الأخلاق والدين د.محمد عبداللاوي

[lwptoc]

المدخل

فلسفة الأخلاق فراغ في الفكر الإسلامي

لم يحلل الفكر الاسلامي المعاصر المشكلة الاخلاقية تحليلا فلسفياً إلا نادراً، ويعدُّ هذا الموقف تناقضاً صريحاً مع الأهمية التي يوليها الفكر الإسلامي إلى دور القيم الأخلاقية في إعادة بناء الأمة.

لا شك في أنّ دراسة العلاقة بين المبادئ الدينية والحياة العصرية، قد دفعت ببعض المفكّريين المسلمين إلى طرح مشكلة القيم الأخلاقية، لكن مازال الفكر الإسلامي لم يُنظر بعدُ فلسفةً أخلاقيةً، لا توجد هذه الأخيرة إلا بصورة ضمنية في الغالب، فالخطوط العريضة لفلسفة أخلاقية إسلامية مازالت في طور الإطار العام، ويرجع الفضل إلى بعض المفكّرين المسلمين المعاصرين (في مجال فلسفة الأخلاق) الذين تجاوزوا الطرح الفلسفي الضمني للمشكلة الأخلاقية، ووصلوا إلى الطرح الفلسفي المباشر والصريح.

كيف ملأ الشهيد الصدر هذا الفراغ؟

فقد طرح الشهيد السيد محمد باقر الصدر المشكلة الأخلاقية بصورة فلسفية مباشرة من موقع منهجية خاصة لا تحدث قطيعة بين القضايا. فالمشكلة الأخلاقية طُرحت في كتابات الشهيد بالموازاة مع المشكلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية والفقهية. فالشهيد طرح أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة طرحاً جديداً انتهى إلى الانفتاح على إشكالية جديدة في مجال القيم الأخلاقية، فهو كان واعياً وعي مجتهد، بأن تعقّد أحوال العصر تقتضي تجاوز حجز الفكر الإسلامي في دائرة الوعظ والإرشاد في دائرة الرؤية المبسطة لمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأحوال العصر تقتضي ـ في نظر الشهيد ـ تجاوز النظرة التجزيئية للمبادئ والقيم الإسلامية،  للوصول إلى مقاربة فلسفية للمشكلة الأخلاقية.

فالشهيد لم يكتف في كتاباته بعرض مجموعة من الفضائل، التي يجب التمسك بها، ومجموعة من الرذائل، التي يجب تركها والابتعاد عنها، بل اعتمد الصدر على التحليل المفاهيمي للقيم،  لذلك اتسمت كتاباته في المجال الاجتماعي والأخلاقي بالطابع الفلسفي لا الطابع الوعظي الإرشادي.

لاشك أنه لا توجد كتابات خاصة بالأخلاق عند الشهيد على غرار ما كتبه فلاسفة الأخلاق في هذا الميدان. لكن كتابات الشهيد تعرضت كلّها ـ تقريباً ـ للمشكلة الأخلاقية. وهذا راجع إلى منهج الشهيد الذي يتميز بالطرح الشمولي للقضايا. فهناك تداخل في الرؤية الإسلامية للمشكلة الاجتماعية بين الجوانب الروحية والسياسية والأخلاقية والمعرفية والحضارية والميتافيزيقية في كتاباته.

منهجان في فلسفة الأخلاق

يمكن أن نميز بصورة عامة بين اتجاهين في فلسفة الاخلاق في الفكر الإسلامي المعاصر، اتجاه استلهم الفكر الغربي وأحياناً قلّده. واتجاه آخر حاول الارتباط بفلسفة الاخلاق كما تجلت في الفكر الإسلامي قديماً، كما حاول بعض أصحاب هذا الاتجاه صياغة رؤية أخلاقية انطلاقاً من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وهذا ما حاوله الشهيد على غرار محاولة محمد عبد الله دراز في أطروحته دستور الأخلاق في القرآن((محمد عبد دراز: دستور الأخلاق في القرآن ـ ترجمة عبد الصبور شاهين ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1973م.)). مع العلم بأن هناك بعض أوجه الاختلاف بين الصدر ومحمد عبد الله دراز كما سنرى.

منهج الصدر

منهج الصدر في طرح المسألة الأخلاقية يختلف عن أصحاب الاتجاه الأول كالأخلاق الاجتماعية عند كلّ من منصور فهمي وعبد العزيز عزت وقباري إسماعيل، والأخلاق الوجودية عند كلّ من عبد الرحمن بدوي وعادل العوا وزكريا إبراهيم. ذلك أن أصحاب هذين الاتجاهين قد طرحوا المشكلة الأخلاقية دون محاولة طرح مشكلة العلاقة بين الفكر الأخلاقي والواقع (واقع العالم الإسلامي)، أي طرحوا المشكلة الأخلاقية بقطع النظر عن المشكلة الابستمولوجية. فالدراسة الابستمولوجية هي التي كشفت عن عوامل تَشَكُل الأفكار والقيم والمذاهب الفلسفية والأخلاقية. فأصحاب هذين الاتجاهين (الاجتماعي والوجودي) تبنوا مذاهب أخلاقية جاهزة أي من حيث هي نتاج إنساني عام، أو بعبارة أدق من حيث هي مذاهب أخلاقية كونية، في حين أن الابستمولوجيا تميّز في هذه المذاهب الأخلاقية بين جوانبها النسبية المرتبطة بظروف الغرب وبين جوانبها الكونية، لذلك لم يبحث هؤلاء المفكرون عن مدى ملائمة هذه المذاهب لظروف العالم الإسلامي واهتمامات شعوبه والقيم الروحية التي تتمسك بها هذه الشعوب.

الانطلاق من النص والواقع معاً

تتميز الجوانب الأخلاقية في كتابات الصدر بانطلاقها من القرآن الكريم والواقع في نفس الوقت، فالصدر يطرح رؤيته الأخلاقية كمجتهد فيلسوف، ففكره في المجال الأخلاقي هو عملية تركيبية للفقه وعلم الكلام والفلسفة، هذا ما تتميز به فلسفة الأخلاق عند الصدر إذا ما تمت مقارنتها مع كتابات المفكرين الآخرين من أمثال محمد عبد الله دراز وأحمد عبد الرحمن إبراهيم((أحمد عبد الرحمن ابراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام ـ دار الوفاء ـ بيروت 1988م.)) وغيرهما، أما ما تتميز به فلسفة الصدر الأخلاقية عن الاتجاه الاجتماعي والوجودي، فيكمن في ربط الصدر للفلسفة الاجتماعية والأخلاقية بظروف الشعوب الإسلامية واهتماماتها من موقع قيمومة النص، بل إن انطلاق الصدر من النص يتضمن في نفس الوقت، الانطلاق من الواقع.

فالنسق الفلسفي لا يكفي نفسه بنفسه في نظر الصدر، بل يجب ربطه بالظروف الاجتماعية والنفسية والتأريخية، انطلاقاً من هذه الفكرة انتقد الصدر المذاهب الاجتماعية والاخلاقية الغربية، الصدر لم يرفض هذه المذاهب رفضاً غير مشروط، بل انتقدها نقداً علمياً معتمداً على التحليل الابستمولوجي، الذي يكشف عن عوامل تشكيل المفاهيم الفلسفية والعلمية.

إن مبدأ الاسلام دين ودولة ودين ودنيا الذي ينطلق منه الفكر الإسلامي المعاصر جعل الاخلاق جزءاً من كل. فالاخلاق ذات علاقة بالدين، بل مصدرها ديني في نظر الفكر الإسلامي المعاصر،  لذلك فهي عنصر من مجموعة، أي هي ذات علاقة بمعنى الكون والانسان والمجتمع.

وإذا كان الفكر الاسلامي يرى بأن الأخلاق هي مجموعة من القيم المطلقة والثابتة، بينما يرى الفكر الغربي، والفكر المحدث في العالم الإسلامي، بأن القيم الاخلاقية نسبية ومرتبطة بأحوال تأريخية و اجتماعية، فما هي الأبعاد الفلسفية لموقف الفكر الإسلامي على العموم وموقف الصدر على الخصوص بالنسبة لهذا المشكل؟ هل انتهى الصدر إلى صياغة فكر أخلاقي مجرّد، ومرتكز على ما ينبغي أن يكون، أي صياغة فكر يتطلع إلى مجتمع مثالي بعيد المنال، أم هو فكر أخلاقي ينطلق من الواقع لتحقيق التحولات الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية؟ ألا يمكن القول بأن ارتباط القيم بالتعالي أو الغيب يحرم الإنسان من كلّ مبادرة في المجال الأخلاقي؟

لقد قدم الصدر من خلال كلّ كتاباته الإطار النظري والمنهجي للمذهب الأخلاقي الإسلامي، فهو قد طرح مشكلة مصدر القيم الأخلاقية، وعلاقة القيم الأخلاقية بالتحولات الاجتماعية والتأريخية، كما طرح مسألة إلزامية القيم والواجبات الأخلاقية، ومسألة النية والمسؤولية، والتطلع إلى المثل الأعلى، فالصدر قد أثار من جديد مشكلة القيم الأخلاقية من خلال كتاباته حول الاقتصاد والمشكلة الاجتماعية والسياسية، ومشكلة السنن التأريخية، وبحوثه حول العبادات، والميتافزيقا، وهذا في مرحلة تأريخية (مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات) كان الفكر الغربي، والفكر الإسلامي التابع له ـ إلا نادراً ـ يولي الاهتمام الكلي للمشكلة الاقتصادية إما انطلاقاً من الفلسفة الماركسية التي تعتبر أن الاخلاق انعكاس للبنية التحتية المتمثلة في الاقتصاد (قوى الانتاج ووسائل الانتاج)، أو انطلاقاً من الرأسمالية التي تتمحور حول البعد المادي، فالاطار العام للفكر المعاصر في مرحلة الستينيات والسبعنيات هو أن حل المشكلة الاقتصادية هو الحل الحاسم لمشاكل الانسان، وفي نفس هذه الفترة، وكرد فعل على هذا الموقف، ركز بعض المفكريين في العالم الإسلامي على الاخلاق دون ربطها بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية في حياة الإنسان، وهذا عكس فلسفة الصدر التي ابتعدت عن هذه النزعة الأخلاقية لما ربطت بين الأخلاق والحياة الاقتصادية والاجتماعية من منظور الطرح الكلي لا الجزئي للقضايا.

لذلك يمكن القول: بأن الاطار العام، على الصعيد المنهجي والمفاهيمي للمذهب الأخلاقي الإسلامي، موجود في كتابات الصدر. فالصدر لم يكتف بعرض لمبادئ عامة أو أفكار مجردة في صياغته للبديل الحضاري الإسلامي، بل قدم مشروعاً اجتماعياً حدّد من خلال الرؤية الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي، فهو قد تجاوز مستوى الشعارات ومستوى الوعظ والإرشاد، الذي تتميز به النزعة الأخلاقية، التي سيطرت على الفكر الإسلامي المعاصر. فالصدر لم يعتمد في تنظيره للأخلاق، على الانسان كمفهوم ميتافيزيقي مجرّد، بل عملية التنظير عنده انطلقت من الإنسان ككائن تأريخي يتأثر بالظروف الاجتماعية والتأريخية ويؤثر فيها، كما أنّ فلسفة الصدر الأخلاقية تختلف عن المذاهب الأخلاقية القديمة، التي طرحت المشكلة الأخلاقية على مستوى الحياة الفردية، فالصدر تجاوز هذا الطرح الناقص عندما عالج المشكلة الأخلاقية في إطار علاقة الفرد بالمجتمع، أي من منظور اجتماعي وتأريخي للإنسان كوحدة مادية وروحية، لذلك كانت القيم الأخلاقية في نظر الصدر ملازمه للوعي التأريخي الضروري لكل تغيير اجتماعي وحضاري.

فلسفة الأخلاق والدين

لم ينطلق الفكر الإسلامي المعاصر في مجال التنظير من الفراغ، فالفكر الإسلامي كما يتمثل في الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف قد حاول طرح مشكلة القيم الأخلاقية من منظور التحليل العقلي، فالفقهاء قد طرحوا مسألة المسؤولية وعلاقة الأَخلاقِية بالنية وبالعقل، كما أن علماء الكلام قد حاولوا البحث عن أسس الخير والشر (الحسن والقبح)، غير أن هذه المحاولات قد بقيت محدودة، ولم تطرح في إطار كلي وشمولي إلا ابتداء من السيد جمال الدين الأفغاني، كما أنها وصلت إلى المستوى المفاهيمي، وفي سياق المذهب الاجتماعي والاقتصادي على يد الصدر، فالفكر الإسلامي كان يلجأ إلى القرآن الكريم،  لتتويج مواقفه وتدعيمها في المجال الأخلاقي، فالنظرة إلى القرآن الكريم كانت نظرة جزئية وانتقائية، بينما نلاحظ عند الصدر موقفاً جديداً ومختلفاً عن موقف الفكر الإسلامي القديم.

منهج اكتشاف المذهب الاخلاقي

فالصدر اعتمد على منهجية الطرح الكلي والاشكالي في صياغته للمذهب الاجتماعي والاخلاقي انطلاقاً من القرآن الكريم((السيد محمد باقر الصدر: التفسير الموضوعي ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت الطبعة الثانية ـ 1981م. يعتبر هذا الكتاب طرحاً جديداً للتفسير فهو قد تجاوز كل صور التفسير ومناهجه.))، فالصدر لم يختزل المسألة في الإطار الفقهي والكلامي، ولكنه لم ينف في معالجته للمشكلة الاجتماعية والأخلاقية، خلفيتها وأساسها الفقهي والعقائدي. فالصدر حاول الوصول إلى المفاهيم والقيم المتضمنة في الأحكام الشرعية((التفسير الموضوعي وكذلك اقتصادنا (المقدمة)، دار الفكر ـ بيروت ـ الطبعة السادسة 1974 م.))، فالمذهب الاجتماعي وما يتضمنه من جوانب أخلاقية هو مذهب تمت صياغته عند الصدر من منظور معرفي يختلف عن كلّ المذاهب في مجال المعرفة، فالمعرفة هنا ليست نتيجة لعلاقة بين الذات والموضوع سواءً بإعطاء الأولوية للذات (العقل) أو للموضوع (التجربة)، كما أنها ليست نتيجة لصياغة مباشرة من القرآن الكريم، فالرؤية الأخلاقية الإسلامية ليست نتيجة للجوء مباشر إلى القرآن الكريم، ولعل هذه نقطة اختلاف بين الصدر وكل المفكرين المسلمين المعاصرين تقريباً.

لا شك أن الدكتور محمد عبد الله دراز ((محمد عبد الله دراز لم يحدد منهجاً للتنظير في المجال الاجتماعي والأخلاقي. مع العلم بأنّه من المفكرين المسلمين القلائل الذين اعتمدوا في تحليلهم للمشكلة الأخلاقية على المفاهيم، لذلك فقد أحدث محمد عبد الله دراز نقلة نوعية في مجال فلسفة الأخلاق في الاسلام.)) استخدم منهج اللجوء المباشر إلى القرآن الكريم في كتابه دستور الأخلاق في القرآن مع أنه يقترب  في بعض جوانب هذا الكتاب من منهج التفسير الموضوعي، ولكن دون صياغة مباشرة لمنهج التفسير الموضوعي. فهو لم يحدد منهجاً للتساؤل على غرار ما سيفعله الصدر، فالتنظير بالنسبة للصدر لا يتم باللجوء المباشر إلى القرآن الكريم، بل يتم باللجوء غير المباشر. فالمفاهيم لا تتم صياغتها انطلاقاً من القرآن الكريم إلا عن طريق الأسئلة، التي يطرحها عليه الانسان من خلال القضايا المطروحة على الأمة، يقول الصدر: ” فإنه (أي المفسر التوحيدي والموضوعي) لا يبدأ

عمله من النص بل من واقع الحياة يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة… ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الانساني من حلول وما يطرحه التطبيق التأريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الافكار… ويبدأ مع النص القرآني حواراً، سؤال و جواب، المفسر يسأل والقرآن يجيب…”((التفسير الموضوعي: 19 ـ 20.))، فالصدر يلتقي هنا، ومن الزاوية الابستمولوجية، مع فيلسوف العلوم غاستون باشلار (Gaoton  Bachelrd) في تحديده للمعرفة العلمية حيث يقول: ” إن كلّ معرفة علمية هي جواب عن سؤال، فإذا لم يكن هناك سؤال فلا وجود لمعرفة علمية “.

فالصدر حاول أن يستخرج من القرآن الكريم القيم الأخلاقية بالاعتماد على منهج التفسير الموضوعي، وهذا ما جعل الصدر ينتقد التفسير التجزيئي الذي لم يصل إلى مستوى المفاهيم، التي تُمَكِنُهُ من صياغة المذهب الاجتماعي والأخلاقي، فهو قد صاغ المذهب الاجتماعي عن طريق منهج التفسير الموضوعي، وتعرض للمشكلة الأخلاقية بالاعتماد على المفاهيم أي نظر إلى الأخلاق نظرة فلسفية لا وعظية إرشادية، يقول الصدر في سياق تنظيره للمذهب الاقتصادي في الإسلام وما يتضمنه من مفاهيم وقيم أخلاقية: ” وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان… وهما الواقعية، والأخلاقية…”.

فهو واقعي في غايته،  لأنّه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات، التي تنسجم مع واقع الإنسان بطبيعتها ونوازعها… وهو ـ إلى هذا ـ واقعي في طريقته أيضاً. فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً مادياً، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف إلى التنفيذ، فلا يقنع بإيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير…

والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي، وهي الصفة الاخلاقية تعني ـ من ناحية الغاية ـ أن الاسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الانسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها… وإنما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم ضرورية التحقيق من ناحية خلقية “.((السيد محمد باقر الصدر ـ اقتصادنا ـ 266 ـ 267.))

التنظير اعتماداً  على القرآن

والحقيقة أن مسألة التنظير بالاعتماد على القرآن الكريم من أخطر المسائل إذ عليها يتوقف مصير الفكر الإسلامي ومصير الأمة الاسلامية. وقد أحدث الفكر الاسلامي ابتداءً من السيد جمال الدين الأفغاني نقلة نوعية مقارنة بالفكر الاسلامي القديم، فقد بدأ الفكر الاسلامي يتحرر من النظرة التجزيئية ويتطلع إلى النظرة الكلية وقد وصل الفكر الاسلامي عند الصدر إلى أعلى مستوى في مجال منهجية التنظير وإذا كان الصدر لم يُنظّر المذهب الاخلاقي في الإسلام فهو قد نَظَّرَ المذهب الاقتصادي والاجتماعي ونَظَّر للمشكلة الأخلاقية تنظيراً مفاهيمياً وفلسفياً، و ألقى الضوء على القيم الأخلاقية المرتبطة بالمفاهيم السياسية كالقيم المنظمة لعلاقة الحكام بالمحكومين ولعلاقة الدولة بالأمة، ولعلاقة الأمة الاسلامية بالأمم الأخرى. إنّ أكثر الكتابات في المجال الأخلاقي في الفكر الاسلامي ركزت على الوعظ والارشاد، كما أن بعض الكتابات

الاخرى قد عالجت المشكلة الأخلاقية من منظور الفلسفة اليونانية على غرار الفلاسفة المسلمين قديماً. أو من منظور الفلسفة الغربية على غرار المحدثين في العالم الاسلامي، وفي كلتا الحالتين لم يلجأ أصحاب هذه المواقف إلى القرآن الكريم إلا من خلال مفاهيم الفلسفة اليونانية أو الفلسفة الغربية، وعند محاولتهم التحرر من الفكر الاجنبي لم يعالجوا المشكلة الاخلاقية إلا من خلال نظرة جزئية إلى القرآن.((هذه الظاهرة تكاد تكون عامة، لكن بنسب ودرجات مختلفة، فالفلاسفة المسلمون المتأثرون بالفلسفة اليونانية قد أخضعوا الشريعة إلى متطلبات الفلسفة اليونانية دون أي توقف نقدي لتمييز الثقافة اليونانية بين الطبقات والشعوب، كما أنّ المحدثين في العالم الاسلامي تبنوا اتجاهات الفلسفة الغربية في مجال الأخلاق كالاتجاه الماركسي والبرجماتي والوجودي والبرجسوني، أما باقي كتابات الفكر الاسلامي المعاصر فيغلب عليها الطابع الوعظي الارشادي.)) وعلى العكس من ذلك فإن الحكم الشرعي يتضمن في فلسفة الصدر جوانب فقهية وأخلاقية و روحية ومفاهيمية. الحكم الشرعي، من هذا المنظور، ليس مجرد أمر أو نهي أو إطار تنظيمي،  لذلك لا وجود في فلسفة الصدر لقطيعة بين الفقه (خاصة أصول الفقه) وعلم الكلام والأخلاق والتصوف والطرح الفلسفي لهذه القضايا. فالاحكام الشرعية تستبطن من طرف الفرد عن اقتناع داخلي يصل إلى مستوى التقوى،  لذلك يرى الصدر أن خلفية المذهب الاجتماعي في الاسلام تتكون من العناصر التالية:

أولا:

العقيدة… التي تحدّد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

ثانياً:

المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الاسلام في تفسير الأشياء، على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثاً:

العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثَّها وتنميتها إلى تلك المفاهيم،  لأن المفهوم ـ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين ـ يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الاسلامية وليدة المفاهيم الاسلامية، والمفاهيم الاسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الاسلامية الاساسية، ولنأخذ لذلك مثلا من التقوى، ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الاسلامي عن التقوى القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الانسان، وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إلى التقوى والمتقين، وهي عاطفة الاجلال والاحترام “.((اقتصادنا: 271 ـ 272.))

فالطابع التنظيمي للفقه يتم في أفق علاقة الواقع بعلة الحكم الشرعي وحكمته، وهي حكمة لا تنفد، وقد فتح الصدر مجالا جديداً لتنظير المذهب الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي انطلاقاً من المفاهيم المتضمنة في العقيدة وفي الأحكام الشرعية، يقول الشهيد في سياق النص السابق: ” ونعني بالمفهوم كلّ رأي للإسلام أو تصور إسلامي يفسر واقعاً كونياً أو اجتماعياً أو تشريعياً. فالعقيدة بصلة الكون بالله تعالى وارتباطه به تعبير عن مفهوم معين للإسلام عن الكون (وَِللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَي مُّحِيطاً)((النساء: 126.)). والعقيدة بأن المجتمع البشري مرّ بمرحلة فطرية غريزية قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل والتأمل تعبير عن مفهوم إسلامي عن المجتمع (كَانَ النَّاسُ اُمَّةً

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبيينَ مُبَشِرِينَ وَمُنذِرِينَ)((البقرة: 213.))، والعقيدة بأن الملكية ليست حقاً ذاتياً، وإنما هي عملية استخلاف تعكس التصور الإسلامي الخاص لتشريع معين وهو الملكية للمال، فإنّ المال في المفهوم الإسلامي كلّه مال الله، والله يستخلف الأفراد أحياناً للقيام بشأن المال، ويعبر عن هذا الاستخلاف تشريعاً بالملكية.

فالمفاهيم إذن وجهات نظر وتصورات إسلامية في تفسير الكون وظواهره، أو المجتمع وعلاقاته، أو أي حكم من الأحكام المشترعة وهي لذلك لا تشتمل على أحكام بصورة مباشرة. ولكنّ قسماً منها بالرغم من ذلك ينفعنا في محاولتنا للتعرف على المذهب الاقتصادي في الإسلام…”.((اقتصادنا: 359.))

فالمذهب ـ من حيث هو مذهب ـ ليس مجرّد انعكاس للواقع بل هو مشروع،  لذلك يتمتع المذهب الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ببعد مستقبلي في كلّ الفلسفات، حتى الفلسفات التي تدعي أنها علمية كالماركسية. وهذا البعد المستقبلي يتمحور ـ في الرؤية الاسلامية ـ حول القيم الاخلاقية، بل يشكل هو نفسه قيمة روحية وأخلاقية.

إن القيم الأخلاقية على العموم، والقيم الأخلاقية المتضمنة في العقيدة، وفي الاحكام الشرعية على وجه الخصوص، لا تستمد قيمتها ومعقوليتها إلا بارتباطها بالله تعالى، أي تستمد قيمتها من إرادة الله، فلا يكفي في نظر الصدر، أن يتقبل الإنسان الاحكام الشرعية وما تتضمنه من قيم أخلاقية، لايكفي أن يتقبلها لذاتها، مع أن هذه الاحكام وهذه القيم لها معنى في ذاتها، بل يجب تقبلها كأحكام وكقيم تعبر عن إرادة الله،  لذلك تتمتع القيم بمثالية يتطلع الانسان إليها بصورة مستمرة، فعمل الخير مثلا لا نهاية له، فالانسان في سعيه للعمل الصالح لا يقف عند حد معين، فعمل الخير لن ينتهي أبداً،  لأن العمل الصالح كقيمة تتمتع بمثالية يتطلع إليها الإنسان ولا يمكن أن يصل إليها، فقوة القيم الأخلاقية تكمن في مثاليتها، وما ينتج عن هذه المثالية من قوة إلزامية محركة للإنسان وللتأريخ، فالانسان في نظر الصدر هو ” مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان، وحفنة التراب تجره إلى الأرض… وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله وإلى حيث أخلاق الله… هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي و بحسب تركيبه الداخلي.

دور دين التوحيد إذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل، الطويل، تعبيده، إزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمياً وكيفياً، ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية، التي تريد أن تُجمد الحركة من ناحية، وأن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى…”.((التفسير الموضوعي: 188 ـ 190.))

دور النيّة

إن أخلاقية الفعل من هذا المنظور، لا تكمن في الفعل ذاته فحسب، بل تكمن في نية الفاعل بالدرجة الأولى، فالرؤية الأخلاقية الإسلامية تتجاوز فلسفة كانط (Kant) الأخلاقية،  لأنّها تطلب من المؤمنين أن يتجاوزوا الأمر الأخلاقي (الواجب) للوصول إلى كلام الله، الذي تستمد منه القيم الأخلاقية معناها

وقوة إلزاميتها، فالله سبحانه وتعالى لا يريد من المؤمنين أن ينفذوا الأحكام الشرعية من حيث هي أحكام، بل يريد من المؤمنين أن يطيعوا أوامره ضمن علاقة شخصية تعبدية بين المؤمن وخالقه، فالأخلاقية تستمد مصدرها من علاقة الانسان الشخصية والذاتية مع الله، وهي علاقة يسعى فيها الإنسان إلى التقرب من الله أكثر فأكثر ضمن حركة لا نهاية لها في نظر الصدر.

فالأمر الإلهي يكفي نفسه بنفسه من حيث إلهيته،  لذلك فهو يتضمن قيماً أخلاقية تتجه إلى كائن يتمتع بالقدرة على التقييم، وبالقدرة على الكشف عن القيم الاخلاقية المتضمنة في الأوامر والنواهي الإلهية (والقدرة على اكتشاف المفاهيم كذلك للقيام بعملية التنظير لكلّ جوانب الحياة الاجتماعية في نظر الصدر). والقيم الأخلاقية من هذا المنظور هي قيم إلهية،  لذلك يقدسها الانسان ويشعر بقوة إلزاميتها. والقيم الأخلاقية في هذا السياق مبنية على الفاعل الأخلاقي وعلى التقوى،  لذلك فالأخلاق ليست أخلاق الضغط على غرار النظرية الأخلاقية لدى علماء الاجتماع، بل الأخلاق في الرؤية الإسلامية هي أخلاق التطلع.((عالج الصدر مشكلة القيم الأخلاقية في جوانبها الكونية والنسبية في معالجته للعبادات، اُنظر: نظام العبادات في الاسلام ـ منظمة الاعلام الاسلامي ـ طهران 1404 خاصة من 11 إلى 41.))

لا أخلاق بدون الله

إن المذاهب الفلسفية التي لا تؤسس الأخلاقية على وجود الله هي مذاهب أخلاقية تربط القيم الأخلاقية بتعالي مزيف.((عالج الصدر هذه المشكلة في سائر كتبه وخاصة في التفسير الموضوعي، فالتعالي الحقيقي هو المثل الأعلى الحقيقي سبحانه وتعالى أما التعالي المزيف فهو المثل الأعلى المزيف أو المثل العليا المزيفة)) فنفي وجود الله من طرف هذه المذاهب لا يتركز على أدلة عقلية، بل هو مجرد تمرد وجودي فبعض المذاهب كالمذهب الوجودي مثلا يرى بأن الانسان حر والقول بوجود الله يضع حدوداً لحرية الانسان، انطلاقاً من هذه الخلفية يستنتج هذا المذهب بأن الله غير موجود.يرى الصدر بأن هذه المذاهب، التي لا تربط القيم الأخلاقية بوجود الله لا تتمتع بالتماسك المنطقي، بل لا تتمتع بأيه درجة من العقلانية. فهي مجرد ردود فعل انفعالية تجاه بعض الجوانب المأساوية للواقع.((السيد محمد باقر الصدر ـ نظام العبادات في الاسلام ـ خاصة الفصل الأولى.)) فالانسان من منظور الفلسفة الغربية خاصة المذاهب الفلسفية ذات الاتجاه المادي ” كائن مسلوب الاختيار، مرغم على السير في خط معين لا يتعداه… وقد أسهمت مذاهب الاجتماع والاقتصاد والمدارس النفسية في تغذية هذه النظرة إلى الانسان. ولكن إذا جردنا الإنسان من حريته الداخلية، ونفينا أن يكون شيئاً أكثر من هذه الكتلة المنظورة من المادة، فماذا أبقينا من الإنسان؟ وإذا نفينا الحرية فقد نفينا المسؤولية، وحين ترتفع المسؤولية ترتفع الأخلاق… وقد تمثل رد الفعل على هذه الحتمية في وجودية سارتر (Sartre) الملحدة، فالإنسان حسب النظرية الوجودية حرية مطلقة ودفعة لا يقيدها قيد ولا يكبحها ضابط، فلا إله ولا دين ولا أخلاق ثابتة، وهكذا يتمزق الانسان الأوروبي بين الدعوات المتضادة دون أن يهتدي إلى السبيل

القويم “.((السيد محمد باقر الصدر ـ رسالتنا ـ نشر الدار الاسلامية ـ بيروت 1980م ـ 91.))

في الرؤية الاسلامية هناك غليان عاطفي يجب النظر إليه ضمن النظرة الشمولية التي يتميز بها الاسلام، لذلك فالغليان العاطفي لا ينفي العقل،  لأن هذا الغليان ليس غلياناً عفوياً بل هو مؤطر بالاحكام الشرعية، والعبادة تعبر أحسن تعبير عن تداخل الجوانب العاطفية بالجوانب العقلية والروحية والاجتماعية.

العباده في الرؤية الصدرية ليست روحانية مريحة. لا شك أن العبادة تتجاوز العقل لارتباطها بالغيب، ولكن تجاوزها للعقل لا ينفي العقل كلية، بل يضعه في موقعه النسبي في سياق علاقته بالغيب.((نظام العبادات في الإسلام: الفصل الأول.))

الحضيض الأخلاقي في الفكر الغربي

لقد أحدث الفكر الغربي قطيعة بين الدين والحضارة منذ عصر النهضة، وقد تمت هذه القطيعة لجعل الانسان أكثر التزاماً في عملية تحويل الطبيعة وتحويل المجتمع، لقد ظهرت النزعة الانسانية كمذهب يستجيب لهذه القطيعة وينظرها، فالنزعة الانسانية تعني، عند أصحابها، إرجاع كلّ شيء إلى الانسان، فالإنسان هو مصدر للمعرفة ومصدر للقيم، ولا توجد مبادئ متعالية على الانسان. لقد ركز الفكر الغربي على الانسان كمقياس لكلّ الأشياء إلى درجة أن الفكر الغربي بدأ ينظر إلى الانسان انطلاقاً من جوانبه الدنيا، أي ينظر إليه من خلال جانبه المادي الذي يسعى إلى إشباع رغباته، فالفكر الغربي يفسر، في نظر الصدر، ما هو أعلى بما هو أدنى ” وحتى المسيحية… لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الانسان الأوروبي بل بدلا عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي.

وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الانسان في فصائل الحيوان… أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الانساني كله عل أساس القوى المنتجة… ليست هذه المحاولات إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض، وإن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الاُسطوري، وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الاُوروبي أن ينشئ قيماً للمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة “.((السيد محمد باقر الصدر ـ الاسلام يقود الحياة ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1983 ـ 204 ـ 205.))

مصدران للفلسفة الأخلاقية عند الصدر

لقد صاغ الصدر فلسفته الأخلاقية وفقاً لمفهومين رئيسيين استنبطهما من التوحيد: استخلاف الانسان في الأرض ووحدة أصل الانسانية ووحدة مصيرها.((نفس المصدر: 134 ـ 135.)) إنّ صفات الله وأسماءَه هي التي تجعل الانسان يؤمن بأن الخلق خير، وأن الله خلق الكون من أجل الإنسان، فقيمة الانسان في فلسفة الصدر تتجاوز كلّ اتجاهات النزعة الانسانية (Humaniame) وكلّ مذاهب الفلسفة الغربية، وهذا ما يتجلى من خلال

تحليل الصدر لمفهوم الخلافة ولعلاقة الانسان بالمثل الأعلى، يقول الشهيد: ” والنمو الحقيقي في مفهوم الاسلام أن يحقق الانسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عز وجل الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون، فصفات الله وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين، والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة، فقد جاء في الحديث «تشبهوا بأخلاق الله» ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حد لها، وكان الانسان الخليفة كائناً محدوداً، فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله “.((نفس المصدر: 141.))

غير أنّ الانسان لا يعرف بأنه خليفة لله في الأرض، ولا يستوعب كلّ أبعاد الخلافة والطرق المجسدة لها إلا عن طريق الرسل عليهم السلام، أي عن طريق كلام الله، فقيمتا الخلافة والتسخير لا يصل إليهما الانسان عن طريق العقل وحده، بل عن طريق كلام الله، فالإنسان يعرف ـ عن طريق كلام الله ـ أنّ عالم الأشياء وعالم الانسان يتجهان نحو الخير.

إنّ نظرة الانسان إلى الكون على أنه خير ويتجه نحو الخير هي نظرة لها انعكاساتها في المجال الاخلاقي حيث تصبح القيم الاخلاقية ذات مصدر وذات عقلانية صارمة تستمدهما من معنى الوجود.

اطروحة جديدة في فلسفة الأخلاق

يتميز الفكر الإسلامي المعاصر بردود الفعل تجاه مذاهب الفلسفة الغربية، فقد تمسك بعض المفكرين في العالم الإسلامي بالوجودية مقابل الجماعية، كما أن مفكرين آخرين تمسكوا بالجماعية مقابل النزعة الفردية. إنّ فلسفة الصدر على العموم، وفلسفته الأخلاقية على الخصوص، لا تتحدد في هذا الإطار، إنها منذ البداية فلسفة طرحت طرحاً جديداً خارج الرؤية الفلسفية الغربية(2) فالصدر نظّر فلسفته وصاغها كمجتهد فيلسوف،  ولذلك جاءت رؤيته الأخلاقية كنتيجة للعلاقة بين العقل والدين والمجتمع. ويرى الصدر بأنّ فصل السياسة عن الدين وفصل المجتمع عن الغيب انتهى إلى زوال كلّ غاية متعالية أمام حركة الانسان عبر التأريخ. فاستبدل التعالي بالمجتمع أو بالتأريخ أو بالدولة، وصارت القيم الأخلاقية تابعة لهذه المظاهر الاخيرة من حيث هي مظاهر تكفي نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى شيء آخر يبررها. فتحولت القيم الأخلاقية من حكم وجوب إلى حكم وجود وواقع، يقول الصدر في هذا السياق: ” وحينما يكون المثل الأعلى منتزعاً عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشؤونها يصبح حالة تكرارية، ويصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله إلى المستقبل، وبدلا عن التطلع إلى المستقبل يكون في الحقيقة تجميداً

2- التفسير الموضوعي: 99 ـ 100 ـ حيث ينتقد الفلسفة الغربية ـ خاصة فلسفة هيجل (Hegel) حول إشكالية العلاقة بين الفرد والمجتمع، يمكن الكشف عن الطرح الفلسفي الجديد لدى الشهيد بالرجوع إلى اقتصادنا (المقدمة) والتفسير الموضوعي، فلسفتنا، والأسس المنطقية للاستقراء ـ هذا من جهة ـ ومن جهة اخرى فقد أشار محمد عبد الله دراز إلى هذه التيارات الفلسفية في مجال الأخلاق في كتاباته دستور الأخلاق في القرآن. وقد حلل محمد عبد الله دراز هذه التيارات تحليلا نقدياً.

لهذا الواقع وتحويلا لهذا الواقع من حالة نسبية ومن أمر محدود إلى أمر مطلق… “((التفسير الموضوعي: 148.))

فالمجتمع أو التأريخ أو الدولة هي مثل عليا مزيفة لا تكفي نفسها بنفسها، ولا يمكن أن تكون مصدراً للأخلاقية ولتغيير وضعية الانسان.((نفس المصدر: 165 ـ 166.))

التوحيد مصدر القيم

ويرى الصدر في هذا السياق أن الاسلام قد أتى بنظرة جديدة للاُلوهية تتمثل في التوحيد، الذي لا يتحدد معناه بمجرد القول بوجود الإله الواحد فحسب، بل لا يتحدد معنى التوحيد إلا بجعله أساساً لكل جوانب الحياة الانسانية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية. فالتوحيد ليس فكرة مجردة، والفلسفة كذلك أثبتت وجود الله، فالفرق بين النظرة الدينية (الاسلامية) والنظرة الفلسفية إلى الله هو أن النظرة الدينية لا تنظر إلى الله كمفهوم أو كإله بعيد عن الإنسان، ولا علاقة له بالكون على غرار الإله الصانع في الفلسفة الأرسطية. فالله في الرؤية الاسلامية هو الله الخالق الحي القيوم المدبر ذو الأسماء الحسنى. فالتوحيد، ومن هذا المنظور له انعكاس على الأخلاق، فالأخلاق في الرؤية الاسلامية هي امتداد للرؤية الاسلامية إلى الله. فالله في الاسلام هو مبدأ للمعقولية (معنى الوجود) ومبدأ للفعل (معنى الوجود أساس لتغيير العالم) لذلك فالتوحيد هو أساس القيم، فهو الذي يعطيها المعنى والقوة.

فتوحيد الله يتضمن حتماً النظر إلى القوى سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو حضارية على أنها قوى نسبية أمام قوة الله المطلقة، فالإيمان بوحدانية الله ليس مجرد عاطفة، بل هو انتماء لخط رسالي يسعى إلى تغيير وضعية الإنسان الاجتماعية والحضارية، فمصير الأمة مصير رسالي، يقول الصدر: ” هذا المثل الأعلى الذي تتوحد فيه كلّ الطموحات وكلّ الغايات، هذا المثل الأعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له، وتعلمنا على أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق، وإنما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى”.((التفسير الموضوعي: 193 انظر كذلك: الاسلام يقود الحياة: 9 ـ 10.))

فالله ليس مجرد مُسَلَّمَة كما يرى كانط (Kant) وليس مطلقاً محايثاً للتأريخ كما يرى هيجل (Hegel)، بل الله حي متعالي، والانسان يرتبط بالله من موقع التخلف بصفاته وأسمائه ليعبر عن عبوديته، فالتعبير عن العبودية إيمان وعمل،  لذلك تستمد الأخلاق معناها وقوتها من علاقة الإيمان بالعمل، فالإيمان ليس تأكيداً على حقيقة مجردة في نظر الصدر، بل هو قبول لعلاقة ذاتية وشخصية مع الله تؤدي إلى التزام يغير وجود الانسان، ومعنى هذا أن القيم الأخلاقية لا معنى لها ولا قيمة لها إلا بفضل علاقة الانسان التعبدية بالله. الاخلاق في الرؤية الاسلامية ليست أخلاقاً مجردة بل هي أخلاق تتجسد في الواقع بصورة تدريجية ومستمرة، هي أخلاق تأخذ صورة مشروع مستقبلي،  لأن علاقة الانسان بالله هي علاقة اكتشاف مستمر

وحركة مستمرة بفضل تخلق الإنسان بصفات الله.((مفهوم التخلق بصفات الله وأخلاقه سبحانه وتعالى، مفهوم ذو أهمية كبرى في فلسفة الصدر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وقد عالجه الصدر في سائر كتبه ـ خاصة خلافة الانسان وشهادة الانبياء، التفسير الموضوعي، نظام العبادات في الاسلام. فهذا المفهوم ينسف فلسفة كلّ من هيجل (Hegel) وماركس (Marx) من الأساس، كما يُعتبر نقداً جذرياً لكل فلسفات نهاية التأريخ  على العموم.))

إضافة إلى ما سبق فإن الأخلاق في الرؤية الاسلامية هي أخلاق ممارسة، هي أخلاق عملية بفضل وجود النموذج أو ” الأسوة الحسنة ” المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الأئمة عليهم السلام. فالممارسة في الميدان الاخلاقي تتم حسب نموذجية سلوك المعصوم عليه السلام((

ألقى الصدر الضوء على البعد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي للإمامة من موقع الثوابت والمتغيرات أي من موقع وحدة الهدف ومتطلبات حركة الأئمة عبر التأريخ ـ انظر: أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ـ دار التعارف ـ بيروت ـ 1388هـ.

كما حلل مفهوم العصمة تحليلا فلسفياً واجتماعياً وتاريخياً في إطار متطلبات الشريعة ـ انظر: المرسل، الرسول، الرسالة ـ مكتبة أهل البيت ـ باريس 1983م. وكذلك بحث حول الولاية ـ مكتبة أهل البيت ـ باريس 1983م.)).

أخلاق جهاد لا أخلاق استرخاء

وهكذا فالاخلاق كما تتجلى في فلسفة الصدر ليست أخلاقاً تؤدي إلى روحانية مريحة، بل هي أخلاق مقاومة وجهاد بما تتضمنه من نقد لكلّ ما يحط من قيمة الوجود الإنساني كعفوية الشهوات والغرائز، وإطلاق العنان للعقل دون ربطه بالقيم، وكسوء تسيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية، فهي أخلاق تدفع إلى التحرر من كل القوى المستبدة الداخلية (في ذات الانسان) والخارجية.((اقتصادنا: 280 ـ 281 ـ  285 ـ 289.))

فالأخلاق، ومن هذا المنظور، تحدّد القوى السلبية، التي تسلب الإنسان قيمته، وتحدّد في نفس الوقت الحرية بمفهومها الصحيح  أي الحرية المرتبطة بالقيم، والتي تُمكِن الانسان من الوصول إلى أن يحيى حياة إنسانية، ومهما كان الأمر فالاخلاق، كما تنظر إليها كلّ المذاهب الفلسفية، هي وسيلة أو دليل لتحسين وضعية الانسان وتقدمه، غير أن فكرة قابلية الانسان للتقدم وتحسين وضعيته هي، وبالنسبة للصدر، فكرة ذات حدّين، فهي، من جهة تعبر عن ديناميكية التجاوز للسمو بالانسان إلى مستوى من الحياة يكون أكثر إنسانية، لكن هذه الفكرة تُشكل من جهة أُخرى خطراً، وذلك عندما تفصل الاخلاق عن الدين أو عن أساسها الديني وتحافظ على تطلعها إلى تحسين وضعية الإنسان في أفق مستقبل يتم تحديده من طرف العقل وحده. أي من طرف العقل كقوة تكفي بنفسها في نظر أصحاب هذا الاتجاه.

عواقب فصل حركة التاريخ عن الغيب

انتقد الصدر كلّ مذاهب هذا الاتجاه ورأى بأن فصل حركة التأريخ عن الغيب يدفع بالانسان إلى البحث عن غاية مثالية لحياته في حدود الحياة الأرضية أي يبحث عن المثالية في أفق محدود ضيق. وقد انتهت هذه الرؤية إلى الاخلاق إلى نتيجتين أو رؤيتين:

الرؤية الأولى:

أدت إلى استنزاف طاقة الامكانيات التغييرية للانسان. فانتهت إلى تبرير الأمر الواقع بكلّ ما يحتوي من جوانب لا أخلاقية.

أما الرؤية الثانية:

كما تتجلى في الماركسية فقد حاولت تحديد عوامل وأسباب أزمة الانسان واستلابه، فصاغت مشروعاً اجتماعياً عقلانياً لتحرير الانسان، وهو مشروع تعتبره الماركسية كمثل أعلى أي كنظرية علمية لا يمكن دحضها أو تجاوزها. فانتهت هذه الرؤية إلى أنظمة سياسية دكتاتورية طلبت من الافراد التضحية بمصالحهم باسم مستقبل تسوده العدالة، إلا أن الدكتاتورية طال أمدها فسحقت إنسانية الانسان دون أن توصله إلى الغاية المنشودة.((التفسير الموضوعي: 208 ـ 220.))

يقول الصدر: ” لكلّ مجتمع مثل أعلى، ولكل مثل أعلى مسار ومسيرة… والمجتمعات والاُمم التي تعيش هذا المثل الأعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة… تعيش حالة تكرارية، يعني أن حركة التأريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية “((التفسير الموضوعي: 155 ـ 159.))

لذلك يرى الصدر أن ربط القيم الأخلاقية بالله سبحانه وتعالى يؤهل الانسان لتجاوز الصعوبات والعوائق، ويجعله لا يثق في وعود الايدلوجيات سواء كانت هذه الوعود سياسية أو اقتصادية. إن الرسالة الاسلامية متجسدة في التأريخ، أي المثالية تجسدت في التأريخ،  لذلك فالمسلمون لا يقتنعون بالواقع الراهن، فهم يعرفون بفضل الايمان بأن كل وضعية مؤقته وقابلة للتجاوز وللتغيير.

عواقب الارتباط بالغيب

يرى الصدر بأن الايمان بالله وجاذبية النبوة والامامة تجعلان ذهنية إنسان العالم الاسلامي ذهنية أخلاقية باستمرار، أي ذهنية تتطلع إلى ما ينبغي أن يكون بصورة مستمرة ودائمة، ويمكن القول ” بأن اتجاه إنسان العالم الاسلامي إلى السماء لا يعني بمدلوله الأصيل استسلام الانسان للقدر واتكاله على الظروف، والفرص، وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك اوستروى، بل إن هذا الاتجاه لدى الانسان المسلم يعبر في الحقيقة عن مبدإ خلافة الانسان في الأرض. فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله، ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الانسان وطاقاته، التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف،  لأنّ الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يُستخلف عليه، ولا مسؤولية بدون حرية وشعور للاختيار والتمكن من التحكم في الظروف… ولهذا قلنا أن إلباس الأرض إطار السماء يفجر في الانسان المسلم طاقاته و يثير إمكاناته، بينما قطع الأرض عن السماء يعطل في الخلافة معناها، ويجمد نظر الانسان المسلم إلى الأرض في صيغة سلبية، فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الاسلامي إلى السماء، بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذا الانسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة “.((اقتصادنا: (ص ـ ع).))

المثالية والواقعية

فمن هذا المنظور تفقد المثالية معناها الأول، أي المثالية كهدف بعيد عن الواقع، والمثالية كهدف مجرد لا يمكن تحقيقه، فالتطلع في الرؤية الاسلامية هو تطلع مستمر، فالانسان ليس كاملا، ولن يصل إلى الكمال من حيث هو هدف نهائي لا يمكن تجاوزه سواء على الصعيد الفردي أو على الصعيد الاجتماعي والحضاري على غرار المدن الفاضلة لدى كلّ من أفلاطون والفارابي، فكمال الانسان يكمن في تطلعه المستمر نحو المطلق، وهكذا فالمثالية هنا ترتبط بمبدإ الواقع، والواقع بدوره، يخضع لمبدإالمثالية، فالاخلاق الاسلامية كما نَظَّرها الصدر لا تُخضِع الانسان لأمر الواقع، كما أنّها لا تدفع به نحو مثالية مجردة، فالواقعية والمثالية جانبان متداخلان في الاخلاق الاسلامية، فهناك اهتمام بالواقع وبالمثال في نفس الوقت. فهذه الرؤية تختلف عن الفلسفة الغربية المعاصرة التي نفت الميتافزيقياباسم الواقع. أي ركزت على الواقع المختزل عن كلّ الابعاد المثالية والروحية، ويمكن القول بأن الجوانب المثالية في الفلسفة الغربية ليست لها مبررات معرفية ترتكز عليها، ونشير في هذا السياق إلى أن الصدر لم ينتقد فلسفة هيجل وماركس حول نقطة التعالي وعلاقته بالواقع فحسب، بل نسف الفلسفة الهيجلية والماركسية من الأساس انطلاقاً من مفهوم التخلق بصفات الله. فهيجل يربط الله بالتأريخ (المطلق في التأريخ) إلى درجة أن التأريخ يتحول إلى إله، في حين إن التأريخ في فلسفة الصدر هو مجرد نتيجة لعلاقة الانسان التعبدية بالله أو بمثل عليا مزيفة، يقول الصدر مفسراً للآية:

(يَا أيُّها الإِنسانُ إنَّكَ كَادحٌ إِلى رَبّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ)((الانشقاق: 6.)). يقول: ” الآية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا إلى سبيل الله، توبوا إلى الله بل تقول (يَا أيُّها الإِنسانُ إنَّكَ كَادحٌ إِلى رَبّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ) لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة، وهي أن كلّ تقدم للإنسان في مسيرته التأريخية الطويلة الأمد، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى… حينما تتقدم الانسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً يكون التقدم تقدماً مسؤولا يكون عبادةً بحسب لُغة الفقه، ولوناً من العبادة، يكون لهم امتداداً على الخط الطويل وانسجاماً مع الوضع العريض للكون “.((التفسير الموضوعي: 180 ـ 181.))

فالفلسفة الهيجلية دمجت المثالي في الواقعي فانتهت إلى تبرير الأمر الواقع،  لأنّ موقفها هذا انتهى إلى نفي القيم الأخلاقية من حيث هي تطلع مستمر لتغيير الواقع وصنع التأريخ. لا شك أن الفلسفة الهيجلية لم تنف الاخلاق بصورة مباشرة وصريحة ولكنها انتهت إلى أخلاق تعبر عن الواقع بدلا من أن تعبر عما يجب أن يكون عليه الواقع، وهذا كله راجع إلى الطرح الناقص للتعالي في فلسفة هيجل.

أما الفلسفة الماركسية فقد انتهت ـ هي الاخرى ـ إلى نفس النتائج، فهي قد وصلت إلى صياغة معنى للتأريخ انطلاقاً من رد فعل على حركة تأريخية منحرفة تمت في حقل نظري معين وخاص هو الحقل النظري الغربي. فالعدالة الاجتماعية التي ستسود في المجتمع الشيوعي ليست قيمة أخلاقية، في نظر ماركس، بل هي نتيجة حتمية للصيرورة التأريخية، فعلى الرغم من أن الماركسية تؤكد بأنها وصلت إلى الكشف عن معنى التأريخ عن طريق الدراسة العلمية، فإن معنى التأريخ يتخذ طابعاً مثالياً، وفي كلتا الحالتين لا مبرر،

في الفلسفة الماركسية، لا للنظرة العلمية إلى التأريخ ولا للنظرة المثالية له، فالنظرة العلمية تنطلق في الفلسفة الماركسية من تعميم غير مشروع، حيث إنّ ماركس انطلق من دراسته لتأريخ الغرب،  ليعمم النتائج التي توصل إليها على أنها قوانين كونية لحركة الشعوب عبر التأريخ، هذا بالنسبة للجانب العلمي المطروح من طرف الفلسفة الماركسية. أما النظرة المثالية فلا مبرر لها كذلك، فهي مثالية مزيفة،  لأن الماركسية تنفي التعالي بمفهومه الميتافيزيقي، فغياب التعالي يجعل الفكر سجيناً للواقع الراهن، بل للحظة الراهنة، وهكذا فالماركسية اتخذت موقعاً خارج التفكير العلمي وخارج الرؤية الاخلاقية إلى الانسان في نفس الوقت.((اقتصادنا: 267 ـ 268.))

العلاقة بين الأخلاق والدين

وهكذا يتبين مما سبق أن الصدر عالج مشكلة العلاقة بين الاخلاق والدين بصورة شرعية ومنهجية، أي عالجها على أساس أن الاسلام دين ودنيا، أو دين واُمة، فالأخلاق الاسلامية ليست في نظر الصدر أخلاقاً دينية بالمفهوم العام والمبتذل، أي الاخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والاُخروي من جهة، والمرتبطة من جهة اُخرى بالله مباشرة وبصورة شاملة لا تسمح بأي تدخل للإنسان، فالاخلاق الاسلامية تختلف عن هذه النظرة حيث إنّ الانسان يتدخل في المجال الاخلاقي وعلى الصعيد الفردي الذاتي عن طريق ضميره الخلقي، كما يتدخل على الصعيد الجماعي كأُمة شهيدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. مع العلم بأن الاُمة في فلسفة الصدر ليست مجتمعاً بالمنظور الذي طرحه علم الاجتماع في الفكر الغربي، فهي ليست كتلة يذوب فيها الأفراد على غرار المطلق الهيجلي أو ” العملاق الهيجلي “((التفسير الموضوعي: 99.)) حسب تعبير الصدر: بل هي اُمةٌ، أشخاصٌ مسؤولون، مع العلم بأن المسؤولية ليست مسؤولية عفوية بل هي إضافة إلى عفويتها، وتجذرها في ضمير كلّ فرد، هي إلى جانب ذلكم مسؤولية مؤطرة في مؤسسات أي مسؤولية دولة.((إن الفرد والمجتمع والدولة هي كلّها مفاهيم مترابطة في نظر الصدر. في بحثه حول منابع القدرة في الدولة الاسلامية عالج الصدر هذه المفاهيم في الإطار النظري والشرعي للخلافة والشهادة ـ انظر: الإسلام يقول الحياة ابتداءً من 175 ـ 207.))

كما أن الأخلاق الاسلامية ليست دينية ـ في نظر الصدر ـ على اعتبار أنها مرتبطة بالأوامر والنواهي الإلهية التي لا تدّخّل للإنسان فيها. فالانسان خليفة لله في الأرض بفضل جوانبه العقلية والروحية التي عن طريقها يستوعب القيم الاخلاقية، لا من حيث هي قيم ملزمة فحسب، بل من حيث هي قيم تستمد إلزاميتها من الإنسان كذلك عن طريق تقواه و انفتاحه على المطلق ” الاسلام الذي جاء لتحرير الانسان من عبودية الاصنام على أساس التوحيد، لا يمكن أن يأذن للانسان بالتنازل عن أساس حريته، والانغماس في عبوديات الأرض وأصنامها، كما أنّ الإسلام لا يعتبر عقيدة التوحيد مسألة سلوك شخصي خاص كما ترى الحضارات الغربية. بل هي القاعدة الأساسية لكيانه الحضاري كله… وإنما يهدف القرآن الكريم حين ينفي الإكراه في الدين إلى أن الرشد قد تبين من الغي، والحق تميز عن الضلال، فلا حاجة إلى

إكراه ما دام المنار واضحاً والحجة قائمة… بل لا يمكن الاكراه على الدين،  لأنّ الدين ليس كلمات جامدة ترددها الشفاه، ولا طقوساً تقليدية تؤديها العضلات، وإنما هو عقيدة وكيان ومنهج في الفكر “.((مقالة للشهيد محمد باقر الصدر ـ مجلة الاضواء ـ العدد 2 / 1404 هـ ـ ذكر النص عبد الرحمن العلوي في مقاله: الحرية في الاسلام ـ مجلة الفكر الجديد ـ العدد 11ـ12ـ 1996م ـ 99 تصدر عن دار الاسلام ـ لندن.))

فالشريعة وما تتضمنه من قيم أخلاقية، ليست مفروضة على الانسان فرضاً، بل يتقبلها الانسان عن وعي، ويستوعبها بصورة تحول الأوامر الشرعية والأخلاقية إلى إلزام ينبع من ذات الانسان. فالاخلاق في المنظور الاسلامي تقتضي الايمان أولا، فالايمان هو البنية الأساسية للشريعة وللأخلاق.

بين الصدر ودراز

ونلاحظ في هذا السياق بعض الاختلاف في طرح مشكلة علاقة الأخلاق بالدين بين الصدر ومحمد عبد الله دراز، خاصة فيما يتعلق بالأبعاد الأخلاقية والحضارية لعلاقة الانسان بالله، فمحمد عبد الله دراز يصنف أو يميز ـ من زواية التحليل ـ بين ما هو ديني وما هو أخلاقي من حيث إنهما ” مفهومان مستقلان لا علاقة ضرورية بينهما… الدين متجه نحو الوجود المطلق والاخلاق نحو الصيرورة…”((محمد عبد الله دراز ـ دستور الأخلاق في القرآن ـ 536.

M.A. Deraz da Doctrine Morale da Coran – Bibliotheqie P – 536.)) مع العلم بأن محمد عبد الله دراز يرى هذا الرأي على صعيد التحليل، أي من الزاوية المنهجية،  لأنّه يربط الأخلاق بالدين من ناحية مصدر القيم، ومن ناحية استيعاب الضمير الخلقي للقيم الأخلاقية، لكن التحليل الفلسفي لعلاقة الانسان بالقيم الاخلاقية من خلال علاقة الانسان بالله هو تحليل متسرع إلى حد ما عند محمد عبد الله دراز وعند سائر المفكرين المسلمين المعاصرين مع العلم بأن محمد عبد الله دراز ساهم بدرجة كبيرة في إثراء الفكر الاسلامي المعاصر في المجال الاخلاقي عن طريق صياغة مواضيع جديدة انطلاقاً من القرآن الكريم، كما يرجع إليه الفضل في الطرح الفلسفي الاسلامي للمشكلة الأخلاقية بالاعتماد على التحليل النقدي للمذاهب الاخلاقية الغربية. فهو قد حلل تحليلا فلسفياً مفاهيم مثل الواجب والأمر والإلزام، والحكم الشرعي والحلال والحرام والاجتهاد في سياق دلالتها الاخلاقية داخل إشكالية العلاقة بين الإسلام والفكر الغربي من موقع إطلاقية القرآن الكريم ونسبية الفكر الغربي.

غير أنّ التحليل الفلسفي الذي استوعب الجوانب المختلفة لعلاقة الانسان بالقيم الأخلاقية من خلال علاقة الانسان بالله، إن هذا التحليل نجده عند الصدر فعلاقة الانسان بالله هي علاقة تطلع على المستوى التعبدي والاخلاقي، وهي علاقة منتجة للحضارة على الصعيد الاجتماعي. فالتخلق بصفات الله تجاوز ـ عند الصدر ـ كلا من الفلسفة الاسلامية القديمة وبعض اتجاهات التصوف. فالفلسفة الاسلامية قد انتهت إلى التركيز على البعد التأملي المجرّد لعلاقة الانسان بالله وفي حين انتهى التصوف لدى بعض ممثليه وخاصة في عصر الانحطاط إلى روحانية غير ملتزمة تختلف عن الروحانية بمفهومها الاسلامي الذي طرحه الصدر. أي الروحانية الملتزمة بقضايا الأمة والانسانية. فالفناء يعني الانفتاح أكثر فأكثر على حركة التأريخ وعلى التقدم الحضاري انطلاقاً من روحانية جهادية تحدث توازناً بين الحياة المادية والحياة الروحية، يقول الصدر محللا علاقة الانسان بالله على المستوى السياسي ” إن دولة القرآن العظيمة لا تستنفد أهدافها،  لأنّ

كلمات الله لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرك على اتجاه المطلق لا يتوقف “.

وهذا هو سر الطاقة الهائلة في هذه الدولة وقدرتها على التطور والابداع المستمر في مسيرة الانسان نحو الله(قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَاداً لِكَلمَاتِ رَبي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنَفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنَا بِمِثِلهِ مَدَداً)((الكهف: 109.))((الاسلام يقود الحياة ـ 15 [De la Sarlonne]))، ويقول محللا علاقة الإنسان بالله على المستوى الفردي والاجتماعي والحضاري: ” والنمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقق الانسان الخليفة على الأرض في ذاته، تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عز وجل الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون… ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة… وكان الانسان الخليفة كائناً محدوداً، فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله “.((نفس المصدر ـ 141 ـ ملاحظة: تجدر الاشارة إلى أنّ هذا النص قد ذُكر في قائمة المراجع رقم 18 في هذا المقال، كما أن نصوصاً أخرى ستُذكر عدّة مرات هنا، وهذاراجع إلى غنى تحليل الصدر للقضايا وتعدّد جوانبه وأبعاده المعرفية والاجتماعية والأخلاقية.))

موقع الأخلاق في  فلسفة الصدر

فالاخلاق تحتل مركزاً رئيسياً في فلسفة الصدر، وعملية التغيير التي كان الصدر يؤكد عليها هي ـ في حد ذاتها ـ قيمة أخلاقية وواجب شرعي في نفس الوقت، فالجهاد و الاقتصاد والدولة هي كلّها قيم أخلاقية وواجبات شرعية في فلسفة الصدر ” فإن الدين هو الاطار الشامل لكلّ أنظمة الحياة في الاسلام، فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الاسلام يمزج بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته”.((اقتصادنا ـ 278.))

إنّ القيم الاخلاقية كما حللها الصدر مرتبطة بمعنى الوجود، الذي يعبر المسلمون من خلاله عن علاقتهم مع الطبيعة ومع الانسان. وهكذا فكلّ جوانب الحياة ترتكز على القيم الأخلاقية، فالقيم الأخلاقية توجه التحولات الاجتماعية بكل جوانبها، فعملية التوجيه ينشأ عنها موقف تجاه الحضارة الغربية، فالفكر الاسلامي يستوعب عطاء الحضارة الغربية من خلال متطلبات القيم الاخلاقية الاسلامية التي توجه عملية النقد والرفض والتكيف تجاه الغرب في كل الميادين، وهذا ما يتجلى بوضوح في صياغة الصدر للرؤية الاقتصادية في الاسلام، فهو لم يسقط في فخ النزعة التوفيقية التي طغت على المفكرين المحدثين في العالم الاسلامي فراحوا يوفقون بين الاشتراكية والاسلام أو بين الرأسمالة والاسلام أو بين الوجودية والاسلام، فالمفاهيم والقيم الاخلاقية الاسلامية هي الاطار الذي تتم فيه عملية التنظير، وليست المفاهيم والقيم

الاخلاقية الغربية.((اقتصادنا مقدمة الكتاب ـ خاصة.))

ويرى الصدر ـ في هذا السياق ـ أن الشرع يلتقي مع الواقع. يوجد في الواقع إنسان العالم الاسلامي المتأثر بنظرة الاسلام إلى الكون وبالقيم الاخلاقية الاسلامية بصورة أو بأخرى. ولا يمكن في نظر الصدر لأي مخطط تغييري أن ينجح في العالم الاسلامي ما لم ينطلق من هذا المعطى الموضوعي ” فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الاسلامي. وهناك أخلاقية الاقتصاد الاُوروبي، التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة، ونسجت لها روحها العامة، ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي.

والاخلاقيتان تختلفان جوهرياً في الاتجاه، و النظرة والتقييم. بقدر ما تصلح أخلاقية الانسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الاُوروبي، تتعارض أخلاقية إنسان العالم الاسلامي معها، وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.

والتخطيط ـ أي تخطيط للمعركة ضد التخلف ـ كما يجب أن يدخل في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له درجة تمردها على عمليات الانتاج، كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري، ومدى انسجامه مع هذا المخطط أو ذاك “.((نفس المصدر (المقدمة صفحة ي).))

فالقيم الاخلاقية الملازمة لنظرة الاسلام إلى الكون هي التي تحدد الصورة العامة للسياسة والاقتصاد والثقافة والتقدم في العالم الاسلامي. ومن هذه القيم حرية الانسان ومسؤوليته والعدالة واحترام الطبيعة… الخ.

هذه القيم تجعل الانسان هو هدف الاقتصاد لا العكس، فجوهر القيم الاخلاقية الاسلامية يتناقض مع الأنانية والاستغلال والتبذير. الإنسان هو هدف الحياة الاقتصادية والسياسية،  لأنّه يستمد وجوده وقيمته من خلافته لله في الأرض. أي من علاقته بالمثل الاعلى التي يعبر عنها في كل المجالات: في العبادة وفي المعاملات بجوانبها الاجتماعية والسياسية والاخلاقية.((الاسلام يقود الحياة ـ الفصل 4 ـ خلافة الانسان وشهادة الأنبياء من 129 ـ 172.))فالمشكلة الاخلاقية كما طرحها الصدر ليست مشكلة منفصلة عن الفقه وعلم الكلام والفلسفة، لا شك أن ربط الاخلاق بالفقه وعلم الكلام فكرة ملازمة للفكر الاسلامي منذ القديم (مثلا مسألة الحسن والقبح و مسؤولية الانسان…) لكن تحليل المشكلة الاخلاقية في إطار الفقه وعلم الكلام من منظور تركيبي فلسفي، هذه ظاهرة جديدة في الفكر الإسلامي، الذي ابتلي بالنظرة التجزيئية إلى القضايا، ولم يصل إلى مستوى صياغة المذهب الاجتماعي في الاسلام.((تجدر الاشارة هنا إلى أنّ الدكتور محمد عبد الله دراز من المفكّرين المسلمين القلائل، الذين تناولوا المشكلة الأخلاقيه من هذا المنظور الكلي والفلسفي. ويرجع الفضل إلى المشرف العام لدار الاسلام بلندن السيد حسين الشامي في توجيهي للاطلاع على أطروحة محمد عبد الله دراز حول الأخلاق. وقد قمت بصياغة كثير من محاور هذا البحث ومواضيعه بفضل اطلاعي على اُطروحة محمد عبد الله دراز، وذلك نظراً إلى أن الشهيد السيد محمد باقر الصدر لم يفرد مؤلفاً خاصاً بالأخلاق، فقد طرح كلّ جوانب فلسفته الأخلاقية في سائر كتاباته كجوانب تابعة لمحاور بحثه في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.))

الاخلاق والميتافزيقا

معنى الوجود وأخلاقية الفعل

إنّ مشكلة الضمير الخلقي والواجب الاخلاقي، ومشكلة مصدر القيم الاخلاقية، هي مشاكل مرتبطة، في نظر الصدر، بالدين وبالميتافزيقيا في نفس الوقت: لماذا هناك تقييم وأخلاق؟ من هو الانسان؟ ما هي علاقته بالغيب؟ ومعنى هذا أن حقيقة الاخلاق لا يمكن أن تكون ـ في نظر الصدر ـ مستقلة عن نظرية حول مصير الانسان في العالم الآخر، فالاخلاق ليست مستقلة بل هي مرتبطة بالدين وبالميتافزيقيا، فالاخلاق لا تعالج بصورة مستقلة إلا من وجهة نظر منهجية، فالمنهج هو الذي يفرض ـ على صعيد التحليل المؤقت فقط معالجة المشكلة الاخلاقية كموضوع قائم بذاته. أما في الحقيقة وفي الواقع فإن الاخلاق متداخلة مع الدين والميتافزيقيا.

نقد نظرية كانط

لذلك يرى الصدر بأنه يجب دمج الاخلاق ضمن رؤية إلى الكون والانسان، فالاخلاق مرتبطة ـ في فلسفة الصدر ـ بالميتافزيقيا وهذا ما يختلف جذرياً مع أكثر مذاهب الفلسفة الغربية المعاصرة وبعض مذاهب الفلسفة الحديثة، التي فصلت الاخلاق عن الميتافزيقيا. فكانط (Kant) مثلا قد أسس الاخلاق على مفهوم الواجب، وانتهى إلى فتح مجال للميتافزيقيا عن طريق الاخلاق. فهو يختلف عن الفلاسفة الذين سبقوه، والذين أسسوا الاخلاق على الميتافزيقيا. فكانط استبدل الميتافزيقيا بالاخلاق باسم عجز العقل. أو بتعبير أدق سَلَّم بالمشكلة الميتافزيقية عن طريقة الاخلاق، فالاخلاق عنده ترتكز على إلزامية الواجب المستوعبة من طرف ذات الانسان. فالواجب بفضل إلزاميته يكفي نفسه بنفسه في فلسفة كانط.

غير أن فلسفة كانط تصطدم بمشكلة فلسفية كبرى: ما معنى الواجب الاخلاقي إذا كان الانسان يجهل نفسه ويجهل مصيره؟ وهل عمومية إلزامية الواجب وإلزامية القانون الاخلاقي تكفي نفسها بنفسها؟ فكانط أتى بالاخلاق كحل للمشكلة الميتافزيقية، ولكن المشكلة الاخلاقية بقيت هي نفسها معلقة. والمذهب الوضعي لم يعالج المشكلة الاخلاقية هو الآخر، فبدلا من عمومية الواجب وكونيته ركَّز هذا المذهب على الجانب الحسي. فالظواهر الحسية هي الحقيقة كلها، في نظر المذهب الوضعي، ولا وجود لشيء يتجاوزها،  لذلك يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته.

وهكذا بقيت الاخلاقية متشتتة في نسبية لا يمكن حصرها،  لأنها تتلون بنزوات ورغبات كل فرد على حدة.

إنّ فلسفة الغرب هي ـ على العموم ـ وفي نظر الصدر، تعبير عن أزمة الحضارة الغربية، فبدلا من أن تعالج المذاهب الاخلاقية الأزمة أصبحت ـ في أكثر جوانبها ـ انعكاساً لهذه الأزمة.((التفسير الموضوعي: 193 ـ 195.)) وهذا راجع ـ في

نظر الصدر ـ إلى أن هذه المذاهب متهافتة من الأساس: نفي أو إبعاد الاساس الميتافزيقي للقيم الاخلاقية، لقد اعتقد كانط بأنه نفى كل إمكانية للوصول إلى الميتافزيقيا عن طريق العقل. فحاول الوصول إليها عن طريق الاخلاق، غير أن الاخلاق الكانطية هي صورة بدون مضمون((انظر: محمد عبد الله دراز ـ دستور الأخلاق في القرآن ـ حيث حلل تحليلا نقدياً فلسفة الأخلاق الكانطية من موقع الأخلاق القرآنية.))

فالواجب الأخلاقي كما طرحه كانط لا يرتكز على مبررات خارجة عنه وليست له تطبيقات محددة. وهنا تبرز أهمية مفهوم معنى الوجود في فلسفة الصدر. إنّ الواجب عند الصدر هو أن يتخلق الانسان بصفات الله من موقع عبوديته. فالله خالق للانسان وهو مثله الأعلى الحقيقي. وعلاقة الانسان بالمثل الاعلى هي التي تحرره من أنانيته وتبرر إلزامية الواجب. وهكذا فالقيم الاخلاقية تستمد وجودها ومعناها من الميتافيزيقا. فالاخلاق الكانطية من منظور فلسفة الصدر ليست لها جذور لا في السماء ولا في الأرض.

أما بالنسبة للمذاهب الاجتماعية فقد جعلت من المجتمع مصدراً للأخلاق. فالإنسان في نظر الماركسية: هو مجموع العلاقات الاجتماعية. فليس للاخلاق مصدر خارج المجتمع، ونفس الرؤية نجدها عند دور كايم (Dur Keim) عالم الاجتماع الفرنسي الذي صاغ مفهوم الضمير الجمعي كقوة تكفي نفسها بنفسها.((انتقد الصدر إلزامية القيم الأخلاقية كما طرحها المذهب الاجتماعي، وربط بين الالزام والمصدر الميتافيزيقي للأخلاق في أفق العلاقة بين القيم الأخلاقية والعبادة، نظام العبادات في الاسلام 28 ـ 30.))

الأخلاق والغيب

فهل يجب تأسيس الاخلاق على الميتافزيقيا؟ هل الميتافزيقيا ضرورية للأخلاقية؟

يتجلى من خلال كل كتابات الصدر أن الاخلاقية لا معنى لها بدون أساس غيبي، ففلسفة الأخلاق عند الصدر هي امتداد لنظريته في المعرفة والوجود. فالاخلاق جزء من كل. فالقيم الاخلاقية تقتضي تجاوز الواقع المعطى (على أساس أن القيم تعبر عمّا ينبغي أن يكون) أي تقتضي تجاوز ما هو كائن، والتطلع إلى ما يجب أن يكون.

إنّ ربط الاخلاق بالميتافزيقيا لم ينته عند الصدر إلى فلسفة أخلاقية مجردة، فالصدر ربط الاخلاق بكل قضايا الأمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية، ففلسفته الاخلاقية تختلف عن فلسفة كانط التي حصرت الأخلاقية في الجانب الصوري، فالاخلاق ترجع كلها، عند كانط، إلى النية من حيث هي نية عقلانية مجردة عن أية عاطفة: النظر إلى الواجب كواجب يكفي بنفسه، كما أن فلسفة الصدر الأخلاقية تختلف عن رؤية علماء الاجتماع إلى الأخلاق، وهي رؤية حاولت أن تُنَظـَّر الأخلاق انطلاقاً من العلم (علم الاجتماع الذي يعتبره أصحابه علماً على غرار علوم الطبيعة) لكن الخطأ المنهجي الذي وقعت به كل المذاهب التي تناولت المشكلة الاخلاقية في إطار المنهج التجريبي، يكمن في محاولة استخراجها ما يجب أن يكون (القيم الاخلاقية) ممّا هو كائن (العلوم). وفاتها أن أحكام العلم هي أحكام وجود في حين أن أحكام الاخلاق هي أحكام قيمة أي أحكام وجوب. فهناك فرق جذري بين ميدان القيم وميدان

الظواهر، أي هناك فرق بين القيم وبين الظواهر من حيث هي ظواهر امبريقية.

إن فصل الأخلاق عن الميتافزيقيا انتهى بالفكر الغربي إلى النظر إلى الانسان ككائن مستغرق في الحاضر دون انفتاح على مستقبل ذي آفاق واسعة. وانتهى كذلك إلى غياب المعالم التي تنير الطريق أمام مسار الحضارة الغربية. فغياب المعالم جعل التقدم تقدماً نحو المجهول. ويرى الصدر بأن الفكر الغربي استبدل البعد الميتافيزيقي بمثل عليا مزيفة استخرجها من رؤيته المادية إلى الكون والانسان. فأصبحت حركة التأريخ حركه تكرارية لا حركة منفتحة على المطلق ” المجتمعات والأمم التي تعيش هذا المثل الاعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة… تعيش حالة تكرارية، يعني أن حركة التأريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية”.((التفسير الموضوعي: 159.))

الإنسان هو المحور

إنّ المحور الذي تدور حوله فلسفة الصدر الاخلاقية هو الانسان، فهو قد انتقد الانظمة السياسية باسم الانسان كفرد وكمجتمع، وانتقد العلوم الاجتماعية باسم الانسان كذلك. فهذه العلوم اختزلت الانسان فأصبح مجرد مجموع العلاقات الاجتماعية. فالنقد الذي وجهه الصدر إلى العلوم الاجتماعية يتداخل فيه الجانب العلمي مع الجانب الاخلاقي والانساني. فهو قد انتقد نتائج هذه العلوم ومناهجها ومنطلقاتها وأهدافها، وقد تم هذا النقد انطلاقاً من قيمة الانسان لا كمجرد مجموعة من الرغبات أو كمجرد مجموع العلاقات الاجتماعية، بل كخليفة لله في الأرض، فالفلسفة لا معنى لها في نظر الصدر إلا إذا تمت صياغتها في أفق معنى الوجود الانساني. فكل العلوم الاجتماعية كعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة تكون غير ذات معنى في نظر الصدر إذا لم تتم صياغة نظرياتها في أفق علاقة هذه العلوم بمعنى الوجود.((إن ربط الدراسات الاجتماعية بالدين وبالميتافيزيقيا يختلف عن الدراسات، التي اكتفت بالوعظ والارشاد، أو الدراسات التي تمت من خلال التفسير اللاهوتي للظواهر الاجتماعية، منهج الصدر علمي يعتمد على الاستقراء، وينطلق في دراسة الانسان على أساس أنه وحدة مادية وروحية، وينطلق في دراسة الحضارات عبر التأريخ على أساس أنّ العامل الروحي والأخلاقي هو العامل الرئيسي في تقدم الحضارات وفي انحطاطها. اُنظر التفسير الموضوعي خاصة الدرس 1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ـ 8 ـ 9.))

فالاخلاق ترتكز على فلسفة الوجود. هذا ما يتجلى في تحليل الصدر لأبعاد مفهوم الخلافة (خلافة الانسان لله في الأرض).((الإسلام يقود الحياة: (الفصل الرابع: خلافة الانسان وشهادة الانبياء: 129 ـ 172) وكذلك: التفسير الموضوعي: 128 ـ 131.)) فالخلافة مفهوم تعبدي ووجودي وأخلاقي وحضاري. الخلافة تعبر عن علاقة الوجود بالتعالي: فالخلافه حركة مستمرة نحو ما يجب أن يكون،  لذلك فالحياة الانسانية ترتكز على أساس معياري وميتافزيقي. هذا الأساس هو المحرك للشعوب عبر التأريخ.

الميتافزيقيا هنا أساس وهدف في نفس الوقت. هذه الظاهرة كونية في نظر الصدر. فحتى الشعوب التي لا تؤمن بالله ليست حياتها محصورة في الواقع الراهن، فهي تتطلع إلى ما يجب أن يكون، أي تتطلع إلى

أهداف وغايات غير موجودة في الحاضر المعطى. فالصدر يرى أنّ ” هذه الغايات التي تحرك التأريخ يحددها المثل الأعلى فإنّها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل أعلى للإنسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية… فبقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً.

المثل الأعلى

إذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة والكون، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية تتناسب مع ذلك المثل الاعلى، ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تحقق إرادتها للسير نحو هذا المثل… “.((التفسير الموضوعي: 145 ـ 146.)) فالانسان يسعى إلى تجاوز أوضاعه الراهنة، هذا التجاوز يعبر عن البعد الميتافيزيقي، لكن هذه القدرة على التجاوز تكون نتائجها على الصعيد الحضاري حسب الهدف الذي يتطلع إليه هذا المجتمع أو ذاك، فالتطلع قد ينتهي إلى العدمية كما هو الأمر بالنسبة لمسار الحضارة الغربية، وهذا نتيجة لانحراف مسار هذه الحضارة عن التطلع إلى المثل الاعلى الحقيقي الذي وضعت مكانه مُثلا عليا مزيفة انتجتها العقلانية الوضعية المنقطعة عن الله. فالحضارة الغربية حولت المثل الاعلى المطلق إلى إنسان ” إن الإنسان الاوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء. وحتى تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الاوروبي، بل بدلا عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إلاه المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي “.((اقتصادنا (المقدمة ي ـ ك).))

وحتى المذاهب التي جاءت كرد فعل للمذهب الوضعي طرحت مشكلة الميتافزيقية وعلاقتها بالقيم الاخلاقية طرحاً مزيفاً فألبير كامو (Comus. A) مثلا يرى أنّ موقفه يختلف عن الماركسية التي تنطلق من الاستغلال الاقتصادي، ثمّ التمرد الاجتماعي،  لتصل إلى التمرد الميتافيزيقي فالبيركامو (Comus. A) يطرح موقفه كموقف معاكس للماركسية: الانطلاق من التمرد الميتافيزيقي (التمرد الميتافزيقي عند هذا الفيلسوف يتمثل في وقوف الانسان ضد وضعيته وضد الكون كله) إلى التمرد الاجتماعي والسياسي. وينتهي كامو إلى القول بأن ” الثورة ليست إلا امتداداً منطقياً للتمرد الميتافيزيقي… فالثورة تبدأ من فكرة”.((

Albert Camos – Lhamme Aeiolte – Edition:  Christianisme Saaial Poisألبير كامو ـ الإنسان المتمرّد ـ 136. 136. 1926 P –

للفعل ولرد الفعل داخل مقتضيات الحضارة الغربية. ومعنى هذا أن هذه الحلول نبعت من معطيات حضارية منحرفة تحتاج هي الأخرى إلى حلول وإلى علاج.

)) فرغم هذا الاختلاف بين كامو والماركسية، فموقف كامو لم يتحرر من مؤثرات الثقافة الغربية. فهو لم يطرح البديل ولم يأت بشيء جديد، فلسفته في نقدها للماركسية جاءت كمجرد تغيرات جد نسبية. فالاتجاهات الفلسفية في الغرب التي أرادت معالجة أزمة القيم بقيت محصورة في الاطار الضيق

فلسفة العلاقة بين القيم والغيب

إنّ الطرح الفلسفي لعلاقة القيم الاخلاقية بالميتافزيقيا تمت صياغته عند الصدر خارج الاطار المعرفي الغربي، فليس هناك تمرد في المجال الميتافزيقي في الرؤية الاسلامية إلى الوجود كما تتجلى في فلسفة الصدر. إنّ طريقة أو صورة علاقة الانسان بالكون هي التي تنعكس سلباً أو إيجاباً على علاقته مع الطبيعة ومع المجتمع. إن علاقة الانسان بالكون ليست علاقة تمرد وعبث بل هي علاقة لها معنى ودلالة، إنها علاقة العقلانية الصارمة التي تنبع من التوحيد: إله واحد وبشرية واحدة، ومصير واحد يتمثل في السير نحو الله، فمعنى الوجود المرتبط بخلافة الانسان هو الأساس الميتافيزيقي للقيم الأخلاقية وهو أساس لكل عملية تغييرية ” عملية الاستخلاف الرباني للجماعة على الأرض بهذا المعنى الواسع تعني:

أولا:

انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد وهو المستخلف أي الله سبحانه وتعالى، الذي استخلفها في الأرض بدلا عن كل الانتماءات الاُخرى.

ثانياً:

إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الانسان من عبودية الاسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

ثالثاً:

تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية… فما دام الله سبحانه وتعالى واحداً ولا سيادة إلا له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا متكافئين في الكرامة الانسانية والحقوق “.((الاسلام يقود الحياة: 135 ـ اُنظر: كذلك: التفسير الموضوعي: 128 ـ 130.))

وهكذا فإذا كان التمرد ينتهي في الفلسفة الغربية المعاصرة إلى العدمية وإلى موت الانسان، فإن معنى الوجود في فلسفة الصدر يتحرك نحو تجسيد خلافة الانسان في التأريخ ونحو ظهور الحضارة الكونية ” لأن مشكلة الضياع تعني بالنسبة إلى الانسان أنه صيرورة مستمرة تائهة لا تنتهي إلى مطلق يستند إليه الإنسان نفسه في مسيرته الشاقة الطويلة المدى، ويستمد من إطلاقه و شموله العون و المدد و الرؤية الواضحة للهدف، و يربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون وبالوجود كله وبالأزل والأبد… فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرك عشوائي… وما من إبداع وعطاء في مسيرة الانسان الكبرى على مر التأريخ إلا وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق، والالتحام معه في سير هادف “.((الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ الفتاوى الواضحة: 808 ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1983م.))

ومن هنا فخلافة الانسان في تحقق مستمر،  لأن الهدف الذي يسعى نحوه الانسان الخليفة هو هدف مطلق، لذلك فكل عملية تغييرية تنطلق من أساس ميتافيزيقي يشكل معنى للوجود.

النتائج الإنسانية لنظرية الصدر

ويمكن القول: إنّ الاساس الوجودي للأخلاق الاسلامية التي صاغها الصدر تنتج عنه رؤية إلى الانسان تختلف جذرياً عن الفرد في الرؤية الليبرالية، وعن الفرد الذائب في المجتمع في الرؤية الماركسية. الاساس الوجودي للأخلاق الاسلامية ينتج عنه فرد منفتح على الآخرين حسب متطلبات قيم متعالية.

فالانسان هنا ليس فرداً منعزلا في إطار المصالح، وليس عنصراً ذائباً في كتلة (المجتمع)، بل هو الانسان الخليفة أي إنسان مرتبط بالمثل الاعلى في علاقاته مع المجتمع وفي علاقاته مع الطبيعة.

فهنا يتجلى البعد الانساني لفلسفة الاخلاق عند الصدر. فالانسان من منظور هذه الاخلاق يعيش علاقاته السياسية والاقتصادية والحضارية على أساس مسؤوليته أمام الله. فالابعاد الحضارية للأخلاقية مرتبطة بالتعالي عن طريق القيم الاخلاقية التي تستمد مصدرها من الغيب. فهنا نقطة اختلاف بين البعد الانساني للأخلاق في فلسفة الصدر وبين النزعة الانسانية (Humanisme)، النزعة الانسانية ترى أن الجوانب السياسية والاقتصادية والحضارية والاخلاقية ترتكز على الاعتقاد بأن خلاص الانسان يتم عن طريق الانسان وحده، فالانسان حسب هذه النظرة يستمد إنسانيته من نفسه كفرد أو كمجتمع، والقيم الاخلاقية بدورها تستمد مصدرها من الانسان كفرد أو كمجتمع.

الإنسان والمجتمع

لا ينكر الصدر أهمية دور المجتمع وضرورة هذا الدور ليحقق الانسان إنسانيته، لكن الصدر يؤسس علاقة الفرد بالمجتمع على مبدإ وجودي: فليس المجتمع هو الذي ينتج الانسان بل الانسان كذات واعية هو الذي يكوّن المجتمع، فالمجتمع يعبر عن بعد من أبعاد الانسان. فالحياة الاجتماعية نتيجة للحياة الانسانية لا العكس، الحياة الانسانية ليست في جوهرها ـ في نظر الصدر ـ ظاهرة اجتماعية، بل هي ظاهرة ميتافزيقية ارتبطت بالمجتمع وبالتأريخ، ويعبر الصدر عن هذه الفكرة عن طريق مفهوم خلافة الانسان لله في الأرض.((التفسير الموضوعي: 126 ـ 128.))

هذه الرؤية تعتبر أساساً لصياغة المذهب الاجتماعي والسياسي الاسلامي، كما تعتبر أساساً لتحليل علاقة القيم الأخلاقية بحركة التأريخ، فهناك فرق جذري من حيث النتائج الاجتماعية والحضارية والاخلاقية بين اعتبار المجتمع هو مصدر إنسانية الانسان، وبين القول بأن الانسان ظاهرة روحية تعبر عن نفسها عن طريق الحياة الاجتماعية.

فالمذاهب الفلسفية التي اعتبرت الانسان مجرد ظاهرة اجتماعية انتهت إلى نفي استقلالية الذات الانسانية، وجعلت القيم الاخلاقية مجرد انعكاس للحياة الاجتماعية، أما المذاهب الفلسفية التي تقول بوجود مصدر متعالي للحياة الإنسانية، فإنَّها أكدت على ذات الفرد كذات مستقلة في جوهرها، غير أن المذاهب الفلسفية التي ركزت على ذات الفرد تختلف في رؤيتها إلى التعالي فالتعالي عند الفلاسفة هو أحياناً، فكرة مجردة، وهو في أحيان اُخرى عبارة عن إرادة أو عاطفة أو قيمة يؤلهها أصحاب هذا المذهب، أما عند الصدر فهذه المسألة واضحة كل الوضوح أنها مسألة مرتبطة مباشرة بالعقيده الاسلامية، فالتعالي الحقيقي والمطلق هو الله، والانسان يستمد تعاليه النسبي من علاقته بالله، فالله ليس قيمة مجردة أو مفهوماً مجرداً، بل هو حي قيوم ذو الصفات والاسماء، فليس الله هو ما يجب أن يكون حتى يكون مجرد قيمة تتحقق بصورة مستمرة بل هو المطلق الكامل، وكل القيم الاخلاقية والجمالية تتطلع إليه ولا وجود لها ولا قيمة لها إلا من حيث خضوعها له خضوعاً  تعبدياً.((انظر النصوص السابقة ـ خاصة التفسير الموضوعي ـ حيث حلل الصدر علاقة الانسان بالمثل الأعلى كعلاقة تعبدية يتخلق فيها الانسان بصفات الله بصورة لا نهاية لها.))

إن الرؤية الاجتماعية والحضارية التي تنشأ عن هذه النظرة إلى الإله وعلاقة الانسان به سبحانه وتعالى لها طابع خاص، كما أن الاخلاقية التي تنشأ عن هذه النظرة إلى الإله هي أخلاقية لها طاقة هائلة بحكم ارتباطها بالله، وإلزامية هذه الاخلاقية هي إلزامية يستبطنها الانسان عن اقتناع داخلي تقوائي ” فقد وضع الاسلام للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه… فالاسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الانسانية، فإن نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي النظرة المادية إلى الحياة وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية  ونشاط”.((السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ فلسفتنا: 43 ـ المجمع العلمي للشهيد ـ بيروت 1408 هـ.))

فالمسالة ليست مجرد مسألة علاقة بين الفرد والمجتمع، بل علاقة الانسان بالله هي التي تنعكس على علاقته مع المجتمع، ومع الطبيعة، ومع الكون كله، وهكذا فإذا كانت علاقة الانسان مع المجتمع هي علاقة أحادية في المذهب الليبرالي (النزعة الفردية) أي الانسان هو الذي ينشئ المجتمع، فإن علاقة الانسان بالمجتمع في المذهب الماركسي تنطلق من المجتمع إلى الإنسان. فالمجتمع هو مصدر الحياه الانسانية، فالانسان يستمد حقيقته من المجتمع، ولا وجود لشي خارج المجتمع،  لذلك يجب في نظر هذا المذهب أن يكون المجتمع هو منطلق كل رؤية اجتماعية وأخلاقية، فالرؤى الاجتماعية والاخلاقية هي في جوهرها مجرد ظواهر اجتماعية حسب المذهب الماركسي وغالبية علماء الاجتماع.

وإذا كان الامر كذلك بالنسبة للفكر الغربي على العموم فإن الفلسفة الاجتماعية والاخلاقية كما تتجلى عند الصدر تؤكد على الانسان كفطرة، وككائن اجتماعي في نفس الوقت، فالانسان من هذا المنظور يتحدد حسب فطرته وحسب الحتميات الاجتماعية والتأريخية في نفس الوقت. الفطرة في فلسفة الصدر هي في إطارها العام عبارة عن إمكانيات واستعدادات وطاقات، فهي بعد من أبعاد خلافة الانسان لله في الأرض.

المذهب الاشتراكي يجعل من الانسان مجرد انعكاس للمؤثرات الاجتماعية. أما المذهب الرأسمالي (كما يتمثل في النزعة الفردية وفي الفلسفة الوضعية ومذهب المنفعة والبرجماتية) الذي يرى بأن المجتمع من صنع الإنسان، فإنه لا يملك المقومات التي تبرر موقفه هذا، ذلك لأن الانسان لكي يكون هو أساس المجتمع، يجب أن يمتلك بعداً روحياً متعالياً، و إلا بقي مجرد ظاهرة بيلوجية واجتماعية.

فلسفة الصدر تقدم مبررات، ومقومات مواقفها، فالانسان هو الذي يملك زمام المبادرة في علاقته مع المجتمع،  لأنه حقيقة روحية (خليفة الله في الأرض) تتجسد في المجتمع وفي التأريخ.

هذه المواقف كما أشرنا فيما سبق لها انعكاساتها المباشرة على الرؤية الاخلاقية. فالرأسمالية بتركيزها على الفرد، قد انتهت إلى اعتبار المنفعة أساساً للتقييم. أما الاشتراكية الماركسية، وكل المذاهب التي تؤكد على المجتمع كأساس للوجود الانساني فإنها انتهت إلى جعل القيم الاخلاقية مجرد ظواهر اجتماعية. وفي كل هذه المذاهب السابقة قد فقدت القيم الاخلاقية حقيقتها، وأصبحت تعبر عن الواقع وعن الأمر الواقع النابع من المجتمع أو من المنفعة.

أما فلسفة الصدر فإنها تعالج المشكلة الاخلاقية خارج الإطار الوضعي، الذي تتميز به هذه المذاهب

السابقة، ففلسفة الصدر تعالج المشكلة الاجتماعية والاخلاقية في أفق علاقة الانسان بالغيب، وينتقد الصدر في هذا السياق المذهب الاشتراكي الماركسي الذي يطلب من الانسان أن يتجاوز نزوعاته الغريزية ومصالحه الشخصية، ويعتبر الصدر أن هذا المذهب وقع في تناقض صريح، فهو من جهة ينفي البعد الغيبي ومن جهة اُخرى يطلب من الفرد أن يتجاوز أنانيته، فباسم أي مبدإ يتم هذا التجاوز؟.

امتزاج الواقعية مع المثالية

يطرح الصدر في هذا السياق واقعية الرؤية الاخلاقية الاسلامية ومثاليتها في نفس الوقت، الفلسفة الاخلاقية في الاسلام لا تطلب من الفرد أن يضحي بمصالحه وهو لا يؤمن إلا بهذه الحياة، كما أنها لا تطلب من الفرد أن يتجاوز رغباته ومصالحه إلى درجة نفيها والقضاء عليها، بل تطلب منه أن يخضعها للقيم الاخلاقية ذات المصدر المتعالي، وهو خضوع قد دلت عليه التجربة التأريخية لإنسان العالم الاسلامي، وقد يصل إلى حد تضحية الفرد بحياته.((الاسلام يقود الحياة: 180 ـ 182 وكذلك: نظام العبادات في الاسلام الفصل الأول.))

إن فكرة تجاوز الانسان لأنانيته لها مقوماتها في فلسفة الاخلاق الاسلامية بفضل علاقة الاخلاق بالميتافزيقيا، فعلاقة الانسان بالمثل الاعلى وما ينتج عنها من بعد أخروي هي التي تجعل الانسان في وضعية تطلع، وتجعله قادراً على تجاوز أنانيته ولا يخضع للأمر الواقع المتمثل في المنفعة، وفي الحتميات الاجتماعية والتأريخية القاهرة.

قيمة الإنسان في ارتباطه بالله

يتجلى من هذه الافكار السابقة أن النظرة إلى الانسان تتحدد في الفلسفة على العموم حسب علاقة الانسان بالله، وكما تحدد القيم الاخلاقية كذلك حسب علاقة الانسان بالله، فإذا كان الفرد في النظام الرأسمالي لا يخضع إلا إلى مصالحه، و إذا كان الفرد في النظام الاشتراكي الماركسي يُسعى به إلى الخضوع إلى متطلبات النظام الاشتراكي كنسق يكفي نفسه بنفسه، فإن الانسان عند الصدر، بفضل ارتباطه بالله، تحدد سلوكاته حسب بواعث تستمد مصدرها من خارج الانسان وخارج التأريخ،  لذلك فالقيم الاخلاقية في الرؤية الاسلامية ذات إمكانيات لا حدود لها، وتنتج عنها رؤية نوعية إلى الانسان تختلف عن الرؤية الغربية كما تتجلى في النظامين الرأسمالي والاشتراكي الماركسي،وكما تتجلى كذلك في النزعة الانسانية.

إن قوة الانسان تكمن في نظر الرؤية الاسلامية في نسبيته. فهو لا يكفي نفسه بنفسه. هو منفتح على المطلق لذلك فالانسان فرداً ومجتمعاً وأمة في تحقق مستمر، ولا نهاية لعملية التحقق هذه،  لأنه لا نهاية لتطلع الإنسان ولا نهاية لقوة تجاوزه للواقع، وأما على الصعيد السياسي والحضاري والروحي الذي ينتمي إليه الانسان فهناك كذلك تطلع لا ينفد، وحركة عبر التأريخ لا نهاية لها، هذا ما يتجلى من خلال كل كتابات الصدر.

إنّ تطلع الانسان إلى المطلق قد يحدث اضطراباً في علاقة الانسان بالعالم، وبكل ما هو نسبي. هذه الحالة التي تتميز بالاضطراب قد تؤدي أحياناً إلى التمرد على المطلق وإلى العدمية (Nihilsme) كما وقع في ذلك الكثير من تيارات الفلسفة الغربية، وقد تؤدي إلى روحانية انعزالية يكتفي فيها الانسان براحة النفس دون الاهتمام بمتطلبات الواقع الاجتماعية والسياسية.

فلسفة الصدر تجاوزت كل هذه المواقف بفضل ارتباطها التعبدي والعقلي بالاسلام، فالتساؤل عن معنى الوجود يؤدي إلى الارتباط بالمطلق كمبدإ لعقلانية الوجود، ومبدإ لتغيير العالم في نفس الوقت، فليس هناك اضطراب بصورة نهائية كما هو الامر في بعض مذاهب الفلسفة الغربية، التي صاغت كل فلسفتها في إطار هذا الاضطراب كظاهرة ملازمة للانسان، الانسان يتجاوز الاضطراب الناتج عن علاقته باللانهائي، ويتجاوزه عن طريق عقله وعاطفته وخضوعه للدين، الذي يوجه علاقة الانسان بالمطلق، وما ينتج عن هذه العلاقة من جهد وجهاد لتغيير العالم.((نفس المصدرين.))

السياسة والاقتصاد ظواهر أخلاقية

لذلك يرى الصدر أن الثورات التحريرية ومعركة التنمية في العالم الاسلامي هي جهاد، أي هي ظاهرة ميتاـ سياسية و ميتا ـ اقتصادية، ” فنظرة إنسان العالم الاسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض… إذا فُصلت الأرض عن السماء، وأما إذا اُلبست الأرض إطار السماء، واُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الانسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي”.((اقتصادنا ـ المقدمة ـ صفحة ن ـ أما بالنسبة للثورة وعلاقتها بالقيم الروحية والأخلاقية فأنظر: الاسلام يقود الحياة: 155 ـ 160.))

لذلك تتميز فلسفة الوجود عند الصدر بطرحها للوجود والماهية في أفق حركة التأريخ، وجاءت فلسفة الأخلاق الصدرية كامتداد لفلسفته في الوجود، فالصدر لم يعالج مشكلة القيم خارج التأريخ وخارج الواقع، بل عالج المشكلة الاخلاقية في إطارين متكاملين: الإطار الكوني (كونية القيم الاخلاقية)، والإطار الواقعي (الواقع في جزئياته) لذلك ربط الصدر مشاكل الاُمة واهتماماتها كالتحرر من الاستعمار والتنمية والنهضة الحضارية بالمشكلة الأخلاقية.((المرسل، الرسول، الرسالة: 84 ـ 85 ـ نشر أهل البيت ـ باريس 1963م.))

ماهية الإنسان

إن ماهية الانسان في الرؤية الفلسفية الصدرية هي الوجود في العالم في أفق التطلع إلى المثل الأعلى، هذه هي نقطة الاختلاف الجذرية بين فلسفة الصدر والفلسفة الوجودية كما تتمثل عند هيدجر (Heidegger) الذي يرى أن ماهية الانسان في وجوده في العالم أو (Dasein)، فوجود الانسان في العالم يكفي نفسه بنفسه بالنسبة لسارتر (Sartre) وهيدجر فليس من الضروري إعطاء معنى لوجود الانسان باللجوء إلى وجود الماهية (ماهية الانسان).

وعلى العموم إن المذاهب الفلسفية، التي تقول بوجود طبيعة بشرية تنفي أن تهمل أثار الشروط الاجتماعية والتأريخية، وتنتهي هذه المذاهب إلى نزعة أخلاقية لا تقرأ أي حساب للواقع، وكرد فعل على هذه المذاهب ظهرت مذاهب فلسفية ابتداءً من هذا القرن، تنفي وجود طبيعة بشرية، وتؤكد على الشروط الاجتماعية والتأريخية في حياة الإنسان. هذه النظرة هي نتيجة حتمية ـ في المجال المنهجي ـ للنزعة

الاجتماعية والنزعة التأريخية (أو التاريخانية)، يقول: ج. ب. سارتر (Sartre): ” إذا كان من المستحيل وجود ماهية كونية تشكل الطبيعة البشرية، فهناك مع ذلك كونية تتمثل في الشروط التي يعيش ضمنها الإنسان “.((

ج ـ ب ـ سارتر /: الوجودية مذهب إنساني

J. P. Sartre Lesistentisme Estum Humanisme Nagel Paris 1970.

))

ومعنى هذا أنه لا وجود لماهية حقيقة، فحقيقة الانسان تكمن في علاقته بالظروف الاجتماعية والتأريخية. عندما تنظر إلى فكرة سارتر هذه من خلال فلسفة الصدر يتجلى لنا أن الصدر لم يطرح مشكلة الطبيعة البشرية كحالة جامدة، أي لم يطرح الطبيعة البشرية من موقع نفي الشروط الاجتماعية والتأريخية، ومن جهة اُخرى لم يطرح الصدر الشروط الاجتماعية والتأريخية من موقع نفي وجود طبيعة بشرية فالصدر عالج هذه المشكلة من منظور شمولي جمع بين الثابت والمتغير، بين الطبيعة البشرية كطاقة وإمكانيات وبين المجتمع والتأريخ كمسرح لتحقق وتجسيد تلك الامكانيات، وقد صاغ الصدر هذه الرؤية بفضل مفهومي الخلافة، والتسخير، وكذلك بفضل مفهوم الفطرة. والمؤثرات الاجتماعية والتأريخية لا معنى لها إذا لم تكن معاشة من طرف الإنسان كذات واعية. فكونية الانسان أو فطريته ليست معطاة بل هي في تحقق مستمر، وهذا التحقق هو تحقق أخلاقي في الاساس. فالطبيعة البشرية من هذا المنظور هي تطلع مستمر إلى ما ينبغي أن يكون، فهي وجود من حيث هي طاقة وإمكانيات، وهي قيمة من حيث هي تطلع مستمر. هذا التطلع ينزع نحو أعلى قيمة وأعلى وأكمل وجود. أي نحو المثل الأعلى الحقيقي.

ومن هنا تدحض فلسفة الصدر الفلسفة الوجودية، التي ترى بأن القول بوجود الماهية يعني إعطاء الاسبقية لهذه الأخيرة على حساب الوجود والواقع الحي الذي يعيش فيه الإنسان، فالماهية عند الصدر تكمن في ارتباط الإنسان بالمطلق والتطلع إليه، فالماهية قيمة،  لذلك فهي في تحقق مستمر، وليست موجودة منذ البداية وبصورة نهائية.

الحـريـة

ومن هنا فالحرية ” تعبير عن عاطفة أصيلة في النفس البشرية تشع من كل ثنايا التأريخ حتى تبدو قصة الانسان نفسه، وكأنها معركة تحرر وتحرير يخوضها على مر الزمن منذ أعماق التأريخ إلى يوم الناس هذا بالرغم من اختلاف أشكال المعركة وألوانها وأهدافها وأساليبها باختلاف القيم الفكرية التي ترتكز عليها “.((الشهيد السيد محمد باقر الصدر: بحوث إسلامية: 44 ـ دار الزهراء ـ بيروت ـ 1983م.))

وينتقد الصدر مفهوم الحرية كما يتجلى في الفلسفة الغربية حيث وجدت البشرية نفسها ” مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدد لا تمتلك له تغييراً ولا تطويراً وإنما كل سلوتها وعزائها ـ وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد ـ أن هناك من قال لها: إنّ هذه العربة عربة الحرية بالرغم من هذه الاغلال، وهذه القيود التي وضعت في يديها “.((الشهيد السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الإسلامية: 113 ـ طبعة بيروت ـ 1973م. انظر كذلك: نظام العبادات في الإسلام: 16 ـ 21.))

الصـيرورة

فالصدر أسس الرؤية الاسلامية إلى الاخلاق على فلسفة للوجود تختلف عن فلسفة الوجود، كما تتجلى في الفلسفة الغربية من بارمنديس إلى سارتر، ففلسفة الوجود في الفكر الغربي تنفي الصيرورة، وإذا أكدت على الصيرورة على غرار المذهب الوجودي، كما يتجلى لدى سارتر فإنها لا تبرر الصيرورة عقلياً وفلسفياً، فتصبح الصيرورة حركة نحو المجهول، في حين ان فلسفة الوجود عند الصدر تقتضي الصيرورة بل تشكل الصيرورة جانباً أساسياً من جوانب فلسفة الوجود، فعلاقة الانسان بالله في فلسفة الصدر هي علاقة تقتضي الحركة في مجال الوجود الانساني، فالقول بوجود الله هو قول بوجود معنى للكون، وبالتالي اتخاذ موقف فعال تجاه الحياة. الايمان يؤدي إلى التعالي: تعالي الانسان تجاه الحتميات الطبيعية والنفسية والاجتماعية والتأريخية، وتعالي الله تجاه كل أفعال الانسان ومشاريعه. ففلسفة الوجود كما طرحها الصدر لا تعني اكتفاءً بفهم العالم وتفسيره بل تعني ـ في الأساس ـ إعطاء معنى للعالم وتغييره باسم هذا المعنى، وما يتضمنه من قيم روحية وأخلاقية، ففلسفة الوجود عند الصدر لا تدعي أنها تفسر الوجود على طريق أنساق فكرية على غرار المذاهب الفلسفية في الفكر الغربي، فالصدر كان واعياً بأن موقف العقل في هذا المجال هو موقف العقل النسبي من المطلق، هذا الموقف النقدي يختلف عن نقدية فلسفة كانط (Kant)، فهذا الأخير قد انتهى عن طريق نقد العمل إلى الأخلاق، ولكنها أخلاق لا أساس لها لا في الأرض ولا في السماء كما قال النقاد،  وذلك بسبب غياب العلاقة بين الاخلاق ومعنى الوجود، فبدلا من أن تنبع الأخلاق من معنى الوجود أصبحت وسيلة لمعنى الوجود كمجرد مسلمة، أما بالنسبة للصدر فإن الموقف النقدي هو في حد ذاته موقف تعبدي وأخلاقي. عملية النقد هذه حالة تعبدية وأخلاقية تنتهي إلى تأسيس القيم الأخلاقية وإلزاميتها على معنى الكون النابع من وجود الله.((فالصدر قد حلل تحليلا إبستمولوجيا وميتافيزيقيا وعقائدياً وفلسفياً وأخلاقياً الآيات القرآنية الكريمة: (قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَاداً لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِد البَحرُ قَبلَ أن تَنَفدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنَا بِمِثلِهِ مَدَدا) (الكهف: 109)أو الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِينَّهُم سُبُلَنَا…(العنكبوت: 69) انظر مثلا: الاسلام يقود الحياة: 179، وما بعدها، وكذلك التفسير الموضوعي.))

فإذا كانت المذاهب الفلسفية قد جمدت الغيب والميتافزيقيا في مفاهيم الانساق الفلسفية، فإن الميتافزيقيا أصبحت عند الصدر قوة محركة للإنسان في علاقته بالطبيعة وبالمجتمع والتأريخ. إنّ سلوك الإنسان لما يتم ضمن أفق فصل الحياة الإنسانية عن الغيب يصبح مجرد نشاط تقني، أي مجرد وسيلة لإشباع غايات عاجلة فالفعل الانساني يصبح مبتوراً عن البعد المستقبلي وحبيساً داخل النفعية الراهنة، ولا يتجاوز هذا الاطار الضيق إلا عندما يصبح سلوكاً معبراً عن خلافة الانسان لله في الأرض: خلافة على مستوى الفرد والاُمة والانسانية كلها، فعندئذ يصبح الفعل الانساني مرتبطاً بمعنى الوجود. فالإيمان والعمل جانبان مترابطان في المنظور الاسلامي.((الاسلام يقود الحياة: 204 ـ 207.))

استبدال (الله) بالعبث

يستمد الوجود معناه في الفكر الغربي (المذهب الوجودي خاصة) من القيم، والقيم ليست متعالية بل مصدرها هو الإنسان، فنفي وجود الله ينتج عنه استبدال الله بالإنسان،  لذلك فمعنى الوجود ـ في أكثر مذاهب الفلسفة الغربية ـ ليس معنى قبلياً، فالإنسان هو الذي يعطي معنى للوجود، فلسفة الصدر تختلف جذرياً عن هذه الرؤية. فالقيم لا تستمد معناها من نفسها، بل تستمد معناها من معنى الوجود الذي يستمد معناه من وجود الله، وهنا يكمن في نظر الصدر السبب الرئيسي لأزمة القيم في الحضارة الغربية: نفي وجود الله واستبداله بالانسان نتج عنه نفي معنى الوجود واستبداله بالعبث على اعتبار أن عملية الاستبدال هذه لا أساس لها، فهي مجرّد شطحات فكرية وعاطفية، وتمرد على الله سبحانه وتعالى، وعلى عقلانية التوحيد الصارمة، ومجرّد تأليه الانسان لهواه في نظر الصدر((التفسير الموضوعي: 147 ـ 146.)).

الأخلاقية والعقلانية

إنّ الرؤية الاخلاقية تنبع من رؤية عقلية صارمة إلى الوجود و إلى الانسان، فالأخلاقية والعقلانية جانبان متداخلان، وقد انتقد الصدر كلا من الماركسية والرأسمالية من موقع عقلاني وأخلاقي في نفس الوقت. فالماركسية والرأسمالية تستمدان نظرياتهما الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من الفكر الغربي المنقطع عن الغيب. إن الانقطاع عن الغيب ينتج عنه غياب الهدف أي فكرة غاية وجود الانسان في هذه الحياة، فهذا ما أدى بدوره في ـ نظر الصدر ـ إلى غياب العقلانية عن الإطار المعرفي لكلّ من الماركسية والرأسمالية. فالصدر قد انتقد العقلانية التي تكفي نفسها بنفسها، وهكذا عكس العقلانية المرتبطة بالغيب، فارتباط العقلانية بالغيب كما يتجلى في كتابات الصدر، له جوانب معرفية (عقلانية نسبية ومنفتحة على الحركة والتطور) وجوانب أخلاقية (عقلانية متواضعة في أفق ارتباطها بمسير الانسان الاخروي، وهو مسير له انعكاساته الاخلاقية في حياة الانسان).

فالعقلانية تقتضي وجود غاية لحياة الانسان، فغياب الغاية ينتج عنه غياب المعنى أي غياب حياة إنسانية معقولة وهو (العبث) فوجود الغاية لهذه الحياة يعقلن الوجود الإنساني، ويعبئ الانسان في عمله على تغيير وضعيته كالتحرر من الاستعمار والقضاء على التخلف، أو إحداث تطورات معرفية وتكنولوجية وحضارية.

مادية النظامين الرأسمالي والاشتراكي

وهكذا فنقطة الضعف في كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي تكمن ـ في نظر الصدر ـ في رؤيتهما المادية إلى الكون والانسان، فهذان النظامان قد طرحا المشكلة الاجتماعية طرحاً ناقصاً بعزلها عن معنى الوجود وعن القيم الاخلاقية الكونية. غير أن هذه القيم لا تتمتع بقوة إلزامية بسبب انفصالها عن مصدر متعالي، فالاشتراكية تتميز بضغط الحزب الواحد، والرأسمالية تتميز بجدلية المنفعة والمصالح. فهناك تناقض، في نظر الصدر، بين الرؤية المادية إلى الكون وبين القول بوجود قيم أخلاقية ملزمة للإنسان، فكل نظام من هذين النظامين يطرح نفسه على أنه محرر للإنسانية. فالتناقض يكمن، في نظر الصدر، بين عملية التحرر كقيمة روحية وأخلاقية وبين النظرة المادية إلى الكون التي يتميز بها هذان النظامان. يقول الصدر: ” ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر،  لتنتهي إلى ألوان من العبودية والاغلال… فإنّ

الحرية الرحيبة في الاسلام على العكس، فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى،  لتنتهي إلى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة…

وخاض القرآن بعد معركة التحرر الداخلي للإنسانية، معركة التحرير في النطاق الاجتماعي، فكما حطم في المحتوى الداخلي للإنسان الأصنام، التي تسلبه حرية الانسانية، كذلك حطّم الأصنام الاجتماعية، وقضى على عبادة الانسان للإنسان “((بحوث إسلامية: 47 ـ 51.)).

الزامية القيم

فالتناقض يزول، بالنسبة للصدر، لما تكون بصدد الرؤية الاسلامية، التي تربط بين القيم الاخلاقية ومعنى الوجود، فمعنى الوجود هو الذي يعطي للقيم حقيقتها وإلزاميتها، إنّ علاقة القيم الاخلاقية بمعنى الوجود ليست مجرّد علاقة منطقية في فلسفة الصدر، بل هي علاقة تتجسد في مسؤولية الانسان في الجانب العملي، فهناك تلازم بين معنى الوجود وإلزامية القيم، ووجوب عملية تغيير وضعية الانسان. ففلسفة الاخلاق ـ خاصة في المذهب الماركسي و الوضعي والوجودي (الوجودية الملحدة) تشكل مجموعة من الأفكار تحتاج إلى تركيب. فعناصر هذه المذاهب موضوعة بجانب بعضها البعض دون محور يمنحها الصورة المنسقة. فهناك هوة بين القيم الاخلاقية كما تطرحها هذه المذاهب (الحرية ـ حقوق الانسان ـ العدالة…) وبين الرؤية المادية إلى الوجود. ويرى الصدر أن الرؤية التركيبية والمنسقة للفكر الاخلاقي نجدها في الاسلام. فالرؤية الاسلامية إلى الكون والانسان هي التي تربط بين كل عناصر النسق، أي هي التي تعطي للقيم الاخلاقية معناها وإلزاميتها.

فالقيم الاخلاقية في أكثر مذاهب الفلسفة الغربية ليست لها أسس تبرر إلزامية هذه القيم ومعياريتها، فهناك أزمة مصدر في مجال الاخلاق،  لذلك أصبحت إلزامية القيم وحرمتها أمراً مشكوكاً فيه بسبب أزمة المصدر وبسبب أزمة الهدف كذلك، فما هو هدف القيم الاخلاقية في أفق أزمة المصدر؟

وهنا، وفي هذا السياق يطرح الصدر الرؤية الاخلاقية الاسلامية كرؤية تتجاوز كلّ هذه التناقضات،  لأنها رؤية تقدم للقيم الاخلاقية المصدر والغاية ضمن رؤية تربط الوجود بالله،  لذلك فعلاقة القيم بالواقع تمنح للإنسان إمكانيات لا حدود لها للقيام بعملية التغيير الاجتماعي والحضاري، فالقيم الاخلاقية هنا هي قيم ملزمة تقتضي وجوب الفعل، والأخلاقية الناتجة عن هذه العلاقة هي أخلاقية الجهد لا الانتظار السلبي أي أخلاقية الجهاد في أفق الانتظار.((أي انتظار وعد الله بنصر المؤمنين وعودة الحضارة الإسلامية إلى مسرح التأريخ. فالانتظار كما يتجلّى من كتابات الصدر تطلع وليس موقفاً مهادناً واستسلاماً للأمر الواقع (الانتظار السلبي فالانتظار من هذا المنظور جهاد. اُنظر: خلافة الانسان وشهادة الأنبياء وخاصة: بحث حول الولاية.))

مشكلتان معاصرتان

لقد عالج الصدر مشكلتين من أكبر وأخطر مشاكل هذا العصر في مجال فلسفة الاخلاق: مشكلة المعنى (معنى الوجود)، ومشكلة الحرية (تحرير المستضعفين).

انتقد الصدر النزعة العلمية والنزعة الاقتصادية في أفق معالجته للمشكلتين السابقتين، فالنزعة العلمية

والاقتصادية قد انتهت بالحضارة الغربية إلى الخضوع إلى الأمر الواقع: الاقتصاد أصبح غاية لحركة التأريخ ومعنى لها، وقد نتج عن هذه النظرة استغلال الشعوب المستكبرة للشعوب المستضعفة واستعمارها باسم التقدم التكنولوجي والاقتصادي.

وتتجلى هنا قدرة الرؤية الاخلاقية الاسلامية على تجاوز هذه الأزمة، أزمة معنى الوجود وأزمة حرية الانسان، فالقيم الاخلاقية التي تتمحور حول التوحيد هي التي تعطي للتقدم الاقتصادي والعلمي معنى. لقد خضعت الحضارة الغربية لحتمية قاهرة تتمثل في واقعية لا إنسانية، والخضوع إلى ما هو كائن تقتضيه حركة التأريخ ويقتضيه التقدم الاقتصادي والتكنولوجي. في حين ان فلسفة الصدر الاخلاقية ترى بأن الخضوع يكون لله وحده. فالخضوع لله عبادة وتحرر. هذا الخضوع يعني في الأساس رفض أزمة الحضارة المعاصرة كأمر واقع، والعمل على تجاوزها عن طريق ربط الحضارة بالقيم الاخلاقية ذات المصدر المتعالي،  ليصبح الاقتصاد وسيلة من وسائل تحرير الانسان من حتميات المادة.((بحوث إسلامية: فصل: الحرية في القرآن: 43 ـ 54.))

وهذا ما سوف يدفع ـ في نظر الصدر ـ بالبشرية إلى مرحلة تأريخية جديدة يتداخل فيها الجانب الروحي مع الجانب المادي، أي مرحلة تتحرر فيها البشرية من منطق المنفعة وهيمنة الاقتصاد على كلّ جوانب الحياة، وهو تحرر سيتم بفضل تأسيس الحياة الاجتماعية على القيم الأخلاقية، وعلى معنى الوجود، وهكذا فعلاقة الانسان بالله (المثل الأعلى الحقيقي) هي وحدها التي تحرر الانسانية من النتائج المأساوية للانحراف الاقتصادي والتكنلوجي، الذي ابتليت به الحضارة الغربية في نظر الصدر. هذه العلاقة بين الانسان والله تتأسس على رضا الله وهو ” مقياس من النظرة الروحية العامة إلى الحياة والكون وليس مقياساً مرتجلا. كما أنه يزيل كلّ تناقض من الصعيد العملي على عكس كثير من المقاييس التي يقدمها فلاسفة الأخلاق كاللذة أو المنفعة ونحوهما من مفاهيم غائمة أو غير محددة، فإنّ الناس في المجتمع الواحد يتناقضون في لذاتهم ومنافعهم، كما تتناقض المجتمعات البشرية المختلفة في هذه المقاييس أيضاً… وإيمان الانسانية بهذه المقاييس الخلقية الناقصة هو الذي جر عليها كثيراً من ألوان البلاء، وألقى بها في دوامة من الصراع والنزاع، وأما حين تأخذ الإنسانية بالمقياس العملي الذي ينادي به الاسلام فسوف يزول كلّ لون من ألوان الصراع، والتناقض لأن رضا الله تعالى لا يتناقض ولا يختلف “(()).

الحـداثـة

لقد ظهرت الحداثة ابتداءً من القرن السادس عشر نتيجة لتغيرات جذرية في الميادين العلمية والدينية والاخلاقية. لقد كانت هذه التحولات تمهيداً للتقدم في مرحلة لاحقة في الميادين التكنولوجية والسياسية. إنّ ميزة الحداثة تكمن في كونها ليست مرحلة انتقالية لعصر لاحق. فالفكر الغربي ينظر إلى الحداثة كغاية في ذاتها تكفي نفسها بنفسها. أي كمرحلة تُنهي التأريخ (نهاية التأريخ) بدلا من أن تكون تمهيداً لشيء آخر. فمعنى الحداثة لا يوجد خارجها، فالحداثة هي الواقع وهي المعنى، أي هي الواقع وهي المثال في نفس الوقت.

ويرى الصدر أن الحداثة قد غيبت ونفت معنى الوجود، هذا عامل أساسي من عوامل أزمة الحضارة

الغربية، فالصدر يرى بأن غياب القيم الروحية والأخلاقية في الحضارة الغربية جعل الإنسان في الغرب إنساناً قد ” استرقّ و وَجَوَّع، وَسَدَّ منافذ العلم والحضارة عمن تسلط عليهم من الناس، وخلف عالَماً يئن من الجور والطغيان والعذاب عالَماً تمزقه البغضاء والحروب”.((رسالتنا: 65 ـ 66.))

فالحضارة لما ترتبط بمعنى الوجود لا تنظر إلى الواقع إلا من خلال القيم. أي من خلال قيم تنقد الواقع باستمرار،  لأنها تبين ما ينبغي أن يكون. أما في الحضارة الغربية فالعقلانية وحدها هي التي تحدد الوسائل والأهداف،  لذلك اتسع مجال معرفة الانسان وقدرته، وتحكمه في الطبيعة على حساب علاقة الانسان بالمطلق، وما ينتج عن هذه العلاقة من تطلع إلى غايات قصوى وسامية.

ويرى الصدر، في هذا السياق، أن الحضارة تبدأ في الانحطاط لما تفقد علاقتها مع معنى الوجود، فتفقد نتيجة لذلك الأُسس الأخلاقية المعبئة للحياة الاجتماعية ولحركة التأريخ نحو مثل عليا، ويعتبر الصدر هذه الظاهرة سنة تأريخية تتمحور حول القيم الروحية والاخلاقية. فرسالية حضارة من الحضارات تكمن في معنى الوجود وما يتضمنه من أبعاد أخلاقية “… الانسان الأُوروبي جعل الحرية هدفاً، وهذا صحيح ولكنه صيّر من هذا الهدف مثلا أعلى، بينما هذا الهدف ليس إلا إطاراً في الحقيقة. وهذا الاطار بحاجة إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جرّد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم، التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار،  لأنّ الأطار بقي بلا محتوى، بقي بلا مضمون “.((التفسير الموضوعي: 166.))

أزمة الحضارة الغربية

انطلاقاً من هذه الأفكار يرى الصدر أن الحضارة الغربية المعاصرة رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي قد فقدت معنى الحياة لذلك فهي في أزمة، وعلى العكس من ذلك فإن الأمة الاسلامية التي يتمحور وجودها حول معنى الكون والإنسان مؤهلة للقيام بدورها الرسالي، الذي يستمد حقيقته وقوته من القيم الروحية والأخلاقية.

العـلاج

لقد أشار الصدر إلى هذه الفكرة في كلّ كتاباته تقريباً، وعالج هذه المشكلة في مقدمة اقتصادنا عندما رأى بأن عملية التغيير لن تتم في العالم الاسلامي بمجرد أن تسن الدولة القوانين،  لأنّ هذه الأخيرة لن تكون ذات فعالية إلا بارتباطها بمعنى الوجود الذي يعقلن عملية التغيير، ويطبع القيم الاخلاقية المعبئة لعملية التغيير في ذهنية إنسان العالم الاسلامي بطابع إلزامي.((اقتصادنا: المقدمة: خاصة صفحة و.))، كما أنّ معنى الوجود يرسم لعملية التغيير الغاية التي يجب أن تسعى إليها. وهي غاية تستمد بدورها معناها من معنى الوجود، ويشير الصدر إلى أنّ الرسالة الإسلامية لم تبدأ عملية التغيير بالبنيات الاقتصادية والاجتماعية، فالاسلام لم يحدث في

البداية تغييراً في وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج((بالنسبة لماركس كلّ تغيير ينطلق من تحولات في البنية الاقتصادية، وظهور الرسالات السماوية يدحض هذا المنهج وينسفه من الأساس.))، بل أحدث تغييراً في المحتوى الداخلي للإنسان بإعطائه معنى للحياة، ومعنى للوجود الانساني على الصعيد الذاتي والاجتماعي.((المرسل، الرسول، الرسالة، 84 ـ 85، وكذلك التفسير الموضوعي: 141 ـ 142))، فعملية تغيير العالم، أي تحويل الطبيعة وتحويل المجتمع لا تتم إلا عندما يُعبؤُ الانسان باسم مثل أعلى وباسم قيم أخلاقية.

فالتهيئة تتم باسم مشروع حضاري يخضع لقيم مثالية ” إذن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية. وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة، والكون يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الأعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تحقق إرادتها للسير نحو هذا المثل، وفي طريق هذا المثل. “((التفسير الموضوعي: 146.))

إن حلّ مشكلة الإنسان في الفلسفة الغربية يخضع في نظر الصدر للصدفة، فنفي إطلاقية القيم الاخلاقية يجعل كل شيء ممكناً. كما أن جعل التأريخ مصدراً لمعنى الوجود والانسان قد ينتهي بالانسان إلى نتائج غير متوقعة، فحركة التأريخ لا تكفي نفسها بنفسها حتى تكون مرجعاً لحياة الانسان الاخلاقية والاجتماعية والحضارية. والفلسفة الماركسية لا تقدم الحلّ لمشكلة الإنسان وللمشكلة الاجتماعية في نظر الصدر، فتغيير الملكية من ملكية خاصة إلى ملكية جماعية بدلا من أن يحرر الانسان زاد من استغلاله واستلابه. فالانسان في النظام الاشتراكي قد فقد ذاته وذاب في كلًّ أكبر منه هو المجتمع المتمثل في الحزب الواحد وفي الدولة ومؤسساتها. فالبروليتاريا لا تغير التأريخ كما يرى الصدر،  لأن هذا المفهوم غير مرتبط بقيم أخلاقية ذات مصدر متعالي “… المادية التأريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال، هي التي تصنع النظام المتناسب لها، ولكننا نحن لا نرى أن دور الآلة هو دور الصانع، وإنما دور الآلة هو دور الإمكانية، دور توفير الفرصة والقابلية، وأما الصانع الذي يتصرف إيجاباً وسلباً، أمانة، و خيانة، صموداً وانهياراً، إنما هو الانسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى لمدى التحامه مع هذا المثل الأعلى “((التفسير الموضوعي: 226، بالنسبة لنقد الصدر للمنهج الماركسي في عملية التغيير، انظر اقتصادنا: 78 ـ 81، وانظر نقد الصدر للبروليتاريا وعلاقتها بحركة التأريخ: اقتصادنا: 194 ـ 203.))

المستضعفون

وهنا يطرح الصدر مفهوم الاستضعاف كفئة اجتماعية تغير التأريخ وتغير مصير البشرية كلّها. يقول الصدر مفسراً للآية الكريمة (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا في الأَرضِ وَنَجعَلَهُم

أَئمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثِينَ)((سورة القصص: 5.)). لاحظوا كيف يسير العملان الثوريان جنباً إلى جنب. يجعل المستضعفين أئمة ويجعلهم الوارثين. وهذا يعني أن حلول المستضعفين محل المستغلين والمستثمرين وتسلمهم للمقاليد من أيديهم يواكب جعلهم أئمة أي تطهيرهم من الداخل والارتفاع بهم إلى مستوى القدوة والنموذج الإنساني الرفيع. ولهذا لن تكون عملية الاستبدال الثوري على يد الأنبياء كما استبدل الاقطاعي بالرأسمالي أو الرأسمالي بالبروليتاريا. أي مجرد تغيير لمواقع الاستغلال. وإنما هي تصفية نهائية للاستغلال ولكل ألوان الظلم البشري. “((الاسلام يقود الحياة: 28.))

فإذا كانت البروليتاريا تستمد مرجعيتها من التأريخ فإن المستضعفين يستمدون مرجعيتهم من القيم الأخلاقية، التي تتجاوز التأريخ فهي من حيث المصدر تتجاوز التأريخ لتغيره لا لتصبح مجرد انعكاس سلبي لحركة التأريخ على الطريقة الهيجلية ” كل واقعي معقول، وكل معقول واقعي ” فالماركسية تسير في أفق الفلسفة الهيجلية، فهي تُفسِر التغيرات الاجتماعية، وتُفسِر القيم الأخلاقية بإرجاعها إلى حركة التأريخ كمصدر يكفي نفسه بنفسه.

فالصدر يرى بأن البحث عن معنى للتأريخ يعبر في حد ذاته عن موقف معرفي ووجودي وأخلاقي في نفس الوقت، لكن ومن جهة أُخرى أّن ربط التأريخ بالقيم الأخلاقية يُبْعد الرؤية التأريخية عن «النهايات» الموهومة. حيث إنّ القيم الأخلاقية تفتح حركة التأريخ على آفاق واسعة، بل على آفاق لا نهاية لها إذا كانت هذه القيم ذات مصدر متعالي.((انظر: التفسير الموضوعي (تحليل الصدر للسنن التأريخية، وتحليله لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى الحقيقي وبالمثل العليا المزيفة أو التكرارية)حيث ينقد الصدر نقداً جذرياً الفلسفة الهيجلية والفلسفة الماركسية (والنظام المعرفي للفلسفة الغربية على العموم)في جوانبها المعرفية والفلسفية (فلسفة التأريخ وفلسفة الأخلاق).))

الالزام الخلقي بين الفلسفة الغربية وفلسفة الصدر

لا تُطرح الاخلاق على المستوى الطبيعي (الواقع كمعطى) بل تُطرح على مستوى آخر هو مستوى القيم.

إنّ الطابع المميز للقيم يكمن في تعاليها بالنسبة للحوادث، والتعالي يتضمن حتماً التجاوز،  تجاوز الأمر الواقع سواء كان متمثلا في بنيات المجتمع ومؤسساته، أو في الرغبات والميول العفوية.(4)

_______________________________

4- لذلك يرى الصدر بأنّ الواقع لا يمكن أن يكون مصدراً للقيم الأخلاقية، وهذا عكس مذهب المنفعة والبرجماتية ومذهب علماء الاجتماع في الأخلاق، فكلّ هذه المذاهب ترجع مصدر القيم الأخلاقية إلى الواقع كما يتجلّى في المنفعة أو المردود العملي أو المجتمع، فمذهب المنفعة يرجع معيارية الفعل الأخلاقي إلى الميول والرغبات، فهو ينظر إلى الطبيعة البشرية كنزوع لتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة والمنفعة، ونفس الأمر بالنسبة للمذهب البرجماتي الذي جعل المردود العملي مقياساً للخير والشر، أما علماء الاجتماع فقد جعلوا المجتمع مصدراً للأخلاق.

الصدر لا ينفي علاقة القيم الأخلاقيه بالواقع سواء في جانبها الاجتماعي أو الفردي أو المادي أو الروحي، فالصدر يؤكد على علاقة القيم الأخلاقية بالطبيعة البشرية، لكن الطبيعة البشرية ليست ـ في فلسفة الصدر ـ عبارة عن مجرد مجموعة من الميول والرغبات والغرائز، فالطبيعة البشرية تتضمن ـ في نظر الصدر ـ البعد المادي والأبعاد الأخرى كالبعد العقلي والعاطفي والروحي، فهي ـ من هذا المنظور ـ تطلع إلى ما يجب أن يكون.

على العموم يعتبر الصدر كلّ هذه المذاهب السابقة على أنها انتهت إلى جعل مثل مزيفة وتكرارية مصدراً للأخلاقية، اُنظر على سبيل المثال: الاسلام يقود الحياة: 158، وكذلك اقتصادنا: 267 ـ 268 ـ 305، وكذلك: التفسير الموضوعي: 165 ـ 166.

لا شك أن الواقع ضروري للأخلاقية، فالواقع يهيئ الأرضية لانطلاق عملية التقييم. لا يمكن طرح المشكلة الأخلاقية إلا بالنسبة لجانب من جوانب الواقع بغية تحويله وإصلاحه، لذلك فالتحليل الموضوعي للحياة الاجتماعية يفتح آفاقاً جديدة في المجال الاخلاقي. لكن يبقى دائماً أن هناك اختلافاً بين ميدان الواقع وميدان القيم. فالقيم الاخلاقية تتعالى على ميدان الحوادث كتعالي ما هو مثالي على ما هو واقعي، فدمج القيم في الواقع يعني في نظر الصدر نفيها وعدم الاعتراف بها كقيم، هذا من جهة. ومن جهة أُخرى إذا كان التأريخ هو الذي يصنع الانسان فإن الانسان بدوره هو الذي يصنع التأريخ، فالمؤثرات التأريخية والاجتماعية لا تؤثر بصورة آلية في الأفراد، فالانسان ليس مجرّد انعكاس للتاريخ وللمجتمع، فهو الذي ينشئ هذه المؤثرات ويساهم في تشكلها. فعملية التغيير لا تتم خارج الانسان كذات واعية. فالشرط الأولي والضروري للتغيير يكمن في استيعاب الانسان متطلبات التغيير كمتطلبات ملزمة تتخذ معنى الواجب الديني والاخلاقي أو هما معاً، كما يتجلى في فلسفة الاخلاق الاسلامية.((التفسير الموضوعي: 141 ـ 142.))

فلا يكفي في نظر الصدر أن تسن الدولة القوانين،  لكي تتحقق الحركة في المجتمع، بل من الضروري أن يستوعب الافراد هذه القوانين عن اقتناع داخلي يُحوّل هذا الاستيعاب إلى موقف أخلاقي تجاه متطلبات القوانين.((اقتصادنا: (المقدمة ـ خاصة صفحات: و ـ ز ـ ح).))

قصور الوعي القومي والوعي الطبقي

انطلاقاً من هذه الخلفية انتقد الصدر الوعي الطبقي والوعي القومي، كما حاولت الدول في العالم الإسلامي تطبيقها وربطها بمعركة التنمية.((نفس المصدر (مقدمة الكتاب كلها).))، إنّ عملية التغيير لن تتحقق إلا عن طريق مفاهيم وقيم معبئة، والتعبئة بدورها تستمد وجودها من الدين، فهنا يتجلى دور الضمير الخلقي وأهميته في عملية التغيير. فالقيمة الاخلاقية هي المعبئة في نظر الصدر وليس الاقتصاد في حد ذاته أو السياسة في حدّ ذاتها،

لذلك فالوعي التأريخي ـ في فلسفة الصدر ـ هو وعي أخلاقي في الأساس بل هو وعي تعبدي. يقول الصدر محللا علاقة الانسان بالمثل الأعلى الحقيقي ” حينما تتقدم الانسانية في هذا المسار واعية المثل الأعلى وعياً موضوعياً يكون التقدم تقدماً مسؤولا، يكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة يكون لهم امتداداً على الخط الطويل، وانسجاماً مع الوضع العريض للكون.”((التفسر الموضوعي: 181.))

فالوعي التأريخي هو وعي أخلاقي ذو أبعاد سياسية وحضارية. فالوعي التأريخي يتضمن حتماً ـ من هذا المنظور ـ رفض الواقع كنظام قائم، فإذا لم يكن هناك رفض فلا يمكن أن يكون هناك تغيير أو ثورة أو جهاد بصورة عامة. لكن الرفض لا يمكن أن يبرز إلى الوجود إلا بفضل القيم الأخلاقية فالانسان يرفض الأمر الواقع باسم قيم أخلاقية. أي يرفض ما هو كائن باسم ما ينبغي أن يكون. وهذا ما يشكل البعد النقدي الثوري للأخلاق في فلسفة الصدر.((التفسير الموضوعي: 193 ـ 194، وكذلك: الاسلام يقود الحياة: 156 ـ 160.))

ويمكن الاشاره في هذا السياق إلى أن الرؤية الإسلامية في المجال الأخلاقي ليست هي وحدها التي تجعل القيم تابعة للتعالي، فالقوانين والتشريعات الغربية تعتبر، كما يتجلى من الفكر الغربي، أن المبادئ تتجاوز إرادة الفرد وعقله، فالمبادئ والقيم تقتضي قوة إلزامية تستمدها من مصدر أعلى يتمثل في أغلبية برلمانية أو في ضمير جمعي أو الله في الرؤية الإسلامية، كما أشار إلى ذلك الباحث في الفكر الإسلامي فرانسوى بورجات (F.Burgat)((Fran Eois Burgat Lislamisme Ne Face Edition Fajeconete 1991 – PeoA 203

فرنسون بورجات: النزعة الاسلامية في المواجهة.)).

فلسفة الجهاد

وقد طرح الصدر مفهوم الجهاد في هذا الاطار: إطار العلاقة بين الفعل الأخلاقي والالزام. يرى الصدر أن الجهاد مبرر عقائدي وفلسفي وأخلاقي لعملية التغيير، فمفهوم الجهاد يملك الأساس الذي يستمد منه الفعل قوته الالزامية (النظرة إلى الكون ومعنى الوجود المرتبط بعلاقة الانسان بالمثل الأعلى) لأن الجهاد ليس من تصور الفكر البشري، بل هو واجب شرعي وقيمة ذات مصدر متعالي، أي قيمة ملزمة.((بالنسبة لإطلاقية مصدر الالزام انظر التفسير الموضوعي: 165 ـ 166. أما بالنسبة لمفهوم الجهاد (الجهاد الأكبر والجهاد الاصغر) فاُنظر: نفس المصدر: 206 ـ 207.))

الإنسان هو الأساس

إلزامية القيم تختلف جذرياً في نظر الصدر عن الضغط والاكراه، فالذات الانسانية هي أساس لكل تغيير اجتماعي وحضاري في فلسفة الصدر. إنّ أهمية دور الذات في العملية التغييرية (التحرر من الاستعمار، معركة التنمية، التحرر من السلطة الاستبدادية) مرتبط بصورة مباشرة بالقيم الاخلاقية. يرى الصدر أنّ الانسان كذات وكمجتمع هو الذي يقوم بالدور الفعال في كل التحولات الاجتماعية والحضارية،

مع العلم بأن الصدر يؤكد على دور المجتمع في عملية التغيير انطلاقاً من فكرة أساسية: المجتمع ليس حقيقة قائمة بذاتها كما هو الأمر عند علماء الاجتماع بل هو بعد من أبعاد الإنسان كذات واعية. فالصدر انتقد علم الاجتماع الغربي والفلسفة الغربية على العموم انطلاقاً من هذه الفكرة. يقول الصدر: “… هكذا تصور هيجل مثلا وجملة من الفلاسفة الأوروبيين، تصوروا عمل المجتمع بهذا النحو، أرادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد… كلّ فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد (أي المجتمع)… وكل فرد إنما هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي… إلا أن هذا التصور ليس صحيحاً… ليس عندنا إلا الأفراد… ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم… إنّ المجتمع يشكل أرضية له (أي لعمل الفرد) يشكل علة مادية له. يدخل حينئذ في سجل كتاب الاُمة الجاثية بين يدي ربّها. هذا هو ميزان الفرق بين العملين.”((التفسير الموضوعي: 99 ـ 100.))

فالوجود الاجتماعي يكون تعبيراً عن الوجود الفردي عندما يستبطن الفرد متطلبات التغيير كقيم أخلاقية ملزمة. وهكذا فالفرد كذات هو أساس التغيير لا المجتمع أو الضمير الجمعي أو الطبقه الاجتماعية أو البنية الاقتصادية وما تتضمنه من قوى الانتاج ووسائل الانتاج. يقول الصدر” وقد ذهبت الماركسية خطأً إلى ربط أشكال التوزيع بأشكال الانتاج، واعتبرت علاقات التوزيع بناءً علوياً حتمياً لعلاقات الانتاج. فكلّ علاقة انتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة… وعلى العكس من ذلك الاسلام فإنه لا يجد مصلحة الانتاج هي المبرر لعلاقات التوزيع وإنما يقيم هذه العلاقات على أساس قيم ثابتة،  وهي القيم الانسانية والربانية التي تعبر عنها خلافة الانسان في الأرض، وتؤكد الحق والعدل والمساواة والكرامة الانسانية.”((الإسلام يقود الحياة: 66 ـ 67.))

مصدر الالزام للقيم الاخلاقية

فحركة التأريخ تنطلق من القيم الأخلاقية المتجذرة في ذات الفرد والمجسدة لمعنى الوجود. فالقيم الاخلاقية تأخذ معناها وإلزاميتها من ربط الأرض بالسماء وعالم الشهادة بعالم الغيب.((اقتصادنا: (المقدمة)))، فالانسان لا يلتزم في نظر الصدر بالقيم الاخلاقية دون أن يعرف وضعيته في الكون. والقيم الاخلاقية بدورها تستمد حقيتها من معنى الوجود، وهكذا ما جعل القيم الاخلاقية تتميز عن اللحظة التأريخية (باستثناء المراحل التأريخية التي يوجد فيها معصوم،  الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم  السلام) فالقيم الأخلاقية تتجاوز التأريخ نظراً لمصدرها المتعالي،  لذلك فهي توجه حركة التأريخ. وهنا تكمن قوة فلسفة الصدر في معالجة المشكلة الاجتماعية وفي معالجة أزمه الحضارة الغربية المعاصرة. فالمذاهب الفلسفية التي جعلت القيم الأخلاقية مجرد انعكاس لحركة التأريخ اصطدمت بالعجز في تحديد الاطار المعرفي لتنظير حل أزمة الحضارة. فإذا كانت القيم الأخلاقية والمذاهب الفلسفية مجرد انعكاس لحركة التأريخ، فكيف يمكن حل

أزمة الحضارة؟ فالحل نفسه هو انعكاس لمرحلة تأريخية معينة. وهو بالتالي انعكاس للأزمة.((التفسير الموضوعي: 158 ـ 159.))، فالحل الصحيح يجب أن ينبع من حيث مصدره خارج الأزمة،  لكي يتمتع بالقوة النقدية وبالنظرة المستقبلية التي تسمح له بوضع أزمة الحضارة في موقعها من حركة التاريخ. وقد حلل الصدر هذه الفكرة في كل أبعادها في بحثه حول الامام المهدي عليه السلام وفي تحليله لمفهومي العصمة والغيبة، وعلاقتهما بحل المشكلة الاجتماعية ومشكلة أزمة الحضارة المعاصرة.((محمد باقر الصدر: بحث حول المهدي  مكتبة أهل البيت ـ باريس 1983م، خاصة: 38 ـ 49، ومن 57 ـ 63.))

ضرورة مطلقية القيم الاخلاقية

إنّ القيم الأخلاقية تفقد قوتها الالزامية إذا كانت نسبية، فالنسبية تُزيل عن القيم قدسيتها وقوتها الإلزامية. لقد انتهت الفلسفة الغربية إلى تفتيت القيم وتشتتها عن طريق النزعة التأريخية والنزعة الاجتماعية اللتين تجعلان المجتمع أو التأريخ المصدر الوحيد للقيم. ونفس الأمر بالنسبة لمذهب المنفعة الذي جعل المنفعة أساساً لعملية التقييم. فما ينفع هذا الفرد قد لا ينفع فرداً آخر. وهكذا تشتتت الأخلاقية في النسبية فأصبحت القيم عبثاً وانعكاساً للأمر الواقع ولأزمة الحضارة.

إنّ القيم تمثل ـ في نظر الصدر ـ ظاهرة كونية((هذا ما يتجلّى من خلال تحليل الصدر لعلاقه الانسان بالمثل الأعلى (مثل أعلى حقيقي أو مُثل عليا مزيفة) وما ينجم عن هذه العلاقة من تطلع، انظر التفسير الموضوعي.)) لا يمكن نفيها. فنفي القيم لا يتم إلا باسم قيم أخرى. لقد أراد نيتشه (Nietgache) مثلا أن يحطم قائمة القيم القديمة ولكنه وضع قائمة بديلة، فالقيم تستمد حقيقتها من كونيتها هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الانسان ينزع إلى اعتبار القيم قيماً كونية، فالانسان لا يلتزم بقيم يؤمن بأنها ستتغير، أو أنها قيم بالنسبة لهذا الفرد دون الآخر، فكونية الانسان من حيث هو خليفة الله في الأرض تلازمها كونية القيم.((انظر: الإسلام يقود الحياة، فصل خلافة الانسان وشهادة الانبياء: 129 ـ 172.))

وهكذا فالالزام لا يكون إلزاماً، أي قيمة أخلاقية مالم يكن عاماً وشاملا أي كونياً يشمل كل الأفراد والمجتمعات في كل زمان ومكان.

إنّ الكونية عنصر أساسي وجوهري في الدين الاسلامي. فالدين الاسلامي دين كوني هو الرسالة الخاتمة (قُل ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللهِ إليكُم جَمِيعاً)((الاعراف: 158))، فكونية الاسلام تلزم عنها كونية الاحكام الشرعية، وكونية الواجبات الاخلاقية أي كونية القيم وإلزاميتها بالنسبة لجميع الناس في كلّ زمان ومكان.((عالج الصدر هذه الفكرة وما يلزم عنها من إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير أو بين إطلاقية القيم وصيرورة التأريخ  في: التجديد والتغيير في النبوة ـ مؤسسة أهل البيت: في الزينبية ـ دمشق 1983م، وكذلك: محمد باقر الصدر ـ أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف. دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت (بدون تأريخ)ـ انظر كذلك تحليل الصدر لمفهوم منطقة الفراغ في اقتصادنا: 362 ـ 364.))

مع العلم بأنّ الالزام الخلقي يختلف عن ضرورة القانون الطبيعي. فالقانون الطبيعي ظاهرة وحكمه حكم واقع أو وجود، في حين أن الالزام الخلقي ليس ضرورة وجودية، بل هو ضرورة مثالية على حد تعبير محمد عبد الله دراز.((

محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ـ 33.

M. A. Deraz Doctrine Morale Du Coran P33.

أشار الصدر إلى هذه الفكرة في معالجته للسنن التأريخية والقوانين الطبيعية في التفسير الموضوعي ـ خاصة الدرس الخامس إبتداءً من: 75.))، أي الحكم الاخلاقي ليس حكم واقع ووجود، بل هو حكم قيمة ميدانه ما ينبغي أن يكون. فالقيمة الاخلاقية، من هذا المنظور، تفرض نفسها على الضمير.

القوانين الطبيعية والسنن التأريخية

أما الصدر فقد ميز هو الآخر بين القيم الاخلاقية والظواهر الطبيعية، كما أنه ميز في هذا السياق بين القوانين الطبيعية والسنن التأريخية على اعتبار أن إرادة الانسان (وما يلزم عنها من قيم روحية وأخلاقية) تتدخل في حركة التاريخ. لكنه من جهة اُخرى ربط الشريعة والقيم الروحية والاخلاقية بالشروط النفسية والاجتماعية والتاريخية لا من حيث المصدر،  لأن الشريعة ذات مصدر إلهي بل من حيث التأثير. ” إذن عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي صلى الله عليه وآله لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي. هي ربانية وهي فوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملا قائماً على الساحه التاريخية، من حيث كونها جهداً بشرياً يقاوم جهوداً بشرية اُخرى من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخياً تحكمه سنن التأريخ، وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى،  لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية،  ولهذا نرى أنّ القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس يتحدث عن بشر، لا يتحدث عن رسالة السماء، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشراً من البشر، تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الآخرين.”((التفسيرالموضوعي: 49 ـ 50.))

محدودية كانط وشمولية الصدر

أبعد كانط (Kant) القيم الاخلاقية عن ميول الفرد وعواطفه. أي أبعد الاخلاق عن النزعة التجريبية التي تربط الفعل بنتائجه. وأبعد كانط الاخلاق عن الروحانية كذلك، وركز الاخلاقية على العقلانية وحدها. الصدر تجاوز هذه الرؤية الجزئية إلى المشكلة الاخلاقية. عندما ربط الأخلاق بالعقلانية وبالروحانية و بالواقع في نفس الوقت. فالاخلاق الكانطية أخلاق صورية،  لأنّها جعلت صورية القانون أساساً للفعل الخلقي، فصورية القانون هي أساس للخير، في حين يرى الصدر بأن الرؤية الاسلامية إلى الاخلاق لا تعتبر بأنّ كونية القانون وإلزاميته هي التي تعطي للقيمة طابعها الأخلاقي، بل خيرية القيمة هي التي تجعلها قابلة للتعميم، أي تجعلها قيمة كونية. ليست القيم ـ في فلسفة الصدر ـ واجبات صورية يجب

تحقيقها بصورة قطعية دون النظر إلى الواقع بكل ثقله ومفرداته. فالقيم متعالية على الواقع من حيث المصدر ومن حيث الغاية والهدف، ومن هنا إلزاميتها، ولكنها مرتبطة بالواقع من حيث الممارسة أي مرتبطة بالواقع على صعيد تجسداتها في هذا الواقع.((نفس الملاحظة في المرجع رقم 95.))

وهكذا فالمشكلة الفلسفية المطروحة تتمثل في كيفية تبرير تعالي القيم الأخلاقية وإلزاميتها. فكانط يرى بأن القانون الاخلاقي أو الواجب هو قانون العقل نفسه. فكانط يرى بأن العلاقة بين العقل وبين كل البواعث المحسوسة والذاتية، التي تخضع لها الإرادة هي علاقة غير متجانسة بصورة جذرية. لذلك يتخذ قانون العقل تجاه الإرادة صورة الأمر القطعي، فقطعية الأمر (أي إلزاميته المطلقة) تكمن في كون الواجب يستمد صفة الوجوب والقطعية من الضرورة العقلية وحدها دون ارتباط بأي شرط أو غاية خارجة عن ذاته كواجب. فهذا الطابع يكفي في نظر كانط لتبرير أخلاقية الواجب وإلزاميته.((انظر إلى التحليل النقدي لفلسفة كانط الأخلاقية من طرف محمد عبد الله دراز في كتابه دستور الأخلاق في القرآن.))

أزمة علماء الاجتماع

أما علماء الاجتماع فإنهم يبررون إلزامية الواجب، أو القيم الأخلاقية بصورة عامة، بتعالي المجتمع على الأفراد. فالمجتمع هو مصدر القيم ومصدر قطعية الواجب الأخلاقي.

غير أن مشكلة التفسير الاجتماعي للأخلاقية وللطابع القطعي للقيم تبقى مطروحة لا يمكن جعل المجتمع مصدراً للقيم الاخلاقية ولإلزاميتها إلا إذا اعتبر المجتمع كمجتمع مثالي. بل يمكن القول: إنّ علماء الاجتماع قد ألّهوا المجتمعَ عندما جعلوه مصدراً للقيم الاخلاقية. فعلماء الاجتماع قد نظروا إلى المجتمع كقيمة وكمثل أعلى ـ كمثل أعلى مزيف في نظر الصدر ـ أكثر مما نظروا إليه كواقع. وفي كلتا الحالتين يقف أمام التفسير الاجتماعي للأخلاقية حاجز لا يمكن تجاوزه. في الحالة الاولى المجتمع ليس مجتمعاً مثالياً حتى يصبح مصدراً للإلزام. أما في الحالة الثانية ـ حالة اعتبار المجتمع كما هو في الواقع ـ فميدان ما هو كائن لا يمكن أن يكون مصدراً لميدان ما يجب أن يكون.((التفسير الموضوعي: 94 ـ 100، حيث انتقد الصدر نظرية علماء الاجتماع فيما يخصّ الأخلاق، وحاول أنّ ينسف النزعة الاجتماعية التي تُرجع كلّ شيء إلى المجتمع.))

الحل عند الصدر

لايمكن التكلم ـ في نظر الصدر ـ عن الالزام إلا بربطه بمصدره. فهناك ترابط وتلازم بين مصدر الاخلاقية والإلزام. ويمكن القول: إنّ الصدر حلّ مشكلة من أعقد المشاكل في المجال الفلسفي والاخلاقي. إنها مشكلة علاقة الانسان بالقيم الاخلاقية، وإلزامية هذه القيم ومصدرها. فالقيم الاخلاقية تعبر، في مستوى حياة الانسان، عن صفات الله وأخلاقه. فعلاقة الانسان بالله تحل مشكلة القيم الاخلاقية. لكن من جهة اُخرى إن الانسان يكتشف علاقته مع الله باستمرار انطلاقاً مع القيم الاخلاقية. أي انطلاقاً مع محاولته التعبدية للتخلق بصفات الله.((التفسير الموضوعي: خاصة إبتداءً من الدرس الثامن: 124.))

إنّ الكشف عن وجود مصدر للقيم يعني ـ من الناحية الفلسفية ـ الكشف عن طبيعة سلطة القيم ودرجة قوة هذه السلطة وما ينتج عنها من إلزام. كما انّ حلّ مشكلة مصدر القيم الاخلاقية هو حل لإشكالية العلاقة بين الإنسان والقيم وهو ـ في نفس الوقت ـ حلّ لمشكلة التغيير الاجتماعي والحضاري.((يرى الصدر بأنّ عملية التغيير لن تتحقق ما لم تعتبر من طرف الأفراد كعملية تغيير تستمد مشروعيتها من قيم أخلاقية ملزمة. أي من قيم أخلاقية ذات مصدر متعالي: انظر اقتصادنا (المقدمه خاصة صفحة م ـ ن)وكذلك: التفسير الموضوعي: 108 ـ 111.))

إنّ أخلاقية الانسان تبرز ـ في نظر الصدر ـ في اللحظة التي يقف فيها الانسان أمام متطلبات علاقته بالمطلق، ويكتشف نفسه كإنسان نتيجة لتجرده من طابعه الآني والفردي الضيق. ومن هنا يرى الصدر أن علاقة الانسان بالشريعة وبقيمها المطلقة هي التي تجعل الانسان يتحول من فرد إلى إنسان كوني. أي يصل إلى مستوى خلافته لله في الأرض.((الاسلام يقود الحياة: فصل خلافة الانسان وشهادة الأنبياء: 129 ـ خاصة 141 ـ 142.))، إن الفلسفة الغربية التي تسير في خط فلسفة ديكارت (Deacartea) تصطدم ” بالكوجيتو ” (Le cogito) كذاتية تعزل الانسان عن المجتمع. فالانسان كما يتجلى في ” بالكوجيتو “: (أنا أفكر إذن أنا موجود) لا يمكن أن يخرج من ذاته،  لينفتح على الآخرين باسم التضامن كقيمة أخلاقية. فالانتقال من الانطواء على الذات إلى الانفتاح على الآخرين عملية صعبة ـ أو على الاقل عملية تثير تناقضاً على الصعيد المنطقي والفلسفي ـ إذا تمت من خلال الذاتية المعبرة عن  الكوجيتو.

اختلاف فلسفة الصدر مع الفلسفة الغربية

إنّ رؤية الصدر إلى العلاقة بين معنى الوجود وتغيير العالم من جهة، ونظرته إلى العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة اُخرى، جعلت فلسفته تختلف عن الفلسفة الغربية. فكلّ سلوك يتضمن ـ في نظر الصدر ـ ذاتية الانسان و وعيه، كما يتضمن وجوداً اجتماعياً. فالفلسفة الغربية تتميز بالطرح الناقص للمشكلة الاجتماعية، والاخلاقية، وذلك من خلال نظرتها الأحادية، التي تركز على الفرد لتهمل المجتمع (المذهب الفردي والنزعة الفردية) أو تركز على المجتمع لتهمل الفرد (النزعة الاجتماعية). والطرح الناقص هذا يستمد وجوده ـ في نظر الصدر ـ من معالجة هذه المشكلة انطلاقاً من رؤية وضعية أو مادية تعزل الانسان عن الغيب. أي انطلاقاً من رؤية تنفي الجانب الروحي في الإنسان. فالصدر يرى بأن الفرد يتحول بفضل الروحانية الى ذات واعية بمسؤوليتها. أي يتحول إلى شخص وينتقل من دائرة الأنا الضيقة إلى الانفتاح على الآخرين،  على المجتمع وعلى الاُمة وعلى الانسانية جمعاء. إن وعي الفرد بوجود الآخرين والتزامه بوجودهم ينشأ من معنى الوجود الذي ينشأ بدوره من علاقة الانسان بالله،  لذلك يختلف الفرد كشخص أو ذات عن الفرد في كل النظامين الرأسمالي والأشتراكي في نظر الصدر. فالفرد في النظام الرأسمالي لا يخرج من دائرة الرؤية النفعية،  لذلك يسعى الافراد في هذا النظام إلى تحقيق رفاهيتهم، فالمنفعة وما ينتج عنها من

رغبة في الاشباع المادي هي القيمة العليا((اقتصادنا: 232 ـ 240.))، أما في النظام الاشتراكي الماركسي فالفرد مسحوق باستمرار من طرف أجهزة الدولة. فحركة التأريخ تقتضي في نظر ماركس (Marx)، أن يكون الفرد مجموع العلاقات الاجتماعية،  لتتمكن البشرية من إزالة الانانية وحب التملك، وتحقق وصولها إلى الشيوعية كمثل أعلى تنتهي إليه حتماً حركة التأريخ في نظر الماركسية((فلسفتنا: 33، وكذلك: اقتصادنا: 188 ـ 212.)).

أما الفرد في الرؤية الإسلامية كما تتجلى في كتابات الصدر، فهو يتجاوز ـ في حقيقته ـ المجتمع. المجتمع تعبير عن حقيقة الفرد. هو بُعد من أبعاد الحقيقة الانسانية المتمثلة في خلافة الانسان لله في الأرض.((الاسلام يقود الحياة: فصل خلافة الانسان وشهادة الانبياء: 129 ـ 172.))، والهدف الذي يتطلع إليه الانسان يفوق كلّ الاهداف (المثل العليا التكرارية). فكل الأهداف ليست إلا مجرد وسائل أو أهداف مزيفة أمام الهدف المطلق: المثل الأعلى الحقيقي،  لذلك فالرؤية الاخلاقية الاسلامية هي رؤية جهادية. فالفرد لا يسعى إلى مجرد إشباع الرغبات بل هو ـ بحكم علاقته بالمثل الأعلى ـ في موقف جهادي مستمر. وهذا الموقف الجهادي هو الذي يحرك التأريخ وينشئ الحضارة. فالفرد هنا هو ذات واعية، وليس مجرد سعي نحو الرفاهية كالفرد في النظام الرأسمالي. وليس مجرد عنصر ذائب في كتلة (المجتمع) كما هو الأمر في النظام الاشتراكي الماركسي، بل الفرد ذات واعية ومسؤولية في تطلع تعبدي مستمر نحو المثل الأعلى، وما ينتج عن هذا التطلع من انفتاح على المجتمع وعلى الانسانية.((التفسير الموضوعي: 144 ـ 155.))

عالم الذات

فعالم الذات لا يعني من هذا المنظور نفي عالم المجتمع، واللجوء إلى روحانية مريحة وغير ملتزمة. فليس هناك هروب من الواقع نحو مستقبل خيالي، أو أهداف مجردة ومثالية لتعويض قساوة الحاضر ومآسيه (كالاستبداد السياسي والتخلف والظلم الاجتماعي والتبعية للغرب…) بل عالم الذات، كما يتجلى في فلسفة الصدر متجذر في عالم المجتمع بكل أبعاده:

فالمجتمع بعد جوهري من أبعاد الذات. فالانسان لا يعبر عن مثاليته أي خلافته لله في الأرض في نظر الصدر إلا في المجتمع عن طريق تجسيد القيم الاخلاقية الملازمة للخلافة. فنحن هنا في مجال الأخلاق وفي مجال العبادة. وهذا التداخل هو الذي يميز الرؤية الاخلاقية في الاسلام.((نظام العبادات في الإسلام: الفصل الأول إبتداءً من: 24 ـ 30، ومن 38 ـ 41))، لا شك أن القيم الاخلاقية هي قيم ملزمة في نشر المذاهب الفلسفية. لكن درجة الالزام ـ وما ينجم عنها من إلتزام ـ تكون حسب مصدر القيم. أي حسب مصدر الالزام.

فالصدر ركز في تنظيره لفلسفة إعادة بناء الأمة الاسلامية على نظرة خاصة إلى الفرد في علاقته مع المجتمع، كما ركز على القيم الاخلاقية، وما تتضمنه من قوة إلزامية لما يستبطنها الأفراد عن اقتناع داخلي تقوائي ” وما من ريب في أن من أهم العوامل في نجاح المناهج التي تُتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانُهم بحقها في التنفيذ والتطبيق.”((اقتصادنا (المقدمة صفحة ـ ي).))

فالبعد الذاتي والبعد الاخلاقي عاملان جوهريان في عملية التغيير، فلا يمكن ـ في نظر الصدر ـ إحداث أي تغيير إلا انطلاقاً من الفرد كذات واعية وملتزمة بمتطلبات التغيير كقيم أخلاقية وواجبات شرعية في نفس الوقت.((فسّر الصدر الآية الكريمة: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد11) في هذا السياق: الاسلام يقود الحياة: 192. التفسير الموضوعي: 84 ـ 106.))

البعد الاجتماعي يأخذ دلالته ومعناه ـ في البداية ـ في ذات الفرد وضميره. فالبناء الاجتماعي يرتكز على درجة ومستوى استيعاب الأفراد للقيم الاخلاقية. العبادات كلها تؤكد على البعد الاجتماعي. ومن هنا فلا وجود لموقف تقوائي دون موقف أخلاقي واجتماعي. فالواجبات الشرعية تعبر عن علاقة الانسان التعبدية مع الله وعلاقة الانسان مع الانسان. كالتقرب من الله لا يؤدي في فلسفة الصدر إلى الفناء بمفهومه السلبي أي إلى تصوف سلبي يعتمد على روحانية مريحة، بل التقرب من الله يقتضي تجاوز الأمر الواقع وتجسيد قيمتي الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر.((التفسير الموضوعي: 206 ـ 207.))

دور الدولة وقوانينها

من الاسباب الرئيسية لفشل كل محاولة للنهضة في العالم الاسلامي ـ في نظر الصدر ـ اعتبار الدولة شرطاً كافياً لإحداث التقدم الحضاري. وكأن المسألة مجرد مسألة سن القوانين. هذا الموقف ينطلق من رؤية فلسفية تعتبر أن سعادة الفرد لن تتحقق إلا بإذابته في المجتمع أو الدولة. لا ينفي الصدر أهمية المجتمع والدولة في عملية التغيير. لكن المجتمع تعبير عن إنسانية الإنسان أو يجب أن يكون كذلك. والدولة تبقى فكرة مجردة إذا لم تستمد وجودها من الأفراد كذوات واعية ومسؤولة. فالصدر ينفي كلا من الجماعية والفردانية، ويطرح المشكلة الاخلاقية والاجتماعية من منظور رؤية فلسفية تعتبر أن الانسان له جانب متعالي، وأن المجتمع بعد من أبعاد الانسان وليس العكس. ومن هنا فالقوانين التي تسنها الدولة لا يستبطنها الأفراد عن اقتناع داخلي، ولن تكون ذات أثر على الحياه الاجتماعية ما لم تعبر عن قيم روحية وأخلاقية.((الاسلام يقود الحياة: فصل منابع القدرة في الدولة الاسلامية: 175 وما بعدها.))

بين الفرد والمجتمع

لقد واجه الصدر الواقع من خلال هذه الافكار والقيم مواجهة نقدية، فهو لم يخضع للوضع الاجتماعي والتأريخي السائد الذي كان يتمحور حول فكرة القومية، وحول فكرة الاشتراكية كمبدإ أو خيار لا رجعة

فيه، بل نظر الصدر إلى الواقع من خلال القيم والمفاهيم الاسلامية التي تعتبر أن هناك تكاملا بين الفرد والمجتمع، وأنّ القوانين تبقى مجردة  وصورية مالم تستمد إلزاميتها من القيم الروحية والاخلاقية الاسلامية.((اقتصادنا (المقدمة).))

لذلك يرى الصدر أن الطابع الأساسي للرؤية الاسلامية في مجال الاخلاق هو تجاوز المذاهب الفلسفية التي تحدث تناقضاً بين تفتح الذات والالتزام بتغيير المجتمع. فالإسلام يزيل هذا التناقض حيث يجعل قوة الذات شرطاً ضروياً لتغيير المجتمع، كما يجعل الاسلام. ـ تبعاً لذلك ـ المصلحة الخاصة ذات أبعاد اجتماعية،  ويجعل المصلحة العامة قيمة إلزامية لا مجرد نتيجة آلية للمصلحة الخاصة.

فالتناقض يكمن في نظر الصدر في ” ذلك الجدل الانساني… القائم بين حفنة التراب وبين أشواق الله سبحانه وتعالى. مالم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني، فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض.

ومن هنا يؤمن الاسلام بأن الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة… هو تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد: تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة. لكن في نفس الوقت، وقبل ذلك وبعد ذلك، تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للإنسان من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية. “((التفسير الموضوعي: 206 ـ 207.))

وهكذا فالتناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة لا يجد حلا له إلا عن طريق قيم روحية وأخلاقية ملزمة نتيجة لمصدرها المتعالي. يقول الصدر: ” ونخلص من ذلك كله إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية، وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبه لذاته. فهل كُتِب على الانسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة… وأن تشقى بهذه الفطرة؟

الحل الديني

وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحل الوحيد للمشكلة… ذلك أن الحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية،  لأن الدين هو الطاقة الروحيه، التي تستطيع أن تعوض الانسان عن لذائذه الموقوتة، التي يتركها في حياته أملا في النعيم الدائم… “((اقتصادنا: 285.))

فهناك تلازم بين الروحانية ـ وما ينجم عنها من معنى للوجود ـ والالتزام بتغيير العالم. فالروحانية بمفهومها الاسلامي تختلف عن كل أنواع الروحانيات الأخرى، التي أحدثت القطيعة بينها وبين تغيير العالم وتغيير وضعية الإنسان. فالارتباط بالله ينفي كل نظرة تجزيئية إلى الانسان. فعلاقة الانسان بالله هي عبادة وأخلاق وسياسة وحضارة في نفس الوقت. فالروحانية المعبرة عن هذه العلاقة تؤثر في الوجود الانساني

بكل أبعاده.((حلل الصدر فكرة الطرح الكلي للمشكلة الاجتماعية والتداخل بين الجوانب الروحية والأخلاقية والسياسية والحضارية في كلّ كتاباته تقريباً خاصة: اقتصادنا، التفسير الموضوعي، منابع القدرة في الدولة الاسلامية.))

مشكلة الفلاسفة في

مصدر الإلزام مشكلة مزمنة

إنّ أكثر المذاهب الفلسفية في مجال الاخلاق تتميز بالطرح الناقص لمشكلة الالزام. فهي إما أن ترتكز على الالزام كما هو الأمر عند كانط، الذي أرجع أخلاقية الفعل إلى الأوامر القطعية. في حين نفى فريد ريك روح (F. Rauh) الالزام وأسس الاخلاق خارج الرؤية الكانطية، أي أسس الاخلاق على عفوية الحياة النفسية.((فربدريك روح: التجربة الأخلاقية

Frederic RauhP: Liescjeriemce Morale – Alcan (Panis) 1921.))

غير أن الفلسفة الكانطية تصطدم بعائق في رؤيتها إلى الواجب. هذا العائق يشكل هوة في النسق الفلسفي الكانطي: فمن أين يَستمد الواجب قطعيته إذا لم تربط الاخلاق بالميتافيزيقيا؟ فالعقل المتعالي لا يكفي وحده لتبرير الواجب. إلزامية الواجب ليست إلا جزءاً من كل. إنها ترتبط بمعنى الوجود الذي لم يعالجه كانط معالجة فلسفية كافية. حيث سلم بالميتافيزيقيا وجعلها في نهاية مطاف رؤيته الاخلاقية بدلا من أن ينطلق منها. فمعقولية قطعية الواجب الاخلاقي يستمدها من كونيته، أي من كونية القيم الاخلاقية. وكونيته يستمدها من معنى الوجود كما يتجلى ذلك في فلسفة الصدر.

لقد تمت صياغة بعض المذاهب الاخلاقية في الفلسفة الغربية كرد فعل للمذهب الكانطي. فجعلت هذه المذاهب حرية وإرادة الحياة مصدراً للقيم الاخلاقية. فالقيم الأخلاقية لا توجد ـ في نظر هذه المذاهب ـ وجوداً قبلياً بل هي من خلق الانسان الذي يتجاوز نفسه،  ليتحول إلى إنسان أعلى كما يرى نيتشه (Nietgsche). لا شك في أن فريدريك روح (F. Rauh) يعترف بتعالي الواجب بالنسبة للفرد، ولكنه يرى ـ من جهة أخرى ـ بأنّ الفرد هو الذي يخلق القيم. كما أن روح (Rauh) يدعو إلى التحرر من المثل العليا، والتركيز على ما هو آني و حاضر. فبدلا من الخضوع لما يجب أن يكون يدعو روح (Rauh) إلى إخضاع ما يجب أن يكون إلى ما هو كائن.

وهكذا تشتت الأخلاق في راهنية الواقع وذاتية الفرد ونزواته. الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى وإلى زوال الاخلاق. ذلك أن التجربة لا يمكن أن تقود الضمير ـ فموضوع التجربة لا يتجاوز الحوادث ـ أي لا يتجاوز الواقع، في حين أن الضمير يستمد قوته من القيم. فحكم القيمة لا ينبثق من حكم الوجود.

وهكذا انقسمت الرؤية الاخلاقية في الفلسفه الغربية بين اتجاه يركز على إلزامية قطعية الواجب لا من موقع نتائج الفعل أو من موقع عوامل اُخرى، بل من موقع ارتباط الأخلاق بالعقل المتعالي على الواقع وعلى التجربة، بينما جعلت مذاهب اُخرى تجربة الانسان وحريته مصدراً للقيم الاخلاقية. وتعتبر هذه المذاهب الاخلاقية امتداداً لأصحابها في مجال نظرية المعرفة حيث تعددت المذاهب بين العقلانية والنزعة التجريبية، وبين المثالية والواقعية. وهذا راجع إلى أن كل مذهب أكد على جانب من جوانب الانسان

وأهمل الجوانب الاُخرى.

ويتجلى من خلال كتابات الصدر أن العملية المعرفية هي عملية معقدة وليست بسيطة بالشكل الذي طُرحت به من طرف سائر المذاهب الفلسفية. والواقع بدوره معقد لا يمكن استيعابه بصورة مبسطة كما يدعي كل من المذهب الواقعي والمذهب التجريبي. فللواقع بنيته وللعقل بنيته. ولو لم يكن الأمر كذلك لأصبح الواقع فوضى من جهة، ولفقد العقل هويته ومعقوليته من جهة اُخرى. كذلك هناك تطور وحركة في المجال المعرفي بفضل علاقة الذات العارفة بالموضوع. ويرى الصدر في هذا السياق أن الاستقراء ـ من حيث هو منهج علمي ـ ليس بسيطاً بالشكل الذي طُرح به من طرف المذهب التجريبي والمذهب المادي. فالإنسان ينفتح على المطلق عن طريق الاستقراء.((الأسس المنطقية للاستقراء: (خاصة مبحث البرهنة على وجود الله عن طريق الاستقراء) انظر كذلك: فلسفتنا.))

عالج الصدر المشكلة الاخلاقية انطلاقاً من هذه النظرة الشمولية فربط القيم بالواقع في أفق علاقة الكون بالمتعالي، وهي علاقة تتم في المجال الأخلاقي بفضل وعي الانسان الذي يربط بين الواقع والمثال، وبين النسبي والمطلق، فالإنسان هو الذي يحاول أن يقرب باستمرار بين إطلاقية القيم وتغيرات الواقع ومستجداته. فالأخلاق ليست مجرد أوامر قطعية كما يتجلى ذلك في فلسفة كانط. كما أن الأخلاق ليست موقفاً عفوياً ينبع من ذات الانسان على صورة إلهام وعواطف كما هو الأمر في فلسفة كل من برجسون (Bergson) وروح (Rauh) ونيتشه (Nietgsche) وغيرهم. فالأخلاق تتضمن ـ في فلسفة الصدر ـ العقل والعاطفة وإلزامية القيم في أفق علاقة الانسان بالله، وما ينجم عن ذلك من تطلع وقوة لتجاوز العقبات. “… فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمن التربية الثورية والخلفية النفسية الصالحة التي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، وتجعل من المستضعفين أئمة،  لكي يتحملوا أعباء الخلافة بحق ويكونوا هم الوارثين.”((الاسلام يقود الحياة: 159.))

الضمير بين الرؤية الوضعية والرؤية الاسلامية

الضمير الخلقي في المنظور الاسلامي الذي صاغه الصدر ليس ضميراً بالمفهوم الوضعي لكلمة ضمير. كما أنه ليس ضميراً بالمفهوم الكانطي الذي ربط الأخلاق بأنا متعالي ومجرد. فالضمير في فلسفة الصدر يخضع لرقابة غير منظورة. يقول الصدر محللا علاقة الانسان بالغيب تحليلا فلسفياً: ” وقد روضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة، قد تعبر في وعي المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى، وقد تعبر في ذهن مسلم آخر عن ضمير محدد وموجه. وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الاسلامي عن الاحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقيه بالطريقة التي أحس بها الانسان الأوروبي “((اقتصادنا: (المقدمة صفحة ـ م).))، فالضمير هنا هو ضمير إنسان ملتزم بمتطلبات الايمان. فهو ليس ضميراً يكفي نفسه

بنفسه، بل يستمد قوته التقييمية من إيمانه بالله ومن هدى الدين.((الاسلام يقود الحياة: 159 ـ وكذلك محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن: 92 ـ 93.

M. A. Deraz Pa Docbuine Morale Da coan P 92 – 93.))

فالضمير الخلقي من حيث هو جانب ذاتي في الانسان شرط ضروري للأخلاقية ولكنه ـ رغم أهميته ـ ليس شرطاً كافياً. فليس الضمير هو كل الاخلاق في نظر الصدر. فالأخلاقية لا تتحقق في ذات الانسان فحسب، وذلك رغم الأهمية لنية الفاعل. و إلا أصبحت الأخلاق مواقف مجردة يعيشها الانسان في ذاته دون التزام بقضايا المجتمع ودون الرجوع إلى الواقع. هذه الحالة الذاتية قد تصبح حالة تكفي نفسها بنفسها. فالمعايير الموضوعية ضرورية في عملية التقييم، فالاخلاقية ليس لها وجود فحسب بل لها وجود اجتماعي وحضاري. لا شك أن الصدر يختلف مع المذاهب الاجتماعية التي جعلت الاخلاقية مجرد انعكاس للحياة الاجتماعية، وجعلت الضمير الخلقي مجرد انعكاس ـ هو الآخر ـ للضمير الجمعي. لكن الصدر يرى بأن عملية التقييم ليست منفصلة عن الحياة الاجتماعية. فالمجتمع شرط ضروري للتقييم وللأخلاقية فالتقييم ينطلق من معايير ثابتة في أفق علاقتها بالمجتمع وبحركه التأريخ. وهكذا ينتهي الصدر إلى القول: إنّ المجتمع شرط ضروري للأخلاقية ولكنه ليس شرطاً كافياً.((التفسير الموضوعي: 99 ـ 100.))

مفهوم الضمير

وهكذا فالانسان كذات وكمجتمع عامل أساسي في عملية التقييم. لكن مفهوم الضمير في فلسفة الصدر هو مفهوم له خصوصيته. يرى الصدر بأن الحياة الروحية هي حياة أخلاقية على الصعيد الفردي والاجتماعي. إنّ الايمان بالله يقتضي مجاهدة مستمرة. لذلك فالله حاضر في الأخلاق حضور المعبود مع المتعبد. والضمير الخلقي في فلسفة الصدر يختلف عن الضمير الخلقي في كثير من مذاهب الفلسفة الغربية((اقتصادنا: 253.)). الضمير الخلقي في الفلسفة الغربية هو شعور مُقيّم لسلوك الانسان.

فلسفة الصدر الأخلاقية لا تنفي العملية التقييمية هذه، ولكنها عملية تقييمية تتم بالنظرإلى رقابة غير منظورة، أي تتم في أفق علاقة الانسان بالغيب. فالضمير الذي تتكلم عنه الفلسفة الغربية هو ضمير علماني في حين أن الضمير في فلسفة الصدر هو ضمير يستمد حقيقته ووجوده وقوته التقييمية من ارتباط الإنسان بالله. فالايمان بالله هو الطريق الحقيقي لتجسيد القيم الأخلاقية.((بحوث إسلامية: 37.))

إنّ الوظيفة الجوهرية للضمير الخلقي تكمن في إصداره للإحكام. والمشكلة الفلسفية هي كالتالي: ما هي خصوصية أحكام الضمير الخلقي؟ ما هي الصفات التي تميز الأحكام الخلقية عن الأحكام الاُخرى؟

يتميز الحكم الخلقي بتجذره في ذات الفرد. فالحكم الأخلاقي يعبر عن حرية الفرد وعن التزامه.((بحوث إسلامية: 41 ـ 42.))، فاستيعاب الذات للحكم الأخلاقي هو الذي يعطي طابعاً إلزامياً لهذا الحكم. فالقول بوجود ضمير خلقي

كبعد أساسي من أبعاد الرقابة غير المنظورة على حد تعبير الصدر ـ يعني ـ حتماً ـ القول باستقلالية ذات الانسان ومسؤوليتها. هذا ما يتجلى من تفسير الصدر للآية الكريمة: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيّرُ مَا بِقَوم حَتَّى يُغِيّروا مَا بِأنفُسِهِم)((الرعد: 11.))((التفسير الموضوعي: 105 ـ 106.)) وهذا ما يختلف جذرياً عن المذاهب الفلسفية والأخلاقية التي تبني الأخلاق خارج ذات الانسان (الضمير الجمعي عند دور كلييم أو وسائل الانتاج وتفاعلها مع البنيات الفوقية عند ماركس). فاستقلالية ذات الانسان، ودورها في الأخلاق، كل ذلك يتضمن بصورة مباشرة أن الضمير قوة تجعل الإنسان يتعالى على ذاته وعلى أوضاعه الراهنة ليتخذ منها موقفاً تقييمياً.

نسبية العقل عند الصدر وعند غيره

إنّ أهمية دور كل من العقل والعاطفة في المجال الأخلاقي لا يعني ـ في نظر الصدر ـ بأنّ الانسان يتمتع بكل الامكانيات المعرفية للتقييم وللتمييز بين الخير والشر بقطع النظر عن الدين.

لقد تجاوز الصدر التناقض الذي وقع فيه كانط عندما سلم بوجود الشيء في ذاته، ولكنه أرجع مصدر التقييم إلى ضمير الفرد. فكانط وصل إلى الميتافيزيقيا عن طريق الأخلاق نتيجة لنقده للعقل، ولكنه جعل هذا الأخير أداة للتقييم. فالعقل عند كانط نسبي وهو ـ في نفس الوقت ـ أداة للتقييم. في حين نلاحظ أن الصدر لم يقع في هذا التناقض، فالصدر ربط الأخلاق بالميتافيزيقيا، وانتقد العقل بربطه بالمطلق. وعلى الرغم من أن الصدر اعتبر العقل أداة معرفية نسبية، إلا أن النسبية عنده ليست نسبية عجز كما هو الأمر في فلسفة كانط، بل هي نسبية انفتاح وتجاوز بفضل تطلع الانسان إلى المثل الأعلى. بدليل أن الصدر صاغ الدليل الاستقرائي على وجود الله.((الأسس المنطقية للإستقراء.))، فالصدر نفى إطلاقية العقل كما أنه نفى ـ كذلك ـ نسبية العقل بالمعنى الكانطي، وبالمعنى الوضعي كذلك، حيث إنّ الفلسفة الوضعية حجزت العقل في دائرة التجربة، فارتباط العقل بالمطلق له نتائج معرفيه وتعبدية وأخلاقية.((التفسير الموضوعي: 144 ـ 147.)) انطلاقاً من هذه الخلفية أعاد الصدر صياغة مشكلة الحسن والقبح العقليين، ومعنى هذا أن التقييم الانساني للأفعال هو تقييم نسبي وليس تقييماً معصوماً. فالتقييم مرتبط في نظر الصدر بالعبادة. العبادة تعتبر تقييماً وتنظيماً إلهيين لعلاقة الانسان بالمطلق.((نظام العبادات في الإسلام (الفصل الأول: 11 ـ 41).))، فالضمير لا يمكن أن يكون وحده مصدراً للأخلاقية، فهناك رؤى مختلفة ولأخلاقية الفعل كالنيرفانا عند البوذيين، وكربط الأخلاق بالصراع الطبقي عند الماركسيين، وكالمنفعة واللذة عند

النفعيين… الخ وهذا ما يحتم اللجوء إلى مصدر متعالي ومطلق يمنح للقيم الأخلاقية الكونية قوة الالزام. فالرؤية الصدرية إلى مصدر القيم الأخلاقية هي رؤية متماسكة بفضل ربطها الأخلاق بالدين، وتحديدها للضمير ـ كرقابة غير منظورة ـ أي الضمير الخلقي ليس ضميراً وضعياً أو علمانياً بل هو ضمير يستمد تقييمه للأفعال من الدين ومن تطلع الانسان إلى الله((اقتصادنا (المقدمة صفحة ـ م)))

مصدر الاخلاق

وهكذا تختلف فلسفة الصدر عن كل المذاهب الأخلاقية، التي جعلت مصدر الأخلاق مفهوماً مجرداً كالعقل المتعالي عند كانط أو قوة خارجة عن الانسان كالضمير الجمعي أو وسائل الانتاج. فمصدر الأخلاق بالنسبة للصدر هو الله الحي القيوم، وليس مفهوماً مجرداً. مع العلم بأنه لا أخلاقية بدون ضمير. فالإلزام إذا كان مصدره خارج ذات الفرد يصبح إكراهاً لا إلزاماً أخلاقياً. فالضمير الخلقي له موقف فعال. فالإنسان لا يتطلع إلى ما ينبغي أن يكون ويستوعب القيم عن اقتناع داخلي إلا بفضل تدخل ذاته. فإلزامية القيم لا تفرض عليه فرضاً بل يتقبلها عن اقتناع داخلي، ويتطلع من خلالها إلى الله تطلعاً تعبدياً وجهادياً. على العموم عالج الصدر مشكلة الالزام الخلقي ومشكلة الضمير في إطار علاقة العقل بالدين، انطلاقاً من إلاهية الدين ونسبية العقل.

دور الذات

وهكذا فتأكيد الصدر على أهمية دور الذات في المجال الأخلاقي لا ينطلق من مبدإ إطلاقية ذات الانسان على غرار الفلسفة الوجودية التي انتهت إلى القول: إنّ الإنسان هو الذي يخلق القيم. ” فالإنسان حسب النظرية الوجودية (مذهب سارتر Sartre) حرية مطلقة ودفعة لايقيدها قيد ولا يكبحها ضابط، فلا إله ولا دين ولا أخلاق ثابتة، وهكذا يتمزق الانسان الأوروبي بين الدعوات المتضادة دون أن يهتدي إلى السبيل القويم”((رسالتنا: 91.))

فذات الانسان في فلسفة الصدر، هي ذات مرتبطة بالله ضمن علاقة تعبدية. مع العلم بأن فلسفة الأخلاق عند الصدر تختلف كذلك عن المذاهب الأخلاقية، التي انتهت إلى حصر الأخلاق في دائرة التأمل والروحانية غير الملتزمة بقضايا الاُمة على غرار بعض اتجاهات التصوف.

التغيير الاجتماعي والوعي الاخلاقي

غير أن الالتزام في فلسفة الصدر الأخلاقية هو التزام له خصوصيته عندما تتم مقارنته بسائر المذاهب الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. إنّ عملية التغيير تركز في الأساس على الأخلاق في نظر الصدر. لا يمكن أن يتحقق تغيير في المجتمع مالم يقع هذا التغيير بصورة إرادية في كل فرد. إنّ تحرر المجتمع يبدأ بتحرير الفرد لنفسه أي باستبطان متطلبات التغيير عن اقتناع داخلي يأخذ صورة العبادة،  لأنه طاعة إرادية ومسؤولية أمام رقابة غير منظورة. فإذا كان الهدف من الصراع ضد الاستعمار وضد التخلف تغيير البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغييراً جذرياً، فإن العامل الأساسي والحاسم في عملية التحرر هو عامل روحي وأخلاقي في نظر الصدر. فالقيم الروحية والأخلاقية المرتبطة بمعنى الوجود هي وحدها التي

تدفع بالأفراد إلى التضحية بمصالحهم الآنية.((اقتصادنا: 285 ـ 286.)) لذلك أكد الصدر على أولوية القوى الروحية والأخلاقية في الثورات وفي معركة التنمية.((التفسير الموضوعي: 193 ـ 194، وكذلك اقتصادنا (المقدمة)))

إنّ الوعي الثوري هو وعي أخلاقي في نظر الصدر،  لأنّه وعي للاختلاف الجذري بين الواقع الراهن وبين ما يجب أن يكون، فمتطلبات التغيير لا تفرض على الانسان من خارج ذاته، بل تنبع من ذاته في صورة اقتناع داخلي. فلا يكفي للدولة ـ في نظر الصدر ـ أن تسن القوانين أو تفرض نموذجاً للتنمية لكي يتحقق التغيير. لا يمكن لحزب معين أن يقود الناس دون أن يقتنعوا بمتطلبات التغيير كمتطلبات تأخذ معنى الواجب الأخلاقي. إن الوعي الطبقي والقومي هو ـ بدوره ـ وعي منفعل في نظر الصدر وليس وعياً فعالا. فالأفراد يتأثرون بهذا الوعي تأثراً سلبياً في العالم الإسلامي،  لأنّ هذا الوعي لا ينبع من ذواتهم عن اقتناع داخلي. فهو لم يصل إلى مستوى إلزامية الواجب الديني أو الأخلاقي. ولن يصل إلى هذا المستوى ـ في نظر الصدر ـ لأن مفاهيم الطبقية والاشتراكية، وكذلك مفهوم القومية هي مفاهيم غريبة عن ذهنية إنسان العالم الإسلامي وعواطفه. فلا يستوعبها من موقع مسؤوليته ولا يعتبرها مفاهيم معبئة. وعلى العكس من ذلك فإن الوعي بالانتماء إلى الأمة الإسلامية ـ وما يلازمه من قيم اجتماعية وحضارية ـ هو وعي مسؤول وملتزم التزاماً تعبدياً وأخلاقياً.(( اقتصادنا (المقدمة خاصة: صفحات (و ـ ز ـ ح ـ ط ـ ص).))

وقد لجأت الفلسفة الغربية المعاصرة في هذه العقود الأخيرة إلى مفهوم جديد بدلا من الروحانية والقيم الأخلاقية. حيث إنّها رأت بأن البنيات الاجتماعية والاقتصادية لا تتغير إلا بفضل قوى إيديولوجية.

أما بالنسبة للصدر فإن الإيديولوجية تتمثل في الرؤية الإسلامية، في العقيدة الاسلامية ذات المصدر الإلهي، وما ينجم عن هذه العقيدة من روحانية وعواطف ومفاهيم وقيم أخلاقية معبئة.((اقتصادنا: 270 ـ 271.))

وهكذا فموقف الصدر من عملية التغيير يختلف جذرياً عن الموقف الماركسي، وعن موقف علم الاجتماع الغربي على العموم، فالصدر يرى أن الوعي بمتطلبات التغيير وبإلزامية هذه المتطلبات ليس مجرد انعكاس لعوامل اجتماعية أو اقتصادية أو تأريخية، فالوعي بإلزامية التغيير لا يستمد وجوده من عوامل خارجية (خارجة عن ذات الفرد) سواء كانت مجتمعاً أو تأريخاً أو دولة أو حزباً، الظروف الاجتماعية والتأريخية لا تنتج وعياً في ذات الفرد بصورة آلية، فهي تحدد الإطار العام الذي يمارس فيه الانسان القيم الاخلاقية وتحدد الشروط العامة للتغيير.

فنقدُ الصدر للمذاهب الفلسفية التي تجعل من المجتمع أو التأريخ مصدراً للأخلاقية، لم يجعل الصدر يركز على الأخلاق وحدها في عملية تغيير المجتمع والحضارة، فالضمير الخلقي عند الصدر ليس ضميراً عفوياً ومجرداً، بل هو ضمير مرتبط بالمجتمع وبالتأريخ، ومرتكز على معرفة القوانين (السنن) الموضوعية لحركة

التأريخ.((ربط الصدر بين القيم الأخلاقية والروحية والسنن التأريخية، وقد صاغ الصدر هذه الفكرة صياغة علمية وفلسفية وصلت إلى مستوى النظرية. انظر التفسير الموضوعي.))

مصدر القيم الأخلاقية

قيم الحداثة

إنّ فلسفة الأخلاق عند الصدر تلتقي مع الفلسفات والايديولوجيات، التي ظهرت إلى الوجود منذ ظهور الحداثة في الغرب، وهي تيارات فلسفية أكدت على مجموعة من القيم كالحرية والمساواة والعدالة والتقدم، غير أن هذه القيم ليست واضحة بذاتها، فقد تؤدي أحياناً إلى تناقضات. فهذه القيم ليست لها نفس الدلالة في فلسفة الصدر. ومن هنا ضرورة توضيح هذه القيم في جانبها المفهومي. إنّ العامل الرئيسي في غموض هذه القيم وفي تناقضها عندما تتم مقارنتها مع فلسفة الأخلاق في الاسلام يكمن في أساسها الوجودي، أي في نوع المصدر الذي تنطلق منه هذه القيم. فالفلسفة الغربية تجعل من التأريخ ومن المجتمع والانسان مصدراً لهذه القيم، في حين أن فلسفة الصدر ترى عكس ذلك تماماً، فالإنسان ليس مصدراً لهذه القيم والمجتمع والتأريخ كذلك،  لأن هذا المصدر يؤدي إلى تناقض، فكيف يصبح ماهو كائن مصدراً لما يجب أن يكون؟ ! فالإنسان والمجتمع والتأريخ كل هذه الجوانب تعبر عمّا هو كائن، والقيم تعبر عن القدرة على تجاوز الواقع لإصلاحه وتغييره، فلولا القدرة على التجاوز لما كان أي تغيير ممكناً، ولخضع الإنسان لحتمية مطلقة وقاهرة.

وقد صارت هذه القيم (الحرية والمساواة والعدالة والتقدم التي نادت بها الحداثة في الغرب) وسيلة لأبشع الأعمال. لقد استعمرت الشعوب، واستغلت وأبيدت الأقليات باسم الحرية وباسم التقدم والحداثة. فالغرب قد ” استرقّ وجوّع وسد منافذ العلم والحضارة عمّن تسلط عليهم من الناس، وخلَّف عالماً يئن من الجور والطغيان والعذاب، عالماً تمزقه البغضاء والحروب.”(( رسالتنا: 65 ـ 66.))، و كلّ هذا وقع،  لأنّ هذه القيم في حاجة إلى مصدر يعطيها قدسيتها وتعاليمها على الواقع وعلى التأريخ. فالقيم التي تستمد مصدرها من الواقع ومن التأريخ ـ كمصدر يكفي نفسه بنفسه ـ هي مجرّد قيم تبرر الواقع بدلا من تغييره. ففلسفة الصدر الأخلاقية لا تلتقي مع الفلسفة الغربية فيما يخص قيم الحرية والمساواة والعدالة والتقدم إلا لتتجاوزها، فهذه القيم لها صورتها الخاصة وتأثيرها الخاص في الرؤية الاسلامية. إنّها تمثل بفضل مصدرها المتعالي أهدافاً يجب التطلع إليها باستمرار، ويجب النظر إليها كواجبات شرعية،  لذلك لا يمكن لهذه القيم  ـ من هذا المنظور ـ أن تنحرف على غرار ما وقع لقيم الحداثة في الغرب.

إضافة لما سبق فإنّ هذه القيم مرتبطة بالقانون في النظام الرأسمالي، فالناس متساوون أمام القانون حتى ولو كانت أوضاعهم الاجتماعية مختلفة. أما في النظام الاشتراكي فهذه القيم تمثل هدفاً يقود السياسة ويوجهها. مع العلم بأن البنية الاقتصادية هي مصدر هذه القيم، وكل القيم الأخلاقية بالنسبة لماركس. في

حين أن هذه القيم في الرؤية الاسلامية هي واجبات شرعية ذات أبعاد أخلاقية وحضارية.((الاسلام يقود الحياة: 66 ـ 69.))

الموقف من قيم الحداثة

ومن هنا يكفي للفرد في النظام الرأسمالي في موقفه من القيم أن يحترم القانون. ويكفي للفرد في النظام الاشتراكي في موقفه من هذه القيم (قيم الحداثة) أن يلتزم في المجال السياسي، أي يلتزم مع متطلبات الطبقة الحاكمة (البروليتاريا). أما في الرؤية الاسلامية فالفرد لا يكتفي بهذه المواقف، فهو تجاه قيم تخص ذاته في علاقتها مع الله وفي علاقتها بالمصير الدنيوي والأُخروي معاً،  لذلك فموقفه من هذه القيم هو موقف تعبدي، وليس مجرد موقف احترام وانتماء. إضافة إلى ما تقدم فإنّ التقدم في الرؤية الاشتراكية هو تعبير عن سير حتمي ـ باسم قوانين التأريخ ـ نحو المجتمع الشيوعي كهدف نهائي لحركة التأريخ. أما في فلسفة الصدر فإنّ التقدم هو نتيجة لاستبطان الانسان لصفات الله وأسمائه كقيم مطلقة، يجب التخلق بها من موقع تعبدي يعبر عن علاقة الانسان بالمطلق. فالتقدم ـ من هذا المنظور ـ ليس تعبيراً عن حركة حتمية تفرض على الإنسان، وليس تعبيراً عن حركة التأريخ كقوة تكفي نفسها بنفسها ـ بل هو تعبير عن العبادة ـ فحركة التأريخ كلها تعبير عن عبادة الإنسان لله.((التفسير الموضوعي: 181.))، والعبادة هنا ليست مجرّد حالة روحية مريحة، بل هي جهد وجهاد. فحركة التأريخ التي تصل الى مستوى العبادة تعني أنّ الإنسان هو العامل الرئيسي في كلّ التحولات الاجتماعية والتأريخية، وهذه الرؤية إلى الانسان تقتضي بدورها ـ وسائل تحقيقها ـ أي تقتضي رؤية اقتصادية معينة، ورؤية سياسية وحضارية معينة وهذا ما حاول الصدر أن يقدمه من خلال كتاباته في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفي مجال العقيدة (إقتصادنا، خلافة الانسان وشهادة الانبياء، التفسير الموضوعي… الخ).

الحداثة الملحدة

تتضمن الحداثة في المنظور الغربي نفي وجود الله. الإطار العام للحداثة ولمنطلقاتها كما تتجلى في فلسفة الأنوار هو أن الفكر البشري أصبح غير محتاج لوجود الله لتفسير العالم ولتأسيس القيم الأخلاقية. لقد اتسع مجال تحرر الانسان حسب هذه الفلسفة، نتيجة لنفي وجود الله أو فصل السياسة عن الدين. وقد حلل الصدر هذه المشكلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الصعيد المنهجي والميتافيزيقي والأخلاقي: ” الانسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا أعلى وهو الحرية… لأنه رأى أن الانسان الغربي كان محطماً ومقيداً… كان مقيداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنت الكنيسة… أراد الانسان الأوروبي الرائد لعصر النهضة أن يحرر هذا الانسان من هذه القيود… وهذا شيء صحيح إلا أن الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم الأفقي. فإنّ هذه الحرية بمعنى كسر القيود… هذا قيمة من القيم، هذا إطار القيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان. ليس هذا هو المثل الأعلى… هذا الإطار بحاجة إلى محتوى و إلى مضمون. وإذا جرد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم…”((نفس المصدر: 167 ـ 168.)).

مصدر الإلزام

فالقيم لا معنى لها إذا لم تكن كونية وملزمة. ولا تكون كذلك إلا إذا استمدت وجودها وإلزاميتها من مصدر متعالي.

لا أخلاقية بدون إلزام. فالإنسان مدفوع بالضرورة للبحث عن أساس ومصدر للإلزام الخلقي. إنّ البحث عن مصدر الأخلاقية ليس ضرورة فلسفية وعقلية فحسب، بل هو ضرورة وجودية يرتبط بها قيام الأخلاق ارتباطاً جوهرياً.

والمشكل الذي طرحه الصدر في سياق معالجته لمصدر القيم الأخلاقية هو مدى قدرة الفلسفة الغربية على إرضاء هذه الحاجة: حاجة الانسان إلى تأسيس الأخلاق، وحاجة الفكر إلى الوصول إلى مصدر الأخلاق. الفلسفة الغربية ـ منذ عصر الأنوار ـ جعلت الطبيعة البشرية مصدراً للأخلاق بدلا من الله. ثم اختلف الفلاسفة عن جانب من جوانب الطبيعة البشرية الذي يشكل مصدر الأخلاق: هل هو العقل أم العاطفة أم الميول والرغبات؟ ثم تطور الفكر الفلسفي وظهرت النزعة الاجتماعية والنزعة التأريخية كمذهبين،  جعل الأول المجتمع مصدراً للأخلاق، وجعل الثاني التأريخ هو المصدر.

مصدر القيم عند الصدر

إن مشكلة مصدر القيم الأخلاقية أمر مفروغ منه بالنسبة للصدر. فالإطار العام للأخلاقية يستمد صورته من الشريعة ومن الفقه. إن العبادة تحدد الطرح الفلسفي لمصدر الأخلاقية. فمصدر القيم هو الله. أما الفقه ـ خاصة في جانبه المنهجي أي أصول الفقه ـ بما يتضمنه من اجتهاد انطلاقاً من الشريعة كحقيقة إلهية مطلقة، فيحدد علاقة القيم بحركة التأريخ عن طريق منهجية منطقة الفراغ((كلّ هذه الأفكار محللة تحليلا فلسفياً في: التجديد والتغيير في النبوة، نظام العبادات في الاسلام التفسير الموضوعي، اقتصادنا، رسالتنا… الخ.))

لذلك فالاخلاق في فلسفة الصدر ليست أخلاق الضغط على غرار ما تراه المذاهب الفلسفية، التي جعلت مصدر الأخلاق خارجاً عن تطلعات الانسان كالنزعة الاجتماعية، كما تتجلى عند دور خايم والنزعة التأريخية عند هيجل. وليست أخلاق الواجب من أجل الواجب على طريقة المذهب الكانطي، الذي جعل إطلاقية الأمر الأخلاقي تكفي نفسها بنفسها. فعلاقة الإنسان بالقيم الأخلاقية هي علاقة تعبدية مبنية على تقوى الله. فهناك تداخل بين التعبد والأخلاق. لا شك أن الأخلاق لا تخلو ـ في نظر الصدر ـ من جانبي الأمر والنهي، لكن جانب التطلع هو الذي يعطي للأخلاق حقيقتها. الأمر له طابع خاص في الأخلاق الإسلامية، إنّه ” رقابة غير منظورة ” على حد تعبير الصدر. أي تستبطنه الذات عن اقتناع داخلي مبني على التقوى وعلى التطلع الجهادي التعبدي، الذي ينشأ عن علاقة الانسان بالمطلق.((نسف الصدر أخلاق الضغط من الأساس عن طريقة تحليله الفلسفي لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى ـ انظر التفسير الموضوعي ابتداءً من: 123.))

تقوقع الفلسفة الغربية وانطلاقة فلسفة الصدر

لقد حجزت الفلسفة الغربية نفسها داخل إشكالية العلاقة بين الماهية والوجود، ونقطة الضعف في

الفلسفة الغربية لا تكمن في هذه الإشكالية في حد ذاتها، بل يكمن ضعفها في الطرح الجزئي والناقص لهذا المشكل، بحيث إنّ أكثر المذاهب الفلسفية أكدت على جانب، وأهملت الجانب أو الجوانب الاُخرى، فأصبحت الفلسفة الغربية، نتيجة لذلك، تتأرجح بين التأكيد على الماهية وبين التأكيد على الوجود. وفي هذا السياق يقدم الصدر أطروحته التي تجاوزت هذا الطرح الناقص لمشكلة العلاقة بين الماهية والوجود في حياة الانسان، إن وجود الانسان يتخذ موقعه ـ في نظر الصدر ـ خارج نفسه، بمعنى أن الانسان يتجاوز وجوده، فهو يتطلع باستمرار نحو تحقيق هدف أو هدف أسمى، فوجوده ليس وجوداً معطى، أي ليس وجوداً متحققاً منذ البداية وخارج حركة التأريخ، كما أنّ ماهيته ليست هي ما هو كائن، ليست حالة تامة فماهية الانسان و وجوده في تحقق مستمر. هذا ما يتجلى من تحليل الصدر لمفهوم خلافة الانسان.((الاسلام يقود الحياة (فصل خلافة الانسان وشهادة الانبياء: 129).))فهذا المفهوم يجمع بين الماهية والوجود في أفق علاقتهما بالمثل الأعلى، فعلاقة الانسان ـ من حيث هو خليفة ـ بالمثل الأعلى هي التي تجعل كلا من ماهيته ووجوده في حركة مستمرة، فحقيقة الانسان تكمن ـ في نظر الصدر ـ في تطلعه المستمر نحو المثل الأعلى، فوجود الانسان يستمد أساسه و معناه من علاقته بالمثل الأعلى (والمثل الأعلى يكون مزيفاً أو حقيقياً).

بين الصدر وأفلاطون

وهنا يتجلى الفرق بين فلسفة الصدر وفلسفة أفلاطون، لا شك أنّ أفلاطون قد ربط الوجود الانساني بوجود عالم مثالي، ونظر إلى العلاقة بينهما على أنها علاقة تطلع، غير أنّ أفلاطون يرى بأنّ الوجود (الوجود الانساني) ظل لعالم المثل، وأنّه وجود ناقص. فالتطلع إلى عالم المثل هنا هو تطلع يتم عن طريق الابتعاد عن العالم المادي،  لأنّه عالم ناقص، فهو مجرد نسخة ظلية لعالم المثل. وليس الأمر كذلك في فلسفة الصدر حيث إنّ كل جوانب هذا الوجود (المادية والمعنوية) في آيات تعبر عن قدرة الخالق ورحمته، ومن هنا الاختلاف بين الروحانية الأفلاطونية والروحانية الاسلامية. وتجدر الإشارة إلى أنّ أكثر الفلاسفة المسلمين لم يستوعبوا هذه الفكرة وراحوا يوفقون بين الشريعة وفلسفة أفلاطون أو الفلسفة اليونانية على العموم. في حين أن الصدر استوعب بعمق الاختلاف الجذري بين الروحانيتين الافلاطونية (اليونانية) والإسلامية، فالروحانية الافلاطونية ترى بأن كمال الإنسان يكمن في ابتعاده عن العالم المادي للتقرب أكثر فأكثر من عالم المثل (هذا هو الجدل الصاعد حسب تعبير أفلاطون) أما الروحانية الإسلامية كما صاغها الصدر فهي روحانية الإنسان الخليفة، الذي يعبر عن خلافته ضمن علاقته بظواهر الكون من حيث هي آيات تتجلى عن طريقها علاقة الوجود بالله. وهكذا فهناك تطلع وحركة في فلسفة كل من افلاطون والصدر. لكن هناك اختلاف في حقيقة هذه الحركة وأبعادها، الحركة عند افلاطون تأملية، أما عند الصدر فالحركة جهادية ثورية تسعى إلى تغيير المجتمع والطبيعة، وهناك اختلاف كذلك في الهدف أو الغاية القصوى، التي تسعى نحوها حركة الانسان. المثل الافلاطونية مثل غامضة ليس لها كيان واضح والله مفهوم مجرد أكثر مما هو إله حي يرتبط به الانسان ضمن علاقة ذاتية شخصية، وليس الأمر كذلك بالنسبة لهدف حركة الانسان في فلسفة الصدر (فالمثل الأعلى حي قيوم له الصفات والأسماء الحسنى، فهو ليس مجرد هدف صاغه عقل الإنسان، بل المثل الأعلى (الله سبحانه وتعالى) قد اتصل بالإنسان عن طريق

الرسالات السماوية إضافة إلى اتصاله بالإنسان عن طريق الطبيعة البشرية، أي عن طريق الفطرة وما تتضمنه من تطلع نحو الخالق. يقول الصدر في هذا السياق مقارناً بين آثار العقيدة وحب الله في حياة الامام علي عليه السلام وبين القول بوجود الله عند الفلاسفة: “… هذه الشجاعة خلقها في قلب علي عليه السلام حبُّه لله، لا اعتقاده بوجود الله. هذا الاعتقاد الذي يشاركه فيه فلاسفة الاغريق أيضاً، أرسطو أيضاً يعتقد بوجود الله، افلاطون أيضاً يعتقد بوجود الله، الفارابي أيضاً يعتقد بوجود الله، ماذا صنع هؤلاء للبشرية، وماذا صنعوا للدين أو الدنيا؟ ليس الاعتقاد وإنما حب الله إضافة إلى الاعتقاد، هذا هو الذي صنع هذه المواقف…”((التفسير الموضوعي: 251.))

مع سارتر وبرجسون

على العموم الوجود مرتبط بالتعالي في كل من فلسفة أفلاطون وفلسفة الصدر وتعتبر هذه العلاقة أساساً للقيم. فالوجود في حد ذاته لا يحتوي على مبدإللتقييم. وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه كل من الفلسفة الوجودية والفلسفة البرجسونية، فالفلسفة الوجودية كما تتجلى عند سارتر تخلت عن طرح مشكلة مصدر الوجود، وانتهت إلى التأكيد على مقولتي العبث والرعب الميتافيزيقي، كما أنّها ـ بنفيها للمصدر المتعالي للوجود ـ لم تستطع أن تُبرّر إلزامية القيم الأخلاقية.((رسالتنا: 91 ـ فلسفتنا: 25.)) أما فلسفة برجسون (Bergson) فلم تُبرّر هي الاُخرى إطلاقية القيم الأخلاقية وإلزاميتها، وذلك راجع إلى أن هذه الفلسفة جعلت من الوجود تطوراً خلاقاً وقوة تكفي نفسها بنفسها. فبرجسون يرى بأنّ للأخلاق مصدرين: مصدر يتمثل في المجتمع وما يتميز به من ضغط على الأفراد. ومصدر آخر يتمثل في انجذاب الانسان وتطلعه إلى ما يجب أن يكون. فهناك أخلاق الضغط التي تميز في نظر برجسون، الأخلاق المغلقة، وهناك أخلاق التطلع الملازمة للأخلاق المفتوحة. وهي أخلاق التطلع إلى مثل أعلى. ويرى برجسون بأنّ هذه الأخلاق خاصة بكائنات استثنائية تجسد القيم الأخلاقية في الواقع، وتصبح مثلا عليا تجذب الأفراد. فالكائن الاستثنائي هو الذي يقود المجتمع وليس العكس.

عندما ننظر إلى فلسفة الأخلاق البرجسونية من خلال طرح الصدر للمشكلة الأخلاقية نلاحظ تباعد وجهة النظر بين الفيلسوفين. فكرة الالزام تبقى غائمة في فلسفة برجسون. فأخلاق الضغط تتناقض مع الالزام كفعل إرادي.((يمكن أن نشير هنا إلى مفهوم المثل العليا التكرارية، هذا المفهوم يعبر عن أخلاق الضغط، أي عن الأخلاق المحدودة بمحدودية مثلها ـ انظر التفسير الموضوعي: 164 ـ 168.)) كما أن أخلاق التطلع التي طرحها برجسون هي مجرّد حالة عاطفية انفعالية تدفع الفرد دفعاً. فالضمير الخلقي كقوة تستبطن الفعل الخلقي وتستوعبه يكاد يكون غير موجود في فلسفة برجسون. فالأخلاق البرجسونية هي مجرّد خضوع لضغط خارجي (الأخلاق المغلقة التي تعبر عن المجتمعات المغلقة). أو هي مجرّد دفع وانجذاب نحو مثل أعلى غير محدّد.

لقد ركز الصدر الأخلاق على التطلع إلى المثل الأعلى. لكن هناك اختلاف جذري بين فلسفة الصدر

الرسالات السماوية إضافة إلى اتصاله بالإنسان عن طريق الطبيعة البشرية، أي عن طريق الفطرة وما تتضمنه من تطلع نحو الخالق. يقول الصدر في هذا السياق مقارناً بين آثار العقيدة وحب الله في حياة الامام علي عليه السلام وبين القول بوجود الله عند الفلاسفة: “… هذه الشجاعة خلقها في قلب علي عليه السلام حبُّه لله، لا اعتقاده بوجود الله. هذا الاعتقاد الذي يشاركه فيه فلاسفة الاغريق أيضاً، أرسطو أيضاً يعتقد بوجود الله، افلاطون أيضاً يعتقد بوجود الله، الفارابي أيضاً يعتقد بوجود الله، ماذا صنع هؤلاء للبشرية، وماذا صنعوا للدين أو الدنيا؟ ليس الاعتقاد وإنما حب الله إضافة إلى الاعتقاد، هذا هو الذي صنع هذه المواقف…”((التفسير الموضوعي: 251.))

مع سارتر وبرجسون

على العموم الوجود مرتبط بالتعالي في كل من فلسفة أفلاطون وفلسفة الصدر وتعتبر هذه العلاقة أساساً للقيم. فالوجود في حد ذاته لا يحتوي على مبدإللتقييم. وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه كل من الفلسفة الوجودية والفلسفة البرجسونية، فالفلسفة الوجودية كما تتجلى عند سارتر تخلت عن طرح مشكلة مصدر الوجود، وانتهت إلى التأكيد على مقولتي العبث والرعب الميتافيزيقي، كما أنّها ـ بنفيها للمصدر المتعالي للوجود ـ لم تستطع أن تُبرّر إلزامية القيم الأخلاقية.((رسالتنا: 91 ـ فلسفتنا: 25.)) أما فلسفة برجسون (Bergson) فلم تُبرّر هي الاُخرى إطلاقية القيم الأخلاقية وإلزاميتها، وذلك راجع إلى أن هذه الفلسفة جعلت من الوجود تطوراً خلاقاً وقوة تكفي نفسها بنفسها. فبرجسون يرى بأنّ للأخلاق مصدرين: مصدر يتمثل في المجتمع وما يتميز به من ضغط على الأفراد. ومصدر آخر يتمثل في انجذاب الانسان وتطلعه إلى ما يجب أن يكون. فهناك أخلاق الضغط التي تميز في نظر برجسون، الأخلاق المغلقة، وهناك أخلاق التطلع الملازمة للأخلاق المفتوحة. وهي أخلاق التطلع إلى مثل أعلى. ويرى برجسون بأنّ هذه الأخلاق خاصة بكائنات استثنائية تجسد القيم الأخلاقية في الواقع، وتصبح مثلا عليا تجذب الأفراد. فالكائن الاستثنائي هو الذي يقود المجتمع وليس العكس.

عندما ننظر إلى فلسفة الأخلاق البرجسونية من خلال طرح الصدر للمشكلة الأخلاقية نلاحظ تباعد وجهة النظر بين الفيلسوفين. فكرة الالزام تبقى غائمة في فلسفة برجسون. فأخلاق الضغط تتناقض مع الالزام كفعل إرادي.((يمكن أن نشير هنا إلى مفهوم المثل العليا التكرارية، هذا المفهوم يعبر عن أخلاق الضغط، أي عن الأخلاق المحدودة بمحدودية مثلها ـ انظر التفسير الموضوعي: 164 ـ 168.)) كما أن أخلاق التطلع التي طرحها برجسون هي مجرّد حالة عاطفية انفعالية تدفع الفرد دفعاً. فالضمير الخلقي كقوة تستبطن الفعل الخلقي وتستوعبه يكاد يكون غير موجود في فلسفة برجسون. فالأخلاق البرجسونية هي مجرّد خضوع لضغط خارجي (الأخلاق المغلقة التي تعبر عن المجتمعات المغلقة). أو هي مجرّد دفع وانجذاب نحو مثل أعلى غير محدّد.

لقد ركز الصدر الأخلاق على التطلع إلى المثل الأعلى. لكن هناك اختلاف جذري بين فلسفة الصدر

وفلسفة برجسون، فالتطلع في فلسفة الصدر هو تطلع عن وعي وعن إلزام يُستوعب من طرف الذات من موقع تقوائي، فالتطلع عند الصدر ليس مجرّد اندفاع عاطفي انفعالي، كما أن المثل الأعلى الحقيقي في فلسفة الصدر هو الله ذو الصفات والأسماء، لا مجرّد دفعة حيوية تتجسد بعض جوانبها لدى الكائنات الاستثنائية.((نفس المصدر: 179 ـ 185، على العموم تحليل الصدر لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى، طرح مفهوم أخلاق التطلع طرحاً جديداً يختلف عن الطرح البرجسوني ـ انظر التفسير الموضوعي من 146 ـ 154.))

مع كانط

فالاخلاق في الاسلام ترفض ـ في نظر الصدر ـ العفوية، كما ترفض الخضوع للضغط الجماعي، فالعاطفة تخضع للعقل ولا يمكن أن تكون وحدها أداة للتقييم. فحقيقة الأخلاقية تكمن في الانسان من حيث هو ذات واعية. يلتقي الصدر في هذا السياق، مع كانط الذي جعل الإلزام معياراً للاخلاقية.((تناول محمد عبد الله دراز مشكلة الأخلاق عند كانط بالدراسة والتحليل النقدي، وحاول أن يوفق بين فلسفة كانط الأخلاقية ـ خاصة الالزام الخلقي ـ والرؤية القرآنية في اُطروحته دستور الأخلاق في القرآن /  Ea Dactrine MoraleDu Coran:)) لكن هنا تقف نقطة الاتفاق. فالالزام يستمد مصدره من العقل عند كانط. في حين يستمد مصدره عند الصدر من الله. كما أنّ كانط ينفي تدخل العاطفة في الأخلاق. في حين أن الصدر لا ينفي العاطفة، لكنّ دورها مرتبط بالعقل وبالدين في المجال الأخلاقي.((عبد الحليم الزهيري: العاطفة في تراث الشهيد الصدر ـ مجلة الفكر الجديد ـ دار الاسلام لندن العددان: 11 ـ 12 ـ يناير 1996م ـ 51.))

العلاقة بين التقييم والواقع

إنّ عملية التقييم ـ في نظر الصدر ـ عملية منفصلة عن المجتمع وعن التأريخ. لا شك أن هناك علاقة بين الضمير الخلقي وبين البنيات الاجتماعية ومتطلبات العصر وظروفه. لكنّ علاقة عملية التقييم بالواقع لا تعني أن المجتمع والتأريخ يشكلان مصدراً للقيم. إنّ هذه العلاقة شرط ضروري لعملية التقييم، ولكنها ليست شرطاً كافياً في نظر الصدر.

فلو كانت القيم مجرّد انعكاس سلبي للواقع،  لبقي الناس يعيشون حياتهم في دائرة الأمر الواقع. فتطلع الانسان إلى الأهداف السامية هو تطلع ينطلق من الواقع ليتجاوزه. فمصدر التطلع يكمن في البعد المتعالي في الانسان، أي يكمن في فطرة الانسان كما يرى الصدر. فالواقع لا يمكن أن يكون مصدراً للقيم الأخلاقية ولعملية التقييم،  لأنّه يحتاج ـ هو الآخر ـ إلى تقييم وإلى تقويم أو إصلاح باسم قيم تتجاوزه من حيث المصدر.((التفسير الموضوعي: 158 ـ 159.))

تلازم القيم والميتافيزيقا

وقد اصطدمت الفلسفة الغربية المعاصرة بمشكلة مصدر القيم الأخلاقية بسبب نفيها أو تغافلها عن المشكلة الميتافيزيقية. حيث إنّ القيم الأخلاقية والميتافيزيقا جانبان متلازمان، فلا يمكن تبرير تطلع الانسان إلى ما يجب أن يكون دون القول بوجود جانب متعالي في الانسان. فالماركسية تنفي هذا الجانب والوضعية كذلك. أما الفلسفة الوجودية كما تتجلى عند سارتر فإنّها تنظر إلى الانسان كمجرد نقطة التقاء بين وضعية (Situation) ومشروع (Pnojet). فهو لا يتمتع بماهية، هو مجرد وجود. فالفلسفة الغربية التي طرحت نفسها كفلسفة ذات نزعة إنسانية انتهت إلى نفي إنسانية الانسان، سواء بإرجاع الانسان إلى مجموع العلاقات الاجتماعية على غرار ما ترى الفلسفة الماركسية، أو إلى مجرّد حالة وجودية لا تتمتع بأية هوية كما هو الأمر في الفلسفة الوجودية خاصة في تيارها الملحد.

فهناك طريقان أمام الانسان في نظر الصدر، فهو إما أن ينفي وجود العالم الآخر ويعبد ذاته،  أي يسعى إلى إشباع رغباته وتحقيق مصالحه فينتهي إلى الضياع، أو يربط حياته بالله فينفتح على معنى الوجود، وينفتح ـ نتيجة لذلك ـ على الآخرين ويصبح سلوكه ذا معنى،  أي يصبح سلوكاً تعبدياً تقوائياً بفضل ارتباطه بالله المثل الأعلى الحقيقي (أَفَمَن أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَى تَقوَى مِنَ اللهِ ورِضوَان خَيرٌ أَم مَّن أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَار فَانهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهدِي القَومَ الظالمِينَ)((التوبة: 109.)).

الايمان بالله هو الحل الوحيد

فالأخلاق غير المرتبطة بالله تفقد المعنى الوجودي الذي يعطيها المصدر والفاعلية والالزام. فالاخلاق المؤسسة على الرؤية المادية إلى الكون والانسان هي أخلاق مؤسسة على المصالح الذاتية، وليست لها مبررات للالتزام بالقضايا الاجتماعية والانسانية،  لذلك يرى الصدر بأن هناك تناقضاً في الفلسفة الماركسية، فهي فلسفة تؤسس رؤيتها الاجتماعية على المساواة أي زوال المصلحة الخاصة باسم المصلحة العامة، ولكنها ـ من جهة اُخرى ـ تنظر إلى الانسان والكون نظرة مادية. فالإيمان بالله وبالعالم الآخر (البعث) هو الذي يحل ـ في نظر الصدر ـ مشكلة مصدر القيم الأخلاقية، ويحل في نفس الوقت مشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع، أي يحل التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة،  لأن الايمان بالله هو الذي يُخرج الفرد من دائرة الذاتية الضيقة، ويجعله ينفتح على المجتمع وعلى الانسانية.((اقتصادنا: 286.))

وهكذا وعلى العموم تتأرجح المذاهب الأخلاقية بين اتجاهين: تجاه يرى في المجتمع أو في الطبيعة البشرية مصدراً للأخلاق (مع العلم بأن هناك اختلافاً بين المذاهب حول مكونات الطبيعة البشرية: جانب عقلي أو جانب مادي أو جانب عاطفي وروحي) وهناك اتجاه آخر يرى بأنه لا يمكن تبرير الأخلاق نظرياً وعملياً إلا على أساس مبدإ متعالي تعالياً مطلقاً يتجاوز الانسان، من هنا علاقة الأخلاق بالميتافيزيقا وبالدين.((اقتصادنا (المقدمة ـ خاصة صفحة ـ ك) التفسير الموضوعي: 186 ـ 187.))

يتجلى من كتابات الصدر أن الطبيعة البشرية ـ في جانبها المادي البيلوجي ـ ليست في ذاتها خيرةً أو

شريرةً. فالصدر يتجاوز هنا الطرح الضيق لمشكلة الطبيعة البشرية، والذي يتأرجح بين تفاؤل روسو (Rousseau) وتشاؤم شوبنهاور (Schopenhauer) فالأول يرى بأن الأخلاق تعبر عن طبيعة بشرية خيّرة في الأساس، في حين يرى الثاني أن الأخلاقية تكمن في مقاومة إرادة الحياة.

أما الصدر فيرى بأن الطبيعة البشرية ليست جانباً مادياً فحسب. كما أنها ليست عبارة عن جانب روحي وحده، فالانسان وحدة مادية وعقلية وروحية، فلا يمكن تحويل الطبيعة البشرية إلى مجرّد عناصر بيلوجية وغريزية حتى تصبح الأخلاقية معاكسة تماماً لميول الانسان ورغباته.

فالطبيعة البشرية هي ما هو معطى، وهي كذلك تتجاوز ما هو معطى، وذلك بفضل البعد الروحي والمتعالي في الإنسان،  لذلك فالأخلاقية لا تستمد مصدرها من الطبيعة البشرية ـ ولكنها ـ وفي نفس الوقت لا تتناقض مع الطبيعة البشرية. فالصدر يرى بأن الجانب المتعالي في الانسان لا يكفي نفسه بنفسه، بل يستمد وجوده وكل قوته من ارتباط الانسان بالله. ” فللفطرة الانسانية إذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الانسان دوافعه الذاتية، التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الانسان (مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الانساني) وهي من ناحية اُخرى تزود الانسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التدين، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية، وبهذا أتمت الفطرة وظيفتها في هداية الانسان إلى كماله، فلو بقيت تثير المشكلة ولا تمون الطبيعة الانسانية بحلها،  لكان معنى هذا أنّ الكائن الانساني يبقى قيد المشكلة عاجزاً عن حلها مسوقاً بحكم فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها، وهذا ما قرره الاسلام بكل وضوح في قوله تعالى: (فَأقِم وَجهَكَ لِلدِينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاس عَلَيها لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلكَ الدِينُ القَيِمُ ولكِنَّ أَكثَر النَّاسِ لا يَعلَمُونَ)((الروم: 30.))((اقتصادنا: 287)).

مازالت الفلسفة الغربية إلى يومنا هذا لم تحل المشاكل الأخلاقية والاجتماعية الناجمة عن نفي الفلاسفة الغربيين لوجود طبيعة بشرية. فالمشكل المطروح على الفكر الغربي هو بناء الانسان لذاته بعد أن تحرر من القيم الأخلاقية والعادات. إنّ التحرر من القيم الأخلاقية بمعناها التقليدي جعل الانسان الغربي يتعامل مع ذاته ومع غيره خارج مرجعية كونية، في حين أنّ الانسان كان ـ قبل أزمة القيم ـ يرجع في كل مواقفه إلى مرجعية كونية أي إلى قيم أخلاقية قبلية. إن نفي المرجعية الكونية للأخلاق جعل الفلسفة الغربية تنظر إلى الانسان على أنه نتيجة لحركة. فالانسان لا يوجد كطبيعة بشرية أو كذات، بل يتحول عبر التأريخ إلى ذات. فالذات منتوج تأريخي.

ومعنى هذا أن الذات ليست معطاة، ليست معطى من المعطيات، فهي لا توجد مستقلة عن التأريخ أي عن عوامل تكونها. فالفلسفة الغربية تنفي الذات كجوهر محدد منذ البداية أي قبل تأثره بالعوامل الاجتماعية والتأريخية. فالذات ليست كونية على غرار الكوجيتو (Cogito) الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود). فالذات محددة تأريخياً ومدفوعة إلى التغيير باستمرار، فالانسان من هذا المنظور لا يسبق تاريخه.

وقد سبق لنا القول: بأن الصدر قد طرح مشكلة الطبيعة البشرية في أفق غير الأفق الذي طرحته فيه الفلسفة الغربية. فالقول بوجود طبيعة بشرية لا ينفي ـ في فلسفة الصدر ـ حركة الانسان عبر التأريخ حركة التأريخ، أو بتعبير أدق تطور الانسان عبر التأريخ لا ينفي وجود طبيعة بشرية، أي التأريخ لا ينفي الكونية على صعيد الذات وعلى صعيد القيم الأخلاقية.

إن الطبيعة البشرية بالنسبة للصدر هي الامكانيات التي يتمتع بها الإنسان، هذه الامكانيات هي التي تمكنه من تحمل مسؤولية تغيير نفسه وتغيير المجتمع والطبيعة، فالطبيعة البشرية هي استخلاف الله للإنسان في الأرض. فالثابت (الفطرة) لا ينفي الحركة،  لأنّ الطبيعة البشرية ليست ما هو معطى، بل هي ما هو ممكن، وهي ما ينبغي أن يكون خاصة وأن الطبيعة البشرية من حيث هي خلافة لله فهي مرتبطة ارتباط النسبي بالمطلق.((الاسلام يقود الحياة (فصل خلافة الانسان وشهادة الأنبياء): 141 ـ 142.))

ربط الأخلاق بالدين والميتافيزيقا

إنّ اعتبار الانسان كوحدة جسمية وعقلية وروحية ذات بعد متعالي، جعل الصدر يربط الأخلاق بالميتافيزيقا وبالدين معاً. فربطُ الأخلاق بالدين يعني في الأساس ربطها بالمتعالي الذي يتجاوز الانسان، ويتجاوز كل الوجود. القيم الأخلاقية ليست مطلقة في حد ذاتها، فالقيمة المطلقة تتمثل في صفات الله وأسمائه، والقيم الأخلاقية تستمد حقيقتها كقيم من تطلع الانسان إلى المثل الأعلى، فالفرق الأساسي بين علاقة الأخلاق بالميتافيزيقا وعلاقة الأخلاق بالدين هو أن علاقة الأخلاق بالدين لا يمكن تصورها بدون هدى الله، فالدين نفسه هدى من الله، والانسان لا يمكن أن يتجه نحو المتعالي بإمكانياته الخاصة، بل بهدى من الله والهدى هنا هو الوحي.((التفسير الموضوعي: 159 ـ 160.))

في حين أن الميتافيزيقا تعتمد على العقل وحده ولا تقول بهدى الله، إلا إذا تمت صياغتها من موقع معرفي يتشكل في إطار علاقة العقل بالدين، كما هو الأمر في فلسفة الصدر، فالفكر الفلسفي الغربي ابتداءً من نيتشه خاصة اعتبر أن القيم الأخلاقية من صنع الانسان في كون يتجاهل هذه القيم، أي الانسان يصنع القيم في كون لا معنى له، أو يصنعها بقطع النظر عن معنى الكون، فالكون لا يبالي بتطلعات الانسان، والانسان من هذا المنظور هو الذي يعطي معنى للكون وللوجود عن طريق القيم الأخلاقية. وقد ذهبت الفلسفة الوجودية إلى القول: بأن الانسان موجود في كون لا معنى له، وهو حر في خلق القيم وليس من الضروري أن يبررها عن طريق مبررات عقلية.

وهكذا فالفلسفة الغربية قد انتهت إلى عزل الانسان عن الله وعن الوجود، وانتهت بالتالي إلى اليأس وإلى أزمة الانسان وأزمة الحضارة. يرى الصدر أنه ليس من المعقول أصلا القول بوجود مثل أعلى لحياة الانسان لا علاقة له إطلاقاً بالكون وبمعنى الوجود، فالانسان كائن استثنائي ولكنه ليس منعزلا عن الكون، بل هو جزء منه، فالنظام الانساني مرتبط بالنظام الكوني. لا شك أن نظام القيم متميز عن نظام الحوادث الأمبريقية، فالقيم تتجاوز الواقع، ولكن علاقة القيم بالواقع والوجود ليست علاقة قطيعة في نظر الصدر، بل علاقة تجاوز، فالقيم مرتبطة بالوجود ارتباط تجاوز،  لأنّها تستمد حقيقتها من تطلع الانسان

إلى المطلق.

وهكذا فالصدر يرى بأن القيم الأخلاقية لا تستمد معناها من الوجود أو من نظام الكون بل من الله. وقد انتهى فصل القيم عن معنى الوجود، أو ربطها بالنظام الكوني المنفصل عن الله. لقد أدى كل ذلك إلى رؤية أخلاقية غير ملتزمة انتهت إلى اللامبالاة وإلى روحانية مريحة، وهذا نتيجة لغياب أو لميوعة التطلع حيث أصبحت الأخلاق مجرد خضوع للنظام الكوني.

ومن هنا يمكن القول: بأن الصدر قد تجاوز كل اتجاهات الفلسفة الغربية، فهو لم يؤسس الأخلاق على الواقع والوجود، ولم يؤسسها على إنسان منعزل عن الواقع، كما أنه اختلف مع المذاهب الفلسفية التي أسست الأخلاق على الميتافيزيقا، وانتهت إلى مواقف مجردة تجاه الواقع. فربطُ القيم الأخلاقية عند الصدر لا معنى لها خارج تغيير الانسان وتغيير المجتمع والطبيعة.((نفس المصدر: 159 ـ 161.))

النية والمسؤولية والأخلاقية

ركّز الصدر ـ مثل كانط ـ على النية من حيث هي العامل الأساسي الذي يعطي للفعل أخلاقيته، غير أن الصدر يتجاوز الرؤية الكانطية في هذا السياق. فالنية عند كانط هي الامتثال لأمر العقل، أي احترام القانون الأخلاقي من حيث هو أمر قطعي غايته في ذاته. الصدر تجاوز هذه الرؤية عندما حلل النية على أنها ليست مجرّد احترام للقانون، بل هي القيام بالفعل طاعةً لله وابتغاء مرضاته. وهناك نقطة اختلاف أخرى بين الصدر وكانط، كانط ينفي عن الفعل الخلقي كلّ نية أخرى غير احترام إلزامية الأمر القطعي، أي إلزامية الواجب من حيث هو واجب دون النظر إلى غاية اُخرى خارجة عن القيام بالواجب. بينما يربط الصدر الفعل الخلقي بابتغاء مرضاة الله وبنية الفوز برحمته كإرضاء لتطلع الانسان إلى الكمال.((نظام العبادات في الإسلام: 25 ـ 26.))

وهكذا فالقيمة الأخلاقية مرتبطة بتطلع الإنسان إلى الكمال، أي مرتبطة بتغلب هذا التطلع على كلّ الرغبات. فالقيم الأخلاقية مرتبطة بالنية، وقوة القيم متوقفة على ارتباط النية لنوع الغاية التي قام من أجلها الفعل، وهنا يقدم الصدر مفهوم العلاقة بين الانسان والمثل الأعلى من حيث هي علاقة مبنية على التطلع كعمل تعبدي ذي أبعاد حضارية ملازمة للتخلق بصفات الله وأسمائه. ومع العلم بأنّ هذا التطلع ليس قابلا لأي تأويل، فهو ليس تطلعاً بالمفهوم البرجسوني، التطلع إلى المثل الأعلى في فلسفة الصدر هو تطلع مضبوط بالأحكام الشرعية لأنّه عبادة، فهناك تناسب بين النية والتطلع والغاية. فأخلاقية الفعل تتحقق لما ترتبط الإرادة بالله، أي لما يقوم الانسان بالفعل في سبيل الله. إن علاقة الأخلاق بالله هي التي تشكل جوهر الأخلاق في نظر الصدر، فالقيام بالواجب، من أجل الواجب يعني في فلسفة الصدر: القيام بالواجب في سبيل الله أي تلبية لأوامر الله.((نفس المصدر: 25 ـ 27.))

فلسفة فريدة

وهكذا يمكن القول: إن فلسفة الأخلاق عند الصدر هي فلسفة منقطعة النظير،  لأنّها تتجاوز الطرح الناقص لكلّ من مذهب المنفعة ومذهب العاطفة عند برجسون (Bergson) كما تتجاوز صورية الفعل الأخلاقي عند كانط. ففلسفة الأخلاق عند الصدر تعطي للفعل كل أبعاده المادية والروحية والفردية والاجتماعية والحضارية لما تجعله يتمحور حول النية ويستمد أخلاقيته منها((بحوث إسلامية: 36.))،  لذلك فمسؤولية الانسان في فلسفة الصدر يغلب عليها الطابع الأخلاقي والروحي، ذلك أنّ موقف الصدر من المسؤولية يختلف عن المذاهب الفلسفية، التي جعلت المسؤولية مرتبطة بعلاقة الإنسان بالضمير كقوة تقييم تكفي نفسها بنفسها. كما يختلف موقف الصدر عن المذاهب التي جعلت المسؤولية مرتبطة بالمجتمع. فالانسان هنا يكون مسؤولا أمام ضميره أو أمام المجتمع. فالصدر يرى أنّ المسؤولية تستمد حقيقتها ووجودها من ارتباط الانسان بالله، لذلك فهي ذات أساس روحي وذاتي،  فهي مسؤولية أمام الله، وليست المسؤولية أمام الضمير أو أمام المجتمع والقوانين إلا امتداداً لمسؤولية الانسان أمام الله. فالصدر طرح مشكلة المسؤولية طرحاً كلياً، فهو لم ينظر إليها من جانبها الذاتي على غرار المذاهب التي تقول بمسوؤلية الانسان أمام الضمير، كما أنّه لم ينظر إليها في جانبها الخارجي على غرار الذين يقولون بالمسؤولية الاجتماعية، بل طرحها تبعاً لرؤيته إلى مصدر الأخلاق. فالله هو مصدر القيم الأخلاقية والمسؤولية هي مسؤولية أخلاقية في الأساس، أي الانسان مسؤول أمام الله، ومسؤوليته أمام الله هي التي تنعكس على الضمير وعلى المجتمع. فمعنى الوجود النابع عن المفهوم الإلهي للعالم هو الخلفية الأساسية والجوهرية للقيم الأخلاقية، وللمسؤولية من حيث هي مفهوم لا يمكن تصور وجود أخلاق بدونه.((نظام العبادات في الإسلام: 28 ـ 30.))، فالصدر رفض الحرية بمفهومها الغربي، فالحرية ليست حرية كائن يوجد بذاته كما ترى الوجودية، وليست حرية الانسان الأعلى كما يرى نيتشه، فالحرية لا معنى ولا وجود لها خارج الخضوع المطلق لله ” فعبودية الانسان لله في الاسلام ـ بدلا عن امتلاكه لنفسه في الرأسمالية ـ هي الأداة التي يُحطم بها الانسان كل سيطرة عبودية أخرى،  لأن هذه العبودية في معناها الرفيع تشعره بأنّه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد أمام رب واحد. فليس من حق أي قوة في الكون تتصرف في مصيره وتتحكم في وجوده وحياته.((محمد باقر الصدر: المدرسة الإسلامية: 103 ـ دار الزهراء ـ بيروت ـ 1987م.))

فالصدر عالج مسألة الحرية والمسؤولية على أساس ميتافيزيقي وأخلاقي وحضاري، ففلسفته تختلف عن فلسفة سارتر التي نفت وجود الله باسم حرية الانسان ومسؤوليته. كما أنّ فلسفة الصدر تختلف ـ من بعض الوجوه ـ عن فلسفة كانط، التي انتهت عن طريق الأخلاق إلى التسليم بحرية الانسان ومسؤوليته، ويختلف الصدر كذلك مع الطرح الفلسفي الناقص للمسؤولية، وهو ذلك الطرح الذي يتأرجح بين القول بالضرورة والقول بالصدفة. فالقضاء والقدر يدحض ـ في نظر الصدر ـ كلا من الضرورة والصدفة،

فالضرورة تنفي مسؤولية الانسان وحريته، والصدفة تنفي عقلانية الكون ومعناه، وتنفي نتيجة لذلك مسؤولية الانسان، والقضاء والقدر بالمنظور الاسلامي يدحض كذلك الفلسفة، التي تربط أفعال الانسان بوحدة الوجود كخلفية ميتافيزيقية. وحدة الوجود (Pan theisme) تعتبر أنّ العالم والله يُكونان هويةً واحدةً وليس الانسان إلا جزءاً من كل مجهول. أي هو جزء من كلّ لا يتمتع بالتعالي، فالقضاء والقدر من المنظور الاسلامي يربط الكون والانسان بالخالق ذي الصفات والاسماء الحسنى، فالألوهية من هذا المنظور هي التي تفسح المجال لحرية الانسان ومسؤوليته((انظر الاسلام يقود الحياة: (فصل خلافة الانسان وشهادة الأنبياء) حيث يربط الصدر بين مفهوم الخلافة ومفهوم كلّ من الحرية والمسؤولية.))، ذلك أنّ المسؤولية ليست مشكلة مستقلة عن سائر القضايا الاُخرى في نظر الصدر، فالمسؤولية من حيث هي اختيار حر تتناقض مع النظرة المادية إلى الكون والانسان، فالنظرة المادية إلى الكون تجعل من الانسان مجرّد جزء من كل، فهو محايث، أي لا يوجد لديه جانب يسمح له بالتعالي،  لكي يتمكن من الاختيار وممارسة مسؤوليته. فالقدرة على التعالي لدى الانسان لا يمكن تصورها إلا بالنظرة الالهية للعالم. فوجود الله هو الذي يجعل الفعل الحر فعلا ممكناً. فالقضاء والقدر يختلف إذن عن كلّ من الضرورة القاهرة، والصدفة التي تنتهي إلى العبث والعدمية واللا أخلاقية. فالحرية يفهمها الاسلام ” بوصفها جزءاً من برنامج فكري وروحي كامل، يجب أن تقوم على أساسه الانسانية “((المدرسة الإسلامية: 121.))

فحرية الانسان تبدأ بإيمان الانسان بالله ووعيه بعبوديته. فالتوحيد يقتضي رفض كلّ القوى سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو حضارية، رفضها كقوى تدعي الاطلاقية. فكلّ القوى مهما كانت تصبح نسبية أمام قوة الله المطلقة، ومن هنا فارتباط الانسان بالله هو الشرط الضروري والكافي لبداية الانسان في ممارسة حريته ومسؤوليته، فالرؤية الاسلامية تعتبر الحرية ” تعبيراً عن يقين مركزي (وهو الايمان بالله) تستمد منه الحرية ثوريتها، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الانسان تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية.((نفس المصدر: 120 ـ انظر كذلك: الاسلام يقود الحياة: 125.)) فكلّ موقف (من مسؤولية الانسان وحريته) خارج عن علاقة الانسان التعبدية بالله يتناقض جذرياً مع حرية الانسان وكرامته.

ويعتبر موقف الصدر من الحرية والمسؤولية تجاوزاً للمأزق، الذي وقعت فيه الفلسفة الغربية المعاصرة من جراء ثورتها على القيم الأخلاقية باسم حرية الانسان. وقد وصلت بعض اتجاهات الفلسفة الغربية إلى هذا المأزق، الذي تحول إلى أزمة، عندما نظرت إلى الحرية بمعزل عن الأخلاق، أي بمعزل عن المسؤولية كبعد أخلاقي من أبعاد الحرية.((المدرسة الاسلامية: 113، وكذلك: التفسير الموضوعي: 168.))

فالصدر ربط بين الحرية والأخلاق عندما أكد على المسؤولية كبعد أساسي من أبعاد الحرية، فهو قد

عالج مشكلة الحرية في كلّ الميادين في أفق القيم الروحية والأخلاقية الملازمة للإنسان الخليفة في الميدان الاقتصادي (اقتصادنا) وفي الميدان الاجتماعي والسياسي (منابع القوة في الدولة الاسلامية).

وهكذا يتجلى من خلال تحليل الصدر للعلاقة بين النية والمسؤولية والأخلاقيه أنّ الحرية ليست قدرة على الاختيار فحسب، بل هي تعبير عن الوجود الانساني كإمكانيات كخلافة لله في الأرض، فالحرية هنا هي أساس استقلالية ذات الانسان وأساس لطاعة الله وللالتزام الأخلاقي الملازم لهذه الطاعة. فلسفة الصدر لم تحدث قطيعة بين الحرية والالزام الخلقي أو بين الحرية والطاعة، كما تتمثل في علاقة الانسان بالله أو في علاقة الانسان بإلزامية القيم. فالحرية عند الصدر ليست تعبيراً عن استقلالية الذات بالمفهوم المبتذل حتى تتناقض مع الطاعة، فاستقلالية الذات، تنبع من الطاعة، الطاعة هنا تدعم استقلالية الذات،  لأنها تربطها بالتعالي الذي يعطيها إمكانيات لا نهاية لها،  للتأثير في الظروف الاجتماعية والعوامل التأريخية بدلا من التأثر السلبي والمنفعل بهذه العوامل والظروف.

إنّ الرؤية الاسلامية إلى الله تنفي التضارب بين استقلالية ذات الانسان وطاعة الله، فالانسان خليفة الله في الأرض،  لذلك فهو يتمتع بإمكانيات هائلة، هو ملتزم بتجسيدها في الواقع. فالصدر لجأ إلى مفهوم الخلافة،  ليبين بأنّ الانسان له القدرة، وله الحرية في علاقته مع الواقع. فالتزام الانسان بقضايا الانسانية لا ينطلق من عاطفة إنسانية عامة فحسب. فالالتزام يجد باعثه في النظر إلى كلّ إنسان على أنه خُلق على صورة الله، وأنّ كلّ عمل من أجل الانسانية هو بعد من أبعاد العمل في سبيل الله ” وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الانسان،  لأنّ كلّ عمل من أجل الله إنما هو من أجل عباد الله… فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً، وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك “((نظام العبادات في الإسلام: 26.))

إطلاقية القيم وجدلية العلاقة بين الأخلاق والواقع

تتأرجح النظرة إلى الأخلاق عادة بين المادية والروحانية. فأهم عنصر في الانسان حسب هذه النظرة هو الجانب المادي وحده أو الجانب الروحي وحده، وفي المجال الاجتماعي يتم التركيز إما على الفرد وإما على المجتمع.

يرى الصدر أن هذا الطرح ناقص،  لأنّه طرح جزئي. فالحل يكمن ـ في نظر الصدر ـ في الطرح الكلي الذي ينظر إلى الانسان في كلّ جوانبه المادية والروحية والفردية والاجتماعية كجوانب متداخلة وفي تفاعل مستمر، إنّ تأسيس النظرة الأخلاقية على هذه الرؤية الكلية إلى الانسان سوف يساهم ـ في نظر الصدر ـ في صياغة المذهب الأخلاقي المنتج للتقدم وللحضارة،  لأنّه ينطلق من الواقع لتغييره، أي ينطلق من الانسان كما هو في واقعه وفي حقيقته. فالمشكل معرفي وأخلاقي إذن فالمذهب الأخلاقي هو امتداد لنظرية المعرفة.((هذا ما يتجلّى في تحليل الصدر للإطار العام لتنظير المذهب الاقتصادي في الاسلام حيث حاول الكشف عن العلاقة بين أخلاقية شعوب العالم الاسلامي ونماذج التنمية.))

دور نظرية المعرفة

لقد طرح الصدر نظرية جديدة للمعرفة تمّ من موقعها نقد فلسفة الأخلاق كما تتجلى في الفكر الغربي، نظرية المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع الاجتماعي أو التأريخي أو غيره، فالعقل له القدرة على المبادرة وعلى التجاوز،  تجاوز ما هو آني ومعطى،  لذلك فنظرية المعرفة التي ترتكز عليها فلسفة الأخلاق عند كلّ من ماركس و أ ـ كونت وجون ستيوارت ميل (G.S.Mill) صاحب مذهب المنفعة وغيرهم، هي مجرّد انعكاس سلبي للواقع. لا شك أن نظرية المعرفة في فلسفة الصدر هي انعكاس لمعطيات الواقع، ولكن هذا الانعكاس يتم في إطار علاقة بين الذات والموضوع انطلاقاً من مبادرة الذات العارفة،  لذلك فالقيم الأخلاقية ليست مجرّد انعكاس للواقع، بل هي تعبير عمّا يجب أن يكون، ففلسفة الأخلاق تتخذ موقعها من التأريخ وفي التأريخ، لكنها في بعض جوانبها هي ذات مصدر متعالي على التأريخ. إضافة إلى ما سبق فإن القيم الأخلاقية في الرؤية الاسلامية التي طرحها الصدر ليست مرتبطة بتعالي مبهم أو غامض أو من صنع الفكر البشري، أي ليست مرتبطة بالتعالي بمفهومه الفلسفي. القيم مرتبطة بالغيب من حيث هو دين موحى.

لا شك أنّ مسألة التحسين والتقبيح يمكن أن تطرح في هذا السياق. وقد تجاوز الصدر كثيراً من جوانب الطرح القديم لهذه المسألة، فهو لم ينف دور العقل في عملية التقييم. فالعقل يلعب ـ في هذا المجال ـ دوره في أفق علاقته بالغيب، يلعب دوره من حيث هو بعد غيبي في الانسان الخليفة. فالعقل في فلسفة الصدر يختلف عن العقل كما طرحته الفلسفة الغربية خاصة المذهب المادي والمذهب التجريبي والمذهب الوضعي حيث إنّ العقل طرح في هذه المذاهب مقابل الغيب، ومن موقع نفي الغيب إطلاقاً.((انظر سرّ الصلاة للإمام الخميني ـ نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني ـ طهران 1995م (مقدمة آية الله الجوادي الآملي: حيث يميز بين العقل ” الاصطلاحي ” و ” العقل النقي الأصيل ” ـ 21.)) لذلك يرى الصدر أنّ تدخل العقل في عملية التقييم لا يتناقض مع الدين. فكلّ ما في الأمر أنّ العقل نسبي، وليست له القدرة الذاتية أن يُقيم وحده سلوكات وأفعال الانسان. هذا ما يتجلى في فلسفة الصدر من خلال تحليله لمفهوم العبادة.((نظام العبادات في الإسلام ـ خاصة الفصل الأول.)) فالصدر يطرح المشكلة الأخلاقية انطلاقاً من الواقع، وانطلاقاً من الدين في نفس الوقت،  لذلك فنظريته الأخلاقية ليست مجرد انعكاس لواقع الأمة الاسلامية في هذه المرحلة من التأريخ، فنظرية الصدر ـ من هذا المنظور ـ مؤهلة لمعالجة أزمة الحضارة المعاصرة،  لأنّ مصدرها هو الواقع بالمفهوم السلبي لعلاقة النظرية الأخلاقية مع هذا الواقع: أي النظرية كمجرد انعكاس لما هو كائن، فهي لا تنطلق من هذا الواقع السلبي (أزمة الحضارة الغربية وانحطاط الأمة الاسلامية) بل هي نظرية تأتي إلى هذا الواقع،  لتعالجه بفضل ما تتضمنه من قيم روحية وأخلاقية ذات مصدر متعالي. فليست علاقة الفكر بالوجود ـ هنا ـ علاقة متكافئة بل المبادرة للفكر كقوة تتجاوز الوجود بفضل ما يملكه الفكر من مصدر غيبي، وبفضل لجوء الفكر إلى الدين الموحى.

ففلسفة الصدر تختلف عن فلسفة هيجل، التي حاولت أن تدمج مآسي البشرية في المنطق الجدلي، فانتهت إلى تبرير كلّ ما وقع وما يقع عبر التأريخ باسم المنطق الجدلي، الذي يدفع ـ في نظر هيجل ـ التأريخ

إلى منتهاه،  حيث تزول كل التناقضات وتزول مآسي الانسانية.((

لقد وصلت مشكلة العلاقة بين الذات والموضوع في الفلسفة الهيجلية إلى منتهاها حيث تحول الواقع في هذه الفلسفة إلى مفهوم وذاب الإنسان في مطلق مجهول باسم منطق حركة التأريخ.

مع العلم بأنّ الماركسية ترى نفس الرأي فيما يخصّ زوال التناقضات، فهيجل يرى أنّ التناقضات تزول بظهور الدولة الكونية. في حين أنّ ماركس يرى بأن التناقضات تزول بزوال الطبقات وزوال الدولة.

وعلى العموم يمكن القول: بأن الفلسفة أصبحت عند هيجل وماركس معرفة مطلقة، وجدت تجسيدها عند هيجل أو عند ماركس، وما أبعد هذين الموقفين عن فلسفة الصدر التي تستوعب نسبيتها استيعاباً تعبدياً ونقدياً بفضل علاقتها بالمثل الأعلى الحقيقي الذي لا تستوعبه حركة التأريخ.

))

إنّ أزمة الحضارة المعاصرة تدحض كلا من فلسفة هيجل وماركس: فالتناقضات بدلا من أن تزول في المرحلة الأخيرة للعملية التركيبية في التأريخ، هذه التناقضات وصلت إلى درجة قصوى من العمق والتمزق على مستوى الأفراد والمجتمعات، وعلى مستوى العلاقات الدولية وعلاقة الغرب بالشعوب المستضعفة. لقد وصلت حركه التأريخ إلى أقصى درجة من العبث، فالتاريخ قد فقد معناه في نظر الصدر منذ أن فصلته الفلسفة الغربية عن الله، وقد انتهى الفكر الغربي إلى تبرير العدمية والعبث فلسفياً، ويرى الصدر أنّ علاقة الانسان بالمثل الأعلى هي التي تزيل العبث وتزيل العدمية، وتربط الانسان بالخلود.

التعالي المزيف

لقد ظهرت مذاهب فلسفية ابتداءً من أوائل القرن العشرين،  لمعالجة أزمة القيم في الحضارة الغربية، وقد ربطت هذه المذاهب القيم بالتعالي، لكن هذه المذاهب لم تنجح في بحثها عن الحلول،  لأنّ التعالي الذي ربطت به القيم هو تعالي من صنع الفكر البشري في نظر الصدر هو مثل أعلى مزيف فالرجوع إلى التعالي تمّ من خلال الرجوع إلى القومية والجمهورية، أو الرجوع إلى الاله غير أن هناك فرقاً جذرياً وجوهرياً بين الاله في الرؤية الدينية والإله في الرؤية الفلسفية، فالإله عند برجسون (Bergson) هو الدفعة الحيوية (Elon uital) في حين أنّ الإله عند وليام جيمس (W.games) صاحب المذهب البرجماتي هو فكرة إجرائية يؤمن بها الانسان حسب مردودها العملي.

وهكذا فهذا النوع من التعالي لا يصلح أن يكون مصدراً للقيم الأخلاقية، فهو غير قادر على حل أزمة القيم في الحضارة المعاصرة، بل على العكس فإن هذا التعالي عمّق الأزمة في نظر الصدر.

العلاقة بالمطلق بين هيجل والصدر

لقد صاغ هيجل فلسفته بربط الوجود بالفكر المطلق (أي الله في نظره) بربط ما هو كائن بما يجب أن يكون والواقع بالمثال، غير أن التعالي عند هيجل ليس كالتعالي في الرؤية الاسلامية كما تتجلى في فلسفة الصدر. فهيجل يرى بأنّ ” كلّ فلسفة تلجأ إلى التقابل بين السماء والأرض بين الله والكون بين التعالي والمحايثة هي مجرّد رؤية أخلاقية للكون يجب تجاوزها.”((ب ـ ركور ـ قراءات

Paul Ricoeur Pectures 2 Pouis Pa Contree Dea Philosophes (Pe Seuil).)) إنّ هذا الموقف الهيجلي هو النتيجة الحتمية لتصوره لعلاقة الانسان والكون بالفكر المطلق. فالتعالي عند هيجل ليس كالتعالي في الرؤية الاسلامية،

فالتعالي كما يتجلى في فلسفة هيجل يقضي على نفسه،  لأنّه يتجسد في الواقع (في التأريخ كما يرى هيجل) أما عند الصدر فإن علاقة الله بالكون وبالانسان هي علاقة الخالق بالمخلوق، هي علاقة تعبدية وهي علاقة رحمة ولطف. فإذا كانت هناك محايثة فهي ليست محايثة ذوبان التعالي في الوجود. فعلاقة الانسان بالله هي علاقة تعبدية تنشأ عنها قيم أخلاقية معبئة ذات قوة تغييرية هائلة. وعلى العكس من هيجل يرى الصدر أنّ الانسانية إذا تجاوزت الرؤية الأخلاقية إلى الكون والحياة، تدخل الحضارة في مرحلة أزمة قاتلة لإنسانية الإنسان، تدخل الحضارة في حركة تكرارية نتيجة لارتباطها بمثل أعلى مزيف وتكراري.((التفسير الموضوعي: 165 ـ 166، وكذلك: 189 ـ 190.))

تناقضات ماركس ونيتشه

يستمد الإنسان قوته بتحكمه في الظروف التي تحيط به قوة التحكم لا معنى لها ـ في نظر الصدر ـ إذا نظرنا إلى الانسان كمجرد عنصر من عناصر الطبيعة شأنه شأن العناصر والكائنات الاُخرى فالمشكل المطروح هنا هو من أين يستمد الإنسان قوته في مجابهته للطبيعة وللظروف الاجتماعية والتأريخية؟ الانسان يستمد هذه القوة من جانبه المتعالي أي من خلافته لله في الأرض، فكلّ فلسفة تؤكد على الانسان وعلى التغيير وتنفي التعالي فإنّها تتناقض مع نفسها، وهذا ما يتجلى بوضوح في فلسفة ماركس وفلسفة نيتشه إذ كيف يتسنى للإنسان أن يقوم بعملية التغيير وهو مستغرق في الواقع الراهن وحبيس للحاضر، لا يملك أية مبادرة تجاه الأحداث والظروف نتيجة لمحايثته المطلقة؟ ففكرة تحرير البشرية من الاستغلال كما طرحها ماركس، وفكرة الانسان الأعلى التي طرحها نيتشه (بقطع النظر عن صورتها) كلّ هذه الأفكار حول التغيير تتناقض مع رؤية كلّ من ماركس ونيتشه إلى الكون والانسان.

كيف تنشأ الحضارة؟

إنّ الحضارة تنشأ وتنمو بفضل علاقة ما هو كائن بما ينبغي أن يكون، هذه العلاقة تُعبر عن البعد الميتافيزيقي لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى، فالحضارة تحقق لما يتجاوز الانسان كلّ الأهداف النسبية،  ليربط حياته بالمطلق، حتى لو كان هذا المطلق مزيفاً أي من صنع الفكر الانساني ـ في نظر الصدر ـ غير أنّ أولوية الجانب الروحي في حركة التأريخ لا تعني نفي الجانب المادي وإهماله، فالصدر رفض الروحانية المتطرفة التي لا تحرك التأريخ ولا تنشئ حضارة وتقدماً بحكم تجرّدها وعدم ارتباطها بالواقع، وقد استدل الصدر على علاقة الجانب الروحي بالجانب الاجتماعي والحضاري بالرجوع إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة وحياة الأئمة عليهم السلام، التي كانت تمثل أحسن تمثيل التداخل بين الروحانية والسياسة والحضارة.((نظام العبادات في الإسلام: 23 ـ 24 ـ بحوث إسلامية 57 ـ 58.)) فالصدر لم يكتف بربط القيم الأخلاقية بالواقع بصورة عامة، أي انطلاقاً من هذه العلاقة كمبدإ عام، بل حدّد علاقة القيم بالواقع، فحلل واقع الأمة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وطرح مشكلة التخلف وعوامل التحرر منه.((هذا ما يتجلى في سائر كتابات الصدر: اقتصادنا، رسالتنا، منابع القوة في الدولة الإسلامية… الخ.))

الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وحضارية

لا شك أنّ الأخلاق تنبع من ذات الفرد في نظر الصدر، لكن إذا كانت الذات شرطاً ضرورياً للأخلاقية فهي ليست شرطاً كافياً، فلا بد من مؤسسات لربط القيم الأخلاقية بالممارسة. وقد طرح الصدر في هذا السياق علاقة الدين بالسياسة وعلاقة السياسة بالأخلاق. إنّ العلاقة بين المؤسسات والأخلاق هي علاقة جدلية، فالأخلاق تمنح المشروعية للمؤسسة (الدولة) والمؤسسة بدورها تحمي الأخلاق، فمن هذا المنظور إنّ ربط الدولة بالأخلاق يجعلها تتجاوز الإطار الضيق للمؤسسة،  لتصبح قيمة أخلاقية وحضارية، فالدولة تصبح مجرّد قالب سياسي جامد إذا لم ترتبط بالقيم الدينية والأخلاقية، وعندما ترتبط السياسة بالأخلاق تصبح الدولة دولة التطلع والتحرر لا دولة الضغط والاستبداد، ونتيجة لذلك تلتقي السياسة بالتقدم وبالحضارة تصبح الدولة أداة تفعيل حضاري. ” إنّ الدولة الاسلامية تارة تدرس بما هي ضرورة شرعية،  لأنّها إقامة لحكم الله على الأرض وتجسيد لدور الانسان في خلافة الله، وأُخرى تدرس على ضوء هذه الحقيقة، ولكن من ناحية معطياتها الحضارية العظيمة وقدراتها الهائلة، التي تتميز بها أي تجربة اجتماعية أخرى… الدولة الاسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب بل هي إضافة إلى ذلك ضرورة حضارية،  لأنّها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الانسان في العالم الاسلامي، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الانسانية، وإنقاذه ممّا يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع.”((الاسلام يقود الحياة: (فصل منابع القوة في الدولة الاسلامية ـ 175).))

الأخلاق والنظام السياسي

لذلك ربط الصدر المشكلة الأخلاقية بالمشكلة الاجتماعية والسياسية. فنوع الملكية يؤدي إلى خير وإلى الشر. والنظام السياسي قد تنتج عنه العدالة والمساواة، وقد ينتج عنه الظلم والاستبداد، فالخير والشر ليسا مسألة ذاتية فحسب، بل لهما علاقة مباشرة بالمؤسسات السياسية والاجتماعية. فالصدر فتح باباً جديداً للفكر الاسلامي المعاصر، الذي يغلب عليه طابع الوعظ والارشاد، فتح الصدر باباً جديداً لتحليل القيم الأخلاقية من خلال تحليل المشكلة الاقتصادية والمشكلة السياسية.

يرى الصدر في هذا السياق أنّ الإسلام وضع حدوداً لسلطة الحاكم، هذه الحدود هي أحكام شرعية وقيم أخلاقية في نفس الوقت. إنّ هذه الحدود ليست مجرّد أدوات تنظيمية، وليست مجرّد وسائل لاستمرارية السلطة ولمصلحة الدولة فحسب، بل هي حدود لا فرق بينها وبين العبادات، فالمسألة ليست مجرّد مسألة قواعد يحترمها الحاكم، إذا أراد أن يستمر في الحكم بل المسألة مسألة علاقة الانسان التعبدية مع الله. ” من المدلولات السياسية للدولة الاسلامية الوضع الواقعي، الذي يعيشه الحاكم والحاكمون في الدولة الاسلامية، فإنّهم يعيشون مواطنين اعتيادين في حياتهم الخاصة وسلوكهم مع الناس… قال الامام علي عليه السلام: (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر. وأنّ أكون أسوة لهم في خشونة العيش).((نفس المصدر: 166 ـ 188.))

هكذا يعلم الاسلام الحاكم بأنّ الحكم ليس وسيلة للاستمتاع بملاذ الدنيا، ولا أداة للتميّز عن الآخرين

في مظاهر الحياة وزينتها، وإنما هو مسؤولية وخلافة ومشاركة للمستضعفين في همومهم”((نفس المصدر: 179 ـ 180.))، لذلك فالجوانب التنظيمية والاجتماعية هي مجرّد أبعاد للحكم الشرعي وليست هي الأساس. فالأخلاق السياسية لها طابع خاص، فهي قيم ملزمة بصورة أعمق من كلّ القيم السياسية ذات المصدر القومي أو الوطني أو العرقي، إلزامية القيم تستمدها من مصدرها المتعالي،  لذلك فهذه القيم لا تخضع لمتطلبات الواقع، بل على العكس فالواقع هو الذي يخضع لمتطلبات القيم، وهذا ما يعطيها قوة لا تنفد. ” فالتركيب العقائدي للدولة الاسلامية الذي يقوم على أساس الايمان بالله وصفاته، ويجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمدّ الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفد.”((نشير في هذا السياق إلى أنّ هربارت ماركز (H. Marcuse)حاول نقد الحضارة الغربية،  لتمحورها حول الحياة المادية وذلك في كتابه الانسان ذو البعد الواحد.

(ترجمة جورج طرابيشي ـ دار الآداب ـ بيروت ـ 1971م).

Herlert Marcuse – One Dimensioonax Man – Stuaies In the Ideology Ol Aduanced IndustuialSociety.

يرى هربارت ماركوز بأن كل جوانب الحياة في الحضارة الغربية (البلدان المتقدمة صناعياً تتمحور حول الإنتاج والإستهلاك، غير أن هذاالمفكر لم يستطع أن يتحرر من مفاهيم الفكر الغربي التي تعكس أزمة الحضارة: فلم يتصور إعادة صياغة نموذج حضاري خارج الفلسفة الهيجلية والماركسية والتحليل النفسي الفرويدي.))

لقد أولى للأخلاق السياسية عناية كبيرة نظراً لأهميتها. فالحضارة الغربية بفصلها للسياسة عن الدين أصبحت حضارة الأمر الواقع. الأمر الواقع الخلو من المعيارية أي من التقييم ومن القيم حيث إنّ غايته في ذاته،  لذلك تميزت الحضارة الغربية باستعمار الشعوب واستغلالها. فالواقع هو المثال. والأخلاق أصبحت بدورها انعكاساً للواقع لا قوة لتحويله، هذا ما يتجلى في المذهب النفعي، فالانسان في هذا المنظور ذو بعد واحد هو البعد المادي، فكلّ جوانب الحياة تتمحور حول هذا البعد، وهذا ما يجعل الحضارة الغربية تقضي على نفسها بنفسها في نظر الصدر، فهي تدور حول نفسها نتيجة لزوال القيم ذات المصدر المتعالي، وحتى القيم التي تتطلع إليها هذه الحضارة هي قيم نابعة من مثل أعلى مزيف في نظر الصدر، أنتجته هي نفسها بما تتضمنه من نظرة مادية إلى الكون والانسان((التفسير الموضوعي: 189 ـ 190.)) لذلك فحركة الحضارة الغربية هي حركة محدودة ونسبية وليست كونية حتى تعمّ كلّ شعوب العالم كنموذج اجتماعي وسياسي وثقافي، فهي حضارة ذات حركة تكرارية بسبب مثلها الأعلى التكراري في نظر الصدر.((الإسلام يقود الحياة: 66 ـ 68.))

حضارة «الإنسان الخليفة»

وتجاه الحضارة الغربية: حضارة الانسان ذي البعد الواحد. يطرح الصدر الحضارة البديلة حضارة الانسان الخليفة، وما تتضمنه من ارتباط بالله، وما ينتج عن هذه العلاقة التعبدية من قدرة على تجاوز الأزمات، ومن إمكانيات في تغيير الواقع وتغيير التأريخ. إنّ العقلانية في حضارة الانسان الخليفة ليست كعقلانية حضارة الانسان ذي البعد الواحد، فالعقلانية في الحضارة الغربية أصبحت مشروطة بالعوامل الاجتماعية والتأريخية. في حين أنّ العقلانية في حضارة الانسان الخليفة هي عقلانية متعالية في مبادئها وأهدافها على الشروط والعوامل الاجتماعية والتأريخية،  لذلك فهي قادرة على رفع الانسان فوق كلّ ارتباط سلبي بالشروط الاجتماعية والتأريخية، وهذا ما يؤهل هذه العقلانية لتقديم العلاج لأزمة الحضارة الغربية، مع العلم بأنّ تعالي عقلانية حضارة الانسان الخليفة هو تعالي تستمده من ارتباطها بالله، ومن هنا فليس في فلسفة الصدر رؤية تأريخية (النزعة التأريخية) إلى القيم الأخلاقية. القيم الأخلاقية مرتبطة بالتأريخ من حيث التأثير أي من حيث تأثيرها على حركة التأريخ لا من حيث المصدر، فهذا التعالي هو الذي يجعل القيم الأخلاقية قيماً كونية، وهذا عكس فلسفة الأخلاق الغربية التي تتميز بالنظرة التأريخية إلى الأخلاق: ” فكل واقعي معقول وكلّ معقول واقعي ” فالقيم نسبية في الفلسفة الغربية نسبية متشتتة لا تبقى على حال. فهي تستمد مصدرها من الميول والرغبات (مذهب المنفعة) أو من الضمير الجمعي (الأخلاق عند علماء الاجتماع) أو من وسائل الانتاج، وما ينشأ عنها من تركيبة اجتماعية كما ترى الماركسية، فهناك أزمة معيارية في الغرب تنفي كلّ كونية للقيم الأخلاقية، وكيف تكون القيم الأخلاقية كونية وهي تعتبر ـ في نفس الوقت ـ انعكاساً للظروف الاجتماعية والتأريخية؟

يقول الصدر: ” وقد ذهبت الماركسية إلى ربط أشكال التوزيع بأشكال الانتاج، واعتبرت علاقات التوزيع بناءً علوياً حتمياً لعلاقات الانتاج، فكلّ علاقة انتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة… وهذا يعني أن مصلحة الانتاج لا الانسان هي التي تحدّد وتبرر علاقات التوزيع وأنّ كلّ شكل لعلاقات التوزيع يعتبر صحيحاً ومقبولا ما دام يحقق مصلحة الانتاج… وعلى العكس من ذلك الإسلام فإنّه لا يجد مصلحة الانتاج هي المبرر لعلاقات التوزيع، وإنما يُقيم هذه العلاقات الى أساس قيم ثابتة، وهي القيم الانسانية والربانية، التي تعبر عنها خلافة الانسان في الأرض، وتؤكد الحق والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية، ولهذا يشجب الاسلام علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الانتاج وشكله، بل إن الاسلام لم يشجب هذه العلاقات نظرياً فقط، بل ألغاها عملياً في ظرف كانت علاقات الانتاج فيه بمنطق الماركسية أبعد ما تكون عن شجب تلك الألوان من الاستغلال واستئصالها. وبهذا كان الاسلام نفسه وتطبيقه التأريخي تحدياً صارخاً لمفاهيم المادية التأريخية وقيم الماركسية عن التأريخ والاقتصاد.”((التفسير الموضوعي: 197.))

إنّ هذه الرؤية (التأريخية) إلى الانسان جاءت ـ في نظر الصدر ـ نتيجة للقطيعة، التي أحدثتها الفلسفة الغربية مع الدين ومع الميتافيزيقا، فهي رؤية تستحيل من خلالها النظرة إلى الانسان ككائن يستطيع التجرد من السياق التأريخي لاتخاذ مبادرة تجاه الصيرورة.

اطلاق القيم وبعدها التأريخي

إنّ تأكيد الصدر على إطلاقية القيم الأخلاقية وكونيتها لم يجعله ينفي البعد التأريخي للقيم. إنّ اللجوء إلى التأريخ لا يقتضي ـ في نظر الصدر ـ القول بنسبية القيم وبنسبية العقل إلى درجة أنّه عاجز عن الوصول إلى إدراك الحقائق الكونية كالقيم الأخلاقية. إنّ الوصول إلى ما هو كوني لا يعني نفي التأريخ، فالقيم الكونية تتجسد في حركة التأريخ. فلا تناقض في فلسفة الصدر بين الارتباط بالحقيقة المطلقة والتجذر في حركة التأريخ. فالانسان يصنع التاريخ بارتباطه بالمثل الأعلى، فعلاقة الانسان بالمثل الأعلى هي ـ في حدّ ذاتها ـ تجسيد للقيم في الواقع المتحرك. يرى الصدر من هذا المنظور ” بأنّ صفات الله وأخلاق الله، علّمنا على أن لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها، وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق.”(( نفس المصدر: 169 ـ 170، وكذلك رسالتنا: 65 ـ 66.))

فلسفة الاستعمار

وهنا يتجلّى تناقض الفلسفة الغربية فهي ـ من جهة ـ تنفي علاقة الانسان بالغيب أي تنفي كلّ إمكانية للإنسان،  لاتخاذ موقع خارج وضعيته التأريخية، وهي تطرح ـ في نفس الوقت ـ الحضارة الغربية كحضارة كونية يجب أن تعمّ كلّ شعوب العالم. إنّ هذا الموقف الفلسفي يزلزل كلّ المقومات الأخلاقية والسياسية للحضارة الغربية. فالمبادئ السياسية الرأسمالية والاشتراكية تفقد كلّ مصداقيتها، وكذلك الأخلاق السياسية المتمثلة في حقوق الانسان، حيث إنّ كونية الحضاره الغربية لا ترتكز على أسس تعطيها المشروعية. ومن هنا فمحاولات الغرب لنشر قيمه الحضارية هي مجرّد موقف استعماري أي هي مجرّد ” امبريالية ثقافية “. فتعميم هذه القيم لا يرتكز على مبررات كونية. ” وحال هذا الانسان الذي يحول هذه الرؤية المحدودة من عبر الزمن يحولها إلى مطلق حاله حال الانسان الذي يتطلع إلى الأفق، فلا تساعده عينه إلا على النظر إلى مسافة محدودة، فيخيل له بأنّ الدنيا تنتهي عند الأفق الذي يراه… وكذلك هنا هذا الانسان الذي يقف على طريق التأريخ الطويل، على طريق المسيرة البشرية له أفق بحكم قصوره الذهني بحكم محدودية الذهن البشري له أفق كذلك بحكم الأفق الجغرافي، ولكن هذا الأفق يجب أن يتعامل معه كأفق لا كمطلق… لا يحول هذا الأفق التأريخي إلى مثل أعلى، وإلا كان من قبيل من يسير نحو سراب.”((اقتصادنا: 362 ـ 264، حيث حلل الصدر مفهوم منطقة الفراغ كمبدأ وكأداة منهجية لربط الشريعة المطلقة بحركة التأريخ.))

وقد لعبت التاريخانية دوراً كبيراً في ظهور القوميات في أوروبا أولا، ثم في جميع بقاع العالم ثانياً خاصة في العالم الإسلامي،  لذلك يرى الصدر بأنّ القيم الأخلاقية والسياسية الغربية ليست في أكثر جوانبها قيماً كونية، فهي تستمد وجودها وقوتها من التفوق التكنولوجي والعسكري، فالكونية هنا هي كونية مزيفة على غرار المثل الأعلى المزيف الذي تسعى نحوه الحضارة الغربية.

منابع القوة في فكر الصدر

إنّ قوة كتابات الصدر وتماسك أفكاره ورؤاه تكمن في المقاربة الموضوعية للمشاكل. فهو قد اعتمد على تحليل الظواهر كما هي لا كما يجب أن تكون، مع العلم بأن هذه المرحلة الأولى تمثل الأساس الذي بنى عليه

الصدر المشروع الحضاري الاسلامي. وقد عبر الصدر عن موقفه هذا من الناحية المنهجية عن طريق مفهوم منطقة الفراغ، فمنطقة الفراغ أداة منهجية لربط الواقع بالمثال، وربط القيم الثابتة والمطلقة بحركة التأريخ أي ربط سياق الأمة في التاريخ بإطلاقية القيم الأخلاقية وكونيتها.((عبارة ” الواقع الفاسد ” ليست مجرد عبارة أخلاقية أن شعاراً، بل هي مفهوم معرفي وفلسفي ذو أبعاد أخلاقية إجتماعية وحضارية يطرحه الصدر ليكشف عن محدودة الفلسفة الغربية التي تدعي الكونية في حين أنها ليست في حقيقتها إلا إنعكاساً لظروف حضارة الغرب وظروفه. انظر: الاسلام يقود الحياة: 204 ـ 205 ـ 206.)) غير أن واقعية الصدر تختلف عن الواقعية كما تتجلى في الفلسفة الغربية. فالماركسية مثلا قد انطلقت من الواقع (واقع المجتمعات الغربية) وبينت كيف أن رأس المال يزيل إنسانية الانسان. لكن واقعية ماركس هي مجرد انعكاس لواقع معين هو واقع الشعوب الغربية وتاريخها، فهي حقيقة لعالم بدون حقيقة وبدون معنى، فماركس يرى أن المادة هي التي وجدت أولا ثم وجدت الحياة، وبعد ذلك وجد الانسان، وفي الأخير سيظهر الانسان الشيوعي كتتويج لحركة التأريخ، فمادية ماركس هي مجرد انعكاس لواقع معين، إذن وهو واقع يتمثل في الحضارة الغربية المنفصلة عن الغيب.

لا شك أن واقعية ماركس هي واقعية تغييرية وثورية، إلا أن عملية التغيير تتم داخل الواقع الفاسد في نظر الصدر، فمفاهيم الفلسفة الماركسية هي مفاهيم مستمدة من الواقع بكلّ جوانبه الايجابية والسلبية: السلبية بكلّ صورها المأساوية المتمثلة في فصل الانسان عن الله.

أما واقعية الصدر فهي تختلف اختلافاً جذرياً عن واقعية ماركس هذه. واقعية الصدر معناها الانطلاق من الواقع لتجسيد ما يجب أن يكون. أي لتجسيد القيم الأخلاقية ذات المصدر الرباني في الحياة الانسانية. تجسيد هذه القيم في سياق ظروف المجتمع وأحواله ومتطلبات المرحلة التأريخية. وهنا يتجلى الاختلاف بين الصدر وبين أكثر المفكّرين المسلمين الذين عالجوا المشكلة الأخلاقية والاجتماعية على مستوى الفرد. في حين أن الصدر عالج المشكلة الأخلاقية والاجتماعية على مستوى المؤسسات، وعلى مستوى تداخل الحياة الذاتية مع الحياة الاجتماعية، لقد جمع الصدر بين مبدإ علاقة الانسان بالمثل الأعلى والتحليل النقدي للواقع، أي عالج المشكلة الأخلاقية والاجتماعية من منظور مفاهيمي وفي إطار الصياغة الفلسفية للرؤية الاسلامية في المجال الاجتماعي والأخلاقي (المذهب الاجتماعي والاقتصادي).

لا شك أن الفكر الاسلامي المعاصر يتميز بعدم الرضى عن الواقع باسم ارتباط الانسان في العالم الاسلامي بالله، وباسم النموذج الحضاري الاسلامي، لكن الفكر الاسلامي المعاصر بقي حبيساً في دائرة النزعة الأخلاقية، ولم يصل إلى مستوى التحليل النقدي والمفاهيمي للواقع إلا نادراً.

أما الصدر فقد انتقد الواقع وانتقد مفاهيم الفلسفة الغربية، التي تضرب بجذورها في الواقع الفاسد((الاسلام يقود الحياة: 241 ـ 142.))وقدم البديل الاسلامي في المجال الأخلاقي والاجتماعي والسياسي كما قدم المنهج الذي يتم عن طريقه تغيير الواقع.

وهكذا لم يعالج الصدر مشاكل الامة من موقع النزعة الأخلاقية، ومن موقع الشعارات التي لا تتعدى العموميات والتي تركز على الفرد. فنقد الصدر للنزعة الأخلاقية هو جانب من جوانب نقد الصدر

للمثالية، وقد ساهم الصدر في إثراء المذهب الاخلاقي الاسلامي بفضل نقده للنزعة الأخلاقية حيث فتح الأخلاق على التركيبة الاجتماعية وعلى ثقل الواقع بكلّ جوانبه وبكلّ حتمياته. وفي هذا السياق لم يحلل الصدر مسألة الإيمان من الزاوية العقلية المجرده، أو من الزواية الدينية وحدها، بل حلل هذه المسألة من خلال علاقة العقل بالدين وبالواقع، والواقع هنا معناه اهتمامات أمة كالتحرر من الاستعمار ومن التخلف، فالصدر قد أحدث تحولا في الفكر الاسلامي فيما يخص هذه المسألة، فالاشكالية تحولت عنده من الاهتمام بالانطولوجيا (فلسفة الوجود) في أفق الحقيقة إلى الاهتمام بالانطولوجيا في أفق العمل على تغيير وضعية الانسان في العالم. فهو لم ينظر إلى مسألة العلاقة بين الإيمان والعمل من خلال فقه الفروع، ولم ينظر إليها من منظور مفهوم الحقيقة، كما يتجلى في التيار الصوفي المنعزل عن اهتمامات الامة، فالصدر جمع بين الشريعة والحقيقة عندما حلل علاقة الايمان بالعمل.

ففلسفة الصدر أحدثت نقلة نوعية في تطور الفكر الاسلامي في هذه النقطة، التي تعتبر أساسية ومحورية فهو لم ينظر إلى مبدإ تطبيق الشريعة الاسلامية كشعار، بل نظر إليه نظرة اجتهادية أي نظرة حركية، فالصدر نظر إلى الشريعة من خلال التأريخ، ونظر إلى التأريخ من خلال الشريعة،  لذلك جاءت فلسفته الأخلاقية مرتبطة بالواقع وبالشرع معاً، وهذا ما يجعلها تختلف عن كلّ من الفلسفة الواقعية والفلسفة المثالية، تتجاوزهما بما تحتويه من أبعاد واقعية ومثالية من حيث انطلاقها من اهتمامات الأمة، ومن حيث الهدف الذي تتجه نحوه القيم الأخلاقية الاسلامية.

وهكذا فالصدر لم يطرح الرؤية الأخلاقية في الاسلام كمجرّد رد فعل على انحراف الحضارة الغربية، أو مجرّد رد فعل على مآسي واقع العالم الاسلامي، بل تعامل مع الواقع بصورة موضوعية عن طريق منهجية منطقة الفراغ كمنهجية تربط الواقع بالمثال، وتربط الشريعة كحقيقة مطلقة بحركة التأريخ، وما تتضمنه من أولويات ومواقف مرحلية، فليست المسألة مسألة طرح الحل الاسلامي مقابل أزمة الحضارة الغربية، لا شك أن موقف الصدر يتضمن هذا الطرح، ولكنه لا يتضمنه كطرح عاطفي متسرع من خلال الشعارات، بل يطرح الصدر الحل الاسلامي كهدف تسبقه مراحل، اي يطرحه انطلاقاً من مقاربة للواقع الراهن عن طريق منهجية التفسير الموضوعي ومنهجية منطقة الفراغ.

إن انطلاق الصدر من الواقع لإحداث عملية التغيير، لا يعني أن موقفه موقف مهادن تجاه هذا الواقع، لقد جابه الصدر الواقع واقع الأمة خاصة في العراق مجابهة اجتهادية، فالاجتهاد يتضمن في فلسفة الصدر الجهاد، والجهاد يتضمن بدوره الاجتهاد. فواقعية الصدر ليست واقعية مهادنة على غرار أصحاب فكرة ” المستبد العادل ” فقد كان موقفه موقفاً نقدياً بصورة جذرية تجاه السلطات المستبدة إلى درجة أنّه ضحى بحياته في صراعه مع السلطة المنحرفة في العراق. فواقعية الصدر ليست واقعية تبريرية على طريق ” الاحكام السلطانية ” وعلى طريقة فقهاء السلطان، بل هي واقعية تعبر عن مطلب من متطلبات الاجتهاد والجهاد.

كتابات الصدر تتميز بالوعي العميق بمعطيات واقع شعوب العالم الاسلامي وتنطلق ـ في نفس الوقت ـ من مبادئ وقيم لم يتم النظر إليها إلا كمبادئ وقيم مجردة لدى كثير من المفكرين المسلمين، وذلك مثل خلافة الانسان والتسخير. فالخلافة في فلسفة الصدر معناها الامكانيات التي يتمتع بها الانسان لتغيير نفسه وتغيير الطبيعة والتأريخ، فالصدر لم يحدد الانسان عن طريق مبادئ ميتافيزيقية في أفق التصور المجرد للإنسان، بل حدّد الانسان حسب هذه المبادئ من موقع علاقتها بالواقع الحي. فالخلافة أصبحت في

فلسفة الصدر قيمة روحية واجتماعية وحضارية ومفهوماً رئيسياً من المفاهيم المكونة لمذهب الاسلام في المجال الاقتصادي والاجتماعي، فالخلافة ليست حالة أو وضعية معينة، بل هي حركة فهي في تحقق مستمر وطاقتها لا تنفد.((التفسير الموضوعي: 99.))

فإطلاقية القيم الأخلاقية لا تنفي الواقع، بل تندمج فيه لتغييره ضمن منهجية منطقة الفراغ كمنهجية منقطعة النظير،  لأنها منهجية تقوم بعملية تركيبية بين الثابت والمتغير بين القيم الأخلاقية المطلقة ومتطلبات حركة التأريخ.

لقد فتحت العلوم الاجتماعية آفاقاً جديدة وخطيرة للفكر الأخلاقي، وذلك بكشفها عن العوامل النفسية والاجتماعية، التي تتم ضمنها الممارسة الأخلاقية. وقد اصطدم الفكر الاسلامي منذ القرن التاسع عشر بالعلوم، وقد أخذ هذا الاصطدام صورة العجز إلى يومنا هذا حيث اكتفى الفكر الاسلامي ـ كما يتجلى من كتابات ومواقف أكثر ممثليه ـ بطريقة الوعظ والارشاد ورفض العلوم الاجتماعية دون نقدها، ونقد موقفها من القيم الأخلاقية، ودون الاشارة إلى العوامل الاجتماعية والحضارية، التي تتم ضمنها

الأخلاقية، فالصدر يعتبر ـ في هذا الميدان ـ حالة استثنائية حيث انتقد العلوم الاجتماعية، وأرجعها إلى حجمها الحقيقي أي نظر إليها كعلوم تشكلت نتيجة لعوامل اجتماعية وتأريخية وثقافية خاصة بالغرب فنتائجها هي إذن نتائج نسبية، وبفضل هذه النظرة النقدية طرح الصدر المشكلة الأخلاقية طرحاً كلياً وصل إلى مستوى المفاهيم.

أخلاق الضغط وأخلاق الانتظار والتطلع

الضمير الجمعي كمصدر للأخلاق

يرجع علماء الاجتماع مصدر الأخلاق إلى المجتمع من حيث هو قوة تفوق الأفراد فالعلاقات بين الأفراد تنتج عنها ظاهرة تختلف عن الأفراد وتتجاوزهم هذه القوه يطلق عليها دوركايم العالم الاجتماعي الفرنسي اسم الضمير الجمعي فالمجتمع بالنسبة لهذا المفكر هو الذي يخرج الفرد من دائرة ذاته الضيقة، ويرفعه إلى دائرة أوسع وأرقى هي الحياة الاجتماعية، ومعنى هذا أن هناك حقيقة أخلاقية خارج ذوات الأفراد ووعيهم، هذه الحقيقة الأخلاقية تتجلى في المؤسسات والقوانين والقيم. ويستنتج دور كايم ـ انطلاقاً من هذه الأفكار ـ أن المثالي (المثل الأعلى) يمكن أن يتحقق في الواقع، فالمثل الأعلى ليس مجرد مستقبل يتطلع إليه الانسان، فالمثل الأعلى له وجوده في الواقع المعاش.

لا شك أنّ لعلم الاجتماع الفضل في إلقاء الضوء على علاقة الأخلاق بالواقع، غير أن علم الاجتماع لم يميز بين ميدانين مختلفين: ميدان ما هو كائن، وميدان ما يجب أن يكون، لم يميز بين المجتمع كواقع وكأمر واقع وبين القيمة. وعلى العموم علماء الاجتماع جعلوا الأخلاق كمجرد معطى اجتماعي أي كمجرد ظاهرة

اجتماعية مثل كلّ الظواهر الاجتماعية الأخرى.

نقد الضمير الجمعي

إنّ اعتبار المجتمع مصدراً للقيم الأخلاقية ينتهي ـ في نظر الصدر ـ إلى تأليه المجتمع “إذن كلّ قابلية وكلّ إبداع وكل فكرة هو قابلية ذلك العملاق، وإبداع ذلك العملاق، وفكر ذلك العملاق الطاغية، وكلّ فرد إنما هو تعبير عن نافذة من النوافذ، التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي.”((نفس المصدر (الفصول التي عالج فيها الصدر علاقة الانسان بالمثل الأعلى).))

نلاحظ أن نقد الصدر موجه إلى فلسفة هيجل، غير أنّه نقد موجه كذلك إلى كلّ المذاهب، التي جعلت من المجتمع مصدراً للقيم الأخلاقية.

فالصدر يرى بأنّ الأخلاقية ليست في حقيقتها ذات مصدر اجتماعي، فالتقدم في المجال الأخلاقي مرهون باستبطان الأفراد للقيم الأخلاقية واقتناعهم بقدسيتها وإلزاميتها. فلا وجود للأخلاق خارج الفرد كذات واعية. فالصدر انتقد مفهوم الضمير الجمعي، الذي جعله دور كايم مصدراً للقيم الأخلاقية، فلا يمكن للمجتمع أن يتطور ـ في نظر الصدر ـ إلا إذا استبطن كلّ فرد ـ عن اقتناع داخلي ـ فكرة التغيير أو فكرة الثورة كقيمة أخلاقية ملزمة. فكل تغيير لأحوال الأمة الاسلامية مرهون بتغيير ذوات الأفراد ـ في نفس الوقت ـ عن طريق استيعاب شروط تقدم الأمة كواجبات شرعية أو كقيم أخلاقية تتخذ معنى الواجبات الشرعية.

وهكذا فمبدأ التغيير يكمن في الحياة الداخلية للأفراد. فالتحول الاجتماعي والتحرر السياسي والاقتصادي يستمد جذوره من الفرد كشخص وكذات واعية لا من الضمير الجمعي. فالفعل الانساني ليس فعلا اعتباطياً أو مجانياً، فموقف الانسان من قضايا الواقع يتشكل انطلاقاً من بواعث تحتل فيها القيم الأخلاقية موقعاً رئيسياً، فالفعل الانساني يتضمن بالضرورة بعداً مثالياً على اعتبار أنه ليس مجرّد ردّ فعل آني تجاه الواقع.

والماركسية نفسها رغم ماديتها تؤكد على هذا الجانب،  فماركس يرى أن الفرق بين المهندس والنحلة يكمن في تصور المهندس لأهداف عمله قبل أن يقوم بهذا العمل، غير أن الماركسية تصطدم بفكرة التعالي بسبب نفيها لوجود الله ولوجود البعد الروحي في الانسان، فالتعالي في الفلسفة الماركسية مرتبط بإجرائية العمل، وليس من وظيفته دفع الانسان الى أهداف مثالية.

فكرة التعالي هي فكرة محدودة في الفلسفة الماركسية وفي الفلسفة الغربية على العموم،  لأنها فكرة مطروحة بدون أساس ميتافيزيقي أو ديني يبررها، فأساس التعالي في الحياة الإنسانية هو جود الله، وهذا ما جعل الانسان ينفتح على الواقع ضمن نظرة مستقبلية منقطعة النظير،  لأنها نظرة تفتح آفاق اللانهائي أمام الفعل الانساني أي أمام جهاد الانسان لتغيير العالم.((اقتصادنا ـ المقدمة: حيث حلل الصدر مفهوم ” الرقابة غير المنظورة ” نتيجة لعلاقة ” الأرض يالسماء “.))

ارتباط الأخلاق بالمفاهيم الاسلامية

لكن يجب ـ في نظر الصدر ـ أن لا ننظر إلى الأخلاق من زاوية الأوامر والنواهي الدينية في معناها الظاهر، أي من زاوية الأوامر والنواهي منعزلة عن النسق العام للقيم والمفاهيم الإسلامية، فهذه النظرة

الجزئية قد تجعل الباحث يضع الأخلاق الإسلامية ضمن أخلاق الضغط، وأخلاق الضغط تعني نفي ذات الإنسان كذات واعية ومسؤولة لا تتلقى الأوامر فحسب بل تستبطنها عن اقتناع داخلي، فكيف وفق الصدر في رؤيته إلى الأخلاق الإسلامية بين الأوامر الدينية وبين مسؤولية الانسان وضميره كصفتين ملازمتين لكلّ موقف ديني ولكلّ موقف أخلاقي؟

لم يحجز الصدر الأخلاق في الإطار الضيق لنظرة متسرعة إلى الشريعة، أي في الإطار الضيق لفقه الفروع المنعزل عن الرؤية الاسلامية إلى الكون والمجتمع والانسان والتأريخ، بل نظر الصدر إلى الأخلاق من خلال أصول الفقه، وما يتضمنه من جوانب منهجية وفلسفية.

فالفرق بين فقه الفروع وأصول الفقه يكمن في أن الأول يتميز بالنظرة التجزيئية إلى النص وإلى القضايا، في حين أن أصول الفقه يتميز بالنظرة الكلية والمنهجية إلى النص وإلى الواقع،  لذلك لا يمكن الوصول إلى صياغة المذهب الاجتماعي والأخلاقي الإسلامي بالاعتماد على فقه الفروع وحده، فمنهجية أصول الفقه المنفتحة على المفاهيم هي التي مكنت الصدر من صياغة المذهب الاقتصادي في الاسلام، ومكنته من صياغة المذهب الاجتماعي والأخلاقي في الاسلام من خلال كتاباته خاصة اقتصادنا والتفسير الموضوعي وسلسلة الاسلام يقود الحياة.

انطلاقاً من هذه المنهجية يرى الصدر بأن الأخلاق الاسلامية لا تتمثل في الأوامر والنواهي الدينية وحدها منعزلة عن الجوانب الدينية الأخرى، فالأوامر والنواهي لا معنى لها بدون عقيدة، وما تتضمنه من ” نية ” و ” خشوع ” وما تقتضيه هذه القيم والمفاهيم الدينية من ذات واعية ومسؤولة، فلا يمكن تصور نية وخشوع وتقوى دون ضمير خلقي أي دون قوة ذاتية تقتنع بإلزامية القيم الدينية الأخلاقية وقدسيتها.((الإسلام يقود الحياة (فصل علاقة الانسان)ابتداءً من 129.))

فالقيم الأخلاقية إذا لم تستمد مصدرها من الغيب تصبح مجرد مفاهيم نظرية، أو تصبح مجرد قيم تواضع عليها المجتمع، أو كمجرد أوامر يتلقاها الأفراد عن إكراه من مصدر خارجي، فلا يمكن لهذه القيم أن تبرر إلزاميتها في نظر الصدر.

وهكذا لم يحاول الصدر تحليل الرؤية الاسلامية إلى الأخلاق من خلال ثنائية أخلاق الضغط وأخلاق المتطلع، فهذه النظرة نظرة متسرعة.

إن مرجعية الأخلاق في الرؤية الاسلامية تضع القيم خارج أخلاق الضغط فالايمان والنية والتقوى هي مفاهيم وقيم دينية تنتج عنها أخلاق مبنية على الاقتناع الداخلي، الذي ينبع من ذات الفرد، غير أن تدخل الفرد في العملية التقييمية لا يعني ـ في نظر الصدر ـ أن الانسان هو الذي يقيم وحده أو هو الذي ” يخلق ” القيم كما يرى سارتر.

إنّ ارتباط الانسان بالله وإسلام وجهه له يعطي للأخلاق طابعاً خاصاً. فإسلام الانسان وجهه لله يتخذ معنى التطلع إلى ما يجب أن يكون، ويتخذ معنى الالتزام تجاه قضايا الأمة واهتماماتها، فهناك فرق جذري بين الأخلاق في الرؤية الاجتماعية التي تجعل الضمير الجمعي مصدراً للقيم ومصدراً للإلزام أي تجعل قوة مجردة لا هوية لها مصدراً للأخلاق، وبين ربط القيم الأخلاقية بالله من موقع خلافة الانسان وما تتضمنه

من تطلع من طرف الفرد إلى قيم مطلقة عن إيمان ونية وتقوى، فيصبح الفرد في وضعية تجاوز لذاته، والانفتاح على الآخرين من خلال انفتاحه على المطلق.

دور مفهوم الخلافة

إنّ مفهوم الخلافة كما حلله الصدر يعني أن الفرد يحقق وجوده باستمرار عن طريق تجسيد إمكانياته في الواقع وفي التأريخ، فالخلافة انفتاح على المطلق، هي قيمة روحية وأخلاقية تتجسد عبر التأريخ، وهي ذات مستويين: المستوى الفردي والمستوى الجماعي والانساني المتمثل في الأمة. ومن هنا تتميز الخلافة في فلسفة الصدر بالشمولية التي تتكامل فيها كلّ الجوانب الروحية والأخلاقية والمادية والحضارية على العموم، فالخلافة من هذا المنظور ترسم الاطار العام لأخلاق التطلع والتجاوز تجاوز العجز والعقبات والاهداف النسبية.((نظرة الانسان إلى الزمن وعلاقتها بأخلاق التطلع وإعادة بناء الأمة، عالجها الصدر من خلال تحليله لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى ومن خلال تحليله لدور معنى الوجود في حركة التأريخ، كما أنّ فكرة الزمن وعلاقتها بحركة الأمة عبر التأريخ  قد عالجها السيد حسين الشامي في كتابه: الزمن في حركة العاملين ـ دار الاسلام ـ لندن ـ 1993م.))

لا تغيير بلا أخلاق ولا أخلاق بلا مطلق

لا يمكن تحقيق أي تحول اجتماعي بدون قيم أخلاقية متجذرة في ضمير الفرد، فالصدر يرى بأن القيم الأخلاقية هي التي تعبئ شعوب العالم الاسلامي لإعادة بناء الأمة، فالايديولوجيا لا تحتوي إلا على أهداف قصيرة المدى، على أهداف وغايات محدودة بمحدودية الشعارات، وبمحدودية مصدر الايديولوجيا الذي يتمثل في الانسان، فالايدلوجيا لا يمكن أن تحقق وحدها الأعمال الكبيرة كتوحيد الأمة وتحقيق نهضة الحضارة الاسلامية البديلة، فهذه العمليه تحتاج إلى قيم روحية وأخلاقية تنشأ عنها عواطف وتطلعات في مستوى الأهداف الكبيرة، لا يمكن للإيدلوجيا أن ترسم الأهداف الكبرى وتعبئ الانسان (إنسان العالم الاسلامي) للعمل على الوصول إليها، إلا إذا ارتبطت بالمطلق، فالارتباط بالمطلق هو الذي يؤسس الايدلوجيا على قيم روحية وأخلاقية تمكنها من إحداث الاقلاع الحضاري في العالم الاسلامي في نظر الصدر.

الايديولوجيا والغيب

فقوة الإيديولوجيا تكمن في بعدها الغيبي والأخلاقي، فهذه القوة هي التي تمكن الايديولوجيا من مجابهة تحديات حركة التأريخ، إنّ ربط الايديولوجيا بالغيب يعطي للإيديولوجيا قوة التجاوز، التي تفقدها الإيديولوجيا الوضعية المنقطعة عن الغيب، والتي انتهت إلى فردانية تُفتت المجتمع إلى أجزاء متنافرة، أو انتهت إلى جماعية أذابت الفرد في المجتمع وخنقته كشخص وكإنسان في نظر الصدر، ففي كلّ من النظامين الرأسمالي والاشتراكي يفقد الانسان الباعث على التضحية بمصالحه للالتزام بالقضايا الكبرى. البعد المادي للرأسمالية والاشتراكية أي البعد المادي المنقطع عن الله تنشأ عنه نظرة آنية إلى الزمن.((التفسير الموضوعي: 179 ـ 181 و 183 ـ 184.)) تتحد بحدود

وتجدر الاشارة هنا إلى أن الايديولوجيا كما يطرحها الفكر الغربي هي رؤية إلى الكون والانسان من إنتاج الإنسان، في حين أن الايديولوجيا لما تكون مرتبطة بإنسان العالم الاسلامي فهي مرتبطة بالعقيدة الاسلامية، وبالشريعة بصورة أو بأخرى في نظر الصدر ـ اُنظر مقدمة اقتصادنا ـ وكذلك: 359.

المصالح، وهذا عكس الايديولوجيا المرتبطة بالغيب، والتي تنشأ عنها نظرة مستقبلية من جراء تطلع الانسان إلى الأهداف الكبيرة نتيجة لارتباطه بالمطلق.((الاسلام يقود الحياة: 28 ـ 30.))

وهكذا فعملية التغيير ذات الأهداف الكبرى لا تتحقق إلا عندما يتم التغيير في ذات الانسان أولا، أي في ذهنيته وسلوكه تبعاً لمعنى الكون والحياة. ويرى الصدر أن إنسان العالم الاسلامي مرشح للتغيرات الكبرى المرتبطة بالأهداف الكبرى شريطة أن يستوعب علاقته التعبدية بالله من موقع خلافته لله في الأرض، أي من موقع روحانية إسلامية تختلف عن كلّ الروحانيات المريحة وغير الملتزمة بقضايا الانسانية واهتماماتها.((نفس المصدر: 29 ـ 36 ـ 38.))

الارتباط بالله قوة دافعة

إن ارتباط الانسان بالله ضمن العلاقة التعبدية يحرر الانسان من الحتميات القاهرة، التي يتخبط فيها الانسان المعاصر، الذي تتمحور حياته كلها حول الانتاج والاستهلاك. فالارتباط بالله يجعل من الانتاج عملا تعبدياً في نظر الصدر، أي يصبح الانتاج كظاهرة واقعية يصبح مرتبطاً بالقيم الروحية والأخلاقية، فانفتاح الجانب المادي من حياة الانسان على الله يحرر الوجود الانساني من العبث، الذي يؤدي إلى الضياع ويفتحه على حركة لا نهائية لها، لأنها حركة تتجه إلى الله. أي يصبح الوجود الانساني متوجهاً نحو الكمال المطلق. أي يصبح وجوداً في حركة لن تنتهي في “الفناء” في الله بالمعنى السلبي لهذا المفهوم، على غرار ما جاء في بعض تيارات التصوف غير الملتزمة، فليس هناك فناء في الله بهذا المعنى في فلسفة الصدر، بل هناك توجه نحو الله، وما يتضمن هذا التوجه من تطلع إلى المثل العليا في كلّ جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية، فالفناء في الله يلازمه الالتزام بقضايا الأمة والانسانية في نظر الصدر.

إذا كان ربط الأخلاق بالدين يشكل عائقاً أمام تحرير الانسان من الجهل والاستغلال والتخلف في نظر الاتجاه المحدث المتأثر بالماركسية وبالمذهب الوضعي في العالم الاسلامي، فإن علاقة الأخلاق بالدين وارتباط الانسان بالله يشكلان ـ في نظر الصدر ـ أساس الاخلاقية وأساس تحرير الانسان.

التغيير الاجتماعي بين الصدر وماركس

ويطرح الصدر في هذا السياق الفرق بين الثورة، كما تتجلى في النبوة والثورة، كما تتجلى في الفكر الفلسفي خاصة في جانبه الوضعي والماركسي، فالثورة بمفهومها الإسلامي تنطلق من تحرير الانسان على صعيد الذات،  لتنعكس على الجوانب الاجتماعية بعد ذلك، فالبعد الروحي والأخلاقي هو أساس لكل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فعملية التحرر تتم باسم القيم الأخلاقية، وهذا عكس الفلسفة الماركسية التي ترى بأن تحرير الانسان لا يتم بفضل القيم الأخلاقية، بل يستمد وجوده ومعناه من المجتمع والتأريخ. فالقيمة الأخلاقية تستمد وجودها من صورة وشكل وسائل الانتاج، وما ينتج عن هذا الشكل من علاقات التوزيع، فالصراع الطبقي لا يرتكز على قيم أخلاقية معبئة على غرار الرؤية الاسلامية، بل

المصالح، وهذا عكس الايديولوجيا المرتبطة بالغيب، والتي تنشأ عنها نظرة مستقبلية من جراء تطلع الانسان إلى الأهداف الكبيرة نتيجة لارتباطه بالمطلق.((الاسلام يقود الحياة: 28 ـ 30.))

وهكذا فعملية التغيير ذات الأهداف الكبرى لا تتحقق إلا عندما يتم التغيير في ذات الانسان أولا، أي في ذهنيته وسلوكه تبعاً لمعنى الكون والحياة. ويرى الصدر أن إنسان العالم الاسلامي مرشح للتغيرات الكبرى المرتبطة بالأهداف الكبرى شريطة أن يستوعب علاقته التعبدية بالله من موقع خلافته لله في الأرض، أي من موقع روحانية إسلامية تختلف عن كلّ الروحانيات المريحة وغير الملتزمة بقضايا الانسانية واهتماماتها.((نفس المصدر: 29 ـ 36 ـ 38.))

الارتباط بالله قوة دافعة

إن ارتباط الانسان بالله ضمن العلاقة التعبدية يحرر الانسان من الحتميات القاهرة، التي يتخبط فيها الانسان المعاصر، الذي تتمحور حياته كلها حول الانتاج والاستهلاك. فالارتباط بالله يجعل من الانتاج عملا تعبدياً في نظر الصدر، أي يصبح الانتاج كظاهرة واقعية يصبح مرتبطاً بالقيم الروحية والأخلاقية، فانفتاح الجانب المادي من حياة الانسان على الله يحرر الوجود الانساني من العبث، الذي يؤدي إلى الضياع ويفتحه على حركة لا نهائية لها، لأنها حركة تتجه إلى الله. أي يصبح الوجود الانساني متوجهاً نحو الكمال المطلق. أي يصبح وجوداً في حركة لن تنتهي في “الفناء” في الله بالمعنى السلبي لهذا المفهوم، على غرار ما جاء في بعض تيارات التصوف غير الملتزمة، فليس هناك فناء في الله بهذا المعنى في فلسفة الصدر، بل هناك توجه نحو الله، وما يتضمن هذا التوجه من تطلع إلى المثل العليا في كلّ جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية، فالفناء في الله يلازمه الالتزام بقضايا الأمة والانسانية في نظر الصدر.

إذا كان ربط الأخلاق بالدين يشكل عائقاً أمام تحرير الانسان من الجهل والاستغلال والتخلف في نظر الاتجاه المحدث المتأثر بالماركسية وبالمذهب الوضعي في العالم الاسلامي، فإن علاقة الأخلاق بالدين وارتباط الانسان بالله يشكلان ـ في نظر الصدر ـ أساس الاخلاقية وأساس تحرير الانسان.

التغيير الاجتماعي بين الصدر وماركس

ويطرح الصدر في هذا السياق الفرق بين الثورة، كما تتجلى في النبوة والثورة، كما تتجلى في الفكر الفلسفي خاصة في جانبه الوضعي والماركسي، فالثورة بمفهومها الإسلامي تنطلق من تحرير الانسان على صعيد الذات،  لتنعكس على الجوانب الاجتماعية بعد ذلك، فالبعد الروحي والأخلاقي هو أساس لكل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فعملية التحرر تتم باسم القيم الأخلاقية، وهذا عكس الفلسفة الماركسية التي ترى بأن تحرير الانسان لا يتم بفضل القيم الأخلاقية، بل يستمد وجوده ومعناه من المجتمع والتأريخ. فالقيمة الأخلاقية تستمد وجودها من صورة وشكل وسائل الانتاج، وما ينتج عن هذا الشكل من علاقات التوزيع، فالصراع الطبقي لا يرتكز على قيم أخلاقية معبئة على غرار الرؤية الاسلامية، بل

الانتماء الطبقي هو الذي يحدد القيم الأخلاقية.((التفسير الموضوعي: 153 ـ 154.)) في حين أن الثورة كما تتجلى في النبوة تستمد معناها وقوتها من علاقة الانسان بالله والتقرب إليه. والصراع من أجل تحرير الانسان يتم ضد الخط المنحرف عن الطريق المرتبط بالله، وما ينجم عن هذا الانحراف من استغلال وقهر للشعوب. فالقيم الأخلاقية تأخذ موقعها في سياق علاقة الانسان بالعالم الآخر، وهذا ما يعطي للقيم الأخلاقية معنى وغاية، ويفتح المجال أمام الأفراد والمجتمعات لاستبطان القيم عن تقوى واقتناع، فالمعنى والتقوى والنية والتطلع صفات متلازمة في فلسفة الصدر الأخلاقية.

فليس هناك عبث حتى يصطدم الانسان بالعجز والاحباط، وليس الفرد مجرد عنصر ذائب في كلّ أكبر منه كالمجتمع أو الانسانية أو التأريخ حتى يصطدم الانسان بالضياع. فارتباط الانسان بالعالم الآخر يُثبت الذات ويعطي للقيم معنى وإلزامية، ويفتح الأخلاق على حركة التأريخ.

فلا مجال للأخلاق ـ في نظر الصدر ـ دون ضمير خلقي مع العلم بأن الضمير الخلقي، في فلسفة الصدر يختلف عن الضمير الخلقي بمفهومه الملائكي أي الضمير المنقطع ـ عن الله ـ فالمؤمنون يلتزمون في المجال الاجتماعي باسم الإيمان.

وهكذا، فعندما ربط الصدر الأخلاق بالايمان فإنه قد أسس الأخلاقية على مبدإ العلاقة العقائدية والشرعية بين الدين والمجتمع، كما أنّ هذا الموقف سمح له بنقد أخلاق الضغط، والتأكيد على أخلاق التطلع والتجاوز، التي تنبع من ذات الانسان عن اقتناع تقوائي إيماني.

الأخلاق المغلقة.. الأخلاق المفتوحة

هناك نقاط تلتقي فيها كل من فلسفة برجسون (Bergson) وفلسفة الصدر في مجال الأخلاق. لقد ميز برجسون بين نوعين من الأخلاق: أخلاق المجتمعات المغلقة، وأخلاق المجتمعات المفتوحة. الأخلاق المغلقة هي أخلاق الخضوع لمتطلبات المجتمع هي أخلاق المحافظة وأخلاق العادات والتقاليد، فهي أخلاق تنفي التغيير. أماالأخلاق المفتوحة فهي أخلاق التطلع والحركة. الأخلاق المفتوحة تتجسد من خلال شخصيات استثنائية تؤثر في ضمائر الأفراد. فالصدر يثير أحياناً نفس المواضيع فالاتفاق هنا هو اتفاق حول بعض المواضيع أو المسائل المرتبطة بالأخلاق، وليس اتفاقاً في الرؤية أو حول معالجة هذه المسائل. فالصدر يختلف عن برجسون، لأنه يعتبر أن الانسان يعيش الأخلاق المفتوحة في حياته اليومية، فلا وجود لقطيعة جذرية بين الأخلاق المغلقة والأخلاق المفتوحة، كما هو الأمر عند برجسون، حيث إنّ فلسفة الصدر تؤكد على علاقة الواقع بالمثال والنسبي بالمطلق. يقول الصدر: ” والقرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول أن تحول هذا الواقع المحدود إلى مطلق، وتحصر الجماعة البشرية في إطار هذا المحدود، يسمي هذا بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى (وَ الَّذِينَ اجتَنَبُوا الَّطاغُوتَ أَن يَعبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُم البُشرَى فَبَشِر عِبَادي * الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولَئك الَّذِينَ هَدَاهُم اللهُ وَأولئك هُم أُولُوا الألَبابِ)((الزمر: 17 ـ 18.)).

ما هي الصفة الأساسية المميزة التي ذكرها القرآن لمن اجتنب عبادة الطاغوت؟ قال: (فَبَشِر عِبَادي * الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ) يعني لم يجعلوا هناك قيداً على ذهنهم، لم

يجعلوا إطاراً محدوداً لا يمكنهم أن يتجاوزوه… جعلوا الحقيقة هدفهم،  ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه. يعني هم في حالة طموح في حالة تطلع وموضوعية..”((انظر التجديد والتغيير في النبوة ـ (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف)ـ بحث حول المهدي انظر كذلك: السيد حسين الشامي ـ الزمن في حياة العاملين (خاصة الفصل الثالث والرابع ـ حيث عالج المؤلف قيمة الزمن في التجربة النبوية وقيمة الزمن في حياة الائمة.))

ويرى الصدر بأن الاسلام لم يترك علاقة الثابت بالمتغير في المجال الأخلاقي عرضة لأي تأويل، بل حدد هذه العلاقة عن طريق مبدإ الاجتهاد ومنهجية منطقة الفراغ.

إنّ الصدر يربط، مثل برجسون، الأخلاق بحركة التأريخ، يربط الأخلاق بجاذبية كائنات استثنائية كمثل عليا للبشرية. غير أن هناك اختلافاً كبيراً يكاد يكون جذرياً في تحديد هذه الكائنات الاستثنائية. هذه الأخيرة لم تحدد بدقة من طرف برجسون، لا شك أن برجسون يرى بأن هذه الكائنات الاستثنائية تتمثل في الانبياء والقديسين. لكن برجسون لم يربط استثنائية هذه الكائنات بالتأريخ وبالواقع الحي كما فعل الصدر. فالصدر قد حلل الرسالات السماوية تحليلا سوسيولوجياً وتأريخياً وأخلاقياً، كما حلل حياة الأئمة عليهم السلام وأدوارهم ودور كل إمام بربط حياة الامام ومواقفه المعصومة بمتطلبات الشرع ومتطلبات المرحلة التأريخية، فنموذجية الإمامة حللها الصدر في تفصيلاتها مع الواقع ومع التاريخ من موقع عصمة الأئمة عليهم السلام.((التفسير الموضوعي: 158 ـ 163.))

هناك ثنائية في الرؤية الأخلاقية عند برجسون: ثنائية المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح، هذه الثنائية لا وجود لها في الفلسفة الأخلاقية لدى الصدر. فالمجتمع الراهن هو مجتمع مفتوح من حيث هو أمة (الأمة الاسلامية) الأمة ليست ما هو كائن فحسب، هي ما هو كائن وما يجب أن يكون من حيث هي مجتمع في تحقق مستمر.((انظر إلى المراجع السابقة حول ارتباط الانسان بالمثل الأعلى المزيف وبالمثل الأعلى الحقيقي، وما ينجم عن ذلك من أختلاف في درجة التطلع.))

التطلع

وعلى العموم فالهدف الذي يسعى إليه الانسان في الرؤية الصدرية هو هدف أسمى وأعظم من الهدف الذي تصورته الفلسفة الغربية، ونتيجة لذلك فالتطلع هو كذلك أقوى بكثير من فكرة التطلع التي صاغتها الفلسفة الغربية، حتى ولو كانت هذه الفلسفة تقول بوجود المطلق كما هو الأمر في فلسفة برجسون،  لأنّ هذا المطلق هو من تصور الانسان، ولا يمكن للانسان أن يتصور إلا مطلقاً غير حقيقي مطلقاً مزيفاً في نظر الصدر.

كما أنّ ربط الأخلاق بالغيب ينتهي ـ في فلسفة الصدر ـ إلى إنسان أعلى من الانسان الأعلى الذي تصوره نيتشه، فالتطلع إلى المطلق يزيد من قوة التطلع، ويقوي إرادة الانسان الذي لا ينظر إلى الواقع الراهن إلا من خلال الأهداف الكبيرة، التي يرسمها له ارتباطه بالغيب.((الاسلام يقود الحياة (فصل خلافة الانسان وشهادة الأنبياء).)) وليس الأمر كذلك في فلسفة

الأخلاق الغربية، فمفهوم الانسان الأعلى كما طرحه نيتشه ليست له مقومات. أي لا يتمتع بمشروعية طالما أن نيتشه فصل الحياة الإنسانية عن الروحانية ذات المصدر المطلق، واستبدلها بروحانية من تصوره كإنسان متأثر بالحضارة الغربية في مرحلة تاريخية معينة،  لذلك على الرغم من تأكيد نيتشه على إرادة القوة ونقده لكلّ العوامل، التي تؤدي بالانسان إلى الضعف نقول: على الرغم من ذلك، فإن فلسفة نيتشه جاءت كانعكاس للعوامل الاجتماعية والثقافية والحضارية بدلا من أن تطرح نفسها كفلسفة محولة للواقع (لا كمجرد رد فعل له) ففلسفة الأخلاق عند نيتشه هي في صورتها العامة فلسفة تبرير للواقع لا فلسفة تغيير.

الانسان الخليفة هو الانسان الأعلى وهو إنسان المستقبل

إنّ الانسان الخليفة ـ من منظور فلسفة الصدر ـ هو ” إنسان أعلى ” بمعنى خاص. هو إنسان أعلى بفضل عبوديته لله وليس إنساناً أعلى بفضل انقطاعه عن الله، فالعلو هنا هو علو تكريم، أقصد علواً روحياً وأخلاقياً وحضارياً، لقد طرح نيتشه مفهوم الانسان الاعلى كإنسان المستقبل الذي تحرر من الأخلاق المسيحية ومن الأخلاق التقليدية على العموم. أما بالنسبة للصدر فإنّ الانسان الخليفة هو إنسان المستقبل، والمستقبل هنا ليس خاصاً بمرحلة زمانية معينة يصل إليها الانسان لتنتهي حركته، فالمستقبل عند الصدر يعني الانفتاح على اللانهائي، فالانسان الخليفة هو الذي يجسد عن طريق عبوديته صفات الله وأسماءَه.

التطلع والمستقبل

إنّ تطلع الانسان الى ما يجب أن يكون من حيث هو تطلع يعبر عن مصير الانسان. إنّ هذا التطلع يجد في الرؤية الأخلاقية والاجتماعية الاسلامية منطلقاً ملموساً عن طريق الأحكام الشرعية، وما تتضمنه من مفاهيم يستمد منها المشروع الحضاري وجوده على الصعيد النظري والقيمي، فالاحكام الشرعية تمدّ التطلع بالوسائل المفاهيمية والقيمية، التي يتحقق هذا التطلع عن طريقها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس الأمر كذلك بالنسبة للمذاهب المثالية والطوباوية.

لاشك أن الماركسية عندما تطرح فكرة زوال الطبقات وزوال الدولة تطرحها ـ هي الاخرى ـ انطلاقاً من الواقع فماركس قدم أفكاره على أنها أفكار علمية في نظره. وطرح اشتراكيته على أنها اشتراكية علمية، ليميزها عن أنواع الاشتراكية الأخرى، غير أن الماركسية تنتمي في بعض جوانبها إلى المثالية، فهي قدمت الوسائل التي تمكن الانسان من الوصول إلى هدف لا علاقة له بالانسان، إلا أن هذا الهدف (المجتمع الشيوعي) يعبر عن منطلقات تصورها ماركس (المادة أصل الوجود، الدين أفيون الشعوب) انطلاقاً من مرحلة تأريخية في حقل حضاري ونظري معين هو الحقل الحضاري الغربي، ثم انطلاقاً من هذه الخصوصية عمّم أفكاره،  لتشمل كلّ الشعوب، بل لتشمل الكون كلّه (المادة أصل الكون).

إنّ التطلع إلى ما يجب أن يكون هو تعبير عن بعد من أبعاد الحياة الانسانية في نظر الصدر، فلولا هذا التطلع لما كان أي تقدم، ولبقى التاريخ جامداً لا صيرورة له، غير أنّ هذا التطلع إذا بقي عفوياً سينتهي إلى مثالية مجردة. وقد أكد الصدر على فكرة التطلع، وتجاوز كلا من المثالية والطوباوية من حيث قوة التطلع، ومن حيث سمو الهدف، فعلاقة الانسان بالمثل الأعلى تضع لحركة الانسان عبر التأريخ هدفاً يتجاوز العقل

ويتجاوز الخيال فتصبح المثالية والطوباوية مجرد انحراف لهذا التطلع.

فالصدر حاول أن يقدم نظرة جديدة إلى الانسان، يمكن الانطلاق منها لحلّ مشكلة أزمة الحضارة المعاصرة.

الانسانية بين الدين و«النزعة الانسانية»

لا شك أن الفكر الوضعي والماركسي، بل الفكر الغربي في أكثر تياراته، يرى بأنّ هناك اختلافاً جذرياً بين الدين والنزعة الانسانية (Humanisme). فالدين يتمحور كلّه حول الايمان بالله المتعالي في حين أن النزعة تنطلق من الانسان ولا تتجاوزه، وقد وصلت هذه النزعة إلى تأليه الانسان، فهي قد نفت وجود الله ووضعت الانسان مكانه فباسم قيمة الانسان تمّ نفي وجود الله.

أما الرؤية الدينية إلى الانسان فهي رؤية تنطلق من الله إلى الانسان، فالانسان يستمد قيمته الكونية بفضل علاقته التعبدية بالله، ويرى الصدر أن هناك تناقضاً جذرياً بين رؤية النزعة الانسانية إلى الكون والانسان، وبين رؤية الدين، فالنزعة الانسانية تجعل الانسان كمجرد نتيجة حتمية لعوامل مادية، ومصيره لا يتجاوز هذه الحياة.

لا شك أن النزعة الانسانية وضعت أهدافاً لحركة الانسان عبر التاريخ، إلا أن هذه الأهداف ليست في نظر الصدر إلا ” مثلا عليا تكرارية ” لأنها من صنع الانسان النسبي. أما الرؤية الدينية إلى الانسان فقد وضعت الله هدفاً يتطلع إليه الانسان، وهذا الهدف بوصفه المثل الأعلى الحقيقي يجعل من مصير الانسان مصيراً مرتبطاً بالخلود.

فالانسان يستمد قوته من علاقته التعبدية مع الله فبفضل هذه العلاقة يصبح الانسان خليفة لله في الأرض، فاستخلاف الانسان هو رحمة من الله، وكلما ازداد تطلع الإنسان إلى الله، ارتفعت قيمته وقوي مسار خلافته.((نفس المصدر: 141 ـ 142.))

وهكذا فقد صاغ الصدر انطلاقاً من الاسلام رؤية إلى الانسان تتجاوز النزعة الانسانية، فالانسان خليفة لله في الأرض،  لذلك فهو يتمتع بأبعاد وطاقات لا وجود لها لدى إنسان النزعة الانسانية. لقد أكدت النزعة الانسانية على العلم وعلى قدرة الانسان على تحويل الطبيعة وعلى العقل والارادة والحرية والفضيلة، لكن هذه الصفات محدودة بمحدودية مصدرها (الانسان والتأريخ) ومحدودية أهدافها التي لا تتجاوز هذه الحياة، فهذه الصفات تأخذ صورة أخرى في فلسفة الصدر. إنّها بانفتاحها على المطلق بفضل ارتباط الانسان بالله تصبح لا مجرد صفات محدودة بهذه الحياة، بل هي صفات تَخلُّق بأخلاق الله فلا حدود لها إذن، فهي في تحقق إلى ما لا نهاية على المستوى الانساني((نظام العبادات في الاسلام: 26.)).

وهكذا يمكن للرؤية الأخلاقية الاسلامية أن تلتقي مع الثقافة الغربية ومع غيرها في هذا المجال، إلا أن الرؤية الاسلامية تحدث تغييراً جذرياً للقيم الاخلاقية بربطها بالله، فتتجاوز قوة إلزاميتها مستوى القيم في صورتها الوضعية،  لتصل إلى مستوى الواجب الشرعي الذي يستوعبه المؤمنون كعلاقة تعبدية تقوائية بين

الانسان والله تنعكس على علاقة الانسان مع الانسان((التجديد والتغيير في النبوة ـ (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف).))

التطلع والرفض والتغيير

ومن هنا فإنّ تميز الاخلاق في الاسلام بالتطلع، لا يعني أنها أخلاق مثالية ومجردة. فالرسول صلى الله عليه وآله تعامل مع الانسان فرداً ومجتمعاً حسب معطيات الواقع، فالإسلام كما يتجلى من فلسفة الصدر لم ينفِ الحتميات الاجتماعية والتأريخية، بل تعامل معها وأنطلق منها. لذلك فالأخلاق لا تعني الهروب من الواقع، بل تعني استيعاب الواقع لتغييره.

لا شك أن كلّ تغيير يقتضي رفضاً للواقع الراهن وتطلعاً إلى مستقبل جديد. فحقيقة التغيير تكمن في تطلع الانسان ومحاولته لتجاوز أوضاعه، إلا أن رفض الواقع لا يعني ـ في فلسفة الصدر ـ رفض الواقع بإطلاق، فالرفض هنا ليس رفضاً انفعالياً، فالرفض قيمة أخلاقية،  لأنّ الواقع فاسد (الانحطاط، الاستعمار، التخلف، التبعية، الاستبداد…) وعملية الرفض عملية مبدئية. هذا على صعيد القيم، أما على الصعيد العملي، فالصدر يرى بأن التعامل مع الواقع ضروري، لاكتشاف عوامل تغييره.((التفسير الموضوعي (فصل السنن التأريخية وفصل عناصر المجتمع).))

فعملية التغيير لن تتم بمجرد الرفض. فالرفض في حد ذاته لا ينتج أي شي فعملية الرفض ينبغي أن تتخذ ـ في نظر الصدر ـ صورة التجاوز،  لكي تكون ذات نتائج إيجابية، أي تجاوز الواقع الفاسد من أجل الوصول إلى واقع أحسن. فالقيم الأخلاقية هي التي تجعل الرفض هدماً وبناءً. فالرفض في حد ذاته هدم، أي هدم ما هو كائن. وعملية التقييم هي التي تفتح الرفض على آفاق البناء((اقتصادنا: المقدمة، وكذلك: الاسلام يقود الحياة (فصل منابع القوة في الدولة الاسلامية) حيث حلل الصدر أخلاقية إنسان العالم الاسلامي كعامل أساسي في التركيبة الاجتماعية والذهنية التي ينتج عنها رفض بعض جوانب الواقع كالقومية والاشتراكية وفصل السياسة عن الدين.))

فليست القوى الاقتصادية هي التي تدفع بالشعوب إلى الثورة في نظر الصدر، بل القوى الأخلاقية. فالتناقضات التي تكمن في كل من النظامين السياسي والاشتراكي هي تناقضات معنوية وأخلاقية: التناقضات بين نتائج النظامين في الواقع وبين تطلعات الانسان الأخلاقية والروحية كالعدالة والمساواة والحرية،  لذلك فالامكانيات الاقتصادية تابعة للامكانيات الأخلاقية لا العكس بالنسبة للصدر، فكلّ عملية تغييرية في العالم الاسلامي ترتكز على مبررات أخلاقية.

التغيير الأخلاقي اساس التغيير الاجتماعي

وهكذا فالصدر عالج المشكلة الأخلاقية لا على صعيد نظري مجرّد، بل في إطار علاقة الأخلاق بالسياسة والحضارة وبالتاريخ،  لذلك ارتبطت فلسفة الصدر الأخلاقية بالوضع الراهن الذي يشكل اهتمامات الأمة (التحرر السياسي، التنمية، وحدة الأمة…) لكن معالجة الأوضاع الراهنة من طرف الصدر تمت في أفق النظرة المستقبلية، التي تتحدد انطلاقاً من معنى الوجود. فالأخلاق هنا هي أخلاق تطلع: رفض الواقع الفاسد لا ينتهي عند حدود الرفض. الرفض لا يكفي نفسه بنفسه في نظر الصدر، فهو

لا يأخذ معناه إلا في سياق التطلع إلى مجتمع جديد وحضارة جديدة وهذه الحضارة الجديدة ليست مجرد هدف غائم، بل تستمد معقوليتها وإمكانية تجسدها من السنن التاريخية فهناك تداخل ـ في نظر الصدر ـ بين القيم الأخلاقية والسنن التاريخية.((عالج الصدر مشكلة العلاقة بين القيم الأخلاقية وقوانين التأريخ في أفق تحليله لعلاقة السنن التأريخية بالغيب، وهو تحليل تمّ خارج الرؤية الاهوتية التي تميزت بها فلسفة العصور الوسطى في الغرب ـ انظر التفسير الموضوعي (فصل السنن التأريخية وفصل عناصر المجتمع).)) ومن هنا فحركة الشعوب الاسلامية عبر التأريخ لا تستوعبها مرحلة معينة بسبب الأسس الروحية للحركة،  لذلك فالتغيير إما أن يكون أخلاقياً أو لا يكون.

إنّ تغيير البنيات الاقتصادية والاجتماعية شرط ضروري ولكنه غير كافي. فأساس التغيير يبدأ من ذات الانسان. انطلاقاً من هذه الأفكار أكد الصدر على الطابع الروحي لثورات التحرير ولمعركة التنمية في العالم الاسلامي، وذلك كلّه من موقع الأبعاد الثورية والحضارية الملازمة للقيم الروحية و الأخلاقية.((الاسلام يقود الحياة: 29 ـ 30.))

إنّ تاريخ الانسانية لا يتحرك نحو الشر أو العدم والعبث، فالشعوب المستضعفة لا تُقهر وتُستعمر وتُستغل بصورة مستمرة. فهناك وعي شعبي ذو طابع أخلاقي وسياسي لدى شعوب العالم الاسلامي يجعلها تتطلع إلى تحقيق مجتمع عادل وحر.

الإمامة والأمة وأخلاقية الانتظار

المستضعفون وايجابية الانتظار

ألقى الصدر الضوء على الأهمية التأريخية للاستضعاف، وحلل الأسس التاريخية لهذا المفهوم. تجاوز الصدر التحليل الماركسي لمفهوم البروليتاريا، وهو التحليل الذي يجعل من البروليتاريا مجرّد نتيجة لحركة التاريخ. إنّ تأسيس الاستضعاف على قيم أخلاقية كونية، يجعل موقف المستضعف أكثر تأثيراً على حركة التأريخ من موقف البروليتاري، وهذا راجع إلى أنّ ربط الإنسان بحركة التأريخ بمعزل عن قيم أخلاقية موجهة لهذه الحركة، يجعل الانسان مجرّد منتوج تاريخي. في حين أنّ ربط الانسان بالقيم الأخلاقية، يجعله في علاقة تأثر وتأثير تجاه حركة التأريخ،  لذلك فالرؤية الأخلاقية عند الصدر هي رؤية جهادية لا تواكلية. فالأخلاق لا تنبع من روحانية غير ملتزمة، بل من روحانية ملتزمة سياسياً وحضارياً. وهذا ما يتجلى بوضوح من تحليل الصدر لعلاقة كلّ مرحلة من مراحل تاريخ الأمة بظهور الامام المهدي عليه السلام، فالأخلاق التي تتماشى مع علاقة المسلمين بالإمام المهدي عليه السلام ليست أخلاق انتظار (انتظار الظهور) بل هي أخلاق جهاد يؤسس الانتظار على محاولة استيعاب عوامل النهضة لتغيير الواقع المنحط. وبعبارة أدق فإن الانتظار ينبغي ـ في نظر الصدر ـ أن يكون مبنياً على السعي لتغيير الواقع لا على التواكل (الانتظار السلبي) فإن الانتظار الإيجابي الذي يؤكد عليه الصدر هو انتظار ملازم لمفهوم

الاستخلاف، ووعد الله بنصر المستضعفين. فهنا توجد علاقة بين الانتظار والظهور. أي توجد علاقة بين الواقع (انحطاط الأمة وتبعيتها) والمثال (ظهور الامام المهدي عليه السلام).((السيد محمد باقر الصدر: بحث حول المهدي ـ مكتبة أهل البيت ـ باريس 1983م ـ 60 ـ 61.))

فعلاقة إنسان العالم الاسلامي كفرد وكأمة مع الامام المهدي عليه السلام هي علاقة انتظار من نوع خاص في نظر الصدر. على العموم الانتظار هو انتظار تطلع لتجسيد مجتمع عادل. وإذا كان الطابع العام لظاهرة الانتظار هو السلبية. أي اتخاذ مواقف غير ملتزمة تجاه الواقع، فإن الانتظار في الرؤية الاسلامية غير ذلك في نظر الصدر،  لأنّ الانتظار يستمد قوته من العقيدة (التوحيد) ومن الشريعة، التي ترى في التزام الانسان بقضايا الأمة والانسانية واجباً شرعياً. وهكذا يتخذ الالتزام بقضايا الأمة في أفق الانتظار صورة الواجب الديني هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كلّ أنواع الانتظار الأخرى من هيجلية وماركسية وغيرهما، جعلت الانتظار مرادفاً لمفهوم نهاية التأريخ، فالانتظار هنا يعبر عن الوصول إلى المنتهى. منتهى حركة التأريخ، وهذا يختلف جذرياً عن الانتظار كما يتجلى في الفكر الاسلامي. خاصة في فلسفة الصدر: فالانتظار هنا ليس نهاية لحركة التأريخ، بل هو بداية جديدة لحركة الانسانية عبر التأريخ، وهي حركة تطلع وجهاد للتخلق بصفات الله وأسمائه،  لذلك فالانتظار هو رفض للواقع من حيث هو واقع متناقض مع ما ينبغي أن يكون. فثقل الواقع قد يجعل كل محاولة للتغيير أمراً صعباً أو مستحيلا، ويحول ذهنية المجتمع إلى ذهنية سلبية مهادنة تتأثر بثقل الواقع ولا تؤثر فيه. وهنا يأتي الانتظار ليكسر الحواجز النفسية التي تقف أمام محاولة التغيير والاصلاح. ذلك أن الانتظار في الرؤية الاسلامية كما تتجلى في فلسفة الصدر ليس مجرد هروب من الواقع عن طريق تخيل واقع أحسن منه. بل الانتظار تعبير عن بعد من أبعاد فطرة الإنسان التي تتميز بجانب متعال يجعل الانسان يتطلع باستمرار إلى مستقبل أحسن، والانتظار يلبي هذا التطلع.

إنّ أخلاق التطلع المرتبطة بالإمامة، يلازمها انتظار يختلف عن الرغبة، أو التعويض الناتج عن الهروب من ضغط الواقع. التطلع والانتظار لا يؤديان إلى موقف منفعل من طرف الانسان، بل يدفعان بالانسان إلى اتخاذ موقف فعال تجاه الأحداث. كما أن التطلع بدوره ليس مجرد أمل بل هو انتظار «انتظار الفرج». فإذا كانت الأخلاق التي تستمد مصدرها من المجتمع تعبر عن زمان مغلق، فإن الأخلاق التي تستمد مصدرها من التعالي تعبر عن الزمان المفتوح على اللانهائي.((انظر السيد حسين الشامي: الزمن في حركة العاملين، حيث عالج المؤلف قيمة الزمن في حياة الأمة عبر حركة التأريخ.))

لا شك أنّ هناك ايديولوجيات وفلسفات صاغت مشاريع أصبح يتطلع إليها الإنسان كالماركسية مثلا، فما هو الفرق بين هذين النوعين من التطلع: التطلع الملازم للأخلاق الاسلامية. والتطلع في الإيديولوجيات والمذاهب الفلسفية المنقطعة عن الغيب؟

يرى الصدر أنّ التطلع إلى مجتمع مثالي لازم البشرية منذ أقدم العصور. ولكن تطلع الشعوب الاسلامية يتميز بخصائص من حيث طبيعة التطلع ومن حيث الهدف. التطلع في الرؤية الاسلامية ليس تطلعاً غائماً، بل هو تطلع نابع من الدين الموحى: وعد الله بنصر المؤمنين، ووعده سبحانه وتعالى بانتصار الحق على الباطل. فالتطلع في الرؤية الاسلامية ليس مجرّد حالة ذاتية، أي ليس مجرّد حالة نفسية تعويضية، فحقيقة

التطلع يستمدها من ارتباطه بالله، فهو يتجاوز خصوصيات كلّ أنواع التطلع المرتبطة بخصوصية الظروف الاجتماعية والتأريخية،  لذلك يتميز هذا التطلع ـ من حيث المصدر ـ بقوة تجاوز هائلة في نظر الصدر، وهي قوة لا تمحيها السنون والنكسات كسقوط بغداد وسقوط الأندلس والانحطاط والاستعمار السياسي والاستعمار الجديد… فالتطلع ثابت من ثوابت ذهنية وسلوك إنسان العالم الاسلامي. أما من حيث الهدف فالمجتمع المثالي هو مجتمع كوني، لا وطني أو قومي على غرار النازية، أو إيديولوجية شعب الله المختار، أو المجتمع النموذج المجسد لنهاية التاريخ سواء في صورتها الهيجلية (الدولة) أو في صورتها الماركسية (المجتمع الشيوعي) أو في صورتها الديمقرطية اللبيرالية التي طرحها فُوكُوَياما في هذه السنوات الأخيرة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي.

إنّ أساس الأخلاقية في الاسلام، يكمن في كون الانسان عاجزاً عن الانتصار على قوى الشر دون إمداد غيبي. فوعي الانسان بعبوديته لله ونسبيته أمام كمال الله يفتح أمامه آفاقاً لا حدود لها للتحرر من الشر. والشر في نظر الصدر هو الشر بكلّ أنواعه الذهنية والسلوكية والاقتصادية والحضارية،  لذلك يرى الصدر أن السبب الرئيسي في سقوط الحضارات، وفي عدم وصول المجتمعات إلى الأهداف المثالية، يرجع إلى تفاؤل الانسان وشعوره بأنه يكفي نفسه بنفسه عن طريق العلم لتحقيق التقدم. فالفلسفة الوضعية نفت وجود الله وألهت الإنسان، واعتبرت الانسان مصدراً وحيداً للتقدم. فالانتظار هنا ينبع من الانسان ويتجه نحو الانسان لخلاص الانسان. أما بالنسبة لفلسفة الصدر، فالانسان لا يحرر نفسه بنفسه، وخلاص البشرية لا يتحقق عن طريق الانسان وحده، فخلاص البشرية هو خلاص إلهي: انتظار الامداد الغيبي (الظهور) عن طريق التطلع الواعي والمسؤول. فارتباط الانسان بالله عن طريق الشهادة (النبوة والامامة والمرجعية)((الاسلام يقود الحياة: 144 ـ 145.)) يجعله ينتصر على الشر مهما كانت تغيرات حركة التأريخ. فالانتظار يعبر ـ في الرؤية الاسلامية ـ عن موقف إيماني وتعبدي وأخلاقي نابع من الطبيعة البشرية ومرتبط بحركة التاريخ، وبشخص مجسد لهذا التطلع، والانتظار من حيث هو شخص استثنائي وتاريخي في نفس الوقت: استثنائي لأنه يجسد الامداد الغيبي. وتاريخي لأنه وُجد وهو موجود، ووجوده في الماضي يمكن التحقق منه ـ كحادثة تاريخية ـ عن طريق المنهج العلمي.((بحث حول المهدي 7: 19 ـ 21.)) فالصدر حاول من خلال تحليله لمفهومي النبوة والامامة أن يلقي الضوء على التطلع إلى مجتمع مثالي من حيث هو تطلع يعبر عن قيمة كونية توجد في كل زمان ومكان. فالتطلع له أساس في نظر الصدر. هو ظاهرة كونية ملازمة للانسان منذ أقدم العصور،  لذلك فالتطلع والانتظار صفتان متلازمتان((نفس المصدر: 19.)).

الانتظار يقع في عمق التوحيد

وقد عالج الصدر فكرة الانتظار خارج النزعة التشاؤمية. فالصدر أكد على أن وجود الانتظار في ذهنية الانسان وعواطفه يدعم القيم الأخلاقية باستمرار، والمسألة عند الصدر ليست مجرد تفاؤل أو تشاؤم،

فالتشاؤم هنا يعتبر تحدياً لله سبحانه وتعالى، ويعتبر مرادفاً لعدم الايمان بوعد الله بنصر المؤمنين وهو وعد يعطي للوجود معقولية ومعنى، فنفي انتصار الحق على الباطل يعني أن الوجود عبث، وأن الانسانية متروكة للصدفة، وهذا يعتبر تناقضاً صريحاً مع التوحيد، الذي يتضمن عقلانية صارمة تتجلى في معنى الوجود، وفي معنى حركة التاريخ التي تتجه إلى فوز المظلومين. إنّ هذه الرؤية التي يؤمن بها المسلمون ويستوعبونها من موقع إيماني، أي يستوعبونها كجانب من جوانب العقيدة. إنّ هذه الرؤية تدعم أخلاقية التطلع، وتحفظ الانتظار من أن يتحول إلى مجرد تفاؤل أو إلى يأس وتشاؤم. كما أن المسلمين مسؤولون عن توجيه الانتظار الوجهة الصحيحة التي تجعله تجسيداً مُسبقاً على الصعيد الذهني والعاطفي للمجتمع الفاضل والمثالي. فالانتظار كما يتجلى في فلسفة الصدر الأخلاقية ليس هروباً من الواقع بل هو حضور جهادي في الواقع. والخطورة تكمن ـ في نظر الصدر ـ في موقفين:

الموقف الأول:

ما ذكرناه حول الانتظار السلبي الناتج عن الهروب من الواقع، واللجوء غير المشروع وغير الشرعي إلى حالة نفسية مريحة.

والموقف الثاني:

أن يبقى وعي المسلمين دون مستوى التطلع والانتظار الذي تتطلبه القيم الروحية والأخلاقية الإسلامية، فيخضعون للأمر الواقع، ويُجمدون حركة الأمة عبر التأريخ.

فحضور الانسان في الواقع هو حضور يتجاوز الواقع، فإلانسان ظاهرة لا تكفي نفسها بنفسها،  لأن حقيقة الانسان تكمن في انفتاحه على المطلق، وما يتضمنه هذا الانفتاح من تجاوز وتطلع لا يعرف النهاية. فالقيم الأخلاقية بمفهومها الاسلامي تختلف عن القيم الأخلاقية المنظور إليها كقيم ذات مصدر إنساني. فهذه الأخيرة محدودة القوة والمدى تبعاً لمحدودية مصدرها. أما القيم الأخلاقية في المنظور الاسلامي فهي تتعالى على كلّ تصور وعلى كلّ الحدود، لذلك فإمكانياتها الاصلاحية والتغييرية لا حدود لها. ومن هنا فعلاقة إنسان العالم الاسلامي مع الواقع ليست علاقة لا تخلو من توتر ناتج عن قوة التطلع إلى ما ينبغي أن يكون.

إنّ القيم المرتبطة بانتظار الفرج (الظهور) لا تخدم غايات نسبية على غرار الانتظار في المذاهب الفلسفية، فالانتظار الملازم للإمامة هو انتظار يستمد قوته من قيم مُطلقة تتجاوز الأهداف النسبية وتدفع بالانسان إلى التطلع أكثر فأكثر لانفتاحه على المطلق. وهكذا فالإمامة والانتظار والتطلع وإطلاقية القيم هي جوانب متلازمة.

الطاقة الحركية في الانتظار

إنّ تمسك إنسان العالم الاسلامي بالقيم الروحية والأخلاقية المطلقة في أفق انتظار الفرج، يجعله لا يكتفي بالاعتماد على القوة المادية وحدها، أو على حتميات حركة التأريخ، بل يعتمد في الأساس على القوة الروحية، التي يستمدها من علاقته التعبدية مع الله.((نفس المصدر: 38 ـ 43 (حيث حلل الصدر الغيبة الكبرى والانتظار الملازم لها).)) إنّ نهاية التاريخ الحقيقية تتجسد في الظهور، فهي ليست نهاية مأساوية، أو نهاية مرادفة لمعنى كونية مزعومة (هيجل، ماركس، فوكوياما) فهي ليست نهاية مرادفة لمعنى الجمود، جمود حركة التاريخ، فنهاية التاريخ صفة إيجابية بفضل ما تتضمنه من قيم روحية وأخلاقية،((نفس المصدر: 41 ـ 43، وكذلك التفسير الموضوعي: 237 ـ 838.)) فالنهاية من حيث هي مجتمع فاضل منفتح على المطلق، لم توجد بعد على

المستوى الواقعي المحسوس، ولكنها حاضرة في ذهنية إنسان العالم الاسلامي كقيمة وانتظار وتطلع. فنهاية التأريخ من هذا المنظور هي التي تعطي للتاريخ معنى وهي التي يحدّد إنسان العالم الاسلامي سلوكه ومواقفه في أفقها،  لذلك فهي تتجسد يومياً وباستمرار في سلوك المسلمين.((بحث حول المهدي 7: 20 ـ 29، وكذلك (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف): 117 ـ 118.))

مفهوم الأمة

وفي هذا السياق تجسد الأمة علاقة القيم بالتاريخ، تجسد كونية القيم لا نسبيتها. فالأمة كمجتمع مفتوح على كل الشعوب والحضارات، تختلف عن كلّ أنواع المجتمع، التي ترتبط ارتباطاً سلبياً بالظروف الاجتماعية والتاريخية إلى درجة أنّ القيم الأخلاقية في هذه المجتمعات هي مجرّد انعكاس للواقع، في حين أنّ الامة في المنظور الاسلامي ذات علاقة بقيم تشمل كلّ الشعوب،  لأنّ الأمة ليست خاصة بشعب معين، والسياسة الموجهة للأمة ليست منفصلة عن الأخلاق. فهناك تداخل بين الأخلاق والسياسة والاقتصاد. الأمة ترتكز على قيم أخلاقية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية كالتوادد والعفة الاقتصادية ومحاربة الاستبداد. فكلّ هذه القيم وما تتضمنه من نتائج وآثار على الصعيد الاجتماعي والسياسي تختلف عن الوطنية الضيقة وعن القومية، وعن الدولة بمفهومها الهيجلي والغربي على العموم، فالقيم الأخلاقية بكلّ أبعادها السياسية والحضارية ليست خاصة بالشعوب الاسلامية وحدها، بل تشمل البشرية كلها: كالعلاقات الدولية المبنية على العدل، وكالتقوى كمقياس للأفضلية بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، وكوحدة الجنس البشري، فالأمة تتضمن وعي الأخوة البشرية كواجب شرعي.((الاسلام يقود الحياة: (فصل خلافة الانسان وشهادة الانبياء ـ خاصة تحليل الصدر لمفهوم الشهادة على الصعيد الفردي: النبيّ والامام والمرجع، وعلى صعيد الأمة): 129 وما بعدها.))

لذلك يمكن القول: إنّ إشكالية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة بين القيم الأخلاقية المطلقة وحركة التاريخ، تجد الحل في الإطار الاجتماعي والحضاري والأخلاقي المتمثل في الأمة. فالقيم الأخلاقية والحضارية الملازمة للأمة هي قيم كونية، فهي ذات طاقة تسمح لها بتوجيه الحوار بين الشعوب والحضارات. فالمشاكل الآن تتجاوز الحدود الوطنية والقومية،  لتصبح مشاكل عالمية، لا يمكن حلها إلا عن طريق مساهمة كلّ الشعوب انطلاقاً من قيم كونية، ومن جملة هذه المشاكل: أزمة القيم وأزمة الحضارة الغربية، وما ينتج عنها من علاقات مبنية على التبعية والاستغلال بين الشمال والجنوب.

وقد كشف الصدر عن ضعف أسس كونية الحضارة الغربية، التي تتمثل في حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية منفصلة عن الغيب، فقيم الحضارة الغربية ليست قيم تطلع في نظر الصدر، بل هي مجرد انعكاس للواقع وللأمر الواقع: المجتمع الصناعي وما يتضمنه من استغلال واستعمار للشعوب،  لتزويد الغرب بالمواد الخام، ولجعل الشعوب المتخلفة شعوباً مستهلكة للسلع الغربية.

فالحضارة الغربية لا تستمد كونيتها من القيم الأخلاقية والروحية في نظر الصدر، بل تستمدها من تفوقها الاقتصادي والصناعي والعسكري، وما ينتج عنه من تكييف للذهنيات والسلوك حسب متطلبات الانتاج والاستهلاك، وتعتبر هذه الوضعية تجسيداً لمقولة هيجل” كل واقعي معقول وكل معقول واقعي “

فالقوي يمتلك كلّ الحقوق باسم حركة التاريخ التي جعلته قوياً. ونفس الموقف في الفلسفة الماركسية: فحركة التاريخ الناتجه عن تطور البنية الاقتصادية (وسائل الانتاج) هي مصدر القيم الأخلاقية، فالقوي هنا يمتلك كلّ الحقوق، فحقوقه حقوق تأريخية، فالتاريخ هو الذي أنتج الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتاريا، التي ستتزعم كل التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية من موقع القوة لا من موقع قيم مطلقة وكونية، وكلّ ذلك يتم باسم حركة التاريخ، الذي يتجه نحو ظهور الدولة الكونية (الدولة البروسية) في نظر هيجل، ويتجه نحو ظهور المجتمع الشيوعي في نظر ماركس، ويتجه نحو ظهور المرحلة الوضعية حسب أ. كونت (A. Conte).

إنّ إعادة بناء الأمة الاسلامية ليست مجرد عملية سياسية في نظر الصدر، بل هي واجب شرعي، فهي من الناحية الفلسفية ظاهرة ميتافيزيقية وأخلاقية. لقد حجز كثير من المفكرين المسلمين موقفهم من الأمة داخل الإطار الضيق للواقع الراهن، فنظروا إلى الأمة من الزاوية السياسية، وتغافلوا عن علاقة الأمة بالانتظار والتطلع الناجمين عن علاقتها بالغيب. فالأمة الاسلامية ليست ـ في نظر الصدر ـ ما هو كائن، بل هي ما ينبغي أن يكون، وهذا بفضل علاقتها بالغيب،  لذلك يعتبر الصدر أنّ تاريخ الأمة كما يتحقق في هذا العصر هو تاريخ يجب النظر إليه لا كمجرد حوادث سياسية واقتصادية، بل ينظر إليه في أفق علاقة الأمة بالغيب، أي في أفق علاقة المسلمين بالإمامة، ومعنى هذا أن الأمة الاسلامية هي قيمة وحركة نحو المطلق، وليست وجوداً محصوراً في الراهنية، أي في حاضر مأساوي. فالأمة من هذا المنظور تطلع إلى ما يجب أن يكون، هي مجتمع في صيرورة، فهي ليست شعب الله المختار،  لأنها مفتوحة على كلّ الشعوب بفضل القيم الاسلامية ذات القوة الاستيعابية، كما أنها ليست أرضاً موعودة،  لأن الأمة لا تخصّ أرضاً معينة كما لا تخصّ شعباً معيناً. وهذا ما يعطي لمفهوم الأمة طابعاً كونياً وروحياً وأخلاقياً.

الأمة الشهيدة بديل للنموذج الحضاري الغربي

لقد حلل الصدر مفهوم الأمة الشهيدة انطلاقاً من التداخل بين الجوانب الروحية والأخلاقية والسياسية، وعالج مسألة أزمة القيم في الحضارة المعاصرة بطرح الأمة الاسلامية كبديل للنموذج الحضاري الغربي. فالأمة والامامة لا تتمثل في الماضي مثاليتهما أي لا تتمثل مثاليتهما في مرحلة تاريخية قد انقضت، بل مثاليتها مستمرة. فالامام لا ينقذ بحضوره فحسب بل ينقذ بغيبته كذلك، بما تحدثه هذه الغيبة من انتظار وتطلع لدى الشعوب الاسلامية، وما يحدثه هذا الانتظار من رفض ونقد للأمر الواقع.

فالأمّة الاسلامية كأمّة شهيدة تملك مقومات حل أزمة القيم وأزمة الحضارة المعاصرة. فدور الأمة يتجلى ـ في نظر الصدر ـ عبر التاريخ أكثر فأكثر خاصة في عصرنا عصر أزمات بما يتميز به من نزعة مادية عمّت كلّ جوانب الحياة، وبما يتميز من مآس نتيجة لزوال معنى الوجود. فوجود الأمّة عبر التأريخ معناه وجود قيم ثابتة وموجهة لحركة التاريخ، ووجود شعوب مرتبطة بالسماء وبوعد الله بنصر المستضعفين. وهذا ما يشكل لدى شعوب العالم الاسلامي موقفاً نقدياً ورافضاً تجاه كلّ ما يتناقض مع الاسلام، وما يقتضيه من قيم أخلاقية توجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فمن هذا المنظور هناك علاقة تلازم بين الأمّة والرسالية. الأمة الاسلامية كأمّة انتظار وتطلع هي أمّة رسالية في نظر الصدر، فالهوية الاسلامية (أي الأمة) ليست مجرّد حالة نفسية تعبر عمّا هو موجود، فالحالة الوجودية هنا هي حالة أخلاقية في نفس الوقت،  لأن هناك تطلع إنسان العالم الاسلامي إلى وحدة الأمّة، وعودتها إلى

مسرح التاريخ كأمة شهيدة (يلتقي الوجود بالقيمة).((نفس المصدر: 129 وما بعدها.))

في هذا الإطار العقائدي والقيمي والحضاري، قدم الصدر طرحه الفلسفي لأخلاقية الأمة من موقع علاقتها بالله، التي تنعكس على علاقتها بالانسانية وبالتاريخ ” وفي ظل هذا اللون من العلاقة (أي علاقة الأمة بالله) يتحقق مفهوم التوحيد الخالص للإنسان، الذي يعني إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية لله، وتحرير الانسان من عبودية الأسماء، التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.”((الاسلام يقود الحياة: 135.))

فلسفة الإمامة

فالأمّة الاسلامية أمّة شهيدة، فهي قيمة روحية وأخلاقية وسياسية وحضارية ذات دور رسالي وكوني، غير أن حركة الأمّة عبر التأريخ تقتضي إلى جانب الاحكام الشرعية والقيم الأخلاقية، تقتضي القيادة المعصومة التي توجه الأمّة لتحقق رسالتها.

والامام من حيث هو إنسان نموذج ليس فكرة مجردة، كما هو الأمر في فلسفة نتيشه (الانسان الأعلى). فالصدر يلجأ إلى التأريخ،  ليصف الامام ويحلل حياته وسلوكه، ليكشف عن جوانبه الروحية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية. فزعامة الامام زعامة كونية، وسلوك الامام ليس مجرّد ردّ فعل على متطلبات المرحلة التأريخية فحسب، بل سلوكه يساهم حسب الظروف الاجتماعية والتاريخية، التي يعيش فيها الامام في تهيئة البشرية لبناء الدولة الكونية، ومن هنا فالقيم التي يمارسها الامام هي قيم كونية، فالإمام يربط ـ من موقع عصمته ـ ما هو كوني بما هو خصوصي ونسبي (المرحلة التاريخية)((أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف))،  لذلك تستوعب الإمامة الحاضر من موقع علاقته بالمستقبل، وتدفع الأمة وتوجهها نحو الأهداف السامية. زعامة الامام تضرب بجذورها في قلوب الناس، وعلاقة الأمّة بالإمام مبنية على أخلاق التطلع لا أخلاق الضغط، فالأفراد يستوعبون زعامة الامام عن اقتناع داخلي.

لذلك فالعلاقة بين الأمّة والامام هي علاقة جذب،  لأن الامام يجسد ـ من موقع عصمته وتفاعله مع الناس ـ القيم الأخلاقية والروحية المعبئة للأمّة في تطلعاتها الروحية والأخلاقية والسياسية والحضارية. ومن هنا فالامامة ظاهرة روحية وأخلاقية وسياسية وحضارية. الإمامة تختلف عن الزعامة بمفهومها الوضعي. الزعامة كذلك معبئة للجماهير والشعوب، سواء كانت الانظمة اشتراكية أم رأسمالية أو فاشية، لكن درجة التعبئة تختلف عن تلك التي تحدثها الامامة،  لأنّ التعبئة التي تحدثها الامامة هي تعبئة تقوائية تعبدية، تتم في سبيل الله وتنشأ عنها قوة إلزامية، أكثر من القوه الالزامية التي تحدثها الزعامات الوضعية، كما أنها (أي زعامة الإمامة) ليست مجرّد حالة عاطفية أو غليان انفعالي يزول بزوال الزعيم، بل زعامة الإمامة ظاهرة كونية ذات مصدر غيبي، وليست مجرد ظاهرة اجتماعية أو تاريخية على غرار الزعامات الوضعية.

إنّ علاقة الواقع بالمثال لم تنقطع ولم تنته بانتهاء عصر الرسالة. فالإمامة كانت تجسد ما يجب أن يكون

في عصر منحرف عن الخط الرسالي (الملك). وجود الإمام في ذلك العصر كان في حد ذاته تحدياً للخط المنحرف.

التحدي لم يكن مجرّداً بل كان مرتبطاً بجزئيات الواقع وبالحياة اليومية. اتخذ التحدي صوراً مختلفة حسب متطلبات المرحلة التاريخية، التي وجد فيها كلّ إمام، مع العلم بأن متطلبات المرحلة كانت تخضع ـ في إطار علاقة الإمام بالواقع ـ إلى متطلبات الشريعة أولا، ثم إلى متطلبات المرحلة التاريخية ثانياً، فالمبادرة للشريعة لا للواقع، وقد يصل التحدي إلى أنّ الامام يدخل في مواجهة عسكرية مع الخط المنحرف مع وعيه لعدم تكافؤ الفرص، ومع وعيه بأنه يستشهد لا محالة كما وقع للامام الحسين عليه السلام.

فلسفة العصمة

فالإمام يتعامل مع الواقع من موقع خطه الرسالي ومن موقع عصمته، فهو إذن في موقف يستوعب فيه الشرع والواقع والتاريخ استيعاباً منقطع النظير. فرفض الامام للواقع المنحرف ليس رفضاً عفوياً أو عاطفياً، فهو ليس مجرّد رد فعل انفعالي على قساوة الواقع، بل الرفض ينبع من موقف يتميز بالوعي التاريخي المعصوم، وما ينتج عن هذا الوعي من نظرة مستقبلية واستيعاب لكلّ معطيات الواقع. يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر في هذا السياق:

” أي اتجاه عقائدي في العالم يريد أن يبني الانسان من جديد في إطاره، ويريد أن ينشئ للإنسانية معالم جديدة فكرية وروحية واجتماعية يشترط لأن ينجح… أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً… فالقائد في نظر الماركسية مثلا بوصفها اتجاهاً عقائدياً… يشترط فيه أن يكون معصوماً، إلا أن مقاييس العصمة تختلف. الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً بمقاييس ماركسية. والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الاسلامية يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلامية، والعصمة في الحالتين بمفهوم واحد. هو عبارة عن الانفعال الكامل بالرسالة… هذه هي العصمة… نعم العصمة في الاسلام ذات صيغة أوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الأخرى. وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الاسلام نفسها… والرسالة الاسلامية تختلف عن أي رسالة أخرى في العالم،  لأنّ أي رسالة أخرى في العالم تعالج جانباً واحداً من الانسان. الماركسية تمثل أحدث رسالة عقائدية في العالم الحديث تعالج جانباً واحداً من وجود الانسان وتترك الانسان حينما يذهب إلى بيته… حينما يخلو الانسان بنفسه… ليس لها أي علاقة معه في هذه الميادين، وإنما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر.

فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة… فالعصمة التي لا بد من أن تتوفر في قائد ماركسي ـ مثلا ـ هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائدية الماركسية. أما الرسالة الاسلامية التي هي رسالة السماء على وجه الأرض فهي تعالج الانسان من كلّ النواحي… في أي مجال من مجال حياته، ولهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة أوسع نطاقاً وأرحب أفقاً وأقسى شروطاً، وأقوى من ناحية مفعوليتها وامتدادها في كلّ أبعاد الحياة الانسانية.

فعصمة الامام عبارة عن نزاهة في كلّ فكرة وكلّ عاطفة وكلّ شأن، والنزاهة في كلّ هذا عبارة عن انصهار كامل مع مفاهيم وأحكام الرسالة الاسلامية في كلّ مجالات هذه الافكار والعواطف والشؤون.

“((أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 73 ـ 75.))

فعبارة ” مثلي لا يبايع مثلك ” عبارة يتداخل فيها الشرع مع العقل ومع العاطفة ومع الواقع والتاريخ، ومن هنا فواقعية الامامة هي واقعية مثالية ومثاليتها هي مثالية واقعية ” دائماً كان الائمة عليهم السلام يفكرون في أن يقدموا الاسلام لمجموع الأمة الاسلامية أن يكونوا مناراً أن يكونوا أطروحة أن يكونوا مثلا أعلى كانوا يعملون على خطّين:

خط بناء المسلمين الصالحين.

وخط ضرب مثل أعلى لهؤلاء المسلمين بقطع النظر عن كونهم شيعة أو سنة “((نفس المصدر: 70.)).

فتحديد دور النبوة والامامة والمرجعية شرط أساسي لتحديد علاقة الأمة بحركة التاريخ بصورة عامة وبمتطلبات عصرنا بصورة خاصة في نظر الصدر.

معنى الأسوة

إن ربط الأخلاق بالنبوة والإمامة ملازم لمعنى الأسوة، فحياة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام هي معيار كوني للحياة البشرية عبر التاريخ، والمعيارية عند الصدر لا تعني هنا الرجوع بصورة آلية إلى أفعال الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ومحاولة تقليدها بصورة آلية وسطحية، فالمعيارية عند الصدر تعني محاولة الوصول إلى رؤية كلية وشاملة لا جزئية إلى حياة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، فسلوك الرسول صلى الله عليه وآله والائمة عليهم السلام ومواقفهم اتجاه الظروف والأحوال الاجتماعية والتاريخية يجب النظر إليها في أفق وحدة الهدف الذي تسعى إليه الرسالة والإمامة.((نفس المصدر: تناول الصدر هذه المسألة بالتحليل في سائر مباحث هذا الكتاب.)) وهنا تطرح مشكلة فلسفية ذات أهمية كبرى: كيف يمكن القول: بأن حياة إنسانية خاصة هي المعيار النهائي لما يجب أن تكون عليه الحياة الانسانية عبر التاريخ. فالتاريخية مكون أساسي من مكونات ماهية الانسان. وجعل حياة إنسان كمعيار نهائي للبشرية عبر التاريخ يعني بأن النبوة والإمامة تتعاليان على التاريخ من حيث إنهما تشكلان معياراً لحركة التاريخ؟

الفلسفة الاسلامية كما صاغها الصدر تزيل هذا التناقض عن طريق منهجية الطرح لعلاقة التاريخ بالغيب. فالنبوة والامامة (من حيث استمرارهما للخط الرسالي) ذات جانب غيبي من حيث المصدر. ولكنهما تتمفصلان مع التاريخ، وترتبطان به، وتؤثران فيه من موقع علاقة الغيب بالواقع فالنبوة والإمامة تتعاليان على التاريخ،  لأنهما معياران للتاريخ. وهكذا ينتهي الصدر إلى القول: بأن النبوة والإمامة تتعليان على التاريخ وهما ظاهرتان تأريخيتان في نفس الوقت، فالتاريخية من حيث الممارسة والارتباط بالواقع لتغييره والتعالي من حيث المصدر((عالج الصدر هذه المسألة في: المرسل، الرسول، الرسالة (الفصل الثاني والثالث)، وفي: (أهل البيت تعدد أدوار ووحدة هدف)،))، لذلك فالقيم الأخلاقية تتجلى من خلال الواقع التاريخي للنبي

صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام إن حياة كل من النبي صلى الله عليه وآله والامام عليه السلام (الامام من حيث هو المحافظ على الخط الرسالي) تعتبر كظهور لنموذج مجتمع جديد لا يتحدد بالعرق أو الثقافة أو الوضعية الاجتماعية.((الاسلام يقود الحياة: 144 ـ 146.))

وهكذا تبين كلّ من النبوة والامامة ـ من خلال فلسفة الصدر ـ الطابع التاريخي للنموذجية وللمثالية: النبوة والامامة كنموذج مثالي متجذر في التاريخ (تفاعل الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام مع التأريخ) لا من حيث المصدر، بل من حيث التأثير في الواقع باسم قيم متعالية ومطلقة.

القيم الأخلاقية وحركة التأريخ مشكلة كونية القيم ونسبيتها

نسبية الأخلاق في الفكر الغربي

يواجه الفكر الاسلامي المعاصر مشكلة من أكبر المشاكل خطورةً طرحتها العلوم الاجتماعية في مجال الأخلاق: مشكلة نسبية القيم الأخلاقية. فالعلوم الاجتماعية ذات المصدر الغربي قد كشفت عن بعض الأسس النفسية والاجتماعية والتاريخية للقيم الأخلاقية، وقد جاء هذا الطرح مناقضاً لإطلاقية القيم وكونيتها، فقد أصبحت نسبية القيم الأخلاقية من بديهيات الفكر الغربي منذ العصر الحديث.

أما في العالم الاسلامي فالشعوب الاسلامية تستوعب القيم الأخلاقية على أنها بعد من أبعاد الايمان. فالأخلاق مرتبطة بالدين بصورة مباشرة،  لذلك فالمساس بكونية القيم هو مساس بالدين، فالاسلام يتضمن مبادئ عامة لأخلاق كونية، فالاسلام دين كوني، والأخلاق الملازمة له هي أخلاق كونية،  لذلك فنسبية القيم تعتبر من طرف الفكر الاسلامي مشكلة خطيرة، فهي تحدث قطيعة مع الماضي، وتؤدي إلى زوال هوية الأمّة الإسلامية.

الأخلاق عند الصدر كونية

وقد وجه الصدر نقده إلى هذا الموقف الغربي من الأخلاق، وحاول أن يبين بأنه إلى جانب البعد المتغير للقيم الأخلاقية هناك بعد ثابت وكوني، فالرؤية الاسلامية إلى الأخلاق تُوفق بين المتغير والثابت، بين الجانب المطلق للقيم والصيرورة التاريخية. ويرى الصدر بأن نفي الجانب الثابت للقيم الأخلاقيه، أو اختلال التوازن في العلاقة بين الجانب الثابت والجانب المتغير للقيم هو الذي انتهى بالحضارة الغربية إلى الأزمة. فالمصدر المتعالي للقيم الأخلاقية هو الذي يضمن كونية القيم وإلزاميتها، ويضمن ـ نتيجة لذلك ـ كرامة الانسان بصورة أعمق وأقوى من المؤسسات السياسية الوضعية المنقطعة عن الله.

إنّه لمن الخطإ في نظر الصدر النظر إلى الأخلاق من خلال مفاهيم الفلسفة الغربية جملةً وتفصيلاً. فالفلسفة لا تنظر إلى القيم إلا في جانبها النسبي، بعد أن كانت لا تنظر إليها إلا في جانبها الكوني المطلق. في حين أن الاجتهاد يطرح مبدأ الحركة والتغيير في ميدان القيم الأخلاقية. لكن هذه الحركة تختلف عن الرؤية الوضعية والماركسية،  لأنها مرتبطة بمعنى الوجود. فالدين ـ في نظر الصدر ـ هو الذي يمنح للقيم

الأخلاقية تعالياً حقيقياً وكونية حقيقية. فعزل القيم الأخلاقية عن التعالي يؤدي إلى زوال حقيقتها، وتصبح خاضعة للأمر الواقع أي تصبح خاضعة الى ما تواضع عليه الناس. وبدلا من أن تُحدث القيم الأخلاقية تحولات في الواقع تصبح مجرّد انعكاس لهذا الواقع وتبريراً له.

ارتباط الأخلاق بالتأريخ

إنّ الرؤية الأخلاقية في الاسلام مرتبطة بالتاريخ، فالتاريخ هو مسرح لسلوكات الانسان، هذه السلوكات وكلّ الحوادث التاريخية على العموم يتم النظر إليها كعبرة،  لذلك فالأخلاق مرتبطة بالواقع الحي وبالانسان كفرد وكمجتمع وكأمّة. ومن هنا فمعنى التاريخ كما يطرحه الصدر ليس مجرّد رؤية علمية أو فلسفية إلى التاريخ، بل تتضمن فكرة معنى التاريخ تقييماً أخلاقياً.

ويتجلّى من خلال كتابات الصدر: المرسل، الرسول، الرسالة، الامام المهدي، التفسير الموضوعي، يتجلى من هذه الكتابات أنّ الاسلام ربط بين الزمان والحوادث والقيم الأخلاقية والحضارية. فالقرآن الكريم تعرض للرسالات وللصراع الذي دار بين الأنبياء والمستكبرين، فهذه الحوادث وغيرها تُجذر انتباه الانسان وتعمقه،  لترفعه إلى مستوى تقييم تجارب البشرية. فالتاريخ كما يطرحه الصدر هو تاريخ مُقيم انطلاقاً من حوادث حيّة عاشتها البشرية على العموم والأمّة الاسلامية على الخصوص، فالتقييم لا يتم في المجرّد، فعودة الانسان الى التاريخ مرتبطة بمشكلة المصير: مصير الأمم والأفراد. فالخلاص فردي وجماعي. يقول الصدر مفسراً للآيتين: (لِكُلَّ أُمَّة أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَلاَ يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ)((يونس: 49.))

(وَ لِكُلَّ أُمَّة أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ)((الاعراف: 34.)) يقول: “نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أن الأجل أضيف إلى الأمة إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات، أو هذا الفرد بالذات إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد للأمة بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة هذا له أجل له موت له حياة له حركة… حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فأصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم… حينما حل هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي وقتئذ شمل الحسين عليه السلام أطهر الناس وأزكى الناس وأطيب الناس وأعدل الناس شمل الامام المعصوم عليه السلام قتل تلك القتلة الفظيعة هو وأصحابه وأهل بيته.

هذا هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التأريخ، ولا يختصّ بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع.”((التفسير الموضوعي: 56 ـ 60.)) مع العلم بأنّ الصدر يرى بأنّ ” المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة، والوضع الاجتماعي هو البناء العلوي، لا يتغير هذا البناء العلوي إلا وفقاً لتغيير

القاعدة.((نفس المصدر: 64.)) ومعنى هذا أن الشعوب لها شخصية أي قيمة، فليس التأريخ تاريخ الفرد ” البطل ” بل تاريخ الشعوب التي تتحرك في خط الهدى أو الضلال. أي تتحرك في الخط الرسالي أو الخط المنحرف من موقع استيعاب الأفراد للقيم الأخلاقية الملازمة للخط الرسالي أو عدم استيعابها لهذه القيم.

التقدم

إن معنى التاريخ عند الصدر يتخذ موقعه في مستوى أعلى من مستوى التقدم، ففلسفة التاريخ الغربية طرحت التقدم كقيمة مطلقة تكفي نفسها بنفسها. في حين أنّ معنى التاريخ في فلسفة الصدر هو الذي يتمّ من خلاله تقييم حركة التاريخ وتقييم التقدم، وذلك انطلاقاً من أنّ معنى التاريخ هو مفهوم محايث للتاريخ ومتعالي عليه في نفس الوقت، فالتاريخ يستمدّ معناه من علاقته بالمطلق،  لذلك فالتقدم ليس هو مصدر التقييم، بل هو موضوع للتقييم على اعتبار أنّ التاريخ لا يكفي نفسه بنفسه.((المدرسة الاسلامية: 113.)) لكن هذا لا يعني بأن القيم الأخلاقية هي قيم مجردة لا علاقة لها بالتاريخ. فالتاريخ بعد أساسي وجوهري للأخلاقية، وفي هذه النقطة بالذات تتميز الرؤية الأخلاقية الصدرية، فهي تختلف عن كلّ من النزعة الأخلاقية والمثالية اللتين تركزان على ما يجب أن يكون وتهملان الواقع، فالانسان يحقق مصيره في التاريخ، والقيم الأخلاقية تتجسد في كلّ جوانب الحياة كالثقافة والتكنولوجيا والتنمية. فتجسيد القيم في الواقع هو تجسيد لخلافة الانسان لله في الأرض.

فمفهوم التقدم ـ من هذا المنظور ـ هو مفهوم مجرّد، في حين أنّ الأخلاق ترتبط بالإنسان في الواقع، بالانسان كوحدة مادية وروحية واجتماعية وحضارية،  لذلك لم يطرح الصدر مشكلة العلاقة بين القيم الأخلاقية وبين التقدم في إطار الاشكالية الضيقة، التي تتأرجح بين نفي التقدم أو إثباته. فالتقدم يمكن أن يكون خلاصاً للبشرية، كما يمكن أن يكون سبباً لهلاكها. والحلّ يكمن ـ في نظر الصدر ـ في ربط التقدم بالقيم الأخلاقية التي توجهه لصالح البشرية. إنّ ربط حركة التاريخ بالقيم الأخلاقية يجعل التاريخ أكثر إنسانية،  لأنّ التاريخ يصبح تاريخ الانسان الواعي بمسؤوليته عكس فلسفات التاريخ الغربية، التي تحصر التاريخ في إطار أنساق فلسفية لا تعطي أية مبادرة للإنسان. بل كلّ شي يتمّ خارج الانسان الذي تدفع به التنمية نحو المجهول: حتمية العقل الكوني عند هيجل، أو حتمية تطور وسائل الانتاج عند ماركس.

فالصدر ربط المشكلة الأخلاقية بفلسفة التاريخ من منظور له نوعيته: معنى التاريخ يتضمن حتماً رؤية أخلاقية. فالتاريخ له معنى في نظر الصدر. فهو يتجه نحو الخير كالتحرر من التبعية والاستبداد، ودخول الشعوب المستضعفة في مسرح التاريخ.

أكد الصدر على علاقة الأخلاق بالتاريخ وبالميتافيزيقا في كلّ كتاباته، فمفهوم معنى الوجود هو مفهوم متعدد الجوانب فهو يشمل العقيدة والميتافيزيقا وفلسفة التاريخ وعلاقة كلّ ذلك بالقيم الأخلاقية. إنّ حركة التاريخ تتجه نحو الخير أو نحو الهلاك تبعاً للهدف الذي يتجه إليه الانسان. وبما أن الهدف ـ مهما كان ـ هو هدف ميتافيزيقي،  لأنه يعبر عمّا يجب أن يكون، فإنّ حركة التاريخ والقيم الأخلاقية مرتبطتان بالميتافيزيقا، ففي هذا السياق حلل الصدر الأبعاد الفلسفية والأخلاقية والحضارية لعلاقة الانسان بالهدف أو المثل

الأعلى. وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الصدر يميز بين المثل العليا المزيفة والمثل الأعلى الحقيقي (الله سبحانه وتعالى) المثل العليا المزيفة توجه التاريخ نحو الهلاك، والمثل الأعلى الحقيقي يوجه التاريخ نحو الخير ونحو تقدم منفتح على المطلق.

وهكذا فمفهوم التقدم في فلسفة الصدر ليست له علاقة مباشرة مع فلسفة التاريخ فحسب (حيث إنه يشكل عنصراً رئيسياً تقوم عليه فلسفة التاريخ كلّها) بل له علاقة مباشرة وجوهرية مع المشكلة الأخلاقية في نفس الوقت، وهذا ما يميز فلسفة الصدر عن الفلسفة الغربية.

فالصدر قد فتح ـ في هذا السياق ـ مجالا جديداً وواسعاً للبحث والنقاش وهو مجال يهمّ الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرخين وعلماء الكلام، فنظرة الصدر إلى الأخلاق تتداخل فيها الفلسفة وعلم الكلام وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.

تأليه الانسان وتأليه «الله»

إنّ ربط الأخلاق بالتاريخ من موقع علاقة الانسان بمثل أعلى قد انتهت بالفكر الغربي إلى تأليه الإنسان، في حين أنّ الصدر كلما أكد على القيم الأخلاقية كعامل أساسي في حركة التاريخ، كلما أكد أكثر على وحدانية الله وتعاليمه، ذلك أنّ المثل الأعلى في الفكر الاسلامي وفي الصياغة الفلسفية الصدرية لهذا الفكر ليس فكرة مجردة، وليس من إنتاج الفكر البشري، فالمثل الأعلى هنا هو الله الحي القيوم.

إنّ علاقة الإنسان بالله هي علاقة تعبدية تجعل الانسان في وضع جهادي يدفعه إلى تغيير وضعيته باستمرار.

إنّ هذه القوة المحركة للتأريخ التي يستمدها الانسان من علاقته التعبدية بالمثل الأعلى تتجاوز قوة ” الانسان الاعلى ” كما طرحتها فلسفة نيتشه، وتتجاوز قوة البروليتاريا الثورية كما طرحتها فلسفة ماركس، ولا تطرح هذه القوة (قوة الانسان من جراء علاقته بالمثل الأعلى) مشكلة انعكاسات التقدم العلمي والتكنولوجي على حياة الانسان (الانعكاسات السلبية كالتلوث واستغلال الشعوب) لأنّ التقدم ليس هو المرجع، أي ليس هو مصدر القيم، فحركة التاريخ لا تكفي نفسها بنفسها، بل تخضع للقيم الإلهية التي توجهها.

من إفرازات الفكر الغربي: الاستعمار والعنف الماركسي

إنّ القيم الأخلاقية في علاقتها بالتاريخ لا تجعل هذا الأخير أكثر إنسانية فحسب، بل تجعل التاريخ تاريخاً علمياً كذلك لا تاريخاً تمجيدياً أو تاريخاً يُوظف لصالح طبقة معينة أو شخص معين. ففلسفة التاريخ كما يطرحها الفكر الغربي ـ سواء كانت تعتمد على الجدلية أو على إطار مفهومي آخر ـ هي فلسفة تجعل مصدر الحركة والقانون الوحيد لحركة التاريخ في قوة اجتماعية (كالطبقة البروليتاريا) أو تجعل مصدر الحركة هو الزعيم أو ” البطل ” الذي يصنع التاريخ،  لذلك أصبحت فلسفة التاريخ في الغرب مجرد انعكاس للحضارة الغربية، أي أصبحت محجوزة في الإطار الضيق لشعب معين أو لعرق معين، فهي فلسفة للتاريخ لا تتمتع بآفاق كونية تسمح لها باستيعاب الانسانية كلها، وقد نتج عن هذه النظرة: الاستعمار واستغلال الشعوب وقهرها باسم التحديث أي باسم كونية الحضارة الغربية.((رسالتنا: 65 ـ 66.))

إن النسبية الضيقة لفلسفة التاريخ في الفكر الغربي، من حيث هي: فلسفة تعكس أحوال الغرب وظروفه، ومن حيث هي: فلسفة للتاريخ منفصلة عن القيم الأخلاقية. إنّ كلّ هذه المعطيات هي التي جعلت كلّ محاولة للوصول إلى مستوى النظرة الكونية محاولة فاشلة. فالماركسية طرحت مفهوم البروليتاريا كحقيقة كونية وواقعية في نفس الوقت، فهذه الطبقة المستغلة الآن هي التي ستوجد الشعوب غداً و توحد التاريخ في نظر ماركس. إن الطبقة البروليتاريا مفهوم يشكل ـ في نظر ماركس ـ مبدأً لتفسير التاريخ وطريقة للعمل على تغييره، فالطبقة البروليتاريا تكفي نفسها بنفسها، فهي لا تستمد معيار نشاطها السياسي ومواقفها تجاه الأوضاع من خارج وجودها، فوجودها شرط كافي لعملها ولنجاحها وانتصارها في المستقبل.

فالبروليتاري يمثل ـ في نظر ماركس ـ قوة تاريخية ويسعى إلى هدف إنساني،  لذلك يتخذ موقفه خارج القوميات وخارج الخصوصيات (خصوصية الشعوب) فهو الانسان الكوني، فبفضله تحقق الثورة أهدافها: زوال استغلال الانسان للإنسان، ومن هنا ترى الماركسية أن لا حاجة إلى قيم أخلاقية متعالية على التاريخ. فالبرولتياري هو فكرة وواقع في نفس الوقت، وقد انتهت الفلسفة الماركسية إلى تبرير عنف البروليتاريا باسم الثورة وباسم التاريخ.

يطرح الصدر مفهوم المستضعف كمفهوم يتناقض مع مفهوم البروليتاريا. المستضعف قد يلتقي ـ من بعض الوجوه ـ مع البروليتاري، فكلاهما يشكلان عاملا أساسياً ومحركاً للتاريخ، لكن الصدر يرى أن الماركسية لا تبرّر فلسفياً علاقة البروليتاريا بالواقع وبالتاريخ إذا كان التاريخ هو المرجع المطلق لكلّ ما يقع في الوجود، فكيف يتمّ تطلع البروليتاري إلى الهدف (زوال الطبقات). إنّ تطلع الانسان نحو ما ينبغي أن يكون يقتضي ـ في نظر الصدر ـ فلسفة تتناقض مع المادية التاريخية، التطلع والثورة يقتضيان علاقة مع التعالي ومع القيم الأخلاقية،  لذلك يرى الصدر أنه يستحيل التكلم عن تحقق مجتمع أكثر إنسانية في المستقبل دون الانطلاق من رؤية أخلاقية وميتافيزيقية ملازمة للرؤية العلمية إلى حركة المجتمع عبر التاريخ: قيم أخلاقية مرتبطة بالتاريخ ومتعالية عليه في نفس الوقت، ومعنى التأريخ مستمد من معنى الوجود (علاقة الوجود بالله) فالصدر قد كشف عن الطرح الناقص للمشكلة الاجتماعية في الفلسفة الماركسية، هذا الطرح الناقص الذي يضرب بجذوره في فلسفة للتاريخ مبتورة،

أي منقطعة عن الغيب الذي يبررها على الصعيد المعرفي والأخلاقي،  لذلك لا تستطيع الفلسفة الماركسية أن تحلّ المشكلة الاجتماعية، ولا تستطيع أن تحلّ أزمة الحضارة المعاصرة، فالجانب الانساني في الفلسفة الماركسية ـ وفي الفلسفة الوضعية على العموم ـ هو جانب إنساني محايث للتأريخ. فمصدره من التاريخ بل لا مصدر له خارج التاريخ، فهذا الجانب الانساني يمكن أن ينقلب ضد نفسه، وهذا ما وقع بالفعل حيث إنّ البروليتاريا بدلا من أن تحرّر البشرية زادت من مآسيها،((فلسفتنا: 33.)) فبدلا من أن تصبح دكتاتورية البروليتاريا مجرّد مرحلة ووسيلة مؤقتة للوصول إلى الشيوعية في نظر الماركسية، أصبحت غايتها في ذاتها، ونفس الأمر بالنسبة للفلسفة الوضعية، التي أنتجت الثورة الفرنسية وأنتجت الحداثة. فقد تمّ استعمار الشعوب واستغلالها، وابادتها باسم قيم الحداثة.((نفس المصدر: 43 ـ 44، وكذلك: رسالتنا: 65 ـ 66.))

ضرورة التعالي وأزمة المسيحية

وهكذا فالنزعة الانسانية التي تطرحها الماركسية والوضعية نفت التعالي، الذي لا يمكن تصور بعد إنساني في الانسان بدونه. فالتعالي يبرر البعد الانساني في الانسان، ويبرر تعالي القيم الأخلاقية وكونيتها. فالنزعة الانسانية قد ارتبطت بالتاريخ كمصدر لها. فالتاريخ هنا أخذ مكان الرسالات السماوية، وقد أكد الصدر على هذا الجانب كعامل رئيسي لأزمة القيم وأزمة الحضارة الغربية. ويرى الصدر أنّ كلّ مذهب ينكر المصدر المتعالي لحركة التاريخ (التاريخانية) يقضي على نفسه بنفسه، ويغيب نقد حركة التاريخ في هذا المذهب، وتزول كلّ محاولة للتحرر من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية. غير أنّ تاريخ الفلسفة يبين لنا بوضوح بأنّ ربط التاريخ بالتعالي وربط حياة الانسان بالغيب قد يؤديان إلى النزعة الغيبية (الغيب بمفهومه المبتذل) وقد أشار الصدر إلى هذه الظاهرة في مقدمة اقتصادنا وخاصة في التفسير الموضوعي، وبين بأنّ هذه الحالة ليست ملازمة للارتباط بالغيب بل هي ترجع إلى صورة هذا الارتباط وكيفيته، فهناك الصورة الشرعية لعلاقة الانسان بالغيب، وهناك الصورة غير الشرعية((التفسير الموضوعي: 78 ـ 79.))، وترجع أزمة الحضارة الغربية كذلك ـ في نظر الصدر ـ إلى أنّ المسيحية جاءت لتعالج قضايا مرحلة تاريخية معينة في مكان معين، لكن الكنيسة جعلت من الدين المسيحي ديناً لكل العصور ولكل المجتمعات في حين أنّ المسيحية ليست رسالة خاتمة حتى تكون مجهزة لأن تكون ديناً كونياً.((التجديد والتغيير في النبوة.))

أزمة الحضارة الغربية

وهكذا تلتقي عوامل أزمة الحضارة الغربية في نظر الصدر: فمصدر الأزمة يتمثل في الاتجاهات الفلسفية والدينية، التي لم تستطع أن تجد توازناً بين الجانب المادي والجانب الروحي في حياة الانسان. كما أنها لم تجد توازناً بين التعالي والمحايثة، وهذا ما جعل الفكر الغربي يعجز عن حلّ مشكلة العلاقة بين القيم الأخلاقية والتاريخ، فالفكر الغربي لا يتصور قيماً خارجة عن التاريخ وتؤثر في التاريخ،  لذلك انتهت كلّ المحاولات التغييرية إلى الفشل،  لأنّ مصدر إمدادها بالأفكار والقيم هو مصدر محدود، ويتجلّى من خلال كتابات الصدر أنّ البشرية لكي تتجاوز أزمة الحضارة المعاصرة القاتلة يجب أن تتحول الحلول من نظرية المعرفة المعتمدة على الابستمولوجيا الوضعية إلى نظرية للمعرفة تعتمد على ابستمولوجيا العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب بين التأريخ والحقيقة، أي يجب ربط حركة التأريخ بالنبوّة والإمامة اللتين تجسدان على الصعيد القيمي والفكري والسلوكي هذه العلاقة. إنّ إبستمولوجيا العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب تنتج عنها معرفة مفتوحة وفي حركة مستمرة تختلف عن نظرية المعرفة في المذهب الوضعي، التي تقضي على انفتاح العقل على حركة التاريخ باسم النسق.((لم يستخدم الصدر مفهوم الابستمولوجيا، إلا أنه يمكننا القول: بأن جزءاً كبيراً من كتاباته يتضمن مقاربة ابستمولوجيا للقضايا من طرف الشهيد، وتتميز هذه المقاربة عن كلّ أنواع الدراسات الوضعية،  لأنها مقاربة منقطعة النظير، ونشير في هذا السياق إلى أنّ الجزء الأكبر من التفسير الموضوعي يعتبر كله منهجية وابستمولوجية.)) الفلسفة الغربية كما تجلّت منذ القرن التاسع عشر هي فلسفة

تتميز بالتسرع في بناء الأنساق الفلسفية والوصول إلى مرحلة التركيب النهائي للأفكار والمذاهب فالبروليتاريا في المعسكر الاشتراكي سابقاً ـ خاصة في الاتحاد السوفياتي ـ قد عبرت عن النتائج التي تنتهي إليها فلسفة للتأريخ تدعي أنها تحتكر الحقيقة باسم نهاية التاريخ.((فلسفتنا: 33.))

مفهوم الاستضعاف

وليس الأمر كذلك عندما يتمّ ربط حركة التاريخ بالقيم الأخلاقية. إنّ فلسفة الصدر تطرح في هذا السياق مفهوم الاستضعاف كمفهوم كوني ينشأ عنه تاريخ كوني مرتبط بأهداف كونية، فالمستضعفون ينتصرون،  لأنهم هم الذين يتبنون القيم الأخلاقية ذات المصدر المتعالي، التي تؤهلهم لتجسيد خلافة الله في الأرض، وكلّ ما ينجم من هذه الخلافة من تقدم مادي ومعنوي وحضاري على العموم.

وإذا كانت الطبقة البروليتارية تعتمد في تحركها على الزعيم الذي يعبر عن طموحاتها، فإن المستضعفين يعتمدون في تغييرهم للتاريخ على الإمامة لا كمجرّد ظاهرة جماهيرية وسياسية فحسب بل كظاهرة تاريخية مرتبطة بالغيب، فهنا يكمن الفرق ـ في نظر الصدر ـ بين الزعيم والإمام بين البروليتاريا والمستضعفين. إنّ القيم المحركة للبروليتاريا هي قيم من صنع هذه الطبقة نفسها أو هي من صنع الانسان على العموم، في حين أنّ القيم المحركة والمعبئة للمستضعفين هي قيم ذات مصدر إلهي((بحث حول المهدي 7: 62 ـ 66 ـ الاسلام يقود الحياة (فصل الخلافة) 141 ـ 166)).

لقد أصبحت فلسفات التاريخ الغربية فلسفات فتّاكة للبشرية حيث أصبح الحادث التاريخي في حد ذاته هو المرجع المطلق للقيم،  لأنّ ” كلّ واقعي معقول وكلّ معقول واقعي “. إنّ الفكر الغربي كما يتجلّى عند كلّ من هيجل وماركس خاصة هو فكر تاريخي لا تخرج مرجعيته عن إطار الحادث، فهو فكر عدمي لا يبحث فيما وراء الحادث وما وراء التاريخ، فمنطق النزعة التاريخية (التاريخانية) يبرّر كلّ ما يقع في التاريخ،  لأنّ هذا الأخير تحول إلى إله لا يمكن الخروج من قبضته، فالثورة غير ممكنة إذن.

عقلانية محدودة

يطرح الصدر مقابل هذه الفلسفة التي تدعي الكونية فلسفة منطقة الفراغ وفلسفة علاقة الانسان بالمثل الأعلى، أي فلسفة الوعي العميق والتعبدي والمعرفي معاً بنسبية وضعية الإنسان في علاقته بالله سبحانه وتعالى.((اقتصادنا: 362 ـ 364.))

تنشأ من هذا الموقف عقلانية متحفظة ومتواضعة، ولكنها من جهة أخرى عقلانية قوية ولا نهاية لتقدمها،  لأنها منفتحة على الغيب، في هذا الإطار المعرفي لا تصبح القيم الأخلاقية مجرّد انعكاس للواقع ولحركة التاريخ، بل هي التي توجه التاريخ انطلاقاً من هذا الإطار المعرفي، كذلك طرح الصدر تحليله النقدي لأزمة الحضارة الغربية، وقدّم العلاج لهذه المشكلة، العلاج يتمّ انطلاقاً من قيم ذات مصدر متعالي على التاريخ، ويتمّ ـ في نفس الوقت ـ من داخل التاريخ عن طريق الوصول إلى معرفة عوامل النهضة والسقوط، والكشف عن أسباب الأزمة الحضارية، فتعالي القيم لا ينفي النظرة العلمية إلى حركه

التاريخ.((التفسير الموضوعي (الفصول التي عالج فيها الصدر مسألة السنن التأريخية وعلاقة التأريخ بالغيب).))

إنّ القيم الأخلاقية في فلسفة الصدر لها بعد عقلاني وبعد يفوق العقل، وهذان البعدان غير متناقضين، فما يفوق العقل (الغيب) هو تدعيم للعقل حيث إنّ هذا الأخير بانفتاحه على المطلق يتحرك إلى ما لا نهاية فكلّ، عملية تغييرية تقتضي المعنى (معنى الوجود) وتقتضي قيماً تبرّرها. فالانسان يتحرك باسم معنى الوجود وباسم القيم، فمعنى الوجود عملية عقلية: علاقة الوجود بالله تعقلن الوجود وتعقلن التاريخ، والمسألة على العكس في الفلسفة الوجودية خاصة في اتجاهها الملحد كما تتجلّى عند سارتر و أ. كامو (A.  Camus) فهذا الأخير يرى بأنّ الانسان يندفع نحو تغيير وضعيته انطلاقاً من تمرده (Seiolte) على العبث أي تمرده على لا معقولية وجوده، فهناك انفعال ميتافيزيقي تجاه العبث ينتج عنه تمرد ثم يتحول التمرد إلى ثورة، فالموقف الميتافيزيقي يتجلّى في نظر أ. كامو في الرفض: رفض الانسان لوضعيته من خلال مقولة العبث: عبثية وجود الانسان.

الرفض والتغيير

فلسفة الصدر تؤكد ـ هي الأخرى ـ على فكرة الرفض، لكن الرفض لا ينبع من انفعال ميتافيزيقي كرد فعل للاعقلانية الحياة الانسانية، بل ينبع الرفض من موقف ميتافيزيقي يشكل معنى للوجود يتناقض مع العبث، فالعبث هو الباطل ومعنى الوجود هو الحق. وهكذا يصل الصدر إلى القول: بأنّ الفلسفة الغربية لا تملأ الثغرة (أو لا تحل التناقض) بين العبث وتغيير العالم. فتغيير العالم لصالح الانسان يقتضي ـ في نظر الصدر ـ معنى الوجود كما يقتضي قدرة الانسان على التعالي: قدرته على التعالي على ثقل الواقع وحتمياته وقدرته على التعالي على أنانيته من حيث إنّ كلّ عملية تغيير تتطلب التضحية والتحرر من الأنانية. فالبعد الأخلاقي يقتضي بعداً ميتافيزيقياً، وكلاهما ضروريان لكلّ عملية تغييرية.

ويمكن أنّ نشير في هذا السياق لتدعيم فلسفة الصدر حول هذه النقطة إلى أنّ الثورات التي وقعت في العالم الاسلامي هي ثورات ضد العبث من أجل واقع يتماشى مع معنى الوجود، فالاستعمار عبث والتحرر من الاستعمار جهاد يقتضيه معنى الوجود.

وهكذا فعملية التغيير لا تنطلق من العبث بل تنطلق من مبدإ القضاء على العبث: فالثورة ـ من حيث هي جهاد ـ هي ثورة على العبث المتمثل في انحرفات حركة التاريخ، وهي تتم باسم معنى الوجود، والعبث لا يمثل إلا مرحلة مؤقته في حياة الانسان. فالتاريخ يسعى نحو تحقيق القيم المرتبطة بالحق. فهناك انتقال من اللامعقول (الثورة على العبث) إلى المعقول المتمثل في هذه الثورة وفي أهدافها، في حين أنّ مقولة التمرد على الوجود الانساني كما يطرحها أ. كامو (. A Camuo) تبقى محجوزة داخل العبث فليس هناك تجاوز للعبث،  لأنّ الوجودية الملحدة ترتكز على العبث كمقولة ميتافيزيقية، في حين أنّ فلسفة الصدر ترتكز على مقولة معنى الوجود كمقولة ميتافيزيقية تنفي العبث، فمعنى الوجود مفهوم تعبدي وأخلاقي وقوة معبئة لحركة الشعوب عبر التاريخ.((رسالتنا: 91 (حيث انتقد الصدر مقولتي العبث والحرية كما طرحتهما الفلسفة الوجودية).))

التحليل العلمي للتأريخ واطلاقية القيم

ونلاحظ في هذا السياق أنّ المذاهب الفلسفية، التي حللت التاريخ تحليلا علمياً انتهت إلى رفض إطلاقية القيم. وعلى العكس من ذلك فإنّ المذاهب الفلسفية التي أكدت على إطلاقية القيم لم تحلل التاريخ تحليلا علمياً، وقد تجاوز الصدر هذا الطرح الناقص لكلّ من التاريخ والقيم، فأكد على إطلاقية القيم وعلى الدراسة العلمية للتاريخ.

إنّ المقاربة العلمية لمشكلة القيم انتهت إلى اعتبار القيم نسبية، فهي مجرّد جانب من جوانب الثقافة،  لذلك فهي ذات طابع تاريخي، وقد عالج الصدر المشكلة الأخلاقية من منظور سيوسيولوجي (بالاعتماد على الدراسة الاجتماعية) وتاريخي، ولم ينته في دراسته إلى القول بنسبية القيم وتبعيتها للتاريخ، بل أكد على إطلاقيتها وكونيتها، ذلك أن الصدر لم يعالج المسألة من موقع التأكيد على إطلاقية القيم لينفي نسبيتها أو من موقع نسبية القيم لينفي إطلاقيتها، فدراسة الصدر جمعت الثابت بالمتغير، والنسبي بالمطلق، ومن هنا فتعالي القيم لا يعني نفي حركة التاريخ، فالقيم لا تتجسد إلا في المجتمع وفي التاريخ. إنّ الفكر الغربي ركز على التغيير وأهمل أو نفى كلّ ماهو ثابت، إنّ التغيير أدى إلى التشتت في نظرة الانسان إلى الكون والحياة، وانتهى بالانسان إلى الضياع، فلا وجود لمبدإ متعالي يجمع ما هو متعدد، ولا وجود لنظرة تركيبية. فلا وجود إلا للتغيير وما ينتج عنه من نظرة ناقصة إلى الكون والإنسان. ويرى الصدر أنّ هذا الموقف هو النتيجة الحتمية للنظرة المادية إلى الكون والإنسان، فالمادية يلازمها التعدد والتمزق، فلا يمكن أن تؤدي إلا إلى الصراع بين الأفراد وبين الشعوب، فجدلية المادية هي جدلية الصراع والتفتت والانقسام، في حين أنّ جدلية الروحانية الملازمة لعلاقة الانسان بالله هي جدلية موحدة،  لأنّ الروحانية ترتكز على قيم ومبادئ كونية.

التغيير عند الغرب وعند الصدر

إنّ الفلسفة الغربية تنظر إلى التغيير كتغيير قيمته في ذاته، أي التغيير يكفي نفسه بنفسه، وليست له غاية خارج نفسه، وليس الأمر كذلك في الرؤية الاسلامية التي تؤكد على التغيير وترفعه إلى مستوى العبادة، ولكن مفهوم التغيير هنا أعمق وأقوى من مفهوم التغيير كما طرحه الفكر الغربي، وهذا راجع ـ في نظر الصدر ـ إلى الغاية التي يسعى إليها التغيير، فهي غاية مطلقة (المثل الأعلى) فهو تغيير لا نهاية له، ولا ينزع نحو النسبية المشتتة على غرار التغيير في الحضارة الغربية: بل ينزع نحو التركيب والتوازن والديناميكية الوحدوية بحكم اتجاهه إلى المثل الأعلى، وما ينتج عن هذا الاتجاه من قيم ومبادئ تحفظ بدورها التغيير من الانحراف.((أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: يعتبر هذا الكتاب تجسيداً لهذه الأفكار، وكذلك التفسير الموضوعي.))

وهكذا فنقد الحضارة الغربية من طرف الصدر لا يعني رفض التغيير ورفض التقدم، بل يعني رفض رؤية معينة إلى التغيير وإلى التقدم، وهي تلك الرؤية التي اعتبرت التغيير كغاية نهائية تكفي نفسها بنفسها، ولم تؤسس حركة التاريخ على القيم الأخلاقية والروحية التي تحفظ التغيير من الانحراف.

الكونية والنسبية ومنطقة الفراغ

الصيرورة التاريخية تكفي نفسها بنفسها في الفكر الغربي، فهذا الموقف ينفي الأساس الميتافيزيقي للتاريخ وللقيم،  لذلك بقيت كلّ محاولات الفلسفة الغربية المعاصرة لحلّ أزمة القيم محصورة في إطار مرجعية

التاريخ. وبقيت الأزمة ـ في نظر الصدر ـ تعيد إنتاج نفسها من خلال هذا النموذج المعرفي، الذي هو مجرّد انعكاس للواقع المتأزم، وهذا ما يتجلّى بوضوح في النزعات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، ويتجلّى بصورة أوضح في المنهج الجدلي، الذي يقضي على نفسه بنفسه في نهايات وهمية للتاريخ، وقد انتقد الصدر كلّ هذه النظريات المعرفية وكلّ هذه المذاهب، وقدم المنهج البديل الذي ترتكز عليه نظرية المعرفة القادرة على استيعاب حركة التاريخ وتوجيهها، والقادرة على معالجة أزمة القيم. وهذا المنهج (منهج منطقة الفراغ) ترتبط فيه العناصر المتحركة بالعناصر الثابتة، التي تسمح لنظرية المعرفة بتجاوز ثقل الواقع وسلبيات الحضارة المعاصرة.

للقيم الأخلاقية بعدان في فلسفة الصدر:

بعدٌ كوني،  لأنّ القيم مطلقة فهي ليست خاصة بزمان أو بمكان معين.

وبعدٌ مرتبط بالوضع الذي يعيش فيه الانسان من حيث هو وضع متغير.

فللقيم إذن أبعاد كونية وأبعاد نسبية، ومنطقة الفراغ هي التي يتمّ عن طريقها ربط ما هو مطلق وكوني بجزئيات الواقع.

التعالي ومعيارية القيم

وقد حلل الصدر علاقة القيم الأخلاقية بالتعالي،  ليبرر كونية معيارية القيم. إنّ التعالي ـ كمصدر للقيم ـ ليس مجرّد قدرة على تجاوز الواقع، وليس التعالي ـ في نظر الصدر ـ هو الوطن أو القومية أو حتى الأمة الاسلامية إنّ التعالي فيما يخص مصدر القيم الأخلاقية هو الله. لا شك أن هناك ديانات سماوية ينظر أصحابها إلى مصدر القيم نفس هذه النظرة، وقد حلل الصدر هذه المسألة في بحثه (التجديد والتغيير في النبوة) هذا البحث يطرح مشكلة الكونية والنسبية في الرسالات السماوية. ويذهب الصدر إلى القول: بأنّ الرسالات السابقة على الاسلام جاءت لتعالج أوضاعاً معينة في زمان معين ومكان معين. والمشكل يطرح ـ في نظر الصدر ـ عندما ينظر معتنقو هذه الديانات إلى أنّ هذه الرسالات صالحة لكلّ زمان ومكان، فالتيار الفلسفي الغربي المتشبع بالدين يحاول أن يستخرج معيارية أخلاقية كونية من رسالة نسبية جاءت لتعالج أوضاعاً جزئية في مرحلة تاريخية معينة،  لذلك نفدت طاقات هذه الرسالات عبر حركة التاريخ، ولم تستطع أن توجه التاريخ بل على العكس، فالتاريخ هو الذي أصبح يوجهها حسب متطلباته، وهذا ما أدى بالفكر الأخلاقي والاجتماعي النابع من هذه الرسالات إلى العجز أمام حركة التقدم الحضاري، وإلى العجز عن تقديم معيارية أخلاقية ونظرية اجتماعية لحلّ أزمة الحضارة المعاصرة.

رأي برجسون والرد عليه

لقد حاول برجسون أن يعالج الإشكالية الكونية والخصوصية (النسبية) في مجال القيم الأخلاقية في كتابه ” منبعا الأخلاق والدين ” ويرى برجسون أنّ الانسان في المجتمعات المغلقة يبقى حبيساً في دائرة ما هو ثابت، فكأن الدفعة الحيوية (Sital Ltelam) التي تنتج عنها الأخلاقية قد تجمدت، أو بقيت تدور حول نفسها بدلا من أن تستمر في حركتها، فالقيم الأخلاقية المطلقة تصبح مرتبطة بزمان معين ومكان معين، فتتحول من مستوى الكونية إلى مستوى العادات والتقاليد. أما في المجتمعات المفتوحة (الأخلاق المفتوحة) فالانسان يرجع إلى مجرى الدفعة الحيوية، التي تلازمها أخلاق كونية تشمل الانسانية كلها.

إنّ المشكل المطروح هنا هو مصدر الأخلاقية ومصدر كونية القيم الأخلاقية، الدفعة الحيوية مفهوم غامض. لقد استبدل برجسون الدين الموحى بدين فلسفي أو بالفلسفة (فلسفته) إنّ الأخلاق المفتوحة

تنبع من الدفعة الحيوية المتجسدة في إنسان مثالي استثنائي هو ” البطل ” أو ” القديس ” غير أنّ المشكلة الأخلاقية تبقى مطروحة. فلسفة برجسون لم تبرر العلاقة بين القيم الأخلاقية والتعالي. الدفعة الحيوية مفهوم قابل لكلّ تأويل، ويمكن أن يوجه الأخلاقية نحو آفاق مجهولة، وليس الامر كذلك في فلسفة الصدر الأخلاقية، فالمثل الأعلى الذي يتطلع إليه الإنسان ويسعى إليه سعياً تعبدياً هو الله سبحانه وتعالى، والله ليس مفهوماً مجرّداً أو حياة أو دفعة حيوية أو زماناً خالصاً كما يرى برجسون. فالله حيّ قيوم ذو الصفات والأسماء الحسنى التي يسعى الانسان إلى التخلق بها، كما أنّ مفهوم البطل والقديس والانسان الاستثنائي في فلسفة الصدر هو: كائن تأريخي استوعب علاقته التعبدية بالله استيعاباً رفعه إلى مستوى العصمة: عصمة النبوة وعصمة الامامة((انظر تحليل الصدر لمفهوم العصمة في: أهل البيت تعدد أدوار ووحدة هدف: 73 ـ 77 أما بالنسبة لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى فاُنظر: التفسير الموضوعي.))، وبعد مرحلة العصمة تأتي مرحلة الاجتهاد في إطار المرجعية، فلا مجال هنا لعفوية العاطفة في الميدان الأخلاقي على غرار فلسفة برجسون، التي جعلت من الدفعة الحيوية ينبوعاً للقيم. فالاجتهاد يتمّ في إطار منهجية منطقة الفراغ، أي ربط حركة التاريخ بكونية المبادئ والقيم والمفاهيم الموجودة في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

وعلى العموم فالاسلام ـ في فلسفة الصدر ـ هو الذي يحدّد علاقة الانسان بالله، التي تنتج عنها صورة خاصة لعلاقة الانسان مع الانسان في إطار علاقة القيم مع التاريخ، لا يمكن ـ في نظر الصدر ـ الارتباط بالله دون الارتباط بهموم الانسان ومآسيه والالتزام بتحويل وضعية الانسان، فالتوحيد له بعد أخلاقي وحضاري، فالتوحيد يغير التاريخ.

إخفاق تيارات الفكر الغربي

تعاني الفلسفة الغربية من أزمة قاتلة نتيجة لعماء في نظرتها إلى علاقة الأخلاق بالحداثة والتقدم الحضاري، هذا العماء أو هذا الضعف ناشئ عن فصل الفكر الغربي للأخلاق والحضارة عن معنى الوجود. هذه الظاهرة بدأت تطغى على الفكر الغربي منذ القرن السادس عشر، أي منذ أن بدأت الحداثة في الظهور. فالفكر الغربي في جانبه المتأثر بالفلسفة الأرسطية أخفق في بحثه عن أساس تُبنى عليه كونية القيم الأخلاقية كماهية الانسان أو مفهوم الطبيعة البشرية، وأخفقت تيارات الفكر الغربي الاُخرى، التي جعلت المجتمع أو التاريخ مصدراً للأخلاق، كما أخفقت التيارات التي جعلت الدين أساساً للقيم الأخلاقية، وهذا راجع ـ في نظر الصدر ـ إلى أنّ المسيحية ليست صالحة لكلّ زمان ومكان حتى تصبح أساساً لقيم أخلاقية كونية،  لذلك كانت العلمنة ظاهرة طبيعية في تاريخ الغرب.((التفسير الموضوعي: 167 ـ 168.))

وهكذا فالفكر الغربي المعاصر بكلّ تياراته الأرسطية والدينية والوضعية والماركسية قد عجز عن صياغة رؤية أخلاقية في مستوى مشاكل وأزمات الحضارة المعاصرة، بل على العكس أصبحت المذاهب الأخلاقية هي الأخرى في أزمة،  إذ تشكل هذه المذاهب جزءاً من ثقافة الغرب.

أما الفكر الاسلامي ـ في نظر الصدر ـ فهو مجهز بأدوات مفهومية وقيمية وشرعية لاستيعاب حركة التاريخ من موقع متعالي،  الاسلام وكونيته. وقد صاغ الصدر الأداة المنهجية لربط الفقه بالشريعة، ولربط

حركة التاريخ بالقيم المطلقة: منطقة الفراغ، فمنطقة الفراغ. هي منهجية علاقة الانسان باللانهائي ودليله في حركته نحو المطلق، فلا وجود من هذا المنظور لتناقض بين التجذر في الواقع وفي التاريخ وبين الدين، كما هو الأمر في علاقة المسيحية بالحضارة في الغرب، إنّ منهجية منطقة الفراغ تنتج عنها عقلانية تتجاوز في قوتها الاستكشافية وفي آفاقها المستقبلية عقلانية الفلسفة الغربية بكلّ تياراتها الهيجلية والماركسية والوضعية والوجودية.

«النسبية» في «التأريخانية»

إنّ تأسيس القيم الأخلاقية على التاريخ وحده جعل الحضارة الغربية منقطعة عن الماضي وعن المستقبل كذلك. فالتاريخانية تتناقض مع الرجوع إلى الأصل مع النظرة المستقبلية على اعتبار أنّها تجعل الانسان والحضارة مستغرقين في الواقع الراهن، وما يتضمنه من شروط اجتماعية وتاريخية قاهرة،  لأنّه لا وجود لمرجعية خارجها. فالحضارة الغربية لا تستطيع أن تراجع نفسها من موقع نقدي وهي ـ في نفس الوقت ـ مجرّد انعكاس للسياق التاريخي، فلكي تقوم الحضارة بهذا الدور يجب أن تكون مرتبطة بالمثل الأعلى الحقيقي، فلا قيم كونية إلا في أفق علاقة الحضارة بالمثل الأعلى الحقيقي، فخارج هذه العلاقة لا يوجد ـ في نظر الصدر ـ إلا التشتت والمنفعة، وما ينتج عنهما من صراع المصالح بين الأفراد والمجتمعات والقوميات، فالقيم الكونية وحدها هي القادرة على تجاوز تشتت النسبية الناجمة عن المرجعية التاريخانية.

«الكونية» في مفهوم «الأمة الاسلامية»

إنّ مفهوم الأمة الاسلامية يجسّد الكونية في التاريخ في نظر الصدر، الأمة الاسلامية كأمة شهيدة ليست مثالية إلى درجة التعالي على الواقع وعلى التاريخ، وهي ليست متجذرة في التاريخ على غرار الحضارة الغربية إلى درجة الانقطاع عن التعالي والانفصال عنه بتجاهله أو نفيه، بل الأمة هي الواقع والمثال، فالأمة تتجاوز القطيعة بين التاريخ والتعالي((الاسلام يقود الحياة: 133 ـ 136.))، وتجدر الاشارة في هذا السياق إلى أنّ الصدر عندما انتقد نسبية القيم كما تتجلّى في الفلسفة الغربية، وعندما انتقد التاريخانية كمرجعية للقيم، لا يعني أنه ـ من الناحية المعرفية ـ قد لجأ إلى عقلانية مجرّدة تائهة في التخمينات الميتافيزيقية، الصدر لم يطرح المشكلة المعرفية والمشكلة الأخلاقية داخل الاشكالية الضيقة: إما أن يكون العقل وضعياً وإما أن يكون لاهوتياً أو ميتافيزيقياً. والقيم الأخلاقية إما أن تكون مطلقة وإما أن تكون نسبية. ولا مجال للعلاقة بين المتناقضين، فالصدر صاغ عقلانية جديدة خارجة عن هذه الإشكالية الضيقة، إنّها عقلانية منفتحة على الغيب ومتجذرة في التاريخ في نفس الوقت، والقيم الأخلاقية بدورها ليست ـ في نظر الصدر ـ نسبية إلى درجة الاستغراق في الواقع وكمجرّد انعكاس لحركة التاريخ، وهي ليست مطلقة إلى درجة الانقطاع عن نسبية الأوضاع الذهنية والاجتماعية والحضارية، فإطلاقية القيم تتجسّد في التاريخ بصورة مستمرة، فالثبات لا ينفي الحركة والاطلاقية لا تنفي النسبية، ومفهوم الأمة يعبر أحسن عن هذه الظاهرة، فالأمة ليست ما هو كائن، إنّها بحكم ارتباطها بالقيم الأخلاقية الكونية تتطلع إلى ما يجب أن يكون، فالأمة موجودة في سياق الشروط التاريخية وفي سياق علاقتها بالمثل الأعلى ومن هنا فهي في تحقق مستمر.((نفس المصدر: 142.))

في اطار المفاهيم القرآنية

إنّ مفهوم الانسان والمجتمع والأمة يتحدّد في أفق المصير كمفهوم قرآني يعبر عن علاقة الكون والانسان بالله علاقة تعبدية،  لذلك يختلف الفقه الاسلامي (من حيث هو منظم لهذه العلاقة) عن سائر أنواع الفقه الأخرى، وعن سائر أنواع القوانين الوضعية بطابعه الأخلاقي والواقعي في نفس الوقت، فالجانب الفقهي والجانب الأخلاقي والجانب التعبدي هي كلها جوانب متداخلة تعبر عن نفسها في المجال الفردي والاجتماعي، فحقوق الانسان والقيم الأخلاقية على العموم فى الرؤية الاسلامية لا تستمد وجودها من التأريخ أو من المجتمع أو تتمّ المطالبة بها كرّد فعل لمواقف مضادة لقيمة الانسان وحرمته، فحقوق الانسان هي جزء من إنسانية الانسان، فوجود الانسان يتضمن حقوق الانسان على اعتبار أنه خليفة الله في الأرض،  لذلك تتميز هذه الحقوق بالكونية وبالصرامة المبدئية والقوة الالزامية، التي تصل إلى مستوى الواجب الديني في المنظور الاسلامي،  لأنّ حقوق الانسان هي حقوق الله، وهذا عكس حقوق الانسان من المنظور الوضعي، والتي لا تتمتع بقوة إلزامية في الممارسات السياسية الغربية،  لذلك انتقد الصدر النظرية الماركسية، التي تربط أشكال التوزيع بأشكال الانتاج، فعلاقات التوزيع تقوم على أساس قيم ثابتة تعبر عن خلافة الانسان لله في الأرض.((الاسلام يقود الحياة: 66 ـ 69، وكذلك فصل خلافة الانسان: 129.))

موضوعية القيم

لا تصبح القيم موضوعية على المستوى الإنساني، إلا عندما ترتبط بحالة تاريخية يعيشها الإنسان، فالصدر يرى بأنّ القيم مرتبطة مباشرة بصفات الله وأسمائه، فهي موضوعية على المستوى الإلهي، ولا تكون موضوعية على المستوى الإنساني، إلا إذا ارتبط الانسان بالله. لقد اعتبرت أكثر المذاهب الأخلاقية بأنّ ربط القيم بمصدر خارج عن الإنسان يجعل القيم مجرّدة لا تتمتع بوجود موضوعي، ونتيجة لذلك لا تكون للقيم أية علاقة مع التاريخ.

أما الصدر فقد انتهى في تحليله لمشكلة مصدر القيم الأخلاقية إلى نتيجة تختلف جذرياً عمّا ذهبت إليه المذاهب الأخلاقية، حيث يرى الصدر بأنّ ربط القيم بالمطلق يؤدي إلى ربطها بالتاريخ على أساس أنّ التاريخ لا يكفي نفسه بنفسه فهو ـ من حيث نسبيته ـ في حاجة إلى قيم مطلقة لتوجهه.

علاقة التأريخ بالقيم الأخلاقية

إنّ ما يميز فلسفة القيم في الفكر الغربي يكمن في كونها فلسفة مرتبطة بالتاريخ على حساب المطلق، أي هي قيم مرتبطة بالتاريخ إلى درجة الاستغراق فيه، ففلسفة القيم في الفكر الغربي هي فلسفة بدون مطلق، أي بدون أساس ثابت، فهي ترى بأنّ المشاكل الحقيقية تطرح في الواقع الحي أي في التاريخ. وليس الأمر كذلك بالنسبة للصدر الذي يرى بأنّ التأثير بين التاريخ والانسان ليس تأثيراً أحادياً، فالتاريخ يؤثر في الانسان ويتأثر بالانسان ولو لم يكن الأمر كذلك لما طرحت أية مشكلة ولكان الانسان مثله مثل الجماد والنبات،  لذلك يرى الصدر بأنّ ” العلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقة تبعية. “((التفسير الموضوعي: 141.))

فانطلاقاً من قدرة الانسان على التأثير في حركة التاريخ على اعتبار أنه يتمتع بجانب متعالي من حيث كونه خليفة لله في الأرض، وانطلاقاً ـ في نفس الوقت ـ من أنّ التاريخ ـ هو الآخر ـ يؤثر في الانسان، انطلاقاً من هذه النظرة المتكاملة والشاملة لعلاقة الانسان بالتاريخ يطرح الصدر فلسفة القيم، فكلّ وضعية أو حالة يعيشها الانسان تحتاج إلى قيم أخلاقية توجهها، فالإنسان من حيث هو كائن يعيش في المجتمع وفي التاريخ هو إنسان في وضع، هذا الوضع هو وضع جهادي بالنسبة للصدر (جهاد أكبر وجهاد أصغر)((نفس المصدر: 206 ـ  208.))، فالإنسان أمامه إمكانيات متعددة غير أن اختياره لإمكانية من الإمكانيات ليس اختياراً مجانياً عبثياً، بل هو اختيار موجَّه باسم قيم أخلاقية.

ومن هنا فالقيم متعالية من حيث قدرتها على توجيه حركة التاريخ فهي مرتبطة بالمطلق، وهي نسبية من حيث الممارسة،  لأنّ الانسان لا يمارس القيم المطلقة إلا في حدود نسبيته وتاريخيته،  لذلك يرى الصدر عكس ما تراه الفلسفة الغربية: فإطلاقية القيم لا تنفي التاريخ. إنّ علاقة القيم الأخلاقية بالتاريخ وانفتاحها على الصيرورة من موقع التوجيه هي على غرار انفتاح الأمة الاسلامية على كلّ الشعوب والحضارات، وما يتطلب هذا الانفتاح من وعي تاريخي ومن نظرة مستقبلية. فالأمة الاسلامية من حيث هي أمة شهيدة هي قيمة متعالية على التاريخ ومحايثة له في نفس الوقت على اعتبار أنها تؤثر في الحضارات وتتأثر بها، فهي قيمة سياسية وأخلاقية وروحية وحضارية في تحقق مستمر.

إنّ ربط القيم الأخلاقية بالتأريخ في الرؤية الصدرية يختلف جذرياً عن علاقة العقل الكوني بالتاريخ في فلسفة هيجل، التاريخ في فلسفة هيجل هو مجال تحقق العقل الكوني وتجسيده، وهذا التجسيد سيصل إلى منتهاه في الدولة. أما عند الصدر فعملية التحقق لا تنتهي. إنّ ضعف فلسفة كلّ من هيجل وماركس في المجال الأخلاقي يكمن في كونها حصرت الأخلاقية في مجرّد وعي الإنسان بالأمر الواقع من حيث هو حتمية تاريخية تجسّد العقل الكوني عند هيجل وتجسد تبعية البنيات الفوقية (ومن جملتها القيم الأخلاقية) للبنية الاقتصادية.

تفوّق تحليل الصدر

ومن هنا يمكن القول: بأنّ تحليل الصدر لعلاقة القيم الأخلاقية بالمجتمع وبالتاريخ انتهى إلى نتائج تختلف عن المذاهب الأخلاقية، التي عالجت مشكلة القيم من منظور ثنائي انتهى إلى فصل ميدان ما يجب أن يكون عن ميدان ما هو كائن. أي فصل الوجود عن القيمة نتيجة للفصل بين المادي والروحي، بين الواقع والمثال بين الحياة الدنيا والحياة الاخرى، كما أنّ فلسفة الصدر الأخلاقية تختلف في هذا المجال عن المذاهب الفلسفية والأخلاقية، التي حاولت تجاوز الثنائية عن طريق التوفيق بين الواقع والمثال فانتهت إلى دمج الروحي في المادي على غرار فلسفة هيجل التي لا ترى أي تعالي خارج صيرورة التاريخ عندما وَفّقتْ توفيقاً كاملا بين ” الروح في العالم ” و ” الروح المطلق ” إنّ هذه الصورة من محاولة تجاوز الثنائية في مجال الوجود ومجال الأخلاق هي مجرّد تحويل للتعالي إلى محايثة، وتحويل القيم إلى واقع.

إن تجاوز الصدر للثنائية في مجال الأخلاق تمّ من منظور فلسفي منقطع النظير، حيث إنّ علاقة الوجود بالقيمة والمادي بالروحي والواقع بالمثال وعلى العموم علاقة الأخلاق بالتاريخ إن هذه العلاقة هي امتداد لفلسفة الوجود الصدرية، التي كشفت عن الامكانيات اللانهائية للعبودية في المجال الأخلاقي والمعرفي

والحضاري في أفق علاقة تخلق الإنسان النسبي بصفات الله وأسمائه.

الخلود

يعتبر الفلاسفة الغربيون عادةً أنّ ميل الانسان إلى البقاء والخلود هو الذي يدفعه إلى رفض التغيير. فالانسان يتسامى على التغيير للوصول إلى ماهو ثابت ومطلق فالخلود ـ في نظر هؤلاء الفلاسفة ـ هو رفض للزمان وللتاريخ. وقد حاول هيجل أن يوفق بين الخلود والزمان عن طريق المنهج الجدلي، الذي يعطي صورةً لحضور المطلق في التاريخ. غير أنّ الصدر يرى أنّ المطلق الذي يتكلم عنه هيجل هو مطلق مزيف، وأنّ الجدلية تقضي على هذا المطلق،  لأنّها تنفي نفسها بنفسها، ويرى الصدر أنّ قبول الزمان والارتباط به لا يعني التخلي عن الخلود.((للاطلاع أكثر على مفهوم الزمن في الفكر الاسلامي، انظر: السيد حسين الشامي (الزمن في حركة العاملين).))، فالالتزام بالجانب العملي لا يقتضي التخلي عن الخلود على غرار ما تراه الفلسفة الغربية، التي تتصور أنّ الاهتمام بقضايا الإنسان وبالجانب العملي من الحياة الإنسانية يقتضي جدلا هابطاً من المطلق إلى الحياة الانسانية، أو من الخلود إلى ما هو زماني وخاضع لحركة التاريخ. فالصدر على عكس الفلسفة الغربية يرى أنّ الوعي التاريخي وما يقتضية من التزام بالقضايا الاجتماعية والحضارية ليس نتيجة لجدل هابط، بل هو نتيجة لجدل صاعد من الانسان إلى الله المثل الأعلى الحقيقي.

فلسفة الصدر تجاوزت الثنائية

ففلسفة الصدر كسرت الثنائية بابتعادها عن الاشكالية الضيقة والمزيفة: إشكالية الاختيار بين الانسان كمجرّد بعد مادي (رغبات، غزائز، عقل في خدمة الجانب المادي) وبين الانسان كبعد روحي. فلسفة الصدر ربطت بين المطلق والزمان، بين الانسان النسبي والله في علاقة تعبدية قيمية وتغييرية (جهادية) تعبر عن خلافة الانسان لله في الأرض، إنّ تجاوز الثنائية هنا لا يعني دمج المطلق في التاريخ على غرار الفلسفة الهيجلية، أو طرح المشكلة الأخلاقية كأساس لمشكلة الميتافزيقية على صورة مسلمات على غرار الفلسفة الكانطية، التي أحدثت فجوة بين الظواهر والشيء في ذاته، أي فجوة بين الحياة الانسانية والميتافزيقيا، كما أنّ تجاوز فلسفة الصدر للثنائية لا يعني نفي وجود الله وتأليه الانسان على غرار النزعة الانسانية في الفلسفة الغربية المعاصرة، فتجاوز الثنائية في فلسفة الصدر يعني:

1 ـ النظر إلى الانسان كوحدة مادية وروحية تعيش في التاريخ.

2 ـ طرح مشكلة القيم الأخلاقية ومشكلة تغيير وضعية الانسان من موقع علاقة تعبدية بين الانسان والخالق، أي من موقع علاقة ما هو نسبي بما هو مطلق.

3 ـ ونتيجة لعلاقة الانسان التعبدية بالله فإنّ ميدان ما يجب أن يكون (القيم الأخلاقية) لا يُستوعبُ بصورة نهائية من طرف الانسان، فانفتاح الانسان على القيم هو انفتاح مستمر هو انفتاح تاريخي، وتطلع الانسان إلى المطلق لا يمكن اختزاله في نسق فلسفي نهائي((انظر تحليل الصدر لعلاقة الانسان بالمثل الأعلى في سائر مباحث التفسير الموضوعي.))

فالأخلاق ـ من هذا المنظور ـ هي أخلاق ذات نظرة مستقبلية فهي ليست أخلاق خضوع واستسلام للأمر الواقع، هذه الرؤية الأخلاقية هي رؤية ثورية، فالأمة الاسلامية، التي تحاول التحرر من التبعية ومن

التخلف، في حاجة إلى أخلاق جهد وجهاد ـ في نظر الصدر ـ لا إلى أخلاق تأملية على غرار أخلاق المدينة الفاضلة للفارابي أو على غرار أخلاق بعض التيارات الصوفية غير الملتزمة، ففي كلتا الحالتين انتهت الرؤية الأخلاقية إلى روحانية غير ملتزمة.

القيم وتغيير العالم

إنّ الاهتمام بمستقبل الأمة وبتغيير العالم هو نفي لكلّ موقف أخلاقي يركز على الجانب الروحي وحده، أو يركز على رؤية سكونية إلى القيم الأخلاقية، فالنظرة المستقبلية، تتضمن رؤية ديناميكية إلى الانسان والمجتمع، وتتضمن انفتاح القيم على المستجدات، فالتقابل بين الواقعي والمثالي يقتضي إذن أخلاقاً تتجاوز أخلاق التأمل. إنّه يقتضي أخلاقاً ذات قوة استيعابية لحركة التاريخ.

يرى الصدر ـ في هذا السياق ـ أنّ الاسلام أتى بأخلاق مرتبطة مع تفضيل الله للإنسان في الكون بفضل عقله وإرادته، فلا يمكن للإنسان أن يتخذ موقفاً مضاداً للحياة، التي هي رحمة من الله وتكريم للإنسان. فمفهوم خلافة الإنسان لله في الأرض هو مفهوم يعطي للإنسان الشعور بأنّه يتحكم في مصيره، فالأخلاق الاسلامية ـ من هذا المنظور ـ هي أخلاق الجهد والجهاد هي أخلاق تغيير العالم.

وهكذا يمكن القول: بأنّ الصدر عالج مسألة علاقة القيم بالواقع وبالتاريخ من موقع مقاربة جديدة تجاوزت الطرح الفقهي (فقه الفروع) وتجاوزت الطرح الكلامي (خاصة في صورته الاشعرية) والطرح الفلسفي والصوفي كما يتجلّى في الفكر الإسلامي القديم، كما تجاوز الصدر الطرح الفلسفي الغربي لهذه المشكلة.

المطلق وحركة التأريخ

إنّ أخلاقية الفعل لا تتحدّد ـ في نظر الصدر ـ بالنظر إلى ما يجب أن يكون فحسب، فميدان القيم: ميدان ما يجب أن يكون لا ينفي الواقع ولا ينفي حركة التاريخ بل يقتضيهما، فالقيم الأخلاقية يلزم عنها التجذر في الواقع ويلزم عنها الوعي التاريخي والحركة، ذلك أن القيم الأخلاقية في فلسفة الصدر هي قيم متعالية ومحايثة في نفس الوقت، هي متعالية على التاريخ من حيث إطلاقيتها وكونيتها، فالله سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق والقيمة المطلقة وصفات الله وأسماؤه تمثل الوجودَ المطلق والقيمة المطلقه، أو تمثل الوجودَ المطلق ذا القيمة المطلقة، ولكن هذه القيم المطلقة هي قيم نسبية عندما يتمّ النظر إليها في المستوى الانساني،  في مستوى الأوضاع الاجتماعية والتاريخية، التي يعيش الانسان ضمنها، ويمارس القيم الأخلاقية المطلقة من خلالها، ومعنى هذا أنّ القيم الأخلاقية عندما تستمد مصدرها من التحولات التاريخية تصبح قيماً متغيرة حسب المجتمعات والطبقات والعصور، أما إذا استمدت مصدرها من الوجود الإلهي تكون متغيرة حسب مدى ارتباط الانسان بالله، فليست القيم هنا هي التي تتغير بل الوجود الإنساني هو الذي يتغير حسب قوة ارتباطه بهذه القيم((الإسلام يقود الحياة: 66 ـ 69.))، فالصدر يرى بأنّ التطور الوجودي للإنسانية يتّجه نحو القيم المطلقة لا القيم النسبية ذات المصدر الاجتماعي والتاريخي، فمن هذا المنظور يصبح التقرب من الله على المستوى الإنساني صيرورة تاريخية وتقدماً حضارياً. فلسفة الصدر تلتقي هنا مع فلسفة هيجل في نقطة واحدة فقط وبالتحديد: علاقة المطلق بالتاريخ، لكن فلسفة الصدر تختلف جذرياً عن فلسفة هيجل في صفة المطلق وفي نوع علاقته بالتاريخ، هيجل ينظر إلى المطلق كفكرة مجرّدة، كمفهوم يذوب في التاريخ،  ليصبح في الأخير

فلسفة أو دولة، أي يصبح تاريخاً. أما الصدر فينطلق من التوحيد ومن الرؤية التوحيدية للكون والإنسان والتاريخ،  لينتهي إلى ربط الإنسان والتاريخ بالمطلق الحي القيوم ذي الصفات والأسماء الحسنى (لا بالمطلق كمفهوم مجرّد) فالمطلق متعالي لا يذوب في التاريخ، وعلاقته بالتاريخ وبالإنسان والكون هي علاقة الخالق بالمخلوق، هذه العلاقة هي على المستوى الانساني علاقة تعبدية تفتح القيم الأخلاقية على الغيب وعلى التاريخ من خلال ربط التغير بالثبات والنسبي بالمطلق، وما هو إنساني بما هو إلهي.

مشكلة الثابت والمتغير

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الصدر قد عالج مشكلة من أكبر وأخطر المشاكل الأخلاقية والفلسفية في هذا العصر،  مشكلة العلاقة بين الثابت والمتغير أو العلاقة بين القيم الأخلاقية وحركة التاريخ، فالقيم الأخلاقية لا معنى لها ـ في نظر الصدر ـ إذا كانت متغيرة وخاصة بظروف مكانية وزمانية، فالكونية صفة ملازمة للقيم. لكن الصفة المعيارية للقيم تقتضي الانفتاح على الواقع وعلى تغيراته، هذه النظرة قد تنفي الحركة، كما أنها تنظر إلى القيم نظرة مجرّدة بفصلها عن الواقع، لكن النظر إلى القيم من زاوية التغير والحركة قد ينتهي إلى نفي القيم ذاتها، إذ كيف يمكن للإنسان أن يلتزم بقيم يؤمن بأنها تتغير تبعاً للظروف بدلا من تعميمها لتُقيّم كلّ الظروف؟

وهكذا تعدّدت المذاهب تبعاً لتركيزها على ما هو ثابت وخاضع لمعيارية القيم الثابتة، أو على ما هو متغير إلى درجة نفي كلّ جانب ثابت في مجال القيم الأخلاقية.

الاجتهاد ومنطقة الفراغ

إنّ الإطار المعرفي الذي انطلق منه الصدر لمعالجة هذه المشكلة هو: الإطار المعرفي الإسلامي الملازم بصورة مباشرة أو ضمنية للاجتهاد، فالاجتهاد مبدأ شرعي لربط الاسلام المطلق بالوقائع النسبية والمتغيرة، ولكن الاجتهاد يتضمن كذلك رؤية معرفية وموقفاً منهجياً تجاه حركة التاريخ، فربط الاسلام بالمستجدات لا يتم بصورة عفوية أو بصورة آلية، فالمنهج ضروري في عملية ربط الاسلام بالتاريخ، وما يتضمن هذا الربط من تحديد لعلاقة القيم الأخلاقية بالتاريخ. وهذا المنهج بدأ في الظهور وفي الصياغة منذ بداية الاجتهاد في تاريخ الامة، وقد ساهم كلّ المجتهدين عبر العصور في تشكل الإطار القيمي والمعرفي والمنهجي لعملية الاجتهاد. ويرجع الفضل لمحمد إقبال وللصدر في طرح مسألة المنهج طرحاً فلسفياً وإبستمولوجياً عندما استخدم مفهوم منطقة الفراغ كمفهوم((

حلل الصدر كلّ أبعاد مفهوم الاجتهاد في:

1 ـ المعالم الجديدة للأصول ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ـ 1981م.

2 ـ بحوث إسلامية (فصل: الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد)  ـ 73.

3 ـ اقتصادنا (مبحث منطقة الفراغ): 362 ـ 364، ومبحث عملية الاجتهاد والذاتية: 364 ـ 366.

))، يعبر عن منهجية مقاربة الواقع من خلال المبادئ والمفاهيم الإسلامية من جهة، وكمنهجية منتجة للقيم من علاقة قيمومة النصّ في علاقته بالواقع وبالتاريخ من جهة أخرى.

فمنطقة الفراغ تعتبر حلا لأكبر مشكلة فلسفية وأخلاقية تعاني منها الفلسفة المعاصرة: حلّ مشكلة العلاقة بين القيم المطلقة وصيرورة المجتمع عبر التاريخ. تتميز فلسفة الصدر بالطرح الشمولي لعلاقة الاسلام بحركة التاريخ، فالعلاقة هناهي علاقة ذات أبعاد فقهية وأخلاقية وحضارية. فالفكر الاسلامي المعاصر طرح مشكلة العلاقة بين الثابت والمتغير في القرن التاسع عشر، فعلاقة الأصالة بالمعاصرة وعلاقة

الدين بالسياسة والفكر الاسلامي بالفكر الغربي ومشكلة الرجوع إلى الأصل،  كلّ هذه المواضيع والقضايا طُرحت في إطار علاقة ما هو ثابت بما هو متغير، فكلّ هذه المواضيع ترجع ـ في نظر الصدر ـ إلى موضوع رئيسي وجوهري بالنسبة لمصير الأمة الاسلامية: علاقة الاسلام بالتاريخ من حيث هي علاقة ذات أبعاد روحية وميتافيزيقية وفقهية وأخلاقية واجتماعية.

فالصدر حرّر الفلسفة المعاصرة من الطرح الناقص لمشكلة القيم الأخلاقية بفضل معالجته لهذه المسألة انطلاقاً من الإطار المعرفي والمنهجي للاجتهاد، ويُعتبر هذا الموقف نقداً جذرياً بل دحضاً لكلّ المذاهب الأخلاقية ولكلّ المذاهب الفلسفية والنظريات الاجتماعية، التي عالجت مسألة القيم من منظور جزئي كإرجاع القيم إلى العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو النسبية إلى غير ذلك من العوامل الجزئية، كلّ هذه العوامل هي ـ في نظر الصدر ـ شروط ضرورية للأخلاقية ولكنها شروط غير كافية، فالطرح الجزئي لمشكلة العلاقة بين القيم وتغير الظروف الاجتماعية انتهى بالفلسفة الغربية إلى ربط القيم بهذه الظروف من موقع نسبية القيم، وتشتت هويتها وذوبان حقيقتها وفعاليتها في حركة التاريخ الأمر الذي حوَّل القيم إلى اللاقيم.

حرّر الصدر على الصعيد المنهجي القيم من النسبية انطلاقاً من مفهوم الفراغ الذي صاغه ونظّره في إطار مفهوم أوسع هو مفهوم الاجتهاد. منطقة الفراغ في مجال علاقة القيم بالتاريخ مفهوم مرادف لكونية القيم ومرونتها، الأمر الذي يجعلها تستوعب الظروف بدلا من أن تصبح تابعة لها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ منطقة الفراغ تعني كذلك أنّ الانسان يتدخل عن طريق ضميره وعقله في ربط القيم بحركة التاريخ كجانب من جوانب ربط الشريعة بتغير الأحوال الاجتماعية.

إنّ تعالي القيم لا يعني عند الصدر عدم تدخل الانسان في مجال التقييم بل على العكس، فالنظرة الوضعية إلى القيم حجزت الفلسفة الغربية في طريق المحاولة والخطإ، أي في الإطار الضيق للتجربة المنفصلة عن الآفاق المستقبلية على اعتبار أنّ التجربة مرتبطة بما هو كائن، في حين أنّ الرؤية الاسلامية إلى الأخلاق تحفظ الفكر من التشتت ومن استنزاف طاقاته في الإطار الضيق للتجربة المنفصلة عن الرؤية المستقبلية، فكونية القيم وتعاليمها يعنيان ـ في الأساس ـ مرونتها وقدرتها على توجيه الانسان إلى أبعد مما تصل إليه التجربة وحدها. فالإيديولوجيات تتغير وقد تغيرت بالفعل، وكذلك المذاهب الفلسفية تتغير خاصة في هذه العقود الأخيرة. وهذه التغيرات في المجال الإيديولوجي والفلسفي تنتج عنها تغيرات في مجال القيم الأخلاقية، هذه الظاهرة يستحيل أن تحدث بالنسبة للفكر الاسلامي. فالفكر الاسلامي فكر اجتهادي أي هو فكر يجابه الواقع ليؤثر فيه انطلاقاً من مفاهيم وقيم ذات مصدر متعالي، كما أنه فكر يتأثر بالواقع كذلك، ولكن من موقع المفاهيم والقيم الموجهة لهذا التأثير في خطوطه العريضة، فالمؤثرات الاجتماعية والتاريخية لا تتم بصورة عفوية، أي لا تتم من جانب واحد وبدون أي تدخل من طرف الإنسان انطلاقاً من الثوابت المتمثلة في المفاهيم الدينية والقيم الأخلاقية الملازمه لها،  لذلك يمكن القول: بأن فلسفة الصدر عالجت مشكلة العلاقة بين الثابت والمتغير بصورة منهجية، كشفت عن قيمة الأخلاق في الاسلام من حيث هي الأخلاق الوحيدة القادرة على إحداث العملية التركيبية بين القيم المطلقة والواقع المتحرك.

أزمة القيم والحل البديل

مفاهيم الحداثة في رأي الصدر

تبنى الصدر بعض مبادئ الحداثة كالعقلانية((العقلانية هنا لا تشير إلى المذاهب العقلاني، بل هذا المفهوم يعبر هنا عن إعطاء قيمة للعقل.)) والحرية والتقدم لا كمبادئ الحداثة بمفهومها الغربي، بل كمبادئ تعبر عن أبعاد خلافة الانسان في علاقتها مع حركة التاريخ. إنّ الفكر الإسلامي ـ في نظر الصدر ـ لا يرفض هذه المبادئ في حد ذاتها بل يرفضها،  لأنها اتخذت معنى خاصاً من جراء انفصالها عن الله، فهي تتخذ صورة أخرى ومعنى جديداً لما يتم ربطها بالغيب. فالاسلام لا يرفض التقدم، بل مفهوم التقدم في الرؤية الاسلامية أقوى وأوسع من مفهوم التقدم في الرؤية الغربية، التقدم في الفلسفة الغربية هو مفهوم صاغه العقل، أو يتصوره الإنسان المحدود بنسبيته المادية والمكانية والزمانية في حين أنّ مفهوم التقدم في الرؤية الإسلامية وكلّ المفاهيم الأخرى كالعقلانية والحرية وغيرهما هي مفاهيم وقيم لا تستطيع الرؤية الغربية إلى الإنسان والتاريخ أن تتحملها،  لأنها رؤية ضيقة، ولأن هذه المبادئ والقيم تنتج عن محاولة الإنسان التخلق بصفات الله وأسمائه.

غلطة المحدثين

وهكذا فالمسألة ـ في فلسفة الصدر ـ ليست مسألة رفض الحداثة أو تحديث الاسلام كما يرى المحدثون في العالم الاسلامي، بل المسألة مسألة رد قيم الحداثة إلى حجمها، أي ردّها إلى الظروف الاجتماعية والتاريخية التي أنتجتها، والنظر إلى القيم ومفاهيم الحداثة حسب متطلبات الاسلام. ومن هنا يرى الصدر بأنّ المحدثين في العالم الاسلامي الذين يقولون بتحديث الاسلام قد ارتكبوا خطأً شرعياً ومنهجياً في نفس الوقت.

الخطأ الشرعي: نظروا الى الحداثة كحقيقة مطلقة بدلا من الشريعة التي اعتبروها كمجرّد حقيقة نسبية.

الخطأ المنهجي: وظّفت السلطات في العالم الاسلامي الدين لتدعيم مواقفها القبْلية في المجال السياسي والاجتماعي، فلجأت إلى التوفيق بين الاشتراكية والاسلام وبين القومية والاسلام وبين الاشتراكية والقومية لكي تتقبل الشعوب الاسلامية هذه المفاهيم الغربية (الاشتراكية والقومية وغيرهما) التي أريد لها أن تطبق في أرضيه غير أرضيتها((اقتصادنا (المقدمة).)) لكن هذه العملية فشلت، فنماذج التنمية قد فشلت والعلاقة بين السلطة والشعب في العالم الاسلامي هي علاقة صراع وتنافر، هذه العملية ليست عملية توفيق بين الفكر الغربي والإسلام بل هي مجرد تلفيق في نظر الصدر.

الحداثة موقف غربي من الكنيسة

لقد حلل الصدر الحداثة في الفكر الغربي تحليلا علمياً أي حللها من خلال أسسها التاريخية، وبيَّن بأنّ أكثر جوانبها هي جوانب خاصة بالتاريخ الغربي،((التفسير الموضوعي: 167 ـ 170.)) لقد ظهرت الحداثة في الغرب كتمرّد ضد الماضي وضد القيم المرتبطة بالكنيسة. يقول ألان تورين (A. Touraine):

” لقد نظر الغرب إلى الحداثة وعاشها كثورة، أصبح العقل لا يعترف بأي شي بصورة مسبقة سواء في ميدان العقيده أو في ميدان التنظيم الاجتماعي والسياسي ما لم يكن قائماً على أدلة علمية. فمن العناصر الجوهرية لإيديولوجية الحداثة أنّ المجتمع هو مصدر القيم وأنّ الخير هو ما ينفع المجتمع، والشر هو ما يضر بوحدة المجتمع.”((أ ـ تورين: نقد الحداثة: 25 ـ 30.

Alain Touraine Critigue De La Modernite – Fagaid  – Pois- 1992 – P25P30.))

إنّ تحليل الحداثة على الصعيد التاريخي والاجتماعي قد مكّن الصدر من الكشف عن الأسس التي تقوم عليها الحداثة كجانب من جوانب الحضارة الغربية على العموم: فالحداثة انتقدت ورفضت الكنيسة ووقفت موقفاً مضاداً لكلّ القيم المفروضة على المجتمع باسم الدين كما تمليه الكنيسة، وطرحت البديل المتمثل في الإنسان والحرية والعقل وما ينتج عنه من علم وتقدم. فالإنسان هو الذي أصبح مصدراً ومقياساً لكلّ القيم.

عيوب الحداثة

وقد انتقد الصدر البعد المادي للحداثة، وما ينتج عنه من سعي وراء المنفعة واستغلال للشعوب… لقد كانت الحداثة في بداية ظهورها ثورة محرّرة للإنسان إلا أنها ـ في نظر الصدر ـ وبدلا من أن ترتبط بالجانب الروحي الذي تصبح بفضله مفتوحة على المطلق، بدلا من ذلك ألهت الحداثة الانسان والواقع، فلا مرجعية خارج الانسان وخارج الواقع. فالقيم كلّها تستمد وجودها من الانسان ومن الواقع،  لذلك أصبحت المنفعة هي الغاية القصوى، كما أصبح الانتاج والاستهلاك غاية تطلب لذاتها، وأصبح التقدم ـ في سياق هذا البعد المادي ـ هو معنى الوجود والقيمة القصوى والمثل الأعلى في نظر الصدر، فالإنسان أصبح لعبة في يد حركة التاريخ التي تتمحور حول البعد المادي المتمثل في الانتاج والاستهلاك، فالانسان بدلا من توجيه حركة التاريخ نحو أهداف أخلاقية وإنسانية أصبح فريسة لهذه الحركة، فهي التي توجهه حسب منطقها الذي أنتج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، كما أنتج منطق حركة التاريخ المنقطع عن الله استغلال الغرب للشعوب المستضعفة.

الحداثة صورة منحرفة عن حركة التأريخ

يرى الصدر أنّ علاج الأزمة يكمن في تحويل الانسان من فريسة لحركة التاريخ إلى موّجه لحركة التاريخ عن طريق ربط الانسان بالقيم الأخلاقية ذات المصدر الإلهي، ومن هنا فالحداثة ليست لها ـ في نظر الصدر ـ صورة واحدة حتى تشكل مرحلة تاريخية حتمية يجب أن تتجه نحوها كلّ الشعوب، فالحداثة كما تحققت في الغرب هي مجرد صورة من صور حركات التاريخ الممكنة، إنها تمثل الصورة المنحرفة لحركة التاريخ،  لذلك يجب التمييز ـ في نظر الصدر ـ بين الحداثة كتقدم وبين التغريب، أي تقليد الحضارة الغربية بصورة آلية دون إعادة النظر في أسس وقيم هذه الحضارة، فالعقلانية والحرية والعدالة واحترام إنسانية الانسان ليست قيماً غربية، بل هي قيم كونية تستمد وجودها من تطلع الانسان عبر التاريخ إلى الكمال، وهكذا فالغرب قد أعطى للحداثة صورة خاصة انتهت إلى أزمة حضارية شاملة، ويمكن لحضارة أخرى أن تعطي صورة أخرى واتجاهاً آخر للحداثة وللتقدم. والاسلام هو البديل الوحيد في هذا المجال في نظر الصدر.

احساس الغرب بالحاجة للأخلاق وعجزه عن الحل

إن حركة التاريخ جعلت من هذا العصر عصر طرح التساؤلات عن الأساس الأخلاقي للمشاكل الناجمة عن التقدم المنفصل عن القيم الروحية. لقد بدأ الفكر الغربي يتساءل عن معنى التقدم ومعنى الحياة نتيجة للأزمات الاجتماعية الملازمة لأزمة الحضارة المعاصرة.((اُنظر المصدر السابق وكذلك: ميشال سريس:  M. Serres توضيحات: 249 ـ 251.

Thihel Serres: Eclairaissenent Entetiens Ailec Bruno yatown Bowrin 1992- P249 – Francois)) فكثير من المفكرين الغربيين يرون أن رجوع الفكر الغربي إلى الأخلاق أصبح مسألة حياة أو موت: خطر الاسلحة النووية والكيمياوية، التلوث… الخ هذه المظاهر كلها تدفع بالبشرية نحو الفناء،  لذلك أصبح تقييم التقدم حالة ضرورية بالنسبة للمفكرين في الغرب.

إلا أن هذا اللجوء إلى الأخلاق لا يكفي لحل الأزمة في نظر الصدر، فالفلسفة الأخلاقية في الغرب هي بدورها انعكاس لأزمة الحضارة. وهنا يطرح الصدر مشكلة مصدر القيم الضرورية لتجاوز الأزمة الشاملة للحضارة الغربية، فالفلسفة الأخلاقية والاجتماعية التي يسعى الغرب عن طريقها لحلّ الأزمة هي فلسفة تفصل الأخلاق عن التعالي،  ولذلك فكونية هذه القيم التي تطرحها الفلسفة الغربية هي كونية مزيفة، والقيم والمفاهيم التي تطرحها هذه الفلسفة هي في كثير من جوانبها مجرّد انعكاس للأزمة، يقول الصدر محللا تحليلا نقدياً لاتجاهات الفكر الغربي: ” إنّ كلّ هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أو الفلسفي هي قبل كلّ شي تعبير عن واقع نفسي عام، وشعور حاد لدى إنسان الحضارة الحديثة بالصراع “((اقتصادنا (المقدمة): صفحة ـ ل.)).

لقد أنتجت أزمة القيم في الحضارة الغربية فكراً متأزماً، بدلا من أن هذا الفكر حل للأزمة أصبح ـ في كثير من جوانبه ـ مجرّد انعكاس لها، فظهرت النفعية والماركسية والبرجماتية، ثم فلسفة نيتشه والفلسفة الوجودية، كلّ هذه المذاهب قد فقدت العنصرين الجوهريين اللذين تتميز بهما الفلسفة: الموقف النقدي وقوة التجاوز، تجاوز الواقع لتغييره، فالفلسفة تتميز بالموقف النقدي الذي يمنحها قوة التجاوز، تجاوز الواقع الفاسد لتصور واقع أحسن منه. فنيتشه وصل في نقده إلى مستوى النقد الجذري الذي تتميز به الفلسفة، إلا أنّ هذا الفيلسوف بدلا من أن يقوم بصياغة فلسفة بناءة وذات نظرة مستقبلية، صاغ فلسفة سلبية تقضي على إنسانية الإنسان باسم الانسان: تبرير الواقعي باسم المعقول وتبرير المعقول باسم الواقعي، ففلسفة نيتشه هي ـ في الحقيقة ـ امتداد لمقولة هيجل ” كلّ واقعي معقول وكلّ معقول واقعي. “

إنّ فصل السياسة عن الدين، وحصر الفلسفة في مجال فلسفة العلوم دون طرح للمشكلة الميتافيزيقية جعل الفكر الغربي ـ على غرار المجتمع الغربي ـ لا يهتم بمشكلة المصير: ما هو مصير الحياة البشرية؟ ماهو مصير الثقافة وما هو الهدف الذي تسعى نحوه؟

علم الاجتماع لا يملك الحل

هذه الأسئلة أصبحت موضوعاً لعلم الاجتماع، وهو علم يدرس الواقع كما هو. التفكير الوضعي أصبح مجرّد انعكاس للواقع، ولا يطرح مشكلة مصير الإنسانية في كل أبعادها، فمشكلة المصير عندما تطرح فهي لا تتعدى المصير الدنيوي. لقد انتقد نتيشه بصورة جذرية الفكر الغربي خاصة القيم الأخلاقية، وتساءل عن مصير الانسان عن غاية الحياة الإنسانية، ولكنه بسبب انقطاع فلسفته عن الغيب، بقي منحصراً ضمن

معطيات الفكر الغربي، فالمثل الأعلى الذي تصوره نيتشه هو الانسان الأعلى، وليس هذا المثل الأعلى إلا رد فعل للأخلاق المسيحية كما تجسدت في الكنيسة، فنيتشه أعاد النظر في القيم الأخلاقية، ولكنه انتهى إلى قيم وكأنها ليست قيماً، انتهى إلى قيم ضد القيم.

الحل لا يؤخذ من الواقع

إنّ الواقع كما يتجلّى في الفلسفة الغربية من حيث هي انعكاس للظروف، إنّ هذا الواقع لا يستطيع ـ في نظر الصدر ـ أن يقدم الحلّ لأزمة القيم، فالواقع فاسد والادوات الفكرية التي تستمد منه ستكون غير صالحة هي الأخرى، فالفلسفة الغربية اصطدمت بالعجز نتيجة لواقعيتها هذه، وهذا لا يعني أنّ الواقعية في حدّ ذاتها غير صالحة، ولها نتائج سلبية في مجال التنظير الأخلاقي والاجتماعي، إنّ النقص لا يكمن في الواقعية بل في صورة الموقف من الواقع، فالمذاهب الأخلاقية كالنفعية والبرجماتية بدلا من الانطلاق من الواقع لتغييره، حجزت القيم الأخلاقية داخل هذا الواقع، وهذا تناقض،  لأنّ الواقع يعبر عمّا هو كائن، في حين أن القيم الأخلاقية تعبر عمّا يجب أن يكون، فما هو كائن لا يمكن أن يصبح معياراً لما يجب أن يكون، فالواقع لا يمكن أن يكون مصدراً للقيم الأخلاقية، والعقل كذلك عاجز عن صياغة حل لأزمة القيم في نظر الصدر، فالعقل بالمفهوم الغربي هو عقل منقطع عن الميتافزيقيا، فليست له أبعاد مستقبلية، وليست له إمكانيات تُمكنه من تجاوز ماهو معطى لصياغة رؤية مستقبلية تُمكن الانسانية من تجاوز أزمة القيم في الحضارة المعاصرة.

وعجزت «النزعة الانسانية»

إن المجتمع الغربي انتقل من عصر التدين إلى عصر الانسانية (النزعة الإنسانية) فالغرب فصلَ وجوده عن الله واعتمد على الإنسان كمصدر للقيم غير أنّ النزعة الإنسانية استنفدت طاقاتها،  لأنها نظرت إلى الانسان مجرّداً من بعده الروحي، وهذا ما جعلها لا تتصور إلا أهدافاً جد نسبية، أي هي لا تتصور حسب تعبير الصدر إلا مثلا عليا مزيفة مثلا عليا تكرارية. ” إنّ فصل الانسان عن الغيب وعن الله قضى على النزعة الإنسانية كمذهب فلسفي وأخلاقي يسعى إلى حلّ أزمة القيم في الحضارة الغربية.

وهكذا أصبحت الفلسفة الغربية في أزمة بعد انقطاعها عن الدين، وبعد أزمة النزعة الانسانية، فالفلسفة الغربية في أزمة نتيجة لاستبدال الله بالانسان كإله مزيف كمثل أعلى مزيف كما يرى الصدر. وليس هناك أي مخرج من هذه الأزمة في الفكر الغربي في نظر الصدر، فالواقع قد كشف عن أوهام الماركسية التي حاولت أن تحلّ مشكلة الانسانية بصورة نهائية، كما كشف الواقع عن أوهام النزعة الفردية التي يتميز بها النظام الرأسمالي.((اُنظر بالنسبة لأزمة المذهب الاشتراكي الماركسي: فلسفتنا ـ 33 بالنسبة لأزمة المذهب الرأسمالي ـ نفس المصدر: 21 ـ 24، وكذلك رسالتنا: 65 ـ 66.))

الدين وحده يملك الحل

إنّ تجاوز أزمة القيم لا يتحقق عن طريق الحلول الجزئية، ولا يتم عن طريق الفلسفة كرؤية تمّ تحديدها من موقع وضعي لا يتجاوز علاقة الفكر بالواقع. إنّ حلّ أزمة الحضارة المعاصرة يتمّ عن طريق الدين في نظر الصدر أي عن طريق الطرح الفلسفي للرؤية الدينية، عن طريق فلسفة تمت صياغتها داخل علاقة الفكر بالغيب وبالواقع، وهذا ما جعل فلسفة الصدر تتمتع بقوة انتقادية إلى أقصى حدّ ممكن، وهي

قوة انتقادية جعلت هذه الفلسفة فلسفة الرفض، رفض لم يتم نتيجة لردود فعل انفعالية وآنية، بل تمّ نتيجة لتحليل عميق للفكر الغربي، تحليل تمّ بفضل مفاهيم وإطار نظري مُستمد من الاسلام دين الله الحق، فالصدر يختلف عن الفلاسفة المسلمين الذين نظروا إلى الفلسفة اليونانية كحقيقة مطلقة، كما يختلف عن الفلاسفة الغربيين من حيث الموقف المنهجي الذي يخصّ الفيلسوف كذات عارفة، فكثير من الفلاسفة يضعون أنفسهم في مرتبة الأنبياء، خاصة فلاسفة التاريخ الذين يبنون أنساقهم الفكرية وكأنهم ينظرون إلى البشرية وإلى التاريخ من خارج التاريخ، إنّ هذا الموقف يعتبره الصدر موقفاً غير علمي، ويرى الصدر ـ في هذا السياق ـ أنّ المسألة ليست مسألة نفي دور العقل أو إثباته بإطلاق، بل حلّ المشكلة يكمن فى جعل العقل في مستوى موقعه الكوني وهو الموقع الذي يجعله يستوعب نسبيته في علاقته بالمطلق.((الأسس المنطقية للاستقراء (مبحث الاستدلال على وجود الله).))

نظرة الصدر الى العقل

إنّ هذه النظرة إلى العقل التي طرحها الصدر لم تنته إلى ما انتهى إليه الفكر الغربي عندما انتقد العقل وانتقد القيم وانتقد الدين. فكانت النتيجة مأساوية: زوال الانسان كنتيجة ملازمة للرؤية الوضعية، التي تنفي وجود الله وتنفي بالتالي وجود الانسان كخليفة لله في الأرض. فالنقد عند الصدر لا يعني نفي العقل أو رفض العقلانية بل يعني إدماج العقل في الرؤية الشمولية إلى الإنسان من حيث هو وحدة مادية وروحية وذاتية واجتماعية،  لذلك يرى الصدر بأنّه لا يمكن للفلسفة وحدها أن تجد علاجاً لازمة القيم، فالفلسفة مهما كانت قوتها ومهما كان تماسكها المنطقي فهي من إنتاج العقل المرتبط بالظروف الزمانية والمكانية، فحتى الفلسفات التي لا تنكر ما يتجاوز العقل فإنها تبقى مجرّد فلسفة صاغها الانسان، فالفلسفة ظاهرة اجتماعية وثقافية وليست وحياً، فهي لا تتمتع بالعصمة أو بقوة تُمكنها من التعالي على الأوضاع النفسية والاجتماعية والفكرية والتاريخية التي ساهمت في نشوئها، فلا يمكن للفلسفة وحدها أن تغير وضعية الانسانية في عصر معين خاصة في مرحلة تاريخية مثل المرحلة الراهنة وما تتميز به من أزمة حادة وخطيرة في مجال القيم وفي المجال الاجتماعي والحضاري، فالأزمة الحضارية والقيمية الراهنة يتمثل علاجها في مستوى يتجاوز مجرد عملية التفلسف كما تتمّ في الفلسفة الوضعية والمادية، فعلاج الأزمة يحتاج إلى قيم متعالية وإلى رؤية فلسفية ترتكز على قيم ومبادئ ومفاهيم متعالية، أي علاج الأزمة يحتاج إلى فلسفة لا تتم في إطار التوفيق بين الدين والفلسفة على حساب إطلاقية الدين وتعالي مصدره، فالعلاج يحتاج إلى فلسفة تستمد رؤيتها من الدين بصورة تعبدية واجتهادية، وهذا ما حاول الصدر تقديمه لا كمجرّد فيلسوف فحسب، بل كمجتهد فلسف عملية الاجتهاد وصاغ لها منهجاً للتعامل مع الواقع المتحرك.((

مفهوم التفسير الموضوعي هو مفهوم منهجي يعبر في العملية الاجتهادية والفلسفية عن علاقة الاسلام بالواقع من موقع تعالى الاسلام ـ انظر التفسير الموضوعي.

كما أن مفهوم الفراغ هو مفهوم معرفي ومنهجي يتم عن طريقه ربط الاسلام بالواقع من موقع تعالي الاسلام. انظر اقتصادنا: 362 إلى 364.

))

هذا المنهج ـ بدوره ـ ليس من إنتاج العقل وحده، فإطاره العام مستمد من الشريعة،  لذلك فهو يملك بعد النظر الذي يُمكنه من معالجة أزمة القيم وأزمة الحضارة.

فالفلسفة الاجتهادية التي صاغها الصدر هي فلسفة متحررة إلى درجة كبيرة من العوامل الذاتية ومن ثقل الواقع. هذا في إطارها العام على الأقل وهو إطار تستمده من الدين لا من العقل وحده أو من العوامل

الاجتماعية والتاريخية.

الرأسمالية والاشتراكية مظهران للمادية

يرى الصدر في هذا السياق أنّه على الرغم من اختلاف النظامين الرأسمالي والاشتراكي في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفي مجال التوزيع: فالنزعة الفردية في النظام الرأسمالي لا تختلف عن تركيز الاشتراكية الماركسية على المجتمع، فليس هناك اختلاف ـ في نظر الصدر ـ على اعتبار أنّ الاشتراكية تنفي ذات الانسان كذات مرتبطة بالغيب، وأنّ النزعة الفردية على العكس من ذلك تربط الذات بالغيب، فكلا من النظامين ينفيان كل مبدإ متعالي في علاج المشكلة الاجتماعية، فلا علاقة ـ حسب هذين النظامين ـ للمسألة الاجتماعية بالميتافزيقية.

ويرى الصدر أنّ سبب ضعف هذين النظامين يكمن في هذه النقطة بالذات، فغياب مبدإ متعالي جعل هذين النظامين يسيران في طريق نحو المجهول، فالرؤية المادية حضارة ـ في نظر الصدر ـ في النظامين معاً، وهذا ما دفع بالحضارة الغربية إلى أزمة قاتلة،  لأنّ المادة تعني التشتت والصراع على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشعوب فلا يمكن للغرب أن يُقيم علاقات إنسانية مع شعوب العالم على أساس اقتصادي وحده، فالاقتصاد يؤدي إلى تضارب المصالح وإلى الصراع (الاستعمار والتبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية) فالعلاقات الانسانية لا يمكن أن تؤسس على القوة المادية كالاقتصاد والصناعة لأن المادة لايمكن أن تكون معياراً لعلاقة الانسان مع الإنسان، فالمادة متغيرة، فالقوي اليوم قد يصبح ضعيفاً غداً، فالغرب يسعى إلى فرض حضارته بالقوة باسم تفوقه المادي، فعملية التحضير هي في كثير من جوانبها مجرّد تبرير أخلاقي للقوة المادية، وهنا يطرح الصدر مفهوم الأمة الشهيدة كمفهوم يتجاوز النموذج الحضاري الغربي،  لأنّ الأمة لا ترتكز في علاقتها مع شعوب العالم على المادة (الاقتصاد، العرق…) بل على قيم روحية ترفع الأمة إلى مستوى الكونية، والقدرة على استيعاب الشعوب والحضارات داخل مبدإ الوحدة في التنوع، فاستيعاب الأمة للشعوب ليس من قبيل عملية ” التحضير ” الغربية التي تجسدت عن طريق الاستعمار، وعن طريق إبادة الأقليات، بل استيعاب الأمة للشعوب ينطلق من قيم روحية وأخلاقية تحترم إنسانية الانسان، ولا تنفي خصوصيات الشعوب والثقافات، بل لتعطيها معنى جديداً عن طريق ربطها بالله، فالبشرية كلّها تسعى نحو الله، فبدلا من دكتاتورية البروليتاريا وبدلا من الضمير الجمعي كما طرحه علماء الاجتماع: حيث إنّ في كلتا الحالتين يذوب الفرد في كلًّ أكبر منه، فبدلا من كلّ ذلك فإنّ الأفراد يستوعبون مفهوم الأمة عن اقتناع داخلي يأخذ صورة الواجب الشرعي وصورة العبادة عند المسلمين، ويأخذ صورة القيمة الأخلاقية والحضارية عند غير المسلمين.((الاسلام يقود الحياة: (فصل خلافة الانسان): 129.))

سقوط الايديولوجيا

لقد وقف بعض المفكّرين الغربيين من الحداثة موقفاً نقدياً وتقييمياً، واستدلوا على ذلك بحوادث القرن العشرين الرهيبة كالنازية والشيوعية اللتين مثلتا الايديولوجيا الحديثة المؤسسة على مبدإ نفي كلّ علاقة للإنسان مع الغيب باسم تحرّر الانسان انطلاقاً من هذا الجانب اللاإنساني لكلّ من النازية والشيوعية تمّ رفض الإيديولوجيا. يقول ألان لورو (A. Touraine): ” فالإيديولوجيا قد ماتت،  لأنّ الواقع قد

انتصر على الأفكار.”((ألان لورو: العودة الإيديولوجيا (من أجل رؤية إنسانية إلى الانسان).

Alain Perousc – Retour A Lideologie Pour Un Humanisme D348el Jeraonne_ P. U. F Paris 1995- P. 8. La))

لكن الفكر الغربي لم يطرح البديل في نظر الصدر، لقد استنفد الفكر الغربي كلّ طاقاته، ودخل في مرحلة اجترار فكرية تتجلّى خاصة في مقولة نهائية التاريخ، فالواقع أصبح غاية قصوى، وقد طرح الصدر في هذا السياق مفهومين لصياغة الرؤية الفلسفية القادرة على حلّ أزمة القيم واستيعاب حركة التاريخ: علاقة الانسان بالمثل الأعلى ومفهوم التفسير الموضوعي. انطلاقاً من هذين المفهومين يرى الصدر أنّ سقوط الايديولوجيات أمر لا مفرّ منه في الحضارة الغربية (وتجدر الاشارة إلى أن الصدر استشهد في سنة 1980م، أي قبل سقوط المعسكر الاشتراكي.) فالأساس المادي للرؤية إلى الوجود الذي تتميز به الحضارة الغربية هو الذي سيقضي على هذه الحضارة في نظر الصدر، ومن هنا فكلّ مُحاولة لإيجاد حلًّ لأزمة القيم في الحضارة الغربية داخل الفكر الغربي ستبوء بالفشل،  لأنّ المسألة في نظر الصدر ليست مسألة خاصة بهذا المذهب الفلسفي والاجتماعي دون الآخر. فمصدر الأزمة يكمن في الحداثة نفسها لا الحداثة في ذاتها أي من حيث هي عملية تغيير كلّ ميادين الحياة الاجتماعية، بل الحداثة في صورتها الغربية وهي صورة تتميز بنفي الجانب الروحي في الانسان وما ينتج عن هذا النفي من فصل السياسة عن الدين، واعتبار القضايا الميتافزيقية مجرد رواسب لمرحلة تاريخية قد انقضت، وقد ادّى نفي أو إبعاد الروحانية عن الحياة الاجتماعية إلى نفي أي أساس للقيم الأخلاقية، فأصبحت هذه الأخيرة مجرّد انعكاس للواقع بدلا من تغيير الواقع وتوجيهه.

وهكذا فسقوط النظامين الاشتراكي والرأسمالي الذي توقعه الصدر هو تعبير عن حالة مرضية تنبئ عن دخول البشرية في مرحلة تاريخية جديدة تقتضي إعادة النظر بصورة جذرية في الفكر الغربي من الأساس، وفي كلّ جوانبه المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، إنّ هذه المرحلة التاريخية الجديدة ستتحقق عندما يتمّ ربط الحياة الاجتماعية بالروحانية كما تتجلّى في الاسلام، أي ربط التاريخ بالمثل الأعلى.

أزمة الحضارة الغربية

إنّ أزمة الحضارة الغربية في هذه المرحلة الأخيرة من القرن العشرين ليست كسائر الأزمات التي تتطلب حلولا جزئية في نظر الصدر، فالأزمة شاملة وهي ناتجة عن أزمة المرجعية في الأساس: المرجعية في الميدان المعرفي، الذي تعتمد عليه العلوم الاجتماعية في الغرب والمرجعية في الميدان الأخلاقي، فالحضارة الغربية مدفوعة ـ في نظر الصدر ـ في صيرورة عمياء غابت فيها كلّ القيم المنظمة لحركة التاريخ.((التفسير الموضوعي: 165 ـ 166 ـ 172 ـ 173.))

إنّ هذه الأزمة الشاملة هي أزمة الانسان، وليست مجرّد أزمة اقتصادية أو ثقافية. وقد حلل الصدر هذه الأفكار السابقة في كلّ كتاباته حيث نظر إلى المشكلة الاجتماعية والأخلاقية خارج الإطار السوسيولوجي الوضعي الضيق، واعتبرها كامتداد ونتيجة لأزمة الانسان الذي فقد معنى وجوده. فالحضارة الغربية أصبحت ـ في نظر الصدر ـ بدون أفق مستقبلي يمكّنها من طرح مشروع اجتماعي قادر على أنّ يعيد للإنسان إنسانيته، وهذا راجع إلى أنّ هذه الحضارة دخلت في مرحلة تأريخية يصفها الصدر

” بالمثل العليا التكرارية ” بسبب انقطاعها عن الغيب، أي انقطاعها عن المثل الأعلى الحقيقي،  لذلك انتهت الفلسفة الغربية إلى نهاية الفلسفة ونهاية التاريخ ونهاية الانسان.

لا شك أنّ هذه المفاهيم تؤولها الفلسفة الغربية (ماركس، هيجل، فوكوياما) انطلاقاً من اعتبار الحضارة الغربية حضارة كونية، ونموذجها الفكري والسياسي نموذجاً كونياً لا يمكن أن يتجاوزه أي نموذج آخر، في حين أنّ الصدر ينظر إلى مفهوم النهاية كنهاية لنموذجية الحضارة الغربية، التي نفدت طاقاتها،  لأنّها ارتبطت بمثل عليا نسبية كالجمهورية والقومية والشيوعية إلى غير ذلك من الأهداف التي يتصورها الانسان، ويعتبرها بديلا عن المطلق الحقيقي،  لذلك تاهت الحضارة الغربية ـ في نظر الصدر ـ في الجزئيات وفي النظرة التجزيئية، التي فتتت وحدة الانسان. فالسياسة المنقطعة عن القيم الدينية والأخلاقية أصبحت محددة في الإطار الضيق للسلطة والحكومة والمواطن. في حين أنّ السياسة في فلسفة الصدر تدمج في حركة البشرية عبر التاريخ، أي تدمج في أُفق مصير الانسان وتطلعه إلى الله.

وقد تحققت توقعات الصدر في واقع الحياة الغربية، فالصدر يرى أنّ الانسان مدفوع بفطرته إلى الارتباط بمثل أعلى حقيقي أو مزيف، وهذا ما وقع وما يقع في هذه السنوات في الغرب حيث إنّ الغربيين بدأوا يلجأون الى النزعات الروحية الشرقية كالبوذية وغيرها لإشباع تطلعهم إلى المطلق، وتعتبر هذه الظاهرة تأكيداً لفلسفة الصدر، فالإنسان يسعى ـ في نظر الصدر ـ إلى إعطاء معنى لوجوده، فلجوء المجتمعات الغربية إلى النزعات الروحية هو إرضاء لتساؤل الإنسان حول معنى الوجود.

ويرى الصدر في هذا السياق أنّ النزعة الانسانية (Humanisme) التي حرّرت الانسان من ظلمات القرون الوسطى وفتحت أمامه مجالا واسعاً للأخوة الانسانية، إن هذه النزعة الانسانية كانت منذ البداية تحمل في ذاتها أسباب أزمتها،  لأنّها لم تكن مؤسسة على أساس يعطيها معنى. إنّ أزمة النزعة الانسانية تعبر ـ في نظر الصدر ـ عن أزمة الرؤية إلى الانسان ودوره في الوجود، فالأزمة هي أزمة الإنسانية التي سلمت نفسها ومصيرها لحركة التاريخ.((يمكن الرجوع إلى مقدمة اقتصادنا وإلى سائر فصول ومباحث التفسير الموضوعي والإسلام يقود الحياة.))

الحل موجود خارج الانسان وخارج التأريخ

إنّ أزمة الإنسان تتطلب ـ في نظر الصدر ـ حلاًّ يستمد أساسه المعرفي والأخلاقي خارج الانسان وخارج التاريخ، فالدين هو الذي يحلّ المشكلة الاجتماعية والأخلاقية، التي تتخبط فيها البشرية في نظر الصدر، فالبشرية عجزت عن إيجاد الحل، فهي تنتقل في المجالين النظري والعملي من أزمة الرأسمالية إلى أزمة الاشتراكية الماركسية، إلى أزمة النزعة العلمية والنزعة الإنسانية إلى أزمة الكنيسة، التي جعلت من المسيحية ديناً كونياً، في حين أنها جاءت لتعالج وضعية معينة في مرحلة تاريخية معينة وفي مكان معين.

ويرى الصدر أنّ الأزمة التي تعاني منها الحضارة الغربية هي أكبر وأخطر أزمة في تاريخ البشرية، والأخطر من ذلك أنّ الحلول التي قُدمت لهذه الأزمة هي مجرّد انعكاس لها، فالتغيير الجذري مستحيل في نظر الصدر،  لأنّه لا يمكن عن طريق مثل عليا تكرارية.((التفسير الموضوعي: 164 ـ 168.)) أن تتصور الفلسفة الغربية واقعاً آخر غير الواقع القائم، فضعف الفلسفة الغربية المعاصرة يكمن ـ في نظر الصدر ـ في عجزها عن استيعاب الواقع، فهي انطلاقاً من أساسها المعرفي مجرّد انعكاس للواقع وللتاريخ،  لذلك لا يمكن لهذه الفلسفة أن توجه

التاريخ.

ويطرح الصدر في هذا السياق نظرية المعرفة التي تتمتع بالقوة الاستيعابية، والتي تسمح لها بتوجيه التاريخ، وهي نظرية للمعرفة تربط العقل بالغيب، لا من موقع لاهوتي بمفهوم النظرية اللاهوتية، بل من موقع انفتاح العقل على المطلق، كما أنّ نظرية المعرفة عند الصدر تعتمد على المبادئ والمفاهيم الدينية كأدوات استكشافية توجه العقل في تنظيره للحياة الاجتماعية.

لقد قلب الصدر نظرية ماركس رأساً على عقب عندما ركز كلّ التغيرات الاجتماعية على معنى الوجود. فإذا كانت الماركسية ترى بأنه يجب تغيير العالم بدلا من تفسيره، فالصدر يرى بأنّ تغيير العالم ملازم لمعنى الوجود، أي يجب إعطاء معنى للعالم لنتمكن من تغييره، ومعنى الوجود هنا له جوانب معرفية وميتافزيقية وأخلاقية، فتغيير العالم من هذا المنظور هو جانب أساسي من جوانب معنى الوجود.

وهكذا ففكرة تغيير العالم في حاجة إلى قيم أخلاقية تستمد منها عملية التغيير معناها وإلزاميتها، ويعتبر هذا الموقف إعادة نظر جذرية للعلوم الاجتماعية ولمفهوم التقدم ومفهوم التنمية كما طرحت في الفكر الغربي، وإعادة النظر هذه ليست ـ في نظر الصدر ـ مجرّد ترف فكري، فالبشرية أصبحت في مفترق الطرق، ومصيرها أصبح معلقاً بإعادة النظر ـ بصورة جذرية ـ في  رؤيتها إلى الانسان والمجتمع والتاريخ.

ملامح فلسفة الصدر الأخلاقية

لقد استوعب الصدر متطلبات العصر الجديدة، فهو لم ينظر إلى الانسان في بعده الروحي المجرّد، بل نظر إليه من خلال المستجدات في مجال التغيرات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وفي مجال تطور الرؤية إلى العقل بعد فلسفات كلّ من كانط وهيجل وماركس، فالصدر لم يلجأ الى مفهوم الخلافة (خلافة الانسان لله في الأرض) لجوءً تفاؤلياً وسطحياً، فالوعي التاريخي الذي تتميز به فلسفة الصدر الأخلاقية والمرجعية، التي تعتمد عليها (علاقة القيم بالدين)، كلّ ذلك طبع فلسفته في المجال الأخلاقي بطابع نقدي يؤهلها لطرح البديل الإسلامي لحلّ أزمة الحضارة المعاصرة، وهذا عكس فلسفة الأخلاق الغربية، التي أصبحت في كثير من جوانبها مجرّد انعكاس لمعطيات الواقع، فدخلت هي الأخرى في أزمة معقدة وقاتلة، فلسفة الصدر تحرّرت من الرؤية الوضعية الضيقة للإنسان والمجتمع، ولكنها لم تنته ـ كرد فعل ـ إلى مواقف مثالية مجرّدة، بل استوعبت متطلبات العصر وقضاياه، لترسم الأهداف لتطلعات الانسان، أي ترسم الطريق للخروج من الأزمة. فمثالية فلسفة الصدر الأخلاقية هي مثالية تنطلق من الواقع لتغييره.

إنّ فصل العقلانية عن الغيب قد انتهى بالفكر الغربي إلى اللاعقلانية، وفصل الحرية عن القيم الأخلاقية انتهى إلى اللاأخلاق. وبدلا من أن يحاول الفكر الغربي تجاوز هذه الحالة أصبح في تنظيره للواقع مجرد انعكاس سلبي للأزمة الحضارية كأمر واقع، فصاغ الفكر الغربي اللاعقلانية (Irationalisme) واللاأخلاقية صياغة مفاهيمية تتجلّى في مقولة العبث.((رسالتنا: 91.)) لقد طرح الصدر هذه المشكلة ـ مشكلة العقلانية ـ طرحاً جديداً، فالصدر قد فتح العقلانية الوضعية كما تتجلّى في المنهج التجريبي، فتحها على المطلق من خلال الدليل الاستقرائي على وجود الله.((الأسس المنطقية للاستقراء: (مبحث الاستدلال على وجود الله).)) العقلانية هنا عقلانية وضعية بظاهرة أخرى محسوسة. كما عالج الصدر مشكلة الحرية من موقع يختلف عن الفلسفة الغربية. فالحرية ليست فعلا مجانياً،

بل هي فعل أخلاقي في الأساس، إنّها تعبير عن خلافة الانسان لله في الأرض.

وعلى العموم فالقول بوجود أزمة حضارية يعني أنّ الحضارة قد وصلت إلى مرحلة خطيرة تقتضي إعادة النظر بصورة جذرية ونقدية في الأسس القيمية والمعرفية، التي ترتكز عليها الحضارة الغربية، فالمسألة ليست مسألة إصلاحات جزئية في نظر الصدر، فالبشرية ستدخل في مرحلة تاريخية جديدة، ولن يتمّ هذا إلا عن طريق تحولات تبدأ من نظرة الانسان إلى الكون،  لتنتهي إلى تحولات على مستوى البنيات الاجتماعية والسياسية، وعلى مستوى علاقات الشعوب بعضها ببعض.

الخاتمـة

يعود الفضل إلى الصدر في معالجة المشكلة الأخلاقية من منظور ديني وفلسفي في نفس الوقت. لقد حصر علماء الكلام مسألة صفات الله داخل إشكالية ميتافزيقية،في حين أنّ الصدر عالج هذه المسألة من منظور ميتافزيقي وأخلاقي وحضاري، فصفات الله مطلقة الكمال، أما محاولة الانسان التخلق بها فهي تجربة إنسانية تتضمن حتماً المحدودية والنسبية.

نلاحظ هنا كيف أنّ الصدر استطاع أن يعالج المسألة العقائدية والميتافزيقية والأخلاقية والحضارية انطلاقاً من علاقة الانسان بالمثل الأعلى، فهو لم يحصر تحليله في التخمينات الميتافزيقية. فالصدر قد فتح مجالا لا نهاية له لتكريم الانسان وسموه، لكن في إطار توحيدي دقيق يتمثل في عبودية الانسان لله، فعلاقة الانسان التعبدية مع الله تفتح آفاقاً لا حدود لها أمام الانسان ليعبر من موقع نسبيته عن إطلاقية القيم.

يعالج الصدر هنا كذلك مشكلة من أكبر وأخطر المشاكل الفلسفية،  إنّها مشكلة علاقة القيم الأخلاقية بالتاريخ، فالمذاهب الفلسفية التي أكدت على إطلاقية القيم الأخلاقية قد نفت البعد التاريخي للأخلاق، في حين أنّ المذاهب الفلسفية التي أكدت على علاقة القيم بالتاريخ قد نفت إطلاقية القيم الأخلاقية إلى درجة أنها اعتبرتها مجرد ظواهر اجتماعية وتاريخية. أما الصدر فقد أكد على إطلاقية القيم الأخلاقية بالتاريخ في نفس الوقت بفضل تحديده لعلاقة الإنسان بالمثل الأعلى الحقيقي، ونظرته إلى هذه العلاقة كمحاولة مستمرة من طرف الانسان للتخلق بصفات الله، وهكذا فمحاولة الإنسان التقرب من الله أكثر فأكثر تعني من المنظور الفلسفي للأخلاق أنّ القيم الأخلاقية هي على المستوى الانساني قيم مرتبطة بحركة التاريخ ضمن علاقة ذات تأثير متبادل تملك فيه القيم زمام المبادرة وقوة التوجيه خاصة في الرؤية الاسلامية، التي تجعل التقرب من الله هدفاً للقيم الأخلاقية.

وهكذا فالصدر يرى أنّ القيم الأخلاقية تستمد معناها وحقيقتها بارتباطها بالله وبالتاريخ، فلا يمكن فهم القيم الأخلاقية بعزلها عن التاريخ، ففلسفة الأخلاق الصدرية تصل ـ بموقفها هذاـ إلى أعلى مستوى من الروحانية وتصل ـ في نفس الوقت ـ إلى أعلى مستوى من الواقعية بفضل ربطها للقيم الأخلاقية بالله وبالتاريخ، ويختلف هذا الموقف جذرياً عن فلسفة هيجل، التي جعلت العقل الكوني ـ أي الله في نظر هيجل ـ يذوب في التاريخ، فيصل هذا الأخير إلى نهايته، والحقيقة أنّ كلّ شي ينتهي في هذه الفلسفة، فالله يصبح هو الواقع والقيم تصبح هي الوجود، وتقضي الجدلية على نفسها بنفسها.

فالصدر قد حرّر الأخلاق من المأزق الذي وضعتها فيه الفلسفة الغربية: تحرير الأخلاق من الدين

وتجريدها من كلّ بعد غيبي وروحي، أو تأسيس الأخلاق على الدين، وقطع كلّ علاقة بينها وبين متطلبات العصر. فلسفة الصدر الأخلاقيه لم تنظر إلى الأخلاق من حيث هي ذات مصدر متعالي لا علاقة له بالانسان، أو من حيث هي أخلاق مرتبطة بغاية بعيدة عن قدرة الانسان وقوته، إنّ الأخلاقية تستمد حقيقتها من مرجعيتها، وتسعى إلى تحرير الانسان باسم وبفضل هذه المرجعية.

كما أنّ الصدر قد حرّر الفكر الاسلامي على العموم والفكر الأخلاقي على الخصوص من الطابع التمجيدي ومن الطابع الوعظي والإرشادي، وفتحه على المقاربة النقدية والفلسفية لمشكلة القيم الأخلاقية، إنّ كتابات الصدر في المجال الأخلاقي ليست مستقلة عن الجوانب الأخرى من كتاباته، فالمشكلة الأخلاقية متضمنة في كلّ القضايا المطروحة (الانحطاط، النهضة، وحدة الأمة، الدولة، التنمية، القضايا المرتبطة بعلم الكلام، المشكلة الاجتماعية…).

إنّ قوه فلسفة الصدر تكمن في استيعابها لأزمة الحضارة المعاصرة من حيث هي أزمة قيم، وفي تجاوزها لكلّ المذاهب الفلسفية عن طريق طرحها لنموذج حضاري بديل. إنّ هذا الوعي التاريخي يتميز بالشك المنهجي وبالموقف النقدي تجاه التاريخ وتجاه الثقافة الغربية، فالصدر لم يكتف بنقد الحضارة الغربية، بل صاغ الإطار النظري لنهضة الحضارة الاسلامية من جديد،  لذلك تجاوز الصدر الموقف الفلسفي المحايد ووصل إلى الموقف الجهادي وفاز بالشهادة رضوان الله عليه.