[lwptoc]
لا يخفى ما في تاريخ الإبداع والرقي الفكري العالمي من وجود جملة من ذوي الكفاءات العالية و الهمم الرفيعة، الذين تميزوا عن غيرهم برفد حركة الفكر الإنساني بعطائهم الخصب الثر.
وإذا كان ذلك الإبداع والرقي الفكري قد تميزت أسماء في تاريخه، فإن في مسار تطور الفكر الإسلامي أسماء لامعة لعظماء ومفكرين، وعباقرة مجددين تعاملوا مع أمتهم تعاملاً حياً بروحهم وفكرهم، حتى تفردوا في بناء الفكر الإسلامي – بما قدموه – على أسس صلبة وقواعد متينة.
ولا نغالي لو قلنا: إن الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( 83 – 148 هـ ) كان على رأس أولئك العظماء والعباقرة، والمتتبع لحياته الشريفة – من أي طرف كان – سيجده – شاء أم أبى – ذلك الرجل الاوحدي الذي تفرد في بناء الفكر الإسلامي في عصره، وشيد صرحه؛ فكان له الفضل في الحفاظ على هذا الدين – عقيدة وفكراً – من الانزلاق والانحراف عن المحجة الواضحة والصراط المستقيم كما أريد له ذلك عن قصد أو عن غير قصد.
فلا غرو إذن أن نجد لمدرسته ميزاتها وآثارها التي انطبعت على تراث من تخرج منها في كل عصر وجيل، كل بحسب مقدار ما يمتلكه من نبوغ ومؤهلات وكفاءات.
ولما كانت الأمور التي من شأنها أن تخلق من النابغين في مدرسة الإمام الصادق الحافلة بهم في تاريخها الطويل عظماء وعباقرة من الطراز الممتاز، تكاد تكون شبه معدومة في مجتمعاتنا اليوم، ولكون رحم الحياة لا يقذف إلينا بكل يوم عبقرياً؛ لذا صارت ولادة العباقرة في عصرنا عزيزة ونادرة.
ولعل في الحديث الشريف: «إن الله تعالى سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»((سنن أبي داود 4: 480 من كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المئة. ومستدرك الحاكم 4: 22، والخصائص الكبرى 3: 23.)). إيماءة إلى أنها في سائر العصور الإسلامية – الماضية والآتية – كذلك.
ومن هنا يعلم حجم الخسارة الفادحة التي مني بها الإسلام بشهادة الإمام والمفكر العظيم السيد الشهيد محمد باقر الصدر بصفته رمز المفكرين المسلمين في عصرنا الفقير إلى أمثاله.
كان الشهيد الصدر نسيجاً وحده، وأمةً في رجل، اجتمعت في شخصه خصال العظيمة، ورافقه النبوغ منذ صباه، مع الأدب الإسلامي الرفيع والتواضع العجيب في جميع مراحل حياته بشهادة المقربين إليه كما في سطور ترجمته، وهكذا إلى أن توج حياته بحلم الأنبياء شهادة في سبيل الله.
نعم، كانت حياة الصدر ملكاً لأمته، وقوله مرآة عاكسة لأفعاله؛ لأنه عرف دوره، وأدرك مسؤوليته، وعلم مصيره ولم يعقه ذلك من أداء رسالته – بعد أن رأى بثاقب بصيرته، ومن خلال رصده لمشاكل الأمة وأزمتها الفكرية والحضارية المعاصرة – باروع ما يكون عليه الراعي المسؤول عن رعيته، ومن هنا جاءت ( فلسفتنا ) و ( الأسس المنطقية للاستقراء ) – الذي لم يهضم إلى الآن إلا عند القلة القليلة النادرة – و( اقتصادنا )، لتكون بمثابة الخطوة الأولى في طريق ما ينبغي الوصول إليه. بل حتى مؤلفاته الأخرى، قد خرج أكثرها عن المألوف، إذ كان قبساً من فكره النير الوضاء المتجدد الذي حاول من خلاله أن يبدد ظلام النزعة الاستصحابية في ما عبر هو عن ذلك في محاضرتية المطبوعتين بعنوان : ” المحنة ) ، تلك النزعة التي كانت تقف كإعصار يواجه كل جديد حسبما أشار إليها الشهيد الصدر.
لا أُريد بهذا، الاستطراد إلى ما عاناه السيد الشهيد في محاولة تطويره أساليب العمل الفكري في وقته وبالشكل الذي يلبي حاجات الأمة، وينسجم مع معطيات العصر الحديث؛ ولا أريد أيضاً استعراض ما كتب عن انجازاته الخالدة على صعيد الفكر الإنساني هموماً، وبما يثبت أن عضده العلم قد فت بفقده بوقت بلغ فيه من العمر فورة العطاء الفكري وذروته.
نعم، بلا أُريد ذلك كله، لما في ترجمته الرائعة* ما يغني عن إعادة ذكره، ولكن ما أريده هنا هو إثارة من يعشق سمو الفكر والعطاء الخصب عند السيد الشهيد بخلو مجلاتنا ومقالاتنا وبحوثنا وكتبنا بالمرة عن بيان دور الإمام الصدر في علمي الدراية والرجال!!
أما عن الإشارات الطفيفة بخصوص ما أدخله الشهيد الصدر في علم الرجال كنظرية التعويض التي تطرق لها القليل من الباحثين والمحققين، فلا شك في أنها – وعلى الرغم من أهميتها – لا تعطي للباحثين صورة واضحة عن جهود السيد الشهيد في هذا الحقل المهم من الدراسة، مع أن تلك النظرية نفسها تحتاج إلى دراسات وبحوث معمقة من ذوي الاختصاص لما فيها من أهمية بالغة في علم الرجال، هذا زيادة على ما للشهيد الصدر من جهود علمية أخرى في حقلي الدراية والرجال يمكن إبرازها وإضافتها إلى رصيده العلمي بصفته مفكراً إسلامياً موسوعياً أعتنى بدراسة جميع ما يتصل بعلوم الشريعة الغراء.
ومن هنا كان إبراز تلك الجهود أولى بالعناية من غيرها، خصوصاً إذا علمنا كثرة الأبواب التي طرقها الباحثون في كتاباتهم عن فكر السيد الشهيد ما خلا هذا الباب الذي لا زال موصداً إلى الآن على الرغم من اقتراب الذكرى السادسة عشرة على استشهاده.
راجع ترجمة الشهيد الصدر في مقدمة مباحث الأصول ( تقريرات بحثه الشريف بقلم السيد كاظم الحائري ).
ونتيجة لذلك فقد ولدت فكرة البحث هذه، فعمدت أولاً إلى قراءة جميع ما وقع بيدي من كتب السيد الشهيد المطبوعة، مع تقريرات بحثه الشريف الأصولية التي كتبها السيدان الجليلان: السيد محمود الهاشمي والسيد كاظم الحائري، وكنت أسجل ما أقف عليه – أثناء قراءتي – من المطالب الدرائية والرجالية في جذاذات خاصة، وما إن فرغت من ذلك حتى شرعت بتصنيفها، فوجدتها كافية لتأليف كتاب مستقل في خمسة فصول، تشتمل على جميع مباحث الدراية والرجال التي، تناولها الشهيد الصدر في كتبه الأصولية والفقهية وغيرها.
وحيث إنا على موعد قريب من الذكرى المؤلمة السادسة عشرة على استشهاده، رأيت أن أهدي إلى روحه الطاهرة في هذه المناسبة بحثاً عاجلاً يتضمن بعض ما تناوله من تلك المباحث، فعدت ثانية إلى جذاذاتي لانتخب مما سجلته فيها من جديد غير مألوف بساحتنا العلمية، ولم يكن لأهل هذا الفن – قبل السيد الشهيد – عهد بمنهجه الجديد في علمي الدراية والرجال، فكان هذا البحث الذي أسميته :
« الجديد في علمي الدراية والرجال عند الشهيد الصدر » وقد تناولت فيه:
أولاً: دراسة نظرية للسيد الشهيد في تعويض الأسانيد، مبيناً وجوهها، وشروطها أو حالاتها، وتطبيقاتها، وما أثير حولها من إشكالات.
ثانياً: إدخال حساب الأحتمال في علمي الدراية والرجال.
ثالثاً: الجديد عند السيد الشهيد في بحث التعارض.
ممهداً لهذا ببحث موجز عن أدوات البحث عند السيد الشهيد لكي لا نغمط المألوف في بحثه حقه حتى من الإشارة.
ولا أدعي في هذا البحث بأني استوفيت كل جديد عنده، فقد تركت مناقشاته السندية، وتحقيقاته الرجالية التي لم أجدها في كتب الرجال بشأن بعض الرواة بما تصلح لان تكون رسائل رجالية مستقلة، عسى أن يوفقني الله عز وجل في هذه الغربة – مع بعد الأهل والأحبة – لبحثها في المستقبل.
وإذا ما كان هذا البحث جديداً، فلكل جديد لا يخلو من هفوات الا ما صدر عن معصوم لذا أطلب الصفح الجميل على يري فيه من تقصير ، علي أن لا يمنع ذلك من أن يكون هذا التوجه الجديد في البحث نقطة انطلاق لتراكم الأعمال النقدية الهادفة . التي من شأنها أن تحقق الغرض المنشود من وراء ذلك ألا وهو إظهار ما للسيد الشهيد محمد باقر الصدر من إسهامات جادة وفعالة في عملي الدارية والرجال، والتي لم يعرف عنها بعد إلا الشيء القليل.
أدوات البحث عند السيد الشهيد
في علمي الدراية والرجال
نعني بأدوات البحث هنا كل ما كان له حضور فعال أو تأثير مباشر في إيجاد البحث الدرائي والرجالي عند السيد الشهيد الصدر، سواء أكان ذلك على مستوى مصادر البحث ومراجعه، ومدى الاستفادة منها وأولويتها عنده من حيث الاعتماد، أم على مستوى حاجته – كفقيه لا مع – إلى المألوف من مباحث علمي الدراية والرجال، والاستدلال بما يراه صحيحاً منهما على وفق مبانيه العلمية. أو على مستوى تطوير وتجديد بعض تلكم المباحث على ضوء معطيات هذا الفن واختلاف مبانيه كما هو معروف بين أربابه، أو ابتكار الجديد منها والريادة فيه.
وبناء على ذلك فإنه من الممكن تقسيم أدوات البحث عند السيد الشهيد في علمي الدراية والرجال إلى قسمين وهما:
القسم الأول: الأدوات المتداولة.
القسم الثاني: الأدوات المطورة والمبتكرة.
ومما يلحظ بدواً على هذا التقسيم أنه لم يفصل الأدوات المبتكرة عن المطورة مع أن المبتكر غير المطور، فالأولى أن يعد ما ابتكره السيد الشهيد قسماً ثالثاً.
والجواب، أن في بعض ما أحدثه السيد الشهيد من تطوير في أدوات البحث المألوف لم يكن مألوفاً لما فيه من قفزة نوعية جعلته ابتكاراً في حد ذاته، والذي يراد بالمطور هنا هو ما فيه خلف وإبداع وجدة، وليس التطور التقليدي والمقتصر على العرض والبيان، أو الخالي من لمسات الجمال والابداع، وإذا كان ذلك كذلك فهو من الابتكار كما سنتوفر عليه في دراسة أدوات البحث عند الشهيد الصدر في قسمها الثاني.
وعلى أية حال، فقد اشتمل القسم الأول من أدوات البحث على مصادر البحث الأساسية عند الشيعة الإمامية في علوم الحديث الشريف رواية ودراية زيادة على المصادر الأساسية في علم الرجال عندهم أيضاً، مع المصادر الثانوية في هذا العلم بصفتها مساعدة ومنبهة؛ لكنها قد ترقى أحياناً – لنكات علمية – إلى درجة تضاهي – من حيث الاعتماد – المصادر الأساسية، وربما قد تقدم عليها في حالات خاصة لما فيها من تنقيح وتحقيق.
وليس من الضروري هنا التعرض الي بيانها تفصيلا ، لعدم خفاء المراد بالمصادر الاساسية والثانوية في هذا الحقل العلمي لامكان حصر الاساسية منها بجيل المؤسسين ، والثانوية بأجيال المتممين والجامعين والمحققين والمنقحين ، لكن المهم هنا هو تأكيد عدم وجود شيء مسلم الصحة منها – علي نحو مطلق – عند الامام الصدر ، دون احالة الفكر وتصويب النظر في جميع ما يدخل في دائرة الاستدلال ، للتأكد الشخصي من سلامته وعدم الاكتفاء بما سبق من الحكم بصحته واعتماده.
ولهذا نرى السيد الشهيد يناقش كثيراً في نتائج أدوات البحث المألوفة، حتى ما ادعي الاتفاق عليه لم يسلم – بعضه – من نقده البناء، فهو قد يضعف ما وصف بالصحة والاعتبار، ويصحح ما ضعفه من قبله.
وأما في مجال تعميم أدوات البحث عند السيد الشهيد، فإنا نجد التفاعل المثمر مع أدوات البحث عند أهل السنة أيضاً؛ لكي يستكشف من وراء ذ لك حجم الاتفاق أو الافتراق في خصوص الأمور المطروقة.
وأما بالنسبة إلى حاجته إلى مباحث الدراية والرجال كأدوات بحث مألوفة، فهي حاجة كل فقيه في مقام تنقيح الأدلة في عملية الاستنباط من الحديث الشريف، إذ لا بد من اتخاذ الموقف العلمي المناسب إزاء ما يتصل بمدارك الأحكام الشرعية من المباني العلمية المختلفة في دراية الحديث ورجاله.
ولاتصال هذا القسم من أدوات بحث السيد الشهيد بكثير من المباحث المألوفة والمفهرسة عندي قبل انتخاب هذه الدراسة، فلا مجال للتعرض هنا إلى بيان تطبيقات هذا القسم من أدوات بحث السيد الشهيد، غاية الأمر، أن مراعاة منهج البحث وخطته في تقديم صورة موجزة عن أدوات بحث السيد الشهيد في علمي الدراية والرجال اقتضت التنويه بأدوات بحثه المألوفة دون تطبيقاتها الواسعة في كتبه، وفصلها – تعريفاً – عن أدوات البحث في قسمها الثاني، والتي عقد هذا الفصل – حقيقة – لأجلها، فنقول:
الأدوات المطورة والمبتكرة عند السيد الشهيد
المراد بأدوات البحث المطورة عند الشهيد الصدر – كما تقدم – هي المباحث التي أحدث فيها قفزة نوعية بعد أن كانت مبعثرة وغير منتظمة في مباحث الأعلام السابقين، فصاغها بقوالب جديدة، وأطرها بأطر علمية واضحة لم تكن معروفة قبله. وهذا ما يؤهلها لأن تكون ابتكاراً للشهيد لا تطويراً فضلاً عن المباحث الأخرى التي لم تكن معروفة ولا معهودة عند غير السيد الشهيد، كما سترى في دراستها على النحو التالي:
أولاً تطوير تعويض الأسانيد إلى نظرية
يحسن بنا أن نبين تحت هذا العنوان جملة من الأمور المهمة، قبل دراسة نظرية الإمام الصدر المسماة بـ ( نظرية التعويض ).
منها: المراد بفكرة التعويض في علم الرجال سابقاً.
ومنها: جذور فكرة التعويض تاريخاً .
ومنها: تطبيقات فكرة التعويض قبل صياغتها إلى نظرية؛ لكي يتضح من خلال تقديم هذه الأمور الثلاثة – ولا سيما آخرها – القيمة العلمية لهذه الفكرة، ومدى صلاحيتها في تعويض السند الضعيف بغيره، ومن ثم العروج إلى دراسة فكرة التعويض كنظرية قائمة ذات أبعاد علمية ووجوه خاصة، مع بيان تطبيقاتها عند السيد الشهيد وتلامذته الأجلاء، وعلى النحو التالي.
1 – المراد بفكرة التعويض في علم الرجال سابقاً.
المراد بفكرة التعويض في علم الرجال قبل بزوغ شمس نظرية التعويض التي ابتكرها الشهيد محمد باقر الصدر، هو: تبديل الأسانيد الضعيفة الناقلة لمتون الأحاديث بأسانيد جديدة معتبرة، بغض النظر عن مناشئ ضعف الأسانيد، كالارسال أو وجود الضعيف فيها، أو الذي لم يثبت توثيقه، مع انحصار ذلك التبديل في أسانيد كتابي شيخ الطائفة، وهما التهذيب والاستبصار تقريباً، وضمن كيفية غير ثابتة، ولا واضحة المعالم عند جميع من تعرض لذلك قبل السيد الشهيد، بل كان يجري التبديل عندهم كل بحسب ما يمليه عليه علمه واجتهاده، كما سنرى في تطبيقات تلك الفكرة.
2 – جذور فكرة التعويض تاريخياً.
يمكن إرجاع فكرة تعويض الأسانيد في علم الرجال – بصورتها الابتدائية – إلى فهارس مشايخنا الأقدمين رضوان الله تعالى عليهم، إذ كان بعضهم يفرد فهرسةً إلى الكتب الواصلة إليه، ويبين طريقة إليها، فلو فرض انه روى من أحد تلك الكتب رواية بسند ضعيف ودونها في كتاب له فيمكن تبديله بما ذكره هو من سند – إن كان صحيحاً – إلى ذلك الكتاب في فهرس كتبه.
ومن هذه الفهارس، فهرس أبي عبد الله الحسين بن الحسن بن بابويه، فقد روى في هذا الكتاب كتاب الراهب والراهبة لربعي بن عبد الله وذكر الطريق إليه، كما في آخر ترجمة ربعي في رجال النجاشي((رجال النجاشي: 167 / 441.)).
ومنه أيضاً فهرس محمد بن جعفر بن أحمد المعروف بابن بطة، ذكره النجاشي أيضاً في ترجمته((م . ن: 373 / 1019.))،واعتمده في رجاله كثيراً، كما أكثر الشيخ عنه جداً في الفهرست كما يظهر من تكرار وقوعه في الكثير من طرق الشيخ إلى الأصول والكتب والمصنفات.
ومن هذه الفهارس، فهرس شيخ الطائفة، ورجال النجاشي وسيأتي الحديث عنهما في هذا البحث. هذا، ويمكن عد ( المشيخات ) من جذور هذه الفكرة أيضاً، وهي نوع من التصنيف الرجالي القديم عند مشايخنا، يختص بذكر أسانيدهم إلى مروياتهم من بعض الكتب المعتمدة والأصول والمصنفات المشهورة.
منها مشيخة ( من لا يحضره الفقيه ) للشيخ الصدوق ( ت / 381 هـ )، والتي يعبر عنها بـ ( مشيخة الفقيه ). إذ استدرك الشيخ الصدوق بها على ما رواه من الكتب بصورة التعليق في متن الفقيه، ذاكراً فيها طرقه إلى من ابتدأ السند بهم، وهم في الأعم الأغلب من مؤلفي الكتب المعتمدة في الفقيه إلا القليل النادر منهم كما بين في محله.
وطريقته تلك يمكن اعتبارها نوعاً ما من أنواع التعويض، وذلك بتعويض ما أرسله في الفقيه عن شخص بالطريق الصحيح إليه في المشيخة ليخرج ما رواه – بهذا – عن حد الإرسال.
ومن تلك ( المشيخات ) مشيخة التهذيب والاسبتصار لشيخ الطائفة ( ت / 460 هـ )، ولعل فكرة تعويض الأسانيد في علم الرجال ترجع بالدرجة الأساس إليهما، وذلك فيما
يتضح من طريقة الشيخ في أسانيد التهذيب والاستبصار ومقارنة ذلك بما وضعه – في آخر الكتابين – من مشيخة لكل منهما * وما قاله فيهما.
لقد سلك الشيخ في أسانيد التهذيبين ( التهذيب والاستبصار ) تارة مسلك الشيخ الكليني في كتابه الكافي، وذلك بذكر سلسلة السند كاملة ابتداءً من مشيخة وانتهاءً بالراوي الأخير عن المعصوم ، وأخرى مسلك الشيخ الصدوق في كتابه الفقيه، وذلك بحذف صدر السند والابتداء بمن نقل من كتابه أو أصله، مع الاستدراك في آخر الكتابين – كما تقدم – بمشيخة ذكر فيها طرقه إلى أولئك الذين روى عنهم ابتداء وبصورة التعليق.
ولكنا نجد الشيخ لم يستوف كامل الطرق في المشيختين، إذ ترك بعض من روى عنه بصورة التعليق من غير بيان طريقه إليه فيهما ، مكتفياً في آخر مشيخة الاستبصار بالحوالة إلى فهارس الشيوخ المصنفة في هذا الباب – ويعني بها فهارس الكتب والمشيخات السابقة – فقال:
أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء الله تعالى»((
تعتبر المشيختان مشيخة واحدة؛ لعدم الاختلاف بينهما إلا في بعض الطرق القليلة النادرة كما حققناه في مكان آخر أثناء علمنا في مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) لإحياء التراث.
الاستبصار 1: 334، من المشيخة.)).
ومثل هذا القول نجده أيضاً في آخر مشيخة التهذيب، مع زيادة قوله: «وقد ذكرنا نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة…»((تهذيب الأحكام 10: 88، من المشيخة.)).
ولا يخفى، أن الفهارس الواصلة إلينا مثل مشيخة الصدوق، ورسالة أبي غالب الزراري، وفهرست الشيخ الطوسي نفسه، هي من جملة الفهارس التي أرجع إليها الشيخ في نهاية المشيختين((هناك إشكال في إدخال مشيخة الصدوق في الفقيه ضمن فهارس المشايخ التي أرجع إليها الشيخ ستأتي مناقشته في هذا البحث.))، بل وحتى فهرست النجاشي المعروف برجال النجاشي يمكن استخدامه في عملية التعويض على الرغم من تأخره تصنيفاً عن الفهرست كما هو ظاهر من ترجمة الشيخ عند النجاشي، إذ عد الفهرست من جملة مصنفات الشيخ، وهذا ما سنفصله عند الحديث عن الوجه الثالث من الوجه الثالث من وجوه نظرية التعويض عند الشهيد الصدر.
ومما يلاحظ في كلام الشيخ أن الحوالة منه إلى فهارس الشيوخ لم تكن لمجرد الاطلاع على ما لم يذكره من الطرق إلى من روى عنه بصورة التعليق، وإنما للوقوف أيضاً على الطرق الأخرى إلى من روي عنه بتلك الصورة وذكر له طريقاً، وهذا المعنى يفهم من قوله في كلتا المشيختين: «قد أوردت جملاً من الطرق… ولتفصيل ذلك شرح يطول».
ومن هنا نمت فكرة تعويض الأسانيد عند علمائنا بعد أن وجدت مبرراتها العلمية من الحوالة الصريحة إلى فهارس الشيوخ، ووصول بعض تلك الفهارس إلينا ومنها فهرست الشيخ بنفسه، ووجود بعض روايات التهذيب المرسلة التي لم يذكر لمصدرها طريق في المشيخة، فما المانع إذن من تعويض أسانيد تلك الروايات بما يناسبها من الفهرست مثلاً؟
والحق أن فكرة التعويض تلك انصبت وبشكل مباشر على أسانيد الشيخ في التهذيبين دون عداهما، إلا في حالات قليلة ونادرة، وهي وإن لم تكن عندهم بعنوان ( التعويض )، إلا أنها اتخذت شكل التعويض في طريقها إلى بحوثهم وكتبهم حتى كانت لها – كما يظهر من خلاصة أقوالهم – ثلاث محاولات وهي:
المحاولات الأولى: استبدال طرق الشيخ الضعيفة المذكورة في المشيختين إلى أرباب الأصول والكتب والمصنفات بطرقه الصحيحة إليهم في الفهرست.
المحاولة الثانية: استبدال تلك الطرق نفسها بطرق الشيخ الصدوق في مشيخة الفقيه، بعد وصل طريق الشيخ بطريق الصدوق من جهة الفهرست، وهذه المحاولة نادرة جداً في تطبيقاتهم لفكرة التعويض.
المحاولة الثالثة: تتميم طرق الشيخ في مشيخة التهذيبين، وذلك بخصوص ما لم يذكر له طريق في المشيخة، بطريقة إليه في الفهرست((لخصنا هذه المحاولات الثلاثة من كلمات أعلامنا، وقد نجد بعضها صريحاً في كتبهم. أنظر: منتقى الجمان 1: 23و 28و 41، وعدة الرجال 2: 259، وجامع المقال: 46، وتكملة الرجال 2: 784، 2: 778 من الفائدة الرابعة، ورجال السيد بحر العلوم 4: 74 من الفائدة الرابعة، ونهاية الدراية: 588، وخاتمة مستدرك الوسائل 3: 1084 وما بعدها من الفائدة السادسة، وقمدمة جامع الرواة للسيد البروجردي ( بدون ترقيم ) طبع دار الاضواء – بيروت.))
ومما يلحظ في هذه المحاولات الثلاث أنها كانت تتسم بغياب المنهج العلمي في تطبيقها، مع افتقار تلك المحاولات إلى صياغة علمية جديدة موحدة تعين بموجبها كيفية التعويض وشروطه ووجوهه بشكل منظم.
3 – تطبيقات فكرة التعويض قبل صياغتها إلى نظرية:
إن تطبيقات فكرة تعويض الأسانيد الضعيفة، أو تتميم طرق الشيخ في التهذيبين لا تكاد تجدها تخضع – قبل نظرية التعويض التي ابتكرها الشهيد الصدر إلى نظام ثابت، بل هي في معظم أشكالها لا تخلو من إشكال، ولقد تأمل بعضهم في بعضها((انظر: تكملة الرجال 2: 778 من الفائدة الرابعة.)).
ويبدو واضحاً أن الإجمال والغموض اللذين اكتنفا فكرة التعويض – سابقاً هما السبب المباشر الذي جعل تلك التطبيقات مبعثرة وغير منتظمة مع ما فيها من فائدة عظيمة إذ سهلت – فيما بعد – بلورتها إلى نظرية.
وكشاهد على ما نقول، هو ما نجده في نقد الرجال للسيد مصطفى التفريشي ( ت / بعد سنة 1044 هـ )، فقد زاد فيه على طرق الشيخ المذكور في مشيخة التهذيب واحداً
وثلاثين طريقاً، أخذها جميعاً من فهرست الشيخ((نقد الرجال: 417 – 419، من الفائدة الرابعة.))، ولو طبقنا أصول نظرية التعويض على تلك الطرق لوجدنا فيها ما لا يساعد على جعله طريقاً إلى روايات التهذيب. ومما لا شك فيه أن هذا لا يضر كمال نفاسة النقد، ولا ينال من نهاية دقته، ولا يقلل من كثرة فائدته((وصف الأردبيلي في جامع الرواة 2: 233 كتاب نقد الرجال بانه في كمال النفاسة، ونهاية الدقة، وكثرة الفائدة، وهو كما قال رحمه الله تعالى.)).
وقد سبقه إلى ذلك الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني ( ت / 1011 هـ ) في كتابه: منتقى الجمان، حيث ذكر العدد نفسه من طرق الفهرست في الفائدة الخامسة التي عقدها لبيان طرق الشيخ إلى أكثر من روى عنه في التهذيب والاستبصار بطريق التعليق في الأخبار، على حد تعبيره((منتقى الجمان 1: 28، من الفائدة الخامسة.)).
كما نجد ذلك التطبيق – وبشكل موسع – عند الشيخ الأردبيلي ( ت / 1100 هـ ) في كتابه: جامع الرواة، فقد خصص فيه الفائدة الرابعة لدراسة أسانيد كتابي الشيخ عاطفاً عليها جميع أسانيد كتابه الفهرست تقريباً، وتلك الفائدة هي خلاصة رسالته المعروفة بـ ( رسالة تصحيح الأسانيد )، ومما يلحظ في هذه الفائدة أنه ذكر فيها طرقاً كثيرة للشيخ نسبها إلى مشيخة التهذيب، مع الحكم بصحة بعضها، وبضعف البعض الآخر، ولا وجود لها في المشيخة جميعاً، لا في المطبوعه ولا في المخطوط المتيسر.
وإليك بعض ما وقفت عليه من تلك الطرق التي لم يذكرها الشيخ لا في مشيخة التهذيب ولا في مشيخة الاستبصار، وهي:
قال الأردبيلي:
وإلى أحمد بن محمد بن عاصم، صحيح في المشيخة.
وإلى إسحاق بن عمار، صحيح في المشيخة.
وإلى حريز بن عبد الله، صحيح في المشيخة.
وإلى الحسين بن محمد، صحيح في المشيخة.
وإلى حميد بن المثنى، صحيح في المشيخة.
وإلى عاصم بين حميد ، صحيح في المشيخة .
وإلى عبد الله بن أبي زيد الأنصاري، صحيح في المشيخة.
وإلى عبد الله بن سنان، صحيح في المشيخة.
وإلى عيسى بن هشام، صحيح في المشيخة.
وإلى العلاء بن رزين، صحيح في المشيخة.
وإلى علي بن أبي حمزة البطائيني، صحيح في المشيخة.
وإلى علي بن الحكم، صحيح في المشيخة.
وإلى علي بن يقطين، صحيح في المشيخة.
وإلى غياث بن إبراهيم، صحيح في المشيخة.
وإلى محمد بن أسلم الجبلي، صحيح في المشيخة.
وإلى محمد بن سنان، صحيح في المشيخة.
وإلى معاوية بن عمار، صحيح في المشيخة.
وإلى منصور بن حازم ، صحيح في المشيخة .
وإلى وهب بن وهب، صحيح في المشيخة.
وإلى إسماعيل بن أبي زياد، ضعيف في المشيخة.
وإلى إسماعيل بن مهران، ضعيف في المشيخة.
وإلى أصبغ بن نباتة… ضعيف في المشيخة.
وإلى الحسن بن علي الوشا، ضعيف في المشيخة.
وإلى حماد بن عيسى، ضعيف في المشيخة.
وإلى طلحة بن زيد، ضعيف في المشيخة.
وإلى عامر بن جذاعة، ضعيف في المشيخة.
وإلى عبد الله بن بكير، ضعيف في المشيخة.
وإلى محمد بن خالد البرقي، ضعيف في المشيخة.
وإلى محمد بن مسعود العياشي، ضعيف في المشيخة.
وإلى معاوية بن حكيم، ضعيف في المشيخة.
وإلى ياسر الخادم، ضعيف في المشيخة.
وإلى محمد بن إسماعيل بن بزيع ، حسن في المشيخة.
وإلى عبد الله بن مسكان، مجهول في المشيخة.
وإلى بكر بن محمد الأزدي، فيه ابن أبي جيد في المشيخة((إذا كان الطريق مختلفاً فيه بين الاعتبار وعدمه، فإن من منهج الأردبيلي في تلك الفائدة – كما صرح في مقدمتها– ان يذكر اسم الشخص الذي صار الطريق بسببه خلافياً.
انظر: جامع الرواة 2: 475 من الفائدة الرابعة .)).
وإلى حماد بن عثمان طريقان: أحدهما موثق، والآخر فيه ابن أبي جيد في المشيخة. وغيرهما مما لم يقع نظري عليه((راجع: جامع الرواة 2: 475 وما بعدها للوقوف على هذه الطرق وغيرها، وقارن بنقد الرجال كما مر ستجد طرقه فيه.)).
ولعدم وجود هذه الطرق في مشيخة التهذيب ولا مشيخة الاستبصار، فقد ذهب بعض المتأخرين إلى القول بسهو قلم الأردبيلي في تلك الموارد!
والغريب في الأمر أن المحدث النوري الذي نقل خلاصة رسالة تصحيح الأسانيد من الفائدة الرابعة من جامع الرواة إلى الفائدة السادسة من فوائد خاتمة مستدرك الوسائل؛ مع أنه قد حام حول فكرة التعويض في تلك الفائدة كما يظهر من تتبعه لما يجده صحيحاً من طرق النجاشي والشيخ الصدوق في مشيخة الفقه إلى أصحاب الكتب الذين كانت طرق الشيخ إليهم ضعيفاً في المشيخة أو الفهرست، فيذكرها عقيب نقله
عن الأردبيلي ضعف تلك الطرق عند الشيخ في المشيخة أو الفهرست، مصدراً قوله بـ: ( قلت ) وفي آخره: ( انتهى )، وبشكل مطرد في الفائدة المذكورة((انظر: خاتمة مستدرك الوسائل 3: 1084 – 1159 من الفائدة السادسة.))، نراه قد اعترض على قول الأردبيلي المتقدم: «وإلى إسماعيل بن مهران، ضعيف في المشيخة» وكذلك على قوله «وإلى أصبغ بن نباتة … ضعيف في المشيخة» مشيراً إلى سهو قلم الأردبيلي في هذين الموردين، من أن الشيخ لم يذكر لهما طريقاً في المشيخة!((خاتمة مستدرك الوسائل 3: 1087 من الفائدة السادسة، في الطريق إلى إسماعيل بن مهران، وإلى أصبغ بن نباتة.)) ولم يحتمل كونهما مستنبطين من مكان آخر على أساس فكرة التعويض التي حام حولها كثيراً في تلك الفائدة !
والحق أن نسبة السهو تلك إلى قلم الأردبيلي في هاتيك المواضع _كلها أو بعضها _ من لدن البعض ، نسبة غير صحيحة ، والظاهر أن عدم وضوح منهجه في استنباط الطرق الجديدة لمشختي الشيخ بالاعتماد على فكرة التعويض كان السبب وراء إطلاق تلك النسبة؛ لأن معظم تلك الطرق – إن لم يكن كلها – مستفاد من طرق الشيخ في الفهرست وبعضها من أسانيد التهذيبين نفسه، كما يكشفه مسلكه الآخر في استنباط الطرق الجديدة للتهذيبين، وهو يعد نوعاً من التعويض أيضاً؛ إلا أنه استنباط ضعيف لا يخلو من إشكال كما نبه عليه صاحب أعظم موسوعة رجالية في تاريخ الشيعة الإمامية، السيد البروجردي.
ومنشأ هذا الضعف كما في مقدمة جامع الرواة بقلم السيد البروجردي: «أنه إذا رأى في سند من أسانيدهما [ يعني: التهذيبين ] صاحب كتاب أو أصل، استظهر أنه الحديث المروي بذلك السند مأخوذ من كتاب هذا الرجل، وأن الرواة الذين توسطوا في سنده – بين الشيخ وبينه – رووا هذا الحديث عنه؛ بسبب روايتهم لجميع ما في كتابه من الروايات، ولذلك إذا رأى أن الشيخ روى عن هذا الرجل روايات أُخر وبدأ بذكره في أسانيدهما، ولم يذكر في المشيخة والفهرست إليه طريقاً، أو ذكر إليه طريقاً ضعيفاً على المشهور حكم بصحتها لما وجده من الطريق الصحيح أو المعتبرة إلى كتابه»((
مقدمة جامع الرواة للسيد البروجردي ( بدون ترقيم )، طبع دار الأضواء بيروت.
المراد بالجماعة أو العدة في فهرست الشيخ هم: الشيخ المفيد، والحسين بن عبيد الله، وابن عبدون، وغيرهم على حد تعبير الشيخ كما في تراجم جماعة في الفهرست، وهم: إبراهيم بن هاشم: 4 / 6، وأحمد بن الحسن الاسفراييني: 27 / 74، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي: 19 / 53، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي: 21 / 55، بن سيار: 23 / 60، وجعفر بن محمد بن قولوية: 42 / 130، وعمر بن محمد بن سالم البراء: 14 / 494.)).
ثم بين السيد البروجردي الإيرادات التي ترد على هذا الاستنباط، فراجع.
ولعل من أقرب تطبيقات فكرة التعويض إلى أصول نظرية التعويض عند السيد الشهيد، هو ما ذكره المحقق الكاظمي في تكملة الرجال، فقد استبدل طريق الشيخ إلى محمد بن أبي عمير في مشيخة التهذيب بطريقه إليه في الفهرست، فقال: «ويفهم كون الطريق إليه صحيحاً من الفهرست، حيث قال فيه: ( أخبرنا بجمع رواياته وكتبه جماعة*، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبد الله والحميري، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير»((
نصر البزنطي: 19 / 53، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي: 21 / 55، بن سيار: 23 / 60، وجعفر بن محمد بن قولوية: 42 / 130، وعمر بن محمد بن سالم البراء: 14 / 494.
فهرست الشيخ: 142 / 607، وانظر طريق الشيخ إلى ابن أبي عمير في مشيخة التهذيب 10: 79، وقد وقع في الطريق جعفر بن محمد العلوي، وظاهر صنيع التكملة عدم القول بوثاقته.)).
وطريقه إلى محمد بن علي صحيح، والباقي ثقات، إلا أن إبراهيم ما صرح بتوثيقه، وخبره قد يسمى بالحسن، وقد يسمى بالصحيح، ويمكن تصحيحه من الفهرست بطريق آخر»((تكملة الرجال 2: 784.)) انتهى.
أقول: لعله قصد بتصحيحه من الفهرست بطريق آخر، هو استبدال إبراهيم بن هاشم الواقع في هذا الطريق بواحد من المنصوص على وثاقتهم ممن في طبقته كالصفار، أو يعقوب بن يزيد، أو محمد بن الحسين، أو أيوب بن نوح، أو محمد بن عيسى بن عبيد، فقد وضعوا جميعاً مع إبراهيم بن هاشم أيضاً – بعطف أحدهم على الآخر – في الطريق الثاني الذي ذكره الشيخ – في الفهرست إلى جميع كتب ابن أبي عمير ورواياته أيضاً.
ولكن قد يشكل على الطريق الثاني بابتدائه بابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفار.
وأبن أبي جيد من المختلف فيه – كما مر عند الأردبيلي – وإن كان الأكثر على وثاقته وعلى أية حال فإنه من الممكن دفع الإشكال المذكور استناداً إلى فكرة التعويض – فيما لو علم ان للشيخ طريقين إلى جميع كتب وروايات ابن أبي عمير في الفهرست وهما:
الأول: رواه الشيخ عن جماعة: عن ابن الوليد، عن سعد…
الثاني: رواه الشيخ عن ابن أبي جيد، عن بن الوليد، عن الصفار…
وكلاهما إلى جميع كتب وروايات ابن أبي عمير، ولما كان ابن الوليد راوياً لجميع تلك الكتب والروايات، وواقعاً في الطريقين، فيمكن استبدال واسطة الشيخ إليه في طريقه الثاني ( أعني: ابن أبي جيد )، بواسطته إليه في الطريق الأول وهم الجماعة، وقد عرفت ان فيهم الشيخ المفيد وهذا يكفي لتصحيح الطريق، وإن كان في الأصل صحيحاً لوثاقة ابن أبي جيد عن الأكثر وهو الصحيح.
وأقرب من هذا التطبق هو ما ذكره السيد مصطفى التفريشي في نقد الرجال في الفائدة الرابعة التي خصصها لطرق الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه، فقد صحح فيها طريق الشيخ إلى الحسن بن محبوب اعتماداً على طريقه اليه في الفهرست الذي ابتدأ بقول الشيخ: ( أخبرنا بجميع كتبه وروايته فلان، عن فلان… الخ ).
ثم قال السيد بعد هذا: « وعلى ما نقلنا طريق الشيخ إليه صحيح مطلقاً »((نقد الرجال: 418، من الفائدة الرابعة.)).
ونكتفي بهذا القدر من تطبيقات فكرة التعويض قبل صياغتها إلى نظرية على يد الشهيد الصدر، وقد ظهر من خلالها أن أغلبها لا يخلو من إشكال ولا يتفق مع أصول
النظرية – كما سيأتي – وإن أقترب البعض منها مع غياب المنهج العلمي في التطبيق.
نظرية التعويض
لا شك في أن ارتقاء فكرة التعويض إلى نظرية لم يكن عند غير الشهيد الصدر، فهو أول رجل في الإسلام أدخل نظرية تعويض الأسانيد في علم الرجال.
وعلى الرغم من الحاجة الماسة إلى هذه النظرية الرجالية لما يترتب على نتائجها من آثار وثمرات رجالية مهمة، إلا أنها لم تحظ بالعناية الكافية التي تتناسب وأهميتها، مع أنها جديرة بأن تفرد لها البحوث والكتب.
ولعل من أهم المراجع التي تيسر للباحث الوقوف على هذه النظرية ثلاثة كتب لا غير.
أولها: كتاب مباحث الأصول وهو تقريرات بحث السيد الشهيد الصدر كتبها تلميذه السيد كاظم الحائري، طبع في قم سنة 1415هـ، تحدث فيه عن النظرية في ج3 ق2 من ص238 إلى ص261.
وثانيها: كتاب تحرير المقال في كليات علم الرجال للشيخ مهدي الهادوي الطهراني. طبع في طهران سنة 1412 هـ.
وقد تحدث فيه عن نظرية التعويض من ص129 إلى ص139 والتي أخذها عن أستاذه السيد كاظم الحائري وكتابه مباحث الأصول. كما أنه صرح بنسبتها إلى السيد الشهيد الصدر.
وثالثها: كتاب القضاء في الفقه الإسلامي وهو للسيد كاظم الحائري أيضاً طبع في قم سنة 1415 هـ، بحث فيه هذه النظرية من ص52 إلى ص65، مصححاً بها سند عهد مالك الأشتر.
وهناك بعض التطبيقات المهمة لها في كتب السيد الشهيد كبحوثه في شرح العروة، وكذلك تقريرات بحثه الأصولي التي كتبها السيد الهاشمي، وكتاب الخمس للسيد الهاشمي أيضاً.
هذا ولم أجد في غير هذه الكتب ذكراً لنظرية التعويض، ومنه يعلم فضل السيد الحائري في إحياء هذه النظرية.
نعم، بعد الشروع بكتابة هذا البحث، وعند الوصول إلى هذا الموضع بالذات وقع بيدي كتاب جليل بعنوان: « أصول علم الرجال بني النظرية والتطبيق» كتبه الشيخ محمد علي المعلم تقريراً لبحث أستاذه الشيخ مسلم الداوري، وقد صدر حدياً في قم سنة 1416 هـ وقد أفرد فيه مبحثاً بعنوان: ( الطرق الأخرى لتصحيح روايات الكتب الأربعة ) بدأ من ص: 103 إلى ص: 116، وقد التقت ثلاثة من تلك الطرق بنتائجها مع وجوه نظرية التعويض تقريباً، من دون إشارة إلى النظرية، ولا إلى لفظ ( التعويض ) أيضاً؛ لعدم الاطلاع على النظرية، وأما عن توارد الأفكار في هذا الكتاب القيم فهو إنما يعبر عن جودة التحقيق فيه وبنسبة عالية، مع الاستفادة الواضحة من بذور تلك الفكرة وجذورها التاريخية التي لم تكن معروفة هي الأخرى باسم ( التعويض ).
ولهذا سيكون جل اعتمادنا في توضيح هذه النظرية وتبسيطها وبيان وجوهها وتطبيقاتها على المراجع الثلاثة الأولى المتقدمة، مع إضافة ما يمكن إضافته عليها، فنقول:
تعريف نظرية التعويض
عرفها الشهيد الصدر بقوله: «وهي فرض التصرف في السند إما باعتبار المقطع الأول بما فيه من نقطة الضعف، أو باعتبار المقطع الثاني بما فيه من نقطة الضعف، أو باعتبار تمام السند واستبداله بسند آخر»((مباحث الأصول / السيد كاظم الحائري ( تقريراً لأبحاث السيد الشهيد الصدر ) ج3 ق2: 238.)).
ويظهر من هذا التعريف الفارق الكبير بين فكرة التعويض سابقاً، ونظرية التعويض، إذ كان التعويض في السابق لا يتعدى – في الغالب – حدود أسانيد التهذيبين، بينما نجده في نظرية التعويض أوسع دائرة وأعم تطبيقاً كما سيأتي كل في محله، هذا أولاً.
وثانياً: عدم خضوع فكرة التعويض في السابق إلى ضوابط علمية واضحة كما أكدناه مراراً، بينما نجد ذلك ماثلاً في النظرية ابتداءً من تعريفها الذي اعتنى بتعيين موقع الضعف في السند من خلال الاعتبارات المفروضة؛ ليسهل بذلك نقدها وتحقيقها وتمييز بعضها عن بعض؛ لكي لا يقع الخلط أثناء ممارسة المختص لمسألة التعويض على وفق ما سيتضح من وجوهها.
ومن هنا يعلم ما لهذه النظرية من فوائد جمة في علم الرجال؛ لأنها – كما يقول الشهيد الصدر: «مفيدة جداً في تصحيح كثير من الروايات التي يعسر تصحيحها بالصورة الابتدائية»((مباحث الأصول ج3 ق2: 239.)).
وجوه نظرية التعويض عند الشهيد الصدر:
ذكر السيد الشهيد أربعة وجوه لنظرية التعويض، وجعل السيد الحائري هذه الوجوه الأربعة تحت ثلاثة أشكال في كتابه ( القضاء في الفقه الإسلامي ). كما جعلها الشيخ مهدي الهادوي في كتابه ( تحرير المقال ) ثلاث صور ثم أضاف لها صورة أخرى منبهاً على رجوعها إلى إحدى الصور الثلاث، كما يتضح مما يأتي:
أولاً: وجوه نظرية التعويض عند الشهيد الصدر كما في تقريرات السيد الحائري:
الوجه الاول: تعويض المقطع الأول من السند .
الوجه الثاني: تعويض المقطع الثاني من السند.
الوجه الثالث: تعويض سند الشيخ بسند النجاشي.
الوجه الرابع: تعويض سند الشيخ بسند الصدوق((مباحث الأصول ج3 ق2 / 238 – 261.)).
ويلحظ في هذا التقسيم أن الوجه الثالث ان كان التعويض فيه لجزء من سند الشيخ فهو يرجع إلى أحد الوجهين المتقدمين، والافهو من تعويض السند بتمامه، وكذلك الحال في الوجه الرابع.
ثانيا: أشكال نظرية التعويض في كتاب القضاء في الفقه الاسلامي للسيد الحائري.
الشكل الاول: تعويض سند التهذيبين بسند الفهوست.
الشكل الثاني: تعويض سند الشيخ بسند النجاشي.
الشكل الثالث: تعويض شند الشيخ بسند الصدوق((
القضاء في الفقه الإسلامي: 52 – 65.
وتلفت نظر الباحثين إلى أن اسماء هذه ( الوجوه ) أو ( الاشكال ) لم تعنون هكذا في المرجعين السابقين، بل صرح بها ضمن شرح الوجوه وبيان تطبيقاتها.))
ونرى السيد الحائري هنا قد اختزل الوجهين (الاول والثاني اللذين ذكرهما في التقريرات الاصولية لبحث الشهيد، وجعلهما تحت (الشكل الاول)، مع احتمال وجود تطبيقات للشكلين (الثاني والثالث ) واحدة، وهي إما أن تكون من تعويض جزء من السند، وإما من تعويض السند بتمامه.
ثالثاً: صور نظرية التعويض في كتاب تحرير المقال للشيخ مهدي الهادوي الطهراني.
قال الشيخ الطهراني: « ويتصور للتعويض ثلاث صور » ثم بحث تلك الصور على الشكل التالي:
1 – تعويض القسم الأول من السند.
2 – تعويض غير القسم الأول من السند.
3 – تعويض كل السند.
ثم أضاف الشيخ الطهراني صورة أخرى تحت عنوان:
( وجه آخر لنظرية التعويض )، ويعني به تعويض سند الشيخ بسند الصدوق. وقد صرح برجوع هذا الوجه إلى أحد الصور السابقة((تحرير المقال في كليات علم الرجال: 137.))؛ لأن السند الضعيف المعوض، إما أن يكون التعويض فيه لتمامه، وإما لجزء منه، وفي الحالة الأولى يكون من تعويض تمام السند، وفي الأخرى، إما من تعويض القسم الأول من السند، وإما من القسم الثاني.
وعلى أية حال، فإن ما ذكره السيد الشهيد من الوجوه الأربعة لتلك النظرية قد بحثت جميعاً في ( أشكالها ) و ( صورها )، وإن كان الأولى حصرها بوجهين أو شكلين أو صورتين، وهما:
الأول: تعويض جزء من السند.
الثاني: تعويض كل السند.
إلا أنا سنلتزم بما ذكره السيد الحائري في تقريراته؛ لأنه أقرب إلى صاحب النظرية ( قدست روحه الزكية ) من جميع التقسيمات الأخرى وإن كانت متظمنة فعلاً لوجوه
النظرية أجمع، مع انحصار الفرق بالجانب الفني بين تلك التقسيمات، مما يقلل من ضآلة الفرق بينها – مع الاستفادة مما ذكر في غير التقريرات – وهي:
الوجه الأول
تعويض المقطع الأول من السند
وكيفية التعويض في هذا الوجه إنما تتم في حالة توفر الشروط التالية:
1 – وجود رواية في المقطع الأول من سندها راو ضعيف، بغض النظر عن مناشئ ضعفة كأن يكون مجهولاً، أو لم يثبت التوثيق بحقه – ولو عند البعض – أو من المتفق على ضعفه.
2 – أن يكون في ذلك السند نفسه رجل ثقة، بحيث يكون موقعه – في السند – أقرب من الضعيف إلى المعصوم، وبعبارة: أن يكون الضعيف راوياً عن الثقة بالسند نفسه إما مباشرة وإما بالواسطة، ولا يشترط وثاقة الواسطة أيضاً، بل الشرط الأساس أن يكون الثقة فوق محل الضعف في السند.
3 – أن نعثر على سند صحيح إلى جميع كتب وروايات ذلك الرجل الثقة، من قبيل قول الشيخ في الفهرست في بدايات بعض طرقه الصحيحة إلى الثقات: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان»((وردت هذه العبارة في كثير من طرق الشيخ الصحيحة إلى الثقات في الفهرست، كطريقه إلى أحمد بن محمد بن خال 21 / 55، وابن عقدة 29 / 76، والزراري 32 / 84، والسراد 47 / 151، وابن فضال 48 / 153، وحريز 63 / 239، وسعد بن عبد الله 76 / 306، والحسن بن محمد بن سماعة 52 / 182، والحسن بن حمزة العلوي 52 / 184، وعبد الله الأنباري 103 / 434، والحميري 103 / 428، وابن مهزيار 88 / 369، والصدوق: 156 / 695، وابيه الصدوق الأول 92 / 381، والكليني 135 / 591، ومحمد بن أحمد بن داود 136 / 592، واليقطيني 141 / 602 ( تضعيف الفهرست لم يثبت بحقه فهو ثقة جليل )، وابن أبي عمير 142 / 607، ومحمد بن علي بن محبوب 145 / 613، والصفار 143 / 611، وابن الوليد 156 / 694، ويونس بن عبد الرحمن 181 / 789 وغيرهم. وقد اتفق أن وجدت بعد تفحص هذه الموارد وغيرها في كتاب الفهرست، أحصاء شاملاً لها ولنظائرها في أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 104 – 109.)).
فإذا ما توفرت لدينا هذه الشروط الثلاثة، فيتم التعويض بهذا الوجه، وذلك باستبدال المقطع الأول من السند بما فيه من نقطة الضعف الواقع بعدها ثقة، بالسند الصحيح إلى جميع كتب وروايات ذلك الثقة.
تحقيق الكلام في هذا الوجه من التعويض
إن تحقيق الكلام في هذا الوجه من التعويض كما صرح به السيد الشهيد مبتن على معرفة قول الشيخ في الفهرست: « اخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان»، إذ توجد في المراد منه – بدواً – احتمالات عديدة. وقد ذكر السيد الشهيد من هذه الاحتمالات أربعة وهي:
الاحتمال الأول: أن يكون المقصود جميع الكتب والروايات التي تكون في علم الله تعالى لذلك الرجل الثقة مثلاً.
ولم تم هذا الاحتمال لتم الوجه الأول من النظرية؛ لأن الحديث المروي بسند ضعيف عن ذلك الرجل الثقة – مثلاً – لا يحتمل معه كون الشيخ قاطعاً بعدم صدوره منه، وإلا لما نقله في كتابه. والمفروض أنه لا يوجد حديث يشك الشيخ في أنه صادر من ذلك الثقة أولاً، فينحصر في أنه كان قاطعاً بصدور ذلك الحديث منه.
وعليه، يكون ذلك الحديث داخلاً في عموم قول الشيخ: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان ».
ولكن هذا الاحتمال باطل وغير معقول؛ لأن أمر إحاطة الشيخ بروايات ثقة على نحو القطع – بحيث يصح له أن يجزم بعدم وجود أية رواية أخرى لذلك الثقة غير ما أخبره فلان، عن فلان برواياته – يحتاج إلى علم الغيب، ولا يمكن – عادة – للشيخ أن يعلم بجميع ما صدر – في علم الله تعالى – من روايات عن ذلك الرجل الثقة، ويعلم أنه ليس له من الروايات الأخرى غير ما علمه هو بذلك الطريق((مباحث الأصول ج3 ق2: 241، وانظر القضاء في الفقه الإسلامي، 63، وتحرير المقال: 131.)).
هذا، وللسيد الحائري تعليق مهم يتصل بإبطال هذا الاحتمال، وخلاصته: إن كان المقصود من كلمة «ورواياته» في عبارة الفهرست، الروايات الشفهية عن طريق السماع من فلان، عن فلان، فإنه يتم بطلان هذا الاحتمال.
أما لو كان المقصود طائفة من رواياته الشفهية المروية بإسناد معلوم في الفهرست مثلاً، أو رواياته من الكتب، فإنه لن يبطل الاحتمال؛ لإمكان حصر العلم بالأخير عن طريق إخبار مشايخ إجازته له بجميع ما رووه من كتب لهم ولمشايخهم قراءة عليهم، أو سماعاً منهم، أو إجازة. وهذا وإن كان أمراً معقولاً إلا أن السيد الحائري قد أبطله ببعض القرائن الواضحة في الفهرست، والتي تدل على عدم وصول جميع الكتب إليه.
وبناء عليه فإن الشرط الثالث – المتقدم – للتعويض بهذا الوجه، يجب فيه أن يكون الرجل الثقة – الذي ذكر الشيخ سنداً تاماً إلى جميع كتبه ورواياته – واقعاً بين الشيخ والكتاب الذي روي الحديث فيه، أو بين الكتاب والمعصوم في صورة كون الحديث من رواية ذلك الثقة من كتاب يرويه، وليس رواية شفهية((القضاء في الفقه الإسلامي: 56 – 57.)).
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود جميع الكتب والروايات التي ينسبها الشيخ إليه، ويعتقد وجداناً أو تعبداً أنها له.
وسيأتي – بعد بيان الاحتمال الرابع – استبعاد الشهيد لهذا الاحتمال.
الأحتمال الثالث: أن يكون المقصود جميع الكتب والروايات التي تنسب إلى ذلك الثقة.
ولو تم هذا الاحتمال لتم الوجه الأول من النظرية أيضاً؛ لأن ما رواه الشيخ بسنده ضعيف في التهذيب عن ذلك الرجل الثقة – مثلاً – يكون من جملة ما نسب إليه حتماً، وعليه يدخل خبره في عموم قول الشيخ – في الطريق الصحيح إليه –: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان.
ولكن الاحتمال الثالث كالأول في البطلان، إذ من أين للشيخ أن يحيط علماً بجميع ما نسب إلى ذلك الثقة من كتب وروايات؟ بحيث يمكنه الجزم بعدم وجود أية رواية أخرى لذلك الثقة من غير ما علمه الشيخ من رواياته التي نسبت إليه من قبل رجال الطريق إليها في الفهرست((مباحث الأصول ج3 ق2: 241، وانظر: القضاء: 53 وتحرير المقال: 131.)).
الاحتمال الرابع: أن يكون المقصود جميع الكتب والروايات التي تنسب إليه ووصلت إلى الشيخ.
وهذا الاحتمال معقول جداً، وعبارة الشيخ ( أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ) ظاهرة فيه، وبهذا الاحتمال يتحقق التعويض؛ لأن ما رواه الشيخ بسند ضعيف عن ثقة في التهذيب – مثلاً – وهو مما نسب إلى ذلك الثقة ووصل إلى الشيخ فعلاً، فيمكن هنا تعويضه بسند الفهرست الصحيح إلى جميع كتبه ورواياته((مباحث الأصول ج3 ق2: 242.)).
أما عن الاحتمال الثاني، فإن البناء عليه لا يحقق التعويض في الوجه الأول من النظرية، وقد استبعد الشهيد الصدر هذا الاحتمال لا لعدم تحقق الوجه الأول من النظرية به، بل لكون اعتقاد الشيخ وجداناً أو تعبداً بأن ما رواه عن ذلك الثقة بسند ضعيف قد صدر عنه أول الكلام، وهذا باختلاف الاحتمال الرابع، فإن المفروض وصول هذا الحديث إلى الشيخ ليكون داخلاً في عموم قوله: ( أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان ).
ومن ثم فإن الاحتمال الثاني خلاف الظاهر؛ لأنه مناسب لمقام الاجتهاد دون الرواية، مع أن الظاهر من كلام الشيخ: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته… » أنه إنما قال ذلك بصفته أحد أعلام الحديث ورواته – لا بصفة كونه مجتهداً في الاحاديث يحكم بأن حديثه هذا كان حقاً أو لا – وذلك لإمكان تصحيح روايات ذلك الشخص وكتبه لنا واخراجها عن الارسال. وهذه الفائدة تنعدم بناء على هذا الاحتمال؛ لأن التمسك بعموم قول الشيخ في كل مورد يصبح تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية. كما أن الظاهر عرفاً من عبارة الفهرست إنما هو الاحتمال الرابع دون الثاني((م . ن ج 3 ق2: 242، وانظر: القضاء: 53، وتحرير المقال: 131.)).
هذا، وهناك احتمال خامس لم يذكره السيد الصدر وقد ذكره السيد الحائري في هامش تقريرات بحث السيد الشهيد، وفي كتابه القضاء أيضاً وهو: أن يكون المقصود من عبارة الشيخ ( أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان ): هو جميع ما رواه الشيخ عنه من كتب وروايات((مباحث الأصول ج3 ق2: 243 هامش رقم / 1، والقضاء: 53.)).
وهذا الاحتمال معقول أيضاً، وبه يتم الوجه الأول من النظرية، لأن الرواية الضعيفة المبحوثة تكون من جملة مرويات الشيخ بحسب الفرض، وقد صرح السيد الحائري – عقيب هذا الاحتمال – بتساوي هذا الاحتمال – من حيث النتيجة – مع الاحتمال
الرابع الذي اختاره استاذه السيد الشهيد، بل جعل الاحتمال الرابع أقوى من هذا الاحتمال؛ لأن ما نسب إلى ثقة ووصل إلى الشيخ كما هو في الاحتمال الرابع أعم من الرواية، فالراوية أخص من الوصول: فكل ما رواه الشيخ عن ثقة، فقد وصله قطعاً، وليس كل ما وصله قد رواه((مباحث الأصول ج3 ق2: 242، وتحرير المقال: 131.)).
ولكن يكمن الفارق بين الاحتمال الرابع والخامس الذي ذكره السيد الحائري في أنه لو وقف شخص معاصر للشيخ على كتاب للصفار مثلاً في مكتبة الشيخ ولم يروه الشيخ، فيجوز لهذا الشخص تصحيح سند كتب الصفار، لأن الشيخ قد ذكر طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات الصفار((مباحث الأصول ج3 ق2: 243، وتحرير المقال: 132)).
ولكن هذه الثمرة معدومة في زماننا، وعليه فكلا الاحتمالين – عملاً – متساويين في النتيجة كما صرح به السيد الحائري((القضاء: 53.)).
أمثلة تطبيقية من الوجه الأول:
إن أشهر وجوه نظرية التعويض هو الوجه الأول، وقد مر في تطبيقات فكرة التعويض قبل صياغتها إلى نظرية دوران تلك التطبيقات حول هذا الوجه بالذات وبصورتها الابتدائية، والأمثلة التي تصلح للانطباق على هذا الوجه كثيرة نقتصر منها على مثالين وهما:
المثال الأول:
إن من طرق الشيخ في مشيخة التهذيب إلى طائفة مما رواه عن كتب أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي هو هذا الطريق:
« الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه محمد بن يحيى، عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد بن عيسى»((
تهذيب الأحكام 10: 72، من المشيخة.
وللشيخ طريقان صحيحان إلى أحمد بن محمد بن عيسى ذكرهما في مشيخة التهذيب أيضاً في ص34 و ص74.)).
وقد توفرت في هذا السند – مع مقارنته بالفهرست – الشروط الثلاثة المطلوبة في التعويض، وهي:
1 – وجود إشكال في سند ما يرويه الشيخ عن أحمد بن محمد بن عيسى في هذا الطريق؛ لوقوع أحمد بن محمد بن يحيى العطار فيه، وهو ضعيف عند السيد الشهيد((اشار الشهيد إلى ضعفه في مباحث الأصول چ3 ق2: 239 وانظر هامشه، وكذا بحوث في علم الأصول – تقريرات السيد الهاشمي 5: 58.)).
2 – وجود ثقة في هذا السند، وهو: محمد بن علي بن محبوب، وقد وقع فوق نقطة الضعف في السند.
3 – وجود سند صحيح للشيخ في الفهرست إلى جميع كتب وروايات محمد بن علي بن محبوب، وهو:
« جماعة، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عن أحمد بن ادريس، عن محمد بن علي بن محبوب »((فهرست الشيخ: 145 / 613.)). وقد تقدم أن الشيخ المفيد من بين ( الجماعة ) الذين يروي عنهم الشيخ في الفهرست. فالطريق إذن صحيح بالاتفاق.
وعليه يمكن اجراء عملية التعويض هنا، وذلك باستبدال المقطع الأول من سند الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى بما فيه من نقطة الضعف ( المنحصرة بين الشيخ ومحمد بن علي بن محبوب ) بالسند الصحيح الذي ذكره الشيخ في الفهرست إلى جميع كتب وروايات محمد بن علي بن محبوب.
المثال الثاني:
إن من طرق الشيخ إلى أحمد بن محمد ( لعله الاشعري أو البرقي ) في مشيخة التهذيب هو ما ابتدأ بأبي الحسين بن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد »((تهذيب الأحكام 10: 73، من المشيخة، وللشيخ طريق صحيح إلى أحمد بن محمد في المشيخة، ذكره في ص74 لكنا اخترنا الأول لما فيه من إشكال.)).
وفي هذا السند توفرت الشروط الثلاثة اللازمة وللتعويض أيضاً، وهي اجمالاً: وقوع ابن أبي جيد في السند، وهو مختلف فيه، ضعيف عند البعض وثقة عند آخرين، ووقوع ثقة بعده وهو ابن الوليد، مع وجود سند صحيح للشيخ إلى كتب وروايات ابن الوليد، وهو الطريق الثالث من طرق الشيخ إليه في الفهرست((فهرست الشيخ: 156 / 694.)).
وهنا يمكن اجراء التعويض كما اجريناه في المثال الأول((أشار الشهيد إلى ضعف ابن أبي جيد في مباحث الأصول ج3 ق2: 239، وانظر هامشه.)).
هذا، ولو فرضنا وقوع رجل ضعيف آخر مكان ابن الوليد في سند التهذيب وليكن – مثلاً – محمد بن عبد الله بن المطلب المعروف بأبي المفضل الشيباني. فهنا يمكن اجراء التعويض أيضاً؛ لانحصار نقطة الضعف بين الشيخ والصفار حينئذ، والصفار ثقة بالاتفاق، وقد ذكر الشيخ في الفهرست سنداً تاماً إلى جميع كتب وروايات الصفار((فهرست الشيخ: 144 / 611.))، وعليه تعويض نقطة الضعف المذكورة بهذا السند الصحيح.
الإشكالات المثارة حول الوجه الأول من النظرية
هناك أكثر من إشكال واحد حول تطبيق التعويض على وقف الوجه الأول من النظرية، وقد نوقش أكثرها في كتاب تحرير المقال في علم الرجال، وهي:
الإشكال الأول:
إن ذكر الشيخ لتمام السند في رواية عن صاحب كتاب ثقة في التهذيب – مثلاً – يحتمل أن يكون قصد الشيخ فيه نقل متن تلك الرواية إلى الشيخ بذلك السند دون سواه، فكيف يمكن – والحال هذه – تعويض سندها – مع فرض ضعفه – بآخر صحيح من الفهرست؟
والجواب:
« إن ذكر السند في رواية خاصة لا ينفي وجود سند آخر لها، فنتمسك بعموم قوله: ( اخبرنا بجميع كتبه ورواياته … )، ونحكم بأنها مروية بهذا الاسناد أيضاً »((تحرير المقال: 130.)).
أقول: لقد أشار السيد الشهيد الصدر إلى هذا الإشكال كما في تقريرات السيد كاظم الجائري، إذ جاء في تلك التقريرات ما نصه:
« أما فرض تقييد الاحتمال الرابع [ وهو: أن يكون المقصود جميع الكتب والروايات التي تنسب إليه، ووصلت إلى الشيخ كما مر ] بما إذا لم يروه الشيخ في كتابه بسند آخر، فتقييد بلا موجب، ومخالف للظاهر والمتفاهم عرفاً »((مباحث الأصول ج3 ق2: 243 – 244.)).
والمراد بهذا الكلام هو التنبيه على وجود هذا الإشكال في تطبيق الوجه الأول من النظرية، لأن عدم اعتناء السيد الشهيد بتقييد تفسير عموم قول الشيخ « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان » بما إذا لم يروه الشيخ بسند آخر، يدل على دخول ما روي بسند آخر في عموم قول الشيخ عند السيد الشهيد بموجب الاحتمال الرابع ، وعلى العدم بموجب الفرض المذكور ولكن ، الإنصاف أن السيد الشهيد عالج هذا الإشكال في كتابه ( بحوث في شرح العروة ) بطريقة أخرى كما يظهر من وصفه لبعض الروايات الضعيفة السند – مع اتصاله – بالصحة، وذلك بالبناء على كبرى التزم بها ( رحمه الله ) وهي أنه إذا رأى سنداً ضعيفاً بشخص في رواية مسندة، وكان للشيخ الطوسي في الفهرست طريقان إلى جميع كتب وروايات أحد الرواة الواقعين فوق سند الرواية الضعيفة، وكان أحد الطريقين هو نفس سند الرواية، وكان الآخر صحيحاً حكم بصحة سند الرواية، لصحة تعويض مقطعها الضعيف بالطريق الصحيح؛ لأن ظاهر عبارة الشيخ يعلم منه بأن ما وصل إلى الشيخ بالطريق الضعيف في الفهرست – وهو نفس سند الرواية الضعيف – قد وصل إليه بالطريق الصحيح أيضاً((انظر: بحوث في شرح العروة 4: 51 – 52 هامش رقم / 5.)) وسيأتي نظير هذا الاسلوب من التعويض في الوجه الثالث من وجوه هذه النظرية، وسيناقش هناك بشيء من التفصيل.
ومثال ما تقدم نجده في رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى قال: « سألته عن العظابة، والحيّة، والوزغ يقع في الماء … الخ ».
قال: الشهيد الصدر عن هذه الرواية: « وهي صحيحة سنداً »((بحوث في شرح العروة 4: 51.)).
وقوله بصحة سندها إنما هو بالبناء على تلك الكبرى؛ لأن أسانيد تلك الرواية غير صحيحة على مبناه فقد أخرجها الشيخ الحر في الوسائل بهذا السند: « محمد بن الحسن بإسناده، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر »((الوسائل 1: 238 / 615 باب 9 من أبواب الأسآر.)).
والشيخ روى هذه الرواية في الاستبصار بهذا السند.:
« أخبرني الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى »((الاسبتبصار 1: 23 / 58.)).
ورواها في التهذيب عن العمركي رأساً، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر ) عليهما السلام )((تهذيب الأحكام 1: 419 / ضمن الحديث 1326.)).
وسند الاستبصار ضعيف بأحمد بن محمد بن يحيى عند السيد الشهيد وسند التهذيب غير معلوم؛ لأنه لم يذكر طريقه إلى العمركي لا في مشيخة التهذيب ولا في الفهرست، ومع القول بأنه كان ناظراً إلى سند الاستبصار على الرغم من تأليف التهذيب قبله بتقدير أنه سنده على كل حال وكان موجوداً عنده، إلا أنه اختصره في التهذيب، فيرد نفس الاشكال وهو ضعفه بأحمد بن محمد بن يحيى.
كما روى الحميري هذه الرواية أيضاً عن عبد الله بن الحسن العلوي، عن جده علي بن جعفر((قرب الأسناد: 178 / 656 وانظر : مسائل علي بن جعفر: 193 / 404 وعنه في البحار 80: 70 / 1.)).
وعبد الله بن الحسن ضعيف، أو لم تثبت وثاقته عند السيد الشهيد((بحوث في شرح العروة 3: 162 و 421، 4: 51 هامش رقم (5).)). ومع هذا يمكن تصحيح سند الرواية على وقف ما تقدم، إذ ذكر الشيخ طريقين في الفهرست إلى جميع كتب وروايات محمد بن أحمد بن يحيى الثقة الواقع فوق أحمد بن محمد بن يحيى في سند الرواية السابقة، وكان أحد الطريقين هو نفس طريق الشيخ إلى محمد بن أحمد بن يحيى في سند الرواية في الاستبصار، والآخر: عن جماعة – ومنهم الشيخ المفيد – عن محمد بن علي ( الصدوق )، عن أبيه ، عن أحمد بن ادريس، عن محمد بن أحمد بن يحيى((فهرست الشيخ 144 / 612.))، وهذا الطريق صحيح بالاتفاق، وبه يتم تصحيح سند الرواية.
ومما يؤيد عناية السيد الشهيد بالإشكال المتقدم معالجته بنظرية التعويض سنداً متصلاً ضعيفاً بشخص، كما في رواية التهذيب والاستبصار بعد توفر كبرى التعويض في هذا الوجه كما مر آنفاً.
فقد جاء في التهذيب: « وأخبرني الشيخ – أيده الله تعالى – عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن أبي جعفر [ أحمد بن محمد بن عيسى ]، عن أبيه، عن حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة »((تهذيب الأحكام 1: 231 / 669 وعنه في الوسائل 3: 464 / 4184 باب 35 من أبواب النجاسات.)).
وفي الاستبصار: « وبهذا الاسناد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد قال: لا يفسد الماء إلا ما كان له نفس سائلة »((الاستبصار 1: 26 / 67.)).
وأراد بهذا الاسناد: الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه محمد بن يحيى.
قال السيد الشهيد عن هذه الرواية المسندة: « ولكن في الرواية اشكالاً من ناحية السند » ويقصد بالاشكال وقوع أحمد بن محمد بن يحيى في سندها في التهذيبين ثم قال – بعد أن أورد السندين –: « ولكن التحقيق إمكان دفع هذا الاشكال السندي، باعتبار أن الشيخ له ثلاث طرق في الفهرست إلى جميع كتب وروايات محمد بن أحمد بن يحيى الواقع بعد الضعف في سلسلة السند، وأحدها صحيح قد اشتمل بدلاً عن أحمد بن محمد علي الصدوق، فتصح الرواية.
فإن قيل كيف نثبت أن الشيخ ينقل هذه الرواية بذلك الطريق الصحيح إلى محمد بن أحمد بن يحيى ما دام قد صرح في كتابيه بطريق معين إليه في مقام نقل تلك الرواية؟((هذا الكلام منه صياغة للاشكال المتقدم.)).
قلنا: إن الظاهر من عبارة الفهرست وحدة المنقول بالطرق الثلاثة المذكورة في الفهرست((
الفهرست: 144 / 612.
والطرق الثلاثة هي:
الأول: عدة من أصحابنا، عن أبي المفضل، عن ابن بطة، عن محمد بن أحمد بن يحيى، وهذا الطريق ضعيف بأبي المفضل وابن بطة.
الثاني: الحسين بن عبيد الله وابن أبي جيد، عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد بن يحيى.
وهذا الطريق هو طريق الاستبصار أيضاً، وهو من المختلفة فيه بابن أبي جيد وأحمد بن محمد بن يحيى، لكن لا يضر وقوع الأول فيه لكون الحسين معه، والثاني لم تثبت وثاقته عند السيد الشهيد.
الثالث: جماعة، عن الصدوق، عن أبيه ومحمد بن الحسن؛ عن أحمد بن ادريس ومحمد بن يحيى؛ عن محمد بن أحمد بن يحيى.
وهذا الطريق صحيح بالاتفاق.)) [ فـ ] ثبت أن رواية محمد بن أحمد بن يحيى لخبر حفص واصلة إلى الشيخ بالطرق الثلاثة جميعاً.
- ثم قال – وهذا هو المقدار الذي نقبله من نظرية التعويض »((بحوث في شرح العروة 3: 125، وقد صرح الشهيد بصحة تلك الرواية في مواضع لاحقة من شرح العروة بناء على ما أسسه هنا، منها في ص127و 129و 180 من الجزء الثالث.))، انتهى.
ولا يخفى أن هذا المقدار المقبول من النظرية عند السيد الشهيد محمول على الوجه الأول من النظرية؛ وفي صورة ما لو كان التعويض لسند متصل ضعيف.
الإشكال الثاني:
وهو نظير الأول، ولم يتعرض له في مصادر النظرية، ويمكن صياغته بالشكل التالي: إن ذكر الطريق في المشيخة إلى مرويات الشيخ عن ثقة في التهذيب – مثلاً – يعني وصولها إلى الشيخ بذلك الطريق دون سواه، ومع فرض ضعف الطريق فكيف يمكن تعويضه من الفهرست بسند صحيح للشيخ إلى ذلك الثقة نفسه؟
والجواب:
إن هذا الإشكال مخالف لطريقة الشيخ في آخر المشيختين، إذ أرجع صراحة إلى فهارس المشايخ ومن ضمنها كتابة الفهرست؛ لأجل التعرف على الطرق الأخرى المذكورة فيه سواء لمن كان له طريق في المشيختين، أو لمن لم يكن له فيهما طريق أصلاً. هذا زيادة عما مر في جواب الإشكال الأول من مخالفة الإشكال لظاهر قول الشيخ في الفهرست: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان » فنتمسك بعمومه.
الإشكال الثالث:
وهذا الإشكال هو بخصوص قول الشيخ في الفهرست: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان ، عن فلان ».
وخلاصته: لعل الشيخ أراد بهذه العبارة ليس الإخبار عن جميع كتب ذلك الثقة ورواياته بهذا الإسناد فقط، بل لعله أراد الإخبار عن ذلك بجميع ما ذكره من الأسانيد الأخرى في ترجمته، نظير ما ذكرناه من طرق الشيخ الثلاثة إلى محمد بن أحمد بن يحيى، وحينئذ فلا معنى لانتخاب الصحيح منها وترك الضعيف؛ لأن كل طريق منها إنما هو لبعض كتب ذلك الثقة ورواياته.
نعم، يتم التعويض بهذا الوجه مع فرض صحة سائر الطرق المذكورة إليه، وأما مع وجود الضعيف فلا.
وقد أجاب الشيخ الطهراني عن هذا الإشكال فقال: « إن الظاهر من تلك العبارة هو أن جميع الروايات والكتب مروية بكل هذه الأسناد، ويقوي هذا الظهور فيما إذا كرر قوله: « أخبرنا » قبل كل سند »((تحرير المقال: 130 – 131.)).
أقول: ويمكن أن يقال في جواب هذا الإشكال أيضاً أنه مخالف لبعض الأصول اللفظية كأصالة العموم مثلاً، إذ لا معنى لتخصيص كل طريق بطائفة من المرويات مع إتيان الشيخ بلفظ دال على العموم في بداية الطريق الأول، ثم العطف عليه بعبارة ( وأخبرنا بها ). وسيرة العقلاء عند الشك في كون اللفظ الصادر من شخص – كألفاظ العموم
مثلاً – هل أراد بها الاستيعاب أم الخصوص، فإنهم يتمسكون كما هو معلوم بأصالة العموم.
ثم إن الظاهر من هذا الإشكال أنه يحتاج إلى عناية وتقدير شيء زائد بنحو أن هذا الطريق طريق لطائفة من المرويات، وذاك لأخرى ). وهذا التقدير الزائد منفي بأصالة عدم التقدير، فيبقى التمسك بإرادة العموم بكل طريق بلا منازع، كما أن العطف بالواو دال على ذلك أيضاً.
الإشكال الرابع:
وهو يتعلق بنفس العبارة أيضاً، وهو مستفاد من كلام السيد الشهيد حول الوجه الثالث من النظرية((انظر: ص69 من هذا البحث.))، وخلاصته:
أنه ربما يحتمل كون مراد الشيخ بقوله: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته … » الإخبار عن أسماء الكتب فقط لا واقعها، وعلى هذا فإن سند ما يرويه الشيخ عن كتاب ما، لا يصح تعويضه – مع فرض ضعفه – بسند صحيح إلى اسم ذلك الكتاب لا واقعه.
وجوابه: ان عطف كلمة ( رواياته ) على كلمة ( كتبه ) مع إرادة واقع الروايات – لعدم تعقل اسمائها –، يجعل وبمقتضى وحدة السياق أن المراد بكلمة ( الكتب ) هو المعنى الذي عطفت عليه الروايات((القضاء في الفقه الإسلامي: 58، ومباحث الأصول ج3 ق2: 249.)).
والسيد الحائري قد صاغ هذا الإشكال بخصوص قول الشيخ ( أخبرنا بكتبه فلان عن فلان ) من غير عطف كلمة ( ورواياته ) وقد أجاب عنه بقوله:
« إن مراجعة فهرست الشيخ، وتتبع موارد إستعمال الشيخ لهذه الجملة لا تدع مجالاً للشك في أن مقصود الشيخ من الكتب هو واقع الكتب، وأن هدفه هو تقديم سند للكتب لا مجرد تثبيت الاسماء والعناوين. هذا مضافاً إلى أن تحويل الشيخ في المشيختين على فهارس الأصحاب، وفي إحداهما على فهرسته هو … دليل على أنهم في الفهارس كانوا يقصدون ذكر السند دون تعديد الكتب فحسب، وإذن فلا بأس بتطبيق نظرية التعويض في المورد. نعم، لا يمكن عندئذ تطبيق النظرية إلا حينما يكون سند الشيخ في فهرسته إلى نفس الكتاب الذي روى عنه الرواية، أما لو كان سنده إلى ثقة آخر بين الضعيف وصاحب الكتاب مثلاً، فلا يمكن التعويض؛ لأن المفروض أن سند الشيخ في فهرسته إنما هو سند إلى كتبه فقط لا إلى كتبه ورواياته، والمفروض أن هذه الرواية غير مأخوذة من كتاب هذا الثقة »((م . ن: 58.)).
الإشكال الخامس:
وهذا الإشكال وإن كان من أعقد الإشكالات المتقدمة، إلا أن جوابه في كلمتين:
وهذا الإشكال يعد من أهم الإشكالات التي تواجه الوجه الأول من نظرية التعويض، وهو يتصل بنقطة الضعف في السند المراد تعويضه وهو: أنه إذا احتملنا كذب الرجل
الضعيف على الثقة الذي فوقه في سند الرواية. بمعنى أن تلك الرواية المنسوبة إلى الرجل الثقة هي مكذوبة في الواقع عليه من قبل الرجل الضعيف. فهل يجدي – مع هذا الاحتمال – نفعاً تعويض المكذوب بابدال سنده بآخر صحيح إلى ذلك الثقة لتصحيح ما كذب عليه، تمسكاً بعموم قول الشيخ: « أخبرنا بجميع كتبه وروايته فلان، عن فلان »؟
وهذا الإشكال وإن كان من أعقد الإشكالات المتقدمة، إلا أن جوابه في كلمتين:
وهو أن هذا الإشكال إنما يتم بالبناء على الاحتمال الثاني المتقدم في تفسير قول الشيخ: « أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان.. »((راجع الاحتمال الثاني ص34.)).
وقد تقدم عن السيد الشهيد استبعاد ذلك الاحتمال لعدم وجاهته، فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع((اقتبسنا هذا الإشكال وجوابه– بتصرف من تحرير المقال: 131.)).
الوجه الثاني
تعويض المقطع الثاني من السند
كان تعويض السند الضعيف في الوجه الأول يجري باستبدال المقطع الأول من ذلك السند بما فيه من نقطة الضعف بسند صحيح، كما مر في رواية الشيخ عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه، عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد بن عيسى.
وقد ذكرنا هناك ضعف المقطع الأول من هذا السند بأحمد بن محمد بن يحيى العطار، مع وجود ثقة فوقه وهو محمد بن علي بن محبوب، ووجود طريق صحيح في الفهرست إلى جميع كتب وروايات محمد بن علي بن محبوب، فعوضنا ذاك المقطع الضعيف بهذا الطريق الصحيح.
بمعنى: أنا هناك كنا نبحث عن رواية ذات سند ضعيف بشخص فوقه ثقة؛ لنعوض ذلك السند بآخر صحيح إلى ذلك الثقة نفسه.
وهذا القدر لا بد من التذكير به في بيان حقيقة التعويض في هذا الوجه؛ لكي يتضح أن الوجه الثاني من النظرية هو عكس وجهها الأول، وجوهره في الحقيقة هو جوهر الأول لكنه يختلف عنه في أسلوبه ، وهذا هو ما صرح به السيد الشهيد كما في تقريرات السيد الحائري((مباحث الأصول ج3 ق2: 245.)).
الشروط اللازمة للتعويض في هذا الوجه:
لأجل أن يتم التعويض في هذا الوجه لا بد من توفر الشروط الثلاثة التالية، وهي:
1 – وجود رواية – في التهذيب مثلاً – وقع في سندها رجل ضعيف بين ثقتين.
2 – صحة المقطع الأول من سند الرواية وهو المحصور بين الشيخ والثقة القريب منه، بحيث لا تكون بين الشيخ والثقة القريب منه نقطة ضعف في السند، إذ يشترط حصر الضعف بين هذا الثقة والآخر البعيد عن الشيخ كما تقدم أولاً.
3 – أن يكون للثقة القريب من الشيخ سند تام يروي فيه جميع ما وصله من كتب وروايات ذلك الثقة البعيد عن الشيخ في سند رواية التهذيب المفترضة. أو أن يكون للثقة القريب سند تام يروي فيه جميع ما وصله من روايات عن المعصوم الذي روى عنه الثقة البعيد عن الشيخ رواية التهذيب.
فإذا ما توفرت هذه الشروط الثلاثة أمكن التعويض بهذا الوجه من النظرية وذلك باستبدال المقطع الثاني من سند رواية التهذيب بما فيه من نقطة الضعف المحصورة بين ثقتين بما عثرنا عليه من سند صحيح بينهما.
وبعبارة: إن نقطة الضعف المحصورة بين ثقتين بالإمكان تعويضها بما نجده من سند صحيح بينهما وعلى وقف ما تقدم((انظر: مباحث الأصول ج3 ق2: 244، والقضاء: 58، وتحرير المقال: 133.)).
أمثلة تطبيقية من الوجه الثاني
هذا الوجه من التعويض يمكن أن يكون في عدة حالات نذكر منها:
الحالة الأولى: وهي فيما إذا روى الشيخ الطوسي بسند صحيح، عن الشيخ الصدوق رواية وقع في سندها رجل ضعيف بين ثقتين.
ولتوضيح الحال نضرب المثال التالي
روى الشيخ في الاستبصار « عن الشيخ المفيد، عن الصدوق، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن ياسين الضرير، عن حريز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله … »((الاستبصار 1: 14 / 26.)).
ونلاحظ في هذا السند ما يأتي
1 – وقوع ياسين الضرير – الذي لم تثبت وثاقته عند السيد الشهيد((صرح السيد الشهيد بعدم ثبوت وثاقة ياسين الضرير في بحوث في شرح العروة 1: 84و 205 و 233 وغيرها.)) بين ثقتين. وهذا هو الشرط الأول المطلوب كما تقدم.
2 – جميع رجال المقطع الأول من السند من الثقات المشهورين، وإذا قلنا إن الثقة القريب إلى الشيخ في هذا السند هو الصدوق، فلا إشكال في صحة هذا السند إليه، وهذا هو الشرط الثاني وقد تحقق.
وأما الشرط الثالث فيبدو معدوماً؛ لأن الشيخ الصدوق لم يذكر طريقاً في مشيخة الفقيه إلى حريز، مع ضعف الطريق الذي ذكره إلى أبي بصير في المشيخة((الفقيه 4: من المشيخة.)).
ولو ذكر طريقاً صحيحاً لأي منهما لأمكن التعويض – على تحفظ سيأتي في الوجه الرابع –، وكذلك لو كان الشيخ الصدوق قد روى رواية الاستبصار نفسها بسند تام
في أحد كتبه لأمكن التعويض به ، وإن كان التعويض به بهذا الفرض يعد من الطريقة التقليدية لا من أصول النظرية.
وعلى الرغم من كل ذلك يمكن تصيح سند رواية الاستبصار عن طريق نظرية التعويض اعتماداً على الوجه الثاني، فنقول:
إن الشيخ الطوسي ذكر في ترجمة حريز في الفهرست سنداً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات حريز، وقد وقع الشيخ الصدوق في سند الفهرست[67].
وقد تقدم في الاحتمال الرابع لتفسير عبارة الفهرست ( أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان ) أن المقصود بها هو الكتب والروايات التي نسبت إلى ذلك الشخص ووصلت إلى الشيخ.
وهنا يعلم أن وصول ما نسب إلى حريز من كتب وروايات إلى الشيخ بهذا الطريق، يكون وصوله إلى الشيخ الصدوق من باب أولى.
وبهذا نكون قد عثرنا للشيخ الصدوق – وهو الثقة القريب من الشيخ في سند رواية الاستبصار الضعيف بياسين الضرير – على سند تام إلى جميع كتب وروايات الثقة البعيد عن الشيخ – وهو حريز –، فنعوض المقطع الثاني من سند رواية الاستبصار بهذا السند الصحيح، وهو المطلوب.
وبنفس هذه الطريقة نصحح جميع ما رواه الشيخ الصدوق مرسلاً عن حريز في سائر كتبه
إذن البحث في تصحيح ما هو نظير سند رواية الاستبصار المتقدمة من أسانيد روايات الشيخ خاصة يكون بثلاثة طرق من طرق التعويض وهي:
الأول: الفحص في مشيخة الفقيه عن طريق صحيح للصدوق إلى الثقة البعيد عن الشيخ فيما رواه بسند صحيح عن الصدوق عن مشايخه، ووقع بين الصدوق وذلك الثقة رجل ضعيف، فيعوض هذا الضعف بطريق المشيخة الصحيح.
الثاني((فهرست الشيخ: 62 / 239.
ليعلم أن هذا الطريق لم يذكر في كتب السيد الشهيد ولا في تقريرات بحثه، وكذلك استكشاف توفر الشرط الثالث في المثال الآتي في الحالة الثانية، وغير ذلك من الامور الكثيرة الأخرى في هذا البحث، إلا انها مستفادة بشكل أو بآخر من النظرية وتطبيقاتها في كتب السيد الشهيد.)): الفحص في فهرست الشيخ نفسه، فإن كان قد ذكر طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات الثقة البعيد عنه، وكان الشيخ الصدوق واقعاً بذلك الطريق في الفهرست، فيعد الطريق طريقه كما تقدم في المثال، وبه يتم التعويض.
الثالث: وهي الطريقة التقليدية بأن يكون الشيخ الصدوق قد روى شخص رواية الشيخ الضعيفة السند، بسند صحيح فيجري التعويض به؛ ولعل فائدة التعويض في الطريقة الأخيرة منحصرة – كما في تحرير المقال – في حالة وجود فقرة في الرواية المنقولة بسند ضعيف زائدة على ذات الرواية التي نقلت إلينا بسند صحيح((تحرير المقال: 133.
وقد تكون هذه الثمرة منتفية مع احتمال كون هذه الزيادة من توهم الراوي الضعيف، أو لاشتباهه، أو لنقله بالمعنى ويؤكد ذلك إذا كان الراوي عن المعصوم في السندين واحداً، إذ يبعد احتمال صدورها في مقامين.)).
الحالة الثانية:
وهي فيما إذا روى الشيخ بسند صحيح عن الكليني رواية وقع في سندها ضعيف بين ثقتين، ولتوضيح هذه الحالة نضرب المثال التالي:
لو فرض أن الشيخ روى رواية في التهذيب عن كتاب للحسن بن محبوب بهذا السند:
الشيخ المفيد، عن ابن قولويه ، عن الكليني ، عن سعد بن عبد الله، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب عن الإمام الرضا.
فالملاحظ – بدواً – توفر الشرطين الأوليين من الشروط الثلاثة المطلوبة في عملية التعويض بهذا الوجه، دون الثالث، وهما:
1 – وقوع سهل بن زياد في المقطع الثاني من السند بين ثقتين، وسهل بن زياد ضعيف عند السيد الشهيد، أو على الأقل لم تثبت وثاقته((انظر: بحوث في شرح العروة 1: 83و 3: 158 و 182 و 348 و 421، كما ضعفه السيد الهاشمي في كتابه الخمس 2: 40، والسيد الحائري في كتابه القضاء: 102 و 483 وكلاهما من تلاميذ السيد الشهيد.)).
2 – صحة طريق الشيخ في هذا السند إلى الثقة الغريب منه وهو الكليني.
أما عن الشرط الثالث، فالظاهر أنه مفقود في المقام؛ لأن ثقة الإسلام الكليني جرى في الكافي بذكر تمام السند، ولم يذكر في آخر الكتاب مشيخة إلى ما رواه عن الكتب والمصنفات، كما فعل الصدوق والشيخ من بعده حتى يتسنى لنا معرفة سنده إلى جميع ما رواه عن الحسن بن محبوب مثلاً، فنعوض به إن كان صحيحاً.
والقول بوجوب الفحص عن سند آخر صحيح في الكافي إلى شخص الرواية التي رويت بسند التهذيب المفترض، لا يفيد النظرية حتى مع فرض العثور عليه، لأن التعويض به ليس من أصولها وإنما من الطرق التقليدية المعروفة قبلها.
وعلى الرغم من ذلك يمكن توفر الشرط الثالث في سند التهذيب بملاحظة الفهرست، إذ ذكر الشيخ سنداً تاماً إلى جميع كتب وروايات الحسن بن محبوب((فهرست الشيخ: 47 / 151.))، ولا يضر عدم وقوع الكليني فيه، لوقوع سعد بن عبد الله في سند الفهرست، بمعنى أنا لم نفقد تحقق الشرط الأول وهو وقوع سهل بن زياد بين ثقتين وهما الحسن بن محبوب، وسعد بن عبد الله بدل الكليني.
وهنا يجري التعويض كما اجريناه في الحالة الأولى. ولكن قد يقال: إن الكليني في سند التهذيب روى عن سعد عن سهل عن ابن محبوب، فكيف يتم التعويض مع التصريح بهذا السند؟
والجواب: أنه لما كان سعد بن عبد الله راوياً لجميع روايات وكتب الحسن بن محبوب بواسطة ثقة – بل ثقات – كما في سند الشيخ في الفهرست، فمن غير المعقول أن يتعمد سعد بن عبد الله الثقة الجليل في نقل رواية للكليني عن ضعيف عن الحسن بن
محبوب مع أنه روى روايات الحسن بن محبوب عن ثقة بل ثقات ، والمفروض – كما تقدم – وصول تلك الرواية إلى سعد بالطريق الصحيح، ومنه يعلم أن للكليني أكثر من طريق واحد لتلك الرواية، لكنه اقتصر على ذكر واحد منها، ولعل مما يؤكد هذا هو القول بتوفر قرائن صحة الخبر عند المحمدين الثلاثة، ومع الأخذ بهذا القول المشهور تكون حجة الكليني معه في الاقتصار على أي سند شاء، وبالبناء على هذا التفسير يكون الطريق الصحيح إلى الحسين بن محبوب في الفهرست طريقاً للكليني أيضاً وإن لم يذكر في سند الفهرست أصلاً، وبه يتم التعويض.
والتعويض بهذا الأسلوب لم ينص عليه أحد، وهو مفيد جداً في تصحيح أسانيد الكافي، بل يمكن بملاحظ المثال المذكور تصحيح ما في جميع الكافي من روايات سهل بن زياد عن الحسن بن محبوب، هذا مع
إحراز كون تلك الروايات من كتاب للحسن بن محبوب، فلاحظ.
الحالة الثالثة:
وهي فيما إذا روى الشيخ الصدوق بسند تام، عن الكليني رواية وقع في سندها – فيما بعد – ضعيف بين ثقتين.
وتصور التعويض في تلك الحالة مع توفر الشرطين الأولين في السند لا يكون إلا بعد العثور على طريق صحيح للشيخ يروي فيه جميع كتب وروايات الثقة البعيد عن الصدوق بشرط وقوع الكليني فيه أو شيخه المباشر الثقة الذي روى عن الضعيف عن ذلك الثقة، ومع توفره يمكن التعويض به على نحو ما تقدم، ولكن لم أجد لهذا مثالاً واقعياً.
الوجه الثالث
تعويض سند الشيخ بسند النجاشي
لما كان الشيخ والنجاشي من طبقة واحدة، وكانا في بغداد معاً؛ لذا نجد اشتراكهما في الرواية عن عدد من المشايخ، منهم: الشيخ المفيد، والحسين بن عبيد الله الغضائري، وابن عبدون، وابن أبي جيد، ونحوهم، ولهذا نجد أغلب طرق الشيخ في الفهرست، والنجاشي في رجاله متقاربة الرواة. وقد تختلف أيضاً كما في طريقهما إلى سهل بن زياد((فهرست الشيخ: 80 / 329، ورجال النجاشي: 185 / 490.))، والفضل بن أبي قرة((فهرست الشيخ: 125 / 556، ورجال النجاشي: 308 / 842.))، وفضاله بن أيوب((فهرست الشيخ: 126 / 560، ورجال النجاشي: 310 / 850.)) وغيرهم. أو تشترك أحياناً بالمشايخ المباشرين للشيخ والنجاشي كما في الطريق إلى إبراهيم بن مهزم((فهرست الشيخ: 9 / 21، ورجال النجاشي: 22 / 31.))، وزياد بن أبي الحلال((فهرست الشيخ: 73 / 294، ورجال النجاشي: 171 / 451.))، وسعد بن عبد الله((فهرست الشيخ: 76 / 306، ورجال النجاشي: 178 / 467.)) وغير ذلك. أو بغير المباشرين لهما كما هو
المطرد في طرق الكتابين.– وربما قد اشتركت بجميع رجالها –من الشيخ المباشر إلى الراوي الأخير عن صاحب الكتاب – كما في الطريق إلى إبراهيم بن هاشم القمي((فهرست الشيخ: 4 / 6، ورجال النجاشي: 16 / 18.))، وإبراهيم بن إسحاق الأحمري((فهرست الشيخ: 7 / 9، ورجال النجاشي: 19 / 21.))، وإسماعيل بن مهران – إلى خصوص كتابه: ثواب القرآن((فهرست الشيخ: 11 / 32، ورجال النجاشي: 27 / 49.))–، وإسماعيل بن موسى بن جعفر ( عليهما السلام )((فهرست الشيخ: 11 / 31، ورجال النجاشري: 26 / 48.))، وثابت بن شريح((فهرست الشيخ: 42 / 129، ورجال النجاشي: 116 / 297.)) ونحو ذلك.
ونتيجة لهذا الاختلاف والاشتراك في الطرق إلى أصحاب الكتب والمصنفات، أصبح التعويض – في هذا الوجه – تعويضاً لجزء من السند تارة ( وهو المقطع الثاني منه بما فيه من نقطة الضعف )، وأخرى لجميع سلسلة السند، وهذا الأخير هو ما عنونه الشيخ الطهراني في تحرير المقال كما تقدم في جدولة وجوه نظرية التعويض في مراجعها المذكورة. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.
شروط التعويض في الوجه الثالث:
قال الشهيد الصدر: « الوجه الثالث: عبارة عن تعويض سند الشيخ مثلاً إلى صاحب كتاب في رواية ينقلها عن ذاك الكتاب إذا كان ضعيفاً بسند النجاشي إليه _ مثلاً _ إذا كان صحيحاً»((مباحث الأصول ج3 ق2: 245.))
ويتم هذا التعويض بعد توفر الشروط التالية:
الشرط الأول: أن يكون الشخص الواقع بعد الشيخ – في سنده الضعيف إلى صاحب الكتاب – ثقة.
الشرط الثاني: أن يكون للنجاشي سندان إلى صاحب الكتاب الذي روى عنه الشيخ بسند ضعيف، بحيث يكون أحدهما هو نفس السند الضعيف الذي ذكره الشيخ إلى صاحب الكتاب، ويكون الآخر صحيحاً بجميع رجاله.
الشرط الثالث: أن يصرح الشيخ والنجاشي في ترجمتهما لصاحب الكتاب بأسماء كتبه بحيث يكون ما سماه الشيخ من كتبه قد سماه النجاشي أيضاً.
فإذا ما توفرت هذه الشروط الثلاثة، فعندئذ نبدل سند الشيخ الذي فيه ضعف بسند النجاشي الصحيح((مباحث الأصول ج3 ق2: 245، وانظر: القضاء: 59، وتحرير المقال: 134.)).
هذا، وقد ضرب السيد الشهيد مثالاً واقعياً توفر فيه – إلى حد ما – الشروط المتقدمة، وهو بخصوص سند الشيخ إلى ما رواه عن علي بن الحسن بن فضال المشهور ضعفه بعلي بن محمد بن الزبير.
فقد قال الشيخ في مشيختي التهذيب والاستبصار ما نصه: « وما ذكرته في هذا الكتاب عن علي بن الحسن بن فضال، فقد أخبرني به أحمد بن عبدون المعرف بابن الحاشر سماعاً منه وإجازة، عن علي بن محمد بن الزبير، عن علي بن الحسن بن فصال»((تهذيب الأحكام 10: 55 – 56، والاستبصار 4: 309 كلاهما في المشيخة.)).
كما ترجم الشيخ لعلي بن الحسن بن فضال الفطحي الثقة في كتابه الفهرست، وعدله فيها ستة وعشرين كتاباً ذكرها بأسمائها ثم قال: «أخبرنا بجميع كتبه – قراءه عليه أكثرها، والباقي إجازة – أحمد بن عبدون، عن علي بن محمد بن الزبير سماعاً وإجازة منه »((فهرست الشيخ: 93 / 381.)).
ونلاحظ هنا توفر الشرط الأول من الشروط الثلاثة المتقدمة، وهو كون الشخص الواقع بعد الشيخ في السند الذي يروي فيه عن ابن فضال – وهو ابن عبدون – ثقة، بالبناء على وثاقة مشايخ النجاشي لكونه منهم. مع ضعف السند بابن الزبير.
وأما عن الشرطين الآخرين فقد تحققا في المقام أيضاً؛ لأن النجاشي ترجم في رجاله لعلي بن الحسن بن فضال، وقد سمى جميع كتبه – تقريباً – التي سماها الشيخ ونسبها له في الفهرست مع تخلف القليل منها وزيادة بعض الكتب، ونحو ذلك من الاختلافات الأخرى والتي لا تضر – في الغالب – في تحقق الشرط الثالث في مثال الشهيد الصدر كما سيأتي ذلك مفصلاً.
وقد ذكر النجاشي سندين إلى كتب علي بن الحسن بن فضال، وهما:
الأول: عن أحمد بن عبدون، عن علي بن محمد بن الزبير، عن علي بن الحسن بن فضال، وهذا السند هو نفس سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال وبلا أدنى اختلاف.
الثاني: قال: « وأخبرنا محمد بن جعفر في آخرين، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن بكتبه »((رجال النجاشي: 259 / 676.)).
وهذا الطريق صحيح، لوثاقة من وقع فيه.
وبهذا تكون الشروط الثلاثة قد تحققت – إلى حد ما – في المقام، فنعوض سند الشيخ الضعيف في خصوص ما يرويه عن علي بن الحسن بن فضال بسند النجاشي الصحيح إليه.
ولكن هناك ثلاثة أمور في غاية الأهمية ولا يمكن إهمالها؛ لاتصال بعضها بهذا الوجه من التعويض، وبعضها بمثاله المتقدم، وهي:
1 – بيان حقيقة هذا الوجه من التعويض.
2 – المناقشة في بعض شروطه.
3 – المناقشة في المثال التطبيقي.
1 – بيان حقيقة هذا الوجه من التعويض
بعد أن بين الشهيد الصدر الشروط الثلاثة المتقدمة، وانتهى إلى القول بصحة استبدال سند الشيخ الضعيف بسند النجاشي الصحيح، عرج إلى توضيح النكتة المصححة لذلك الاستبدال، على أساس أن ما يعنيه ذكر النجاشي لطريقين إلى كتب علي بن الحسن بن فضال – وكان أحدهما صحيحاً، والآخر ضعيفاً، وهو نفس طريق الفهرست – هو أن الكتب التي نقلت إليه بالطريق الصحيح، هي نفسها المنقولة إليه بالطريق الضعيف أيضاً، بمعنى اتحاد النسخة في كلا طريقيه((مباحث الأصول ج3 ق2: 245.)).
ومما يؤيد ما ذكره السيد الشهيد – هو أن النجاشي لم يشر إلى وقوع أدنى اختلاف فيما وصله من نسخة كتب علي بن الحسن بن فضال في أي من الطريقين مع ما عرف عن دأبه في الإشارة إلى اختلاف نسخ الكتب أينما وقف عليها كما يظهر ذلك بوضوح من تراجم عدة في رجاله.
منها: ما ذكره في ترجمة أبي رافع بخصوص كتابه ( السنن والأحكام والقضايا ) فبعد أن ذكر طريقين لهذا الكتاب قال: « وذكر شيوخنا أن بين النسختين لهذا الكتاب اختلافاً قليلاً، ورواية أبي العباس أتم »((رجال النجاشي: 6 / 1.)).
ومنها: تصريحه بوجود اختلاف بين نسختي كتاب علي بن أبي رافع((رجال النجاشي: 7 / 2.)).
ومنها: قوله عن طريق له إلى كتب الحسين بن سعيد: « قال ابن نوح: وهذا طريق غريب، لم أجد له ثبتاً إلا قوله: فيجب أن تروي عن كل نسخة من هذا بما رواه صاحبها فقط، ولا تحمل رواية على رواية ولا نسخة على نسخة؛ لئلا يقع فيه اختلاف »((رجال النجاشي: 60 / 137.)).
ومنها: ما ذكره في ترجمة أحمد بن عامر بن سليمان بخصوص النسخة التي يرويها عن الإمام الرضا، فقد روى النجاشي نسخة ثانية عنه وقال عنها: « والنسخة حسنة »((رجال النجاشي: 100 / 250.))، وفي هذا إشارة إلى وجود اختلاف ما بين النسختين.
ومنها: قوله بعد ذكر طريق إلى كتاب لحماد بن عيسى: « وذكر ابن شيبان أن علي بن حاتم أخبره بذلك، عن أحمد بن ادريس – إلى أن قال – وهذا القول ليس يثبت، والأول من سماعه من جعفر بن محمد أثبت »((رجال النجاشي.))، وهذا القول وإن كان لا يدل على اختلاف نسخ كتاب حماد إلا أنه يدل على أن الطريق غير المعتبر الذي لا يثبت به النقل لا يترك عند النجاشي من غير تنبيه، وهذا مهم في تقرير ما نحن بصدده.
ومنها: قوله في ترجمة عبد الله بن أبي عبد الله الطيالسي: « ولعبد الله كتاب نوادر… ونسخة أخرى نوادر صغيرة … ونسخة أخرى صغيرة »((رجال النجاشي: 219 / 572.)).
ومنها: ما قاله عن كتاب عبيد الله الحلبي: « والنسخ مختلفة الأوائل، والتفاوت فيها قريب((رجال النجاشي: 231 / 612.)).
ومنها: قوله عن نوادر ابن أبي عمير: « فأما نوادره فهي كثيرة؛ لأن الرواة لها كثيرة، فهي تختلف باختلافهم »((رجال النجاشي: 327 / 887.)).
ومنها: قوله عن كتاب طلحة بن زيد: « يرويه جماعة يختلف برواياتهم »((رجال النجاشي: 207 / 550.)) إلى غير ذلك من أقواله التي يظهر منها وجود نسخ مختلفة لبعض الكتب، كقوله مثلاً عن كتاب الحسن بن صالح الأحول: « له كتاب تختلف روايته »((رجال النجاشي: 50 / 107.))، وقريب من ذلك ما قاله عن كتاب الحسن بن الجهم، وكتاب الحسين بن زيد، وكتاب الحسين بن علوان الكلبي، وكتاب الحسين بن أحمد المنقري، وكتاب الحسين بن عثمان بن شريك، وكتاب ثعلبة بن ميمون، وكتاب جارود بن المنذر((انظر: رجال النجاشي – على التوالي–: 50 / 109و 52 / 115 و: 52 / 116و: 53 / 118 و: 53 / 119و: 118 / 302و: 130 / 334.)) وغيرها من الكتب الأخرى.
ومما تقدم يعلم صحة ما ذكره السيد الشهيد من أن الكتب المنقولة إلى النجاشي بالطريق الصحيح، هي نفسها المنقولة إليه بالطريق الضعيف أيضاً، « ولا يحتمل عقلائياً أن النسخة التي نقلت له بالطريق الضعيف تختلف عن النسخة التي وصلت إلى الشيخ بنفس ذلك الطريق، فإن المفروض أن من وقع بعد الشيخ بلا فاصل ثقة، فلا يحتمل أنه أعطى نسخة إلى الشيخ ورواها عن علي بن الحسن بن فضال، وبنسخة أخرى إلى النجاشي فرضها كذبا نفس ذلك الكتاب ورواها عنه. كما لا يحتمل عادة عقلائياً أن ذاك الثقة كانت عنده نسختان مختلفتان من ذلك الكتاب، ولم ينبه الشيخ ولا النجاشي إلى اختلاف النسختين، أو هو لم ينتبه إلى اختلاف النسختين مع وجودهما عنده رغم ما كان متعارفاً وقتئذ لديهم من التدقيق في متون الاخبار والقراءة والمقابلة ونحو ذلك»((مباحث الأصول ج3 ق2: 245 – 246.)).
ومن هنا نستخلص النتائج التالية:
1 – أن كتب علي بن الحسن بن فضال المروية بطريق ضعيف عند النجاشي هي نفس كتبه – تقريباً – التي رواها بالطريق الصحيح.
2 – أن الطريق الضعيف عند النجاشي إلى تلك الكتب هو نفس طريق الشيخ إليها، ومن هاتين النتيجتين تظهر النتيجة الثالثة، وهي:
3 – أن الطريق الضعيف إلى تلك الكتب عند الشيخ يساوي طريق النجاشي الصحيح إليها.
إذاً يمكن تصحيح سند الشيخ الذي يروي به عن علي بن الحسن بن فضال – لضعفه بعلي بن محمد بن الزبير – بسند النجاشي الصحيح إليه، ولا يخفى أن هذا التعويض هو من تعويض تمام السند.
2 – المناقشة في بعض شروط هذا الوجه من التعويض
تقدم أن الشرط الأول المطلوب في التعويض بهذا الوجه، هو أن يكون الشخص الواقع بعد الشيخ – في السند الضعيف إلى صاحب كتاب – ثقة.
وهذا الشرط يمكن الاستغناء عنه، إذ يمكن تعويض سند الشيخ إلى ما يرويه عن علي بن الحسن بن فضال لو كان مبدوءاً براوٍ ضعيف؛ وعلى طبق هذا الوجه أيضاً، وذلك فيما لو كان للشيخ طريق صحيح إلى جميع كتب وروايات أحد من وقع في طريق النجاشي الصحيح إلى علي بن الحسن بن فضال، فعندها يلفق سند صحيح للشيخ، وذلك من طريقه إلى جميع كتب وروايات ذلك الشخص، ومن طريق النجاشي ابتداءً من ذلك الشخص نفسه إلى علي بن الحسن بن فضال((اما لو ذكر طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب ذلك الشخص فقط دون رواياته، فلا يمكن التعويض كما مر في الإشكال الرابع من الإشكالات المثارة حول الوجه الأول من نظرية التعويض، فراجع.)).
ويلحظ تحقق هذا الغرض في المثال المتقدم، إذ وقع أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ ( ت / 333 هـ، وقيل / 332 هـ ) في طريق النجاشي الصحيح إلى علي بن الحسن بن فضال – كما مر –، وللشيخ طريق صحيح في الفهرست إلى جميع كتب وروايات ابن عقدة الحافظ، فقد قال – بعد ذكر كتبه –: « أخبرنا بجميع رواياته وكتبه أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى الأهوازي، وكان معه خط أبي العباس بإجازته وشرح رواياته وكتبه، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد »((فهرست الشيخ: 29 / 76.)).
وهنا لا إشكال في تعويض سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال الذي بدأ برجل ضعيف – بالفرض – بهذا السند الصحيح – بناء على وثاقة الاهوازي على مبنى السيد الخوئي وغيره في توثيق مشايخ النجاشي – بعد وصله بسند النجاشي بحيث يكون محل الاتصال هو ابن عقده نفسه، ولا يخفى أن هذا الأسلوب من التعويض قد يكون تارة لتمام السند؛ كما لو لم تكن بين السند الضعيف والصحيح نقطة اشتراك في بدايتهما في راوٍ معين بحيث يختلف أحدهما عن الآخر بتمام رواته. وأخرى لجزء من السند كما لو توفرت نقطة الاشتراك بين السندين براوٍ أو أكثر مع اختلاف الرواة الباقين.
بل وحتى لو لم يذكر الشيخ طريقاً أصلاً إلى علي بن الحسن بن فضال فيمكن والحالة هذه تلفيق طريق صحيح إليه وبنفس الأسلوب المتقدم، لكن اكتشاف ذلك الطريق
الصحيح إليه غير داخل في دائرة التعويض قطعاً؛ إذ لا وجود لطرف من أطراف عملية التعويض وهو السند المعوض حتى يسمى ذلك تعويضاً، وعليه فإن ما ورد في بعض مصادر النظرية من تسمية نظائر ذلك بالتعويض – وجرينا معه – فهو من باب المسامحة في التعبير.
وأما عن الشرط الثاني، وهو أن يكون للنجاشي سندان إلى صاحب الكتاب، يكون الأول منهما تاماً، والآخر هو نفس سند الشيخ الضيف إلى صاحب ذلك الكتاب، يمكن المناقشة فيه على أساس عدم الحاجة إلى السند الثاني الضعيف، والاكتفاء بالأول الصحيح فقط، فيما لو كان للشيخ طريق صحيح إلى جميع كتب وروايات أحد من وقع في سند النجاشي الصحيح إلى صاحب الكتاب كما مر في مناقشة الشرط الأول، وحتى مع فقدان وجود ذلك عند الشيخ فلا حاجة إلى السند الضعيف عند النجاشي. نعم تكون الحاجة إلى وجود سند ضعيف للشيخ بشرط أن يكون الراوي المباشر فيه للشيخ هو نفس الراوي المباشر للنجاشي في سنده الصحيح، بمعنى إحراز وثاقته، أي بقاء الشرط الأول على حاله كما نبه عليه في محله((مباحث الأصول ج3 ق2 / 246 هامش رقم ( 1 ).)).
هذا، وقد تأتي المناقشة على الشرط الثالث أيضاً، وذلك فيما لو تصورنا – مثلاً – أن الشيخ قد حصر كتب ابن فضال بعشرين كتاباً وعدها بأسمائها، وأن النجاشي قال: له عشرون كتاباً قرأتها على المشايخ ثم عد قسماً منها قائلاً: وغيرها، ففي هذا الفرض لا يشترط أن تكون الكتب المسماة في الفهرست مسماة بأسمائها عند النجاشي في طريقه الصحيح إليها كما هو واضح.
ولكن لو فرض أن النجاشي لم يصرح بذلك، أو فرض العكس مع عدم التصريح أيضاً بوجود العدد المطابق لما ذكره الآخر.
فهنا هل يخدش الافترضان معاً هذا الوجه من التعويض؟ أو إحداهما دون الآخر؟
والجواب سيتضح من خلال مناقشة الأمر الثالث، وهو:
3 – المناقشة في المثال التطبيقي
أن مقارنة الكتب التي ذكرها النجاشي لعلي بن الحسن بن فضال مع الكتب التي ذكرها له الشيخ في الفهرست؛ قد تؤدي إلى وجود بعض الثغرات التي تؤثر في تعويض سند الشيخ بسند النجاشي في المثال المذكور، وتحقيق هذا الأمر منوط بمعرفة جوانب الاتفاق والافتراق بين الشيخ والنجاشي بشأن كتب علي بن الحسن بن فضال، وذلك على النحو التالي:
أن الكتب التي ذكرها النجاشي لعلي بن الحسن بن فضال هي:
1 – كتاب الوضوء، 2 – كتاب الحيض والنفاس، 3 – كتاب الصلاة، 4 – كتاب الزكاة والخمس، 5 – كتاب الصيام، 6 – كتاب مناسك الحج، 7 – كتاب الطلاق، 8 – كتاب النكاح، 9 – كتاب المعرفة، 10 – كتاب التنزيل من القرآن، والتحريف، 11
– كتاب الزهد، 12 – كتاب الأنبياء، 13 – كتاب الدلائل، 14 – كتاب الجنائز، 15 – كتاب الوصايا، 16 – كتاب الفرائض، 17 – كتاب المتعة، 18 – كتاب الغيبة، 19 – كتاب الكوفة، 20 – كتاب الملاحم، 21 – كتاب المواعظ، 22 – كتاب البشارات، 23 – كتاب الطب، 24 – كتاب إثبات إمامة عبد الله، 25 – كتاب أسماء آلآت رسول اللهr ) وأسماء سلاحه، 26 – كتاب العلل، 27 – كتاب وفاة النبيr، 28 – كتاب عجائب بني إسرائيل، 29 – كتاب الرجال، 30 – كتاب ما روي في الحمام، 31 – كتاب التفسير، 32 – كتاب الجنة والنار، 33 – كتاب الدعاء، 34 – كتاب المثالب، 35 – كتاب العقيقة، 36 – كتاب أصفياء أمير المؤمنين، مع الطعن بهذا الكتاب الأخير كما سيأتي.
هذا، وقد مر أن الشيخ قد ذكره ستة وعشرين كتابا لعلي بن الحسن بن فضال أي بفارق عشرة كتب عما في رجال النجاشي، وهي المتقدمة بالأرقام « 10 و 12 و 16 و 17 و 18 و 20 و 24 و 25 و 26 و 30 و 33 ».
وهذه الكتب العشرة التي لم يذكره الشيخ أصلاً وصرح بها النجاشي، فإن وجدت رواية للشيخ في التهذيب – مثلاً – يظن بأخذها من أحد تلك الكتب؛ لاتفاق مضمونها مع عنوان ذلك الكتاب، فالظاهر أنه يمكن التعويض على الرغم من تخلف ذلك الكتاب عن الفهرست؛ لأن هذا التخلف لا يدل على عدم وصول ذلك الكتاب إلى الشيخ، والدليل على ذلك هو كون تلك الكتب التي لم يذكرها الشيخ قد رواها النجاشي بنفس طريق الشيخ في الفهرست. ولا يمكن احتمال رواية الشيخ عن كتاب ليس له طريق إليه، أو لم يصل إلى الشيخ؛ لأنه غير معقول أصلاً، ومثال ذلك ما رواه الشيخ من روايات كثيرة في التهذيب في الفرائض والمواريث وقد ابتدأ سندها بعلي بن الحسن بن فضال رأساً((أنظر: تهذيب الأحكام 9: 273 – 294 / الأحاديث 987 و 988و 998 و 999و 1000 و 1001و 1011و 1020و 1021و 1022 و 1033 – 1050 وغيرها.))، وهذا ما يشير إلى أخذها من كتابه ( الفرائض ) الذي ذكره النجاشي دون الشيخ، ويستبعد أن تكون تلك الروايات قد أخذها الشيخ من أحد الكتب الأخرى التي ذكرها إليه في الفهرست، مع أنها غير داخلة في عنوان المواريث، ككتاب الصلاة، والصوم، والحج، ونحوها.
ومن هنا يمكن القول بصحة تعويض سند الشيخ إلى ما يرويه عن علي بن الحسن بن فضال بسند النجاشي؛ حتى مع فرض كون ما يرويه عنه قد أخذ من كتبه التي لم يصرح بها في الفهرست.
ومن جهة أخرى، فإن النجاشي لم يذكر كتابين لعلي بن الحسن بن فضال وذكرهما الشيخ في الفهرست، وهما: كتاب صفات النبي، وكتاب المثالب.
ومع الأخذ بما احتمله السيد الحائري من أن كتاب الصفات يمكن أن يكون هو نفس ( كتاب وفاة النبيr ) الذي ذكر النجاشي((القضاء في الفقه الإسلامي: 60.)) كما تقدم برقم / 27، ينحصر التخلف
بكتاب واحد، وهو كتاب المثالب، « ولو فرض التعدد فالحديث الذي لم يرو في صفات النبيr نطمئن – بحساب الاحتمالات – بكونه مأخوذاً من كتاب آخر غير كتاب صفات النبي »((مباحث لاأصول ج3 ق2: 248 هامش رقم / 1.)).
وأما لو كانت الرواية – مع هذا الفرض – بشأن الصفات، أو كانت بخصوص المثالب، فالظاهر عدم التعويض، لعدم وقوع هذين الكتابين بيد النجاشي، إذ قال – قبل تعدد كتب علي بن الحسن بن فضال –: « وقد صنف كتبا كثيرة، منها ما وقع ألينا: كتاب الوضوء، كتاب… »((رجال النجاشي: 258 / 676.))، ولم يذكر الكتابين ( الصفات، والمثالب ).
كما نلاحظ النجاشي قد نقل عن مشايخه الطعن بكتاب الأصفياء الذي ذكره الشيخ في الفهرست أيضاً، فقال: ( ورأيت جماعة من شيوخنا يذكرون الكتاب المنسوب إلى علي بن فضال المعروف بـ ( أصفياء أمير المؤمنين )، ويقولون: إنه موضوع عليه، والله أعلم.
قالوا: وهذا الكتاب الصق روايته إلى أبي العباس بن عقدة وابن الزبير، ولم نر أحداً ممن روى عن هذين الرجلين يقول: قرأته على الشيخ، غير أنه يضاف إلى كل رجل منهما بالإجازة حسب »((رجال النجاشي: 258 / 676.)).
وهذا يعني، أن هذا الكتاب بالذات لم ينقل إلى النجاشي بالطريق الصحيح، ولو فرض نقله به، فهو معارض بقول مشايخ النجاشي بوضع كتاب الأصفياء عليه.
وعليه فإن وجدت رواية للشيخ عن علي بن الحسن بن فضال بخصوص أصفياء أمير المؤمنين، فلا يمكن تعويض سندها الضعيف بسند النجاشي الصحيح، أما لو كانت الرواية أجنبية عن مسألة الأصفياء، فلا شك في صحة تعويض سندها إذ « نطمئن – بحساب الاحتمالات – بأنها مأخوذة من كتاب آخر غير كتاب الأصفياء »((مباحث الأصول ج3 ق2: 248 هامش رقم / 1.)).
هذا، وقد اختلف الشيخ مع النجاشي في تسمية خمسة من كتب علي بن الحسن بن فضال وذلك على النحو الآتي ابتداء بما في رجال النجاشي:
1 – كتاب الحيض والنفاس، وفي الفهرست: كتاب الحيض.
2 – كتاب الزكاة والخمس، وفي الفهرست جعل هذا الكتاب كتابين، وهما: كتاب الزكاة، وكتاب الخمس.
3 – كتاب مناسك الحج، وفي الفهرست: كتاب الحج.
4 – كتاب الكوفة، وفي الفهرست: كتاب فضل الكوفة.
5 – كتاب عجائب بني إسرائيل، وفي الفهرست: كتاب أخبار بني إسرائيل.
والحق أن هذه الاختلافات طفيفة جداً، وهي لا تساعد على احتمال اختلاف الكتب بين الشيخ والنجاشي، ولا تمنع من إجراء عملية التعويض في المثال المذكور؛ للاطمئنان بوحدة الكتب المذكورة بينهما.
إلا أن السيد الشهيد قال: « إلا أن في هذا المثال طريقاً للمناقشة، وذلك لأن النجاشي قال: ( أخبرنا فلان ، عن فلان بكتبه ) ولم يعطف على كتبه ( رواياته ) .
فقد يبدي أحد احتمال كون المقصود : أخبرنا بعناوين كتبه لا بواقع كتبه » ثم عمم السيد الشهيد هذا الأشكال حتى في صورة تعويض طرق الشيخ الضعيفة في المشيخة بالصحيح في الفهرست ، فيما لو لم يعطف الشيخ ( رواياته ) على ( كتبه ) في الفهرست .
ثم قال: « نعم، حينما تعطف الروايات على الكتب لا تحتمل أن يكون المراد عناوين الروايات، فبقرينة وحدة السياق يكون ظاهر الكلام هو الإخبار عن واقع الكتب أيضاً »((مباحث الأصول ج3 ق2: 249، وقد مر نظير هذا الكلام في ص: 45 من هذا البحث، فراجع.)).
أقول: قد مر جواب تعميم السيد الشهيد للإشكال الوارد هنا – على فرض تماميته – ليشمل الفهرست أيضاً فيما لو لم تعطف فيه الروايات على الكتب، وذلك في جواب الإشكال الرابع المثار حول الوجه الأول من النظرية ، وقد تبين هناك عدم ورود هذا الإشكال على فهرست الشيخ، ولا حاجة إلى إعادته((انظر: ص45 من هذا البحث.)).
وأما عن علاقة هذا الإشكال برجال النجاشي، فقد نقل الشيخ مهدي الهادوي الطهراني عن أستاذه السيد كاظم الحائري: « ان النجاشي لم يرد إعطاء السند إلى واقع الكتب، بل إلى إسمائها »((تحرير المقال: 136.)).
وقد ذكر السيد الحائري نظير هذا في كتابه القضاء، إلا أنه ساقه بنحو الاحتمال وذلك في تفسيره لعبارة النجاشي: « أخبرنا بسائر كتب ابن فضال. ».
ثم قال بعد هذا الاحتمال: « وقد يدعي مدعٍ على أثر التتبع في كتاب النجاشي أن هدفه من مثل هذه العبارة إعطاء السند لا مجرد سرد أسماء الكتب، كما ادعينا ذلك بالنسبة لفهرست الشيخ، إلا أن هذه الدعوى بالنسبة لفهرست الشيخ أوضح صحة منها بالنسبة لرجال النجاشي كما يظهر للمتتبع فيها»((القضاء: 61 – 62.)).
والظاهر أن المقصود بهذا الكلام هو الشيخ الطهراني؛ لقوله بعد نقل كلام السيد مباشرة: « أقول: هذا الإشكال محلول بالنسبة إلى فهرس النجاشي أيضاً لوجوه:
- ثن ذكر ثلاثة وجوه، وهي:
الأول: إن حمل الإسناد إلى أسماء الكتب خلاف ظاهر عبارات النجاشي في تراجم الرواة، وكذا خلاف ظاهر قوله في الايباجة: ( لم أبلغ غايته لعدم أكثر الكتب ) فإنه ظاهر، بل صريح في أنه ذكر كتباً كانت موجودة عنده »((تحرير المقال: 136.)).
وفيه: ليست عبارات النجاشي كلها بهذا الظهور، بل فيها التصريح بعدم رؤيته لجملة من الكتب. فمثلاً قال في ترجمة إبراهيم بن سليمان بن أبي راحة: « له كتب ذكرها أصحابنا في الفهرستات لم أرم منها شيئاً »((رجال النجاشي: 15 / 14.)).
وفي ترجمة إسماعيل بن علي، وإسماعيل بن أبي عبد الله: « ذكر أصحابنا أن لهما كتاب خطب »((رجال النجاشي: 37 / 75.)).
وقال عن كتاب أحمد بن يحيى: « لم أر هذا الكتاب »((رجال النجاشي: 87 / 213.)).
وعن كتب أحمد بن ميثم: « لم أر منها شيئاً »((رجال النجاشي: 88 / 216.)).
وعن كتاب المزار لعبد الله بن عبد الرحمن: « سمعت ممن رآه فقال لي: هو تخليط »((رجال النجاشي: 217 / 566.))، ومن ثم فان النقاش ليس بصدد مطلق عبارات النجاشي، بل بخصوص ما يستفاد من قوله: « أخبرنا بكتبه فلان، عن فلان » من غير عطف كلمة ( رواياته ) على كتبه.
وأما عن قول النجاشي: « لم أبلغ غايته لعدم أكثر الكتب » فلا يدل على أن جميع ما ذكره من كتب في كتابه كان بحوزته، فهو قد ذكر من أسماء المصنفين ألفاً ومائتين وتسعة وستين اسماً، وقد ذكر لبعضهم مئات الكتب، فلو كانت جميع تلك الكتب بحوزته لكان لمكتبته شأن عظيم لا بد ومن أن ينقل إلينا – عنه أو عن غيره – والحال ليس كذلك.
وقد يكون المقصود بالعبارة هو عدم أكثر الفهرستات التي لو وجدت لا ستفيد منها كاستفادته من فهرس ابن بطة وغيره في تدوين مصنفات الشيعة. ثم قال:
« الثاني: بعض عباراته صريح في أنه أراد إعطاء السند إلى واقع الكتب:
منها: قوله في ترجمة جعفر بن قولويه بعد سرد أسماء كتبه: « قرأت أكثر هذه الكتب على شيخنا أبي عبد الله وعلى الحسين بن عبيد الله، فإن القراءة إنما هو ( هي ) لواقع الكتب.
ومثله: قوله في ترجمة جميل بن دراج « له كتاب رواه عنه جماعات من الناس … قرأته على الحسين بن عبد الله »((تحرير المقال: 136 – 137.)).
ثم ساق أمثلة أخرى من هذا القبيل.
وفيه: أن جميع هذه الأمثلة لا تنطبق على ما نحن فيه إذ ليس المراد بالإشكال شموله لكل عبارة من عبارات النجاشي بل المراد هو خصوص تعبير معين كما مر آنفاً.
« الثالث: لو كانت هذه الإسناد إلى أسامي الكتب لكانت متعددة في أكثر الموارد، بل متواترة، وليست كذلك »((تحرير المقال: 137.)).
وهذا الوجه قد خدشه الطهراني نفسه لوقوفه على قول النجاشي في مقدمة الكتاب « وذكرت لكل رجل طريقاً واحداً حتى لا يكثر ( تكثر ) الطرق فيخرج عن الغرض »((رجال النجاشي: 3 من المقدمة، وقد صرح النجاشي النجاشي بهذا في ترجمة ثابت بن شريح: 116 / 297، وعبيد الله بن علي الحلبي: 231 / 216 وغيرهما.)).
وعليه فإن الإشكال الذي أثاره السيد الشهيد بخصوص عبارة النجاشي لم يدفع بعد في تقديري. أما عن المثال الذي ساقه السيد الشهيد فلا يرد عليه الإشكال المذكور؛ لقول النجاشي – قبل سرد أسماء كتب علي بن الحسن بن فضال –: « وقد صنف كتباً كثيرة منها ما وقع إلينا، كتاب الوضوء، كتاب … الخ »((رجال النجاشي: 258 / 676.)). ولا شك في أن ما وقع إليه من تلك الكتب قد وصل إليه، بقرينة أنه لم يذكر كتاب المثالب من جملة كتبه، وقد ذكره الشيخ في الفهرست. ولو كان قد ( وقع إليه ) لما تركه، وهذا يعني: أن كل ( ما وقع إليه ) قد وصل إليه فعلاً.
الوجه الرابع
تعويض سند الشيخ بسند الصدوق
قال السيد الشهيد عن هذا الوجه: بأنه « أوسع من الوجوه الماضية، وحاصله: أننا إذا وجدنا طريقاً ضعيفاً من الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى مثلاً، ولكن طريق الصدوق إليه كان صحيحاً في المشيخة، نحكم بصحة الحديث الذي يرويه عن أحمد بن محمد بن عيسى بذاك الطريق الضعيف، سواء كان الصدوق داخلاً في طريق الشيخ أو لا؛ وذلك باعتبار أن طريق الشيخ إلى الصدوق صحيح، فيتلفق من طريق الشيخ إلى الصدوق ، والصدوق إلى أحمد بن محمد بن عيسى طريق صحيح »((مباحب الأصول ج3 ق2 : 249.)).
وقد أورد الشهيد الصدر إشكالاً على هذا الوجه حاصله: أن رواية الشيخ الضعيفة السند إذا كانت موجودة في التهذيب دون كتاب من لا يحضره الفقيه، تكون غير مشمولة بطرق الصدوق في المشيخة؛ لأنه أفرد المشيخة إلى خصوص رواياته المذكورة في كتابه الفقيه دون غيرها من الروايات الأخرى، وحينئذ فلا يتم التعويض.
وأجاب السيد الشهيد عن هذا الإشكال بضرورة التمسك بما ذكره الشيخ من الحوالة في آخر مشيخة التهذيب والاستبصار على فهارس الشيوخ، حيث قال في آخر مشيخة التهذيب – كما أوردناه سابقاً –: « قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنفات والأصول ولتفصيل ذلك شرح يطول، وهو مذكور في الفهارس المصنفة في هذا الباب للشيوخ، من أراده أخذه من هناك – إن شاء الله – وقد ذكرنا نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة »((تهذيب الأحكام 10: 88، من المشيخة.)). وقريب من هذا ما قاله في آخر مشيخة الاستبصار أيضاً((الاستبصار 4: 334، من المشيخة.)).
ويظهر من حوالة الشيخ في المشيختين أن تعويض السند الضعيف في التهذيب أو الاستبصار بسند الصدوق في مشيخته؛ مبني على أساس أن حوالة الشيخ في آخر المشيختين ليست حوالة على خصوص فهارس الشيوخ؛ المشتملة على طرقهم إلى أصحاب الأصول والكتب التي روى عنها الشيخ، بل هي حوالة على القضية الخارجية من الفهارس الموجودة للشيوخ، ومن أجلى مصاديقها مشيخة الصدوق – وإن كانت بحسب مدلولها اللفظي مشيخة لخصوص الروايات المذكورة في الفقيه – فإطلاق كلام الشيخ شامل لذلك، وهذا يدل على أن طرق الصدوق في مشيخته إلى أصحاب الأصول والكتب موجودة أيضاً عند الشيخ بالنسبة إلى ما رواه في التهذيبين من هذه المصنفات فإن لم يقطع بهذا الظهور – لم يتم ذلك((مباحث الأصول ج3 ق2: 251، وانظر: القضاء: 64.)).
ثم تعرض السيد الشهيد إلى مسألة مهمة وهي معارضة إطلاق كلام الشيخ مع قوله في آخر مشيخة التهذيب – كما مر –: « وقد ذكرنا نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة ». فإن هذا الكلام يعني عدم الحاجة إلى مشيخة الصدوق ولا إلى غيرها من فهارس المشايخ مادام الشيخ قد استوفى طرقه في الفهرست، وعليه تنحصر مسألة تعويض أسانيد الشيخ الضعيفة في المشيخة بالصحيحة في الفهرست؛ لأن مقتضى إخباره بذكر جميع طرقه في فهرسته، أن الطريق الموجود في مشيخة الصدوق – المغاير لما في الفهرست – لم يكن عند الشيخ أصلاً((مباحث الأصول ج3 ق2: 251، وانظر: القضاء: 64.)).
وقد رد الشهيد الصدر هذا الاعتراض بثلاث نقاط، نختصرها على النحو الآتي:
1_ أن ظهور كلمة مستوفى بالمعنى المتقدم غير معلوم ، فقد يكون المقصود منها التفصيل دون الاستيعاب بدليل عطف تلك العبارة على ما قبلها من حوالته إلى فهارس الشيوخ.
2 – إنه مع فرض تعارض الظهوريين في كلام الشيخ في التهذيب وحصول الإجمال، يرجع إلى كلامه في مشيخة الاستبصار لعدم اقترانه بتلك العبارة الموجبة للإجمال.
3 – إن الشيخ ذكر في فهرسته طر يقه إلى الصدوق، وهذا كاف في رفع التهافت بين الظهورين، فإن ذلك ذكر إجمالي لجميع طرق الصدوق الموجودة في مشيخته، وقد فرضنا أن طرق الصدوق في مشيخته في الحقيقة هي طرق إلى جميع كتب الرواة المذكورين في فقيهه الواصلة إليه، لا إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه وإن كان كلامه في مشيخته لا يدل – من باب الضيق في التعبير – على أزيد من كونها طرقاً إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه؛ وذلك بقرينة إطلاق كلام الشيخ في الحوالة على فهارس الشيوخ((مباحث الأصول ج3 ق2: 352_253 .)).
هذا، وقد أعترض على هذا الوجه من التعويض في بعض مصادر النظرية بمنع فرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لمشيخة الفقيه؛ لأنها ليست فهرستاً عاماً بل لخصوص مرويات الفقيه، وعليه فالتعويض غير صحيح بهذا الوجه((القضاء: 65.)).
والواقع أن هذا الاعتراض يصح في حالة واحدة كما سيتضح مما يأتي، فنقول:
1 – إن الرجوع إلى مقدمة الفقيه يولد الاطمئنان التام بأن تلك المشيخة إنما وضعت لبيان طرقه – في الأعم الأغلب – إلى كتب التي اعتمدها الصدوق في كتابه، سواء أخرج عن بعضها رواية واحدة أو أكثر.
فقد قال في مقدمة الفقيه – بعد أن عد جملة من الكتب التي اعتمدها –: « .. وغيرها من الأصول والمصنفات التي طرقي إليها معروفة في فهرست الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضي الله عنهم »((الفقيه: 5 من المقدمة.)).
واحتمال إرادة فهرست آخر غير المشيخة المذكورة في آخر الكتاب احتمال غير مقبول، ولهذا قال العلامة المجلسي الأول في شرح هذه الفقرة من كلام الصدوق: « وذكر الفهرست في آخر الكتاب »((روضة المتقين: 1: 16، من المقدمة.)).
ومن هنا يتضح أن طرق المشيخة لم تكن إلى خصوص مرويات الفقيه، وإنما كانت إلى الكتب التي استخرجت منها تلك الروايات، وبعبارة أخرى، أن مشيخة الفقيه هي بمثابة الفهرست العام إلى جميع الأصول والمصنفات المعتمدة لدى الصدوق في الفقيه وإن لم يكثر من الرواية عن بعضها.
2 – من المسلم به أن مصادر الصدوق قد وصلت – كلها أو أغلبها – إلى الشيخ، بمعنى أن ما أعتمده الشيخ من الأصول والمصنفات في التهذيبين، هو نفسه المعتمد في الفقيه أيضاً، فإذا ما علمنا – بقرينة ما – أن رواية التهذيب – مثلاً – الضعيفة السند قد أخذت من كتاب، وكان للصدوق طريق صحيح إلى ذلك الكتاب بالفرض، ، فيصح التعويض حينئذ؛ والوجه في ذلك هو أن مشيخة الفقيه – في تلك الصورة – تكون مشمولة بإطلاق إرجاع الشيخ إلى فهارس المشايخ.
ولتوضيح ذلك نفرض المثال التالي:
فلو روى الصدوق في الفقيه عن حريز – رأساً – رواية في مسألة من مسائل الصلاة، وكان طريقه إلى حريز صحيحاً في المشيخة. وروى الشيخ رواية عن حريز أيضاً في مسألة أخرى من مسائل الصلاة، وكان طريقه إليه في مشيخة التهذيب والاستبصار والفهرست ضعيفاً بشخص ما. فهنا يتم التعويض سواء كان ذلك الشخص الضعيف وقع في طبقة الصدوق أو أدنى أو أبعد منها، وسوء وقع الصدوق في سند الشيخ أم لم يقع.
والسبب في ذلك هو أن رواية الشيخ تلك قد أخذت في الظاهر من كتاب الصلاة لحريز – وهو كتاب مشهور معتمد عند أعلام الطائفة في ذلك العصر –، وأن طريق الصدوق إلى ما رواه عن حريز لا شك في أنه طريق إلى كتاب الصلاة لحريز الذي سماه الصدوق في المقدمة، بل قد يكون طريقاً إلى كتبه الأخرى ومن جملتها كتاب الصلاة، ولا يعرف لحريز أكثر من كتاب واحد بعنوان الصلاة حتى يحتمل أخذ الصدوق من أحدهما والشيخ من الآخر.
والصحيح أنهما اعتمدا مصدراً واحداً، غاية ما في الأمر اختلاف سند الصدوق عن سند الشيخ إلى ذلك المصور بعينه. وفي تلك الحالة يجري تعويض السند الضعيف للشيخ بتلفيق سند صحيح يتكون من سند الشيخ الصحيح إلى الشيخ الصدوق في الفهرست، لأنه سند إلى جميع كتبه ورواياته، والمفروض وصول رواية التهذيب إلى الصدوق – وان لم يروها – لأنها من جملة مرويات كتاب الصلاة لحريز.
ثم يوصل ذلك السند بسند الصدوق في المشيخة إلى كتاب حريز، وبذلك يصح سند الشيخ. أما لو لم يحرز هذا بحيث فقدت القرينة المرجحة لوحدة المصدر بينهما، كأن يروي الشيخ في التهذيب مثلاً رواية بسند ضعيف مع التصريح بتمام سلسلة الرواة ابتداءً من شيخه وانتهاءً بالراوي الأخير عن المعصوم وكانت لثلاثة – أو أكثر – من رجال السند كتب في موضوع الرواية، وفرض أن الصدوق لم يذكر طريقاً إلا لواحد منهم، فهنا لا يتم التعويض؛ لاحتمال أخذ الشيخ لتلك الرواية من أحد الكتب التي لا يعلم طريق الصدوق إليها، وهو الراجح بحساب الاحتمالات.
وبهذا القدر يتم البحث عن آخر وجوه نظرية التعويض عند السيد الشهيد الصدر.
هذا، وقد أحسن السيد الهاشمي في كتابه الخمس في نقل أسلوب التعويض المتقدم في الوجه الثالث إلى هذا الوجه من التعويض، بما لم أجده عند غيره. فقد استطاع أن يجد طريقاً صحيحاً للشيخ الطوسي في خصوص ما يرويه من روايات في التهذيبين عن عمر بن يزيد، على الرغم من أن الشيخ لم يذكر طريقه إليه لا في مشيخة التهذيب، ولا في مشيخة الاستبصار، هذا مع ضعف طريقه إليه في الفهرست.
لقد تناول السيد الهاشمي بالبحث – في كتابه الخمس – حديثاً في الوسائل أخرجه الشيخ الحر عن التهذيب بسند الشيخ، عن سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر [ أحمد بن محمد بن عيسى ]، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: رأيت أبا سيار مسمع بن عبد الملك بالمدينة … الخ »((وسائل الشيعة 9: 548 / 12686 ب4 من أبواب الانفال. عن تهذيب الأحكام 4: 144 / 403.)).
فقد بين دلالة الحديث أولاً، ثم حقق سنده ثانياً لغرض إثبات وثاقة عمر بن يزيد، ومسمع بن عبد الملك، وبعد أن أثبت وثاقة الرجلين، عاد إلى مشيخة الفقيه ليقارن ما في تلك المشيخة من طرق الصدوق إلى عمر بن يزيد، مع ما في الفهرست من طرق الشيخ إليه أيضاً. وتوصل من خلال تلك المقارنة إلى إيجاد الطريق الصحيح للشيخ إلى ما يرويه عن عمر بن يزيد في التهذيبين.
إذ تبين أن للصدوق في مشيخة الفقيه ثلاثة طرق إلى كتاب عمر بن يزيد.
أحدها هو نفس طريق الشيخ إلى كتاب عمر بن يزيد في الفهرست.
فقد قال الشيخ في ترجمته:
« له كتاب، أخبرنا به الشيخ المفيد عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن أبيه ومحمد بن الحسن؛ عن سعد والحميري، عن محمد بن عبد الحميد، عن محمد بن عمر بن يزيد، عن الحسين بن عمر بن يزيد، عن أبيه »((فهرست الشيخ: 113 / 491، ولا يخفى أن وقوع الصدوق في طريق الشيخ إلى كتاب عمر بن يزيد؛ يعني أن الصدوق لو لم يذكر في المشيخة غير الطريقين الآخرين إلى كتاب عمر بن يزيد، لصح اعتبار طريق الفهرست هذا، طريقا ثالثاً له أيضاً.)).
أما عن الطريقين الآخرين للصدوق فهما:
عن أبيه، عن محمد بن يحيى العطار، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، عن عمر بن يزيد.
وعن أبيه، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عباس، عن عمر بن يزيد((الفقيه 4: 8 – 9، من المشيخة.)).
وهنا، قال السيد الهاشمي: « وهذان الطريقان صحيحان بخلاف الأول؛ لأن فيه محمد بن عمر بن يزيد وهو لم يثبت توثيقه، ولهذا يمكن التعويض عن السند الذي ينقله الشيخ في الفهرست بأحد هذين السندين الصحيحين فيما ينقله في التهذيبين عن كتاب عمر بن يزيد »((بحوث في الفقه: كتاب الخمس / السيد الهاشمي 1: 184.)).
فالسيد الهاشمي هنا لم يرد تعويض سند الفهرست فحسب، بل كان نظره إلى ما هو أبعد من ذلك، أعني إضافة طريق صحيح إلى مشيخة التهذيبين لم يذكر فيها.
حديث الرفع ونظرية التعويض
وقبل اختتام البحث عن نظرية التعويض، لا بأس بالتعرض إلى محاولة الشهيد الصدر في تصحيح سند حديث الرفع المشهور من خلال نظرية التعويض لما في تلك المحاولة من إضاءة جديدة حول توسيع دائرة التعويض؛ لإدخال غير الكتب الأربعة
فيها. وان كان أسلوب التعويض المتبع داخلاً في أحد الأنماط المتقدمة في الوجوه السابقة للنظرية، كما سيأتي التنبيه عليه.
وعلى أية حال، فان ما يعنينا هنا هو تطبق نظرية التعويض على سند حديث الرفع وبالصورة التي ذكرها الإمام الشهيد؛ لكي لا تبخس تلك المحاولة حظها من البحث ولا سيما أن السيد الشهيد قد أفرد مساحة واسعة لتحقيق سند حديث الرفع ودلالته((أفرد السيد الشهيد – كما في تقريرات السيد الحائري – مساحة واسعة لمناقشة حديث رفع التسعة سنداً ودلالة، فقد حقق سند الحديث في اثنتين وأربعين صحيفة – بحث خلالها نظرية التعويض – ودلالته في ثمان وسبعين صحيفة – أنظر: مباحث الأصول ج3 ق2: 141 – 219 ( البحث الدلالي ) و: 219 – 261 ( البحث السندي ).))، حيث تناول هذا الحديث بأربعة مقامات، خصص المقام الرابع منها لمناقشة سند الحديث.
والمهم هنا هو بيان الحديث في بعض مصادره، وما يرافق ذلك من إشكالات سندية في بعض تلك المصادر، ومن ثم تصحيح سند الحديث بموجب النظرية وعلى النحو الآتي: الحديث في بعض مصادره
- أورد الشيخ الصدوق في كتابه التوحيد حديث الرفع بالصورة التالية:
« حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله: قال : قال رسول الله r :رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»((كتاب التوحيد: 353 / 24 باب الاستطاعة.)).
- كما أورده الشيخ الصدوق في كتابه الخصال، وبلا اختلاف يذكر مع ما في كتاب التوحيد سوى تقديم كلمة ( وما لا يعلمون ) على كلمة ( وما لا يطيقون )((الخصال 2: 417 / 9 باب التسعة.)).
- ورواه في الفقيه مرسلاً بهذه الصورة:
« وقال النبيr: وضع عن أمتي تسعة أشياء، السهو، والخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، والطيرة، والحسد، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة »((الفقيه 1: 36 / 132 باب 14.)).
وهذا الحديث غير تام من ناحية السند عند الشهيد، فقد قال: « لا يمكن الاعتماد عليه بناء على ما نبني عليه من عدم الفرق في عدم حجية المرسل بين إرساله
بعنوان ( روي )، وإرساله بعنوان ( قال الإمام )، وأن المناط في سقوط المرسل عن الحجية هو وجود واسطة محذوفة لا يعرف حالها »((مباحث الأصول ج3 ق2: 220، وانظر بحوث في علم الأصول – تقريرات السيد الهاشمي 5: 59.)).
– كما أخرج هذا الحديث الشيخ الحر في الوسائل عن كتابي الخصال والتوحيد المتقدمين((الوسائل 15: 369 / 20769 ب 65 من أبواب جهاد النفس في كتاب الجهاد.))
وأخرجه أيضاً بأسانيد أخرى، ما يتصل منها بمحاولة التعويض هو ما أورده بهذه الصورة: « أحمد بن محمد بن عيسى في ( نوادره )، عن إسماعيل الجعفي ، عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: وضع عن هذه الأمة ست خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه »((الوسائل 23: 237 / 29466 ب16 من أبواب كتاب الإيمان، وانظر: نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 74 / 157.)).
الإشكال الوارد على سند الوسائل:
إن الإشكال الذي يرد على سند الوسائل في هذا الحديث يقع في جهتين في بحث السيد الشهيد، وهما:
الأولى: أن الراوي عن الإمام في هذا الحديث هو إسماعيل الجعفي ، وقد حقق السيد الشهيد الحال بلحاظ هذا الراوي تحقيقاً مطولاً وانتهى إلى نتيجة سقوط الحديث سنداً((مباحث الأصول ج3 ق2: 225 – 236، وبحوث في علم الأصول 5: 62.)).
الثانية: إن سند الشيخ الحر إلى أحمد بن محمد بن عيسى إنما يكون بواسطة سند الشيخ إليه، لما ذكره في الفائدة الخامسة من فوائد خاتمة الوسائل من الطرق التي يروي بها الكتب التي اعتمدها في الوسائل، وكان من جملتها كتاب نوادر أحمد بن محمد بن عيسى((الوسائل 30: 159 / 82 من الفائدة الرابعة، و 30: 156 من الفائدة الخامسة.)).
ولكن للشيخ عدة أسانيد إلى روايات أحمد بن محمد بن عيسى، وبعضها تام، وبعضها غير تام لوجود أحمد بن محمد بن يحيى فيه وهو لم يثبت توثيقه إلا بالبناء على قاعدة أن مشايخ الثلاثة ( الكليني والصدوق والشيخ ) ثقات وهذه القاعدة غير تامة عند السيد الشهيد((مباحث الأصول ج3 ق2: 237، وبحوث في علم الأصول 5: 58.))، ومن هنا نشأ الإشكال في سند الحديث.
وأما عن رفع هذا الإشكال فهو لا يؤدي إلى تصحيح سند الحديث كما سيأتي.
وعلى أية حال فإن محاولة رفع هذا الإشكال في بحث السيد الشهيد وقعت على مستويين وهما:
« الأول: رفعه على مستوى هذا الحديث الموجود فيه ( رفع ما لا يعلمون ).
والثاني: رفعه على مستوى مطلق ما ينقله الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى.
أما على المستوى الأول: فهذا الإشكال مرفوع في المقام؛ لأن صاحب الوسائل صرح بأن هذا الحديث مأخوذ من كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن عيسى، وقد صرح الشيخ الطوسي في مشيخته بسند تام له إلى نوادر أحمد بن محمد بن عيسى.
وأما على المستوى الثاني: فحل الإشكال يكون على طريق ما نسميه بنظرية التعويض »((مباحث الأصول ج3 ق2: 238.)).
وفي هذا المستوى الثاني بحث السيد الشهيد نظرية التعويض وعلى نحو ما تقدم في هذا البحث تفصيلاً، ومن الرجوع إلى الوجه الأول من وجوه هذه النظرية يعلم أن المستوى الثاني في دفع الإشكال قد تحقق في ذلك الوجه، لما مر من اكتشاف طريق صحيح للشيخ إلى مطلق ما يرويه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى((راجع ( أمثلة تطبيقية من الوجه الأول ) ص37 من هذا البحث.))، وعليه ففرض ضعف سند الشيخ الحر إلى نوادر أحمد بن محمد بن عيسى بشخص وقع في سند الشيخ إليه – لأنه سند للشيخ الحر كما تقدم – لا يضر في صحة الطريق بعد تعويض ذلك الضعف بسند صحيح للشيخ إلى جميع ما يرويه من كتب وروايات أحمد بن محمد بن عيسى بما فيها كتابه النوادر.
وبهذا يكون سند الشيخ الحر إلى كتاب النوادر تاماً، وعلى الرغم من ذلك فهو لا يفيد في تصحيح سند الحديث نظراً لما ذكر في الإشكال الوارد على مسند الوسائل في جهته الثانية، أعني: رواية أحمد بن محمد بن عيسى لهذا الحديث عن إسماعيل الجعفي ، الذي انتهى بحث السيد الشهيد إلى عدم اعتبار هذا السند.
وبهذا يتضح أن نظرية التعويض لا تفيدنا في المقام وان صحح بها سند حديث الوسائل إلى كتاب النوادر، وعلى الرغم من ذلك يمكن اعتماد حديث الرفع لإمكان تطبيق نظرية التعويض على سند الشيخ الصدوق لهذا الحديث الذي رواه في كتابيه: الخصال والتوحيد.
وفي ذلك قال السيد الشهيد: « إن سند الصدوق في الخصال في حديث رفع التسعة غير صحيح باعتبار أحمد بن محمد بن يحيى … وعلى أية حال فنحن نبني على ضعف هذا السند باعتبار وجود أحمد بن محمد بن يحيى فيه، الذي لم يثبت توثيقه إلا أننا مع هذا نقول باعتبار حديث رفع التسعة، وذلك بنظرية التعويض »((مباحث الأصول ج3 ق2: 253 – 254.)).
تطبيق النظرية على سند حديث الرفع في الخصال والتوحيد:
رفع في سند الخصال والتوحيد أحمد بن محمد بن يحيى وهو ممن لم يثبت توثيقه عند السيد الشهيد كما تقدم، ولكن يوجد تقريبان عند السيد الشهيد في تعويض هذا السند، وهما:
التقريب الأول:
ويتوقف هذا التقريب على ثلاث مقدمات، وهي باختصار.
المقدمة الأولى:
إن الصدوق روى الحديث – في التوحيد والخصال عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز. ورواه في الفقيه مرسلاً كما مر.
ومن المحتمل قوياً أن يكون نظر الصدوق في إرسال الحديث إلى ذلك السند الذي سجله مفصلاً في الخصال والتوحيد، وهذا الاحتمال لا يتوقف على إثبات كون الخصال والتوحيد قد ألفا قبل الفقيه، بل يتم حتى مع فرض تأليفهما بعده، ذلك لأن منهجه في الفقيه قائم على أساس تسجيل الفتاوى على طبق متون الأخبار، التي اختصر أسانيدها وذكر لبعضها طريقاً في المشيخة دون البعض الآخر، فسند الحديث متوفر لديه في كل حال.
المقدمة الثانية:
بعد ثبوت نظر الصدوق في الفقيه إلى السند المذكور في الخصال والتوحيد، والتزام الصدوق في أول الفقيه بأخذ الروايات من الكتب المشهورة التي عليها المعول، يدعى الاطمئنان بأن نظره كان إلى كتاب معين من كتب الرواة المذكورين في سند الخصال والتوحيد.
ولما كانت طريقته العامة في هذين الكتابين – على ما تتبعه السيد الشهيد – هي أنه يكرر ( حدثنا ) ما دامت الرواية مأخوذة من المشايخ شفاهة، حتى إذا ما وصل إلى كتاب يبدل كلمة ( حدثنا ) بكلمة ( عن )، فيظهر أن هذا الحديث كان موجوداً في كتاب يعقوب بن يزيد، أو في كتاب سعد بن عبد الله، أو حماد، أو حريز، وأما أحمد بن محمد بن يحيى فليس له كتاب.
ومن مجموع هاتين المقدمتين ثبت أن الحديث قد أخذ من أحد هذه الكتب، وفي أكبر الظن أنه أخذ من كتاب يعقوب بن يزيد لما تقدم آنفاً.
المقدمة الثالثة:
بعد فرض حصول الاطمئنان بأن نظر الصدوق في الفقيه كان إلى كتاب يعقوب بن يزيد لا إلى غيره من الكتب الأخرى لرجال السند. يلاحظ بأن الصدوق قد ذكر في مشيخته إلى كل من وقع بعد أحمد بن محمد بن يحيى طريقاً صحيحاً، فنبدل صدر سند الخصال والتوحيد – بما فيه من نقطة الضعف – بهذا السند الصحيح بناء على دعوى ظهور قوله: ( ما رويته في الكتاب عن فلان ) في شموله – بالإطلاق – لما رواه مرسلاً عن الإمام من غير نسبته – في الكتاب – إلى ( فلان ).
ولكن هذا الظهور غير مسلم عند السيد الشهيد، ولهذا صرح بأنه لا يمكن الاعتماد على هذا التقريب((مباحث الأصول ج3 ق2: 257، وقد ذكر السيد الحائري في هامس الصفحة المذكورة نقاط ضعف بهذا التقريب، وانظر: بحوث في علم الأصول 5: 59 هامش رقم ( 1).)).
التقريب الثاني:
وهذا التقريب يقوم على أساس تعويض سند الحديث في كتابي الخصال والتوحيد بسند الفهرست، وهذا مما لم يلتفت إليه أحد قبل السيد الشهيد!
قال ( قدس ره ) عن التقريب الثاني ما نصه.
« التقريب الثاني:– وهو التقريب المتين الذي ينبغي الاعتماد عليه – هو أن أحمد بن محمد بن يحيى قد نقل هذا الحديث عن سعد بن عبد الله. وللشيخ الطوسي طريق صحيح إلى جميع كتب سعد بن عبد الله ورواياته، وقد مضى أن المقصود من ذلك جميع ما وصله من كتبه ورواياته، وهذا الحديث قد وصله؛ إذ الشيخ يروي كتاب الخصال والتوحيد عن الصدوق، وهذا الحديث موجود فيهما، فهذا وجه لتصحيح هذا الحديث خال عن التعقيد وفي غاية اللطافة »((مباحث الأصول ج3 ق2: 259، وقارن مع بحوث في علم الأصول 5: 59 – 60.)).
أقول:
ربما قد يرد إشكال على هذا التقريب، وذلك باحتمال أن يكون حديث الرفع بكل تسلسله السندي شفهياً، أي أنه نقل عن الإمام إلى الشيخ الصدوق – في التوحيد والخصال – شفة عن شفة. وقد مر في تفسير قول الشيخ: ( أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان ) أنه لا يشمل مطلق الروايات الشفهية التي رواها ذلك الثقة عن المشايخ لتعذر إحاطة الشيخ بها.
ويمكن رفع هذا الإشكال بنحو ما تقدم في التقريب الثاني، وهو أن الشيخ قد ذكر طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات حريز بن عبد الله((فهرست الشيخ : 63 / 239 .)) الذي روى عن المعصوم مباشرة حديث الخصال والتوحيد.
فإن كان الحديث بكتاب لحريز ونقل شفاهة إلى الصدوق فنعما هو، وإن كان من روايات حريز الشفهية التي لم تدون في كتبه، فلا شك في أنه نقل بسند معلوم ووصل إلى الصدوق ودونه في كتابيه الخصال والتوحيد. وللشيخ طريق صحيح إلى جميع كتب وروايات الشيخ الصدوق بما في ذلك روايات الخصال والتوحيد إذ عدهما ضمن كتبه((فهرست الشيخ : 156 / 295.)).
زيادة على هذا أن طريق الشيخ إلى حريز قد وقع فيه اثنان من رواة حديث الرفع، وهما: الشيخ الصدوق، وسعد بن عبد الله.
هذا مع أن للشيخ طريقا صحيحاً آخر إلى جميع كتب وروايات سعد بن عبد الله وقد وقع فيه الشيخ الصدوق((فهرست الشيخ : 76 / 306 .)).
ومن هنا يطمئن الباحث بدخول حديث الرفع في عموم قول الشيخ في طرقه الثلاثة إلى الصدوق وسعد وحريز: (( أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان، عن فلان .. بأية صورة فرض وصوله إلى الصدوق مع الحفاظ على سنده المذكور في كتابيه: الخصال والتوحيد.
ونكتفي بهذا القدر من البحث عن نظرية التعويض؛ تلك النظرية التي لم يعتن بثمارها كما ينبغي منذ ولادتها على يد السيد الشهيد والى الآن:
ولكي تجنى ثمار هذه النظرية العلمية، فلابد مما يأتي:
1 – تنقيح وجوه هذه النظرية ونقدها بأوسع مما هي عليه في هذا البحث ومصادرها.
2 – التوسع في إيجاد وجوه أخرى للتعويض لتشمل مصنفات غير المحمدين الثلاثة كأحاديث الوسائل ومستدركه وبحار الأنوار، وذلك بلحاظ طرق الإجازات عند مصنفيها إلى أرباب الكتب التي يروون عنها.
3 – دراسة الاحتمال الرابع الخاص بعبارة الشيخ في الفهرست: (أخبرنا بجميع رواياته فلان، عن فلان ) ،وأفراد البحوث المستقلة لهذا الاحتمال؛ لأهميته البالغة في هذه النظرية وذلك لسد الثغرات المحتملة فيه من قبيل دعوى: أن الشيخ لم يكن مجرد ناقل للأسانيد في أخبار التهذيبين ليخرجها عن دائرة الإرسال، بل كان يرى صحتها عموماً ما لم يحصل التعارض، بدليل أنه لم يرد شيئاً منها إلا في مقام التعارض كما يبدو من توجيهاته لها في التهذيبين.
ومع فرض حصول التضعيف في مورد من قبل الشيخ – وهو ما لم أجده إلا في مقام التعارض – فهذا يعني أن ذلك السند الضعيف المتصل لم يوصل الخبر إلى الشيخ عن الثقة الواقع فوق محل الضعف، بمعنى أن ذلك الخبر لم يثبت – عند الشيخ – صدوره عن ذلك الثقة، فكيف يعوض بسند صحصح آخر للشيخ إلى ذلك الثقة. هذا مع الأخذ بالدعوى الأنفة المصححة للاحتمال الثاني في تفسير عبارة الشيخ في الفهرست، مما يعني هذا تحكم الإشكال الخامس على الوجه الأول من النظرية:
4 – القيام بعملة استقراء تام لجميع ما يمكن أن ينطبق على وجوهها المتعددة من أسانيد الكتب الأربعة وغيرها من الكتب الروائية المهمة في تراثنا الشيعي، ويمكن توظيف الموسوعة الرجالية للسيد البروجردي لتحقيق الجزء الأعظم من عملية الاستقراء. كل هذا بعد التأكد من سلامة التطبيق وتحقق الدراسات المقترحة كما مر.
والى أن يتم ذلك تبقى نظرية السيد الشهيد بأمس الحاجة إلى تلك الدراسات النقدية على أيدي الباحثين من ذوي الاختصاص؛ لتتميم الشوط الذي بدأه السيد الشهيد، الذي لم تنحصر أدوات بحثه غير المألوفة في علمي الدراية والرجال بنظرية التعويض كما سنرى في هذا البحث.
ثانياً: إدخال حساب الاحتمال في علمي الدراية والرجال
يعود تاريخ نظرية الاحتمال – كما في منطق الاستقراء – إلى العالم الفرنسي الشهير (بسكال) (ت / 1662 م ) فهو أول من ابتدأ بحساب الاحتمالات بالطريقة الرياضية، وذلك عن طريق الرسائل المتبادلة بينه وبين (فرما)، وظل حساب الاحتمالات مقتصراً علي معالجة مشكلات الاحتمال في ألعاب الصدفة حتى مجيء (لابلاس) الذي يعد المؤسس لقواعد هذه النظرية، منبها على دور (حساب الاحتمالات ) في العلوم المختلفة دون حصره في دائرة ألعاب الصدفة ((منطق الاستقراء – الكتاب الأول – السيد عمار أبو رغيف: 155 – 156 .)) .
ثم نمت هذه النظرية تدريجياً وتطورت حسابات الاحتمال تطوراً مذهلاً، ودخلت في ميادين العلم المختلفة، واستخدمت لهذا الغرض أعقد العمليات الرياضيات العالية التي لم تألفها الدراسات الحوزوية قبل السيد الشهيد وبعده أيضاً، ولازالت مسألة حساب الاحتمالات التي يقوم عليها منهج السيد الشهيد الاستقرائي في إنشاء كيان معرفي جديد للعالم بأسره يكتنفها الغموض لما فيها من عمليات رياضية معقدة؛ أو لهذا كانت الكتابات حول ( الأسس ) قليلة ونادرة منها ما كتبه السيد عمار أبو رغيف في (منطق الاستقراء)، وما كتبه الأستاذ يحيى محمد في (الأسس المنطقية للاستقراء – بحث وتعليق ): وبعض المحاضرات المسجلة على أشرطة الكاسيت. لما كان السيد عمار أبو رغيف قد تعرض لدراسة نظرية الاحتمال وبشكل مفصل إذ تناول في الفصل الثاني مفهوم الاحتمال وحسابه ضمن أمثلة بسيطة، وأنواع الاحتمالات والتفاسير المقدمة للاحتمال، مع بديهياته وقواعده في الفصل الثالث، وغير ذلك من الأمور الأساسية المتصلة بنظرية الاحتمال، مما يعد مدخلاً مهماً جداً لفهم كتاب الأسس.
ومن هنا فلابد للباحث من الرجوع إلى (منطق الاستقراء) للوقوف – على الأقل – على تعريف الاحتمال عند السيد الشهيد ومعرفة انطباقه على أمثلة حساباته المفصلة.
وسنكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى ما أسسه السيد الشهيد في كتبه من فكر جديد غير مألوف في حقل الدراية أولاً، ثم الرجال ثانياً، وذلك من خلال منهجه الاستقرائي القائم على أساس حسابات الاحتمال، ومن أراد تفصيل ذلك المنهج فعليه (بالأسس المنطقية للاستقراء) و (منطق الاستقراء)، ونبدأ أولاً بما يتصل بالدراية، وعلى النحو الأتي:
التواتر وحساب الاحتمال
لمعرفة التواتر طريقان وهما:
القياس الاستنباطي والدليل الاستقرائي أما الأول، فقد تبناه المنطق الارسطي، وهو على نحوين – كما في علم المنطق((راجع أقسام القياس في كتاب المنطق للشيخ المظفر: 232 من الجزء الثاني.)) – وهما:
1 – القياس الاقتراني: وهو يفيد اليقين بثبوت النتائج وتكون مقدماته أكبر من نتائجه،
أي: متضمنه لها، ولهذا يعبرون عنه بالقياس التضمني.
2 – القياس الاستثنائي: وهو يفيد اليقين بثبوت النتيجة أيضاً، وتكون فيه المقدمات مساوية للنتائج، ويعبرون عنه بالقياس الاستلزامي لكون النتائج فيه مستلزمة للمقدمات، حتى كانت النتائج فيه بمثابة تحصيل حاصل، ومن هنا تولد الإشكال على المنطق الارسطي؛ لعدم وجود شيء مجهول في مقدماته حتى يعرف بالنتيجة.
ومن هنا احتيج إلى برهان من نوع آخر لا تكون فيه النتائج أصغر من المقدمات كما في القياس الاقتراني، ولا مساويه لها كما في القياس الاستثنائي، ذلك البرهان هو الاستقراء الناقص الذي يؤدي إلى ثبوت اليقين، وتكون فيه النتائج أكبر من المقدمات.
وبهذا الصدد يقول السيد الشهيد:
واليقين الموضوعي المستنتج بقضية ما، له سببان:
أحدهما: اليقين الموضوعي بقضية أخرى تتضمن((اشارة الى القياس الاقتراني أو التضمني.)) أو تستلزم((اشار الى القياس الاستثنائي أو الاستلزامي.)) تلك القضية، ويكون الاستنتاج حينئذ قائماً على أساس قياس الاقيسة المنطقية.
والآخر: اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمن ولا تستلزم عقلاً القضية المستنتجة، لكن كل واحدة منها تشكل قيمة احتمالية بدرجة ما لا ثبات تلك القضية، وبتراكم تلك القضية الاحتمالية تزداد درج احتمال تلك القضية حتى يصبح احتمال نقيضها قريباً من الصفر، وبسبب ذلك يزول لضآلته… ونسمي كل يقين موضوعي بقضية مستنتجة على أساس قياس منطقي باليقين الموضوعي الاستنباطي ، وكل يقين موضوعي بقضية مستنتجه على أساس تراكم القرائن الاحتمالية باليقين الموضوعي الاستقرائي … والطرق التي تذكر عادة لإثبات الدليل الشرعي وإحرازه من التواتر والإجماع والسيرة كلها من وسائل اليقين الموضوعي الاستقرائي »((دروس في علم الأصول / الحلقة الثالثة 1 : 195 – 196 .)).
ونجد تطبيق هذا الكلام في بحث التواتر عند السيد الشهيد، فبعد أن عرف الخبر المتواتر على نحو ما هو عليه في المنطق وهو: « اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب » أكد أن هذا التعريف يرجع بعد تمحيصه إلى مقدمتين، وهما:
صغرى: وهي اجتماع عدد كبير على الإخبار بقضية معينة.
وكبرى: وهي امتناع تواطؤ العدد الكبير على الكذب بحكم العقل الأولي، ويضم إحدى المقدمتين إلى الأخرى يستنتج على طريقة القياس صدق القضية المتواترة، ولكون الكبرى عقلية أولية غير مستمدة من التجربة، لذا كانت المتواترات في المنطق الأرسطي من القضايا الست الضرورية التي تنتهي إليها كل قضايا البرهان((بحوث في علم الأصول تقريرات السيد الهاشمي 4 : 327 – 328 والمصدر السابق 1 : 197 – 198 .))، وهي الأوليات، والمحسوسات، والتجربيات والحدسيات، والمتواترات، والفطريات((الأسس المنطقية للاستقراء : 375 ، والمنطق / المظفر : 315 – 323 .)).
وبهذا فان المنطق الأرسطي قد اعتمد في تحصيل اليقين بالقضية المتواترة على مبادئ قبلية تؤدي إلى نتائج تكتسب صفة الضرورة من تلك المبادئ، فتكون العملية قياسية يتحكم فيها العام على الخاص فيصبح الخاص مستنتجاً عن طريق العام، وسنخ هذا ذكره المنطق الارسطي في القضايا التجريبية التي استنتجها عن طريق ( مبدأ عدم تكرار الصدفة ) وجعلها أحد القضايا الست المتقدمة((الأسس المنطقية للاستقراء . بحث وتعليق / يحيى محمد 1 : 250 وبحوث في علم الأصول / تقريرات السيد الهاشمي 4 : 328 .)).
بينما يرى السيد الشهيد في كتابه الأسس إن القضية المتواترة ليست إلا قضية استقرائية تقوم على أساس المناهج الاستقرائية في الاستدلال، كالقضايا التجريبية والحدسية، فهي نتيجة للدليل الاستقرائي((الأسس المنطقية للاستقراء : 388 .))، الذي يبدأ بتجميع قيم الاحتمالات إلى أعلى درجة ممكنة ثم يحول هذه الدرجة إلى مستوى اليقين المفترض لا المستنتج أو المبرهن عليه، بمعنى أن النتيجة في الاستقراء غير مبرهن عليها، ولهذا فهي غير قابلة لأن تكون ضرورية، ولكنها – مع ذلك – يقينية بسبب اعتمادها على تراكم قيم الاحتمال المتزايدة((الأسس المنطقية للاستقراء . بحث وتعليق 1 : 250 .)).
ومن هنا نلاحظ أن السيد الشهيد لم يصادق على شيء مما مر عن المنطق الارسطي، إذ جعل وسائل الإثبات الوجداني ( اليقين ) للدليل الشرعي كالتواتر ونحوه قائمة على أساس حساب الاحتمال، مصرحاً بأن اليقين الصحيح بالقضية المتواترة هو يقين موضوعي استقرائي، وان الاعتقاد به حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصب واحد، فأخبار كل مخبر قرينة احتمالية، ومن المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب… فإذا تكرر الخبر وازداد احتمال القضية المتواترة وتناقص احتمال نقيضها حتى يصبح قريباً من الصفر جداً فيزول تلقائياً لضآلته الشديدة؛ لأن العقل البشري مصمم على عدم الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة جداً مقابل الاحتمالات الكبيرة جداً. قال السيد الشهيد: « ومن هنا نجد أن حصول اليقين بالقضية المتواترة والتجريبية يرتبط بكل ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها، فكلما كانت كل قرينة احتمالية أقوى وأوضح، كان حصول اليقين من تجمع القرائن الاحتمالية أسرع. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن مفردات التواتر إذا كانت اخبارات يبعد في كل واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصية تدعو إلى الإخبار بصورة معينة – اما لوثاقة المخبر أو لظروف خارجية – حصل اليقين بسببها بصورة أسرع … وليس ذلك إلا لأن اليقين في المتواترات والتجريبات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمع قيمتها الاحتمالية المتعددة في مصب واحد، وليس مشتقاً من قضية عقلية أولية كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق »((دروس في علم الأصول / الحلقة الثالثة 1: 202 .)).
الضابط للتواتر عند السيد الشهيد: الكثرة العددية هي جوهر التواتر، ولكن ليس بالإمكان تحديدها في رقم معين، كما حاول بعضهم تحديدها بتحديدات مضحكة على حد تعبير السيد الشهيد الذي يرى أن إفادة التواتر للعلم إنما هو حساب الاحتمالات لاكم عددي معين ، ولكن مع ذلك يمكن تحديد عوامل عديدة مؤثرة في إفادة التواتر لليقين وهي على قسمين((بحوث في علم الأصول / تقريرات السيد الهاشمي 4: 332.)).
■العوامل الموضوعية، وهي الخارجة عن المتيقين:
وتتلخص بما يأتي:
1 – نوعية الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.
2 – تباعد مسالكهم العقائدية، وتباين ظروفهم الجغرافية ونحوها، ومع تحقق ذلك يصبح تواطؤ المخبرين على الكذب أبعد بحساب الاحتمال.
3 – نوعية القضية المتواترة كأن تكون مألوفة؛ لأن الغرابة فيها تشكل عاملاً عكسياً في حصول اليقين.
4 – درجة الاطلاع على الظروف الخاصة لكل شاهد بالقدر الذي يبعد أو يقرب – بحساب الاحتمال – افتراض مصلحة شخصية في الإخبار.
5 – درجة وضوح المدرك للشهود، كأن يكون المدرك حسيا أو حدسياً ً؛ لان نسبة الخطأ إلى الحس أقل من نسبته إلى الحدس.
■ العوامل الذاتية، وهي المرتبطة بذات المتيقن:
ويمكن تلخيصها بما يأتي:
1 – اختلاف طباع الناس في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة.
2 – المتبنيات العقائدية لدى المخبرين كالاعتقاد برؤية الله تعالى يوم القيامة، أو الاعتقاد بالجبر، والتشبيه، وعدالة الصحابة ونحوها من العقائد الفاسدة، التي تجمد طاقة الفرد وتوقف ذهنه، وتشل فيه حركة حساب الاحتمال.
3 – مشاعر الإنسان العاطفية التي قد تزيد أو تنقص من تقييمه للقرائن الاحتمالية((راجع تفصيل العوامل المذكورة في دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة 1: 202 – 203، وتقريرات السيد الهاشمي 4: 332 – 334.)).
ومن هنا يعلم أن حساب الاحتمال لوحظ وبشكل مباشر في دراسة العوامل المؤثرة في حصول التواتر، هذا فضلاً عن استخدامه وبشكل مباشر أيضاً في أقسام التواتر المعروفة((المصدران السابقان 1: 205و 4: 335.)).
وهذا لم يكن مألوفاً في بحث في بحث التواتر في علم دراية الحديث عند سائر المسلمين قبل السيد الشهيد؛ لانحصار وسائل إثبات القطع اليقيني الموضوعي عندهم بوسائل إثبات المنطق الأرسطي ، بينما أعطى السيد الشهيد في منطق الاستقراء دوراً
عظيماً لحساب الاحتمال في تكوين ذلك اليقين كالتواتر وغيره من الإجماع وسيرة المتشرعة.
الأحاديث الموضوعة وحساب الاحتمال
نبه السيد الشهيد على أمر في غاية الأهمية يتصل بمعرفة الروايات الموضوعة عن طريق حساب الاحتمال، وذلك فيما لو تعلق موضوعها بشيء تتوافر الدواعي على نقله، ولم تنقل فيه إلا بضع روايات مع أهميته العظمى.
وسنلاحظ في النص الذي سننقله عن السيد الشهيد أنه وإن سلك في جانب من استدلاله مسلك علماء دراية الحديث بشأن معرفة هذا النوع من الوضع، إلا أنه في الجانب الآخر يؤكد أن حصول الاطمئنان بالوضع كان بمقتضى حساب الاحتمالات، وليس بمجرد ذلك التعليل العقلي الذي ذكروه في المقام.
وقد مثل السيد الشهيد لهذا في مسألة جواز العمل بظواهر القرآن الكريم وعدمه لأنه من أهم المسائل، مصرحاً بأنه لو كان أمر من هذا القبيل لكثر نقله بين رواة الحديث، ولشاع أمره وذاع بينهم؛ إذ ليس حاله حال وجوب السورة مثلاً الذي لو لم يصل إلينا إلا عبر ثلاث أو أربع روايات لم يكن غريباً.
ثم تساءل قائلاً:
« أفهل نفترض مثلاً أن هذا الأمر المهم – والذي هو على خلاف الطبع – لم يبين إلا مرات عديدة، وصدفة لم يكن يوجد شخص عند الإمام في تمام تلك المرات يسمع الحديث إلا شخص ضعيف أو ذو اتجاه معين، ومن غير أمثال زرارة ومحمد بن مسلم؟
أو كان هناك سامعون من أمثالهم، ولكنهم صدفة لم ينقلوا الرواية أو نقلوها، وصدفة لم تصلنا من أمثالهم؟!
فمجموعة هذه الأمور لو ضم بعضها إلى بعض حصل بمقتضى حساب الاحتمالات الاطمئنان بأن مثل هذه الروايات مجعولة على الأئمة ( عليهم السلام ). ولو فرض صدورها عنهم فلا بد من أن يكون لها محمل آخر غير ما هو الظاهر منها »((مباحث الأصول ج2 ق2: 230 – 231.)).
وأما ما يتصل بعلم الرجال من هذا المنهج، فسيكون تحت عنوان:
علم الرجال وحساب الاحتمال
صرح السيد الشهيد كما سيأتي فيما سننقله من كلامه – أنه أدخل على علم الرجال نكات مهمة، وطبق فيها حساب الاحتمالات؛ لتصحيح الروايات التي وجدت فيها اشكالات سندية.
فقد جاء في شرحه على العروة الوثقى عند تعرضه لرواية زيد الشحام في قوله لأبي عبد الله : « أخرج من المسجد حصاةً؟ فقال : فردها، أو اطرحها في المسجد ».
قال السيد الشهيد: « وللرواية طريقان:
أحدهما: طريق الصدوق، وهو ضعيف بأبي جميلة((
الرواية أرسلها الصدوق في الفقيه عن زيد الشحام 2: 165 / 713، وعنه في الوسائل 5: 232 / 6417 باب 26 من أبواب أحكام المساجد.
وطريق الصدوق إلى زيد الشحام في مشيخة الفقيه 4: 11 ضعيف كما ذكر السيد الشهيد بأبي جميلة وهو المفضل بن صالح الأسدي النخاس، ضعفه النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: 128 / 332 وابن الغضائري كما في مجمع الرجال 6: 122، وقد ذهب بعضهم إلى إصلاح حاله لرواية الاجلة عنه وبعض أصحاب الاجماع.
)).
والآخر: طريق الكليني ، وفيه : الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد((الكافي 4: 229 / 4 باختلاف يسير، وعنه في تهذيب الأحكام 5: 449 / 1568.)) فإن أمكن تطبيق إحدى النكات المهمة، التي أدخلناها على علم الرجال وطبقنا فيها حساب الاحتمالات لتصحيح الرواية، فهو. وإلا فالأمر مشكل »((بحوث في شرح العروة 4: 295.)).
أقول:
طريق الشيخ إلى كتاب زيد الشحام في الفهرست((فهرست الشيخ: 71 / 288.)) وقع فيه الصدوق، لكنه انتهى – بنفس طريق الصدوق – إلى أبي جميلة، عنه.
ولو كان طريق الفهرست – ما بعد الصدوق – صحيحاً، لامكن تصحيح سند الصدوق إلى ذلك الكتاب بناء على نظرية التعويض.
على أن من يروي كتاب زيد الشحام هم جماعة بشهادة النجاشي، لكنه اقتصر – كعادته – على ذكر طريق واحد إلى كتاب زيد، وهو ما كان من رواية صفوان بن يحيى الثقة الجليل، عنه((رجال النجاشي: 175 / 462.)).
وإنما ذكرت هذا، ليتضح ان ما ادعاه علماء هذا الفن من تواتر الأصول والمصنفات إلى زمن المحمدين الثلاثة مما لا ينبغي الشك فيه، ويؤيده شهادة الصدوق في ديباجة الفقيه بشهرتها في عصره، مع تشابك طرقة والشيخ والنجاشي إلى كثير من الكتب بأعيانها، ولكن ذكر أحدهم سند بعينه إلى واحد منها هو الذي ولد – على بعض المباني العلمية – مثل هذه الأشكالات ، وقد وجدت تصريح جملة من علماء الدراية بان الصدوق لو لم يذكر مشيخة في آخر الفقيه يبين فيها طرقه إلى من أخرج عنهم في كتابه، لكانت شهادته في ديباجته كافية للأخذ بما رواه في كلام طويل ليس هنا محل إيراده، ومناقشته.
وعلى أية حال، فإن إحدى النكات المهمة التي ادخلها السيد الشهيد على علم الرجال؛ قد طبق فيها حساب الاحتمالات على سند رواية زيد الشحام المرسلة في الكافي بلفظ ( عن غير واحد )، وعلى ضوء ما يرتضيه الشهيد الصدر من نظرياته في علم الرجال، كما جاء في هامش بحوثه في شرح العروة، وقبل ايراده بتمامه – لما فيه من أهمية في المقام – لا بأس بالإشارة إلى ما ورد في مقدمة الجزء الرابع من تلك البحوث.
فقد وردت كلمة مختصرة في مقدمة الجزء الرابع، كتبت في حياة الإمام الشهيد وبقلم تلميذه الشيخ زهير الحسون، جاء فيها – بعد بيان عمله في تحقيق هذا الجزء –: « … وفصلت ما أشير إليه من الأبحاث السندية على ضوء النظريات الرجالية التي يرتضيها السيد الأستاذ .. »((مقدمة الجزء الرابع من بحوث في شرح العروة.)).
وبناء عليه، فإن ما سنذكره من التطبيق المذكور نقلاً عن هامش الشرح، وإن لم يكن بقلم الشهيد، لكنه من فكره. وإليك نصه:
« هناك بيانان لتصحيح السند:
الأول: أن نجري حساب الاحتمالات في مشايخ الحسن بن محمد بن سماعة، وقد ظهر بالاستقراء أن نسبة الذين لم تثبت وثاقتهم إلى مجموع مشايخه ( 9 / 26 ). فإذا استظهرنا أن التعبير بـ ( غير واحد ) ظاهر عرفا في الجماعة أقلها ثلاثة، كان مقدار احتمال كون أحدهم – على الأقل – ثقة، هو: ( 96% )، فيتم سندها إن أوجب هذا الظن القوي الاطمئنان.
الثاني: ألا نأخذ مطلق مشايخ الحسن بن محمد بن سماعة، بل نأخذ خصوص مشايخه الذين هم في الوقت نفسه تلاميذ أبان بن عثمان باعتبار أن السند هكذا: ( الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان )، فيتم تحديدهم بلحاظ الراوي والمروي عنه، وعلى هذا لا نحتاج إلى حساب الاحتمالات؛ لأن كون أحدهم ثقة ( 100% ) باعتبار أن من لم تثبت وثاقتهم منهم اثنان فقط، وهما: أحمد بن عديس والحسن بن عديس ، والبقية – وهم تسعة – ثقات.
ولما كان التعبير بـ ( غير واحد ) ظاهراً في الجماعة واقلها ثلاثة، كان أحدهم – على الأقل – ثقة جزماً.
ولكن يشكل ذلك بوجود احتمال أن يكون للحسن شيخ آخر غير من وصلت ألينا روايته عنهم، ولعله غير ثقة، فلا بد من ضم حساب الاحتمال لتضعيف ذلك. وهذا الاحتمال لا بد من أخذه بعين الاعتبار في البيان الأول أيضاً، وطريق التخلص أن نثبت بحساب الاحتمال أن نسبة الثقات إلى غيرهم في المشايخ الواصلين محفوظة في غيرهم أيضاً، فيكون احتمال وثاقة الشخص الآخر ما لا يقل عن ( 17 / 26 ).
وبهذا صحح سيدنا الأستاذ مرسلة يونس الطويلة، تطبيقاً لما أسسه من قواعد حساب الاحتمال في علم الرجال »((بحوث في شرح العروة 4: 295 – 296 ( الهامش ).))، انتهى.
هذا، وقد أشار السيد الشهيد إلى نظير ما أشار إليه هنا وذلك في أثناء تقيمه لرواية الحسن بن محمد بن سماعة في أحكام الأولاد((انظر الرواية في الوسائل 21: 465 / 27596 باب 76 من أبواب أحكام الاولاد نقلها عن الكافي 6: 43 / 4، ومثلها في التهذيب 8: 109 / 373.))، قال: « فهي تامة من حيث الدلالة، وأما من حيث السند، فتتميمها موقوف على دعوى أن من ينقل عنه الحسن بن محمد
بن سماعه، أعني، قوله: ( عن غير واحد ) يكون فيهم ثقة، وذلك بتطبيق الفائدة العامة الموقوفة على استعراض تاريخ هذا الراوي الجليل، وملاحظة نسبة الثقات في مشايخه »((بحوث في شرح العروة 4: 355.)).
وله إشارات أخرى متعددة – غير هذه وتلك – إلى قواعد حساب الاحتمال التي ادخلها في علم الدراية والرجال((انظر: بحوث في شرح العروة 3: 419 و424، ومباحث الأصول / تقريرات السيد الحائري ج2 ق2: 497 و 506 و 750 وهناك اشارات لذلك أيضاً في كتب تلامذة السيد الشهيد كما في كتاب الخمس 1: 189، والقضاء في الفقه الإسلامي: 531 و 781.))
ثالثاً: الجديد عند السيد الشهيد في بحث التعارض
لا شك في أن بحث التعراض عند السيد الشهيد دراسة متينة وافية لموضوع التعارض ابتداء من تعريفه وبيان أقسامه بدقة، ومناقشة آراء المدارس الأصولية السابقة عليه في هذا الخصوص، وكل هذا قد فصل في تقريرات السيدين الجليلين الحائري والهاشمي لابحاث استاذهما السيد الشهيد، وكذلك في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من حلقات السيد الشهيد في ( دروس في علم الأصول )، ولا شك في أن فيها من الجديد أو المطور ما يدركه دارسو حلقات السيد الشهيد ممن درسوا أيضاً بحث التعارض في المناهج الأصولية السابقة.
ولكن الملفت للنظر في أدوات بحث السيد الشهيد غير المألوفة، التي لها اتصال مباشر بعلم دراية الحديث الشريف، وتبحث في علم الأصول عادة هو ما نبه عليه في شرح العروة الوثقى بخصوص الكيفية الجديدة، التي اتبعها السيد الشهيد في معالجة الروايات المتعارضة.
فقد سلك الشهيد الصدر مسلكاً جديداً لم يسبقه أحد إليه إزاء الروايات المتعارضة، فهو حينما يجد مجموعة من الروايات الدالة على حكم، وروايات أخرى دالة على نفيه، لا يحكم بتساقط المجموعتين على طريقة تساقط الروايتين مع فرض التكافؤ في تلك الروايات المتعارضة من جميع الجهات؛ بحيث تصل النوبة إلى مرحلة التساقط كما هو معلوم في علمي الأصول ودراية الحديث الشريف. بل اكتشف طريقة جديدة بما يؤهلها – في اعتقادي – لان تكون ميزاناً جديداً كلياً في علاج الروايات المتعارضة، وان كان ذلك الميزان مستفاداً من تطبيق السابقين في جانب من هذا التعارض كما سيأتي بيانه.
وخلاصة تلك الطريقة – على ما ذكر السيد الشهيد – هي: ان تنسق « رتب الروايات في داخل كل مجموعة، فقد تشتمل إحدى المجموعتين على رتبتين من الظهور، بينما تشتمل المجموعة الأخرى على روايات كلها من الرتبة الأقوى من الظهور التي تصلح للقرينية على روايات الرتبة الثانية من الظهور في المجموعة الأولى. ففي هذه
الحالة تقع روايات المجموعة الأخرى طرفاً للمعارضة مع روايات الرتبة الأقوى من الظهور في المجموعة الأولى.
وأما روايات الرتبة الثانية من الظهور في المجموعة الأولى، فلا يمكن ان تقع طرفاً للمعارضة مع روايات المجموعة الأخرى؛ لأن روايات المجموعة الأخرى صالحة – بحسب الفرض – للقرينة عليها، وذو القرينة يستحيل ان يعارض القرينة، فتتعين الرتبة الثانية من المجموعة الثانية للمرجعية »((بحوث في شرح العروة 1: 390.)).
وهذا الميزان الكلي لعلاج الروايات المتعارضة – كما يقول السيد الشهيد – له آثار كبيرة في الفقه، وقد طبق هذا الميزان فعلا في شرح العروة ، وذلك في تعارض روايات انفعال الماء القليل عند ملاقاته للنجس مع عدم انفعاله في روايات اخرى. وهذا الميزان الجديد مستفاد – كما صرح به السيد الشهيد – من الفكرة الأساسية التي التزم بها الفقهاء في حالة تعارض الخاصين برجوعهم إلى العام الفوقاني لاستحالة معارضته إلى الخاص المنافي له؛ لصلاحية الخاص للقرينة عليه. فلا بد إذن من افتراض حصول التعارض بين الخاصين محضا في الرتبة الأولى، ثم الرجوع إلى العام الفوقاني بعد تساقط الخاصين بدون أن يعارضه شيء.
ولكن الفقهاء لم يعتادو على تطبيق هذه الفكرة إلا في فرض تعارض الخاصين مع وجود العام الموافق لأحدهما((بحوث في شرح العروة 1: 391.)).
ومن هنا يعلم ان السيد الشهيد لم يسبق إلى معرفة التفسير الفني لتلك الفكرة واستثمارها في علاج تعارض الأخبار.
هذا، وقد مثل السيد الشهيد لذلك بالمثال التالي:
لو ورد – مثلاً –: أن الخمر طاهر
وورد: أن الخمر نجس
وورد أيضاً: الأمر بغسل الثوب الذي أصابه الخمر
ففي هذه الصورة قال السيد الشهيد: « فلا يقع التعارض في رتبة واحدة بين الأول والأخيرين، بل بين الأولين خاصة، ويكون الثالث مرجعا بعد تساقطهما »((بحوث في شرح العروة 1: 391.)).
وهنا لا بأس بالاشارة السريعة في ختام هذا البحث إلى بيان أثر المعارض في تحصيل اليقين من الاخبار عند السيد الشهيد، لما فيه من التفاته رائعة أخرج فيها المعارض عن دائرة اخبار الاحاد المعارضة للسنة القطعية، وأعطاها بعداً آخر جديراً بالملاحظة.
قال السيد الشهيد:
« ان وجود المعارض من العوامل المنيعة عن حصول اليقين، بسبب تكاثر الاخبار، فعشرون رواية مثلاً ليس لها معارض قد تفيد اليقين على أساس التواتر الاجمالي، وليس كذلك عشرون رواية مبتلاة بمعارض يتكون من خمس روايات مثلاً.
فالمعارض وان لم يكن في نفسه قطعي السند، ولكنه يصبح من العوامل المانعة تكوينا عن قطعية السند في الطرف الآخر، ومعه لا يدخل في نطاق اخبار الأحاد المعارضة للسنة القطعية »((بحوث في شرح العروة 2: 66.)).