السيد فاضل النوري
<لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ>[1]
صدق الله العلي العظيم
الإهداء
إليك أيها الشامخ في مقعد الصدق بجلاله الموسوم.
إليك أيها الكلمة الزاهية في الكتاب المرقوم.
إليك يا مشهد العظمة المكرور، وهلّة المجد المستعادة.
يا لَوعة الجرح المسعور، ومجدّد الأثقال لهاتيك الريادة.
يا وشيجة الفروع بالأصول على خطى المصطفى وآل الرسول.
يا فتنة الله في ركب البلاء الواصب المستدام.
يا تلك الوثبة الوِتْر المنسوخة من روعة الماضي حافدة لا ترام ولا تضام.
يا روضة الكبرياء تنسّم منها الكون عبق الخلود.
يا رجع تلك البسمة التي مشت حميّا سحرها في عروق الوجود.
يا أوب تلك النغمة من قيثارة العلى تشنّف سمع الزمان.
يا جلوة السموّ في محفل القداسة في أسمى مكان.
إليك هذه السطور التي تعيد لاهجةً بذكر عزتك القعساء تاريخ الشموخ، وتحكي مترنّمة عن لسان مجدك الفذّ ملاحم الأمجاد.
المقدمة
في مصادرنا عن هداتنا ۔ معاضداً بواقع الحياة من دهر الدهور ۔ أن مقاطع العظمة تجدد بعشاقها، وأن ملاحم الإنسانية تعاد بطالبيها، وأن وقفات الخالدين تتكرر على أيدي الأحفاد المتأسّين، وبذلك يتجدد الدم في عروق المجد، وتتألق محاسنه التي تصوغها المكرمات، وتصونها المحامد، وتمشي بها مع الحياة أنساً وفخاراً لهفات القلوب التي تمحّضت للعشق، ووثبات النفوس التي أنماثت في هوى الحق والحقيقة.
وفي مشهود تاريخنا وبدلائل المحسوس الذي لا ريب فيه أن الرموز الخالدة تورث أبناء الخط خصال الخلود في مشارق المعرفة والتبيين، وفي حماسات الممارسة والتمرين، فإذا بهم بعد أن عركتهم المحن وضرّستهم الآلام وعجمتهم الخطوب قد عادوا نسور الهمم تنقلهم بحولها في آفاق الوفاء والتأسي والالتزام مهما كان في ذلك من دعارة الصروف وعرامة الأوصاب وجيشات الغيّ والجهل والعناد، لكأنما ولدتهم أمهاتهم أفلاذاً من كبد العلياء، ولا غرو فهم سجايا العظماء الغابرين تنبت في صدق المواثيق لترد الوصوب الفذ الشامخ العملاق في عزمات الصادقين.
وفي مسيرتنا ۔ التي شهد لها الدم المقدس المهراق على ثرى الرافدين، وكتب شهادته على جبين الإباء بأروع مشاهد التضحيات ۔ تجدّدت حذو القُذّة بالقذة أو كادت أقباس سطعت في أفق العظمة، وشهب لمعت في سماء الكبرياء، ومآثر باهرة فاح عبيرها يسحر الأرواح التي اعتقب عليها الزمان وهي تهيب بالمجددين، حتى هبّ لها الكماة الشوس من أبناء العقيدة يسطّرون للإجابة ما لم تره عين الخيال النافذ والأماني المحلقة، مما دوّخ الألباب، وحيّر الفطن، وأعاد صدر الإسلام في مناقب الجهاد الفذة حياً للرائين بعدما انطوت الآماد، وتصرّمت الأحقاب وهي تحت دثار القرون تكابد قسوة التضييع والتعتيم.
وقصة الصدر أغرودة فاردة صدح بها عندليب الفخار معيداً إلى الذاكرة ۔ بواقع ملحميّ فريد ۔ الرؤى الحالمة لحماسة الحسين الخالدة أثيرة القلوب العلية، ومهوى النفوس الزكية، حيث يسطع أريج المجانسة الكبرى من رحم الآصرة الكريمة، ويضوع مسك التواشج من روضة المحتد العظيم، وينبثق فجر الانسجام والموائمة من روح الاقتداء الباهر بتصميم آسر على حسن التأسي والمحاكاة على درب التضحيات، مهما كانت الأثمان والتبعات.
وها نحن في هذه الصفحات مع بعض أوجه الشبه بين وقفة الصدر وأصلها: ثورة جدّه مَعين الملاحم وفخرها، مذ أشرقت من صبح العلياء على كفّ إمام الثائرين وسيد الشهداء، وسنرى في وجوه التماثل كيف أن الآيات البينات للواقع والأمارات الهاديات منه تهدي وتشير إلى روح التناظر المحيّر بينهما، بل تدل دلالة مذهلة على سجية المشابهة الفريدة بين كثير من خصائص الثائرَين وسجايا الثورتين.
وأي عجب في أن يشبه الصدر الفذّ أباه في جم من شمائله وشؤونه؟ وهل الأبناء إلا بنات آبائهم؟ وهل محاكاة الأبناء لآبائهم إلا دليل الأصالة وصدق روح الانتساب؟
تشابه العدد وانطباق الأسماء على الألقاب
كان الصدر قدس سره الابن الثاني بعد أخيه إسماعيل مع أختهما آمنة لأبوين يسمّيان حيدر وبتول، لم يسلم لهما من عادية القضاء المحتوم إلا هذه الصفوة.
وكان الحسين عليه السلام هو الابن الثاني بعد أخيه الحسن عليه السلام، وكانت عقيلة أهل البيت زينب ثالثة الاثنين على أصح الأثر في من حيّ لذلك البيت العظيم، وكان لقب الإمام علي عليه السلام (حيدرة)، ولقب فاطمة؟عها؟ (بتول).
إرهاصات الثورة والشهادة
كان الصدر قدس سره يرى في نفسه مبكراً أنه ضحية الإسلام، وقربان الرسالة، وصيحة الرفض، وكان يهيّئ نفسه لهذا الأمر ويخطّط من هذا المنطلق، حتى لأمور قد يراها الآخرون أعمالاً انتحارية، كخطّته المشهورة بأن يقوم بالثورة الكلامية على السلطة في صحن أمير المؤمنين أمام الملأ من الزائرين وغيرهم، ولا يترك الكلام حتى يقتل هناك، ليبقى دمه ثورة في نفوس الناس الحاضرين، ورسالة ثورة إلى الآخرين عن طريق الذين شاهدوها، وقرأوا سطورها الفريدة.
وقد كان جده الحسين عليه السلام يرى في نفسه منذ الصبا وبعلم جده المصطفى أنه الدم الذي يسقي شجرة الإسلام من روح الفداء والتضحية، وكان يعد نفسه لذلك، ويترقب اليوم المشهود الذي ينفجر فيه مشعل النور للأباة والثائرين على طريق التحرر والانعتاق، وكانت كلمات الحسين ولاسيما عند خروجه إلى كربلاء ونبوءاته عن مصيره تحكي هذه الحقيقة.
كفالة أمير المؤمنين
كان الصدر قدس سره منذ صغره مشدود القلب إلى ساحة جده المرتضى علي عليه السلام على غير طبيعة الانشداد الولائي الذي يتحلى به أولياء أهل البيت وأنصارهم، فقد كان ذلك حالة فريدة فسّرتها الأيام بالنموذج الفريد من المواقف.
وكان قدس سره يقضي يافعاً شطراً من وقته بالدرس والمطالعة في حرم الإمام عليه السلام، وقد انقطع أياماً عن ذلك، فرأى أحد الصالحين في منامه أن أمير المؤمنين يقول له: (لماذا انقطع ولدي محمد باقر عن الحضور إلى جواري للدرس والمطالعة؟)
وقد هزّ خبر الرؤيا الصدر اليافع من أعماقه، فعاد وهو أشد شغفاً إلى دأبه في انتهال المعرفة من ينابيع البركة والعطاء الإلهي في أحضان جده إمام المتقين.
لقد كان لأمير المؤمنين دور من عالم الغيب بما له من حرمة متميزة عند الله سبحانه، وبما يمتلك من حب لولده (محمد باقر) لمؤهلاته الفريدة في إعداده لهدف كبير وغاية عظيمة لا يبلغها سواه.
وهكذا كان علي عليه السلام مع ولده الحسين عليه السلام في تربيته مباشرة، ونفث روح الكمال في روعه، وإعداده لعظائم المواقف وجسيم المهمات.
تماثل الأجواء
لقد عاش الصدر قدس سره حالة إعداده نفسه للثورة في أجواء تشبه الأجواء التي عاشها الإمام الحسين في أيام أخيه الإمام الحسن؟عهما؟ حيث التعامل مع الظروف الضاغطة بروحية الحكمة في التدبير، واتخاذ موقف الصلح انطلاقاً من مصلحة الإسلام العليا، وبدافع الحفاظ على الصف الشيعي، وإعداده لمستقبل الإسلام حين تحين الفرصة المناسبة.
ولقد أمضى الصدر شطراً من عمره في عالم عدم الثورية والمصادمة في فترة مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، التي كان يرى فيها الصدر غطاءاً آمناً للعمل الهادئ المتأني الواعي من خلال الفكر والثقافة والمشاريع الإسلامية التي ترسي دعائم الوعي، وتعدّ الجيل للمواقف الحاسمة، وتقوم بمناهضة التيار الإلحادي الذي غزا العراق، وتربية الكادر المتسلح بالفكر للوقوف أمام ذلك الخطر الداهم.
وكان ذلك يشبه أجواء الإلحاد التي بدأت تنتشر في أيام معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن عليه السلام، وإعلانه الصريح أو المبطّن أمام حوارييه أو على منبره بكفره ومروقه عن الدين، وسعيه لمحق الرسالة على نهج والده رأس الشرك والعدو الأول للإسلام (أبي سفيان).
وجاءت فترة البعث العفلقي الصليبي ۔ في أواخر مرجعية الإمام الحكيم لتشهد البروز الماجن للكفر والإلحاد، والخروج عن القيم، وإصلات سيف الحرب على الشريعة كافرة محمومة ۔ لتشبه الفترة التي عاش فيها الإمام الحسين عليه السلام في ظل الصلح لأخيه الإمام الحسن عليه السلام والتي شهدت جرأة معاوية الواضحة على القيم، وتنكّره لمبادئ الصلح، والإعداد لاستخلاف ولده عشير القرود، وغذيّ الخمرة والأفكار الضالة من ثدي (سرجون) الذي احتضنت به الصليبية سدّة الحكم الأموي من خلال يزيد، لتنتقم أشد الانتقام من الدين الذي أظهره الله ليأخذ عليها مشارق الأرض ومغاربها، وكان أهم انجازاته لصليبه ما أشار به على يزيد من استباحة البيت النبوي الكريم في كربلاء على يد عبيد الله بن زياد.
وحين يبقى الصدر وحده أمام جاهلية البعث يظهر أمامه تماثل واضح بين رمز تلك الجاهلية (عفلق) المتظاهر مكراً ببعض المدعيات الإسلامية، والحديث بدافع الخداع عن بعض أمور الإسلام، وبين مؤسس السلطة الأموية ورمزها معاوية الطليق بن الطليق الذي لم يظهر الإسلام إلا ليحقن دمه، ويتخذ منه غطاءاً لمكائده للرسالة، وسعيه الحثيث لإعادة ليالي الجاهلية، والعمل بوصية أبيه (تلقّفوها يا بني أمية تَلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار).
ويظهر تماثل واضح بين النفوذ الصليبي في الحكم البعثي من خلال عفلق وأمثاله، وبين وجود ذلك النفوذ في الحكم الأموي في عهد يزيد من خلال سرجون الذي كان المستشار المطاع لدى يزيد، يضاف إلى ذلك تماثل مهم آخر بين رئيس النظام البعثي ۔ الذي يمثّل أوضح مصاديق المجون والمروق، وسحق الحرمات والمبادئ، وتجاوز حدود القيم والأعراف، وحدّة الشراسة على الدين وأتباعه، والبروز بمخالب الوحش الكاسر لينهش بكل أضغان الكفر في لحوم المؤمنين، ويمزّق أجسام المجاهدين ۔ وبين يزيد الذي أقرّ صدام عينه، وأثلج صدره بالاقتداء الفريد بكل عهره ومجونه وقساوته وعدائه لله وللعقيدة.
وبانت الساحة أمام الصدر في عهد صدام كما هي ساحة الإمام الحسين في عهد يزيد، حيث لم يبق مجال أمامه إلا للثورة، ليقوم الدم المظلوم بمساورة السيف الغاشم، وتتفجر صيحة الثورة في أوساط الركام الجاثم من الخوف والتضليل، لتعيد الأمة إلى دورها في الرفض وتصحيح الأوضاع بما ينسجم وروح الإسلام الأصيل.
كسر أطواق الخوف والخنوع
لقد كان من دواعي ثورة الإمام الحسين عليه السلام ۔ وهي جمّة ۔ محاولة كسر حالة الخوف التي كبّلت الأيدي حتى عن أن تشير أية إشارة إلى موضع الانحراف، وكمّت الأفواه ومنعتها عن أن تنبس ببنت شفة ضد الطغيان، وسمّرت الأقدام بالأرض فحالت بينها وبين أن تخطو خطوة واحدة نحو التغيير.. وكانت أجواء رهيبة سكت فيها الأخيار، وماشاها الضعفاء، وذاب فيها المنحرفون، ووجد الظالم الجائر غاية ما يتمناه لخطّه الانحرافي عن درب الرسالة.. وكانت أطباقاً هائلة ثقيلة من الجور والاستبداد، غوى فيها الأنكاس، وتهيّب الأكياس، فكان لابد من صيحة حسينية صاخّة ترهب الظالمين، وتهدم جدران الرعب التي أقاموها حول الناس فحالوا بينهم وبين أي موقف مناوئ، وتبعث شرارة الرفض في القلوب التي استشرى فيها الاستسلام، وتقدح زناد الأمل في تلك النفوس التي يئست وتلك التي كادت أن تيأس، ويكون صاحب تلك الصرخة أسوة الأحرار، وقدوة الأخيار في إباء الضيم وإنكار المنكر.
وعاش الصدر قدس سره أجواء مماثلة لتلك التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام، فقد سيطر الرعب، وهيمن الخوف، وتهيّب الناس موقف الاعتراض، وخشى المصلحون كلمة الرفض، وآثر الجميع الصمت بدوافع الخشية والحذر والاحتياط وحبّ السلامة، ووجد البعثيون منشودهم في قدرة السيف والسوط على تمهيد الطريق أمامهم إلى الهدف، واشتدوا في ممارسة العنف الذي رأوا جدواه فجاؤوا به ألواناً لم يعرف لها مثيل في التاريخ، فعاد عليهم بما لم يجده أسلافهم من الحكام في العراق من عوائد السكوت عنهم، والهيبة من أي اعتراض لهم.
فكان الصدر على خطى جده سيد الشهداء هو صاحب ذلك الصوت الهادر الذي حطّم أسوار الهلع، وأفزع العفالقة، ووجّه الأنظار صوب المخلّص، وأشاع روح الأمل في الأفئدة، ورسم للصالحين منهج الرفض، وصار لهم فيه قدوة تقتدى ومثلاً يحتذى.
نقرأ في التاريخ صيحة الحسين الهادرة في عنفوان الطغيان :
(لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً) و(على الإسلام السلام إذ بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد) و(مثلي لا يبايع مثله).
ونقرأ حفيدتها صيحة الشهيد الصدر وهي تتحدث بلغة الدم التي هي أبلغ اللغات تعبيراً عن الرفض والتحدي:
(إن يقظة هذه الأمة تحتاج إلى دم كدم الإمام الحسين، وحيث أنه لا أحد له مثل موقع الإمام الحسين في أمته فيجب أن نقدم مجموعة من الدماء).
وجلجل صوته الراعد بالرفض والعناد :
(أؤكد للمسؤولين أن هذا الحكم الذي فرض بالحديد والنار على الشعب العراقي، وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته ومن ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر.. وأن القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً إلا للفراعنة والجبابرة).
(أيها الشعب العظيم إنك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفاكين والجزارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير بعد أن قيدوها بسلاسل من الحديد والرعب).
(الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم).
أهداف الثورة
لقد أعلن الصدر الثائر أهداف ثورته في نصوص خالدة وبصوته المحفوظ في شريط التسجيل، ومن قبله جده إمام الثائرين على خط الرسالة أعلن أهدافه التي سمعتها أذن المجد الواعية، وحفظتها ذاكرته، وردّدها لسانه أناشيد للأجيال عاشقة الحرية، ونجد الروح في الأهداف واحدة؛ لأنها أهداف العقيدة، وإرادة الله التشريعية، ومسؤولية عباده التي أراد لها أن تتحقق بواسطة المخلصين.
يقول عليه السلام: (لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).
وأعلن الصدر أهداف ثورته صريحة وواضحة (إنني أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية، وشعائر الإمام أبي عبد الله الحسين، كما وأطالب بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة، وأطالب بإيقاف حملات الإكراه على الانتماء إلى حزب البعث على كل المستويات، وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسّفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء، وأخيراً أطالب بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقه في تدبير شؤون البلاد وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلاً صادقاً).
عدم العمل بقانون التقية
حينما تكون مسيرة الإسلام أمام معضلة من خصومها اللدّ حيث لا ينفع إزاءها إلا النداء الجاهر بالرفض، والوقفة الصارمة للردع، هنالك تكون النفوس الملزمة بالتكليف الأقدس أرخص ما تبتاع به سلامة الدين، وتفدى به العقيدة التي لابد لها أن تحيا لأنها حياة الأرواح، وأن ريّها الذي يينع به عودها هو الشراب القاني من مهج الأخيار الذين رأوا فيها حقيقة الوجود وسر الخليقة ومنهج المسار.
وإذا كان الأمر بهذه المثابة فأي مسوّغ من تقية وغيرها يمكنه أن يكون تبريراً للقعود أو ذريعة للجمود، وإن وردت فيه النصوص التي مهما تمادت في تسويغ السكوت فإنها لا تصل إلى حد الرضى به عندما تكون المسألة دائرة بين الحياة والموت للرسالة، ويكون الطمس والتضييع هما المصير الذي يتهددها على يد الضلال العنيد.
وهكذا كان الأمر في ظروف ثورة الحسين عليه السلام حينما استشرت الجاهلية وتعرت، فكشفت عن حقيقة نواياها مع غريمها القديم (الإسلام) بعد هلاك معاوية وبيعة يزيد.
وكمثل ما جرى ثمّة حصل في زمان ثورة الصدر عندما تجسّد الكفر في منتهى العداء والشراسة، حيث لم يكن لعالم يحسّ بمسؤوليته مثل سليل أبي الضيم إلا أن يحتذي مثال أبيه في الموقف إزاء جاهلية جديدة احتذت مثال أمها جاهلية الأمويين.
وحيث علت الأصوات أمام الخطى الأولى في مسيرة الثورة الطفّية تطالب رائدها الحسين بالسكوت والتربص والبعد عن موارد الهلكة ۔ فكان الإلزام القطعي لأسوة الأحرار يجعله يصمّ عنها فينطلق بمنتهى التصميم على أداء التكليف ۔ كان حفيده الصدر ينأى بسمعه عن نداءات التقية التي يردّدها من حوله الخانعون والخائفون والجاهلون وأزلام السلطة من وعّاظ السلاطين.
لقد فتح رضوان الله عليه باب الشهادة على مصراعيه له وللعاملين على خطه كاسراً سدود التقية، عسى أن يفكّ بذلك أسر الدين، ويمنحه من دم الوريد ما يرتوي به ليعود يانعاً مزهراً بعد أن كاد يذبل ويموت في بلاد الرافدين.
إنه طاب ثراه يعدد المنكرات البعثية التي صبر عليها أهل التقية، ولا ينبغي لهم ذلك بل يجب أن يهدموا جدار الصمت لتنطلق الصرخة هادرة بالرفض، فقد فضح صبح التكليف بالقيام بدليله القاطع ليل التبريرات وديجور الأعذار:
أسقطوا الأذان الشريف من الإذاعة فصبرنا، أسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا، وطوّقوا شعائر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا، وحاصروا المساجد وملأوها عيوناً فصبرنا، وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا، وقالوا: إنها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا، ولكن إلى متى تستمر فترة الانتقال؟
وحيث يعلو الصوت الأحمق أو المشبوه للتحذير الشرعي في وجه الهمّة الحسينية، يعلو النداء الإلهي من مبدعها بأن الفتح في مسيرته، وأن الظفر في انطلاقته، وأن الجنة مشرعة في وجهه (من لحق بي فقد استشهد ومن تخلّف لم يدرك الفتح) و(ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً فأني لا أرى الموت إلا سعادة). إنه يبطل التشكيك في خروجه بالمحذور الشرعي بقوله: (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه..).
ومثل ذلك واجه الصدر في ثورته فقابله بموقف جده، معتبراً أن الجنة قد فتحت أبوابها لتستقبل قوافل الشهداء في ركبه المبارك، الذي رأى تكليفه اللازم الذي ليس له سواه أن يكسر طوق الصمت، وأن يضرب بالتقية عرض جدار الوظيفة المقدسة التي تطلبتها محنة الدين القصوى، حيث لا مجال للخنوع أو التشبث بأذيال المعاذير التي هي باب نجاة الخانعين الذين يستطيعون أن يلووا عنق الشريعة ليخرجوا منها أدلة تبرر خنوعهم، وتعطيهم العذر للسكوت، وما أهون ذلك على الصدر لو أراده بداعي حب الحياة، معتبراً أن وجوده المبارك المثمر المعطاء يحتّم عليه بالحكم الأولي أو بالعناوين الثانوية ضرورة البقاء أطول فترة، ليأتي الحياة كل يوم بشيء جديد من فتوحاته الفكرية الباهرة.. . لقد رفض المجد والألق الشخصيين، ونبذ حب الحياة في ظل وضع ترتهن فيه العقيدة بأطواق الاختناق والحجب عن الواقع فقرر أن يموت من أجلها.
رفض البيعة وشروط المساومة
حين طلبت الضلالة الأموية في بداية تجاهرها المفضوح البيعة من الإمام الحسين كان موقفه الرفض الذي حمل لواءه حتى الموت، وتحدّى به كل ألوان الوعيد ودمدمة الرعود القاصفة، وداس بقدمه الشروط التي لوّح بها الجناة أمام عينيه وسيلة للسلامة والنجاة من حد السيف، وكان نداؤه الفذ الذي لم يزل فم التاريخ يصدح به نشيداً للثوار وأغرودة للشرفاء:
(والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد).
(إن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السِلّة والذلة وهيهات منا الذلة).
وعلى منهج طغاة الأمس حاول طغاة بغداد أن يجعلوا الصدر في أسر بيعتهم، أو الولاء لهم، أو السكوت عنهم على الأقل، وجاؤوه من أجل ذلك بكل فنون المكر والكيد والإغراء، ودقّوا على سمعه طبول التهويل والتحذير، ووعدوه ومنّوه، ثم خوّفوه وبسطوا له يد السوء بكل قسوتها، وقد واجه هو ذلك كله بصلابة الطود الأشم للإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع، وصيحته تزمجر أمام خطاه (لقد صمّمت على الشهادة) وحيث فتحت أمامه أبواب السلامة التي فتحت أمام غيره بالسكوت أو اللجوء إلى إيران رفض ذلك قائلاً ۔ لأبناء الأمة عندما استعلموه عن حقيقة ما يقال: إنه يريد الخروج من العراق ۔: (هيهات محياي محياكم ومماتي مماتكم).
(إني أؤكد لك يا شعب آبائي وأجدادي أني معك وفي أعماقك ولن أتخلّى عنك في محنتك).
الكوفة معقل الثورة
كانت الكوفة هي مهد الثورة الحسينية من ناحية إيجاد موضوع الحكم الشرعي الملزم بالقيام الخالد، وتوفّر الظروف الموضوعية التي تكون أرضية لأداء التكليف الصارم وهو التغيير، الولاء والجند والاستعداد للثورة، وقد عاش فيها الإمام الحسين مدة من عمره في إمامة أبيه أمير المؤمنين عندما حوّلها عاصمة لدولته راسماً بذلك بداية الطريق لجعل أرض العراق عاصمة الدولة الإسلامية، وجعل الكوفه بالذات مختار الإمامة، وموضوع رغبتها في أن تكون عرين الحكم الإسلامي ومنطلقه إلى العالم، وهو ما سيحققه يوم الظهور على يد القائد الموعود.
رأى الحسين كذلك بريق الحماس الإسلامي والولاء الصادق لدى المخلصين من أهل الكوفة من أتباع أبيه وأعوان أخيه الذي ورث الإمامة والزعامة من والده العظيم.
إن الكوفة هذه ۔ والتي غلب اليوم اسم النجف الأشرف على اسمها حتى صار متبوعها بعد أن كان يدعى ظهرها ومن نواحيها ۔ كان لها دور في الثورة الصدرية، ففيها عاش الصدر، ونهل من معارف الإسلام على خطّ أهل البيت في رحابها، وفيها أعطى دروسه في علوم الشريعة ومنهج الثورة، ومنها انطلق في تجسيد أفكاره ومشاريعه الثورية، ومنها وجّه وكلاءه وأنصار خطّه رسلاً إلى الناس يهدونهم إلى رايته، ويدعونهم إلى بيعته، وفيها دوت أمام بابه هتافات البيعة، وانطلقت إلى سمعه من بينها نداءات (نحن جنود مجنّدة) لتشكّل تناغماً فريداً مع نداءات أهل الكوفة للإمام الحسين.
ثورة لكل الأمة
إن الشبه الكبير بين الثورتين يتجلى في أنهما وإن كانا بريادة إمام معصوم من أهل البيت، وسيد عالم من ذرية المصطفى متأسٍّ بآبائه الطاهرين، فإنهما لم تكونا بهدف حماية أتباع الخط فقط، أو إغاثة جماعة معينة أوتطبيق مذهب محدد، بل كان الهدف هو نصرة الأمة بأجمعها، وتطبيق الإسلام بروحه الشاملة ومبادئه العامة على كل المسلمين، ومن هنا كانت نداءات الثائر الأب وابنه البار المقتفي أثر أبيه نداءات عامة لكل المسلمين بكل معنى العمومية والشمول، وبأوضح صورهما.
يقول الإمام الحسين في أحد نداءاته: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله) ويقول مجدد ثورته وبنفس تلك الشمولية:
يا شعبي العراقي العزيز.. إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك؛ لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر، ولا قومية دون أخرى، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهادي والرد البطولي والتلاحم القتالي هو واقع كل الشعب العراقي، وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع.. إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً، وإنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل.
إنهما ثورتان لكل الأمة بكل مشاربها ومذاهبها، وإن كان الوريد الذي قدحت شرارتهما من دمه الطهور هو الوريد العلوي الشيعي، الذي أبى الله إلا أن يكون منه نزف التضحية على طريق نصرة الإسلام، وإعزاز كلمة الحق، ودحض الباطل على طول الطريق ومرّ الأزمان.
التماثل في مواجهة الشبهات والفتاوى التضليلية
واجهت مسيرة الثورة الحسينية منذ انطلاقتها ألواناً من الشبهات والدعايات المضادة، وحتى أشكالاً من الأحكام الشرعية التكفيرية، فاتّهمت بأنها مخدوعة أو مستعجلة وغير مدروسة وعارية عن لباس الحكمة، واتّهمت بأنها مادية تبحث عن الأمجاد الذاتية، وقيل عنها: إنها انتهكت حرمة الشريعة التي تأمر بإطاعة ولي الأمر، وإن رائدها قد خرج عن حدّه فقتل بسيف جده، وقيل عنها غير ذلك مما سمعه قائد الثورة مباشرة أو قيل وراء ظهره، أو بعد شهادته من السلطة المضادة والخصوم والناصبين، أو من الحمقى والجاهلين والمخدوعين.
وهذه السجية البارزة في الثورة كانت أيضاً سجية الثورة الصدرية، فقد نالت وقائدها سهمهما الوافر من التهم والتحريف بالأقاويل والشبهات والأحكام الظالمة المتذرعة بالدين والورع والذبّ عن حياض الشريعة.. فقيل عن حركته إنها راية ضلال قبل موعد الظهور لا تنسجم مع الصبر والسكوت المطلوبين لمنتظري اليوم الموعود، وقيل: إنها تدخّل في شؤون السياسة مع أن الدين لا شأن له بذلك، وقيل عن رائدها: إنه عالم حزبي يطمح إلى ما يطمح إليه أرباب الأحزاب وروّادها، وقيل عنه: أنه ذو توجهات سنية منحرفة، وقيل عنه كذلك: إنه مخدوع ومغفّل، ويعبث بإرادته الآخرون، وإنه لم يلتزم جانب البصيرة بواقع حركته، ولم يتحلّ بالحكمة في تعامله مع حقائق الأمور، وقيل فيه ما هو أكثر من ذلك، مما سمعه مباشرة أو بهت به ورشقت بسهامه حيثيته الشريفة ومقامه الكريم من ورائه.. . وكما تمّ تحريض السلطة الأموية بالمحركات الشرعية على ثائر كربلاء، تم تحريض سلطة الكفر في بغداد على مفجر الثورة الإسلامية في العراق بتلك المثيرات والدواعي، والتي واجهتها ساحته كأخطر سلاح، ووجدت فيها خطاه أشقّ عقبة تقف أمامها دون هدفها.
الانكسار الظاهري
لقد تماثلت الثورتان الحسينية وحفيدتها الصدرية بالتشابه في قضية الانكسار الظاهري، فكلتاهما لم تحققا الهدف المرسوم ظاهراً وفي الوقت المنظور لمن عايشوا الثورة، وأمّلوا قطف ثمارها يوم الحصاد القريب، فقد تمّ دحرهما بادي الرأي، وقُتل الثائران العلويان شرّ قتلة، وأبيد أصحابهما الميامين، وهدأت فوارة الخطر المحدق بالسلطة الحاكمة، وأعلنت أبواق الظلم الناظرة بعين يومها وساعتها قضاء الطغاة على مصدر التهديد.. وقد غفل المعايشون لصراع الثورتين مع العرشين الجائرين عن مسألة المرمى البعيد لهما، والنتيجة النهائية التي هي فوق نيل النظر السطحي الذي تعوّد رؤية الأشياء القريبة بلا قدرة على الاستشراف أو الاستشفاف أو الاستنتاج المنطقي من المقدمات المنظورة للنتائج الكبيرة التي تحتاج لتظهر إلى وقت بحجمها.
وما أقرب أن يشبه أمرهما في ظاهر الحال وواقع المآل ما قصّه الله سبحانه في كتابه الكريم عن غَلَبِ الروم الذي استبشر به المشركون، وعن غُلْبها الذي كان في خزانة الغيب حقيقة واقعة لا محالة، تسرّ المؤمنين الذين يستشرفونها في أفق التربص المقرّون بالرجاء لفضل رب السماء:
<غُلِبَتِ الرُّومُ * في أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * في بِضْعِ سِنِينَ لِلّٰهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّٰهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللّٰهِ لاٰ يُخْلِفُ اللّٰهُ وَعْدَهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ>.
قضية انتصار الدم على السيف
في النهج السماوي المبدع للمفاهيم والسنن والمواقف والقوى المحيّرة على طريق الهدف الأسمى (تحرير الإنسان) يلتمع قانون عجيب صارم هو قانون (انتصار الدم على السيف..) ومذ طلعت الرسالات الإلهية المكافحة، واختتمت برسالة الجهاد الفرد كان الدم المهراق ساقي شجرتها الخالدة بخلود عطاء الشهادة، وكان النزف المقدس مكتب التأمين الصادق، الذي أودعته وجودها فصدقها المعاقدة على الدفاع عن حياض هذا الوجود العظيم، وضمان سلامته من العوادي المردية.
في ثورة الحسين كان شريان الفداء هو الحسام السماوي البتّار الذي انتضاه رائد القضية الكبرى التي حيرت قوانين الأرض ومسلّماتها وعاداتها، فثاور السيف الترابي الذي صنعته يد القهر لتقمع به إرادة الحرية والخلاص، وحين علق به الدم الطهور ذاب ذوب السراب أمام سطوة الواقع، وانماث كما ينماث الوهم في حر الحقيقة وإن تراءى للناظرين عند ذوبانه بخداعه ومكابرته على هيئة الفالج الظافر.
لقد حكم الدم الطَفّي على الطغيان الأموي لدعاة الجاهلية الموتورة بالفناء حكماً حاسماً هو صيحة القدر المحتوم، وقضاء الإرادة النافذة. وكانت الرؤوس الشريفة المرفوعة على رماح الجناة رايات الانتصار وأكاليل الغار، تصيح بأرفع النداء، مزهوّة ببشرى الفلاح وأوسمة الظفر.
وعلى هذا المسار النيّر العاطر كانت خطى ثائر العراق الشهيد الصدر، مصلتة قانون غلبة الدم، متحصنة بدرعه الوثيقة، غير هيّابة من غوائل العواقب التي يخشاها المثاورون بأسياف القدرات المادية، معتزّة باليقين من النصر المهيب الطافح في أفق الشهادة الأحمر.
وحيث لم يكن جده الحسين يملك في صياله الفذّ إلا عروقه النابضة الفوّارة، وعروق أصحابه التي صبّت حممها على العرش الخشبي، لم يكن حفيده صدر المكرمات يحوز في حلبة الصراع إلا مهجته المتأهبة للعطاء، ومهج الأبرار من عشّاقه وجنود خطه الأزكياء، تتوكف الظفر الأغرّ حين تصمى بحراب العادين وأسنّتهم.
جاذبة العشق
في عالم العشق الأمثل الرحب الممتد كانت هناك صفحات خالدة تتلألأ بأنوار الصدق والوفاء، وتتأرج بعبير السمو والعلاء، شامخة باذخة ترمقها عين الخلود بكل معاني الإكبار والإجلال؛ لأنها تجسّد حقيقة التوجه الإنساني بأصدق المشاعر النقية السامية، وهو الانجذاب الطهور إلى الحقائق الكبيرة المقدسة التي لا تُعشق إلا لذات كمالها وجلالها ورفعتها، وأن كل ما جرّ إليه ذلك الهوى القدسي من محن وشجون هو بعض المشتهى على درب ذلك الهوى.
لقد عشق اللهَ محبّوه فذابوا أعذب الذوبان في أروع مصهر، وعشق مريدوه أولياءه المقربين لنسب العشق بينه وبينهم فهاموا فيهم كأنهم يهيمون فيه، ولا غرو فهم آياته ودعاته، وشارحو كتاب مجده وأسمائه الذي لا يفسّره إلا الهائمون.
وأشرق في ذلك التاريخ الوتر وَلَهُ أصحاب الحسين في أسوتهم في الغرام، وداعيتهم إلى منتهى الضرام؛ تجسيداً لأشرف الصدق في سُبحات الهيام، وقد عبّر أحدهم بما طاوعه من ألفاظ الأرض ما ظن فيه القدرة على بيان الحال لحقيقة ذلك السعار الأشهى فقال: (حب الحسين أجنّني) ومن هنا حفد في ركب المحبة الطاغية هو والمدلهون يخوضون في نيران الوجد يحسبونها جنانهم المشتهاة في ذروة العلى، ويباسلون في المحبوب عرامة الموج الهادر في خضم الجوى يرونها غاية المنى.
وتكرّر مشهد الحب العجيب بعدما عبر من خلال القرون المتمادية على جناح المجد، ليجلجل نداؤه الفريد على مسمع الحبيب حفيد الحسين في نجف المعالي، حيث صرح العشق في وفود البيعة عندما نادى شبيه (عابس بن أبي شبيب الشاكري) يعبّر للقائد عن طويّته ودخيلة من معه من المبايعين (حب الصدر أجنّني)، وكما مشى أصحاب الحسين على طريق الانجذاب الفذ في ملحمة أسطورية من ملاحم جنون الإنسان في الإنسان سار متيّمو الصدر معه على الدرب ليجدّدوا تلك الملحمة، ويعيدوها حية للناظرين بعدما كانت قصة تأبّت الندّ من قصص الهوى الأقدس تتلى على المنابر، وتقرأ في ما يسطرون.
ولو لم يكن الحب الفرد لما كانت تلك المواقف التي توحدت بالشموخ.. ولو لم يكن ذلك الاندكاك الشعوري في مذوب الانصعاق الطوري لما أشرقت تلك الشموس السواطع في أفق العراق آية يرتّلها الفخار من مصحف التأسي، كأنها هبطت للتوّ من سماء كربلاء نزل بها روح مجدها الأمين.
التماثل في الرمزية
لقد انتصر الحسين كما أراد، وبلغ غاية مرامه حين صار رمزاً للفداء ومنارة للتضحية وبركاناً واصباً تنطلق على نهجه حمم الثائرين الأباة، تدكّ عروش الظالمين والطغاة، ونال الحسين طلبته أن يكون مدرسة للأحرار يتعلمون فيها دروس الانعتاق، وأن يظل منبراً للكرامة يدوّي منه نداء الرافضين للضيم يوقد منه في صدور الشرفاء مصباح الإباء من شجرة التحدي.
وترنّمت بموقف الحسين أطيار المكرمات بأعذب اللحون في آفاق العز والشرف والامتناع على الذل، فتشنّفت أسماع الأجيال التي أسرتها الأنغام الخلّابة الجديدة، فقادتها بخطام التسليم إلى باحات المقاومة، وصنع المواقف الطالعة على عوالم المجد من مشرق الإعجاز سراجاً وهاجاً دائم الإشراق.
لقد ظل أبو الأحرار صانع الثوّار، وبقيت ثورته معين الثورات، وما فتئت ترنيمة التعالي تصوغها أنامل الدهر الخاشع على أوتار الإكبار، تدهش الألباب بفرط صياغتها واقتدارها الفنّي وسحرها، ولا تزال متجددة ليبقى الإعجاب حياً، متصلة ليظل الانجذاب واصباً، ثرّة العطاء بلا انقطاع لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. وهكذا كانت ثورة الصدر، فما عتمت منارة ومساراً لأحرار العراق وأباته، يلهجون بذكر الرمز الشهيد، ويسرعون على خطاه منقادين بأزمّة التأسي، وعزمة الثأر، وجلال الهدف المقدس، ليصنعوا محير العقول من البطولات، ويسطّروا مدوّخ الألباب من الملاحم. وبقي الصدر الثائر منذ عروجه أنشودة الثائرين، يصبّون دموع الأسى لفقده زيتاً على لهيب الغضب ليعود إعصاراً نارياً، ويحوّلون اللوعة الفادحة بخسرانهم إياه صاعقاً رهيباً يفجر العزيمة لتنقلب بركاناً مهولاً يحاصر بالرعب الخانق غرماء الحق حتى في آمن مدّخلاتهم ومغاراتهم.
وكما بقي للحسين ورثة خطّه وثورته من آله ومريديه يواصلون خطاه الرافعة على الأثر المرسوم في نهج الدم القاني، ويعيدون صوته الجاهر النابت في ضمائرهم الناهضة حياً إلى الوجود كأنه صيحة اليوم، هكذا بقي للصدر جنوده الأوفياء يديمون نهجه ومشعله، ويشرحون تطلّعاته وأهدافه، ويكدحون دأب المخلصين الصابرين في بذل الوسع في الجهاد الذي ألزمهم به القائد الشهيد، فرضاً يفوق كل الفروض، وحقاً يفوق كل الحقوق، وطريقاً متوحداً لا شفع له ولا بديل.
عمق الإحساس بالمسؤولية
لقد أحسّ الإمام الحسين عليه السلام بمسؤوليته تجاه دينه ورسالته أروع ما يكون الإحساس وأقدسه، وجعل وجوده كله رهناً بهذا الشعور الطاهر، وطوع إرادته، مهما كانت تبعات ذلك الارتهان وعواقبه، والتي كان يلوّح له فيها في الأفق بريق السيف البتّار الذي يحزّ به المجرمون رأسه الشريف. وإن إحساسه بالمسؤولية المقدسة هو الذي جعله ۔ حيث سكت الخانعون والنفعيون، وتزلّف الوعّاظ المتاجرون ۔ يقول لمعاوية بجرأة المؤمن المجاهد الراسخ الخطى على الإيمان رسوخ الأطواد في أعماق الأرض:
وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج.. ولقد فصلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى اجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد بنفسه على موقع رأيه. فخذ ليزيد بما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول مما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص.
ويخاطبه الحسين عليه السلام في كلام آخر قائلاً له:
وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد صل الله عليه و آله أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركت فإني أستغفر الله لديني وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت: إن أنكرتك تنكرني، وإن كدتك تكدني، فكدني ما بدا لك فإني أرجو الله أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنك قد ركبت جهلك، وتجرّأت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ۔ يعني حجر وأصحابه ۔، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا، فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك لأوليائه على الظنة والتهمة، ونفيهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس ببيعة ابنك وهو غلام حدث يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، وما أراك إلا قد خسرت نفسك، وغششت رعيتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي.
وهذا الإحساس هو الذي جعله يبادر إلى طريقة التحرك المستور والعمل السري بعد رحيل أخيه السبط المجتبى، لجمع صفوف شيعته ومريديه على كلمة الرفض والثورة، وتهيئة الأجواء المناسبة لما بعد معاوية، حتى كتب عيون الضلال إلى معاوية عن هذا الحدث: (إن رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وإنه لا يؤمن منه وثوبه..).
والإحساس بالمسؤولية هو الذي جعله يرفض الدنيا العريضة التي يمكنه أن ينالها بكل يسر إذا ألان جانبه للظالمين، لكنه رفض البيعة ليزيد وهو يقول لمروان بن الحكم لما دعاه إليها: (إنا لله وإنا إليه راجعون، على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد).
وقد قال لأخيه محمد بن الحنفية: (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية) وقال للأمة: (إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).
وكما رفض الإمام الحسين بإحساس المسؤولية أن يلزم جانب الحياة مأنوساً بالعناوين الكبيرة التي يمتلكها، والتي تجعله يستحوذ على القلوب استحواذ الفاتح، فهو سبط الرسول، وريحانته، وابن البتول، وسيد شباب أهل الجنة في نظر كل المسلمين حتى غير أتباعه منهم، وهو وارث علم النبوة، ومرجع الأمة في الأحكام والمعارف، وأعلم رموزها بالشريعة، وأبصرهم بحقائق الكنوز النبوية، وكان بإمكانه لو أراد أن يظل أطول مدة ممكنة مع هذه النياشين البرّاقة التي تمنحه المكانة والكرامة والتقدير، وحتى متاع الدنيا لو اشتهاه، لكنه رفض هذا كله وداسه بقدم المسؤولية المقدسة، وأعرض عنه إعراض الزاهدين بتمام حقيقة الزهد في سفاسف الدنيا وزخارفها، وفضّل الموت بأبشع صوره من أجل إنجاز الوظيفة الثقيلة التي هي أمانة الرسالة، والتكليف الشرعي، ونجاة الأمة.
وهكذا كان ولده شهيد الإسلام في العراق، والذي لا ينكر أحد أنه نال في كل العالم الإسلامي وحتى في خارج حدود هذا العالم مكانة سامية وإجلالاً كثيراً، وحظي بأوسمة الفخار وأنواط المجد بأبهى أشكالها وأعلاها، فهو رائد الفلسفة الإسلامية المعاصرة، وهو المجدد الفذ، والأصولي الفاتح، والفقيه العملاق، والمفكّر المبدع، وإمام الصحوة الإيمانية. وقد اشرأبّت إلى مقامه الشامخ في كبد العلياء أعناق البصائر والعقول، وتسمّرت في جنابه البديع أفئدة المدركين، وهوت إليه مهطعة المشاعر بكل شوقها وعشقها، وكان في وسعه أن يظل على عرش الإكبار والتقدير، وفي ذلك الملك الباهر الكبير ما أتاحت له الحياة من العمر، دون أن يعرّض نفسه لقصر العيش بسلوك درب الفداء والتضحية، وتقديم النفس قرباناً على درب المسؤولية العظمى.
على المنهج الحسيني سار الهمام الفذ صدر المكرمات، فأحسّ بالمسؤولية أعمق الإحساس، وحمل أعباءها بأعلى العزم والاقتدار، وأوفر الصبر والاحتمال.. وهذا الأمر هو الذي دعاه ۔ كما فعل الحسين ۔ أن ينحو المنحى السري، ليربّي كوادر الأمة، ويثقّف طليعتها من خلال التنظيم المحكوم بأصول العمل المتقن الحكيم الذي يجاري آخر فنون العالم في المنهج الحركي.. إنه رضوان الله عليه يقول:
ما هو العمل؟ كيف نعمل؟ ما هي أساليب العمل؟ كيف يمكن تجديد أساليب العمل بالشكل الذي ينسجم مع الأمة اليوم؟ نحن نتعامل مع عالم اليوم لا مع عالم عصر المماليك، إذن كيف نتعامل مع عالم اليوم؟.. العمل الاجتماعي يقوم على أساس الحدس الاجتماعي، والحدس الاجتماعي يتكون من الخبرة والتجربة، ومن الاطلاع على ظروف العالم وملابسات العالم، إذن يجب أن نفتح أعيننا على العالم، يجب أن نعيش الخبرة والتجربة في العالم.. الحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس، من خلال الاطلاع على ظروف العالم، من خلال الاطلاع على الملابسات، من خلال الاطلاع على التجارب التي قام بها الآخرون.
وكما خرج الحسين عليه السلام من فترة العمل السري ۔عندما تهيأت له أجواء الثورة فصرح وجاهر۔ قام الشهيد بإحساس المسؤولية ليواجه طغاة البعثيين كما واجه جدّه طغاة بني أمية، ويتصدى لمشاريعهم الإجرامية التي كان أخطرها ربط الناس بحزبهم الإلحادي، وإماتة الشعائر الإسلامية، والتعرض لحرمات الدين والعلماء والمقدسات، وسلب إرادة الأمة في اختيار طريقها.
وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام يخاطب المكلّفين بأسلوبه التحريضي الملفت، وبصيغة (ألا ترون) و(ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه) فإن ولده الذي تفرّع منه ينحو منحاه، وينهج منهاجه في مسير الثورة حتى في عباراتها وشعاراتها ولحن خطابها.
إنه يقول: (ألا ترون يا أولادي وإخواني أنهم أسقطوا الشعائر الدينية..؟
ألا ترون أنهم ملؤوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكل وسائل المجون والفساد..؟
ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب..؟
ألا ترون احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائرياً يُضفون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟)
التحريف والمتاجرة
تعرّضت ثورة الحسين عليه السلام إلى أخطر المساوئ والأضرار، وأصابها من كيد الحاقدين وفعل الجاهلين، وطمع تجار الدين والعقيدة، وطلاب الدنيا بآيات الله وشريعته وتزييف المزيّفين، وتحريف المحرّفين، أخبث فعال الخصوم في التشويه والإسقاط، وأقبحها لدى التجار (استدرار الدموع بالخرافة والزيف لنيل حطام الدنيا)، ووصل الأمر كما يقول شهيد الإسلام الخالد مطهري: أن يقتل الحسين بذلك قتلة هي شرّ من قتلته يوم عاشوراء.
وفي قضية الشهيد الصدر وظلامته الموجعة حصل من التشويه والتحريف والمتاجرة ما يحكم آصرة المماثلة بين ثورته وأسوتها وأصلها، ثورة جده سبط المصطفى.
لقد زيد فيها من الأمور ما ليس منها، وأنقص منها ما هو من صميمها، ونسب إليه ما لم يقله، ونحّي عن الأسماع من كلامه ما ينفع السامعين، واستخدم الطامعون قضيته تجارة مربحة يُنال منها الربح الوفير، واتخذه طلاب الجاه جسراً إلى أمجادهم وبناء ذواتهم، وإعمار وجوداتهم، حتى أن الكارهين له بالأمس ۔ والذين لم يكونوا يكنّون له إلا اللامبالاة أو التحفظ ۔ صاروا بحكم الحس الجماهيري العارم المنشدّ إلى الرمز الشهيد يثنون عليه، ويطرونه، ويذكرونه أحسن الذكر في وسائل إعلامهم ومنابرهم.
وإذا كان بنو العباس المنحرفون عن أهل البيت قد رفعوا ظلامة الحسين وأهل البيت شعاراً لثورتهم، يستدرّون به عطف الأمة ونصرتها فحظوا بما يريدون، فما أكثر الخطوط المنحرفة عن خط الصدر وعقيدته ورسالته التي اتخذت من ظلامته شعاراً لحركتها، ووسيلة إعلامية في جهدها الإعلامي، لتجسّد بذلك ۔ هي وكلّ من يسيء الاستفادة من الظلامة دون أن يؤمن بخط صاحبها ونهجه ۔ تحركاً عباسياً مشبوهاً خبيث النوايا.. وإن ما قيل عن حركة عدنان حسين باتجاه الاتصال بالشهيد قبل قيامه بمحاولته الانقلابية إنما هو إعادة حية للتجربة العباسية التي استغلّت ظلامة أهل البيت وحبّهم لمآربها.
الجانب العرفاني في الثورتين
لقد امتلأت ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كل فصولها بحديث العشق والشوق إلى الفناء في المحبوب، ذلك الحديث الذي كان يردده السبط الثائر مع كل خطوة يخطوها إلى المنحر المهيب، حتى أن من يسمع ذلك يظن أن فلسفة الثورة ليست سوى عملية انتحار من سعار الهيام.
وأيتمت العيال لكي أراكا تركت الخلق طرّاً في هواكا
لما مال الفؤاد إلى سواكا فلو قطّعتني بالحب إربا
ويتحدث هذا العاشق المتيّم ۔ مؤكداً قضية الهوى القدسي كدافع أساس للنهضة ۔ عن عاقبة أوصاله:
(كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء).
فمن كان يرى مصيره بهذا الوضوح لا يقدم على عمل فاشل إلا وهو مصمم على فعل يذيب فيه وجوده من أجل هدف يسترخص فيه الموت، بل يستعذبه، ويراه وسيلته ومعبره إلى غاية رجائه (ليس يخفى عليّ الرأي ولكن إرادة الله لا تُغلب) هكذا يقول لِلائميه في حركته نحو كربلاء.
ويحدو ركبه إلى المذبح المقدس في محراب عشقه في كربلاء وهو يردد ترانيم الوله والصبابة:
(القوم يسيرون والمنايا تسير معهم) و(لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي).
ويستعذب التنغم بكلمات جده في رؤياه التي رآه فيها وهو يقول له:
(يا حسين اخرج فقد شاء الله أن يراك قتيلاً) و(إنك رائح إلينا عن قريب) وكأنه يمشي بركبه هذا إلى أشهى بلغة وأسمى مرتجى.. ويقول هذا المتيّم الفذ في ضرام الوجد:
(هوّن ما نزل بي أنه بعين الله) ليبدي كيف أنه يهزأ لغرامه الفريد بكل عنائه وكروبه التي لا تتحملها الرواسي، ولا تطيقها همة الصبر وإن بلغت ذروة الاحتمال. من ير هذا يبصر الحسين صبّاً مولهاً أخذ الجوى بمجامعه فضافت عليه نفسه في عصاب الهوى، وضاقت عليه الأرض برحبها، فلم يجد متسعاً له فيها من الحب العارم إلا مذبح القربان، ومدفن سجنه الترابي الذي يحوط نفسه الوالهة بأغلاله، ويصدها عن العروج إلى سبحات التحرر في مقعد الصدق.
ويظلم الحقيقة من يحصر فلسفة الثورة في هذا المضمون، فإنما هي ثورة قائد أبيّ رافض احتمل أمانة الوراثة للمسؤولية الكبرى، فقرر أن يثاور الأعاصير الراعدة وهو يخطو في مسار الأداء.. ولأنه عاشق معمود ذائب في محبوبه وهدفه فقد طفحت ۔والإناء ينضح بما فيه۔ مكنونات الفؤاد المجذوب، واستبانت أسرار النفس الوالهة.. وبذلك القلب المشبوب وتلك الروح المفعمة استطاع الحسين أن يصنع معجزة الفداء، ومن هنا ظن المحدقون في جنبة الغرام أنها هي الداعي ولا شيء سواها.
وفي تجربة الصدر استبان عشق المدرسة الحسينية في المواقف التي سمّاها البعض انتحاراً، أو إقداماً على التهلكه، أو تسرعاً في الموقف، أو غفلة عن فهم الأبعاد والظروف.
فكيف يفسّر شغفه في أن يتوجه إلى صحن جده أمير المؤمنين ليطلق صرخات الرفض حتى تسكته رصاصة الظلم؟
وما هو تبرير العناد الحازم مع أن الطغيان في أعتى قواه؟
وما هو تسويغ الإقدام الصارخ على الإنكار والمواجهة وهو كزورق مهيض في بحر لجي هادر؟
وما هو عذر الثائر أمام منطق الأشياء ولغة التدبير حين يتحدّى شراسة الكواسر الضارية في غابة تجلت فيها بمنتهى التجسيم شريعة الغاب ويد المتحدي جذّاء لا تصاول، وقوادمه لم تنبت لتسعفه في الطيران؟
كيف لم يسمع كجده الحسين لنصح الناصحين وتحذير المحذرين الذين تظاهروا بالحكمة،وتحدثوا بلسانها، فاعرض عنهم مستخفاً كما يعرض الولهان عن أحاديث الوشاة وسمعه مشدود بنداء الوصال، وعينه واصبة التحديق في طيف الحبيب؟
على أي محمل يحمل ذلك التصميم القاطع في تلك اللهجة الصارمة: (لقد صمّمت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه مني)، وهو يرى الآفاق مكفهرة، والدروب موصدة، والأنصار قد سيقوا إلى المقاصل، ولم يتبقّ إلا الناد والمكعوم، وسيف العدوان المرهف الضمآن يتلظى عطشاً إلى نجيع مهجته الطهور، وأنياب الوحش الكاسر الغرثان تتسعر من جوع إلى لحمه كعُسلان النواويس وكربلاء؟
من هذا كله قد يرى من يقتصر على جانب العرفان في الثورة الصدرية أنه المتفرد بالدفع، والمتوحد بالتحريك، وأن الأمر إذا لم يفسر به فستكون موارد السؤال حول الثورة قائمة على حالها، ومواطن الإبهام في دوافعها مستقرة لا تزول.
ويغفل هذا الرائي بهذه العين عن أن يدير باصرته الثانية صوب التجربة الحسينية التي شابهتها التجربة الحفيدة المتأسية أروع المشابهة، وجارتها أدق المجاراة، ليرى فيها أصدق التفسير والتعليل، ففي الحسين القائد المسؤول يكمن الصدر الوارث، ومن الوله الحسيني المتضرم يفوح الربيع الطافح بالأريج في مسير الصدر، وفي فصول الظروف المتآصرة، والمحركات المتماثلة يظهر البيان الصدوق لقصة القدر الأزلي أن يكون التماثل بين يوم كربلاء ويوم النجف مكروراً بعد اعتقاب القرون المتمادية على يد الفاتح الأثير شهيد العراق.
إن خلاصة ما يقال في الثورتين ۔اللتين حيّرتا العقول بعدم ظاهر الانسجام مع الشروط الموضوعية والظروف القائمة، وطابع التصميم على تحدي الممنوع، في غير مواتاة للأسباب، ولا إمكان من القدرة، ولا محالفة من عوامل التأثير.. ودَوّختا الألباب بأنهما أبصرتا نهاية مطافيهما بعين اليقين فاجعتين بلا نظير تخسر فيهما أمة الإسلام إماماً معصوماً وعالماً فذاً۔ أنهما مسيران منطقيان يقودهما التكليف والمسؤولية العظمى، وأنهما ثورتان جبارتان أريد لهما أن تخلدا مناراً وأسوة، فكان لابد لهما من أن يصنعا ۔ ليخلدا ۔ غير المألوف، ويبديا خلاف المعتاد، ويكون فيهما.. لينبتا في الوجدان نبتة الجبال الشم ما تحار فيه الفطن من التفسير، وتذوب له الأفئدة من الخطوب والفواجع.
إنهما كانتا عمليتين فريدتين مزجتا سطوات الروح الثورية الهادرة بترانيم العرفان، وجمعتا عرامة الانفعال الثوري المقدس بأناشيد الوله للقلب الهيمان، ووحّدتا بين قصيف الرفض المدوّي في الميدان وغزليات العارف المنسابة من همس الوجدان، وألّفتا بين التعامل مع واقع التكليف ومتطلبات القيادة المستعدة لأداء المسؤولية، وبين إرهاصات الغيب وأحاديثه الملهمة التي تنبئ عن غير ما يرسمه الظاهر للمسيرة من أهداف.
قالتا للواقع إننا ننطلق مما يفرضه الحكم الأولي أو العنوان الثانوي من أوضاعك، ولكنهما احتوتا في أعماقهما على حديث آخر قاله لهما البعد الخفي الذي فرض نفسه عليهما من خلال قضية الاختصاص الإلهي، والإثرة الربانية، والقدر المحتوم الذي أبى إلا أن يكون الحسين السبط وحفيده الأمين آيتين للثوّار ومدرستين للأحرار.
دوافع الأصحاب
لقد تمازجت في دوافع أتباع الإمام الحسين للّحوق به، والفداء على طريقه أمور عدة: الوعي بالواقع الفاسد الذي يراد تغييره.
الإحساس بمسؤولية المتابعة للقائد الحق من أجل التغيير.
وروح الاستبسال على سبيل الجهاد مهما كانت التكاليف والأثمان.
وجاذبة العشق التي عبر عنها (عابس) واصفاً إياها بأبلغ وصف هو (الجنون).
لقد تجسّمت هذه الدوافع في أثناء المسير إلى مكان الواقعة الكبرى، وفي ميدان المواجهة الاستثنائية، فانكشفت سرائر النوايا ومكنونات القلوب، وتعرّت الأرواح في المحكّ العصيب، وبانت حقيقة معدنها، فإذا بها تبدّت رسوخاً لا مثيل له على العقيدة، وإدراكاً فذّاً للهدف والتكليف، وولاءاً منقطع النظير للزعيم الهمام الثائر، وولهاً عجباً إلى الفداء معه على نهجه إلى غايته.
وماثلت دوافع أصحاب الصدر أسوتها دوافع نجوم الطفّ وأبطال ملحمة كربلاء، وكان الشعور بواجب الجهاد، والبصيرة بواقع الفساد، وتصميم العطاء بمنتهى استحقاقه وتبعاته على الدرب المقدس، والفناء في شخص القائد الرباني حبّاً وطاعة وانقياداً يجسّم حقيقة التسليم المطلق، من بعض سجايا الصفوة الخيرة التي تقحّمت مع الصدر على طريق ذات الشوكة بكل الوعي بالمسؤولية، وبفرط الحب والقداسة والبطولة.
وإذا كان أصحاب الحسين قد امتلكوا الصوارم التي شفوا بها بعض الغليل من خصوم الحق والهدف الأسمى، وذبّوا بها عن حياض العشق والمعشوق، وأدركوا ولو مقدار هباءة من حجم الثأر الهائل، لكن أصحاب الصدر لم يكونوا يمتلكون إلا الأيدي الخالية، والصرخات الأبيّة المدوّية، والرفض الفذ الجاهر، والإباء الصلب المستعلن، وخاضوا لهيب المعركة بقوة الضمائر والقلوب، وروح اليقين والصمود، وفورة الوله والولاء، في واقعة استثنائية على خطى ذلك الاستثناء الكبير الذي صنعه لهم ولقائدهم الصدر سيد الأحرار (أبو عبد الله الحسين).
لقد ضم ذلك الموكب الطفي الإلهي ۔ الذي لمع في الوجود لمعان الكوكب الدرّي في سماء الحقائق الباهرة ۔ صنوفاً شتّى من المريدين والتابعين، تنوّعت بين الرجل والمرأة، والصغير الكبير، والأسود والأبيض، والمتعلم والأمّي، وذي القدم المتقدمة في الإسلام وحديث العهد به، والناصر منذ البداية، والمحامي الذي كان من الخصوم.
لقد كان هناك الـ(72) رجلاً، وكانت نسوة آل البيت وبعض النساء المناصرات، وكان إلى جانب الوجوه الحسينية الزهر لسلالة الرسول وأنصارهم وجه جون الأسود والذي لم يكن له نصيب من الحسب.. ويقف في الساحة مع الشيخ اليَفَن الكبير (حبيب) الشبّان واليافعون من الذرية الطاهرة وحماتها (علي الأصغر، القاسم بن الحسن، محمد بن أبي سعيد، عمر بن جنادة).
ويمْثل في ذلك الحدث الجسيم بضعة النبوة، وقارئ القرآن، وصاحب الجهاد، مشفوعاً بجديد الخطى على الطريق، والذي لم يعرف المسيرة إلا وهي تتقدم نحو حومة الصراع ومعانقة الأَسِنّة، بل كان فيها الحر الرياحي الذي نفذ بعض المخطط الأموي في حصار الحسين ومنعه من الاختيارات الأخرى في مناورة ثورته وحركته باتجاه الهدف.
ويقف الرضيع في الثورة من أنصارها المضحّين حيث يجعله الحسين وسيلة ضغط بارعة ورقم إدانة رهيب، فيجعله المجرمون بالمقابل أداة إرهاب، ودليل إصرار على الجرم إلى منتهى العناد.
وتتجسد في الثورة الحسينية حقيقة الدور الباهر للنصف الثاني من أتباع الرسالة ودعاتها وهو (المرأة)، فكانت شريكة في الصراع الطفّي، واختلط دم المرأة هناك بدم الرجال فيه، لقد قاتلت زوجة جنادة السلماني بعد زوجها لولا أن ردّها الإمام الحسين عليه السلام، وسال دم زوجة عبد الله الكلبي إلى جوار جثمانه.
وحملت المرأة مشعل الثورة ورايتها ورسالتها ۔ بعد أن انكسرت في الظاهر، وخمدت أصوات الثائرين بعد استشهادهم ۔ حيث أبرز الدور الزينبي لأخت الثائر جسامة المهمة الملقاة على عاتق المرأة المسلمة في خدمة الرسالة وحمل أمانتها، ومدى القدرة على أداء ذلك الدور بأفضل الوجوه، والتأثير فيه بالغ الأثر.
وفي ساحة ثورة الشهيد الصدر تجسّد لكل لون من ألوان التشكيلة الحسينية مصداق ومثال عمّق روح التشابه، وأضفى على التماثل جمالاً باهراً يأخذ بمجامع العقول التي تتملى في جلال التناظر بين عاشوراء القرن السابع وعاشوراء القرن العشرين، وبهاء التناسخ الرفيع عبر هذه الفاصلة الزمنية الممتدة. لقد شارك الصدرَ في مسيرته الدامية العصيبة أصناف تلك الكوكبة الكربلائية التي وضعها الفخار تاجاً على رأسه، وتشرّف الشرف الرفيع بطهرها وقدسها ونقاء ذيلها، وامتناعها على العيوب والمشينات.
لقد ساهم شباب الجامعات وأصحاب الشهادات بالدور الأوفر في الحركة الصدرية الفذة إلى جنب البسطاء من الناس والأمّيين، واشترك فيها الفتية الرساليون في صف الكهول والشيوخ، وساهمت المرأة مساهمة زينبية رائعة جدّدت للعصر تلك الوقفة الخالدة، شريكة الرجل في أسطورة الفداء الكربلائي، فساهمت وتحرّكت وصرخت، ومدّت يد البأس وحاولت، ووقفت في النهاية أمام المشنقة لتنال الشهادة السعيدة.
وكما كانت أخت الثائر في كربلاء وريث الراية وحامل المشعل، كانت أخت الثائر في النجف تعيد الدور، وتخرج التأسي الرائع بأرفع صورة وأدقّها في المحاكاة، وإعادة التفاصيل الغابرة الغائرة في عمق الزمن السحيق حية كأنها بنت اليوم.
واستعلن في الملحمة الصدرية نداء الذين لم يعرفوا خطه إلا بعد أن التقوه مصادفة أو مدفوعين، فآمنوا به وبنهجه، ووضعوا أيديهم في أيدي أنصاره القدماء، ليماثلوهم في البذل والعطاء.
وكثر في المسار الصدري أمثال الحر بن يزيد الرياحي من البعثيين المستغفلين، ممن أنّبتهم الضمائر، وأصاخوا لنداء الوجدان، وامتلكوا شجاعة التعبير عن الندم فصاحوا صيحة الرفض لتمتزج هادرة مع صيحات السابقين المقرّبين، ليكون المثال واحداً، مساهمة تاريخية في الموقف الكبير، وسعادة أبدية ليس لها مثيل في الكرامة وشرف الدارين.
وبرز دور الأطفال والرضّع في الثورة الصدرية حين استخدمهم الملاحدة الحاقدون وسائل ضغط وعنف ضد آبائهم وأمهاتهم، ومارسوا في هذا المنحى أبشع ألوان الجريمة، وأفظع صور الإرهاب، وقضى أولئك الصغار إلى جنب ذويهم شهداء سعداء يتلون آيات الفداء على منهج الصدر من وحي الولاء.
وكما أدى أهل المقام والشرفاء ۔ من ذوي الحسب الرفيع وأصحاب الجاه في الرحلة الصدرية إلى رحاب المجد من ذرية الرسول وسلالة الأحساب العريقة، وعلى رأسهم صدرهم ۔ دورهم السامي، كان إلى جوارهم فيه بل أمامهم أحياناً في السبق الزمني المغمورون، ومن لم يكن لهم نصيب من سجية المعروفية في مكانة أو جاه أو مقام اجتماعي، فالكل آمنوا أن الشرف الحقيقي هو الإيمان الحق، وخدمة الرسالة، وأداء الأمانة، واحتمال الأذى في جنب الله، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وأوفاهم له بما حمّلهم وائتمنهم.
القائد وموقف الأمة من النصرة
لقد طلب الإمام الحسين عليه السلام النصرة من الأمة لموقفه التغييري في حدود من استطاع أن يوصل إليهم صوته المستغيث من أجل الحق، من أهل الكوفة والبصرة ومن صادفهم في الطريق، وكان ردّ السامعين متفاوتاً على عدة حالات، هناك الطاعة المطلقة والاستعداد التام للتضحية من أنصاره الأوفياء سواءً منهم من سبق علمه به وكان له به علاقة وثيقة من حب وولاء، أم من لم يعرفه إلا في لحظة عابرة على منهل من المناهل أو في منحنى من منحنيات الطريق إلى غايته، فمال إليه ينصره، بل إن فيهم ۔ كما يروي التاريخ ۔ من لم يكن على صلة بدين الحسين؛ لأنه مسيحي العقيدة (وهب النصراني) فمال إلى دين الإسلام ليدخل فوراً بلا مقدمات إلى حلبة الصراع من أجل الخط السليم، ويقدّم شاهد الصدق على الإيمان في معركة الحق ضد الباطل نفسه الزكية، ومنهم من كان كارهاً له ولأبيه، عثماني الهوى (زهير بن القين).
وحيث انطلق مع الحسين في مسيرته تلك حديثو العهد به خذله بعض العارفين به متفضلين بالنصائح، وتخلّى عن نصرته بعض المدركين لحقيقته وأهدافه محذّرين من العواقب، وحادَ عنه الكثير من المبايعين له، ومن دعوه لإمامتهم وقيادتهم في معركة الخلاص من الحكم الأموي الغاشم.. .
وكان هناك المتفرجون الذين لم يكونوا له ولا عليه على الحياد بينه وبين خصومه، وإلى جنبهم المتربّصون الذين يأملون كعبد الله بن الزبير أن تكون نتيجة الصراع انكسار الحسين لتخلو الساحة منه رمزاً ينافسهم ويكتسح الساحة إذا حالفه الحظّ، ونال من أعدائه حيث يحب.
وبقيت الطائفة العاجزة المأسورة التي تحبه وتميل إليه بقلوبها، ولكنها بوازع الخوف تحوّلت إلى جنود مجنّدة ضده، شاهرة سيوفها مع مناوئيه، وهي التي عناها الفرزدق بقوله للحسين وهو يشرح له وضع الناس في الكوفة إزاءه: (قلوب الناس معك وأسيافهم عليك).
وكان هناك الذين أرادوا النصرة لكن الظروف القاسية منعتهم من أدائها، وحالت الحواجز بينهم وبين المثول معه في الصراع مستبسلين في الدفاع، ثم استطاعوا بعد ذلك حين واتتهم الفرصة بعد تأليبهم القاعدين والخاذلين على التوبة أن يعبّروا عن الغضب المارد على قاتليه في حركات استشهادية قد يصفها البعض بأنها انتحارية، تأجّجت فيها نار الندم على فوات الأوان، ولوعة الخوف من التقصير، والرغبة الجامحة بالعفو الإلهي، ونيل شفاعة الحسين وجدّه وآله الكرام، وقد نالت إحدى تلك الحركات ما ترجو من الانتقام، وشفت بعض الغليل من الرموز المدبّرة لفاجعة كربلاء.
وفي قضية النصرة التي أرادها الصدر لخطّه وثورته تماثلت الأجواء، وتشابهت النفوس، وتناظرت المواقف.. فوجد الصدر من الأنصار من ذوي السابقة والبصيرة به ممن أخلصوا وضحّوا، ووجد كذلك من ليس لهم به أية صلة قديمة إنما عجلان ما عرفوه فعرفوا الالتزام، وعجلان ما استشهدوا بين يديه على نهجه.
وألفى الصدر في ساحة الموقف منه من خذلوه وهم يعرفونه، وألفى من ظلموه وأغروا به وهم يدركون حقيقته، حسداً من عند أنفسهم؛ لأنهم كرهوا فكره وخطّه، أو لأنهم أحسّوا فيه المنافس الذي يخشى من وجوده على وجودهم.. وعاد في مسار الصدر المتفرجون الذين تعاملوا مع جده الحسين بلا مسؤولية، ليكون لهم ذلك الموقف مع الصدر، وعاد كذلك المتربصون الذين تتمنى قلوبهم أن يكون حتف الصدر المبكّر في صراعه، ونهايته العاجلة في نهضته.
وتجدد في التعامل مع الصدر العاجزون والخائفون الذين تحبه أفئدتهم، وترجو له النجاح في انطلاقته ليحقق لهم الخلاص، ولكنهم لا يحرّكون ساكناً في نصرة المحبوب إذا استدعت ما يعرضهم للعنت وسيف السلطة، لخنوعهم وخشيتهم، ولو دعاهم الطغاة إلى حمل السلاح في وجهه لحملوه، ومن غير البعيد أن يكون في الذين حاصروه في بيته أو استغلّتهم السلطة ضده من كان يضمر له الحب العاجز عن التجسد، المأسور للخوف والضعف.
لقد ذهب وفد الصدر إلى مدينة الثورة يطلب نصرتها بمظاهرة تأييدية، وقد سمع القائد أن له في بغداد مليوني موال وناصر، وتلكأ أحد وكلائه في تلك المدينة، وامتنع عن الإجابة وتحريض أتباعه على المنشود، ثم انعزل عن الساحة مختفياً.. ولم يخرج للمظاهرة المرجوة من مجموع الناس إلا جنيد متذائب سرعان ما أتت عليه عاصفة الحنق البعثي فلم يقاوم، واضمحلّت خطاه، وانهار مسعاه دون هدفه.
ومن الطريف في التماثل أن عدد مبعوثي الحسين عليه السلام لتحريك الثورة في الكوفة ۔ معقل الناصرين ۔ كان ثلاثة: مسلم بن عقيل، عبد الله بن بقطر وقيس بن مسهر الصيداوي، وكان هذا هو عدد الذين أرسلهم الصدر لتحريك أنصاره في مدينة الثورة للقيام بأول مبادرة ثورية على مستوى تظاهرة ضد النظام، فقد بعث الصدر ثلاثة من محبيه للاتصال بوكلائه وشيعته في تلك المدينة الثائرة، وإبلاغهم رسالته إليهم.
وقد وجد الصدر كذلك من المحسوبين عليه من يطلب منهم النصرة في مستوى الخروج وكلاء عنه للأمة عندما حَمِي وطيس نشاطه، واشتد إقبال الناس عليه، فيرفضون لحقيقة الخوف الكامن وإن تذرّعوا بالدرس وشؤونه، ورفضوا كل بيانات الصدر الشافية لهم عن ضرورة الخروج بحكم الشريعة، ومتطلبات الواقع، وحاجة الأمة، ولم تهزّهم الأمثلة التي ضربها لهم في بعض مريديه الذين استجابوا فخرجوا وأجادوا العمل.
وبقي الذين أحبوا الصدر بصدق ولكن حجزتهم عن النصرة أطواق السجون، وقيود الموانع، وحوائل المهاجر، والمنافي البعيدة، فوجدوا واجبهم أن يبذلوا وسعهم في الثأر فألّبوا محبّيه، واستنصروا للثأر أولئك الذين أعاد بهم التاريخ قضية التوابين ولقبهم، ليجسّموا في جهد الانتقام أرفع مصاديق البذل والعطاء، وخير أمثلة التضحية والفداء، ويذيقوا طغاة بغداد الأمرّين، ويكحلوا أعينهم بالسهاد، ويمزّقوا قلوبهم بسهام التبريح الذي لم يكونوا يحسبون له أي حساب.
وإذا كانت الأمة في معظمها قد غابت عن الحسين فكراً وثورة بفعل جهلها ۔ وغياب الرشد الحسيني عنها لفقدانه وسائل الإعلام التي تتحفها به، ولعوامل التضليل، وتأثير مساعي الوعاظ المأجورين لشدّها بمن يسمّونهم لها ولاة الأمر من حكامها، وتخويفها من عواقب الخروج عليهم دنيوياً وأخروياً، معتبرين كل متعرّض لهم بالنقد والبأس (خارجياً) ملاماً في الدين، مستحقاً للعقاب ۔ إذا كان الأمر كذلك فقد غابت الأمة في معظمها عن الصدر بمثل الدواعي الآنفة، فلم تتوفر له وسائل الإعلام المطلوبة ليشرح للأمة فكره التغييري، وبرنامجه السياسي، ومشروعه لنجاة الأمة، ولم يحظ رضوان الله عليه أول أمره بوكلاء له ومبلغين عنه كما يرجو في أوساط الناس يشدّونهم بالرمز، ويربطونهم برسالة القائد، ويصلونهم بأهدافه، وما يريده للبلاد والعباد من خلاص وسعادة في الحل الإسلامي الذي لم يزل الأمل الذي لا يجد له مجالاً للمثول في الواقع نظاماً مطبقاً، وشريعة مبسوطة الظل، وحتى أولئك العلماء أو الوكلاء الذين كانوا صدريّي الهوى فإنهم كانوا يتسترون في مواقعهم بالارتباط بغيره من المراجع خشية من السلطة، فلم يكونوا بحكم ذلك يستطيعون أن يظهروا الدعوة لمرجعيته، أو يمارسوا التبليغ لأفكاره وغاياته، ليدعموا معالم خطّه بالإرساء، ونفوذه بالامتداد، والدعم المالي من الحقوق التي هي السند الأساس للمرجعية واقتدار المرجع المادي.. .
نعم حين أتاحت له الظروف فيما بعد الثورة الإسلامية في إيران أن يخرج بعض طلابه ومريديه وكلاء عنه وفي حدود ضيّقة، وأن يستقبل بعضاً من وكلاء غيره ليتشرفوا بالوكالة عنه بحكم ضغط الواعين والجمهور المحيط بهم، وحين أحسّ المجرمون أن الخطر الإسلامي الحقيقي قد أوشك أن يداهمهم في الداخل ۔ مستعيناً بالدعم المعنوي من الوجود الإسلامي القائم في إيران، ومن الصحوة العارمة التي أوجدها هذا الوجود المبارك في كل العالم الإسلامي، وفي بلاد الرافدين بالخصوص بحكم العلاقة الدينية المتأصلة، والارتباط المذهبي، والجوار الجغرافي ۔ بادروا إلى القضاء على هذه الوقفة اليتيمة في مهدها، فحرموا الصدر من وسيلته المهمة (الوكلاء) للارتباط بالناس، وتوعيتهم وربطهم بالقيادة.
فما أشبه الليلة بالبارحة! وما أعجب التماثل بين جهد الحسين في إسماع الأمة ۔ولو في أوساط محدودة كلمته من خلال مسلم والصيداوي وابن بقطر لتحسّ سلطة الجور بالخطر الداهم، وتبادر إلى وأد هذا الجهد في أيامه الأولى التي رأى فيها الوجود، ونال شطراً من المرتجى، وحقق للقائد جزءاً مهماً من الهدف۔ وبين جهد حفيده السعيد في هذه السبيل، وما اعترضه فيها من الحوائل والمنغّصات.
الإيثار الفذّ
إن القيم الشامخة في الحياة هي شموسها الساطعة الهادية للنفوس في دياجير المسيرة البشرية، وإن المعاني السامية للفضائل هي كؤوسها الدِهاق التي ترتوي منها الضمائر الضامئة إلى شربة الإشراق في السمو الإنساني، بل هي معارجها الفريدة التي تظهر عليها لتطّلع إلى كبرياء الإرادة، التي اصطفى بها العليم الخبير هذا الإنسان ففضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيّناً امتاز به من دونهم بالقدح المعلّى للشرف الأسمى.
وكلما استدعى نيل المحامد الخلقية وشرفها وسام الصدق ۔ فناله من طلابها الحافدين إلى ذرى المعالي بالتضحيات ومآثر البذل ۔ كان ذلك ادعى إلى استجلاء سر العظمة في النوايا الرفيعة، والهمم المتعالية المشرئبّة إلى الأفق الأعلى دوماً.
وإن لم يكن الإيثار أسمى الخصال في قاموس المحاسن الآدمية فهو في الساميات منها، المتربعات على عروش الإعظام والإكبار، يهفو إليها الإلهام العملاق يطوف في رحابها، غارقاً في سبحات النور والعبير والشعور.
وإذا كان الإيثار أن تؤثر غيرك على نفسك بالنفيس لتكون سيداً بالفضيلة الرافعة، فإنك إذا آثرت سواك بنفسك فذلك ما لا تبلغ شأو علاه غاية سعي الخيال النافذ، ومنتهى اقتدار الفطنة في اكتساح أغوار الحقائق، والامتداد في مدياتها لبلوغ عليائها.
لقد آثر الحسين في ليلة الخلود قبيل ساعات من ملحمة العلى غيره من أتباعه على نفسه، ورجّح حياتهم على حياته وهو في أمسّ الحاجة إلى الناصرين والحماة والأعوان ومن يذبّ بهم عن نفسه وحرماته، حيث احتوشته عسلان الفلوات لتقطّع أوصاله، وتملأ أجوافها من لحمه، إنها ساعة لا مثيل لها في ساعات الزمن مذ أنجبته الحركة وإلى يوم الناس هذا، ضمها إليه من لدن أن بزغت من فجر العجائب الحسينية ولا يزال يشم فيها عطر الكمال والبهاء يتأرج من ربيع النبوة، التى ورث منها سبط أهل بيتها عصمة الإلهام وسداد الموقف.
ما أروعها تلك الساعة التي جمع فيها الحسين أصحابه ليقول لهم على زجل ملائكة الدهشة والإعجاب، وخشوع الكون المصغي برعشة الوجدان المجذوب:
أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً.. ألا وإني قد أذنت لكم، انطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري.
ويكرر الحسين هذا المشهد المعجز أمام جون حين يقول له: (أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا للعافية، فلا تبتل بطريقتنا).
ويطلق صيحة الإيثار أمام بني عقيل فيقول لهم: (حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم).
وتمر الساعات في إطواء القرون لتعلن تلك الساعة الشريفة عن ظهورها الباهر على يد الفاتح المجدد سيد شهداء العصر، في موقفه الإيثاري الذي كشف فيه عن طهر نيته، وسمو غايته، ورفعة شعوره، وجلال نفسه الزكية ۔ حين توسّم الشر في مكر الجلّادين عندما رفعوا الحصار عن بيته مؤقتاً ليصطادوا به أولياءه الذين يجذبهم الشوق إلى زيارة زعيمهم وحبيب قلوبهم، وحيث كان هو واهب الحرية، وأستاذ الجيل في درسها، يتوق إليها ليخرج هو وأهل بيته من أغلال الجدران في سجن الدار ۔ يحس أن في غُنْم حريته غُرْم أحبّائه وعاشقيه، وأن راحته أمست أحبولة الجناة يظفرون منها بأنصاره، من هنا أمر بإغلاق باب داره عليه ليديم على نفسه الحبس؛ إيثاراً فذّاً لا مثيل له في المكرمات، وتضحية بهية توحّدت بوسام الشرف الرفيع. وقد أصرّ العادون على أن يبقى الباب مفتوحاً لغايتهم الدنيئة، فأصرّ هو على غلقه لغايته العلية، وقطع دابر الشر الذي يحيق بأصحابه.
ويشرق علينا من أفق الإيثار الصدري بدر من بدوره النيرة بهالة ساحرة من الشموخ ۔حين يعلن الصدر لإمام الثورة الإسلامية وقائدها في إيران أنه (الصدر)۔ وهو عملاق الفكر الإسلامي، ورائد الصحوة القرآنية، وأسد الثورة الإيمانية، وزعيم التيار العامل في العراق، وصاحب الأوسمة الباهرة ۔ يضع وجوده الفذ هذا في خدمة وجوده الكبير، هذا حيث نعلم أنه قلما وجد عظيمان لم يعصمهما الله قد ضحّى أحدهما للآخر بكيانه، أو توفّر عالمان أو مرجعان أسنى الواحد منهما لصاحبه، أو مدحه في حياته وأشاد به، أو رضي أن يعطيه سلطانه وامتداده، أو يتنازل له عن شيء منه، أو لا يغتاظ إذا أحسّ بأن شيئاً منه يفوته لغيره، أو أن سواه يزاحمه عليه لا بالعمد بل بطبيعة الامتداد العلمي، وبحكم توجهات الناس نحو الأعلم والأصلح.
نعم، طالما كان هذا، وشذّ عنه في النوادر السنية والاستثناءات الفذة رائد الإيثار وأسوة المضحّين بأرفع ألوان التضحيات.
وقد أمر الصدر أتباعه ومريديه أن يذوبوا في الإمام الخميني، كأنه يتنازل عن حبهم وتأييدهم وقلوبهم التي تسبح في فلك هواه لذلك الزعيم المنتصر، رافع الراية، ومبسوط اليد، ولم يكتف بأن يقول لهم: (أحبّوه) بل أراد منهم ما لم يرده لنفسه، ذلك هو الذوبان.
يطلع هذا الوجه الرائع للتضحية والعطاء الوتر من علياء الكمال الصدري ليسحر القلوب، ويبهر النفوس، بل يدوّخ العقول، ينضاف إلى روائعه التي هي نشر الربيع، وزهو ريح الصبا، وهمس الندى في توالي الدجی، بل لذة العاشقين في السَحَر المهيب، وسكرة العابدين في نجوى الحبيب.
وتباري فرس الرهان هذه في مضمار الأمجاد الصدرية أفراس شموخ أخرى توشك أن تسبقها لتفوز بالجائزة السنية، فهو رضوان الله عليه بدلاً من أن يطلب من قيادته النائبة ۔ التي عيّنها في حياته لأنه مضح يطلب الشهادة وينتظرها لحظة بعد أخرى ۔ أن تبقى مكانه في أرض الوطن الملتهب، ليخرج هو إلى أرض الأمان يصدر البيانات، ويوجه الرعيل، ويسدّد الخطى، ويبقى للمسيرة والفكر والعبقرية يهبها من عطائه ما يغنيها بأشهى المراد، يطلب منها بدل ذلك أن ترحل هي إلى الظل الآمن تتربص يوم استشهاده لتؤدي ما يلزمها قبل ذلك وبعده؛ لأنه يرى أن القتل على طريق النصر مصيره المحتوم الذي طلبه مصرّاً بالمجاهدة الدائبة العنيدة، ورآه عياناً في تصميمه، وإلهامات القلب المتصل بفيوض الرشد والسداد.
أين من هذا الفداء والإيثار المذهلين بروعة التعالي كل ألوانهما في طول التاريخ وعرضه؟
وهل كان الأنصار والمؤيدون إلا جُنّة القائد ووقاءه؟
وهل كان القادة في الأغلب إلا وراء الدرع الحصينة من المريدين تحوطهم من الشرور، وتحميهم من الغوائل؛ لأن عليهم أو لهم على الأقل أن يبقوا ليديموا الصراع بفكرهم وحنكتهم وتدبيرهم؟
عقدة النقص في دوافع الأعداء
حين تعدّد المباعث الخفية والعلنية التي تكمن وتظهر وراء قبائح الأفعال وعظيم المنكرات والجرائم التي جرت في التاريخ ضد الأخيار والمصلحين، والرموز الكبيرة والشخصيات الرفيعة، وأصحاب الكمالات الباهرة، تكون عقدة النقص، ويكون الإحساس بالحقارة أهم العوامل المستورة الكامنة في أعماق اللاشعور، والنابتة في مخابئ النفس وأغوارها البعيدة المختنقة بظلمات الشقاء المرير، المتوفزة للتفجر المدمّر بصواعق الحسد المغيظ، والحنق البغيظ، والكراهية المسعورة لكل خير وجمال.
وتتبدى هذه الحقيقة في تاريخ الصراع الأموي الهاشمي، وتتجلى بأفظع صورها وأعلاها في الانفعال المناوئ الذي باء به محمد المصطفى من أبي سفيان، ويمتد هذا الداء الذي استطاع النبي أن يكلّس جرثومته بمادة المقاومة الضارية، ليظهر بعده في فرصة سانحة سمحت فيها لتلك الجرثومة أن تعود في بيئة الأوضاع التي تبدّلت، وعاد تأثيرها من جديد، حيث تعطلت كريّات الجهاد البيض عن الدفاع، واكتسحت الساحة غمرة الأوساخ الجاهلية التي أرجعها الحزب الأموي من جديد من مزبلة التاريخ، هناك حيث دفنها رائد التوحيد ومنقذ الأمة من عمايتها وشقاوتها.
وتشتدّ ضراوة البلاء العائد في الأحقاد التي رفعت شعاراتها جاهرة تنادي بثارات بدر، وتكشّر عن أنياب الغيظ على الغريم القديم الذي أذال مجدها، وأهان كرامتها، ووسمها بميسم (الطلقاء) وجعلها التابع الذليل ردحاً من الزمن.
وكانت حماقة يزيد شجاعة جريئة إذ أبدت المكنون، وأزاحت الستر عن الخبيئة، وكسرت طوق الحذر من المكاشفة، وأزاحت أثقال المصانعة والتدليس والإدهان مع الرسالة، فعرّت النفاق المضمر، وفجّرت الضغن المكبوت، وأبدت الحرب الصراح البواح.
وليس ينسى يزيد وأزلامه ۔ كما أبوه وجده ۔ ذلك الانكسار الأموي التاريخي أمام النصر المحمدي الهاشمي الأغر، ولا يغيب عن باله العاهات النفسية والجسدية التي يكابد عصابها هو وآباؤه ومن على شاكلتهم من لفيفهم في مقابل تلك المحاسن النفسية المشرقة، وأفانين الجمال الروحي والبدني التي تمتّع بها رموز الخط المناوئ، ولم يكن يملك هو إزاء أزّها الدؤوب الواصب إلا أن يجسّد التفاعل معها، والانسياق لها بمصداق الطواعية التامة المنسابة انسياب الماء في منحدر إلى واد سحيق.
وتجددت في دواعي الوقفة الطاغية لجناة العصر ضد رائد الأمة في العراق (الصدر) قضية العقدة الرهيبة (عقدة النقص) في أشخاص لم يكونوا إلا حثالة من كل زريّ ذميم من الساقطين والمنحطّين وذوي المستويات الرديئة في كل ما يتمتع به البشر الأسوياء من مزايا وصفات مقبولة، فأنت ترى ثمّة النسب المشبوه، بل الذي قامت الأمارات والإشارات على فساده فصاحبه دَعيّ، وتجد هناك السقوط الأخلاقي كأن هذه الزمرة الماجنة فيه جراثيم تسبح في مستنقع أسود، وتلفي في هذا الحضيض الجهل والحماقة والانحطاط في شأن العلم الثقافة والمستوى الدراسي.. فكيف تفعل مثل هذه العصابة لتنفّس عما في نفسها من كراهية الحياة الفاضلة، للنقمة من كل خير وفضيلة وكمال؟
وماذا يمكنها أن تصنع وهي تبصر بعين قبحها وبشاعتها الذاتية ذلك الجمال الخلّاب في الشخصيات الرفيعة التي تزيّنت بنجوم القيم، وكواكب الأخلاق، ودراري المعاني المحلقة في سماوات الإلهام الممتدة؟!
وماذا تصنع وهي البغيضة الشوهاء إزاء الصدر حبيب القلوب وآسرها بكمال نفسه، وحسن خصاله، وشرف محتده، وجلالة أصله، وشموخ شخصيته بالعلم البارع، والفهم الرائع؟
وكما عبّر الناقصون المحنقون الذائبون في مصهر الحقارة من بني الشجرة الملعونة ۔عن مصيبة بواطنهم المدخولة، وقلوبهم العليلة بمنتهى القسوة على أهل الكمال۔ كذلك بادرت سليلتهم عصبة الشؤم والرذيلة بفرط غيظها على الخير الذي لا تجد لديها شيئاً من نسيمه العابق، ولا شروى نقير من وجوده الكريم، فصبّت أحقادها البركانية من خلال الانتقام من الأخيار الذين أكرمهم الله بكرامة الدنيا والآخرة.
وقد تحدّث هؤلاء المعذّبون بصغارهم وسقوطهم عن قبحهم الذاتي بلسان بعض الأمور التي تفوق كنايتها صراحة المباشرة في لمس المعاني، فنمقوا ظواهرهم بالرتب المزوّرة، والشارات المفتعلة، وأعطوا أنفسهم ظلماً وافتراءً علقة النسب الأرفع بالدوحة النبوية، وزيّنوا أشكالهم المقيتة بالأصباغ، وسعوا قدر جهدهم لإرضاء العقدة المذكورة بإذلال الشرفاء، وإهانة الوجهاء، واحتقار ذوي الكرامة، ومعاملتهم بكل سوء، وممارسة البطش بمن لا يعير لهم الاهتمام الذي يروي ظمأهم في رمضاء أرواحهم الحقيرة، وهاجرة قلوبهم السافلة، وكلما ازداد الإعراض عنهم زاد النكال منهم؛ مدفوعين بتلك العقدة التي تريد أن تفرغ شحناتها من خلال واقع يرضيها ولو كان مصطنعاً، وكمالات تتبدى بها ولو بالشكل والظاهر، ومناقب تُطرى بها ولو كانت زائفة مدّعاة، فالمهم لديها أن تخرج من قائمة من تقتحمهم العيون، وتزدريهم الأبصار، وتترفّع الشفاه عن نبزهم لحقارتهم، ويعاملون بالإهمال كما سقط المتاع، وتوافه الأشياء.
فن الثورة
لقد طلع الإمام الحسين على الأمة بشيء جديد في عالم الممارسة للمسؤولية، وحمل الأمانة، والتصدي القيادي، ألا هو التدبير للثورة المقدسة، والمبادرة إلى قلب الأوضاع بالعنف الثوري، والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس في المواجهة ضد الطغمة الحاكمة، وضرورة العودة إلى حكم الله، وإقامة النظام الحق، وقيام العالم الرباني البصير ببذل قصارى الجهد من أجل توعية الأمة، وتوجيهها ودعوتها إلى تحمل أعباء التكليف الشرعي مع أخيارها وشرفائها لتصحيح الأوضاع، وإعادة الأمور إلى نصابها.
وحين وجد الحسين فرصة التحرك والناصرين أحس بأن التكليف يملك زمامه بقوة الوجوب والإلزام، فبادر إلى اغتنام الفرصة، وإجابة الموالين وطلاب الخلاص بالتأييد والرضى والتصدي معهم، والأخذ بقياد المبادرة في عملية الثورة التغييرية، وبعث رسله إليهم بعدما كاتبوه وجاءته رسلهم لتشرح له الأوضاع، وتبيّن له الاستعداد، وتعطيه صدق التوجه المفعم بروح الولاء له، والعداء لخصومه، وحبّ البذل على طريق المواجهة الحاسمة.
ومن هنا أعطى الحسين تاريخ الأمة بعداً جديداً كان لابد له منه ما دام الانحراف الأموي المتربص بالرسالة منذ عهد النبوة قد وجد الفرصة سانحة ليعيد أمجاده المذالة بيد القهر المحمدي الفاتح.
وأشرع الحسين الباب على مصراعيه للثوّار ليدخلوا حلبة الصراع الثوري مع الطغاة بعدما ضرب بعصا فدائه وفتحه المقتدرة صخرة الواقع الهامد ليفجّرها عيوناً من الوعي والجرأة والتحدي والاسترخاص واليقين بالنصر وبلوغ الإربة الشريفة، من خلال صبّ زيت الدم المقدس على هيكل الانحراف ليقدح فيه زناد الثورة، فيحول المشهد إلى لهيب لا يعرف من يغشاهم سبيل النجاة من غلوائه.
وعلى منحى الإمام المجدد الفاتح الباعث للتاريخ، كان سليله الذي أبى إلا أن يقرّ عين أبيه بعمق التأسي وصدقه، فيكون مجدّداً وفاتحاً أيضاً، ويطلع على الأمة بشيء جديد ينال فيه شرف الخدمة الرسالية في أدقّ صورها وأبهاها وأخطرها وأكثرها عرضة للطعن والنقد والمخاطر من الجهل الأحمق، والعبادة الرعناء، والنسك المتهتك، والمواجهة الحامية التي يخوضها الكفر الطاغي ضد هذا الخط المقدس الأصيل الذي يجسد عصارة الهمّ الرسالي، وروح التغيير المحمدية، وبسالة الصمود العلوية، وعطاء الفداء الحسيني.
لقد رأى الواقع في الصدر الملهم منذ بواكير همومه الرسالية مفاجأة التصدي السياسي، والعزم على المواجهة للانحراف بالأساليب المدروسة، وطرق المقاومة والنفوذ التي تناسب المرحلة الجديدة من استشراء الغيّ، وبفنون النضال والسعي الدؤوب لبلوغ الهدف وهو استلام زمام الحكم، وبسط الإرادة، ومن ثم تنفيذ المشروع السياسي المرسوم، في إفادة ذكية من الفن الحركي الذي جرّب الواقع نجاحه الباهر، فتوجّه الصدر لتنظيم صفوف الأمة من خلال إطار سياسي سرّي ينتمي إليه في البدء طليعتها وشبابها والواعون والمثقفون فيها، يمتدّون خلاله إلى كل جسد هذه الأمة بثقافتهم، ومشروعهم الإلهي عروقاً نابضة بدفء الوعي والبصيرة والتسديد والشد الرسالي الواثق الحكيم، وإنهاض الهمم الإيمانية، وبعث الروح الحسينية الثائرة على درب التغيير، وإنارة العقول بأضواء التاريخ الإمامي الذي أشرقت فيه الفصول الخالدة من حياة أئمة الهدى أنواراً على طريق الثورة، وممارسات كاشفة على المسار المطلوب من أخيار الأمة سلوكه في زحمة المسارات ومتاهاتها؛ فإن الصدر المسدد بعمق الوعي، المتسلح بروح الفهم الواقعي لمضمون الرسالة، المتدرع بجبال التصميم على أداء التكليف، المتربص على جناح نسر للانطلاق، والمتأهب على حشا بركان للوثبة، قد طلع على واقعه بفكرة التغيير من خلال أرقى أساليب العصر في العمل السياسي التغييري بعد أن شرح رسالة ثورته التي تصل الدين بالحكم، والشريعة بالسياسة، والعلماء الواعين بأزمّة القيادة، بعد كفاح الممارسة الاستقطابية، وطرح تاريخ الرسالة كله على أنه تاريخ ثورة تغييرية نجحت في فصلها الأول من حركتها في الظهور المقتدر المهيمن، ثم عادت إلى الفوران الثوري المتصدي للانحراف، والساعي إلى قلب الأوضاع، ووضع المسيرة على سواء الصراط.
لقد أعاد الصدر الثورة الحسينية بروح العصر وأساليب الزمان، على قاعدة (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) فلا تأتي الحكومة الإسلامية إلا من حيث أتت حكومة الطاغوت، وأن للعصر أحكامه، وللزمان ظروفه الموضوعية، وللحياة إلزامات تجددها، واستحقاقات تطورها.
وجدّد الصدر فورة الدم الكربلائي، والتصميم على الفداء، وألهب حماس الشهادة، وحجّم مفهوم التقية إلى أبعد حدّ، بل حذفه عند غلو الباطل، وانزواء الحق، وأعطى فكرة الانتظار لوناً جديداً من التفسير الذي يجعلها مفهوم حركة دائبة في منهج الوعي والتبصير وإعداد الأمة للفتح الأكبر من خلال فتوحات إسلامية ظافرة هنا وهناك، حتى تتجلى الأرضية المناسبة التي يجد فيها رائد الظهور الموعود شروطه الموضوعية المطلوبه للطلوع من أفق الفرج المرتقب بالظفر الأعظم الذي تمتلئ به الأرض بنور الله وعدله بعدما ملئت بظلمات الجاهلية الجديدة وظلمها.
الحصار
مما تنوح به ورقاء المظالم ۔ فتخلق بمشاعر الحزن اللاذع إحساساً دفّاقاً بالشجى في الصخر الأصمّ ۔ ظلامة الحسين الوتر، وما فيها من تفاصيل المأساة الخالدة التي كتبت عنها الأسفار الكبرى بعدما مشى بها ركبان الزمن، وحدت مواكبها الأسيانة المتلفعة ثوب الشجن الأسفع، المنطلقة من بحر الغم وتيار الألم، تطوف بها على عوالم الشموخ والكبرياء لينحنيا أمامها بكل إجلال وإكبار، ويبرز في فصول تلك الملحمة العظمى فصل الأسى للحصار في فلاة الوحدة، والجعجعة الرهيبة إلى مكان المساومة بين عز المنحر وذل الأبد، وبين الخلود رمزاً للإباء والفخار أو الارتهان بخزي إقرار العبيد، وأسر العار والشنار، فقد منع عن الحسين كل مدد وعون، وضرب حوله طوق العزلة، وحاصره الحر الرياحي مانعاً إياه عن كل اختيارات الموقف، مسلّماً إياه لإرادة الظالمين ورغبتهم.
وكان في أفجع ألوان تلك اللوعة ۔بعد احتياشه محصوراً في كربلاء، وترويع عياله۔ قصة القتل الذي سجّل بالبشاعة مقاسة إلى عظم الشخصية وقدسية هدفها نكسة الإنسانية في مصداق النزق الذي تفرّد في كربلاء بالغُلْب في مضمار الاستباق، وتكون النتيجة من مقدماتها فصلاً من أقبح الفصول في تلك المأساة، حيث يكون جسد السبط الحبيب لُقى بين أيدي الوحوش الكاسرة تعبث فيه بمنتهى السبعية وضراوة العنف، وتحمل رأسه ورؤوس أصحابه تدور القبائل والمناهل حتى تضعها بين يدي عتاتها، تطلب سَنيّ الجائزة وشهيّ النوال.
ويدفن بضعة المصطفى وريحانته وحيداً بعيداً عن أيدي أحبّائه وأوليائه، والنظرة الأخيرة من آله ومريديه، وعبراتهم التي يخففون بها منسكبة لوعتهم، ويطفئون نار حسرتهم لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وأنى لهم؟
لقد لقي الصدر في مأساته التي أجادت المواساة والمحاكاة، من أقسى ما لقي الحسين مثيلاً ونظيراً، لكي تعاد المشاهد الحنظلية في مذبح الفذّ زين المجددين، وتسترجع الأيام والأجيال من حافظة التاريخ نسخة العلقم ليتجرّع كأسها على مرأى العجب والانبهار قدوة الصابرين.
لقد حاصرته زمرة الغي حصار أسوته، وجعجعت به حتى صيّرته حلس البيت سجيناً مع عياله المروعين، ينتظر القرار الأرعن، ومنعت عنه كل المسارب إلى أنصاره ومحبيه، وضيّقت عليه بالخنق حتى عاد ومن معه من أهله بين أطواق الجدران تكبّلهم أغلال الحبس والتعتيم، وتمّت كلمة التشابه صدقاً في التناظر، وعدلاً في المجاراة، حين تمثّل في مقتل الصدر ۔ كما حكته الرواة، وصدّقه بعض دلائل المحسوس، وقامت عليه شواهد السجية العدوانية الفريدة، لدى جناة التاريخ في بغداد ۔ صدى عمق الفاجعة الطفّية التي شاء صمود الصدر وفداؤه أن يعطياها حقها من الفهم بالتذوق، وأن يقدّراها حق قدرها بالتجسيم الماثل.
فقد عذب الصدر عذاباً نكراً إمعاناً في إيجاعه وإيلامه، بعد أن رفض الشروط المذلّة، وداس بقدم الاستخفاق والصبر مساومة الطاغين مفضّلاً الموت بكل قسوته على أن يعطى بيده للظلم، وأن يقرّ له بلسانه، وينيله بعض ما يشتهي من رائد الركب، وقائد الفتح، وماتح حياض الشهادة، وعنوان الفداء.
وإذا كان الحسين قد رأى ملامح العدوان الذي سيحيق بأهل بيته وحرمه من بعده بالأسر والسبي والتوهين في بعض مظاهر التعرض لهم عند صراعه غير المتكافئ في ساحة المقاومة، فقال للجناة: (امنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حياً). وأبصر الحسين من ذلك ومما هو كامن وراء الحجب ما ينال عياله من ألوان العدوان الذي لا تحكم عرامته أصول، ولا تحدّ شراسته حدود، (شاء الله أن يراهنّ سبايا) فقد رأى الصدر مثل ذلك بالملامح والتوقعات قبل أن يبصره بالواقع المحسوس، حين تعرض أخته أمامه بعد اعتقالها للمساومة والتركيع والإذلال، وإذا كانت الجناية الأموية قد غفلت فأتاحت لزينب أن تؤدي دور الوراثة لرسالة الثورة، فإن جناية العفالقة استفادت من الدرس الأموي فقطعت لسان زينب الصدر مع قتل أخيها، ومنعتها من أن تجدد المهمة التي كانت تتمنى أن تعيد فيها للوجود مرة ثالثة عظمة الموقف المهيب للبوة البيت النبوي عقيلة بني هاشم بعد شهادة أخيها العظيم، وتكرر موقفها هي (بنت الهدى) في تلك الصرخة الهادرة أمام أزلام السلطة عند اعتقال أخيها في رجب، وأمام الأمة في صحن أمير المؤمنين وحرمه الطاهر.
وأعاد التاريخ ۔في فصول البغي المتكررة تكرر فصول المقاومة، وعناد المضحّين الأباة۔ مسألة الدفن، حيث توارى الجثمان الطاهر لرمز الفداء ومفجّر الثورة في ظروف وأحوال أشبهت تلك التي أحاطت بمواراة محتده وأصله جسد الشموخ لسيد الشهداء، فقد دفن ذلك الجسم الشريف على أيدى جماعة مجهولة، وفي ذلك الخفاء والبعد عن الأضواء، وكتمان التفاصيل، ليبقى الهمس والاحتمالات والأخبار، والأحاديث ۔ التي تدور في المحافل حول دقائق الدفن ومكانه والدافنين ۔ تتملك ساحة هذه القضية لتعمّق لوعة المأساة، وتزيد في نار الأسى والأشجان، وتستدرّ العجب من المماثلة البارعة بين أمس الغابر في القرن الهجري الأول واليوم الموصول الراهن في القرن الرابع عشر.
وإذا كان قبر أبيّ الضيم قد صار مهوى الأفئدة ومنارتها ۔ لأنه ضمّ المشعل المنير، وظلّ مخيفاً خصومه الجائرين؛ لأنه احتوى مع الجسد الكريم رمز الثورة الذي يشعّ إشعاعه الذرّي من خلف أعتى الحجب والستور ۔ فقد تعرّض للعدوان المذعور بالرقابة والتخريب، ومحاسبة الزائرين، والنكال بهم حتى بقطع أيديهم، وعلى سجية ذلك القبر الشريف كان قبر الحفيد السعيد ولنفس الدواعي موضع حيطة الظالمين مما يهمّ بهم منه من روح الثورة التي لم تخمد فيه مع البدن الزكي؛ لأنها لا تموت، فقد وضعوا العيون عليه رغم أنهم غيّبوه عن الناس، حيث إن عشق القلوب الوالهة قد دلّ المتيّمين على التراب الذي احتضن جثمان معشوقهم، فزاروه في الخفاء الآمن من عين الرقيب، وعبّروا عن بعض الصدى لسخطهم العارم بشعاراتهم التي تركوها قرب الضريح ضد الجناة المارقين، وزاد المجرمون في طمس معالم القبر، ومحو آثار القبور المجاورة إمعاناً في التضييع والتمويه.. وبهذا تمّت المشاكلة المقدّرة بين السبط الشهيد وولده الصدر حتى في هذه المفردة من مفردات الظلامة.
لقد أوشك أن يتماثل الأمدان ما بين الإحاطة العسكرية الشاملة بالحسين وقطع الماء عنه في السابع من المحرم ۔ والتي تحكي عملية الاعتقال لبدء المساومات، وكذلك الاعتقال للصدر لنفس الغرض ۔ وبين الإجهاز عليهما وتركهما جسدين قد مثّلت بهما الأحقاد الجاهلية أبشع تمثيل.
وإذا كان الحصار الحقيقي للحسين قد ابتدأ بعد هلاك معاوية في الخامس عشر من شهر رجب حيث طولب بالبيعة ليزيد على رعود الوعيد والتهديد بالقتل، فإن زمن الحصار هذا يكاد يتقارب بشهوره مع زمن الحصار الذي تعرض له الصدر في السابع عشر من شهر رجب ممتداً إلى ساعة عروجه الملكوتي، وتتماثل في الحصارين معاملة المحصور مع محاصرية، فالحسين أكرم الحرّ وجنوده المجعجعين، وسقاهم الماء في حرّ الهاجرة، وأغاثهم وعاملهم باللطف، وعامل خصومه في كربلاء بسلامة القلب، والحرص على خيرهم ونجاتهم، وكان الصدر كذلك مع محاصريه، وقام بنفس ما قام به جده العظيم تماماً لتكتمل المشاكلة في كل سجايا الكرامة.. .
وإذا كان الحسين عليه السلام قد ذاق في شبوة الحصار لوعة الحرمان من الماء ۔ الذي استغلّ الظالمون صدّه عنه وسيلة للضغط والتنكيل ۔ فإن الصدر على شاكلة أبيه ذاق تلك اللوعة حين صرف عنه الماء أياماً طويلة عانى فيها ومن معه في المحنة من مرارة الحاجة إلى ضرورة من ضرورات الحياة، ولولا ما حفظه (الخزان) الصغير في البيت، فقضى به موارد الاحتياج القصوى كالشرب والوضوء لكانت الفاجعة في هذا المورد من عذاب الحصار قد وصلت إلى مدى الموت على الظمأ، كما حلّ بالحسين الذي أضناه قطع الماء عن عياله وصغاره ولم يتبقّ لديهم إلا النزر اليسير في القِرَب يقضون به حاجاتهم حتى نفد مؤذناً بخطب الظمأ الحازب.
وإذا كانت غُبْرة الصراع الطفّي قد انجلت عن الحسين الصريع ۔ الذي لم يترك من بعده إلا ثقله من النساء والصبايا وقرة عينه الابن الوحيد الذي أنجاه الله في فورة النزال بمرضه على مشهور التاريخ ۔ فإن غبرة الصراع المتجدد بين الصدر الوارث لظلامة أبيه وبين جناة بغداد ورثة الظلم الأموي قد انجلت عن الصدر القتيل الذي ترك من خلفه حَشَمه وحرمه المروعين، وفيهم ابنه الوحيد الذي نآى به عن بطش الظالمين صغر سنه وحداثته.
محاولة الاغتيال
كان أمراً قديماً متمادي العمر ۔ منذ كان الحكّام المستبدون يجهدون في الخلاص من خصومهم ۔ أن يتمّ إخراج المناوئين من ساحة الصراع التي يخشاهم فيها أعداؤهم خوفاً على عروشهم، بالقضاء عليهم غيلةً ليحجب ذلك حجباً أبدياً عمن خافوهم كل هاجس مرير ينغّص عليهم راحة الملك، ويكدّر صفو السلطان، وكان هذا الحل أقرب إلى مشاكل أهل القدرة من أي حل سواه، وكان الاتكال عليه أشد عندما يكون منازعوهم روّاد الرسالات الإلهية، وقادة الأديان وهم الرسل والأنبياء وخلفاؤهم المهتدون، فالخطر عليهم من الدين خطر استئصالي؛ لأن سياسته هي محو الطاغوت، وإقامة حكم الله، وإزالة الجبابرة، ووضع الهداة المصلحين مكانهم.. وما أكثر ما نحّي الهداة والمصلحون ۔ ومَن تابعهم متابعة المسؤولية بعمق الوعي والجهاد ۔ عن طريق الجناة المجرمين بتلك الوسيلة الناجعة الهادئة، والتي لا تكلّف السلطان غالياً، وتجعله يستتر بها حجاباً مجدياً في إخفائه عن عين الرقيب، ويحتمي بها درعاً واقية من سهام الاتهام، وتفسح له المجال حتى أن يبهت أعداءه ولو من أنصار أولئك الأخيار بأنهم وراء ما حصل.
وفي الإسلام كِيد الرسول بذلك الكيد، وأنجاه الله منه، وإن قيل: إنه قضى مغتالاً بالسمّ الذي دُسّ إليه في ذلك الزاد الذي طعمه في خيبر وتأخّر تأثيره لقلة ما سرى منه إليه بعد أن ألقى تلك الذراع من فمه قبل أن يبتلع منها شيئاً.. وقد روي عنه صل الله عليه و آله أنه قال في نزعه: (ما زلت أجد أكلة خيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري).
ولكن أهل بيت النبوة (أئمة الهدى) كابدوا من ذلك البلاء مرير المكابدة، وقد تمّت تصفيتهم به إلا الحسين عليه السلام حيث كتب الله له أن يكون صانع ملحمة كربلاء بتلك الفاجعة التاريخية، والقتل المروع بتلك الصورة الفريدة، بعد أن أوشك أن يكون رميّة سهم الظلماء، وصريع اليد الخفية، وضحية الاغتيال، عندما استهدفه الأمويون بتلك الأحبولة وهو لا يزال في مكة، لكنه أدرك المكيدة فتدارك الموقف، وعجّل الرحيل، قاطعاً شوط الحج بالعمرة، متلافياً أن يكون قتله في حرم الله أداة انتهاك لحرمته.
وقد بيّن؟س؟ هذه القضية لأخيه محمد بن الحنفية قائلاً : (قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت).
وحينما سأله الفرزدق في الطريق (يابن رسول الله ما أعجلك عن الحج؟) قال عليه السلام (لو لم أعجل لأُخذت).
وذكر عليه السلام هذه القضية أيضاً لواحد من الذين التقاهم في الطريق إلى كربلاء وهو أبو هرّة قائلاً له:
ويحك يا أبا هرّة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت.. .
وعلى سبيل المناظرة والمحاكاة الكبرى التي كادت أن تكون مستوعبة تعرض الصدر المتأسّي إلى خدعة الاغتيال في الشارع وفي بيته، وأبى الله بلطفه ذلك كما أباه للحسين ليكون القتل الصراح المباشر بجرم الثورة كرامتهما وفخرهما، ولواء الأباة الثائرين على خطّهما.
الغضب الإلهي للظلامة
وعد الله رسله وأنبياءه وعباده المقرّبين من دعاته وحملة أمانته أن ينصرهم بالحجة والبرهان، ويظاهرهم في حومة الميدان، وأن يعلي كعبهم بالبينات والآيات، ويظهر فلجهم بالنكال والنقمات، وقد قدر الله غضبه لبعض أوليائه الموتورين يصبّ جامه من بعدهم على من نصبوا لهم العداء، فأبسلوهم دون حياض غاياتهم، وحالوا بينهم وبين أداء أماناتهم، ليعزّهم منه بأوسمة الكرامة، ويذيق خصومهم حَرَّ العذاب وفرط الندامة.
وعلى منهج التأييد الإلهي لخلفاء الرسل وأوليائهم المقرّبين على طول الخط يتلألؤ بالطلوع الشامخ وجه اللطف الإلهي بسبط المصطفى سيد الشهداء، حين كتب له غاية الفخار والسؤدد في الدنيا ليكون بهما هامة الجوزاء وجبين العلياء، وقضى سبحانه له سخطه على قاتليه يسقيهم صابّه أنفاساً يتجرعونه ولا يسيغونه، ويطعمهم ضريعه وزقّومه فيملأون منه البطون يقطّع أحشاءهم، ويغتّهم في فورة الندم غتاً كأنهم منه في مذاب بركان، ويشوي بجمره المهلي قلوبهم فكأنهم في مجمع النيران.. لقد أنزل الله بهم عقوباته تترى فيما نعلم من صور أخذه الأليم الظاهرة للعيان، والمشهودة للحس، كالانتفاضات التي جعلت عرشهم مرمى الشهب اللاهبة، وجائحة الثأر التي أتت على الجناة المباشرين، والكراهية المقيتة التي نفذت في أعماق الأمة لخطّ الجناية الأموي فتحوّل إلى كتل رهيبة من المواد المتوفّزة للانفجار، فحرّك فيها العباسيون صاعق الشعار المغري (ظلامة أهل البيت)، ودمدمت رعود الهول، وانصبّت حممه المهلكة، ودارت عجلة التاريخ بحجم الهلاك المرير المحتوم، تسحق رأس الأفعى الأموية، وتقلع الشجرة الملعونة في القرآن، تصيّرها رميّة اللعنة المتصلة يظلّ نتنها الكريه يزكم الأنوف، ويقرف الأرواح.
وللصدر كما لجدّه كتب الله على قاتليه ومبغضيه عذابه الأليم، وسلّط عليهم من ألوان النقمة ما يحار العقل فيه لغرابته، وإلحاحه وضراوته ما جعل المجرمين هباءة تتقاذفها الرياح العواتي للنكال، وغريقاً تقطع أنفاسه بين جبال الموج الهادر تلهو به لهو العابثين.
وإن يكن الحسين قد تنبّأ في ساحة الوغى بمصير شانئيه وقاتليه ۔ بقوله: (إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم) وقوله: (لتقتلني الفئة الباغية ثم ليلبسنهم الله ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنّ الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ) ۔ فإن الصدر قد استلهم من فؤاده المبصر، وروحه النافذة، ومن سنن التاريخ والمثلات والعبر عن ما يصنعه الظالمون ومآل عرشهم الأثيم الذي جسّم الظلم في أعلى مداه، مجموعة فيه كل فصول الغي والبغي التي مرّت لياليها الدكن وأعاصيرها الربد على مسيرة الحياة، ترهقها من أمرها ما لا تحتمله من العسر، وتكلّفها باهظاً ثقيلاً ثمن السكوت أو غلواء المنابذة، لكأنه رضوان الله عليه قال لهم حقاً:
والله لن تلبثوا بعد قتلي إلا أذلة خائفين، تهول أهوالكم، وتتقلب أحوالكم، يسلّط الله عليكم بأيديكم من يجرّعكم مرارة الذل والهوان، ويسقيكم مصاب الهزيمة والخسران، يذيقكم ما لم تحتسبوا من طعم العناء، ويريكم ما لم تتوجسوا من البلاء، فلا يزال بكم على هذه الحال حتى يؤول بكم شر مآل، جموعاً مثبورة صرعى في الروابي والفلوات، وفلولاً مدحورةً تطلب السلامة والنجاة، حتى إذا انفضّ عديدكم، وفلّ حديدكم، دمدم عليكم، فدمّر عروشكم، وترككم أيادي سبأ أشتاتاً، بين من أكلتهم بواتره، ومن هاموا على وجوههم في الأقطار، وولّوا مذعورين إلى شتى الأمصار، وأورث الله المستضعفين أرضكم ودياركم وأموالكم، فإذا قد أمسيتم لعنة تتجدد على أفواه الناس، وصفحة سوداء في أحشاء التاريخ.[2]
لقد سلّط الله على طغاة بغداد عذاباً مستمراً مذ حرموا عين الحياة من كحل طلعتها البهية يشفيها من داء العشوة، ويزيّنها بإشراقة الحسن الفاتنة، فلم يهدأ لهم بال بعد قتلهم رائد الأمة وهاديها، فقد دهمتهم الكروب من كل صوب تبرحهم، وطلعت عليهم الخطوب كأنها رؤوس الشياطين تروعهم، وباتوا على شفا جرف هار من النهاية التي يكابدون فزعها في وصوب ملحّ مفرط في الإيلام، فلا هم يذوقونها فينتهون، ولا هي تخفّف عنهم فيهدأون. وكانت حربهم الحمقاء على إيران هاجسهم المرير الذي فارقهم معه طائر الكرى فلم يحم فوقهم إلا لماماً على فزع رهيب يتغشاهم بالهول المارد.
ثم ولسجيّة الإلحاح في فورة الغضب الإلهي عليهم ساقهم الجنون فسلّط الله به عليهم حربهم على الكويت، ليطلع عليهم منها وجه عرامات لا قِبَل لهم بها، وكربات لم يذوقوا طعمها، فغرقوا منها في الخضم المزبد للعناء المستشيط الثائر، ولبسوا فيها ثوب الذل منسوجاً من قطران الخزي الفوار في منتهى سعاره، وأبعد أطواره، يتقلبون فيها بين جمر العار في غاية شبوته، وفرط لسعته.. وها هم لا زالوا تَسِمهم عقبى جنايتهم بميسم الصغار الذي امتنع عن المثيل، وتعبث أيدي أمثالهم بعوراتهم على مرأى الدنيا، حيث عرّتهم من الشرف المزعوم، وسلبتهم الكرامة المدعاة، فهم أذل في عين الناس من رعديد ضارع مسترحم بين يدي آسره الساخر الطافح الخيلاء والعنفوان، وأقذر من جيفة منتنة تفسّخت وعادت مباءة الديدان.
لقد سلّط الله عليهم أشنع ألوان الهوان، وأقبح صور الزراية والاستهزاء، وباتوا مضرب المثل في الذل، ومرمى أبصار الساخرين، ومطمح طرائفهم وحكاياتهم، ولا يكتفي قانون العقاب الإلهي بمن حاربوه وناوؤوه، بل هو يمتد شمولياً ليعمّ حتى أولئك الذين سكتوا على الجناية، ولم ينبسوا ببنت شفة وهم ينظرون، والذين قصروا في حقه من عارفيه، وهؤلاء وأولئك أربع طوائف:
طائفة كانت تدين حركته بادّعاء بُعد الدين عن السياسة، تتحجج بروايات راية الضلال التي تقوم قبل الظهور، وأخبار التقية. ولم تأله هذه الفئة جهدها في الذم والتسفيه الخفي والظاهر.
وطائفة ثانية كانت ترى فيه منافسها الصاعد على المرجعية، والذي يهم أن يكتسح ساحة التقليد.
وهاتان الطائفتان سكتتا على الظلم الفادح الذي ناء بأثقاله الشهيد المظلوم، والحصار الخانق الذي كابده هو وعياله على مرآهما ومسمعهما، ولسان حاله ينادي (هل من مغيث) فلا أحد يجيب. ولعلهما كانتا تتربصان ساعة الخلاص منه على أيدي جلّاديه.
وطائفة ثالثة كانت تُحسب عليه، لكنها خالفته إلى ما لا يشتهي حين أراد منها ما لا تحبّ، فأعرضت عنه إعراضاً خفياً، وناوءته مناوءة باطنة، بل ظاهرة في بعض الحالات…
وفي أفراد هذه الطائفة من بنوا أمجادهم به بعد شهادته، ثم أخذوا يتهاونون في ذكره، ولولا بقية من الحياء لتخلّوا عنه تماماً، وجعلوه نسياً منسيّاً.
فأما الطائفتان الأوليان فقد نالهما مما حاذرا من سوط السلطان وبطشه بدواع لا تؤجران عليها ولا تحمدان، وأتاهما قاعدتين ذميمتين ما أتى الصدر في شرف جهاده، وعزّ بسالته ونهضته، من حرّ السيف، وأغلال السجن، ولوعة الترويع.
وأما الطائفة الثالثة فقد عوقبت بعقوبات شتى: منها أن الذين خالفوا الصدر فيها عناداً فيما يرجو أهينوا بما عاندوه من أجله، فباتوا نادمين على ما فرط منهم في حق رضاه، مدركين في أعماقهم أنهم قد أخطأوا معه فنالوا غِبّ ما فعلوا نكالاً من الله، يؤمّلون أن يكون كفّارة جرمهم، يُغسلون بها في الدنيا لينقلبوا إلى الله وقد محيت من كتابهم صفحة ذلك الإثم.. وقد رأينا بأمّ أعيننا كيف أن الذين تجاهلوا الصدر بالنسيان للبدائل والأناقد أُخذوا بحب الدنيا، وأبواب كل شيء، والوهم الخادع، والأمر الفُرُط، والمنغّصات التي تأخذ بمجامع القلب، والمشاغل السخيفة التي تغري بالحطام، وتلهي عن الآخرة، وتكون مباءة الآثام والأوزار.
أما الساحة في الداخل بأسرها وهي الطائفة الرابعة فقد عوقبت لصمتها على ظلامة الصدر بما لم يصب الذين ظلموا خاصة، بِسنيّ يوسف، والذلّ الشامل، والسيف المستوعب، وصروف الموت، وزعازع الرعب الواصب، والهوان الذي ليس له مثيل، فلا تكاد تغادرها مذ ذبح الصدر بين ظهرانيها كارثة موبقة إلا جاءتها غيرها أشد منها.
وقد ذاقت ۔ في حرب مجرميها ضد إيران، وفي غزوهم الكويت، وما تلا ذلك ۔ ما لا عين رأت من الوبال، ولا أذن سمعت من النكال، ولبست للذلة لباساً لم تلبس أمة قبلها مثله، وغرقت في بحر خطوب هادر باتت فيه سفينة مهشّمة تتقاذفها الأمواج العاتية.
تبرئة السلطة
حين يرتكب الظالمون جرائمهم المنكرة ضد المقدسين الثائرين، فينالون أغلى مناهم بما ظنوه الراحة من شر الخطر الداهم، قد يسعون جاهدين في حملة إعلامية مضلّلة إلى ارتكاب جرائم أخرى يريدون بها أن يغطّوا على ما كان منهم، وكلا النوعين المادي والإعلامي من العدوان الفادح يجريان على النهج المرسوم لهما، وهو ضرب الخط الإلهي بطعن قادته وأنصاره، والإجهاز عليهم. وتحميلهم شر ما جرى لهذا الخط من الخطب الكبير، وبالتالي تشويه قدسية المنهج ونزاهته.
وبحكم المشابهة بين الثورتين الحسينية وحفيدتها الصدرية كان تعرضهما لذلك الكيد ۔بعد الإقدام على الجناية الكبرى عليهما بقتل القائدين۔ هو من أهم معالم المماثلة وصور التناظر المؤشّرة على سلامة النسب في اللاحقة، وطهارة المحتد، وعصمة التأسّي، وصدق الاحتذاء.
(عصفوران بحجر واحد) هذا هو أقبح ألوان المؤامرة الكبرى على نهج الحق وأنصاره، يقتلون الحسين القائد شرّ قتلة بعد أن يتّهموه بالخروج على القانون والشريعة وبطلب الدنيا وينسبون الجرم إلى مريديه زاعمين أنهم خانوه وخذلوه، وأسلموه إلى المقصلة بعد أن وعدوه ومنّوه، وأعطوه البيعة، فهم يتحملون مسؤولية ما جرى له، وكأن الظالم لم يكن مصمماً على الخلاص منه بأية حال؟ أو أنه لو لم يخنه بعض من بايعوه أو كلهم لكانت السلطة تعطيه مفاتيح القدرة راغمة مستسلمة؟ وكأن النظام الغاشم لم يبادر إلى الإجهاز على حركة أنصاره بالقتل والاعتقال لرموزها، وتخريبها من الداخل، وتفتيتها وحرفها عن مسارها، وتطويقها حتى لا يمتد شيء منها بالدعم لركب القائد الزاحف باتجاه الهدف…
هكذا فعل الإعلام الظالم من خلال أزلامه وأبواقه ووعّاظه، واشتد الصائد بأحبولته في طلب المراد حتى بلغه، فصار قتل الحسين يعني ۔ حتى لدى الكثيرين من المغفّلين من محبيه ۔ خيانة أهل الكوفة، وأن ذبحه كان بسيوفهم، وأن تخلّي أولئك عنه هو السبب الحقيقي للجناية العظمى.
وإذا كان هذا الكيد يستغفل الموالين، ويصيب غِرّتهم فهو في القطاعات الأخرى الواسعة المحسوبة للسلطة أكثر قدرة على نيل المطلوب، لتبقى الموالاة المخدوعة، ويبقى الإسناد المغرّر به، وتوصد المنافذ في وجه أي وعي بالحقيقة قد يؤدّي إلى تغيير الموقف من السلطة كما حصل من ذلك الشيخ الشامي الذي تبصّر الواقع من هدى زين العابدين عليه السلام.
القدرة الغاوية الكائدة التي سلكت ذلك الطريق في ضرب الثورة الحسينية، تأست بها؛ لأنها سلالتها ۔ قدرة العفالقة في بغداد، فهي بعد أن وأدت ثورة الصدر، وجدّدت في موقفها منها ومن قائدها مأساة كربلاء ۔ سلطت جهدها الإعلامي بفنون الخديعة، فأوعزت إلى بعض جناتها ۔ فاضل البرّاك ۔ أن يلتقي بالصدر ليبين له أن حسّاده في وسطه وأهله يكيدون له، وأن الحوزة تسعى به بوشايتها وتقاريرها لدى السلطة، ولأنه ۔ البراك ۔ ناصح أمين، فهو يتباكى من أجل احتمال أن يفوته شيء من تلك الوشايات إلى من فوقه مباشرة قبل علمه، حيث لا يستطيع أن يغطّي أو يتلافى أو يتّخذ الموقف الوجداني الشريف منها!!! أيّ كيد هذا الذي يسعى إلى الإيحاء إلى نفس القائد بأن الشر لا يأتيه من السلطة بل من حساده وشانئيه في الحوزة؟
ترى كم سعى هذا الكيد وبأي لون من خدائعه أن يوحي بذلك إلى أبناء الأمة وإلى مريدي القائد وأنصاره ومحبيه؟
وكم من الذين استغفلوا بهذه المكيدة حتى من كوادرنا، فسخّروا ألسنتهم وأقلامهم للتركيز على دور البيت في تصفية سيد رموزه وأبنائه؟! وكأنهم بذلك قد وقعوا على السر الأعظم الذي استعصى وأعيى في زمرة المستغلقات التي تأبى أن تفتح، متجاهلين أن مكيدة النظام احتبلت أذهانهم، وجعلتهم يركّزون على إدانة أنفسهم ووضعهم الداخلي قبل إدانة حكم جاء بالسيف وعاش به، ولم يأمن بوائقه حتى أنصاره ومن قام على أكتافهم، وكان شعاره البقاء بأي ثمن، وقمع الدين وأهله بكل عنفوان الكفر والجحود.
ترى هل أمن الذين قيل: إنهم كتبوا ضد الشهيد في الحوزة شر الظالمين جزاء وفاقاً على ما فعلوا؟ وهل هذا إلا دليل قاطع على أن النظام ضد الجميع، الصدر وخصومه في الحوزة ما دام هو ضد الدين ولوازمه، وضد أي موضع يتوقع منه الخطر حتى لو كان من وضعه الذاتي؟ ترى لو لم يحسد الصدرَ حاسدوه ۔ وهم ظالمون ومؤاخذون طبعاً ۔ هل يكفّ عنه النظام ما دام هو مجاهداً ثائراً يريد عودة الإسلام وتحكيمه؟ ألم يكن واقع حركة الشهيد، وعين السلطة المؤرّقة بجهوده، وهاجسها البركاني من خطره وراء قتله والخلاص منه؟
ألم تكن للسلطة عيونها عليه إن كانت تحتاج إلى ذلك ما دام نشاطه على مرآها ومسمعها، وخطاه على طريق الثورة مكشوفة جاهرة ليس عليها حجاب؟
هل تحتاج دروسه وأفكاره ونداءاته، وحفاوته بأمته المبايعة، ومواقفه ضد الجناة، ومناوءته لهم في تحريم تنظيمهم ومؤازرتهم، وإدانة أفعالهم ومواقفهم من الدين وشعائره، وحربهم على المؤمنين والمجاهدين، وهل يحتاج كذلك إسناده الفريد للثورة الإسلامية في إيران، وولاء قائدها العظيم، وجهده الحافد الحثيث لتفجير الثورة في العراق على خطى أختها في إيران ليغنم الإسلام بهما شعبين متآزرين، وبلدين متجاورين بينهما أواصر جمّة من المشتركات والسوابق والمصالح، هل يحتاج ذلك كله إلى تقارير من الحوزة، ووشايات منها لتتحرك السلطة بسببها ضده؟
ألم يكن هذا وغيره الكثير مما لا تتّسع له هذه السطور كافياً لجعل الملاحدة المجرمين يصمّمون ۔ وقد أخذ عليهم الذعر أقطار راحتهم واستقرارهم ۔ على حذف الصدر من الوجود، لتخلو صدورهم من البلابل والهواجس المزعجات؟
صحيح أن أوساطاً في الحوزة قصّرت في حق الصدر، بل حسدته، وفرّطت في جنبه، وما مدّت يدها لإسناده، وربما تكون مالأت بصمتها على مقدمات الجريمة، وسوف يؤاخذها الله بما فعلت، ولكن ذلك كله لا يشكّل علة الجرم الذي أقدمت عليه السلطة، ولا جزءً من العلة، ولا أرضية ما حدث، ولا الممهّد له؛ لأن مواقف الصدر ضد النظام، وإقدامه على الثورة، وتصميمه على تغيير الأوضاع هي العلة التامة لذلك، وهو ما ذكرته تلك العصابة المجرمة سبباً للمنكر الفظيع الذي أقدمت عليه.
ولو لم يكن الصدر ثائراً يتحدى ويصمم على قلع الكفر من أرض العراق بالثورة والجهاد والشهادة، ثم أساءت إليه الحوزة أو حسدته وظلمته، فإن ذلك لا يغري به السلطة، ولا يحرّكها ضده ما دام لا يهدّد مصالحها بأي خطر، وقد رأينا وقرأنا وسمعنا عن حالات تحاسد في الحوزة منذ القديم، ولكن ذلك لم يكن يؤدّي إلى استغلاله من قِبَل القدرة الحاكمة لقتل المحسود ما لم يكن له دور في إرعاب تلك القدرة بفكرة القيام ضدها، وبواقعه المشهود بالممارسة…
إنها مكيدة كبرى من دهر الدهور ۔ منذ ابتدأ صراع الحق والباطل ۔ أن يقتل المجرمون رموز الحق، ثم يرموا سواهم بالجرم لاسيما الوسط الذي تحسب عليه تلك الرموز.. وقد وفّرت هذه المكيدة على الظالمين الكثير من الجهود والعناء للتغطية على ما فعلوا، وقتل آثاره في مهدها، بل في رحمها قبل أن تُولد.
إن نسبة الجريمة الشنعاء إلى الحوزة أمر خطير ذو عدة أبعاد: تهوين فعلة النظام وتبرئة ساحته، تدمير شخصية الحوزة وقدسيتها، تقليل حجم الثورة والثائر، ورميهما في وادي الحسد بين العلماء والغيظ الشخصي، كما رمي دم الإمام الحسين عليه السلام في وادي خيانة أصحابه وشيعته ليصير قتيل محبّيه لا عدوّه، وكما رمي دم الإمام علي عليه السلام من قبل ذلك في مجهول امرأة موتورة اسمها قطام قامت بقتله بواسطة من اشترته بمالها، وأسرته بجمالها، ليكون بطل التاريخ الذي تآمر جميع الباطل للخلاص منه قتيل امرأة حانقة.
[1]. الممتحنة: 6.
[2]. کتاب الشهيد الصدر فضائله وشمائله.