الامام الصدر.. نموذج قراءة في مشروعه التأسيسي عبدالحق مصطفى

[lwptoc]

مقدمة

في البداية وللوهلة الاولى نطرح التساؤل التالي: لماذا هذا النوع من القراءة لهذا النوع من الفكر؟ وما تبريره الذاتي والموضوعي؟ أهي صعوبة الموضوع المقروء وسلطته وهيبته وعبقريته؟؟ أم هي بساطة الذات القارئة وصغارها امام ضخامة عملية القراءة وتبعات مسؤولياتها الشرعية والتاريخية؟ خصوصاً اذا عرفنا ان صاحب المشروع المقروء شخصية علمية وحركية من الطراز الاول، بل اننا لا نجانب الموضوعية اذا قلنا ان السيد الشهيد الصدر «رض» يعد حالياً احد عباقرة القرن العشرين الذين قلما يجود بهم الزمن. وهذا مكمن الصعوبة في قراءة فكره الموسوعي والذي جسّده ضمن مشروع تأسيسي حضاري الاسس والابعاد، حركي الوسائل والمناهج، لدرجة ان يحار القارىء له في اختيار نوع القراءة الملائمة لطبيعته المعرفية والمنهجية.. أيكون التركيز على المقاربة المنهجية فقط ام الفقهية ام الاصولية او العلمية والفلسفية؟ ام يتم اختصار كل هذا في القيام بعملية قراءة اشكالية تركيبية تقوم على فصل الاساسي من الثانوني والاصلي من الفرعي من المشروع؟ الاّ ان كل هذه الصعوبات الفنية تهون عند محاولة اعتماد طريق او منهجية اخرى في القراءة. والحالة هذه القراءة النقدية التجاوزية وهي المطلوبة بالحاح على كل قارىء مبدع.. لماذا؟ لان طبيعة ونوعية هذه القراءة تتطلب مستويين من المعرفة:

المستوى الاول: يتجلى في التوفر على الشروط العلمية التخصصية مع التحلي بقدر كبير من الموضوعية حتى تنجح عملية القراءة الاولية.

والمستوى الثاني: يتجلى في شرط امتلاك القدرة على الخلق والابداع حتى تنجح عملية التجاوز وهي العملية التي تفتح الافاق امام فهم دقيق واستيعاب واسع ثم تجاوز هذا الفكر الجبار عبر عملية تأسيس جديدة. وهذا لعمري هو ما يحتاجه مشروع ضخم واصيل كمشروع الصدر حالياً وبصورة عاجلة. اذ، ومع الاسف الشديد، وبالرغم من مرور وقت ليس بالقصير على رحيل مبدع هذا الفكر «ت 1980م» لم نجد فيما هو موجود على الساحة النقدية الاسلامية والعالمية وفي حدود ما نعلم، من قراءات ومقاربات ما توفرت فيه هذه الشروط الذاتية والموضوعية لفرض نوع من التجاوز ولو بسيط عى ما جاء في هذا المشروع التأسيسي الكبير. وهنا تكمن المشكلة الاساسية بالنسبة لكل محاولة في هذا المجال.

وهذا راجع زيادة على ما ذكرنا لطبيعة فكر الصدر ذاته، اذ انه ليس بالفكر التابع او المقلد ولا بالفكر العادي بل الفكر الذي استطاع ان يؤسس لنفسه منهجاً خاصاً به عبر ما طرحه من مشروع فكري فلسفي ذي اساس منهجي متين بديل لكل ما هو مطروح وموجود لا اقول على الساحة الاسلامية فقط بل والساحة الانسانية ككل.

واقل ما يُقال حول المشروع هو كونه استطاع ان يؤسس مدرسة خاصة به، قامت باحداث نلة ابستمولوجية هائلة في الفكر الانساني عامة والاسلامي خاصة. لذا فنحن غير معذورين في عدم اعطاء هذه المدرسة الاسلامية الشامخة ما تستحقه من اهتمام ودراسة وجهد. لان هذا يشكل واجباً وان لم يكن عينياً فكفائياً على اقل تقدير وهذا من ابسط حقوقها علينا كأمة هي في أمس الحاجة لهذا النوع من المدارس الحضارية. وهذا لا تحققه سوى المنهجية النقدية في القراءة وتحديداً القراءة التي تسعى لاعادة التأسيس من جديد. ونحن هنا لا ندعي هذا بل نحاول ان ندشن هذا النوع من القراءة عله يلقي من يتعاهده في المستقبل القريب من ابناء الامة المخلصين. لهذا جاءت هذه المقاربة في صورة محاولة قراءة وليست قراءة بالمعنى العلمي والاصلاحي العام والدقيق. ووسيلتنا لتحقيق ذلك تتمثل:

اولاً: في قراءة الثلاثة اصول النظرية في المشروع الصدري وهي هكذا بالتسلسل، فلسفتنا، الاسس المنطقية للاستقراء، واقتصادنا. وبعد ذلك نتطرق لبعض الحقول التطبيقية لهذه الاصول النظرية وهي: «المدرسة القرآنية»، «أهل البيت «ع» تنوع ادوار ووحدة هدف»، «فدك في التاريخ» ثم «بحث حول الولاية»، علنا نتوفق لانتاج خلاصة في آخر المطاف تحاول ربط المادة الخام للمشروع بما تتطلبه المرحلة التاريخية الآنية من مهام معرفية وحركية مستعجلة.

الاصول النظرية للمشروع:

الاصل الاول: فلسفتنا

لقد جاءت هذه المحاولة التأصيلية الاولى في المشروع الصدري لتكون اللبنة الاولى على طريق بناء الذهنية الاسلامية المنفتحة والمؤطرة تأطيراً منهجياً وابستملوجيا وذلك انطلاقاً من الخلفية الفلسفية المحضة.

فكانت الاشكالية المطروحة هنا تتعلق بمصادر المعرفة الانسانية وتحديداً نظرية المعرفة باعتبارها المفتاح المنهجي لولوج عالم وميدان اكتساب المعرفة الصحيحة. تلك المعرفة التي تمكن الانسان من تحديد موقف واقعي وصحيح من القضايا التالية: الكون والانسان والحياة والمجتمع ثم القضايا الماورائية «الميتافيزقيا» كقضية واجب الوجود، وقانون العلية وقانون عدم التناقض وغيرها من القضايا المرتبطة بها.

والمنهجية الصدرية المتبعة في هذا الاطار تعتمد بالاساس على طرح الاشكالية المعرفية بشكلها العام ثم القيام بتحليل بنيتها او بالاحرى بنياتها نظراً لتعدد المذاهب والمناهج والمدارس المعرفية الانسانية، ثم نقدها نقداً تجاوزياً عبر عملية هدم وبناء منهجية للاسس القانونية التي تعتمد عليها ومن ثم طرح البديل والذي غالباً ما يكون ابداعياً وتأسيساً. وعملية التجاوز هذه تعتمد في نفس الوقت الادوات المعرفية الاسلامية والانسانية. باعتبار اصالة بعض مفردات نظرية المعرفة الانسانية كالعقل والتجربة.

وبهذا نعرف عدم وجود المبرر المعرفي الاسلامي لخلق قطيعة ابستملوجية مع مفردات هذه النظرية حسب النظرة الصدرية. بل كان لهذه الاخيرة ان تقوم بتأصيل واقعية المعطى العقلي والتجريبي عبر تأطيرها بالوحي، وهذا ما اخرج نظرية المعرفة الانسانية من محدوديتها وزادها بعداً ثالثاً وهو البعد العمودي بعد ان كانت منقطعة عن اي ارتباط بالسماء. فمن الطبيعة الاحادية «العقل وحده او التجربة وحدها كمرجع ومصدر معرفي»  والطبيعة الثنائية «العقل + التجربة كمصدرين وحيدين للمعرفة» الى الطبيعة الثلاثية الاسلامية «العقل + التجربة + الوحي» وهذا مكمن الابداع الصدرى خصوصاً اذا عرفنا علاقة ذلك بمجموع الانتاج المعرفي الاسلامي والانساني وقيمته ومشروعيته، وكذا انعكاسات كل ذلك على مشكلة تمييز الحق عن غيره على المستوى الايديولوجي والواقع والمثال على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وبين واجب الوجود وممكن الوجود على المستوى الفلسفي والعقائدي، وبين النسبي والمطلق على المستوى الفكري. من هذا يتبين خطورة هذه الاضافة المعرفية الاسلامية للسيد الصدر لا أقول من الناحية النوعية فقط ولكن بالاساس من الناحية المنهجية. لانها بهذه الاضافة لم تحد حرية العقل ومساحة التجربة العلمية والانسانية ولكنها استطاعت ان تغني كلا العنصرين العقل والتجربة عبر تأطيرهما بالوحي الالهي. وبهذا تم التمهيد المنهجي للتطرق لاشكالية سيطرت على التفكير الاسلامي منذ بداية الاحتكاك بين المسلمين الفاتحين والشعوب غير المسلمة وحتى الآن من غير ان تجد من يتطرق اليها بعقلية منهجية اذا ما استثنينا السيد الصدر.. إنّها اشكالية العلاقة بين ما سمي في الفكر الاسلامي القديم والحديث بالنقل «الوحي» والعقل كان لهذه الاشكالية الخطيرة الدور البارز في خلق ما عرف ويعرف حالياً بالثنائيات المتناقضة والحالة هذه: النقل والعقل، العلم والدين، الدين والدولة، الاصالة والمعاصرة، الدولة الدينية والدولة العلمانية، التراث والحداثة.. الى غير ذلك من قضايا والتي ان دلت على شيء فانما تدل على المستوى الخطير الذي وصلته عملية التطور الفكري والثقافي للمجتمعات الاسلامية في مقابل المجتمعات الاخرى وتحديداً الغربية. وهذا ما ادى الى ما يعرف معرفياً وابداعياً بالجمود والانحطاط الحضاري. وحينما نعرف هذه المعطيات فاننا ندرك اهمية ما قام به المشروع الصدري او بالاحرى الاصل الاول من الاصول النظرية لهذا المشروع الضخم بخصوص تجاوز هذه الاشكالية العقيمة والسمو بالعقل المسلم الى المستوى الذي يليق بوظيفته. ولربما يكون هذا المعطى الاشكالي الخطير هو الذي دفع بالامام الصدر الى تأسيس اصل ثان من الاصول النظرية للتطرق بالاساس لهذه المعضلة المفتعلة. وقد خصص لها كتاباً منفرداً وجريئاً وضعه تحت عنوان «الاسس المنطقية للاستقراء».

الاصل الثاني: الاسس المنطقية للاستقراء

يقول الشهيد الصدر بهذا الخصوص في الصفحة السابعة والثامنة من كتابه هذا: «ونحن في هذا الكتاب اذ نحاول اعادة بناء نظرية المعرفة على اساس معين ودراسة

نقاطها الاساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب «فلسفتنا» سوف نتخذ من دراسة الدليل الاستقرائي ومعالجة تلك الثغرة «وهي هنا اشكالية الانتقال من الخاص الى العام» فيه اساساً لمحاولتنا هذه».

وهذا بحد ذاته يشكل دليلاً قاطعاً على ما ذهبنا اليه في الاصل النظري الاول من ان هذه المحاولة او هذا الكتاب جاءت كإضافة منهجية اصيلة للمحاولة الاولى في «فلسفتنا»، وكأن السيد الصدر اراد منها ان تكون الاداة المعرفية الثانية بعد الاداة الاولى والمتمثلة في تثبيت قضية نظرية المعرفة الاسلامية وذلك داخل اطار واحد وهو مشروعه التأسيسي لمدرسة اسلامية رائدة في هذا المجال، باعتبار ان عملية النهوض الحضاري للامة الاسلامية تتطلب بالاساس مثل هذه المقدمات التأسيسية المنهجية منهجة علمية دقيقة. وبهذا يكون السيد الصدر المفكر الذي دشّن عصر التفكير الاشكالي الممنهج داخل الدائرة الاسلامية بعد عصور الانحطاط الفكري والبطالة العقلية.

وقد نجحت المحاولة الى ابعد حد وخصوصاً في جانبها النقدي وتحديداً النقدي التجاوزي حين تم تفنيد مشروعية وجود مثل هذه الاشكالية المختلقة داخل الدائرة الفكرية والفلسفية الاسلامية وخصوصاً بعد ان وصلت الفلسفة الاسلامية الى الطريق المسدود مع ابن رشد الذي حاول بكل ما اوتي من ذكاء ومعرفة ان ينقذ ما تبقى منها حين طرح آخر ما لديه بخصوص هذه الاشكالية المعرفية وذلك عبر اسلوبه ومنهجه التلفيقي والذي تجلى في ابهى صوره من خلال محاولته للتوفيق بين عنصر العقل كمرجع لابد منه لاكتساب المعرفة والنقل «الوحي» كطرف ثان مهم وضروري في هذه العملية. وكأن القضية هنا قضية توفيق وتلفيق بين عنصرين متضادين: العقل من جهة والوحي من جهة ثانية.

وهنا تكمن المعضلة المنهجية، والتي عملت منهجية السيد الصدر خلال فصول هذا الكتاب على تعريتها بطريقة مباشرة وغير مباشرة سواء من داخل الدائرة الاسلامية كما رأينا او من خارجها مع باقي المفكرين والفلاسفة الغربيين.

حيث استطاع ان يبتكر الاداة المنهجية التي فشل في اكتشافها هؤلاء الفلاسفة والمفكرون… بهدف فهم ثم تجاوز اشكالية العلاقة بين النقل والعقل، العقل كمعطى انساني ضروري واساسي في عملية الانتاج المعرفي والنقل او الوحي كمعطى الهي ضروري واساسي لترشيد وتأطير ومراقبة نفس هذه العملية.

من هنا جاءت هذه المحاولة الصدرية لتفتح العقول على حقيقة مهمة وهي: «ان الاسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الاسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على اثبات الصانع المدبّر لهذه العالم»((الاسس المنطقية للاستقراء ص 469. )) لان «هذا الاستدلال ـ كأي استدلال علمي آخر ـ استقرائي بطبيعته».((الاسس المنطقية للاستقراء ص 469.))

وهنا يعني وبكلمة اخرى ان لا تناقض هناك بين المنهج العملي المبني على قوانين العقل والتجربة والمنهج الاستدلالي الذي جاء به الوحي، لان كلا المنهجين يجمعهما قاسم مشترك، وهذا الاخير هو الاساس الاستقرائي.

هذا هو الطرح الجديد لهذه الاشكالية التي اتعبت عقول الاقدمين والمحدثين من الفلاسفة المسلمين والغربيين. وبهذا يصير من العبث المضي والاستمرار في البحث عن علاقة تناقض مزعومة بين احدى عناصر نظرية المعرفة، والحالة هذه، العقل والوحي. وهنا تكمن عملية التجاوز الابداعية ويتم التأسيس لنوع جديد من الفهم والمعالجة النظرية.

ومن النتائج الانية لهذا الفهم الجديد بروز حقيقة «ان العلم والايمان مرتبطان في اساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ـ من وجة النظر المنطقية للاستقراء ـ الفصل بينهما»((نفس المصدر السابق.)). وان الانسان بعد بروز هذه الحقيقة الواضحة يكون بين امرين: «فهو اما ان يرفض الاستدلال العلمي ككل واما ان يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على اثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي».((نفس المصدر السابق.))

لقد استطاعت هذه المحاولة ان تقضي على قرون واماد من التفكير المراهق تارة والعشوائي / التلفيقي تارة اخرى وفتحت بذلك للجيل الجديد من المفكرين الاحرار طريقاً ومنهجاً جديداً وممتعاً للخلق والابداع الفكري

والفلسفي لامجال فيه لمثل هذه القضايا والاشكالات العقيمة والمختلفة حيث ينتفي التعارض المزعوم بين القديم والجديد، بين الاصالة والمعاصرة بين العلم والايمان، بين الدين والسياسة، والدين والدولة وما الى ذلك من ثنائيات مزعومة. مما يجعل العقل الاسلامي ينطلق في دورة حضارية جديدة تقفز الى حيث الزعامة والرياسة الفكرية كمقدمة للزعامة والرياسة الحضارية الشاملة.

وهكذا وعبر هذا الاصل الثاني من اصول مدرسة الامام الصدر يكون هذا الاخير قد ادرك شرف تأسيس اسلامي اصيل لاحد العلوم المهمة في عصرنا الحاضر وهو علم طرح القضايا والمشكلات ومعالجتها ثم تجاوزها تكاملياً. وهو العلم الذي يختص به مفهوم الاشكالية نفسه.

الاصل الثالث: اقتصادنا

بعد ان تمت عملية تأصيل العناصر البنيوية المكونة لنظرية المعرفة في «فلسفتنا»، وبعد ان تم اكتشاف نوعية العلاقة الرابطة بين هذه العناصر عن طريق

المنهجية الاستقرائية المنطقية في «الاسس المنطقية للاستقراء» يأتي هذا السفر الموسوعي الاقتصادي ليقوم بعملية تأسيس ثالثة للاصل الثالث من اصول المدرسة الاسلامية الصدرية. وذلك عن طريق طرح مسألة العلاقة بين العلم الاقتصادي والمذهب الاقتصادي من جهة وعلاقة كل هؤلاء بالنظام الاقتصادي الاسلامي من جهة ثانية.

ثم البحث عن الوجوه الذاتية والموضوعية في كلا الجانبين: العلمي والمذهبي. والمحاولة هذه محاولة منهجية اكثر منها اقتصادية بحتة خلافاً لما يبدو للقارىء غير المتمرس. لان الهم والقضية الاولى هنا تتمثل في البحث عن المنهجية الاسلامية المعرفية الواقعية لدراسة الاشكالية الاقتصادية بصفة عامة. وما الميدان الاقتصادي هنا سوى حقل من الحقول المعرفية لخوض التجربة.

والنتيجة المستوحاة من البحث اثبتت وجود مذاهب اقتصادية شتى وعلم اقتصادي واحد يخضع الجميع لقوانينه الموضوعية. والنظام الاقتصادي الاسلامي يقرّ بالعلم ولا يقبل بالمذهب المتناقض مع مقاصده ومبادئه. وبهذا تنتفي القضية المزعومة والتي تتمحور حول مشكلة وجود او عدم وجود علم اقتصادي اسلامي والتي شغلت العديد من المفكرين والمنظرين الاقتصاديين وغير الاقتصاديين سواء في الماضي او الحاضر، ومن دون ادنى مبرر سوء عدم امتلاك للمنهجية الملائمة لعملية الفرز بين الاصل والفرع، بين القضية وافرازاتها بين المشكلة والاشكالية.. وهكذا.

وهذا ما جعل المحاولات النظرية للسيد الصدر كمفكر مبدع تصب في هذا المجرى المنهجي، وذلك بهدف توظيفها في عملية تأطير التفكير الانساني بصفة عامة والاسلامي بصفة خاصة عبر المنهجية الغنية لجميع خطواته ومراحل توليده للمعرفة. وهذا ما تم من خلال «اقتصادنا» حيث وضعت المشكلة الاقتصادية في نفس مستوى المشكلة السياسية والثقافية في الوقت الذي ارتقت فيه المشكلة الاجتماعية الى مستوى الاشكالية حيث تم تحديدها من قبل «بمشكلة النظام الاجتماعي الذي يصلح للانسانية وتسعد به في حياتها»((فلسفتنا ص 11.)) بحيث اصبح المشكل الاقتصادي فرع من اصل عوض ان يكون هو الاصل والمشكلات الاخرى هي الفرع. الامر الذي يمكن تلخيصه عبر الآتي:

اذن وتبعاً لهذا الطرح الجديد، لم تعد للمسألة الاقتصادية صفة الاشكالية كما يعرفها الفكر الانساني، لانها اعتبرت افرازاً للاشكالية الاجتماعية على خلفية خلافة الانسان لله تعالى فوق الارض. ومن ثم فحل المشكل الاقتصادي للانسان يمر عبر التطرّق للاشكالية الاجتماعية بالاساس. وهذا النوع من الفهم يمثل اكتشافاً منهجياً وعلمياً رائداً وتجاوزاً كبيرا لما هو مطروح اسلامياً وعالمياً.

وبهذه الاضافة المنهجية الثالثة في «اقتصادنا» تكون عملية وضع الاسس النظرية للمشروع الصدري قد اكتملت فصولها، واصبحت مدرسة الصدر تضاهي اكبر واعرق المدارس الفكرية العالمية ان لم تكن تجاوزتها الى ما هو افضل.

ولم يبق سوى طرح مجموعة نماذج تطبيقية تكون بمثابة دليل واقعي على اصالة هذا الطرح الاصولي الجديد. وهذا ما تجسد عن طريق النماذج التطبيقية التالية:

1ـ المدرسة التطبيقية.

2ـ اهل البيت «ع» تنوع ادوار ووحدة هدف.

3ـ فدك في التاريخ.

4ـ بحث حول الولاية.

وهذا ما يشكل الجانب التطبيقي من المشروع وهو ما سنحاول قراءته باجمال.

النماذج التطبيقية للاصول النظرية

1ـ نموذج «المدرسة القرآنية»

قبل الشروع في قراءة هذه النماذج التطبيقية، يجدر بنا ان ننتبه لكون هذه الاخيرة لا تتعدى في شكلها ومضمونها دور ووظيفة المثال العملي التطبيقي لمجموع الاصول الثلاثة. وهذا نابع من كون المدرسة الصدرية وكأي مدرسة فكرية اصيلة، تشتمل على جانب نظري بحت وآخر تطبيقي. الاّ ان ما يلاحظ على هذه المدرسة استغراقها ـ المعقول على كل حال نظراً لحاجة الفكر الاسلامي والانساني في وقتنا الحاضر لذلك ـ في الجانب النظري وتحديداً المنهجي منه اكثر من اهتمامها بالجانب التطبيقي وهذا باستثناء الحقل الفقهي والحركي باعتبارهما يعدان خارج هذه الدائرة وهما مجالات تطبيقية اخرى وهذا ممكن الاهمية في مشروعه الذي اريد له تطويق اكثر من اشكالية منهجياً ومعرفياً، خصوصاً بعد  استقالة الفلسفة والعقل المسلمين منذ آخر محاولة رسمية لانقاذهما على يد ابن رشد الذي اخفق في محاولته التلفيقية بين عنصري نظرية المعرفة: الوحي والعقل. وبسبب وجود هذه الاشكالية المنهجية والمعرفية، والتي طالما عاقت حركة التطور الحضاري الطبيعي للامة الاسلامية، جاء فعل المشروع الصدري كمحاولة نظرية في عمومها للرد عليها ثم تجاوزها عبر عملية تأسيس جديدة. ولما كان الامر كذلك فقد اقتصر في الجانب التطبيقي على اعطاء نماذج محدودة من التاريخ والتفسير والمجتمع تفيد الباحث الاسلامي الجاد في تنظيم عملية الفهم والتفكير والاستيعاب للجانب النظري / المنهجي حتى ينطلق بنجاح في عملية الابداع الفكري والفلسفي كمقدمة للابداع الحضاري الشامل.

وقد جاء هذا النموذج «المدرسة القرآنية» ليجسد عملياً النظرية المنهجية العميقة والجديدة للمدرسة الصدرية في كيفية طرح ومناقشة ونقد وفهم جانبين مهمين من الفكر الاجتماعي والتاريخي الاسلامي:

الاول: تعلق بالجانب المنهجي في التعامل مع النص القرآني من حيث فهم واستنطاق مجموع دلالاته اللفظية والمفهومية ومقاصده الشرعية. حيث تم نقد التفسير التجزيئي للنص القرآني نظراً لعقمه وجمودية ادواته المنهجية في فهم الواقع الموضوعي اولاً ثم العجز عن خدمته وتحريكه نحو التقدم والتغيير ثانية وبهذا تم تجاوز هذا النوع من التعامل مع النص المقدس بواسطة نوع جديد من التعامل وهو ما اطلق عليه اسم: التفسير الموضوعي للقرآن. والذي يتمثل في مخاطبة النص عبر الواقع الموضوعي وذلك بهدف استنباط الحلول الواقعية للمعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والانسانية والتاريخية من جهة وكذلك تأسيس نظريات وقوانين تكون وظيفتها ترشيد وتقنين وتأصيل عملية الممارسة الحضارية للامة في انطلاقتها النهضوية من جهة ثانية.

والثاني: تعلق بالجانب المنهجي في التعامل مع قسم جد هام من القرآن الكريم وهو القسم المتعلق بالقصص القرآني. وذلك عبر نقد الاسلوب اللاتاريخي لقراءة وتحليل تفسير مجموع القصص القرآني ثم طرح اسلوب آخر جديد وهو الذي يعتمد بالاساس على استخراج القوانين التاريخية عوض الاقتصار على الحدث التاريخي الجاف والوقوف عند حدوده.

ولقد تم الاستفادة من جميع العناصر المكونة لها والحالة هذه الوحي والعقل والتجربة التاريخية للشعوب والانبياء المرسلين، وذلك بقصد استنباط ما اطلق عليه السنن التاريخية في القرآن. ومن هذه السنن قانون الهامش التاريخي والاستثناء التاريخي الذي يؤكد القانون التاريخي العام في نجاح وفشل الحضارات المؤمنة والمنحرفة الى آخر ذلك من قوانين تاريخية صارمة.

وخلاصة هذا المحاولة المنهجية في كلا الجانبين تصب بالاساس في القضية المركزية في المشروع الصدري وهي قضية التغيير الاسلامي الجذري والشامل في حياة الامة والانسانية والذي اوقف السيد الصدر حياته من اجلها قطرياً واسلامياً وعالمياً حتى استشهد في سبيل تحقيق هدفه المقدس هذا.

2ـ نموذج اهل البيت «ع» تنوع ادوار ووحدة هدف

لقد سارت هذه المحاولة المنهجية في المجال التاريخي المحض على نفس الخط الذي خطته الاصول النظرية المنهجية الثلاثة السالفة الذكر. وهذا هو النموذج الثاني من النماذج التطبيقية للمنهجية الصدرية في البحث عن الحقيقة. حيث وعبر عملية مسح تاريخية حاولت ان تضع الحدث التاريخي الخطير والهام الذي حدث بُعيد وفاة الرسول «ص» وهو قضية الانحراف عن الخط الاسلامي المحمدي واستمراريته داخل اطار التجربة الاسلامية، في اطاره الموضوعي والتاريخي البحت ومحاولة ربط هذا الحدث بالتيار المعارض الذي اسسه ائمة اهل البيت «ع» رداً على هذا الانحراف. والاشكالية المعالجة هنا تتمثل في صعوبة ايجاد قاسم مشترك بين الادوار التاريخية والشرعية التي اضطلع بها هؤلاء الائمة «ع» عند الانسان القارىء غير المتمرس.

نظراً لتنوع وغناء هذه الادوار كنتيجة لتنوع المواقع والظروف السياسية والامنية والاجتماعية والفكرية التي عاشها كل امام بمفرده. الاّ ان منهجية السيد الصدر المتينة استطاعت ان تُذلل هذه الصعوبة المزعومة بالتدليل التاريخي والمنطقي على وجود قاسم مشترك واضح جداً يجمع بين هذه الادوار المختلفة، والمتمثل في اعادة الحياة الاسلامية الحقيقية والاصيلة الى لعب دورها الذي دشّن انطلاقته الرسول «ص» خلال حياته الجهادية الطويلة، وذلك عن طريق ازهاق الباطل المتجسد في الانحراف الخطير الذي حصل بعد وفاته «ص».

وتذكرنا هذه المنهجية الاستدلالية بالمنهجية التي طبقت بخصوص ارجاع عملية البرهنة على وجود الصانع الى نفس الاسس التي تعتمدها عملية البرهنة بالاستدلال العلمي التجريبي.. وهي الاسس المنطقية الاستقرائية. يعني محاولة البحث عن الاشكالية ضمن القاسم المشترك الجامع لكل المشاكل والقضايا المتنوعة والمتناثرة في اطار النص او التاريخ او المجتمع وما الى غير ذلك.

وهذا يعني انه ومهما تنوعت الادوار الرسالية للائمة من اهل البيت «ع» فانها ذات هدف استراتيجي واحد. وبهذا تتم عملية التجاوز وتنجح عملية تأسيس فهم جديد للمسألة المختلف عليها. ويبدأ البحث عن الادوار المتنوعة من خلال الهدف الواحد عوض البحث عن الادوار المختلفة من خلال الاهداف المتناقضة.

3ـ نموذج: فدك في التاريخ

تبدو هذه المحاولة النموذجية في منهجيتها تكملة للمحاولة التي تطرقنا اليها بخصوص دور الائمة عليهم السلام واهدافهم عبر التاريخ الاسلامي، وذلك لطبيعة العلاقة العضوية بين قضية ارض فدك، الارض المغصوبة من السيدة فاطمة «ع» بُعيد وفاة ابيها محمد «ص»، وقضية المحاولة من اجل اعطاء نظرة شاملة لفصول مسلسل الانحراف عن التجربة الاسلامية المحمدية بداية بقضية «فدك»، وهنا يظهر ايضا نموذج التطبيق العملي للمنهجية الصدرية: ارجاع الفرع للاصل او بعبارة اخرى. طرح الاشكالية عوض الاقتصار على مناقشة القضايا الثانوية. باعتبار ان قضية ارض «فدك» قضية مصير امة ومصير رسالة ومصير تجربة رائدة مهددة من الداخل، وليست قضية صراع على ارض او ارث بين السيدة فاطمة «ع» والخليفة الاول. وبهذا تكون المعارضة التي قادتها بضعة الرسول «ص» ضد منطق السقيفة بداية انطلاقة معارضة جذرية شاملة قادها ائمة اهل البيت «ع» وانصارهم طيلة التاريخ الاسلامي وحتى الآن. وكأن السيدة فاطمة «ع» ارادت بتلك المطالبة بأرضها تسجيل موقف رسالي اصيل وشرعي بعيد الاثر في النفوس ضد من قادوا عملية الانحراف او شجعوا عليها.

وهذه النتيجة التي خرجت بها هذه المحاولة النموذجية تعد عملية تأسيسية ناجحة لخلق فهم جديد لمثل هذه القضايا التاريخية الخطيرة، ومن ثم بعث نوع من الوعي الرسالي الاسلامي للتاريخ داخل الامة كمقدمة لانضاج ظروف النهضة الحضارية الشاملة.

نموذج: بحث حول الولاية

لم تحدث هذه المحاولة الرابعة استثناء على المستوى المنهجي، بل جاءت لتؤكد القاعدة التي سطرتها الاصول المنهجية والمعرفية الثلاثة.

والدليل طبيعة الاشكالية المعالجة هنا وهي اشكالية معرفة الاصل من الفرع بخصوص مسألة نشأة المدرستين: مدرسة السنة والجماعة ومدرسة أهل البيت «ع» في شخص الامام علي «ع» ثم من بعده ابناءه «ع» وهذا تأسيس جديد لطرح جديد للقضية لم نعهده من قبل.

وهذا يعني، وبالنتيجة، ان مدرسة أهل البيت «ع» هي نفسها مدرسة الاسلام الذي جاء به رسول الله «ص» وجاهد من أجله طول حياته.

اما التجارب المخالفة والمنافسة فكانت بمثابة مغامرات سياسية محضة حاولت دمج النسبي الانساني «الرأي» بالمقدس المطلق «النص»، وبالتالي جعله فرعاً منه. وهذا ما ادى الى عدة مشاكل اصولية وفقهية وسياسية واجتماعية وعقائدية كان من نتائجها ضعف شوكة الاسلام وتمزيق المسلمين فرقاً ومذاهب واحزاباً متناحرين متحاربين فيما بينهم وحتى وقتنا الحاضر

ولعل المساهمة القوية والمخلصة التي قامت بها مدرسة الامام الصدر لاعادة النظر في طريقة فهمنا للقضايا والمشاكل وطرق التفكير والتنظير عندنا، تجد من يتعاهدها بالتشجيع والدرس والبحث حتى تؤتي نتائجها القريبة والبعيدة، لما فيه خير الامة الاسلامية في جمع شملها وتوحيدها على الحق الذي جاء به الاسلام المتجسد في محمد «ص» واهل بيته «ع».

خلاصة

سؤال كنا طرحناه في المقدمة نعيده بصيغة اخرى هنا: هل توفقنا في عملية القراءة النموذجية هذه لاضخم مشروع فكري ونهضوي عرفه عصرنا الحالي أم لا؟ ثم هل توفقنا في فرض بعض سلطتنا على المشروع عبر نوع من النقد التجاوزي المبدع ام لا؟

لعل الجواب الوحيد الذي نملكه تجاه ضخامة هذه التساؤلات يكمن في معرفة مدى نجاحنا او فشلنا في قراءة او محاولة قراءة المشروع بأكمله، ثم في درجة اخلاصنا وجديتنا للدعوة العامة من اجل نقده نقداً تجاوزياً تأسيسياً حتى تعم فائدته ويكون نواة لانطلاقة دورة حضارية اسلامية جديدة. وهذا يشكل احسن وافضل خدمة تقدم لهذه المدرسة الاصيلة اذا ما اريد لها ان تبقى كمنبع اشعاع حضاري ونهضوي وتحرري للامة الاسلامية في ليلها الحضاري الذي تمرّبه حالياً. اننا حين ندعو لهذا العمل الضخم نُلمّح بذلك علناً نُسمع من طرح اصحاب المشاريع الذاتية الصغيرة والنظرة الانعزالية الضيقة داخل هذا القطر او ذاك في عالمنا الاسلامي، فيغيروا من نظرتهم هذه ويعتبروا هذا المفكر المبدع وما انتجه من فكر وثقافة وفلسفة ومنهجية جديدة في التفكير والتنظير ملكاً للجميع وخاصة السائرين على نهجه الكريم في التضحية والعطاء والاخلاص والايمان القوي بعدالة القضية الاسلامية في كل مكان من العالم.

واذا كتب لاية محاولة لاعادة التأسيس الانطلاق في العمل الجاد في المستقبل القريب على ضوء ما استجد على الساحة العالمية والاسلامية من احداث، فليكن من خلال المنظور العالمي وليس عبر المنظور القطري أو الاقليمي الضيق، وذلك ليكون في مستوى طموح مؤسس هذه المدرسة الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه.

والله ندعو ان يوفق الجميع لتحقيق ذلك.

والسلام على أبي جعفر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً ورحمة الله وبركاته.