أبواب الحياة، ثمّ عن طريق هذه الدراسة الشاملة يستخرج نظريّة واحدة، التي تُعطى من قبل مجموعة مجموعة من الروايات لا من قبل رواية رواية.

هذا هو الاتّجاه الموضوعي في شرح الأحاديث.

ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنيّة والدراسات الفقهيّة نلاحظ اختلاف مواقع الاتّجاهين على الصعيدين؛ فبينما انتشر الاتّجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد الفقهي ـ وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال نموّه وتطوّره حتى ساد هذا الاتّجاه جُلّ البحوث الفقهيّة ـ نجد أنّ العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني؛ حيث سيطر الاتّجاه التجزيئي في التفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرناً تقريباً؛ إذ كان كلّ مفسّر يبدأ كما بدأ سلفه فيفسّر القرآن آية آية.

إذاً، الاتّجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهيّة، بينما الاتّجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنيّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 25 ـ 27.)).

وقد تكرّر هذا المعنى من الشيخ جوادي الآملي الذي قال:

«إنّ وزان التفسير الموضوعي والتفسير الترتيبي هو وزان شرح الحديث مع الفقه؛ فعندما يجمع بعض العلماء روايات في الجوامع الأوليّة والمجامع اللاحقة يبحث بعض آخر هذه الروايات بطرح شرح الحديث ودراسة سنده وتحليل متن الحديث كعلم حديث ترتيبي، ثمّ يختار الفقيه موضوعاً من المواضيع ـ عادة الفقه هو مواضيع مختارة ـ ويستفيد من هذه الأحاديث لتبيين وتعليم هذا الموضوع الفقهي.

طبعاً قد تكون بعض هذه الأحاديث في باب وبعضها في باب آخر، والشخص الذي يتولّى الشرح الترتيبي للأحاديث يبيّن الباب من أوّله إلى آخره، لكنّه لا يستطيع الافتاء اعتماداً على باب واحد، بل يجمع الفقيه الروايات المتعلّقة بذلك الموضوع من أبواب متنوّعة، وكثيراً ما يدرس عدّة أبواب حتى يستطيع أن يكون لديه ترتيب عام للروايات»((الشيخ عبدالله جوادي الآملي، جمال المرأة وجلالها، الصفحة 38.)).

على كلّ حال، يعود الشهيد الصدر ليرفع وهمَ أن يوحي تمثيلُه بالتجربة الفقهيّة برضاه عن وضعها الراهن، فيقول:

«طبعاً لم نكن نعني من ذلك أيضاً أنّ البحث الفقهي استنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي، البحث الفقهي سار في الاتّجاه الموضوعي ولكنّه لم يستنفد أيضاً طاقة الاتّجاه الموضوعي، والبحث الفقهي اليوم مدعوّ أيضاً إلى أن يستنفد طاقة هذا الاتّجاه الموضوعي أفقيّاً وعموديّاً، لا بدّ وأن يستنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي.

أمّا أفقيّاً، فلا بدّ وأن يستنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي باعتبار أنّ الاتّجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن أن يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلى النظرية، ينتهي إلى الشريعة. هذا كان ديدن العلماء، ديدن الفقهاء، يبدؤون بالواقع، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم على شكل جعالة، مضاربة، مزارعة، مساقاة، رهن، نكاح، كانت هذه الحوادث وهذه الوقائع تنعكس عليهم ثمّ يأخذون هذا الواقع ويأتون إلى مصادر الشريعة لكي يستنبطوا الحكم من مصادر الشريعة.

هذا اتجاه موضوعي; لأنّه يبدأ بالواقع وينتهي إلى الشريعة في مقام التعرّف على حكم هذا الواقع.

لكن هنا لابدّ من أن يمتدّ الفقه اُفقياً على هذه الساحة أكثر; لأنّ العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتّجاه الموضوعي عبر قرون متعدّدة كانوا حريصين على أن يأخذوا هذه الوقائع ويحوّلوها دائماً إلى الشريعة لكي يستنبطوا أحكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع.

ولكنّ وقائع الحياة تتجدّد، تتكاثر باستمرار، تتولّد ميادين جديدة من وقائع الحياة، لا بدّ لهذه العمليّة باستمرار من أن تنمو، من أن تحوّل كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة، من أن تبدأ من الواقع، لكن ذاك الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو الذي كان يعيشه المحقق الحلّي، ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصر الشيخ الطوسي، كان يفي بحاجات عصر المحقق الحلّي.

لكن كم من باب وباب من أبواب الحياة فتحت بالتدريج، لا بدّ من عرض هذه الأبواب على الشريعة، إذا أردنا أن يستمرّ الاتّجاه الموضوعي في البحث الفقهي لا بدّ وأن نمدّده أفقيّاً على مستوى ما استجدّ من أبواب الحياة.

كم من باب ومن أبواب الحياة استجدّ لم يكن معروفاً سابقاً: التجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة كانت تمثّل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمئة سنة، ولكن اليوم: السوق، المعاملات، العلاقات الاقتصاديّة أوسع من هذا النطاق، أكثر تشابكاً من هذا النطاق.

إذاً، لا بدّ للفقه من أن يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على أن يعكسوا كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة، لا بدّ أيضاً من أنّ هذه العمليّة تسير أفقيّاً كما سارت أفقيّاً في البداية.

هذا من الناحية الأفقيّة.

من الناحية العموديّة أيضاً لا بدّ من أن يتوغّل هذا الاتّجاه الموضوعي في الفقه، لابدّ وأن يتوغّل، لابدّ وأن ينفذ عموديّاً، لابدّ وأن يصل إلى النظريّات الأساسيّة، لابدّ وأن لا يكتفي بالبناءات العلويّة بالتشريعات التفصيليّة، لا بدّ وأن ينفذ من خلال هذه التشريعات التفصيليّة، من خلال هذه البناءات العلويّة إلى النظريّات الأساسيّة التي تمثّل وجهة نظر الإسلام; لأ نّنا نعلم أنّ كلّ مجموعة من التشريعات في كلّ باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريّات أساسيّة، ترتبط بتصوّرات رئيسيّة، أحكام الإسلام، تشريعات الإسلام في مجال الحياة الاقتصاديّة ترتبط بنظريّة الإسلام، بالمذهب الاقتصادي في الإسلام.

أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظريّاته الأساسيّة عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل. هذه النظريّات الأساسيّة التي تشكّل القواعد النظريّة لهذه الأبنية العلويّة، لا بدّ أيضاً من التوغّل إليها، لا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه بوصفه ترفاً، بوصفه نوع تفنّن، بوصفه نوع أدب، ليس كذلك، بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه. لا بدّ من النفاذ، لابدّ من التوغّل عموديّاً أيضاً إلى تلك النظريّات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشريّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 36 ـ 38.)).

وهذا الكلام يعبّر في الحقيقة عن همٍّ عاش الشهيد الصدر منذ انطلاقته الفقهيّة الرياديّة الأولى، أعني بذلك تجربته الفقهيّة في كتاب (اقتصادنا)؛ حيث قال في بعض محاضراته واصفاً المشقّة التي واجهها وهو بصدد محاولة الخروج بمركّب نظري يعبّر عن مذهب الإسلام الاقتصادي:

«والفقه هنا كما تعلمون تطوّر من حيث الكيف ولم يتطوّر من حيث الكمّ : تطوّر من حيث الكيف؛ لأنّ أساليبه في الاستنباط تعمّقت وطرائقه في التفكير دقّت، وأصبح العمق العلمي به أبّهة كبيرة.

إلاّ أنّه لم يتطوّر كمّيّاً؛ لأنّ الفقه لا يزال يبحث ويتناول نفس المنطقة المحدّدة التي تناولها الفقه منذ ألف سنة أو منذ مئات السنين، لا يزال الفقه يعالج تلك الحدود المغلقة لمشاكل الإنسان، لا يزال الفقه ينظر إلى العالم بمرآة ما قبل مئات السنين ثمّ يعالج هذا العالم .

نستطيع أن نقول: إنّ التطوّر في الفقه عموديٌّ وليس أفقيّاً، كيفيٌّ وليس كمّيّاً، أي أنّه تعمّق عموديّاً ولم يتوسّع أفقيّاً. وما لم يتوسّع كمّيّاً ولم ينبثق أفقيّاً لا يستطيع أن يبرز الرسالة الإسلاميّة بكلّ شمولها وخصائصها وغناها وقدرتها وإمكاناتها على حلّ مشاكل اليوم، لا يستطيع أن يبرز الإسلام في الصورة التي تجلب انتباه الأمّة، هذه الأمّة السكرانة بحضارات الكفّار المستعمرين، هذه الأمّة التي أغريت بالأفكار الجاهليّة التي غزتها من كلّ صوب وحدب. إنّ هذه الأمّة السكرى النشوى بهذه الأفكار الجاهليّة تحتاج إلى قوّة الجذب، وقوّة الجذب تتوقّف على أن نعطي الرسالة في الفقه الإسلامي بصورتها المستوعبة الشاملة القادرة المحيطة.

إذاً، فمن ضرورات موقفنا الإسلامي ومن ضرورات أهدافنا الكبرى تحويل التطوّر الكيفي إلى تطوّر كمّي. ولا أقصد من التحويل أن نستغني عن تلك التطوّرات الكيفيّة، بل أن نأخذ تلك التطوّرات الكيفيّة ونستعين بها في سبيل تحديد كمّي وتوسيع عرضي اُفقي، لكي تجيء الصورة في الفقه مطابقة للرسالة، وهذه العمليّة ليست بالعمليّة الهيّنة.

قد يتصوّر بعض الناس أنّ هذه العمليّة لا تحتاج إلاّ إلى شخص يستطيع أن يستوعب ما قاله الفقهاء بكتبهم الصفراء المطبوعة بالطبعة الحجريّة ثمّ ينقل أقوالهم إلى لغة حديثة يطبعها على ورق أبيض في المطابع الحديثة.

إنّ القصّة ليست بهذه البساطة والسذاجة أ يّها الإخوان، وإن تصوّرها كذلك كثيرٌ من البسطاء والساذجين. إنّ ما نشعر بالحاجة إليه وبضرورته في الفقه الإسلامي ليس هو فقط أن نغيّر من لغة التعبير، أو أن نغيّر من الورق الذي نطبعه عليه، أو أن نستبدل المطابع الحجريّة بمطابع الحروف، بل لا بدّ من إحداث تطوير في البناء الفقهي نفسه، لا بدّ من اتّخاذ عمليّة تطوير في البناء الفقهي نفسه، لا بدّ من توسيع فقهي في هذا البناء. هذا الانكماش في الأبعاد الفقهيّة لا بدّ من القضاء عليه ، لا بدّ وأن نعطي الإسلام في الفقه صورة، هذه الصورة تكون على مستوى العالم الحديث. ولا أقصد أنّها على مستوى العالم الحديث أي أنّها على مستوى اللغة والتعبير، أو في الطبع على الورق الأبيض أو بمطابع الحروف، بل أقصد بذلك أنّها على مستوى حاجات هذا العالم، على مستوى ما يتطلّبه حلّ مشاكل هذا العالم، على مستوى القضايا الكثيرة المطروحة أمام الإنسانيّة اليوم، والتي عالجتها المذاهب البشريّة الفاسدة بعلاجات مختلفة متناقضة.

أ تعلمون كم كان صعباً وكم أحسست بالصعوبة حينما حاولت أن أستخلص النظام الاقتصادي للإسلام من الفقه الإسلامي؟!

حينما بدأتُ هذه المحاولة رأيت أنّ الفقه الإسلامي بحاجة إلى عمليّة توسيع أفقي، وأمّا الفراغات الكثيرة الكثيرة التي تركها الفقهاء بسبب اتّباعهم النهج المحدّد الموروث الذي لا يزيد ولا ينقص، تلك الفراغات التي تركوها بسبب اتّباعهم منهجا تقليديّاً محدّداً، هذه الفراغات لا بدّ أن تملأ فقهيّاً، وملؤها فقهيّاً عمل صعب عسير جدّاً؛ لأنّها مناطق جديدة يجب أن تغذّى بالفكر الفقهي؛ لأنّها أراضٍ بكرٌ يدخلها الباحث الفقهي ويكتشفها لأوّل مرّة، وهذا يزيد من الصعوبة والخطورة، [ ويحتّم لممارسة] هذا العمل وجود ذهنيّة فقهيّة في درجة عالية من الدقّة، وإنّ الشخص أو الأشخاص الذين يستطيعون أن يقوموا بالتوسيع الأفقي للعمل الفقهي هم أولئك الذين بلغوا الذروة في التطوّر الفكري، بلغوا الذروة في الامتداد العمودي.

هؤلاء الذين بلغوا الذروة في التطوّر الفكري، في الامتداد العمودي الفكري، هؤلاء هم الذين يمكنهم على مرّ الزمن أن يطوّروا، أن يوسّعوا أفقيّاً، وتكون التوسعة أفقيّاً بنفس الدرجة من العمق والدقّة، تتمتّع بنفس الضمانات التي تمتّع بها الفقه في حدوده التقليديّة»((ومضات، الصفحات 379 ـ 381.)).

طبعاً، إذا كان يظهر من هذا النصّ رضا الشهيد الصدر عن البُعد العمودي للدرس الفقهي بسبب تركيزه على البعد الافقي، فقد نصّ في نصوصه المتقدّمة على أنّ «البحث الفقهي سار في الاتّجاه الموضوعي ولكنّه لم يستنفد أيضاً طاقة الاتّجاه الموضوعي، والبحث الفقهي اليوم مدعوّ أيضاً إلى أن يستنفد طاقة هذا الاتّجاه الموضوعي أفقيّاً وعموديّاً»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 36 ـ 37.)).

وعاد ليكرّر الدعوة إلى اعتماد الامتداد الأفقي في البحث الفقهي بموازاة الامتداد العمودي في أطروحته التي قدّمها تحت عنوان (الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد) والتي كتبها وألقيت باسمه سنة 1966 في الرابطة الأدبيّة في النجف الأشرف:

«والامتداد العمودي الذي يعبّر عن الدرجة العالية من الدقّة التي وصل إليها الفكر العلمي يتحوّل في سيره إلى الامتداد الأفقي ليستوعب كلّ مجالات الحياة. وسوف يتحوّل الاتّجاه نحو تبرير التعامل مع الواقع الفاسد إلى اتّجاه جهادي نحو تغيير الواقع الفاسد وتقديم البديل الفكري الكامل عنه من وجهة نظر الإسلام، وسوف يمحى في مفهوم حركة الاجتهاد أيّ تصوّر ضيّق للشريعة، ويزول من الذهنيّة الفقهيّة، وتزول كلّ آثاره وانعكاساته على البحث الفقهي والأصولي»((ومضات، الصفحتان 479 ـ 480.)).

وعلى ضوء هذه النصوص نجد بوضوح أنّ الهمّ الذي طرحه الشهيد الصدر حول النهوض بالدرس التفسيري من خلال التشبّع بالواقع والتوحيد بينه وبين النصّ القرآني من أجل الخروج بمركّب نظري قرآني يعبّر عن موقف القرآن تجاه الواقع ـ أو بحسب تعبيره عن موقف السماء تجاه تجربة الأرض((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 32.)) ـ كان قد عاشه بالنسبة إلى البحث الفقهي؛ فإنّ الدرس الفقهي امتاز عن الدرس القرآني باتجاهه المبكر نحو دراسة المسائل دراسة موضوعيّة؛ حيث دفعته الحياة إلى تصنيف الروايات على ضوء الموضوعات التي تثيرها الحياة، ولكنّه لم يتخطّ هذه المرحلة إلى مرحلة التشبّع من الواقع والتجارب البشريّة وحملها على نصوص الفقه من أجل الخروج بمركّب نظري فقهي يعبّر عن موقف الفقه تجاه الموضوع محلّ البحث.

وهذا في الحقيقة هو ما تفاداه الشهيد الصدر في كتاب (اقتصادنا)، الذي ألمحنا مراراً إلى أنّه يعبّر بوضوح عن النموذج الموضوعي الصدري في مجال الفقه؛ حيث تشبّع الصدر من عطاءات التجربة البشريّة ـ الرأسماليّة والاشتراكيّة ـ في مجال الملكيّة وما يرجع إلى مفردات المذهب الاقتصادي، ثمّ حمل هذه التجربة على مصادر الشريعة التي يُستنبط منها الموقف الفقهي، فحاول الخروج بمركّبات نظريّة تعبّر عن المذهب الاقتصادي الإسلامي من هذه المفردات.

ويكفي في مقام التدليل على الإبداع الذي يحقّقه المعنى الذي طرحه الشهيد الصدر حول الموضوعيّة أنّه لو كان قد حاول اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام وهو خالي الذهن عن التجارب البشريّة في واقعنا المعاصر وموافقها المعرفيّة من مختلف المفردات، لما أتت تجربته الفقهيّة الفذّة المودعة في كتاب (اقتصادنا) بذلك المستوى من التميّز والإبداع.

إشكال الشيخ الميبدي على تشبيه التجربة القرآنيّة بالتجربة الفقهيّة:

وقد أشكل الشيخ محمّد فاكر الميبدي على تشبيه الشهيد الصدر التفسيرَ الموضوعي القرآني بالتجربة الموضوعيّة في مجال الفقه واستنباط الحكم الشرعي، فقال:

«أما التجربة الحاصلة من توحيدية الفقه وموضوعيّته، فهي قيّمة، لكنّ الفرق بين الفقه والقرآن واضح؛ إذ الأحاديث لا تكوّن أمراً واحداً مدوّناً من قبل النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، وليست ذات اتصال واحد؛ لأنّها صدرت في طيّات الزمان وفق حاجة المسلمين وسؤالهم، خلافاً للقرآن؛ إذ ـ مع نزوله في أكثر من عشرين سنة ـ يشكّل أمراً واحداً منسجماً ذا أجزاء متصلة، لا سيما إذا قلنا بأنّ تدوينه كان في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ ولذا لا يجوز تغيير ترتيب القرآن، لا من حيث ترتيب الآيات، ولا من حيث ترتيب سوره، مع أنّ تغيير تدوين الأحاديث، بل وتغيير حجمها أمر ممكن، وبعبارة أخرى: قياس القرآن على الأحاديث في غير محلّه»((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحتان 240 ـ 241.)).

وهذا الإشكال في غاية الغرابة؛ إذ لا يكفي عدم التشابه بين التجربتين من بعض الوجوه، بل يتوجّب على المستشكل أن يبرهن على انتفاء وجه الشبه بين التجربتين في ما يقوم عليه التفسير الموضوعي، وهو ما لا نلحظه في كلام المستشكل؛ فقد فرّق بين القرآن الكريم وبين الأحاديث على أساس أنّ القرآن الكريم يكوّن أمراً واحداً، فلا يجوز تغيير ترتيب سوره وآياته، بخلاف الأحاديث، ثمّ توقّف عند هذه النقطة ولم يبيّن الأثر الذي يترتّب على هذا الفارق.

هذا إذا سلّمنا بما ذكره بالنسبة إلى القرآن الكريم والأحاديث:

أمّا القرآن الكريم، فعدم جواز تغيير ترتيب سوره محلّ كلام على كلّ حال.

وأمّا الأحاديث، فإنّنا لا نتحدّث فعلاً عن فارقها مع القرآن الكريم من حيث القطع بصدورها أم لا؛ فإنّ ذلك موكولٌ إلى المنهج الذي يختاره المفسّر في مرحلة مسبقة. وعدم اجتماعها في كتاب واحد على نسق القرآن الكريم لا يضرّ بما نحن فيه؛ لأنّها تستوي مع الآيات الكريمة في إمكان حمل بعضها على بعض وتخصيص عامّها بخاصّها، وتقييد مطلقها بمقيّدها، وتفسير محكومها بحاكمها ومورودها بواردها..

وهل يعني كون القرآن الكريم وحدة واحدة أنّ كلّ آياته بمثابة القرائن المتّصلة بالنسبة إلى بعضها البعض، فينعقد ظهورٌ لكلّ آية وفق قرائنها المتّصلة ابتداءً، بخلاف الروايات التي تحمل على بعضها ـ بحسب الغالب ـ على حدّ القرائن المنفصلة، بحيث ينعقد لها ظهور ثمّ ينهدم في مرحلة لاحقة على وفق المنفصل من القرائن، ليكون ذلك هو الفارق الجوهري بين القرآن والحديث؟!

فهذا الإشكال غير مفهوم حقّاً، ولهذا لم يصادق عليه بعض الباحثين((الأستاذ أحمد الأزرقي، منهج السيّد محمّد باقر الصدر في فهم القرآن، الصفحة 379.))، وإن لم ينسب الإشكال إلى الشيخ الميبدي، ولكنّه ناظرٌ إليه قطعاً؛ لاستحضاره المتن السابق نفسه.

الباب السادس

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري استكمال معالم المنهج

مشروعيّة التفسير الموضوعي:

من الموضوعات المهمّة التي قد تثار لدى حديثنا عن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم شرعيّة هذه العمليّة وصحّتها من ناحية إسلاميّة. وقد أرجأنا طرح هذه المسألة إلى هذا الموضع ريثما تتّضح معالم الأطروحة بشكل مفصّل؛ باعتبار أنّ هذا أولى من طرحها في جوٍّ من الضبابيّة وعدم الوضوح.

وقد دفع هذا الأمر بالعديد من الباحثين إلى إفراد مساحة معيّنة لدراسة مسألة مشروعيّة ممارسة التفسير الموضوعي، وخصّص آخرُ ثلاثين أصلاً تثبت شرعيّة هذه العمليّة((راجع أدلّة المعارضين والمؤيّدين على التوالي في: الدكتور توفيق العلوان، فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحات 143 ـ 160 و161ـ 258. وراجع: السيّد هدايت جليلي، تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها (فارسي)، الصفحات 64 ـ 81؛ عمران عباس پور، تفسير موضوعی بررسی و نقد دلايل مخالفان (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 107، الصفحة 111 ـ 118؛ حسن صادقى، تفسير موضوعی و دلايل امکان وضرورت آن (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 107، الصفحات 92 ـ 96.))، ثمّ أفرد قسماً خاصّاً للدفاع عن مشروعيّة النوع الأشهر منه ـ وهو ما اعتبره الدكتور مصطفى مسلم «المشهور في عرف أهل الاختصاص» ـ مستدلّاً بمجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث والأقوال((الدكتور توفيق العلوان، فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، الصفحات: 452 ـ 480.)).

وفي هذا السياق قدّم بعضهم جملة من المباني المشرعنة لعمليّة التفسير الموضوعي، من قبيل: جامعيّة القرآن الكريم لكلّ شيء، التوافق والانسجام وانتفاء الاختلاف بين آياته، تعدّد مستويات المعنى القرآني وإمكانية تعميق المعنى القرآني((أ.رياض الأخرس والدكتور كاظم قاضي زاده، التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيته، علاقته بأنواع التفاسير الأُخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، الصفحة 276.)).

وسيحتّم علينا ما رمناه من اختصار هذه الدراسة عدم الدخول مفصّلاً في أدلّة المدافعين والرافضين، ولكن قد تكفي الإشارة إلى مسألة يُمكن أن تمثّل روح الحلّ، وهي أنّ القرآن الكريم قد نزل نجوماً لأنّ طبيعة الدعوة كانت تقتضي هذا التنجيم، ومقتضيات الدعوة استدعت التجزئة والتفريق في المواضيع التي بحث عنها القرآن الكريم. ولكن بعدما تمّت رسالة القرآن واستكملت النفوس، أصبح من الواجب على المفسّر أن يبذل جهده لربط الآيات وإيصال بعضها ببعض((السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحي، المدخل إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الجزء 1، الصفحة 7.)).

فالقرآن الكريم يختلف في أسلوب النظم والتأليف عمّا هو متعارف في عمليّات التأليف والتصنيف؛ فإنّه نزل على مدى ثلاثة وعشرين عاماً وفقاً للحاجات والظروف الاجتماعيّة المختلفة والوقائع المتباينة، والمراحل التربويّة المتفاوتة، وما كان يكمّل المسيرة التكامليّة للإنسان هو تنزّل الآيات المناسبة وصدور الأوامر اللازمة((الشيخ ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، نفحات القرآن، الجزء 1، الصفحة 8 ـ 9.)).

أمّا رؤية الشهيد الصدر، فيفترض أن تكون قد اتّضحت من خلال ما استعرضناه سابقاً لدى حديثنا عن الخلفيّة الفكريّة لأطروحته في التفسير؛ حيث لاحظنا موازنته بين خصيّصتي الشموليّة والواقعيّة في الفكر الإسلامي من ناحية، وبين توحّد القرآن الكريم في كونه مرجعيّة البناء والتغيير، وكونه في الوقت نفسه غير محدود العطاء وقادراً على تمثيل المرجعيّة الربانيّة دون نفاد، ولهذا قال:

«ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً، قدرته على العطاء المستجدّ دائماً، قدرته على الإبداع دائماً; لأنّ المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ، طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية، بينما القرآن الكريم دلّت الروايات على أنّه لا ينفد، وصرّح القرآن الكريم بأنّ كلمات الله لا تنفد..

إذاً، هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن التي نصّ عليها القرآن نفسه ونصّت عليها أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، هذه الحالة من عدم النفاد تكمن في هذا المنهج، في منهج التفسير الموضوعي; لأنّنا نستنطق القرآن، وإنّ في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي; لأنّ في القرآن دواء دائنا، لأنّ في القرآن نظم ما بيننا، لأنّ في القرآن ما يمكن أن نستشفّ منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 31 ـ 32.)).

وإذا أردنا تمثّل المبدأ الذي ارتكز إليه الشهيد الصدر (قدّس سرّه) عند حديثه عن ضرورة دراسة حياة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) دراسة شموليّة؛ فسنجد أنّ العقيدة التي تفرض هناك ضرورة وجود دور مشترك مارسه الأئمّة (عليهم السلام) جميعاً((أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، الصفحة 55.))، تفرض هنا قدرة القرآن الكريم ـ وهو مصدر التربية الربانيّة وخزّان تشريعاتها ـ على مواكبة الحياة المتجدّدة ولعب دور مرجعيّتها العليا.

ولكن إلى جانب ذلك يُمكننا استحضار جوابين فرعيّين للشهيد الصدر:

الجواب الأوّل: ذكره في مقام الإجابة عن سبب عدم تفسير رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للقرآن الكريم كلّه؟ حيث يقول:

«وقد لا نجد حلاًّ منطقيّاً أقرب إلى القبول من القول بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) فسّر القرآن الكريم على مستويين: فقد كان يفسّره على (المستوى العام) في حدود الحاجة، ومتطلّبات الموقف الفعلي، ولهذا لم يستوعب القرآن كلّه. وكان يفسّره على مستوى خاص تفسيراً شاملاً كاملاً بقصد إيجاد من يحمل تراث القرآن، ويندمج به اندماجاً مطلقاً بالدرجة التي تتيح له أن يكون مرجعاً بعد ذلك في فهم الأمّة للقرآن، وضماناً لعدم تأثّر الأمّة في فهمها بإطارات فكريّة خاصة ومسبقات ذهنيّة، أو رواسب جاهليّة»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 323.)).

الجواب الثاني: ذكره في مقام الإجابة عن سبب عدم تقديم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفسيرَ القرآن الكريم على نحو نظريّات. وهنا يقول:

«إنّنا نجد بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يعطِ هذه النظريّات على شكل نظريّات محدّدة وبصيغ عامّة، وإنّما أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين. ما الضرورة إلى أن نتعب أنفسنا في سبيل تحصيل هذه النظريّات وتحديدها بعد أن لاحظنا أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) اكتفى باعطاء هذا المجموع هذا الكلّ المتراكم بهذا الشكل؟ ما الضرورة إلى أن نستحصل هذه النظريّات؟

الحقيقة أنّ هناك اليوم ضرورة أساسيّة لتحديد هذه النظريّات ولتحصيل هذه النظريّات، ولا يمكن أن يفترض الاستغناء عن ذلك. النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يعطي هذه النظريّات ولكن من خلال التطبيق، من خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبنيه في الحياة الإسلاميّة، فكان كلّ فرد مسلم في إطار هذا المناخ، كان يفهم هذه النظريّة ولو فهماً إجماليّاً ارتكازيّاً؛ لأنّ المناخ والإطار الروحي والإجتماعي والفكري والتربوي الذي وضعه النبي (صلّى الله عليه وآله) كان قادراً على أن يعطي النظرة السليمة، والقدرة السليمة على تقويم المواقف والمواقع والأحداث.

إذا أردنا أن نقرّب هذه الفكرة نقول: قايسوا بين حالتين: حالة إنسان يعيش في داخل عرف لغة من اللغات، وإنسان يريد أن يفهم بأنّ أبناء هذه اللغة، أبناء هذا العرف كيف تنتقل أذهانهم إلى المعاني من الألفاظ؟ وكيف يحدّدون المعاني من الألفاظ؟

هنا توجد حالتان: إحداهما أن نأتي بهذا الإنسان ونجعله يعيش في أعماق هذا العرف، في أعماق هذه اللغة. إذا جعلته يعيش في أعماق هذا العرف وفي أعماق هذه اللغة، واستمرّت به الحياة في أطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن، سوف يتكوّن لديه الإطار اللغوي، الإطار العرفي الذي يستطيع من خلاله أن يتحرّك ذهنه وفقاً لما يريده العرف واللغة منه؛ لأنّ مدلولات اللغة وقواعد اللغة تكون موجودة وجوداً إجمالياً ارتكازيّاً في ذهنه.

النظرة السليمة، التقييم السليم للكلمة الصحيحة وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة، يكون موجوداً عنده باعتبار أنّه عاش عرف اللغة، عاش وجدانها، عاش إطارها، عاش تطبيقها، بينما إذا كان الإنسان خارج مناخ تلك اللغة، خارج عرف تلك اللغة وأردت أن تُنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح، كيف تستطيع أن تُنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح؟ يكون ذلك عن طريق الرجوع إلى قواعد تلك اللغة.

حينئذ لا بدّ وأن ترجع إلى ذلك العرف الذي تربّى فيه ذلك الإنسان، ترجع إلى ذلك العرف لكي تستنتج منه القواعد العامّة، النظريّات العامّة. نفس ما وقع بالنسبة إلى علوم العربيّة.

كيف أنّ ابن اللغة لم يكن بحاجة إلى أن يُعلّم علوم العربيّة في البداية; لأنّه كان يعيش في أعماق عرف اللغة. لكن بعد أن ابتعد عن تلك الأعماق، بعد أن اختلفت الأجواء، بعد أن ضعفت اللغة، بعد أن تراكمت لغات أخرى اندسّت إلى داخل حياة هؤلاء، بدأ هؤلاء [يحسّون] بحاجة إلى علم للّغة، بدؤوا [يحسّون] بحاجة إلى نظريّات للّغة; لأنّ الواقع لا يسعفهم بنظرة سليمة، فلا بدّ إذاً من علم، لا بدّ من نظريّات لكي يفكّروا، ولكي يناقشوا، ولكي يتصرّفوا لغويّاً وفقاً لتلك القواعد والنظريّات.

هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة.

إذاً، الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) إذا كانوا لم يتلقّوا النظريّات بصيغ عامّة، فقد تلقّوها تلقّياً إجماليّاً ارتكازيّاً، انتقشت في أذهانهم، سرت في أفكارهم. كان المناخ العام، الإطار الإجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كلّه كان إطاراً مساعداً على تفهّم هذه النظريّات ولو تفهّماً إجماليّاً، وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم.

أمّا حيث لا يوجد ذلك المناخ، أمّا حيث لا يوجد ذلك الإطار، فإذاً تكون الحاجة إلى النظريّات ـ يعني الحاجة إلى دراسة لنظريّات القرآن والإسلام ـ تكون حاجة حقيقيّة ملحّة، خصوصاً مع بروز نظريّات عديدة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكلّ ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوّعة في مختلف مجالات المعرفة البشريّة.

حينما وقع هذا التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريّات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لا بدّ لكي يحدّد موقف الإسلام من هذه النظريّات، كان لا بدّ وأن يستنطق نصوص الإسلام، لا بدّ وأن يتوغّل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقيّة سلباً وإيجاباً، لكي يكتشف نظريّات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشريّة الذكيّة في مختلف مجالات الحياة»((المصدر نفسه، الصفحات 39 ـ 42.)).

مبرّرات الشهيد الصدر في اختيار منهج التفسير الموضوعي:

لا بدّ لنا ونحن نتحدّث عن مبرّرات التفضيل والاختيار أن أن نميّز بين المبرّرات الموضوعيّة وبين المبرّرات الذاتيّة.

ونقصد بالمبرّرات الموضوعيّة لتفضيل أطروحة التفسير الموضوعي المبرّرات العلميّة التي تدعو الباحث إلى اختيار تلكم الأطروحة، وذلك بلحاظ ما لهذا المنهج من آثار وفوائد.

ونقصد بالمبرّرات الذاتيّة المبرّرات التي قد تدعو الباحث إلى تطبيق وإعمال هذا المنهج دون ذاك نظراً لظرفه الخاص.

وإذا رجعنا إلى أطروحة الشهيد الصدر فسنرى أنّه ذكر نوعين من المبرّرات التي دعته إلى تفضيل أطروحة التفسير الموضوعي:

النوع الأوّل: المبرّرات الموضوعيّة، وهي عبارة عن الفوائد العلميّة والاجتماعية وغيرها ممّا لا يرجع إلى شخص المفسّر وظرفه؛ فقد خلص الشهيد الصدر في دراسته إلى أنّ «التفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتّجاهين في التفسير»((المصدر نفسه، الصفحة 42.))، «فإنّ المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون أوسع أفقاً وأرحب وأكثر عطاءً، باعتبار أنّه يتقدّم خطوة على التفسير التجزيئي. كما أنّه قادر على التجدّد باستمرار، على التطوّر والإبداع باستمرار، باعتبار أنّ التجربة البشريّة تغني هذا التفسير بما تقدّمه من مواد، ثمّ هذه المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع هذا المفسّر أن يحصّل الأجوبة من القرآن الكريم. هذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريّات الأساسيّة للإسلام وللقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة»((المصدر نفسه، الصفحة 39.)).

ولا يسعنا هنا تعداد الفوائد التي يُرجى من التفسير الموضوعي تحقيقها، ولكنّنا نسجّل هذين التميّزين:

1 ـ تميّز التفسير الموضوعي بخروجه بمركّب نظري تجاه موضوع من الموضوعات، سواءٌ الداخليّة التي يُمكن إثارتها من خلال النص القرآني لوحده، أم الخارجيّة التي تثيرها تجارب البشر.

2 ـ تميّز التفسير الموضوعي ـ خاصّةً بالمعنى الصدري ـ بكونه أقدر من التفسير التجزيئي على إظهار قيمومة القرآن الكريم على المسيرة الإنسانيّة؛ باعتبار قدرة التفسير الموضوعي «على أن يتطوّر، على أن ينمو، على أن يثرى؛ لأنّ التجربة البشرية تثريه من ناحية، ثم الدرس القرآني والتأمّل القرآني على ضوء التجربة البشريّة يجعل هذا الثراء محوّلاً إلى فهم إسلامي قرآني صحيح»((المصدر نفسه، الصفحة 32.)).

النوع الثاني: المبرّرات الذاتيّة، وهي عبارة عن الظروف التي دعت الشهيد الصدر في ممارسته لعمليّة لتفسير أن يختار عمليّة التفسير الموضوعي على الرغم من مصادقته على أهميّة التفسير التجزيئي في توضيح العناصر التي ستشكّل فيما بعد الأجزاء العضويّة للمركّب النظري المستخرج في مرحلة التفسير الموضوعي. قال الشهيد الصدر:

«الآن أودّ أن أذكر مبرّراً عمليّاً، وهو أنّ شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدّاً; لأنّه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل إكماله إلى فترة زمنيّة طويلة أيضاً، ولهذا لم يحظَ من علماء الإسلام الأعلام إلّا عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته.

ونحن نشعر بأنّ هذه الأيّام المحدودة المتبقيّة لا تفي بهذا الشوط الطويل، ولهذا كان من الأفضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع أن نكمّل بضعة أشواط من هذا الجولان في رحاب القرآن الكريم.

من هنا سوف نختار موضوعات متعدّدة من القرآن الكريم، ونستعرض ما يتعلّق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء. وسوف نحاول أن يكون البحث مضغوطاً بقدر الإمكان؛ لكي نستطيع أن نصل إلى عدد من المواضيع المهمّة، فنقتصر على الأفكار الأساسيّة والمبادئ الرئيسيّة بالنسبة إلى كلّ موضوع. وسوف أحرص على أن لا يستوعب كلّ موضوع إلّا عدداً محدوداً من المحاضرات، أرجو أن يكون بين خمس محاضرات إلى عشر محاضرات؛ لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوّعة من القرآن الكريم»((المصدر نفسه، الصفحتان 45 ـ 46.)).

وقد كان الشهيد الصدر ناظراً في كلامه هذا ـ وفي شعوره بأنّ الأيّام المتبقيّة له في هذه الحياة معدودة ومحدودة ـ إلى الظرف الخانق الذي عاشه في ظلّ طاغية العراق آنذاك، حيث كان متأكّداً ـ وفقاً للمعطيات السياسيّة الموضوعيّة وغيرها ـ أنّه لن يعمّر كثيراً، وبأنّ عمره القصير هذا لن يسمح له بممارسة تجربة تفسيريّة تجزيئيّة، ولهذا أحبَّ أن يقدّم تجربةً موضوعيّة تستطيع أن تستعرض جملةً من الموضوعات المهمّة خلال فرص زمنيّة محدودة.

طبعاً عندما نصف هذا المبرّر بالذاتي فلا نعني انحصاره بالشهيد الصدر وعدم انطباقه على غيره، بل يعني رجوع القرار في سلوك أيٍّ من الطريقين إلى المفسّر نفسه بحسب الظرف الذي يعيشه، إلّا أن ينقلب هذا المبرّر إلى موضوعي باعتبار عدم تمكّن نوع المفسّرين من إكمال الشوط التفسيري التجزيئي الطويل.

وعلى كلّ حال، فما أحببنا التنبيه عليه هو أنّ الشهيد الصدر كان يعني من كلامه هذا ظرفه الخاص الذي كان يمرّ به، ولهذا قال: «ونحن نشعر بأنّ هذه الأيّام المحدودة المتبقيّة لا تفي بهذا الشوط الطويل»، ثمّ رتّب على ذلك النتيجة.

طبعاً كان الشهيد الصدر قد مارس سابقاً محاولات موضوعيّة مختصرة، من مقالاته الثلاث في مجلّة (الأضواء) كما ألمحنا في ثنايا هذه الأطروحة، وكذلك بالتزامن مع انتصار الثورة حيث قدّم (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).

وقفة مع ملاحظات الشيخ محمّد فاكر الميبدي:

وقد سجّل الشيخ محمّد فاكرالميبدي ثلاث ملاحظات على كلام الشهيد الصدر الذي نحن فيه:

الملاحظة الأولى: «إنّ موضوع التفسير التجزيئي هو القرآن كلّه، من ابتدائه إلى نهايته، وهذا ما يظهر من كلام السيد الصدر في وجه إيثاره التفسير الموضوعي على التجزيئي، وذلك بقوله: إنّ شوط التفسير التقليدي [التجزيئي] شوطٌ طويل جداً؛ لأنه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس، كما يُشعرنا به ما مرّ من تعريف هذا الاتجاه، فهذا الشوط الطويل ـ أعني القرآن كلّه بآياته ومعارفها العديدة ـ هو الموضوع في الاتجاه التجزيئي، بخلاف التفسير الموضوعي؛ فإنّ موضوعه ليس سوى الموضوع المبحوث عنه.

هذا إذا اعتبرنا الآيات القرآنية كلّها مع سعتها وكثرتها، متجهة ناحية موضوع واحد بسيط من الموضوعات القرآنيّة، وأما إذا اعتبرنا الآيات كلّها موضوعاً واحداً للتفسير التجزيئي تجاه الموضوعات العديدة في التفسير الموضوعي لانعكس الأمر، بمعنى أنّ للتفسير التجزيئي موضوعاً واحداً وللتفسير الموضوعي موضوعات عديدة»((الشيخ محمّد فاكر الميبدي، التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحات 235 ـ 236.)).

والحقيقة أنّني لم أواجه في هذه الأطروحة إشكالاً أغرب من هذا الإشكال، واحترت في اختيار الجواب المناسب، وهل سيفضي تغيير الاعتبار إلى تقصير التجربة التجزيئيّة وتطويل الموضوعيّة؟

لذا أكتفي بإعادة التذكير بأنّ المبرّر المذكور مبرّر ذاتي مرتبط بظرف الشهيد الصدر الخاص، وليس موضوعيّاً مرتبطاً بنوع المفسّرين، فلا يتأتّى الإشكال.

ثمّ إنّنا لو حاولنا تعقّل الإشكال بوجهٍ من الوجوه، نسأل المستشكل: إذا قال لك قائل: لا أملك متّسعاً من الوقت للأكل، فهل كان ليقول له: إذاً كُل بقرةً واحدةً ولا تأكل خمسة عصافير؟!

الملاحظة الثانية: «أمّا قضية طول الشوط وعدم الاستطاعة على إكماله، فهي وإن كانت أمراً مسلّماً في بعض الأحيان، لكنّها لا توجب ـ على الحتم ـ إيثار الاتجاه الموضوعي على التجزيئي؛ إذ لو اختار المفسّر سورةً من سور القرآن التي ركّزت على موضوع واحد ـ مع ما فيها من المعارف العديدة الأخرى ـ كسورة لقمان أو الحجرات أو الطلاق أو غيرها ـ ثمّ استعان في تفسيرها بآيات أخرى، لأمكنه إكمال عدد من المواضيع المهمّة، وبهذا يجمع بين الاتجاهين في التفسير»((المصدر نفسه، الصفحة 240.)).

وهنا نعود لنذكّر بأنّ المبرّر المذكور ذاتي وليس موضوعيّاً، ونذكّر كذلك بأنّ الشهيد الصدر أوضح في بداية محاضراته أنّ محطَّ نظره في التفسير التجزيئي هو التفسير التجزيئي في أغنى صوره، وهو الذي تناول القرآن الكريم بين الدفّتين.

الملاحظة الثالثة: «والمراد بالأفضليّة هنا تقديم أحدهما على الآخر إذا لم يسع الوقت لتفسير القرآن كلّه أو تبيين المواضيع كلّها، فيدور أمر المفسّر بين تفسير قطعات من القرآن، وشرح موضوع من موضوعاته، وعلى ما قاله الشهيد الصدر، يكون التفسير الموضوعي التوحيدي هو الأفضل. أمّا على ما قلناه، فلعلّ تفسير قطعات القرآن أو على ما هو عليه الآن من بداية القرآن إلى نهايته أفضل، ويؤيّده سيرة النبي والأئمّة في تفسير القرآن، إلّا أن نشاهد فيها طريقةً أخرى»((المصدر نفسه، الصفحة 241.)).

وهذه الملاحظة في غاية الغرابة أيضاً، وهي كأخواتها في عدم تمييز المستشكل بين المبرّر الذاتي وبين المبرّر الموضوعي.

لكنّ في هذه الملاحظة ـ إضافةً إلى ما مرّ ـ تقزيماً لأطروحة الشهيد الصدر؛ فقد صوّره المستشكل وكأنّه لا يرى الانتقال إلى الاتجاه الموضوعي إلّا إذا لم يُتِح له ظرفه الزمني ممارسة البحث التجزيئي، فكأنّ الأطروحة ترفيّة هامشيّة تسبح في إطار الحلول البدليّة.

بينما ظهر من هذه الدراسة إلى أيّ مدى قد عبّرت هذه الأطروحة عن آمال الشهيد الصدر في إكمال مشروعه النهضوي، وكيف أنّها تشكّل نواة رئيسيّة في مشروعه التغييري لا يُمكن الاستغناء عنها، وأنّها تعبيرٌ حيٌّ عن تتويج الجهد التجزيئي بالتفسير من خلال إقحام عنصر الواقع في المعادلة، وهو العنصر الذي نزل القرآن الكريم لتغيير قبلته وتوجيهه نحو الله سبحانه وتعالى.

أمّا ما قامت عليه سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) فقد اتّضحت حيثيّاته في ما ذكرناه تحت عنوان (مشروعيّة التفسير الموضوعي).

عدم إغناء التفسير الموضوعي عن التفسير الترتيبي:

ربّما كان الوضوح بمكان أنّ أيّاً من المناهج التفسيريّة المتقدّمة لا يُغني عمّا عداه من المناهج الأخرى؛ فلا الترتيبي يُغني عن الموضوعي ولا العكس.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمّد الغزّالي: «وأنبّه إلى هذا التفسير الموضوعى لا يُغني أبداً عن التفسير الموضعى، بل هو تكميلٌ له وجهدٌ ينضمُّ إلى جهوده المقدورة»((الشيخ محمّد الغزّالي، نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، الصفحة 6.)).

وإذا لم يصرّح الغزّالي في نصّه المتقدّم بالطوليّة بين التفسير الموضعي والموضوعي في شأن الوحدة الموضوعيّة التي يتبنّاها، فذلك لا يمنعنا من الجزم بها على حدّ جزمنا بها في التفسير الموضوعي بلونه الآخر؛ لأنّ استخلاص الصورة الشمسيّة للسورة القرآنيّة بحسب تعبير الغزّالي ـ أو المحور بحسب العلاّمة الطباطبائي والشخصيّة بحسب سيّد قطب ـ ينتمي إلى مقولات الاستقراء والتتبّع، ومن الطبيعي أن لا يكون متاحاً في ظلّ غياب تفسير ترتيبي موضعي مشبع للآيات القرآنيّة نفسها؛ لأنّ التقاط هذه الصورة.

وقد اتّكأ الدكتور الخالدي ـ وبتصريحه ـ على رؤية الشهيد الصدر ليقرّر حقيقةَ أنّ «النوعين من التفسير: الموضعي والموضوعي مرحلتان متكاملتان وخطوتان متتابعتان متدرّجتان، لا يجوز أن نخطو الخطوة الثانية بمعزلٍ عن الأولى، ولا يجوز أن نصل إلى المرحلة الثانية دون تحصيل المرحلة الأولى»((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحة 44.)).

أمّا موقف الشهيد الصدر، فمن المفترض أن يكون قد اتّضح على ضوء ما قدّمناه في هذه الدراسة؛ إذ من الطبيعي أن يكون التفسير الموضوعي القائم على الخروج بمركّب نظري من مختلف النصوص التي تدور حول موضوع واحد متوقّفاً على القيام بتجربة تجزيئيّة مشبعة حول كلّ عضو من أعضاء المركّب النظري، ونعني به هنا الآية الكريمة.

وهذه الخصّيصة ليست مختصّةً بأطروحة التفسير الموضوعي، بل تشمل كلّ أطروحة تقوم على المركّبات النظريّة؛ لأنّ المركّب النظري يتوقّف على أجزائه العضويّة توقّف الكلّ على أجزائه.

ويحلو لنا هنا أن نستحضر أطروحة الشهيد الصدر حول دراسة حياة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما جاء في البحث الذي كتبه وألقي في الجلسة الخامسة للموسم الثقافي الأوّل لجمعيّة الرابطة الأدبيّة في النجف الأشرف سنة 1386هـ ـ 1966م حيث يقول:

«وهذا الاتجاه الذي اريد ان اتحدث اليكم عنه هو الذي يتناول حياة كل إمام، ويدرس تاريخه على اساس النظرة الكليّة بدلاً عن النظرة الجزئيّة، أي ينظر إلى الأئمّة (عليهم السلام) ككلٍّ مترابط ويدرس هذا الكلَّ ويكشف ملامحه العامّة وأهدافه المشتركة ومزاجه الأصيل، ويتفهّم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمّة جميعاً في الحياة الإسلاميّة.

ولا أريد بهذا أن لا ندرس حياة الأئمّة (عليهم السلام) على أساس النظرة الجزئيّة، دراسة كل إمام بصورة مستقلّة، بل إن هذه الدراسة الجزئيّة نفسها ضروريّة لإنجاز دراسة شاملة كاملة ملائمة ككلّ؛ إذ لا بد لنا أوّلاً أن ندرس الأئمّة بصورة مجزّئة تستوعب إلى أوسع مدى ممكن حياة كلّ إمام بكل ما تزخر به من ملامح وأهداف ونشاط، حتّى نتمكّن بعد هذا أن ندرسه ككلٍّ ونستخلص الدور المشترك للأئمّة (عليهم السلام) جميعاً، وما يعبّرون عنه من ملامح وأهداف وترابط»((أهل البيت.. تنوّع أدوار ووحدة هدف، الصفحة 141.)).

علماً بأنّ الوارد في طبعة أخرى لهذه المحاضرة: «ولا أريد بهذا أن أدرس حياة الأئمّة على أساس النظرة التجزيئيّة، أي دراسة كلّ إمام بصورة مستقلّة…»((أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، الصفحتان 53 ـ 54.))، وهو خطأ، والوارد في المحاضرة الصوتيّة المحفوظة بصوت الشهيد الصدر: «ولا أريد بهذا أن نرفض دراسة الأئمّة التجزيئيّة…..».

ولكنّ الشيخ علي كوراني نسب إلى الشهيد الصدر أنّه بشّر في هذه المحاضرات «بدراسة حياة الأئمّة (عليهم السلام) المجموعيّة التكامليّة بدل التجزيئيّة الإفراديّة..»((الشيخ علي كوراني، مسائل في البناء الفكري، الصفحتان 48 ـ 49.))، والحال أنّ ما ذكره الشهيد الصدر هو أنّه سيقوم في هذه المحاضرات بدراسة حياة الأئمّة على النحو المذكور، لا أنّه يدعو إلى دراستهم دراسة موضوعيّة تُغني عن الدراسة التجزيئيّة وتحلّ محلّها. كيف! وقد أكّد بنفسه على أنّ الدراسة الموضوعيّة لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن دراسة تجزيئيّة مشبعة.

وكما في محاضرات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أكّد الشهيد الصدر في محاضرات التفسير الموضوعي على المسألة نفسها، وذلك عندما قال:

«إذاً، فالتفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتّجاهين في التفسير، إلاّ أنّ هذا لا ينبغي أن يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي، هذه الأفضليّة لا تعني استبدال اتّجاه باتّجاه، طرح التفسير التجزيئي رأساً والأخذ بالتفسير الموضوعي، وإنّما إضافة اتّجاه إلى اتّجاه؛ لأنّ التفسير الموضوعي ليس إلّا خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي، ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي بالاتّجاه الموضوعي.

إذاً، فالمسألة هنا ليست مسألة استبدال وإنّما هي مسألة ضمّ، ضمّ الاتّجاه الموضوعي في التفسير إلى الاتّجاه التجزيئي في التفسير، يعني افتراض خطوتين: خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 42.)).

وأخيراً نسجّل هنا استغرابنا ممّا خلص إليه الشيخ محمّد فاكر الميبدي حين أوحى بتباين التفسير التفسير التجزيئي مع الموضوعي بنحوٍ لا يلتئم مع الطوليّة التي تحدّثنا عنها، وذلك حين اعتبر «أنّ التفسير الموضوعي يستطيع أن يقدّم لنا النظر النهائيّ للقرآن والإسلام، بخلاف التفسير التجزيئي، فهو غير قادر على ذلك إلّا بعد تفسير القرآن كلّه من بدايته إلى نهايته أوّلاً، ثم تركيب النظرات المتفرّقة الحاصلة من الآيات والسور ثانياً»((التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، الصفحة 235.))؛ فكأنّه يقول بإمكان تقديم التفسير الموضوعي الرأيَ النهائي للقرآن الكريم دون تفسير القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، وبإمكان تقديم التفسير التجزيئي رأيَ القرآن الكريم النهائي في المرحلة الثانية، مع أنّ المرحلة الثانية هي مرحلة التفسير الموضوعي نفسها؛ فكأنّه يقول: «إنّ التفسير الموضوعي يستطيع أن يقدّم لنا النظر النهائيّ للقرآن والإسلام، بخلاف التفسير التجزيئي، فهو غير قادر على ذلك إلّا بعد أن يصبح تفسيراً موضوعيّاً».

ونشير استطراداً إلى ما ذكره السيّد محمّد باقر الحكيم في دراسته حول التفسير الموضوعي من خصائص يتفرّد بها التفسير التجزيئي:

أوّلاً: يمكن من خلال المنهج التجزيئي معرفة الحالة التي كان يعيشها المجتمع في عصر النزول بشكل دقيق، وكذلك بعض الحالات الخاصة بالمجتمعات الأخرى.

ثانياً: معرفة طريقة وأسلوب معالجة القرآن الكريم لتلك الظواهر والحالات الاجتماعية الخاطئة من خلال دراسة المقطع القرآني الذي تعرض لهذه الحالات واستهدف معالجتها وتغييرها.

ثالثاً: تطبيق تلك الحالة المشخصة وطريقة معالجتها على الواقع المعاش في هذا العصر.

ولذلك خلص إلى أنّ دراسة القرآن الكريم دراسة تجزيئية سيكون لها دور في إحداث حالة تغييرية في المجتمع، من خلال التفاعل مع المفاهيم القرآنيّة، ومن خلال معرفة مصاديقها، ومعرفة تطبيقاتها المعاصرة التي نعيشها الآن((تفسيرسورة الحمد، الصفحتان 107 ـ 108، التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 12، الصفحتان 47 ـ 48.)).

الفصل بين الاتّجاهين التجزيئي والموضوعي ليس حدّيّاً:

«وينبغي أن يكون واضحاً أنّ الفصل بين الاتّجاهين المذكورين ليس حدّياً على مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخيّة لعمليّة التفسير; لأنّ الاتّجاه الموضوعي بحاجة طبعاً إلى تحديد المدلولات التجزيئيّة للآيات التي يريد التعامل معها ضمن إطار الموضوع الذي يتبنّاه، كما أنّ الاتّجاه التجزيئي قد يعثر في أثناء الطريق على حقيقة قرآنيّة من حقائق الحياة الأخرى.

ولكنّ الاتّجاهين على أيّ حال يظلاّن على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما وأهدافهما وحصيلتهما الفكريّة»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 24.)).

ليست كلّ عمليّة تجميع تفسيراً موضوعيّاً:

قد يخال المرء في عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة من مظانّها المعتبرة أنّ العمليّة لا تتعدّى كونها تجميعاً للنصوص محلِّ الحاجة، إلى جانب الضبط النظري للقواعد الأصوليّة التي يُلجأ إليها في مقام استنباط الحكم الشرعي.

وقد تعرّض الشهيد الصدر في كتاباته الأصوليّة لهذه المسألة، ثمّ دفعها بالقول:

«ولكنّ هذا التصوّر خاطئ إلى درجة كبيرة؛ لأنّ المجتهد إذا مارس العناصر المشتركة لعمليّة الاستنباط وحدّدها في علم الأصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظريّاتها العامّة على العناصر الخاصّة، والتطبيق مهمّة فكريّة بطبيعتها تحتاج إلى درس وتمحيص، ولا يغني الجهد العلميّ المبذول أصوليّاً عن بذل جهد جديد في التطبيق.

فلنفرض مثلاً أنّ المجتهد آمن في علم الأصول بحجّية الظهور العرفي، فهل يكفيه أن يضع إصبعه على رواية عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ـ مثلاً ـ ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب ؟

أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العامّ ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفيّ من قرائن وأمارات داخل إطار النصّ أو خارجه لكي يتمكّن بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي؟!

وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عمليّة الاستنباط ليس مجرّد عمليّة تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريّات الأصوليّة، وتطبيق النظريات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته، ومجرّد الدقّة في النظريّات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها»((دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، الصفحتان 52 ـ 53.)).

وهو بالتحديد ما أعاد إثباته وهو بصدد الحديث عن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وذلك في مقام دفعه لتصوّرٍ قد يتكوّن لدى البعض جرّاء حديثنا عن استخلاص المركّب النظري من جزئيّات النصوص، حيث قد يظنّ بعضٌ أنّ عمليّة التفسير الموضوعي لا تتعدّى كونها تجميعاً لهذه النصوص، أو أنّ منها بعض الدراسات القرآنيّة التي تدور حول موضوع معيَّن، فنراه هنا يقول:

«وأمّا ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمّى بالتفسير الموضوعي أحياناً من قبيل دراسات بعض المفسّرين حول موضوعات معيّنة تتعلّق بالقرآن الكريم ـ كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن ـ فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده؛ فإنّ هذه الدراسات ليست في الحقيقة إلّا تجميعاً عدديّاً لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه.

وفي كلمة أخرى: ليست كلّ عمليّة تجميع أو عزل دراسة موضوعيّة، وإنّما الدراسة الموضوعيّة هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة وتتّجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 27.)).

تفسير القرآن بالقرآن شعبة من شعب التفسير التجزيئي:

استعرضنا في الفصل الثاني وباختصار موقف الباحثين من إدخال مصادر الإسلام غير القرآنيّة في عمليّة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ولم نبحث ذلك ضمن هذا الفصل باعتبار أنّ الشهيد الصدر لم يُفرد مساحةً من أطروحته لمعالجة هذه المسألة، وإن كان قد اشترط في المفسّر أن يحسم موقفه حول دور السنّة في تفسير القرآن الكريم، إلى جانب غيرها من الأدوات((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 312.)).

وسنسجّل في المقام ملاحظتنا حول غياب العنصر الروائي عن أطروحة الشهيد الصدر، سوى في موردٍ واحدٍ حضر فيه النصّ العلوي على هامش البحث((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 179.))، ونقل روايةً حول سبب نزول آيةٍ في بحث آخر((المدرسة القرآنيّة، العمل الصالح، الصفحة 341.)).

كما لا يفوتنا أن نسجّل عبارةً أخرى لم نتعرّض لها في الفصل الثاني لدى استعراضنا لمحاولة التمييز بين موقف القرآن الكريم وبين موقف الشريعة الإسلاميّة عند حديثنا عن إدخال مصادر الإسلام غير القرآنيّة في عمليّة التفسير الموضوعي؛ حيث نصطدم بنصٍّ للشهيد الصدر يقول فيه:

«هذا الاتّجاه… يحاول القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة.. ويستهدف.. من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم ـ وبالتالي للرسالة الإسلاميّة ـ من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون»((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 23.)).

وقال في موضع آخر:

«..المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكريّة التي أدخلها في سياق بحثه»((المصدر نفسه، الصفحة 35.)).

فقد رادف الشهيد الصدر في هذين النصّين بين موقف القرآن الكريم وبين موقف الرسالة، بخلاف فريقٍ تقدّم معنا في الفصل الثاني، والذي اعتبر أنّ السنّة دخيلة في تحديد موقف الرسالة الإسلاميّة على حدّ دخالة القرآن الكريم، وأنّنا نحدّد موقف القرآن من الموضوع محلّ البحث، وإلى جانبه موقف السنّة منه، ثمّ نوحّد بين هذين الموقفين في عمليّة التفسير الموضوعي لتحديد موقف الرسالة.

عوداً على بدء، فقد تطرّق الكثير من الباحثين إلى عراقة تفسير القرآن الكريم، وعدّوا القرآن الكريم نفسه من جملة مصادر التفسير في عصر الرسالة، فكان تفسير القرآن بالقرآن من أوّل ألوان التفسير التي ظهرت في العصور الأولى((انظر مثلاً: الشيخ عبدالله جوادي الآملي، قرآن در قرآن (تفسير موضوعى قرآن كريم ج1) (فارسي)، الصفحة 395 فما بعد؛ على اكبر بابائى، تاريخ تفسير قرآن.. از عصر رسالت تا پايان عصر غيبت صغرا (فارسي)، الصفحة 27؛ الدكتور محمّد علي الرضائي الإصفهاني، منطق تفسير قرآن (1).. مبانى وقواعد تفسير قرآن (فارسي)، الصفحة 38 فما بعد، منطق تفسير قرآن (2).. روشها وگرايشهاى تفسيرى قرآن (فارسي)، الصفحة 49 فما بعد؛ محمود رجبى، روش تفسير قرآن (فارسي)، الصفحة 208 فما بعد؛ محمد كاظم شاكر، مبانى وروش هاى تفسيرى (فارسي)، الصفحة 101.)).

وقد ارتكز أنصار هذا المنهج إلى هذه العراقة في مقام تدعيم موقفهم والاستدلال على شرعيّة منهجهم((انظر: على اكبر بابائى، مكاتب تفسيرى (فارسي)، الصفحة 127 فما بعد.))، ومن هنا اعتبروه «أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية»((الشيخ جعفر السبحاني، المناهج التفسيريّة في علوم القرآن، الصفحة 139.))، أي ـ كما يقول العلّامة الطباطبائي ـ رافع لواء هذا المسلك ـ «أن نفسّر القرآن بالقرآن، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق، ونتعرّفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾((سورة النحل، الآية: 89.))، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء، ولا يكون تبياناً لنفسه‏»((السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 1، الصفحة 11 فما بعد؛ محمّد باقر سعيدى روشن، علوم قرآن (فارسي)، الصفحة 262 فما بعد. وراجع حول منهج العلّامة الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن: الشيخ عبدالله جوادي الآملي، شمس الوحى تبريزى.. سيره علمى علامه طباطبائى (فارسي)، الصفحة 96 وما بعد. وراجع حول نقد نظريّة العلّامة الطباطبائي: عبد النبي مهدي، المنهج الصحيح في تفسير القرآن، الصفحات: 155 ـ 271.)).

وقد قدّم أتباع هذه المدرسة عدّة أدلّة تؤيّد مذهبهم هذا((راجع مثلاً: السيّد كمال الحيدري، أصول التفسير والتأويل، الصفحة 160 فما بعد.))، أوّلها أنّها طريقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في التفسير؛ فقد «كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير»((السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 1، الصفحة 12. وراجع: محمّد رضا داودى، اهل بيت (عليهم السلام) وتفسير موضوعی قرآن (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 71، الصفحات 98 ـ 105.)).

ثمّ إنّ من الباحثين ـ كالدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدي((التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق، الصفحتان 32 ـ 33.)) ـ من صنّف بعض العطاءات النبويّة ضمن البذور الأولى للتفسير الموضوعي، من قبيل ما ذكره مسلم عن عبدالله بن مسعود من أنّه لمّا نزل قول الله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾((سورة الأنعام، الآية: 82.)) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقالوا: أيّنا لا يظلم نفسه! فقال (صلّى الله عليه وآله): «ليس هو كما تظنّون، إنّما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾»، وهذا يعني أنّه اعتبر تفسير القرآن بالقرآن من التفسير الموضوعي.

وكذلك هو الحال لدى الدكتور مصطفى مسلم الذي ذكر نماذج أخرى؛ فقد اعتبر أنّ لبنات التفسير الموضوعي «وعناصره الأولى كانت موجودة منذ عصر التنزيل في حياة رسول الله[ (صلّى الله عليه وآله)]؛ فإنّ تتبّع الآيات التي تناولت قضيّة ما والجمع بين دلالاتها وتفسير بعضها لبعض ـ ممّا أطلق عليه العلماء فيما بعد تفسيرَ القرآن بالقرآن ـ كان معروفاً في الصدر الأوّل»((الدكتور مصطفى مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، الصفحة 17.)).

ولا بأس في ذلك طالما أنّهما قد اعتبراها بداياتٍ لهذا اللون من التفسير؛ لأنّ تفسير القرآن بالقرآن يبقى في نهاية المطاف ضمن دائرة التفسير التجزيئي؛ فإنّ الأخير يستهدف الكشف عن مراد الآية بمختلف الطرق والوسائل والأدوات، وقد تكون الآيات الأخرى منها، فيكون هدفه الكشف عن مراد الآية مورد البحث، ولا يستهدف الخروج بمركّب نظري كما هو الحال في التفسير الموضوعي.

ومنهم من شرط في التفسير الموضوعي تفسير الآيات القرآنيّة بعضها ببعض اعتماداً على أسلوب تفسير القرآن بالقرآن.

وفي هذا الصدد يذكر الدكتور الرضائي الإصفهاني أنّ المفسّر الموضوعي يقوم بجمع الآيات التي تدور حول موضوع معيَّن، ويقوم بتفسير بعضها ببعض اعتماداً على أسلوب تفسير القرآن بالقرآن، إلى أن ينتهي إلى نظريّة للقرآن الكريم حول الموضوع المطروح. وقد سمّي هذا التفسير بالتفسير الموضوعي؛ لأنّه يبدأ من موضوعٍ معيَّن وينتهي إلى تحديد وجهة نظر القرآن الكريم حول هذا الموضوع((الدكتور محمّد علي الرضائي الإصفهاني، منطق تفسير قرآن (2)، روشها وگرايشهاى تفسيرى قرآن (فارسي)، الصفحتان 381 ـ 382.)).

ثمّ إنّ الدكتور أحمد رحماني ـ ولدى حديثه عن خطوات التفسير الموضوعي ـ ذكر من ضمنها جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع، وذلك لغرضين، وقد عدّ أحدهما غرض تفسير القرآن بالقرآن، وهو أصحّ طرق الفهم والتفسير((مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، الصفحة 17.)).

وكان بعض الباحثين أكثر وضوحاً في ذلك؛ فبعد أن ذكر أنّ للتفسير الموضوعي عدّة أساليب ومناهج، ذكر منها: التفسير الموضوعي على أساس محوريّة الله تعالى، على أساس تفسير القرآن بالقرآن، على أساس التسلسل الطبيعي بين الآيات والموضوعات، على أساس الموضوع المطروح في القرآن الكرين ثمّ على أساس التوحيد بين الواقع والقرآن((رجبعلى سالاريان، تفاسير موضوعى معاصر (فارسي)، مجلّة گلستان قرآن، العدد 103، الصفحات 33 ـ 35.)).

إلّا أنّ السيّد محمّد علي أيّازي ميّز بوضوح بين تفسير القرآن بالقرآن وبين التفسير الموضوعي؛ فبعد أن اعترف بأنّ التجليّات الأولى للتفسير الموضوعي كانت عبارة عن تفسير القرآن بالقرآن، فرّق بينهما على أساس أنّ التفسير الموضوعي يستهدف الخروج بنظريّة قرآنيّة حول الموضوع المطروح، بخلاف تفسير القرآن بالقرآن، فإنّه يستهدف استيضاح المراد من الآية بالاستعانة بآيات الكتاب الأخرى((السيّد محمّد علي أيّازي، تفسير موضوعى چيست! (فارسي)، مجلّة پيام جاويدان، السنة الأولى، العدد الأوّل، الصفحة 69؛ علي منظري، تفسير موضوعی وتفسير ترتيبى ونسبت ميان آنها (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 109، الصفحة 51.))؛ فهو منهج يعمد إلى توضيح المراد من الآية اعتماداً على الآيات الأخرى((حسين علوى مهر، روشها وگرايشهاى تفسيرى (فارسي)، الصفحة 67.)).

وهذا هو ما يعترف به أصحاب هذا المذهب أنفسهم؛ فها هو الشيخ جوادي الآملي ـ تلميذ العلّامة الطباطبائي وحامل لواء مدرسته في التفسير ـ يحدّد منهج تفسير القرآن بالقرآن بأنّه يقوم على تفسير الآيات الفرعيّة بواسطة الآيات الأصليّة والمحوريّة((الشيخ عبدالله جوادي الآملي، قرآن در قرآن (تفسير موضوعى قرآن كريم ج1) (فارسي)، الصفحة 395.))، لا أكثر.

وعلى أيّة حال، فتفسير القرآن بالقرآن يقع في طول التفسير الموضوعي ومتقدّم عليه درجة، وهذا ما برّر لبعضٍ تصنيف تفسير القرآن بالقرآن من أدوات التفسير الموضوعي((راجع: أبو طالب محمّدي، منابع وروشهاى تفسير موضوعى در سده چهاردهم (فارسي)، مجلّة پژوهش هاى قرآنى، العدد 7، الصفحة 150.))، ولكنّ آخرين لا يقبلون حتّى بمقدّميّة تفسير القرآن بالقرآن بالنسبة إلى التفسير الموضوعي؛ فكأنّ بينهما تبايناً((راجع: السيّد هدايت جليلي، تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها (فارسي)، الصفحات 90 ـ 92.)).

والحقيقة هي أنّ التفسير الموضوعي لا يمكن أن يتمّ دون تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنّ المفسّر بعد أن يجمع الآيات الكريمة التي تتعرّض للموضوع مورد البحث لا يُمكن أن يخرج بنظريّة دون المرور بمرحلة التوفيق بين مختلف الآيات والخروج بمركّب نظري ينسجم مع الموارد التي تعرّضت للموضوع، دون أن يكون تفسير الآية بآية أخرى يستلزم في حدّ نفسه الخروج بمركّب نظري من مجموع الآيات.

أمّا الشهيد الصدر، فلابدّ من أن نسجّل هنا انتصاره لأسلوب تفسير القرآن بالقرآن على صعيد التفسير التجزيئي، وذلك منذ نعومة أظفاره؛ فها هو يقول في كتاب (فدك في التاريخ) الذي صنّفه في عقده الثاني:

«وأفضل الأساليب في فهم القرآن ما كان منه مركّزاً على القرآن نفسه»((فدك في التاريخ، الصفحة 151.)).

كما يقول في كتاب (علوم القرآن):

«نحن نعرف أنّ عملية فهم القرآن الكريم لا يكفي فيها النظر إلى جملة قرآنيّة أو مقطع قرآني، بل كثيراً ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة إلى مقارنة بغيره ممّا جاء في الكتاب الكريم، أو إلى تحديد الظروف والملابسات. وهذه الدراسة المقارنة لها قريحتها وشروطها الفكريّة الخاصّة وراء الفهم اللغوي الساذج»((المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن، الصفحة 316.)).

أمّا في ما يتعلّق بانتماء تفسير القرآن بالقرآن، فقد كان الشهيد الصدر واضحاً في تصنيفه ضمن التفسير التجزيئي، وذلك لما ذكرناه سابقاً؛ فقد قال:

«والمفسّر في إطار هذا المنهج [التجزيئي] يسير مع المصحف ويفسّر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير، من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو العقل أو الآيات الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنيّة التي يراد تفسيرها، مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الإعتبار من كلّ تلك الحالات»((المدرسة القرآنيّة، الصفحتان 20 ـ 21.)).

كما يقول:

«طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئيّة لمثل هذا المنهج التفسيري أنّ المفسّر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث، بل إنّه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالأحاديث والروايات، ولكنّ هذه الاستعانة تتمّ بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث.

فالهدف في كلّ خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسّر بكلّ الوسائل الممكنة، أي أنّ الهدف هدف تجزيئي; لأنّه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النصّ القرآني ولا يتجاوز ذلك غالباً.

وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كلّه تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئيّة أيضاً، أي أنّه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنيّة، لكن في حالة تناثر وتراكم عددي، دون أن نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، دون أن نحدّد في نهاية المطاف نظريّة قرآنيّة لكلّ مجال من مجالات الحياة»((المصدر نفسه، الصفحتان 22 ـ 23.)).

وتظهر ثمرة ذلك فيما لو لم يؤمن المفسّر بنظريّة تفسير القرآن بالقرآن، وأنّ الحجّة في تعيين المراد من الآية عبارة عن السنّة لا الآيات الأخرى، فعندها لن يمنع ذلك من ممارسة عمليّة التفسير الموضوعي من ناحية نظريّة، وإن كان يُتوقَّع لعمليّة تفسيريّة تُقصي عن أدوات التفسير آياتِ القرآن نفسَها أن تأتي في مرحلة التفسير الموضوعي بثمار غير ناضجة.

ووربّما تشوّش الأمر لدى بعضهم بالنظر إلى محاولة العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان)؛ فإنّها تفسيرٌ للقرآن بالقرآن، ولكنّه عالج فيها الكثير من الموضوعات بشكل موضوعي، فكيف يصحّ الفصل بينهما؟

والجواب: إنّ كون السمة العامّة لمحاولة العلّامة الطباطبائي في (الميزان) هي تفسير القرآن بالقرآن لا يعني أنّ (الميزان) يمثّل اتّجاها آحادي اللون في التفسير؛ فإنّه ينطوي في الحقيقة على اتّجاهَي التفسير الرئيسيّين: التجزيئي والموضوعي، والمساحات التي يفرد فيه العلّامة فصلاً خاصّاً لبحث موضوعات مستقلّة هي في الحقيقة عطاءات موضوعيّة وليست تجزيئيّة.

وبهذا الصدد يقول الشهيد الصدر:

«فهناك تراكم عددي للمعلومات، إلاّ أنّ مجموعَ ما بين هذه المعلومات، الروابطَ والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحوّلها إلى مركّبات نظريّة ومجاميع فكريّة، بالإمكان أن نحضّر على أساسها نظريّة القرآن في مختلف المجالات والمواضيع. أمّا هذا فليس مستهدفاً بالذات في منهج التفسير التجزيئي وإن كان قد يحصل أحياناً، ولكنّه ليس هو المستهدف بالذات في منهج التفسير التجزيئي»((المصدر نفسه، 23.)).

 

الباب السابع

أطروحة التفسير الموضوعي الصدري إطلالة على الدراسة التطبيقيّة

أشكل بعضهم على الدراستين التطبيقيّتين (السنن التاريخيّة في القرآن الكريم) و(عناصر المجتمع في القرآن الكريم). وإذا كنّا قد أهملنا في هذه الدراسة ما يرتبط بالجانب التطبيقي من أطروحة الشهيد الصدر، فنكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الأمور الطفيفة:

1 ـ أشكل الباحث محمّد محمود بني الدومي بأنّ الشهيد الصدر «لم يستقرئ جميع الآيات القرآنيّة الواردة في تكوين المجتمع في القرآن، بل اقتصر على دراسة مجموعة من الآيات توصّل من خلالها إلى ما ذكر سابقاً. والحقيقة أنّه لو استقرأ جميع آيات الموضوع لربّما اختلف الأمر كليّاً»((محمّد محمود بني الدومي، التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة (أطروحة ماجستير غير منشورة)، الصفحة 230. )).

ونحن نوافق على الإشكال إن كانت الآيات التي أخرجها من البحث مؤثّرة في النتيجة. أمّا إذا لم تكن كذلك، فربّما كان مبنى الشهيد الصدر هو مبنى الدكتور محمّد عبدالله درّاز الذي يقول:

«فلمّا كنّا أوّلاً لا نرى من اللازم أن نستوعب النصوص والآيات ذات الاتّصال بالموضوع؛ فقد اكتفينا بأنْ سقنا بعضاً منها ذا دلالة كافية على القواعد المختلفة للسلوك، ثمّ حاولنا من بعد ذلك أن نتجنّب التكرار بقدر الإمكان»((الدكتور محمّد عبدالله درّاز، دستور الأخلاق في القرآن، الصفحة 85.)).

2 ـ كما ذكر بعض الباحثين إشكالاً آخر، وهو أنّ بعض الآيات التي ساقها الشهيد الصدر في بحث السنن التاريخيّة ليس لها علاقة بالموضوع المبحوث عنه.

إلّا أنّ هذا الباحث سبق أن ذكر ما يصلح أن يكون جواباً عن هذا الإشكال، وهو أنّ تحديد مدى ارتباط علاقة الآية بالموضوع المطروق يرجع إلى قدرة الباحث الموضوعي نفسه وجدارته في الاستفادة من النصوص؛ فربّ نصٍّ يُخرجه أحدهم ويدخله آخر، أو العكس((راجع: علي فتحي، تفسير موضوعی ومراحل آن (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 107، الصفحة 98.)).

3 ـ وافترض باحثٌ آخر إشكالاً ذكر له توجيهين، وهو أنّه في حين يؤكّد الشهيد الصدر على أنّ التفسير التجزيئي ضرورٌّ للتفسير الموضوعي، فإنّنا نجده قد أغفل التفسير التجزيئي للآيات بالمطلق. ثمّ ذكر لذلك توجيهين:

الأوّل: أن تكون الآيات التي استفاد منها في غاية الوضوح.

الثاني: أن يكون قد تعرّض لتفسيرها تجزيئيّاً خارج البحث وفي مجلس خاص((غلامعلي عزيزي، تفسير موضوعی قرآن کريم از ديدگاه آيت الله شهيد سيد محمد باقر صدر (فارسي)، مجلّة معرفت، العدد 35، الصفحة 63.)).

4 ـ وهناك إشكالان سجّلهما بعض الباحثين على نحو استفادة الشهيد الصدر من بعض الآيات في بحثه التطبيقي((المصدر نفسه، الصفحتان 64 ـ 65، وراجع حول بعض آراء الشهيد الصدر التطبيقيّة: الميرزا محمّد مهرابي، بينش تاريخی شهيد صدر کليد شناخت فلسفه تاريخ در قرآن (فارسي)، مجلّة مفيد، العدد 10، الصفحات 223 ـ 236.))، ولكنّنا سوف نترك التعرّض لهما بعد أن كنّا قد استبعدنا عن البحث الجانب التطبيقي بالكليّة، واكتفينا ببيان أطروحته من زاوية نظريّة.

5 ـ وذكر بعض الباحثين ـ وهو بصدد الحديث عن الأدوات التي يستقي منها التفسير الموضوعي مدده ـ آراء المفسّرين ضمن هذه الأدوات، وأشار ـ لا على سبيل الإشكال ـ إلى عدم تعرّض الشهيد الصدر لآراء المفسّرين((منابع وروشهاى تفسير موضوعى در سده چهاردهم (فارسي)، مجلّة پژوهش هاى قرآنى، العدد 7، الصفحة 152.)).

6 ـ قال الباحث محمّد محمود بني الدومي:

«وممّا يلحظ على الكتاب أيضاً عدمُ الترتيب والتبويب الموضوعي المطلوب، سواءٌ في الدراسة النظريّة منه أو في الدراسة التطبيقيّة»، ولكنّه برّر له هذا الأمر بقوله: «ولعلّ السبب في هذا يرجع إلى أنّ الشيخ الصدر لم يصنّف هذا الكتاب بنفسه، بل جُمع من محاضرات ألقاها»((التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة (أطروحة ماجستير غير منشورة)، الصفحة 230.)).

ونحن نلاحظ في أطروحة الشهيد الصدر التطبيقيّة ـ كما أشرنا سابقاً ـ عدم استحضاره بقوّة للروايات سوى في موردٍ واحدٍ حضر فيه النصّ العلوي على هامش البحث((المدرسة القرآنيّة، الصفحة 179.))، ونقل روايةً حول سبب نزول آيةٍ في بحث آخر((المدرسة القرآنيّة، العمل الصالح، الصفحة 341.))؛ فكأنّ له في ذلك مبنىً، أو أنّه يبني على حسم النزاع في مرحلة التفسير التجزيئي، والتي يفترض أن يكون قد أنجزها خارج أطروحة التفسير الموضوعي.

خلاصة البحث

انتهينا في فصول هذه الدراسة إلى نتائج عديدة، نكتفي في ما يلي باستعراض المهمّ منها:

1 ـ إنّ المعنى المشهور للتفسير الموضوعي والمنصرف إليه من المصطلح يعبّر عن المنهج القائم على تجميع الآيات التي تتناول الموضوع نفسه، ثمّ محاولة الخروج بمركّب جامع يعبّر عن موقفٍ للقرآن الكريم تجاه الموضوع المبحوث عنه.

2 ـ استشهد العديد من الباحثين ـ في مقام التأكيد على عراقة التفسير الموضوعي ـ بأبحاث السلف حول الناسخ والمنسوخ في القرآن وما يشاكلها. وقد خلصنا إلى أنّها تتناول أحوال القرآن الكريم وشؤونه ولا تدرس موضوعاً طرحه واتّخذ منه موقفاً، فالأصحّ هو إخراجها من تحت مظلّة التفسير الموضوعي.

3 ـ زاوجت الكثير من الدراسات بين معنيين للتفسير الموضوعي: أحدهما ما يُعرف بالوحدة الموضوعيّة والثاني هو المعنى المشهور وما يُنصرف إليه من الاصطلاح. وقد خلصنا إلى أنّهما أجنبيّان عن بعضهما البعض؛ لاختلافهما في الهدف وطبيعة البحث، وأنّ الأحرى هو الفصل بينهما وإخراج المعنى الأوّل عن دائرة التفسير الموضوعي، مع الاعتراف بأهميّته على صعيد الدراسات القرآنيّة عموماً.

4 ـ لم يتعرّض الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر ضمن أطروحته حول التفسير الموضوعي لبحث الوحدة القرآنيّة؛ فكأنّه كان يؤمن بضرورة الفصل بين اللونين المذكورين آنفاً من ألوان التفسير الموضوعي.

5 ـ فنّدت هذه الدراسة ما توهّمه بعض الباحثين من رفض الشهيد الصدر معنى الموضوعيّة المشهوريّة، أي دراسة قضيّة ما في رحاب القرآن الكريم؛ حيث أظهرت أنّه صادق على هذا المعنى، بل إنّه نصّ عليه، ولكنّه نقل التفسير الموضوعي إلى مرحلة أعمق وأكثر تقدّماً، من حيث إضافته خطوةً جديدة لم تكن مطروحةً على بساط البحث.

6 ـ لم يقم الشهيد الصدر بإلغاء دور التفسير التجزيئي المتداول، بل اشترط في التفسير الموضوعي أن يكون مسبقاً بدراسة تجزيئيّة مشبعة للقرآن الكريم، وذلك على غرار ما طرحه حول دراسة حياة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

7 ـ أكّد الشهيد الصدر من خلال أطروحته وسائر مؤلّفاته على أنّ التفسير الموضوعي للقرآن الكريم يقوم على تجميع الآيات المشتركة في موضوع واحد، ثمّ محاولة الخروج بمركّب نظري قرآني يعبّر عن موقف القرآن الكريم تجاه الموضوع محلّ البحث، ويكون في الوقت نفسه منسجماً مع بقيّة المركبّات النظريّة التي نكوّنها حول موضوعات أخرى، بحيث تكون هذه المركّبات كلّها عناصر منسجمة تحت مظلّة المركّب الحضاري الواحد الأكبر، وهو الإسلام.

8 ـ فنّدت هذه الدراسة ما توهّمه بعض الباحثين من تمييز الشهيد الصدر بين الموضوعات المطروحة في القرآن الكريم وبين الدراسات المعروضة عليه؛ حيث ادّعي أنّه يحصر موضوعات التفسير الموضوعي بالموضوعات التي يثيرها الواقع الخارجي ولا يدخل ضمن اهتماماته الموضوعات التي يثيرها القرآن الكريم نفسه؛ فبيّنت هذه الدراسة أنّه يعمّم أطروحته إلى كافّة الموضوعات التي تنتمي إلى الحياة العقائديّة والاجتماعيّة والكونيّة، معتبرةً أنّ القرآن الكريم نفسه جزءٌ من الواقع وأنّ موضوعاته تعبّر عن دائرة من موضوعات الواقع.

9 ـ أوضحت هذه الدراسة أنّ المعنى الجديد الذي أضافه الشهيد الصدر إلى عمليّة التفسير الموضوعي يرتكز على انطلاق المفسّر من الواقع نحو القرآن الكريم، ليستنطقه ويستكشف موقفه تجاه الموضوع محلّ البحث.

10 ـ انتهت هذه الدراسة ـ خلافاً لما ذهب إليه بعض الباحثين ـ إلى أنّ الشهيد الصدر عندما يتحدّث عن الانطلاق من الواقع نحو النصّ القرآني فلا يعني من ذلك أنّ دور الواقع يتمثّل في كونه منشأً للبحث ومثاراً للموضوع قيد الدرس فحسب، بل هو منطَلَقٌ للباحث أيضاً، أي أنّ على المفسّر الموضوعي حين ينطلق إلى معالجة أيّ موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة أن يتشبّع من التجارب البشريّة التي يحفل بها الواقع ويقف على عطاءاتها في دائرة الموضوع الذي يتناوله، ثمّ يوحّد بين هذه التجارب وبين القرآن الكريم في سياق واحد، محاولاً استنطاق القرآن ليقف على حقيقة موقفه من ذلك الموضوع في إطار المفاصل التي قدّمتها التجارب البشريّة.

11 ـ استخدم الشهيد الصدر مصطلح الاستنطاق ليعبّر عن المعنى الجديد الذي طرحه، معتبراً أنّ استخراج المركّب النظري القرآني في ركاب عطاءات التجارب البشريّة تجاه موضوع من الموضوعات ليس بالأمر الهيّن على الإطلاق.

12 ـ استعرضت الدراسة في ثناياها الكثير من الإشكالات التي أثيرت حول أطروحة التفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر، وقدّمت ـ من خلال التدقيق في مفاصلها واستحضار عطاءات الصدر الفكريّة الأخرى ـ توضيحات للكثير من مكامن الغموض، وأظهرت أنّ قسماً من الإشكالات لم يسبح في أفق الأطروحة، الأمر الذي دفعنا إلى التوسّع في مباني الشهيد الصدر التي أسّس لها في كتبه الأخرى، وذلك حرصاً على فتح أُفقِها وتذليل العقبات من أجل الوقوف على المراد منها.

وأخيراً، ندعو المولى تبارك وتعالى أن يتّجه الدرس القرآني إلى تعميق هذه الأطروحة، ثمّ إكمال الشوط من خلال زيادة عدد الموضوعات المبحوثة وفق منهجها المقترح، خدمةً للدين الحنيف، و إظهاراً لقيمومة القرآن الكريم على التجربة البشريّة كما أراد صاحب الأطروحة.

ولا يسعنا في نهاية المطاف إلّا أن نكبر هذه العبقريّة النابغة التي منّ الله تعالى علينا بها، فما قدرناها حقَّ قدرها، فعقرناها فأصبحنا نادمين.

فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

أحمد عبدالله أبو زيد

قم المشرّفة

صفر / 1431 هـ

المصادر والمراجع

المصادر العربيّة

  1. ابن عاشور، محمّد بن طاهر: التحرير والتنوير، مؤسّسة التاريخ ـ بيروت.
  2. ابن منظور، جمال الدين محمّد بن مكرم: لسان العرب، دار الفكر ودار صادر ـ بيروت، 1414 هـ.
  3. ابن هشام الأنصاري: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: أبي عبدالله علي عاشور الجنوبي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، 2008م.
  4. أبو الحسن البصري البغدادي الشهير بالماودري: أدب الدنيا والدين، دار ومكتبة الهلال ـ بيروت، 1421 هـ.
  5. أبو الفضل الفيضي الدكني: سواطع الالهام فى تفسير القرآن‏، تحقيق الدكتور السيّد مرتضى آيت الله واده الشيرازي، دار المنار، 1417هـ.
  6. أبو الهلال العسكري: الصناعتين، المكتبة العصريّة ـ بيروت، 1419هـ.
  7. أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كتاب الحيوان، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2003م.
  8. إجنتس جولدتسهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجّار، مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنّى ببغداد، 1374هـ ـ 1955م.
  9. أحمد الأزرقي، الشيخ: منهج السيّد محمّد باقر الصدر في فهم القرآن، مركز الشهيدين الصدرين للدراسات والبحوث ـ قم، 1429هـ.
  10. أحمد السيّد الكومي، الدكتور محمّد أحمد يوسف القاسم، الدكتور: التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الطبعة الاولى، 1982م.
  11. أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، 1404هـ.
  12. أحمد جمال العمري، الدكتور: دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، الطبعة الأولى، 1986م.
  13. أحمد رحماني، الدكتور: مصادر التفسير الموضوعي، مكتبة وهبة ـ القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م.
  14. أحمد رحماني، الدكتور: مناهج التفسير الموضوعي وعلاقتها بالتفسير الشفاهي، جدارا للكتاب العالمي وعالم الكتب الحديث ـ الأردن، الطبعة الأولى، 2008م.
  15. أحمد عبدالله أبو زيد العاملي: محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، دار العارف للمطبوعات ـ بيروت، 2007م.
  16. الأسعد بن علي التونسي، الأستاذ: التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر، مجلّة المنهاج، العدد 30، صيف 2003م.
  17. إسماعيل بن حمّاد الجوهري: الصحاح.. تاج اللغة وصحاح العربيّة، دار العلم للملايين ـ بيروت، 1410هـ..
  18. إمانوئيل كَنت: نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظّمة العربيّة للترجمة ـ بيروت، 2005م.
  19. باقر برّي، الشيخ: فقه النظريّة عند الشهيد الصدر، دار الهادي ـ بيروت، 2001م.
  20. بدر الدين الزركشي: البرهان في علوم القرآن، دار الكتب العلميّة ـ بيروت، 2001م.
  21. توفيق العلوان، الدكتور: فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن، مكتبة الرشد، الطبعة الثانية، 2006م.
  22. جعفر السبحاني، الشيخ: المناهج التفسيريّة في علوم القرآن، مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام) ـ قم، الطبعة الثانية، 1422هـ.
  23. جعفر السبحاني، الشيخ: مفاهيم القرآن، بقلم الشيخ جعفر الهادي، قم ـ 1404هـ.
  24. جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، دار الكتب العلميّة ـ بيروت، 2003م.
  25. جماعة العلماء في النجف الأشرف: مجلّة الأضواء الإسلاميّة، النجف، 1381، 1382.
  26. جواد علي كسّار: التفسير الموضوعي.. مقارنات بين السيّد الصدر وآخرين، مؤسّسة الثقلين ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
  27. جواد علي كسّار: التفسير الموضوعي.. مقارنات بين السيّد الصدر وآخرين، مجلّة الفكر الإسلامي، العدد 24 و25، 1421هـ.
  28. جون ديوي: المنطق.. نظريّة البحث، ترجمة وتصدير وتعليق الدكتور زكي نجيب محمود، دار المعارف بمصر ـ مصر، الطبعة الثانية، 1969م.
  29. حبيب فيّاض، الدكتور: التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر، معهد المعارف الحكميّة ـ بيروت، 2006م.
  30. حسن العمري: إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر، دار الهادي ـ بيروت، 2003م.
  31. حسن عاصي، الدكتور: منهج الباقر في تفسير القرآن، مقدّمة على طبعة دار التعارف ـ بيروت، 1990م، ج13.
  32. حسين سعد، الدكتور: الأصوليّة الإسلاميّة العربيّة المعاصرة.. بين النصّ الثابت والواقع المتغيّر، مركز دراسات الوحدة العربيّة ـ بيروت، الطبعة الثانية، 2006م.
  33. الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقّه، دار ابن الجوزي ـ السعوديّة، الطبعة الثانية، 1421هـ.
  34. الخليل بن أحمد الفراهيدي: كتاب العين، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، منشورات هجرت ـ قم، 1410هـ.
  35. الراغب الإصفهاني: المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار العلم والدار الشاميّة، الطبعة الاولى، 1412هـ.
  36. رياض الأخرس، الأستاذ وكاظم قاضي زادة، الدكتور: التفسير الموضوعي.. تعريفه، أقسامه، مشروعيّته، علاقته بأنواع التفاسير الأخرى، مجلّة المنهاج، العدد 47، خريف 2007م.
  37. زاهر بن عواض الألمعي، الدكتور: دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، مطابع الفرزدق التجاريّة ـ الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ.
  38. زياد خليل محمّد الدغامين، الدكتور: منهجيّة البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، دار البشير، الطبعة الأولى، 1994م.
  39. شبلي الملاط، الدكتور: تجديد الفقه الإسلامي.. محمّد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ترجمة غسّان غصن، دار النهار للمطبوعات ـ بيروت، 1998م.
  40. الشريف الرضي، محمّد بن الحسين الموسوي: نهج البلاغة، كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، دار الهجرة ـ قم.
  41. شكيب علي بن بديرة، الدكتور الشيخ: التفسير الموضوعي والكلام الحديث.. دراسة على ضوء فكر الشهيد الصدر، مجلّة رسالة الثقلين، العدد 56، رجب 1428هـ.
  42. شمران العجلي: الإمام الصدر وعلوم القرآن، ضمن كتاب محمد باقر الصدر.. دراسات في حياته و فكره ، دار الإسلام ـ لندن، 1996م.
  43. صائب عبد الحميد، الدكتور: الامام محمد باقر الصدر مفسّراً، مجلّة قضايا إسلاميّة، العدد الثاني ـ 1416هـ/ 1995م.
  44. صائب عبد الحميد، الدكتور: التفسير الإسلامي للتاريخ ودور الشهيد الصدر فيه، مجلّة المنهاج، العدد 17، ربيع 1421 هـ.
  45. صائب عبد الحميد، الدكتور: الشهيد محمّد باقرالصدر.. من فقه الأحكام إلى فقه النظريّات، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، 2008م.
  46. صائب عبد الحميد، الدكتور: منهج الامام الصدر في تفسير القرآن الكريم .. دراسة مقارنة، ملخّص بحوث الندوة الثانية لدراسة فكر الإمام الشهيد الصدر (قدّس سرّه)، مركز دراسات تاريخ العراق الحديث، 20 ذي القعدة 1415هـ؛ محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) دراسات في حياته وفكره (نخبة من الباحثين).
  47. الصاحب بن العبّاد: المحيط في اللغة، عالم الكتاب ـ بيروت، 1414هـ.
  48. صبري المتولّي، الدكتور: نحو منهج في التفسير الموضوعي.. دراسة تطبيقيّة على آيات الحجاب في القرآن الكريم، مكتبة القرآن ـ القاهرة، 1995م.
  49. صلاح عبد الفتّاح الخالدي، الدكتور: التفسير الموضوعي بين النظريّة والتطبيق.. دراسة نظريّة وتطبيقيّة مرفقة بنماذج ولطائف التفسير الموضوعي، دار النفائس ـ الأردن، الطبعة الأولى، 1997م.
  50. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، الدكتورة: التفسير البياني للقرآن الكريم، دار المعارف ـ مصر، بدون تاريخ.
  51. عبد الإله المسلم (= الدكتور محمود البستاني): سنن التاريخ نموذجاً للتفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر.. قراءة من منظور علم الاجتماع، مجلّة قضايا إسلاميّة، العدد 3، 1417هـ/ 1996م.
  52. عبد الجبّار الرفاعي، الشيخ الدكتور: المدلول الاجتماعي لأصول الدين عند الشهيد الصدر، مقدّمة كتاب موجز في أصول الدين للشهيد الصدر، مطبعة شريعت ـ قم، 2001م.
  53. عبد الجليل عبد الرحيم، الدكتور: التفسير الموضوعي للقرآن في كفّتي الميزان، بدون ناشر، الطبعة الأولى، 1992م.
  54. عبد الرزاق هادي الصالحي: تعقيب على مقال :سنن التاريخ نموذجاَ للتفسير الموضوعي عند الشهيد الصدر قراءة من منظور علم الاجتماع، مخطوط.
  55. عبد الستّار فتح الله سعيد، الدكتور: المدخل إلى التفسير الموضوعي، كليّة أصول الدين ـ القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلاميّة، 1991م.
  56. عبد اللطيف الحرز، الشيخ: التفسير بين كشف النص وكشف الواقع.. مراجعة مبدئيّة لنظرية الشهيد محمد باقر الصدر، غير منشور.
  57. عبد الله الفريجي: منهج الإمام الشهيد الصدر في تناول سنن التأريخ، ملتقى الشهيد الصدر الثاني، مؤسّسة تاريخ العراق.
  58. عبد النبي مهدي: المنهج الصحيح في تفسير القرآن، مركز منير للنشر ـ طهران، 1385ش.
  59. عبدالله جوادي الآملي، الشيخ: جمال المرأة وجلالها، دار الهادي ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.
  60. علي أكبر السيفي المازندراني، الشيخ: دروس تمهيديّة في القواعد التفسيريّة، مؤسّسة النشر الإسلامي التالبعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1428هـ.
  61. علي الأحمدي الأحمدي الميانجي، الشيخ: مكاتيب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، دار الحديث ـ قم، 1998م.
  62. علي الحسيني: سنن التاريخ وصورة المستقبل، نسخة إلكترونيّة.
  63. علي الخامنئي، السيّد الإمام: الحوزات العلميّة وتطوير البرامج، مجلّة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 35.
  64. علي السيستاني، السيّد: الرافد في علم الأصول، محاضرات آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني، بقلم السيّد منير السيّد عدنان القطيفي، نشر مكتب السيّد السيستاني ـ قم، الطبعة الأولى، 1414 هـ.
  65. علي كوراني، الشيخ: مسائل في البناء الفكري، كرّاس محدود الانتشار.
  66. فؤاد زكريّا، الدكتور: التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 3، الطبعة الجديدة ـ الكويت.
  67. كارل بوبر: منطق البحث العلمي، ترجمة وتقديم الدكتور محمّد البغدادي، المنظّمة العربيّة للترجمة ـ بيروت، 2006م.
  68. كمال الحيدري، السيّد: أصول التفسير والتأويل، دار فراقد للطباعة والنشر ـ قم، 1426هـ.
  69. كمال الحيدري، السيّد: اللباب في تفسير الكتاب، دار فراقد ـ قم، 1431هـ.
  70. لبيب بيضون، الدكتور: التفسير التجزيئي‏ و التفسير التوحيدي‏ (الموضوعي) للقرآن الكريم‏، بحث مقدّم إلى المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر المنعقد في طهران شتاء 2001م.
  71. محمّد إبراهيم شريف، الدكتور: اتّجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم، دار السلام ـ القاهرة، الطبعة الأولى، 2008م.
  72. محمّد الحسيني، السيّد: الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر.. دراسة في سيرته ومنهجه، دار الفرات ـ بيروت، 1989م.
  73. محمّد الحسيني، السيّد: محمّد باقر الصدر.. حياة حافلة.. فكرٌ خلاّق، دار المحجّة البيضاء ـ بيروت، 2005م.
  74. محمّد الغزّالي، الشيخ: نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، دار الشروق ـ القاهرة.
  75. محمّد الفاضل اللنكراني، الشيخ: مدخل التفسير، مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، الطبعة الرابعة، 1428هـ.
  76. محمّد باقر الحكيم، السيّد: الإمام الشهيد الصدر، القدس للطباعة والنشر ـ الكويت، 2007م.
  77. محمّد باقر الحكيم، السيّد: التفسير الموضوعي، مجلّة رسالة التقريب، السنة الثالثة، العدد 12.
  78. محمّد باقر الحكيم، السيّد: تفسير سورة الحمد، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، الطبعة الأولى، 1420هـ.
  79. محمّد باقر الحكيم، السيّد: موسوعة الحوزة العلميّة والمرجعيّة.. الشهيد الصدر، مؤسّسة تراث الشهيد الحكيم، 2005م.
  80. محمّد باقر الصدر، السيّد ومحمّد باقر الحكيم، السيّد: علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، الطبعة الرابعة، 1419هـ.
  81. محمّد باقر الصدر، السيّد: أئمّة اهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1425هـ.
  82. محمّد باقر الصدر، السيّد: اقتصادنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1424هـ.
  83. محمّد باقر الصدر، السيّد: الأسس المنطقيّة للاستقراء، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1426هـ.
  84. محمّد باقر الصدر، السيّد: الإسلام يقود الحياة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  85. محمّد باقر الصدر، السيّد: البنك اللاربوي في الإسلام، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1426هـ.
  86. محمّد باقر الصدر، السيّد: التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعيّة في المدرسة القرآنيّة، تقديم وتنقيح وتعليق الشيخ جلال الدين علي الصغير، الدار العالميّة ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1989م.
  87. محمّد باقر الصدر، السيّد: السنن التاريخيّة في القرآن، دار التعارف ـ بيروت، 1989.
  88. محمّد باقر الصدر، السيّد: الفتاوى الواضحة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1423هـ.
  89. محمّد باقر الصدر، السيّد: المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد محمّد باقر الصدر (ج13)، دار التعارف ـ بيروت، 1990م.
  90. محمّد باقر الصدر، السيّد: المدرسة الإسلاميّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  91. محمّد باقر الصدر، السيّد: المدرسة القرآنيّة، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1981م.
  92. محمّد باقر الصدر، السيّد: المدرسة القرآنيّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، الطبعة الأولى، 1421هـ..
  93. محمّد باقر الصدر، السيّد: المعالم الجديدة للأصول، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  94. محمّد باقر الصدر، السيّد: أهل البيت تنوّع ادوار ووحدة هدف، دار التعارف ـ بيروت، بدون تاريخ.
  95. محمّد باقر الصدر، السيّد: بحوث في شرح العروة الوثقى، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  96. محمّد باقر الصدر، السيّد: بحوث في علم الأصول، تقرير السيّد محمود الهاشمي، دار الغدير ـ قم، الطبعة الثالثة، 1996م.
  97. محمّد باقر الصدر، السيّد: خصائص الفكر الإسلامي، أرشيف مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم.
  98. محمّد باقر الصدر، السيّد: دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  99. محمّد باقر الصدر، السيّد: دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  100. محمّد باقر الصدر، السيّد: رسالتنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1421هـ.
  101. محمّد باقر الصدر، السيّد: فدك في التاريخ، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1423هـ.
  102. محمّد باقر الصدر، السيّد: فلسفتنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1424هـ.
  103. محمّد باقر الصدر، السيّد: مباحث الأصول، تقرير السيّد كاظم الحائري، مكتب السيّد الحائري ـ قم.
  104. محمّد باقر الصدر، السيّد: محاضرات تأسيسيّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1431هـ.
  105. محمّد باقر الصدر، السيّد: مقدّمات في التفسير الموضوعي للقرآن، دار التوجيه الإسلامي ـ الكويت، 1980م.
  106. محمّد باقر الصدر، السيّد: منهاج الصالحين، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1431هـ.
  107. محمّد باقر الصدر، السيّد: ومضات، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، 1428هـ.
  108. محمّد باقر الموحّد الأبطحي، السيّد: المدخل إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، مطبعة الآداب في النجف الأشرف، 1969م.
  109. محمّد بن الحسن الحر العاملي: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث ـ ثم، الطبعة الثانية، 1414هـ.
  110. محمّد بن يعقوب الكليني، ثقة الإسلام: الكافي، دار الكتب الإسلاميّة ـ طهران.
  111. محمّد تقي المدرّسي، السيّد: من هدى القرآن، دار محبّي الحسين ـ طهران، 1419هـ.
  112. محمّد تقي مصباح اليزدي، الشيخ: معارف القرآن، تعريب الشيخ محمّد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلاميّة ـ بيروت، 1988م.
  113. محمّد حسين الحسيني الطهراني، السيّد: الروح المجرد، دار المحجّة البيضاء ودار الرسول الأكرام، 1415هـ.
  114. محمّد حسين الذهبي، الدكتور: التفسير والمفسّرون، بدون ناشر، بدون تاريخ.
  115. محمّد حسين الطباطبائي، السيّد: الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلامي التالبعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الخاسمة، 1417هـ.
  116. محمّد حسين علي الصغير، الدكتور: المبادئ العامّة لتفسير القرآن الكريم، دار المؤرّخ العربي ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
  117. محمّد حسين علي الصغير، الدكتور: المستشرقون والدراسات القرآنيّة، دار المؤرّخ العربي ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1999م.
  118. محمّد عبد السلام محمّد، الدكتور: دراسات في القرآن الكريم من التفسير الموضوعي، مكتبة الفلاح ـ الكويت، الطبعة الثانية، 1987م.
  119. محمّد عبد العظيم الزرقاني، الشيخ: مناهل العرفان في علوم القرآن، دار المعرفة ـ بيروت، 2001م.
  120. محمّد عبد اللاوي، الدكتور: فلسفة التاريخ من خلال كتابات الامام الصدر ونقد نهاية التاريخ، دار الإسلام، الطبعة الاولى، 1999م.
  121. محمّد عبد اللاوي، الدكتور: فلسفة الصدر.. دراسات في المدرسة الفكريّة للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، مؤسّسة العارف للمطبوعات ـ بيروت، الطبعة الثانية، 2001م.
  122. محمّد عبدالله درّاز، الدكتور: دستور الأخلاق في القرآن، دراسة مقارنة للأخلاق النظريّة في القرآن، ملحق بها تصنيفٌ للآيات المختارة التي تكوّن الدستور الكامل للأخلاق العمليّة، تعريب وتحقيق وتعريب الدكتور عبد الصبور شاهين، مراجعة الدكتور السيّد محمّد بدوي، مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي ـ قم، الطبعة الأولى، 2003م.
  123. محمّد علي الرضائي الإصفهاني، الدكتور: دروس في المناهج والاتّجاهات التفسيريّة للقرآن، تعريب قاسم البيضاني، منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلاميّة ـ قم، 1426هـ.
  124. محمّد فاكر الميبدي، الشيخ: التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.. مطالعة تقويميّة نقديّة في نظريّة السيّد الصدر، مجلّة نصوص معاصرة، العدد العاشر، ربيع 2007م.
  125. محمّد فاكر الميبدي، الشيخ: قواعد التفسير لدى الشيعة والسنّة، مركز التحقيقات والدراسات العلميّة التاب للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) ـ قم، الطبعة الأولى، 2007م.
  126. محمّد محمّد طاهر آل شبير الخاقاني، الشيخ: القرآن والأصول الموضوعيّة العامّة، منشورات باقيات ـ قم، 1427هـ.
  127. محمّد محمّد طاهر آل شبير الخاقاني، الشيخ: عناصر العلوم، أنوار الهدى ـ قم، 1417هـ
  128. محمّد محمود بني الدومي: التفسير الموضوعي.. دراسة تاريخيّة نقديّة (نسخة مخطوطة)، إشراف الدكتور فضل حسن عبّاس.
  129. محمّد محمود حجازي، الدكتور: الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم، مطبعة المدني، 1970م.
  130. محمّد هادي معرفت، الشيخ: التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب (ضمن: التمهيد في علوم القرآن، ط.ج)، مؤسّسة التمهيد، 2007م.
  131. محمود أحمد سعيد الأطرش، الدكتور: الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم والسورة القرآنيّة، دار الإيمان ـ مصر، الطبعة الأولى، 2008م.
  132. محمود البستاني، الدكتور: التفسير البنائي للقرآن الكريم، مجمع البحوث الإسلاميّة (آستانه قدس رضوى)، الطبعة الأولى، 1422هـ.
  133. مصطفى مسلم، الدكتور: مباحث في التفسير الموضوعي، دار القلم ـ دمشق، الطبعة الخامسة، 2007م.
  134. منذر الحكيم، السيّد: النظريّة الاجتماعيّة الإسلاميّة.. دراسة في فكر السيّد محمّد باقر الصدر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، 2008م.
  135. المنطلق، مجلة: تلخيص كتاب مقدّمات في التفسير الموضوعي للقرآن للشهيد السعيد اية الله السيد محمد باقر الصدر، مجلة المنطلق ـ بيروت.
  136. موريس بوكاي، الدكتور: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم.. دراسة الكتب المقدّسة في ضوء المعارف الحديثة، مكتبة مدبولي ـ مصر، 2004م.
  137. مير حامد حسين، السيّد: عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إصفهان، 1366هـ. ش.
  138. ناصر مكارم الشيرازي، الشيخ (بمساعدة مجموعة من الفضلاء): الأخلاق في القرآن، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الطبعة الثالثة، 1428هـ.
  139. ناصر مكارم الشيرازي، الشيخ (بمساعدة مجموعة من الفضلاء): نفحات القرآن.. أسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ، مؤسّسة أبي صالح للنشر والثقافة، بدون تاريخ.
  140. ناصر مكارم الشيرازي، الشيخ: نفحات الولاية، إعداد عبد الرحيم الحمراني، مدرسة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ قم، 1426هـ.
  141. نزيه الحسن: السيّد محمّد باقر الصدر.. دراسة في المنهج، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، 1992م.
  142. نصر حامد أبو زيد، الدكتور: مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ـ بيروت، 2005م.
  143. نور الله الشوشتري، القاضي: إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، 1409هـ.

المصادر الفارسيّة

  1. ابراهيم سجادى، سيد: شكوفايى تفسير موضوعى در بستر قرن اخير، فصلنامه پژوهش هاى قرآنى، شماره 7.
  2. ابو طالب محمدى: منابع و روشهاى تفسير موضوعى در سده چهاردهم، فصلنامه پژوهش هاى قرآنى، شماره 7.
  3. حسن صادقى: تفسير موضوعى و دلايل امکان و ضرورت آن، فصلنامه معرفت، شماره 107.
  4. حسين علوى مهر: آشنايى با تاريخ تفسير ومفسران، جامعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله) العالميّة، چاپ اول، 1384ش.
  5. حسين علوى مهر: روشها وگرايشهاى تفسيرى، انتشارات اسوه، چاپ اول، 1381ش.
  6. رتراود ويلانت: جريان شناسی تفاسير قرآن در دوره معاصر، مترجم: مهرداد عباسى، دو ماهنامه آينه پژوهش، شماره 86.
  7. رجبعلى سالاريان: تفاسير موضوعى معاصر، دو هفته نامه گلستان قرآن، شماره 103.
  8. عبدالله جوادى آملى، آية الله: شمس الوحى تبريزى.. سيره علمى علامه طباطبائى، مركز نشر اسراء ـ قم، 1386هـ.ش.
  9. عبدالله جوادى آملى، آية الله: قرآن در قرآن.. تفسير موضوعى قرآن كريم، مركز نشر اسراء، چاپ هفتم، 1386ش.
  10. على اصغر هادوى نيا: شهيد صدر وروش تفسير موضوعى ـ علمى قرآن كريم با رويكرد اقتصاد اسلامى، مجموعه مقالات همايش بين المللى بررسى انديشه هاى اقتصادى آيت الله شهيد صدر، مركز مطالعات اقتصادى دانشگاه مفيد، با اهتمام سيد ضياء الدين كياء الحسينى، انتشارات دانشگاه مفيد، 1386هـ.ش.
  11. على اكبر بابائى: مكاتب تفسيرى، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ـ قم، 1387هـ.ش.
  12. على اكبر بابائى: مكاتب تفسيرى، تاريخ تفسير قرآن.. از عصر رسالت تا پايان عصر غيبت صغرا، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ـ قم، 1387هـ.ش.
  13. على سراقى: آسيب شناسی تفسير موضوعی، فصلنامه معرفت، شماره 107.
  14. على فتحى: تفسير موضوعی ومراحل آن، فصلنامه معرفت، شماره 107.
  15. على منتظرى: تفسير موضوعی وتفسير ترتيبى ونسبت ميان آنها، فصلنامه معرفت ، شماره 109.
  16. على نصيرى: مبانی کلامی تفسير موضوعی، فصلنامه انديشه نوين دينی، شماره 3.
  17. عمران عباس پور: تفسير موضوعی بررسی و نقد دلايل مخالفان، فصلنامه معرفت ، شماره 107.
  18. غلامعلى عزيزى: تفسير موضوعی قرآن کريم از ديدگاه آيت الله شهيد سيد محمد باقر صدر، فصلنامه معرفت، شماره 35.
  19. محمّد باقر سعيدى روشن: علوم قرآن، مؤسسه آموزشى وپژوهشى امام خمينى ـ قم، 1379هـ.ش.
  20. محمّد حسين حسينى طهرانى، سيّد: روح مجرد، چاپخانه دانشگاه مشهد، 1423هـ.
  21. محمد رضا داودى: اهل بيت عليهم السلام وتفسير موضوعی قرآن، فصلنامه معرفت، شماره 71.
  22. محمد على ايازى، سيد: تفسير موضوعى از نگاه شهيد صدر، مجله پيام جاويدان، سال اول، شماره 12، بهار 1383ش.
  23. محمد على ايازى، سيد: تفسير موضوعى چيست؟، مجله پيام جاويدان، سال اول، سماره اول، زمستان 1382ش.
  24. محمد على رضايى اصفهانى، دكتر: منطق تفسير قرآن (1)، مبانى وقواعد تفسير قرآن، جامعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله) العالميّة، الطبعة الأولى، 1387هـ.ش.
  25. محمد على رضايى اصفهانى، دكتر: منطق تفسير قرآن (2)، روشها وگرايشهاى تفسيرى قرآن، جامعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله) العالميّة، الطبعة الثالثة، 1387هـ.ش.
  26. محمّد على لسانى فشاركى وحسين مردانى زنجانى: روش شناسى تحقيق موضوعى در قرآن كريم، نشر مهر، 1385هـ.ش.
  27. محمد كاظم شاكر: مبانى وروش هاى تفسيرى، مركز جهانى علوم اسلامى، چاپ اول، 1382ش.
  28. محمّد محسن حسينى طهرانى، سيّد: اسرار ملكوت، مقدمه شرح حديث عنوان بصرى از امام صادق عليه السلام، انتشارات شهريار، 1425هـ.
  29. محمود رجبى: روش تفسير قرآن، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، چاپ سوم، 1387ش.
  30. مرتضى مطهرى، آيت الله: ده گفتار، انتشارات صدرا.
  31. ميرزا محمد مهرابى: بينش تاريخی شهيد صدر.. کليد شناخت فلسفه تاريخ در قرآن، ، فصلنامه نامه مفيد، شماره 10.
  32. ناصر مكارم شيرازى، آية الله العظمى: پيام امام اميرالمؤمنين عليه‏السلام‏.
  33. هدايت جليلى، سيد: تفسير موضوعى.. چيستى، بنيانها وپيش فرضها، بوستان كتاب، چاپ اول، 1387هـ.ش.