[lwptoc]
التجديد عند السّيد الشّهيد «قدس سره» بناءٌ يرتكز على أربعة أركان، وتلك الاركان الاربعة هي اللغة والاسلوب والمنهاج والفكر، لذا نجد السّيد الشّهيد «قدس سره» قد انفرد من بين علماء عصره بظاهرة مميزة تتمثل بان التجديد لديه لم ينحصر في بعد معين بل استوعب جميع أبعاده وثبت جميع أركانه فتراه مجدداً في اللغة كما هو مجدد في المنهاج وتراه أيضاً مجدداً في الاسلوب بنفس الدّرجة الّتي جدد بها في الفكر. وقد صنفت هذا البحث إلى أربعة فصول كل فصل يختص بركن من أركان التجديد المذكورة أعلاه ليكتشف القارئ ان السّيد الشّهيد «أعلى الله مقامه» يستحق بجدارة لقب المجدد الاكبر في هذا العصر.
التجديد في اللغة
لاشك إنَّ أهمية التجديد في اللغة تكمن في كون اللغة هي المرآة الّتي يطل بواسطتها العقل على أسرار المعنى ولذا نجد أن الله سبحانه وتعالى تفضّلَ بهذه الموهبة العظيمة على
أنبيائه عليهم السّلام فكانوا يكلمون النَّاس على قدر عقولهم حيث رويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «نحن معاشر الأنبياء كلفنا أن نكلمَّ النَّاس على قدر عقولهم» والّذي يطالع كتب السّيد الشّهيد «قدس سره» سيجد انه قد حاز على هذه الموهبة الفريدة متمثلة بمخاطبته لكل طبقة من القراء بلغة تتناسب مع مستوياتهم ولذا تراه جعل للّغة مستويات متفاوتة، وما أن تلقي بنظرة متفحصة على مستويات اللغة الّتي كتب بها «قد سره» حتّى نجد ان للسيد الشّهيد «قدس سره» أربعة أنواع من اللغات من حيث الترتيب الطّولي اذكرها لك على التوالي
1 – اللغة الحديثة المبسطة:
وهي اللغة الّتي يعرض بها المعنى متجسدة بصور واقعية وتطبيقات نابعة من حياتنا المعاصرة فهي لغة تستمد ينابيعها من العرف المتطور متميزةً بعرض بسيط وصفه السّيد الشّهيد «قدس سره» بأنه يبدأ من الصّفر متجاوزاً التعمق في الطّرح وهذا ما نجده جلياً في رسالته العملية المسماة بالفتاوي الواضحة فقال رحمه الله واصفاً رسالته العملية «وتلتزم بلغة مبسطة حديثة وتبدأ في العرض من الصّفر وتحاول أن تعرض الاحكام من خلال صورة حيّة وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة وتتجه إلى بيان الحكم الشّرعي لما يستجد من وقائع»((الفتاوي الواضحة ص 97.)).
2 – لغة المثقفين:
وهي لغة تخلو من الاثارات المعقدة والتوغل في أعماق الدّليل مكتفية بتوازن في الطّرح وتعمق نسبي موجز ومنهج علمي في الاستدلال، حيث قال «قد سره» في مقدمة بحثه حول أصول الدِّين: «وكنت في نفس الوقت احفظ للقارئ الاكثر تعمقاً حقّه في الاستيعاب فأوجز بعض النقاط المعمقة… وفي نفس الوقت مكنّا القارئ الاقل درجة أن يجد في أجزاء هذه المقدمة زاداً فكرياً مفهوماً واستدلالا مقنعاً»((الفتاوي الواضحة ص 8.))، وأمّا تسميتها بلغة المثقفين فهو نابع من تصنيف السّيد الشّهيد «قدس سره» حيث قال «غير اني
حاولت أن أكون واضحاً فيما أكتب على مستوى المثقف الاعتيادي»((المصدر السّابق نفسه.)).
3 – اللغة الدّراسية:
وهي اللغة الّتي تعتمد على التوضيح محافظة في نفس الوقت على المضمون معتمدة في طريقة عرضها على الطّريقة المنهجية الحديثة المتبعة في المناهج الدّراسية مطعمةً بالمصطلحات ولغة الرّياضة مما يوسع آفاق ذهن الطّالب وينمي قدرته العقلية، وقد كتب رحمه الله بهذه اللغة الحلقات الثلاث في علم الأصول وبحوثه الفقهية في شرح العروة الوثقى فقال «قدس سره» في مقدمته «إنَّ الكتاب يمثل ممارسةً تدريسية قد خضعت لنفس الاعراف المتبعة في مجال التدريس السّائد من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشّرح والتوضيح واتجهت إلى تعميق المحتوى والمضمون»((بحوث في شرح العروة الوثقى، ص 5 و 6.)) كما ذكر في مقدمته للحلقات الثلاث في علم الأصول حيث قال: «وأمّا في الحلقتين الثانية والثالثة فقد حرصنا أن تكون العبارة سليمة ووافية بالمعنى ولكن لم نحاول جعلها حديثة»((دروس في علم الأصول، الحلقة الأوّلى، ص 24.)) وبقوله لم نحاول جعلها حديثة تمييزاً للغة الدّراسية عن اللغة المبسطة الحديثة الّتي ذكرناها سلفا ولكن هذا لا يعني ان اللغة الدّراسية لم تعتمد في المنهج مناهج الكتب الدّراسية الحديثة لذا تراه «قدس سره» يؤكد هذا المعنى وذلك بقوله «وبهذا تختلف الحلقات الثلاث عن الكتب الدّراسية الاصولية القائمة فعلا وتتفق مع مناهج الكتب الدّراسية الحديثة»((المصدر السّابق نفسه.)).
4 – لغة التأليف:
وهي اللغة الّتي لم تكتب لغرض التدريس بل لغرض أن يعبر المؤلف عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من نظريات وأفكار وتحقيقات وهذا ما أكدها في مقدمة بحوثه في شرح العروة الوثقى حيث قال: إنَّ عبارة الكتاب لم تعد لغرض التدريس لذا فان هذه اللغة تتميز باختزال الالفاظ مع التوغل في أعماق المعنى فتجدها متميزةً بعبارات مضغوطة ومعان مركبة وغير بسيطة مع تعمق بدرجة كبيرة في الاستدلال وهذا ما تجده
في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء لذا تراه يذكر ذلك في مقدمته لبحثه الموجز في أصول الدِّين حيث يقول: «وكنت في نفس الوقت أحفظ للقارئ الأكثر تعمقاً حقّه في الاستيعاب فأوجز بعض النقاط المعمقة واحيله بعد ذلك في التوسع على كتبنا الأخرى كالاسس المنطقية للاستقراء»((الفتاوي الواضحة، ص 8.)) وبمراجعة مقدمة كتابه «بحوث في شرح العروة الوثقى» نستنتج إنَّ لغة التأليف عنده تتميز بالاختزال والتركيز في اللفظ وسبك ألفاظها بتراكيب لفظية مضغوطة مستوعبة أقصى ما يمكن من المعنى بأقل كم لفظي.
التجديد في الاسلوب
ذكر القرآن الكريم للاسلوب ثلاثة أنواع حيث قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن) فالحكمة تعبر عن الاسلوب العلمي، والموعظة الحسنة أفضل إسلوب يعبر عنها هو الاسلوب الأدبي والجدال لا تتأتى ثماره غالباً إلاّ باعتماد الاسلوب الخطابي ولعل علماء البلاغة أخذوا هذا التقسيم من القرآن الكريم.
قد يبدو ولأوّل وهلة ان الاسلوب والمنهاج لفظان لمعنىً واحد ولكن بالتحقيق نجد إنَّ الاسلوب يختلف عن المنهاج لغةً واصطلاحاً، فالاسلوب لغةً هو الطّريقة بينما المنهاج معناه اللغوي هو الطّريق البين وبعبارة أوضح المنهاج لغةً هو الطريقة الواضحة لذا فان المنهاج اخص من الاسلوب لغة وقد خصّ القرآن الكريم المنهاج بالذكر فجعل لكل نبي شرعة ومنهاجا فقال تعالى (لكل جعلنا شرعةً ومنهاجا)، وأمّا الإسلوب إصطلاحاً فنستطيع تعريفه، بأنه الطّريقة الّتي تعرض بها الأفكار والمقاصد ولذا نجد إنّ الاسلوب ينقسم إلى ثلاثة أنواع: الاسلوب الخطابي والاسلوب الادبي والاسلوب العلمي، وأمّا المنهاج اصطلاحاً فمن الممكن أن نعرّفه بأنه طريقة الاستدلال الّتي ترتكز على الاسس الّتي يقوم عليها الاستدلال وعلى الصّيغة الفنية الّتي تحدد طبيعة إخراجه لما يناسب الموضوع كاعتماد صيغة التمهيد والتدرج في الاستدلال وسواءٌ كان فلسفياً أو علمياً أو رياضياً أو اعتماد الاستقراء كأساس يبني عليه الاستدلال كما هو الحال في المنهاج العلمي
القائم على حساب الاحتمالات الّذي يتخذ من الاستقراء أساساً في طريقته الاستدلالية وبعد هذه المقدمة الّتي ميزنا فيها بين الاسلوب والمنهاج نعود لنبين التجديد في الاسلوب عند السّيد الشّهيد «قدس سره» فنقول أن التجديد في الاسلوب يتميز عنده بالنقاط التالية:
1 – الشّمولية، فهو يكتب بإسلوب يخاطب به العقل الإنساني بجميع طبقاته فتجد المؤمن وغير المؤمن يتزود من زاد أفكاره لأنه لا يعتمد في طريقة عرض أفكاره على نوع واحد من الأدلة بل ترى سيل أفكاره تتفجر فيه ألوان مختلفة من الاستدلالات كالأدلة العلمية والعقلية والمنطقية والفلسفية إضافة إلى الأدلة النقلية الّتي مصدرها الكتاب والسّنة ومثال ذلك كتاب «بحثٌ حول المهدي» فتراه عندما يتطرق إلى مسألة طول عمر الإمام (عليه أفضل الصّلاة والسّلام) لم يكتف بالاستدلال على ذلك من الكتاب العزيز والسّنة الشّريفة بل يستدل على ذلك بأدلة منطقية وعلمية وعقلية فيستجيب له حتّى من لم يؤمن بعقيدة إلـهية ويجعل من مسألة طول العمر أمر ممكن منطقياً وعقلياً وعلمياً بل يثبت بدليله الاستقرائي لتاريخ الإنسانية أنَّ قضية المهدي عليه السّلام وبناء دولة العدل إنما هي استجابة نابعة من نداء الفطرة الإنسانية لا تختص بدين معيّن فيقول «ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها وصياغةً لإلهام فطري»((بحث حول المهدي، ص 7.)).
ونجد كذلك الشّمولية في الاسلوب (أي في عرض الأفكار) جليةً في رسالته العملية والمسماة «الفتاوى الواضحة» فلم يكتف بجعلها رسالة حاوية على جميع المسائل الفقهية بل ضمنها مقدمة موجزة في أصول الدِّين أثبت فيها وجود الله سبحانه وتعالى ونبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بمنهاج علمي قائم على الاستقراء وبتطبيق نظرية الاحتمالات ففتح باباً حتّى لغير المؤمن الموحد للاستفادة من العلمية في رسالته العملية فلم تكن أفكاراً مرتبة ومبوبة بصورة خاصة للمقلدين، ولم يكتفِ بتلك المقدمة بل أدرج بحثاً في نهاية رسالته العملية أعطى للعبادة بعداً شمولياً ومعمقاً، فلم يكتفِ بالتعامل مع العبادات بأنها مجموعة أفعال وتروك يشترط فيها النية كما تعرف عادةً في الرّسائل العملية بل أثبت ان العبادة حاجة إنسانية ثابتة يتفجر من فيضها الشّعور
بالمسؤولية والقصد في الموضوعية وتجاوز الذّات، لذا نجد ان السّيد الشّهيد «قدس سره» في اسلوبه لعرض أي فكر معيّن يحاول يستوعب جميع أبعاده الّتي تتعلق بحياة الإنسان في هذه الأرض وهذا تفسير للشمولية ببعدها الافقي والشّمولية الّتي ذكرتها سابقاً في الاسلوب تختلف بمخاطبة العقل الإنساني بجميع طبقاته نستطيع أن نسميها الشّمولية ببعدها العمودي فالشمولية في الاسلوب تمثلت عند الشّهيد «قدس سره» ببعديها الافقي والعمودي.
2 – تراه «قدس سره» يناقش كل علم بأدواته مستوحياً أمثلته من وقائع الحياة العصرية فكم من أديب طوقته موهبته الأدبية فأخفى نور الحقيقة العلمية بألفاظ مجنحة مما يجعل لون تلك الحقيقة باهتاً بفعل هالة إشعاع التصوير الأدبي المكثف في موقف يستلزم عليه استخدام أدوات البحث العلمي ومناهجه لابراز الحقيقة، بينما ترى السّيد الشّهيد «قدس سره» يكيف الاسلوب ويطوعه وفقاً لما تقتضيه طبيعة الموضوع، وقد تجلّى ذلك بوضوح في مناقشته لقضية فدك فتجده يصف باسلوب أدبي رقيق ذكريات الزّهراء عليها السّلام مع أبيها «صلى الله عليه وآله وسلّم» فيقول: «ارتفعت الزّهراء بأجنحة من خيالها المطهر إلى آفاق حياتها الماضية ودنيا أبيها العظيم متألقةً بالنور تمد الزّهراء في كل حين بألوان من الشّعور والعاطفة والتوجيه وتشيع في نفسها ضروباً من البهجة والنعيم فهي وإنْ كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزّمن أياماً أو شهورا ولكنها لم تنفصل عنه في حساب الرّوح والذّكرى لحظة واحدة»، وبعد هذا الوصف الادبي الرّقيق والتصوير الفني الجذاب تراه يتخلى عن كل ذلك عندما يصل إلى موقف الخليفة الأول من الزّهراء عليها السّلام الّذي يتجلى بناحيتين الأولى تتمثل بموقفه من ميراثها عليها السّلام والناحية الثانية تتمثل بموقفه من ادعاء الصّديقة على كون فدك غلةٌ من أبيها رسول الله صلى لله عليه وآله فيتبع إسلوباً علمياً تحليلياً صرف لابراز الحقيقة في موقف يصعب فيه السّيطرة على العواطف الجياشة والّتي لا تجد سبيلا لها وإسلوباً يفجر ينابيعها ويوقد لهيبها إلاّ الاسلوب الأدبي ولكنَّ الخبير يعلم ان ذلك يؤدي إلى أن تجرف العاطفة بسيلها قارب الحقّ وتطفئ بنارها نور الحقيقة فترى السّيد الشّهيد «قدس سره» يترفع عن ذلك ويقول: «إذا أردنا أن نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدّراسات الدّقيقة فلابدّ أنْ نأخذ أنفسنا بمناهج البحث العلمي… وهكذا تراه «قدس سره» يطوّع
الاسلوب والكلمة وفقاً لما يتناغم مع طبيعة الموضوع ومتطلبات الموقف معتمداً على إسلوب علمي يرتكز على المناهج العلمية الحديثة في البحث.
وتلمس التجديد في إسلوبه وتطويعه وتكييفه لطريقة عرض أفكاره وفتاواه أيضاً في رسالته العملية حيث يعتمد إسلوباً مبسطاً عصرياً في كتابته مكسراً فيه طوقاً قديماً متمثلا بمصطلحات فقهية وأصولية اعتادت صفحات الرّسائل العملية على احتضانها بين سطورها إضافة إلى ادراجه أمثلة عصرية حيّة نابعة من واقع حياتنا المعاصرة هاجراً أمثلةً قديمة مازالت الرّسائل العملية تعتمدها كمثال توضيحي كمثال المكاري وغيره.
ومن ثمرات التجديد في الاسلوب بتكييفه باتجاه القواعد الّتي يرسى عليها موضوع العلم انه أنقذ علم الأصول من بحوث الجامد والمشتق والّتي تخرجه عن دوره المتمثل بكونه علماً آلياً لا يقصد بذاته وفي مقابل ذلك اتبع إسلوب ذكر الثمرات العملية لبحوث قد تبدو لأول وهلة إنها لا تدخل في صلب موضوع علم الأصول كقاعدة استحالة التكليف بغير المقدور وغيرها.
3 – من ملامح التجديد في الاسلوب هي استخدامه «قد سره» الاسلوب الأدبي لتذويب بعض النظريات الفلسفية الّتي لا تخلو من إبهام في الألفاظ وتعقيد في المعنى ووعورة في الاستدلال فكم من فيلسوف كبلت موهبته الفلسفية آفاق فكره فتجده بوعورة إسلوبه يفقد الاستدلال بريق بساطته ووضوحه بينما ترى السيد الشهيد (قدس سره) يذوب تلك النظريات بأمثلة محسوسة فيلبس المعقول الفلسفي لباساً حسياً يدرك القارئ بواسطته أسرار تلك النظرية فتتضح معالمها في ذهنه بصورة جلية ومثال ذلك في شرحه لنظرية الامكان الوجودي للفيلسوف الإسلامي الشّهير (صدر الدّين الشّيرازي) الّذي حلل فيها مبدأ العلية، فقد صهر السّيد الشّهيد «قدس سره» تحليل مبدأ العلية في أمثلة محسوسة وضّح فيها نوعاً من الارتباط يختلف عن الارتباط القائم بين العلة والمعلول فضرب مثلا في ارتباط الرّسام باللوحة الّتي يرسم عليها ومثالا ثان بارتباط القلم بالكاتب ومثالا ثالثاً بارتباط المطالع بالكتاب الّذي يقرأه وكل هذه الأمثلة إنما تعبر عن ارتباط بين شيئين يأتي الارتباط برتبة متأخرة عن وجودهما ممّا جعل حداً فاصلا بين حقيقة الشّيئين المترابطين وبين الترابط نفسه وبهذا التصوير والتمثيل الّذي قدمه السّيد الشّهيد «قدس سره» أصبح الترابط القائم بين العلة والمعلول يمثل حالة
استثنائية ونوع خاص من الترابط لأن وجود المعلول لا يمكن أن يتقدم على الترابط القائم بين العلة والمعلول بل وجوده متعلق بذلك الترابط فلا يكون المعلول له وجود مستقل عن الارتباط كوجود اللوحة والرّسام ومن هذا المثال يفهم إنّ المعلول وجوده وجودٌ تعلقي وليس استقلالي فتتجلى حقيقة المعلول بكونها ارتباط بالعلة وتعلق بها فلا يوجد للمعلول حقيقة ووجود خارج عن الارتباط والتعلق، ومن تلك الأمثلة المحسوسة وهذا التحليل بيَّنَ السّيد الشّهيد إنّ كلّ حقيقة خارجية لم تكن ارتباطية تعلقية فهي تخضع لمبدأ العلية كما هو الحال في ارتباط اللوحة بالرسام وارتباط الكتاب بالقارئ ولذا فان الحقائق الخارجية الّتي تحتاج إلى علة في وجودها نوع خاص فقط وهي الّتي تكون حقيقتها عين التعلق والارتباط وبهذا نسقط مقولة الماركسية بان كلّ موجود لابدّ له من علّة، والصّحيح هو ان كلَّ معلول لابدَّ لهُ من علة.
التجديد في المنهاج
يتميز التجديد في منهاج السّيد الشّهيد «قدس سره» بما يلي:
1 – التمهيد والتدرج والترقي فالتمهيد تراه منهجاً معتمداً في مؤلفاته فقد ذكر في مقدمة كتاب فلسفتنا ما يلي «وهدفنا الأساسي من هذا البحث هو تحديد منهج الكتاب في المسألة الثانية…. ولهذا كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثاً تمهيدياً للمسألة الثانية»، وحينما أراد مناقشة نظرية المادية التأريخية جعل التمهيد((اقتصادنا، ص 37.)) النقطة الأولى في منهج بحثه، وقد ذكرنا كتابي فلسفتنا واقتصادنا على سبيل المثال لا الحصر.
وأمّا التدرج في المنهج فهو على ثلاثة((الأصول الحلقة الأولى، ص 10، ص 12.)) أنواع هي:
أ – التدرج في الكم: وهو عبارة عن التفاوت في مقدار الأفكار المعطاة.
ب – التدرج في الكيف: هو عبارة عن التفاوت أو الاختلاف في درجات عمق الفكرة المطروحة.
ج – التدرج في العرض: هو عبارة عن ملاحظة في درجات عرض الفكرة كالانتقال
من البسيط إلى المعقد الّذي يقتضي التدرج في العرض لا الانتقال المفاجئ.
والأنواع الثلاثة من التدرج تجدها واضحة،في دروسه في علم الأصول، بل في أغلب كتبه، وهنالك نوعٌ رابع للتدرج ذكره السّيد الشّهيد «قدس سره» في بحث موجز أصول الدِّين نستطيع أنْ نسميه بالتدرج في الاستدلال، حيث قال «غير ان الاستدلال له درجات أيضاً» ولذا تجد لديه نوعين من الاستدلال العلمي القائم على الاستقراء وغيره.
وأمّا اعتماده الترقي في طريقة الاستدلال فخيرُ مثال له مناقشته لطول عمر الإمام المهدي عليه السّلام ارتقى بعد ذلك في الاستدلال ليثبت أنَّ طول العمر هو ضرورة لمهمة كبرى كمهمة الإمام عليه السّلام وان كان علمه عليه السّلام علماً لدنياً، والعلم اللدني قطعاً أفضل بكثير من العلم الّذي يُنال بطريق الحواس، فمع كون العلم اللدني أفضل ولكن نستطيع القول: أنَّ الجمع بين العلمين أكمل ولذا نجده يقول «هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطّويل لقائدها((قائدها: أي قائد لعملية التغيير الكبرى في اليوم الموعود.)) عاملا من عوامل انجاحها وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر، فنجيب على ذلك بالايجاب» ومن هنا تراه «قدس سره» يرى العمر الطّويل يمثل بعداً من أبعاد التكامل ما بعد العصمة المتمثل بقوله تعالى (وفضلنا بعض النبييّن على بعض).
2 – من الميزات الفريدة في منهجه التجديدي هو استخدام العلوم العصرية كأدوات يثبت بها حقيقة فلسفية تارة وغيبية تارة أخرى، ومثال ذلك ما استدل به من النظريات الفيزيائية الّتي أثبتت أنّ المادة بعناصرها ومركباتها وبصفتها المادية إنما هي متغيرة لذا فان العرضي والمتغير لا يمكن أن يكون العلة الفاعلية العليا لهذا العالم، وأمّا التغيير في العناصر فخير مثال ذكره «قدس سره» هو عنصر اليورانيوم فيقول «قدس سره» «كما ان عنصر اليورانيوم بعد أن شع ألفا وبيتا وجاما يتحول تدريجياً إلى عنصر آخر وهو عنصر الرّاديوم، والرّاديوم أخف في وزنه الذّري من اليورانيوم».
وأمّا التغيير في المركبات فيضرب مثال لذلك الماء فيقول: «فالماء بما يملك من خاصة السّيلان ليس شيئاً ذاتياً للمادة الّتي يتكون منها وإنما هو صفة عرضية وذلك بدليل انه مركب من عنصرين بسيطين وفي الامكان فرز هذين العنصرين عن الآخر فيرجعان
إلى حالتهما الغازية وتزول صفة الماء تماماً»، وأمّا بالنسبة إلى صفة مادية المادة فقد أثبت «قدس سره» إنها متغيرة وعرضية مستدلا بما وصل إليه العلماء من إمكانية تحويل المادة إلى طاقة، وبالتدقيق مما ذكر أعلاه من حقائق علمية نستدل على كون المادة صفة عرضية «فلا يمكن أن تكون سبباً ذاتياً لاكتساب تلك الخصائص والصّفات» لذا لا يمكن ان تكون السّبب الأعلى أي العلة الفاعلية لهذا العالم.
وأمّا استخدامه العلوم العصرية في إثبات حقيقة غيبية فخير دليل لذلك هو استخدامه المنهج العلمي القائم على الاستقراء والّذي طبق فيه نظرية الاحتمالات في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ونبوّة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلّم وبحث موجز في أصول الدِّين.
ومن المعلوم ان نظرية الاحتمالات تعتبر من النظريات الحديثة في علم الرّياضيات.
3 – من ميزات منهجه «أعلى الله مقامه» هو تفكيك بعض النظريات وازالة بعض الشّوائب العالقة في عبارتها والّتي تثير التعقيد في طريق فهمها ونجد هذا واضحاً في مناقشته للنظريات الفلسفية والإقتصادية في كتابي فلسفتنا واقتصادنا بل يبتكر بعض الأسئلة حول نصوص تلك النظريات ثم يجيب عليها ليثبت بأنَّ السّؤال كالجواب هو علم وفن تبيّن فيه المفاهيم الّتي يصعب هضمها عند القارئ وخير مثال على ذلك هو مناقشته للنظرية الماركسية في موضوع الذّوق الفني والماركسية((اقتصادنا، ص 143.)).
4 – يتميز منهجه التجديدي أيضاً بأنه لا يعيد صياغة بعض آراء أو أفكار بعض العلماء والفلاسفة فحسب بل يضيف إليها بعض الحلقات المفقودة ممّا يجعل سلسلة تلك الأفكار مترابطة فيشعر القارئ بتدفق هادئ لتلك الأفكار فتلامس صفحات فكره برفق وتصل إلى أعماق لبه بأقرب الطّرق وهذا ما تجده واضحاً في شرحه لمباني بعض المحققين الأصولية كمبنى المحقق العراقي في تفسير العلم الاجمالي، بل تراه في بعض الأحيان يستل دليلا عرضياً ليبعث به روحاً جديدة فيرتقي به إلى مستوى النظرية فتراه يأخذ استدلالا لصاحب الكفاية «قدس سره» ذكره في موضوع الواجب التخييري فيهذبه ثم يرتقي به ليجعله أحد المباني الثلاثة الّتي ذكرها في تفسير العلم الاجمالي علماً ان صاحب الكفاية «رحمه الله» لم يشر من قريب أو من بعيد لذلك الاستدلال في
موضوع العلم الاجمالي.
5 – له منهج نقدي وإسلوب تجديدي لا يقف عن حدود الموضوعية والامانة العلمية بل يتعداها ليعد منهجاً روحياً وأخلاقياً وواقعياً بنَّاء، أقول روحياً لأنك لا ترى الأنا وعامل الذّات يتخفى بين سطوره ولا تجدُ لدُخان النفس الثائرة أثراً يلون عبير فكره لذا يجب علينا أن ندرك من خلال منهجه «قدس سره» في النقد ان للنقد بعداً روحياً تقلم به أظافر الأنا فلا يغتر الناقد بموهبته فتفوح ريح الغرور بين سطوره المتمثل بقوله تعالى (قال إنما أوتيته على علم عندي) فيستل قلمه من غمده ليُدمي به أفكار الآخرين ويعمق جروح أخطائهم، بينما تراه «قدس سره» يناقش الخصم بألفاظ عذبة وروح كبيرة وهذا ما تجده في مناقشته للعقاد في مسألة فدك فيقول «قدس سره» «وقد جئته بشوق بالغ لأرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزّهراء» ولكن هذا الشّوق البالغ لقراءة ما يكتب العقاد قد انطفأت جذوته بعدما حاول العقاد أن يسدل السّتار على حقّ الزّهراء عليها السّلام بعبارة أدبية جميلة المطلع ولكنَّها مرة المذاق فتجرع السّيد الشّهيد «قدس سره» مرارة طعمها ولم يتفوه بأي كلمة توبيخ للعقاد فقال: «ان للكاتب الحرية في أن يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أنْ يرسم للقارئ مدارك ذلك الرّأي»((المجموعة الكاملة لمؤلفات السّيد الشّهيد، المجلد 11، ص 42.)).
والنقد عنده «قدس سره» مسؤولية أخلاقية فتراه لا يشهر بأخطاء الآخرين بل يجملها بقدر الامكان فيجعل النقد حركة إصلاحية لترميم وإعادة بناء الأفكار فلا يصف ما يكتشفه من هفوات علمية بأنها نابعة من قلة التدبر أو يقول لا يقول بذلك الرّأي إلاّ من سفه عقله وغيرهما من عبارات التوبيخ الّتي قد تصدر من بعض الأعاظم من العلماء، فترى في منهجه الأخلاقي هذا يجسد المعنى الّذي رسمه السّيد الخميني «أعلى الله مقامه» للخطأ والتخطئة فوصفها بأنها موهبة إلـهية تعمق وعي الإنسان فيجعل من النقد حركة تنموية بتعميقه للوعي الإنساني فيضيف بعداً آخر لقيم الإنسان الحضارية ومن المعلوم ان التنمية هي حركة تربط بين التطور المادي وقيمة الإنسان، وأمّا واقعية منهجه النقدي فتراها متمثلة بطريقة نقضه لأفكار ونظريات الآخرين فما ان يبدأ بمرحلة النقض يبدأ بهدم اللبنات الرّخوة في البناء الفكري للخصم والّتي لا تصلح أن تكون أساساً صلباً
تتكأ عليه أركان بناء تلك النظرية فتراه لا يبدأ بالنقض إلاّ بعد ما يطرح للبحث جميع الاحتمالات الّتي من الممكن ان تفسر بهما تلك النظرية أو ذلك الحدث التاريخي ومثال ذلك مناقشته لمباني كبار المحققين الأصولية وآراء الفلاسفة والمفكرين الماركسيين في نظرياتهم الفلسفية والإقتصادية وما كتبه من بحوث حول الولاية وقضية فدك.
وأمّا كون منهجه في النقد بناء فذلك لما تميز به من طرح البديل للنظرية الّتي ينهار صرحها وتنطوي فهو يطرح الانتزاع كبديل للبناء الفلسفي الوضعي المنهار وهكذا دأبه في جميع مؤلفاته وفي جميع العلوم الّتي تدفق فيضها في صفحات كتبه فتجده في علم الاصول عندما ينهال على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالدليل تلو الدّليل لاثبات بطلانها فهو يطرح مسلكاً بديلا لتلك النظرية يسميه مسلك حقّ الطّاعة.
وهكذا نجده في علم الفقه فعندما يهجر الاسلوب والمنهج القديم في كتابة الرّسائل العملية يطل علينا بلغة جديدة وإسلوب جديد في العرض ومنهج علمي في التبويب فيقسم الرّسالة العملية إلى أربعة أقسام وهي العبادات والأموال العامة والخاصة والسّلوك الخاص والسّلوك العام، ولعل أبرز معالم التجديد في إسلوبه ومنهجه هو طرحه الاسلوب الموضوعي في التعامل مع القرآن الكريم واكتشافه للمنهج التوحيدي الّذي يفجر به المركب النظري من خلال توحيد مداليل الآيات وكان حقاً علينا أن نسمي ذلك الاسلوب الموضوعي والمنهج التوحيدي بعلم الاستنطاق وليس علم التفسير، وأمّا تجديده في الفكر فقد تمثل بمؤلفاته القيمة، فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء ومدرسته الأصولية العملاقة فكل ما فيها يكاد أن يكون فكراً جديداً وسنتطرق إلى ذلك بالتفصيل في بحث آخر إنْ شاء الله تعالى، أمَّا في هذا البحث فسنكتفي منه بفتوحاته التجديدية في تفسير القرآن الكريم ومن المعلوم إنَّ الله تعالى قد شرّف هذه الأمّة ومَنَّ عليها بحفظ القرآن الكريم من أيَّ تحريف في نصوصه ولكن معانيه ومضامينه العالية بقيت أسيرة تئن من القيود الّتي أثقلت بها بفعل أقلام أغلب المفسرين والعللُ الّتي أدت إلى ذلك كثيرة منها: طرقُ تفسيرِ الكتابِ العزيزِ حيث ساد منهجان في التفسير هما التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي فأخذت أهواءُ المفسرين والأحاديثُ الموضوعةُ طريقَها إلى كتبِ المفسرين وبدأ كل مفسر يلوي عنقَ الآيةِ لتوافق هذه الرّوايةَ أو تلك لأَنها توافقُ مذهَبَه تارةً أو لأنها تنسجم مع رأيهِ تارةً أخرى فأَصبح التفسيرُ أشبهُ
بتطبيق تطبيقُ مضامين الآيةِ الكريمةِ ولو قهراً على ما ورَدَ في متنِ الرّواية أو على الرّأي الّذي يستحسنُه المفسرُ، ومثالُ ذلك ما ورد في تفسير عبسَ وتولى فذكروا إنها وردت في النبي «صلى الله عليه وآله وسلّم» وهو أمرٌ يرفضهُ القرآنُ نَفسُهُ بل ويرفضُهُ كلُّ عقل وذوق سليم. وأمام هذا المرض الخطير الّذي تَرَكَ بصماتِهِ واضحةً على حياةِ الأمةِ يقفُ مِنْ يقف ويتحركُ من يتحرك.
فيتحرك السّيد الشّهيد «قدس سره» فيفجر لنا علماً جديداً ومنهجاً فريداً في التفسير أطلق عليه اسم التفسير الموضوعي والتوحيدي وأطلق على المنهج القديم في التفسير المتمثل بالتفسير بالمأثور والتفسير بالرأي اسم التفسير التجزيئي وعلَّلَ ذلك لسببين الأول: تفسيرهم القرآن الكريم بصورة مجزأة آيةً فآية والسّبب الثاني هو طريقتُهم بالتفسير ففي البدءِ يستمعون أو ينظرون إلى النص القرآني فيبدأون بالقرآن ويبقون يطوفونَ في دائرة مغلقة تُحدد أبعادُها بالاكتفاء بمعنى الآية قاطعين حبالَ الوصلِ بينها وبين الآيات القرآنية الأُخرى حيث يستعينون فقط بالآيات أو الرّوايات على كشف المدلول اللفظي للآية المراد تفسيرها فيبقى هدفُ المفسر «هدفاً تجزيئياً» فيتناثر العقدُ الفريدُ للمعنى والمضمون القرآني للآيات هنا وهناك فيصبح أشبه بالتراكم العددي الّذي يفتقرُ إلى الترابط العضوي حيث أدت هذه الحالة إلى التناقضات المذهبية في الإسلام.
وأمّا التفسير الموضوعي أو التوحيدي فهو يختلف في إسلوبه ومنهجه وهدفه عن التفسير التجزيئي فإسلوبه في الدّراسة القرآنية هو أنْ يبتدأ الموضوع أولا ثم يَعرِضُه على القرآن الكريم ومنهجه التوحيدي يتمثل بالتوحيد بين مداليل الآيات ليخرج بنظرية قرآنية يعالجُ فيها الموضوع المطروح فيكون هدفُه تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وذلك بوصوله إلى مركب نظري قرآني نسميه بلغة عصرنا الحاضر بالنظرية، وأمّا سببُ التسمية بالموضوعي فلأنَّهُ يبدأُ بالموضوع أولا ثم يُقبِلُ بعدَ ذلك على القرآن الكريم، والسّببُ الآخر هو كونُهُ ينتقي أو يختارُ مجموعةً من الآياتِ الّتي تشتركُ في موضوع واحد، وأمّا سَبُبُ تسميتِهِ بالتوحيدي فلأنَّه يُوحدُ بينَ التجربة البشرية والقرآن الكريم لا بمعنى إنَّه يلوي عنقَ الآيات القرآنيةِ لتواكبَ التجربةَ البشرية بل إنَّه يوحدُ بينهُما في سياق بحثهِ ليُطلَّ علينا بنتيجةِ هذا السّياقِ الموحد في بحثهِ، وهناك سببٌ آخرُ لتسميته
بالتوحيدي وهو إنَّه يوحد بين مدلولاتِ الآياتِ القرآنية ضمنَ مركب عضوي نظري موحد. وبالتدقيق فيما أورَدَهُ السّيد الشّهيد «قدس سره» حولَ التفسير الموضوعي والتوحيدي يمكنُنا القول أنَّ السّيد الشّهيد «قدس سره» قد فجر علماً جديداً يمكننا أن نُسميه علمَ الاستنطاق للأسباب التالية:
1 – علمُ التفسير بناءً على أَفَضَلِ التعريفات هو «بيانُ المعاني القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها» بينما نظرية السّيد الشّهيد «قدس سره» لا تبين المعنى القرآني فحسب وانما تبين رأيَّ القرآن بل ويترقى السّيد الشّهيد «قدس سره» ليُصرحَ بأنَّ اتجاههُ في التفسير يفجر لنا مركباً نظرياً ضخماً يمسُ واقعَ الحياة البشرية وذلك بتوحيده بين التجربة البشرية والقرآن من جهة والتوحيد بين مداليل الآيات من جهة أخرى فشتان بين المعنى وبين الرّأي والنظرية، فعلمُ التفسير هو بيان معنى الآيات والكشف عن مداليلها بينما علم الاستنطاق هو بيان رأي القرآن واكتشاف نظريات قرآنية لذا نستطيع القول أنَّ ليس كل من فسر القرآن يستطيع استنطاقه لذا خُصَّ أهل ألبيت عليهم السّلام بأنهم هم القرآن الناطق.
فالاستنطاق مهمة شاقة تتطلب ممنْ يتصدى لها أن يكون قد استوعب القرآن كوحدة متكاملة لكي يستطيع أن يوجد بين مداليل آياتهِ كما يتطلب أيضاً أن يستقرئ استقراءً علمياً لكي يوحد بينها وبين القرآن الكريم في سياق البحث.
2 – يمكننا أن نسمي «التفسير الموضوعي والتوحيدي» بعلم الاستنطاق ولأنَّه يصلح أنْ يكون حاكماً وميزاناً توزنُ به التفاسيرُ القرآنية فيتبين في الأفق مَنْ خفت موازينُ تفسيره ممَنْ ثقُلُتْ موازينه فمن أراد تفسير آية حسب رأيه أو حسب رواية تطيب له، فسنعرض مما فسره على القرآن الكريم ونبينَ فسادَ أو وصحةَ ما ذهب إليه باستنطاق الآيات القرآنية الكريمة الأخرى ومثال ذلك: من أراد أن يستدل على كون الامامة شورى بين المسلمين وليست اختياراً واصطفاءً من الله تعالى وذلك بتفسيره الآية القرآنية الكريمة (وامرُهم شورى بينهم) نعرض مقولته هذه على القرآن الكريم ونحيطها بجميع الآيات الّتي وردت في موضوع الامامة ومنها الآية الكريمة (وإذْ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتَمَهُنَّ قال إني جاعِلُك للنَّاسِ إماماً قال ومن ذريتي قالَ لا ينالُ عهدي الظّالمين) فمدلول هذه الآية واضحٌ وصريح أنَّ الامامة هي عهدٌ يختصُ بالله سبحانه وتعالى حيثُ
إنّ الإضافة هنا في كلمة «عهدي» تسمى إضافة اختصاصية ومعنوية وليست لفظية فتكون هذه الآية حاكمةً على آية (وامرُهم شورى بينهم) باعتبار إنَّ الامامة ليست من أمورنا حتّى تكون شورى بيننا وهكذا عندما ننظر إلى آية كريمة أخرى وهي (وما كانَ لمؤمِن ولا لمؤمنة إذا قضى الله أمراً أنْ يكونَ لهم الخيرةُ في أَمرهم) وقد قضى الله سبحانه وتعالى في كتابه إنَّ الامامة هي عهده المختص به.
وممّا ورد أعلاه نستطيع القول أنَّ السّيد الشّهيد «قدس سره» قد مَنَّ علينا بفتوحات علمية تفجرتْ ينابيعها من علم الاستنطاق «الّذي نتج من تفاعل التفسير الموضوعي والتوحيدي لينصهرا في بودقة واحدة تمكننا من أن نسميها بعلم الاستنطاق» كما قلنا فمن أراد أن يستنطق القرآن كما أرادَ السّيد الشّهيد «قدس سره» سيجبر بطريقة علمية وفنية على الالتزام بالامانة والنزاهة وإنْ لم يقصدها لأنَّه إذا ما أراد حرَّفَ الآية القرآنية عن موضعها سيجد نفسه محاصراً بمداليل آيات أخرى فيصطدم بها فيعجزُ عن توحيد مداليلها.
ومن الفتوحات العلمية أيضاً إنَّه بامكاننا أنْ نعتبر علمَّ الاستنطاق حلقة وصل بين علم التفسير وعلم التأويل حيثُ أنَّ المسافة بين التفسير والتأويل تكادُ أنْ لا تُحس.
ومن الفتوحات العلمية أيضاً أَنَّ الاستنطاق ليس توحيد ما في المنهج والاسلوب بل هو توحيدي في مؤداه وفي نتائجه فبنظرته المتكاملة للآيات القرآنية بتوحيده مداليلها وبموضوعيته بجمع الآيات حول الموضوع المطروح بكل ذلك سيزودنا بمعارف توحيدية إلـهية متكاملة تعطينا وتزودنا بمفهوم ناصع وجلّي عن أسماء الله وصفاته وأفعاله، وتجلّي الغبرة عمّا اختلف فيه المسلمون في موضوع الامامة مثلا لأنَّ النبوّة والامامة هي متعلقة ومترشحة من مبدأ توحيد الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
ومن تلك الفتوحات أيضاً إن السّيد الشّهيد «قدس سره» بعلمه هذا قد أنقذنا من الآراء النظرية الصّرفة والمهاترات الفلسفية الّتي لا تمس حياتنا والتجربة البشرية لأننا عندما نبدأ بطرح الموضوع على القرآن الكريم فمن الطّبيعي إننا نختار ما يمس واقعنا وحياتنا اليومية، ومن بعد الفتوحات هنالك اضافات لا يعني أن السّيد الشّهيد «قدس سره» قد غفل عنها ولكن قد يكون ذكرها في كتبه متناثرة تارةً وملمحاً لها تارةً أخرى.
(1) ذكر السّيد الشّهيد «قدس سره» ان هناك علاقتين قرآنيتين، العلاقة الأولى تقول: كلما نمت قدرات الإنسان على الطّبيعة واتسعت سيطرته عليها كلما تحققتْ امكانية اكبر للاستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وأمّا العلاقة الثانية فتقول: كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة ازدهرت علاقة الإنسان مع الطّبيعة.
يمكن أنْ نضيف ان هناك خطاً آخر في العلاقات المذكورة وهو خط علاقة الإنسان مع نفسه لأننا يمكن القول ان هنالك عالمين يتعلقان بالإنسان عالم داخلي يتمثل بعلاقة الإنسان بنفسه وعالم آخر خارجي يتمثل بعلاقة الإنسان مع الطّبيعة من جهة ومع أخيه الإنسان من جهة أخرى فما لم تحدثْ تنمية في العالم الدّاخلي للإنسان «المتمثل بعلاقته مع نفسه» سوف يضطهد الإنسان أخاه الإنسان حتّى ولو فرضنا ان هنالك انتصارات باهرة يحققها الإنسان في علاقته مع الطّبيعة كما هو في عالمنا اليوم فالعدل تحققه متوقف على نماء العالم الدّاخلي للإنسان أيضاً.
(2) ذكر السّيد الشّهيد «قدس سره» ان القرآن الكريم قسم حياة الإنسان على الأرض إلى ثلاثة أدوار:
1 – دورة الحضانة.
2 – دورة الوحدة
3 – دورة التثبيت والاختلاف.
وقد أجَّل هذا البحث إلاّ اننا يمكننا أن نطرح موضوع الاختلاف على القرآن ليزودنا برأيه ونظريته عن الاختلاف لنجد أن القرآن الكريم في كل آية يتعرض فيها إلى الاختلاف يصف الاختلاف في الدِّين بأنَّه حالة سلبية ومرضية علتها هي البغي فمهما حاولنا أنْ نضفي على هذه الظّاهرة ألواناً زاهية وجميلة تبقي هي ظاهرة مرضية وليست صحية ولنا ما حدث في لبنان وأفغانستان عبرة
أمّا الاختلاف في أساليب العمل والحياة وتنوع أدوارها فهي ظاهرة فطرية في حياة الإنسان لذا علينا أنْ نميز بين الاختلاف المرضي والاختلاف الطّبيعي المتمثل تارة بتنوع الادوار أو توزيع الادوار لانها من الممكن أن تعبر عن ظاهرة صحية في حياة العاملين.
(3) تأسياً واقتداءً بروح التجديد الّتي نفث روعها السّيد الشّهيد «قدس سره» في عصرنا الحاضر ومتابعته الجادة للعلوم العصرية ليضعها في خدمة الإسلام إضافة إلى انه قد شيّد بيديه الشّريفتين أساس بناء الحركة الإسلامية ألتمسُ من اخواننا في الحركة الإسلامية إلى أن يدرسوا علماً يكاد أنْ يكون جديداً عليهم وهو علم النفس التنظيمي لأن هذا العلم وظيفته دراسة الإنسان في حالة العمل وعلاقته مع عمله وكيف يمكن تشخيص الأمراض الّتي تنخر في جسد أي عمل كان سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً.
(4) ختاماً أود أن أنبه أن تفسيري السّيدين الطّباطبائي والسّبزواري «قدس سرهما» من النوع التوحيدي وليس التجزيئي وقد تدفق من ينابيع تفسيرهما نظريات وبحوث قيمة ندرك فيها بوضوح إشعاعات التجديد والابداع والنظرة الشّمولية بل ونلمس ان هنالك المصطلح القرآني وإن كان متناثراً بين السّطور ولا ننسى ان الفضل الأوّل في التفسير التوحيدي من حيث توحيد مداليل الآيات وصياغتها على شكل نظرية أيضاً يعود إلى السّيد الطّباطبائي «قدس سره» وذلك بطريقته تفسير القرآن بالقرآن ولكن يبقى السّيد الشّهيد «قدس سره» هو أول من ابتكر معادلة علمية جديدة فاعَلَ بينها بين التفسير الموضوعي والتوحيدي وصهرهما في بودقة واحدة لينتج كما ذكرنا علمٌ جديد يمكن أن نسميه «بعلم الاستنطاق» والّذي تطرقنا إلى بعض ملامحه في هذا البحث.