أم باقر (منى حسن)
الأرضية: المشكلة الحقيقية للمرأة
ما أكثر الآمال والطموحات التي تحملها المرأة في مخيّلتها المراهقة في عالم تتلاطم أمواجه وترفع راكبيها إلى أقصى درجات الخيال ثم تهبطهم في أودية سحيقة مظلمة تتحطم فيها كل الآمال.
هكذا المرأة في مراهقتها وسعادتها تكمن في أن تجرّب هوايتها وتكتشف شخصيتها وتربح لذاتها موقعاً اجتماعياً مرموقاً، موقعٌ يوفّر للناس خدمات جليلة ويحقق لذتها في ممارسة هوايتها، ولذة أخرى وهبها الله لها، تسعى المرأة إليها بإرادتها أو بدونها، ألا وهي الزواج وتشكيل الأسرة، وتعتبر من الأمور الأساسية لكل امرأة. وقد اعتادت المرأة على انتظار الحظ والقسمة أو الزواج الذي لا تدري متى يهبط عليها، ومتى لا يأتي أصلاً. ولهذا نجدها وهي تمارس هوايتها المفضلة في انتظار لقطار الزواج، ومتى ما ركبته حتى نجدها تعيش صراعاً ومشكلة حقيقية بين زوجها وبين أطفالها وبيتها وهوايتها وخدماتها الاجتماعية. ويا ليت الصراع ينتهي إلى هذا الحد، حيث يدخل المجتمع وظروفه وعاداته ليشكّل طرفاً آخر في الصراع، حيث يفرض نفسه ويزاحم حركة المرأة ويحدد لها سعة معينة ومجالاً معيناً قد لا تكون فيه هوايتها أو يكون عملاً لا تقدر أن تكون كفوءة فيه فلا تتطور، لكنها مضطرة إليه حيث لا تجد غيره في ظروف اجتماعية قاسية.
الأسرة
المجتمع الذات
مثلث القوی المتصارعة لدی المرأة
ومن هنا تقاسمت النسوة حسب انتصار إحدى القوى أو محصّلة القوى ورسمت لنفسها خطاً يعبّر من جهة عن تأثير أي قوة على أخرى، ويكشف من جهة أخرى محصّلة القوى المتصارعة لدى كل امرأة، ولا ننسى تأثير التيارات والصحافة على المرأة في نوعيتها أو استغلالها لغايات معينة قد لا تدركها المرأة إلا بعد فوات الأوان.
ومن المؤسف له أن البنت ۔ في أي مكان كانت ۔ تستسلم للعرف الحاكم ولا تكتشف مرارة أو عذوبة الحقيقة إلا بعد أن تتلوى بسياط مشاكلها التي تبقى عالقة بها تؤلمها جراحها التي لا تندمل، فنجد إحداهن تعيش في عرف يرى أن المرأة خلقت للأسرة والرجل للمجتمع، فلابد أن تكرّس المرأة أهدافها وبرامجها وغايتها لإسعاد الأسرة وخدمتها وتطويرها!! وأخرى عاشت في عرف يرى أن المرأة كالرجل إنسان، ويدعوها إلى أن تكتشف شخصيتها وقدراتها وتكرّس كل أهدافها وبرامجها لسد حاجات ذاتها، وكل شيء يقف عائقاً أمام تكاملها يجب إزالته أو تسخيره باتجاه هذا الهدف!!
وعرف آخر يوحي للمرأة أن أفضل مكسب يحصل عليه المرء ۔ رجلاً أو امرأة ۔ حين يحكّم رغباته وفق الظروف التي تمليه، فيكسب الظروف إلى جانبه ويأخذ موقعه الاجتماعي من الظروف المهيئة والموجودة، فلا يصنع ظروفاً جديدة ولا يصارع ضد الظروف المهيئة؛ لأن السعي ضد الموجة خسارة للجهود ومضيعة للوقت، ويندم الإنسان حين لا مناص!
والإسلام العظيم الذي جاء للبشرية جمعاء فلم يعرف زمناً معيناً ولا مكاناً خاصاً، وبالتالي ليس له عرفٌ يحكمه. فهو يحكم الزمان ويؤثّر على العرف، وإذا ما وجدناه في البداية في قبوله لبعض الأعراف الجاهلية، فهو لأجل إزالتها وتحطيمها من الصميم، كما يفعل السرطان أو الفيروس في الجسم. فظاهرة العبيد وغيرها رفضها الإسلام وأزالها بأحكام تدريجية وليس بانقلاب عسكري!!
وهكذا الأمر في الأعراف الاجتماعية الأخرى. فالإسلام لم يترك واقعة ولا حادثة إلا وله فيها حكم وله فيها رأيه.
فلو رجعنا إلى الأحكام الشرعية لنرى موقفه تجاه هذه القوى المتصارعة لوجدنا:
١. الزواج عقد موضوعي ينشأ بإرادة الإنسان، وتترتب عليه مسؤوليات شرعية لا ينبغي التخلف عنها.
٢. أن المرأة كالرجل مسؤولة أمام الله، وتحاسب فرداً على تكاليفها الإلهية منذ أن تبلغ التاسعة وتلازمها حتى الموت.
٣. العمل الشريف مباح للمرأة، ولها استقلال اقتصادي في التصرف بمالها الخاص، ولها أن تمارس مختلف الأعمال الاجتماعية حتى العسكرية، وقد يوجب الشرع ۔ في حال تعرض بيضة الإسلام إلى الخطر ۔ عليها حمل السلاح أيضاً ومواجهة العدو والدفاع عن النفس، وفي هذا العصر يُجمع معظم الفقهاء [علی] ضرورة تواجد المرأة المتقية المحجبة في المجالات الاجتماعية المختلفة لتواجه الكفر وأزلامه ودفعه عن أن ينال [من] الإسلام وعزته.
وبنظرة سريعة إلى التاريخ الإسلامي نجد أن:
١. الرسول صل الله عليه و آله وإن كانت أحاديثه قد شجّعت على الزواج وتشكيل الأسرة، وهو بحكم خاص به تزوّج في آخر حياته بتسع نساء إلا أنه بقي عازباً حتى الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، ثم إنه ترك الزواج ثانية بعد وفاة السيدة خديجة؟سها؟ ما يقارب العشر سنوات حتى وصل المدينة المنورة وتزوّج بعدها.
٢. وشجّع الإسلام النساء على تعلم الدين وتعليمه، وكانت النسوة تزاحم فاطمة الزهراء؟عها؟ في أسئلتهن، وعندما يعتذرن تقول بأن أفضل عمل تقوم به هو أن ترشد ضالاً وترفع الحيرة عن السائل، بل أمر الرسول النساء بالإقامة في البيت لأجل تعلم وتعليم القرآن والحكمة، ومصحف فاطمة؟عها؟ وكتاب آخر كانت تحتفظ به لخزن علمها به جعلته بمنزلة ولديها الحسن والحسين؟عهما؟.
٣. ونرى أن الظروف الاجتماعية القاسية قد جعلت من العقيلة زينب مسبية، كاشفة الوجه، تاركة زوجها في المدينة، وهي أسيرة بيد الأمويين، تواجههم وتثير الناس عليهم بخطبها النارية المعروفة. كما أن التاريخ يحدّثنا عن تشجيع الرسول لامرأة عاملة، زوجها وابنها لم يجدوا عملاً ما ۔ عاطلين ۔ في أن تنفق عليهم ولها أجر من الله، وأخرى عجوز رفضت ترك عملها في المغزل استجابة لتشجيع الإمام علي عليه السلام على عملها وطلب منها أن لا تترك المغزل فإن فيه بركة!
ونلاحظ من الأحكام الإسلامية والتاريخ الإسلامي أن هذه الأحكام تأخذ موقعها المناسب والمريح في أرضية إسلامية سواء في المجتمع أو نفس المرأة، وبدونها تشكّل هذه الأحكام مسؤولية أخرى ومهمة تضاف إلى القوى المتصارعة في ذاتها. فالمحظوظة التي أدركت الإسلام وتعلمته وهي صغيرة السن منذ نعومة أظفارها كما حصل للشهيدة بنت الهدى رحمها الله، لكن المشكلة القائمة اليوم للمرأة هو أنها تهتدي إلى طريق الله وتتوب من ذنوبها في مرحلة أكبر من العمر وظروف أخرى لا يمكن تجاهلها، فقد تهتدي وهي متزوجة من رجل فاسق أو يكون لها أولاد بحاجة لها لا يمكن تركهم، أو أنها لا تكون على مستوى عالٍ من الصبر والزهد لتعيش بدون زوج حين لا يتقدم إليها مؤمن، أو أن لقمة العيش لا تحصل للمرأة إلا بالخضوع والتذلل وبعد أن تذوق هذه اللقمة تشعر في آخر بلعها لها مرارة هذا التذلل والخضوع، وتكتشف لذة العزة الإيمانية التي فاتها أن تتذوقها في وقت غيّها أو صراعها لأجل لقمة العيش.
ولأجل هذا وذاك كان السعي لإقامة نظام إسلامي ضرورةً إلزامية لتعديل الكثير من الأوضاع الظالمة للمرأة، ولأجل تهيئة جو سالم تقدر المرأة فيه أن تمارس حريتها، والكثير من الأعمال الاجتماعية المباحة ضمن حماية قانونية إسلامية تمنع طغيان الأشرار والشرّيرات أيضاً.
ولا يكفي النظام الإسلامي كأرضية مناسبة لتطبيق أحكام الإسلام وإسعاد المرأة بها؛ لأن النظام الإسلامي كفيل بإيجاد الحماية لهذه الحلول فقط، بسبب عدم وجود الإجبار والضغوط على اختيار الإنسان في النظام الإسلامي؛ لذا احتاجت المرأة المسلمة في حركتها الهادفة للاستفادة من الأحكام الشرعية للإسلام لإقامة الحق والعدل والسعادة، أن تواجه الأعراف والتقاليد التي يتمسك بها المجتمع ۔ أي مجتمع ۔ والتي بها تكون سداً منيعاً أمام حركتها المقدسة للتعرف على دينها وإقامته في المجتمع، وبالتالي ستتعرف النساء على دينهن ويتمسكون به منذ نعومة أظفارهن لا بعد فوات الأوان.
وهذه الدراسة المتواضعة لتحرك الشهيدة بنت الهدى التي عاشت في مجتمع تتحكم فيه أعراف متناقضة جعل منها شخصية لها قدرات وكفاءة عالية ۔ فقد مارست التعليم والإشراف على العمل النسوي الإسلامي وعلى المدارس، وكاتبة أديبة وشاعرة ۔ وأن تتحمل الكثير من ضغوط هذه الأعراف التي زاحمتها في حركتها كبنت غير متزوجة منتقلة من النجف إلى بغداد أسبوعياً تشرف على مدارس الزهراء في الكاظمية والنجف إلى تضييق حركتها وانفصالها عن التعليم إلى فرض الإقامة الجبرية عليها، إلى الإشاعات والتهم المغرضة الموجهة إليها وإلى تحركها الإسلامي من قبل السلطة الغاشمة.
هذه الشخصية التي كان بالإمكان الاستفادة منها لأجيال عديدة وقفت الظروف أمامها والسلطة ضدها ففجّرت بصوتها وصرختها (الظليمة) حاجز الصمت والخضوع، واهتزت أبنية الظلم الاجتماعي باهتزاز أركان السلطة العفلقية لحد يومنا هذا.
جاءت هذه الدراسة لتعرض لقرائنا وشبابنا الأعزاء نموذجاً فريداً لم يعيشوه وحلّاً نموذجياً في ظروف قاسية قد يتصور البعض فيها أن حركة المرأة المسلمة قد قُبرت، ولم تقدر على أن تجابه هذه الأوضاع والأعراف المتصارعة بحد ذاتها. والحقيقة أن هذه الدراسة غيض من فيض لهذه الشخصية العالمة التقية عسى أن تنفعنا وتكون لنا قدوة حسنة.
أ ۔ نقاط مضيئة في حياة الشهيدة بنت الهدى رحمها الله
اسمها: آمنة
والدها: آية الله السيد حيدر الصدر
لقبها: بنت الهدى (لقّبت نفسها بهذا الاسم وطبعته على كتبها).
سنة الولادة: 1937م ۔ 1356ق.
مكان الولادة: مدينة الكاظمية المقدسة.
استشهدت عام: 1980م.
إخوتها: السيد إسماعيل الصدر، الأخ الأكبر. وآية الله محمد باقر الصدر، الأخ الثاني.
توفّي والدها وهي لم تتجاوز السنتين ولم يترك لهم إرثاً يذكر فعاشوا في الفقر والحرمان، حتى أنهم لم يرثوا عنه داراً أو أرضاً.
تعلمت القراءة والكتابة على يد والدتها، واستكملت مراحل التعليم على يد أخويها، وكتبت الشعر في السنوات المبكرة من عمرها.
كتبت في مجلة الأضواء (1966م) ثم طبعت كتبها وقصصها (الفضيلة تنتصر، كلمة ودعوة، الخالة الضائعة، لقاء في المستشفى، امرأتان ورجل، على تلال مكة، صراع من واقع الحياة، المرأة مع النبي، بطولات المرأة المسلمة، ليتني كنت أعلم، الباحثة عن الحقيقة). كانت في داخل البيت ترعى والدتها المريضة وتهتمّ بتربية أولاد أخيها تربية إسلامية وكانت هي التي تختار أسماء البنات فكانت مرام، صبا، نبوغ، حوراء؛ حفظهن الله ورعاهن.
كانت تشرف وتدرّس في مدارس الجعفرية في بغداد (الزهراء) وفي النجف، فتقضي ثلاثة أيام في بغداد وعند بيت أخيها السيد إسماعيل وبقية أيام الأسبوع في النجف الأشرف عند أخيها الشهيد الصدر، وكانت تتابع دراسة الطالبات بعد إنهائهن دراستهن ودخولهن المدارس الحكومية وحل مشاكلهن في مسألة الحجاب وغيره بالاتصال بمديرة المدرسة والتفاهم معها حول ذلك، كما أنها كانت تشرف على عقد جلسات أسبوعية للطالبات في وقت الصيف في بيوتهن، وجلسات أخرى للمدرّسات خاصة بهن.
صدر قرار إلحاق مدارس الزهراء بوزارة التربية والتعليم عام 1972 بعد ست سنوات من الإشراف والتوجيه فيها. في السبعينات وحتى نهايتها كانت الشهيدة رحمها الله تعقد جلسات شهرية عامة في بغداد تحضرها العشرات (70 ۔ 120) وتلقي المحاضرات الإسلامية علاوة على الجلسة الأسبوعية المعقودة في بيت أخيها السيد إسماعيل، كما أنها تلبّي دعوات الأخوات المؤمنات في مختلف المناطق وتلقي توجيهاتها عليهم، علاوة على استقبالها للطالبات الجامعيات في كل فرصة تسنح لهن لرؤيتها. ذهبت إلى الحج عدة مرات وكانت تقوم بمهام المشرف الديني للحاجات وتعلّمهن وتجيبهن على أسئلتهن في الحج.
أدركت السلطة قوة شخصية بنت الهدى من الاعتقال الأول للشهيد الصدر 1971م ۔ 1392ق وظهر صبرها وتجلّدها في الاعتقال الثاني للشهيد الصدر 1977م ۔ 1397ق وأما في الاعتقال الثالث 1979 ۔ 1399 فقد خرجت في 17 رجب تخطب برجال الأمن المطوّقين للبيت بكثافة كبيرة، فلم يجرأ أحد حتى مدير الأمن أن يجيبها، ولم ترجع إلى البيت إلا بعد أن أمرها السيد الشهيد بذلك.
خرجت إلى الصحن الشريف في صبيحة 17 رجب وصرخت هناك صرختها المدوية: (الظليمة الظليمة، يا جداه يا أميرالمؤمنين لقد اعتقلوا ولدك الصدر.. يا جداه إني أشكو إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد، أيها الشرفاء المؤمنون هل تسكتون وقد اعتقل مرجعكم، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذّب، ماذا ستقولون غداً لجدي أميرالمؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم؟ اخرجوا وتظاهروا واحتجوا).
حجزت عائلة الصدر في البيت بعد إطلاق سراحه وقطعوا عنهم الماء والكهرباء والهاتف، حتى فكّرت الشهيدة بنت الهدى بالاستعداد لحفر قبورهم بأنفسهم كي تدفن من يموت، حيث فقدوا الطعام والشراب، ثم أعادوا بعد فترة طويلة الكهرباء والهاتف ثم رفعوا الحجز مدة قليلة فكانت تخرج يومياً لزيارة الحرم الشريف والالتقاء بالأخوات سرّاً لتنقل الأوامر والتوجيهات والأخبار.
روى أحد أفراد الأمن ممن كان حاضراً في غرفة الإعدام والعهدة عليه: أحضروا السيد الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد ثم جاء صدام فقال له بلهجة العامة: (ولك محمد باقر تريد تسوي حكومة) ثم أخذ يهشّم رأسه بسوط بلاستيكي صلب.
أجابه السيد الصدر: (أنا تارك الحكومات لكم) وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الإسلامية في إيران، مما أثار المجرم فأمر جلاوزته بتعذيب السيد الشهيد تعذيباً قاسياً ثم أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى، ويبدو أنها كانت قد عذّبت في غرفة أخرى جاؤوا بها فاقدة الوعي يجرّونها جرّاً فاستشاط الصدر الشهيد غضباً ورقّ لحالها ووضعها فقال لصدام: (إذا كنت رجلاً ففك قيودي) فأخذ المجرم سوطاً وأخذ يضرب العلوية وهي لا تشعر بشيء، ثم أمر بقطع ثدييها مما جعل السيد الصدر في حالة من الغضب. فقال للمجرم صدام: (لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي، ولكنك جبان وأنت بين حمايتك) فغضب المجرم وأخرج مسدّسه فأطلق النار عليه ثم على أخته الشهيدة، وخرج كالمجنون يسبّ ويشتم.
في اليوم التاسع من نيسان عام 1980 وفي الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف، وتسلّلت مجموعة من الأمن إلى دار المرحوم الحجة السيد محمدصادق الصدر؟رح؟ وطلبوا منه الحضور إلى بناية محافظة النجف، وهناك سلّموه جنازة السيد الصدر وأخته الطاهرة بنت الهدى، وحذّروه من الإخبار عن شهادة بنت الهدى ثم أخذوه إلى مقبرة وادي السلام ودفنهما. سلام على بنت الهدى يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حية.
ب ۔ أقوال ونصائح وآراء للشهيدة بنت الهدى
١. الأم والفقر والكسب الحلال
قال الأب: أي خير وسعادة ونحن نرى الإيمان يجرّنا إلى أن نجد أولادنا يتضوّرون جوعاً في أسمال بالية؟ أما وربّي إنه الإيمان الذي جعلني أتحمل هذا الشظف من العيش، وإنها الهداية التي جرّعتني كؤوس الفقر والحرمان واحداً بعد واحد، فقد كنت أتقلب في بحبوحة من العيش قبل أن..
قطعت الأم كلام زوجها قائلة: وأية بحبوبة تلك؟ ما قيمة الغذاء الذي يملأ الجوف ناراً؟ لم نكن سعداء ومصيرنا تحدّده الصدفة أو الخدعة ونلبس في الوقت الذي يتعرى فيه سوانا، أية سعادة في ذلك الحجيم!!
٢. موضة الميني جوب
أتذهبين إلى الاحتفال بهذا الثوب الطويل المغلق، ومع هذا الشعر البسيط المهمل؟ ثم أين المكياج؟ أما ثوبي فهو ليس بالطويل يا أماه أبداً ولكنه ليس ميني جوب، وأما شعري فهو مصفّف بشكل بديع ولكن بدون أن أجلس ساعات في صالون الحلاقة أستمع إلى أنغام الموسيقي وألوّث شعري بمختلف أنواع المواد، وأما المكياج فأنا لا أجهل طريقة وضع المكياج يا أماه ولكني لا أشعر بالحاجة إلى ذلك ولا أريد أن أعتمد عليه في إبراز شخصيتي بين المجتمع.
٣. شخصية المرأة والموضة
نحن نسعى إلى إبطال هذا المفهوم، ونحاول أن نثبت للمجتمع أن في إمكان الفتاة أن تبرز لسبب من كمالها الشخصي وليس على حساب وسائل المكياج ومستحدثات الموضة، فهي حينما تبرز بكمالها المستقل تشعر بلذة الكمال ونشوة الانتصار، خلاف ما لو برزت على حساب تخطيطات مصمّمي الأزياء وواضعي خطوط المكياج فهي حين ذاك تكون وسيلة للعرض لا أكثر ولا أقل.
4. الإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضا.
5. بالإرادة المؤمنة الصالحة القوية يتمكن الإنسان أن يجعل النكبة طريقاً من طرق القدر في التعليم، وقد يكون ابتداء المصيبة في إنسان هو بداية الحكمة إليه إذا تمكّن من الثبات أمامها.
6. ألا يتألم الإنسان إذا قوبل جميله بالنكران وجوزي فضله بالعدوان؟!
بنت الهدى: إن هذا هو شعور الإنسان الذي يتاجر بعواطفه أو يرابي بها، وليست من أخلاق الفرد العاقل الذي يحسن حباً بالإحسان ويساعد رغبة في المساعدة ويخلص تمشّياً مع طبيعته الصالحة التي تدعوه للإخلاص، فإن هذا المؤمن العاقل لا يندم على ما أعطى ولا يأسف على ما بذل وإن بقي بدون بدل!!
٧. وهذا الشعور، شعور الإنسان أن أعماله لا تطلب التثمين إلا من الله عزوجل وحده، هذا الشعور هو الذي يعلّمه أن لا يزهد في فعل الخير مهما كانت ردود الفعل التي يجابهها ما دام واثقاً من تحقيق الغاية الحقيقية وهي رضاء الله عزوجل.
٨. الهدية، هل أن من شروط الهدية أن تكون مرهقة مالياً؟ إن ذلك لا يعود يحمل معنى الهدية، بل إنه يكتسي طابع الضريبة، وبذلك تفقد الهدية لذيذ عطائها وتخسر الفوائد المتوخاة نتيجة ذلك، إن الهدية يا هيفاء وضعت لكي تكون وصلة خير بين الإخوة المؤمنين. ولكي ترمز إلى دوام تذكّر الإنسان المُهدي للمُهدی إليه.
٩. ما أحوجنا يا أسماء لأن تكون أعمالنا مما ينفع الناس لكي تحمل معها مقومات البقاء والاستمرار <فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ فَيَمْكُثُ في اَلْأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ>.
١٠. دنيا الزواج
(أنت يا وفاق مخيرة بين أن ترضي بهذا الشاب الماجن زوجاً أو أن تخرجي من بيتي على أن لا تعودي إليه، لأرى مدى ما تنفعك مفاهيمك ومدى ما ينصرك إسلامك الذي تدّعين، قرّري مصيرك، فقالت وفاق بصوت رصين: لا أنا لن أبيع ديني بدنياي).
١١. شريكة الحياة
وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى وكان ينتظرها ليحدّد موقفه منها على ما تحمله من تجاوب، فلو وجدها سلبية لسقط عنه الواجب الشرعي تجاهها؛ لعدم احتمال الفائدة، ولو وجدها تحمل بعض مراتب التجاوب فسوف يستمر واجبه الشرعي تجاهها كإنسانة ضالة وليس كزوجة، فهو لم يعد يفكّر بها كزوجة وشريكة حياة.
١٢. الحفلة المختلطة
هنا انتفضت نقاء واصطبغ وجهها بحمرة قانية وقالت بحدّة وعصبية ظاهرة: أنا لن أحضر حفلتك الموعودة يا سعاد! فقد فاتني أن حفلاتك مختلطة، ثم أنت تريدين أن تعرضين لعيون عشرات الشباب ليركعوا تحت قدمي كأني سلعة، لك أن تعرضيها لمن شئت من الناس! أنا لست سجينة بين جدران، أو مقيدة بمحيط ضيّق يا سعاد! أنا حرة بجميع تصرفاتي وتنقلاتي إلى حيث ما أردت وإلى أي مكان قصدت، ولكن في نطاق العفة والحشمة.
ملكية: أنا لست محكومة لأحد، ولم يفرض الدين عليّ أن أحكم لأحد أياً كان حتى زوجي، فليس الزواج في الإسلام ختم ملكية المرأة للرجل، ولا تخضع فيه المرأة المسلمة إلى أي حدود أو التزامات غير طبيعية.
ثراء وفراغ وجهل: إن هذه العوامل هي أخطر ما تكون على المرء.
أنا لا أغضب عليهم ولكن أرثي لهم من صميم قلبي، والرثاء لا يوجب النقمة.
إن صعوبة المقدمات تتناسب دائماً مع عظمة النتيجة.
أن يكون الله مع الإنسان المؤمن لا يعني أن يفرش طريقه بالزهور أو يؤرّجها بنسمات العطور، فإن سعادة الإنسان المشمول بعين عناية الله تنحصر في لذة إحساسه بذلك الشمول، إذن فنحن نستشعر معنى السعادة حتى ولو كنا نعيش الألم أو نحيي العذاب. أليس كذلك يا أختاه.
١٣. العملية الجراحية
كل إنسان يجب عليه أن يكون جرّاحاً لنفسه يا أختاه، ألم تسمعي بذلك الإنسان الذي يستسلم لمبضع الجرّاح، ليخلص من غدة صغيرة، يريد أن يتخلص من آفة تنهك جسمه، ويحصّن ذلك الجسم ضد سيطرتها عليه. وهكذا بالنسبة لآفات الروح ولكن كيف تمكّنت أن تتعرفي على سلامتك يا أختاه؟
بنت الهدى: إنها الحوادث يا عزيزتي هي التي عرّفتني على مواطن الداء، وهي التي طمأنتني على فائدة الدواء. أو ليست الأحداث هي أعظم مبضع لشخصية الإنسان؟
١4. مرحباً بالموت
والله إنكم تخافون لأنكم تعلمون أن أخي ليس وحده، كل العراقيين معه وقد رأيتم ذلك بأعينكم.
ألستم تزعمون أن الناس معكم وفي حزبكم؟ ممن تخافون؟ اسألوا أنفسكم من تخدعون؟ أنفسكم أم الناس؟
إننا والله لا نخاف من شيء لا منكم ولا من غيركم، لا نخاف سجونكم ومعتقلاتكم، ومرحباً بالموت إذا كان في سبيل الله.
١5. زمن السكوت قد ولّى
إن المسؤولية الشرعية والواجب الديني يفرض عليّ اتخاذ هذا الموقف، هل خلقنا لنأكل ونشرب؟ إن زمن السكوت قد ولّى.
لابد أن نبدأ صفحة جديدة من الجهاد والصراع .
إن النظام لا يسقط بالسكوت.
لقد سكتنا طويلاً وكلما سكتنا كلما كبرت محنتنا.
١6. لماذا أسكت وأنا أرى مرجعاً مظلوماً يقع في قبضة هؤلاء المجرمين، ألم ترهم وقد تجمّعوا عليه كالحيوانات المفترسة؟ ألم أصبر؟ إن اليوم يوم جهادنا.
١٧. الشهادة
لقد قررت أن أستشهد منذ اليوم الأول الذي جاءت فيه الوفود، فأنا أعرف هذه السلطة المتوحشة القاسية المجرمة لا فرق في مقاييسها بين الرجل والمرأة، وبين الصغير والكبير.
أما أنا فسواء عندي أعيش أو أقتل ما دمت واثقة أن موقفي كان طلباً لمرضاة الله ومن أجله عزوجل.
قسماً وإن جهد الزمان | لكي يثبّط فيّ عزماً | |
أو حاول الدهر الخؤون | بأن يريش إليّ سهماً | |
وتفاعلت شتى الظروف | تكيل آلاماً وهمّاً | |
فتراكمت سُحب الهموم |
|
بأفق فكري فأدلَهَمّا |
لن أنثني عما أروم | وإن غدَت قدماي تدمی | |
كلا ولن أدعَ الجهاد | فغايتي أغلى وأسمى |
بنت الهدى رحمها الله والتحولات الاجتماعية
أ۔ المدخل
تحصل التحولات الاجتماعية في أي مجتمع متماسك عندما يحصل تحول ثقافي، تغير نوع الارتباط بتغير نوع العمل، وتجدد حاجات المجتمع وتطور طلباته، مما يجعل الأعراف الاجتماعية تتصارع فيما بينها، وأن الثائر ۔ مثل بنت الهدى ۔ قد درس أعراف كل مجتمع قبل أن يخطّط لعملية تتغير به، فحص جيداً سرّ اختلافها وتصارعها ومعرفة الصالح منها والباطل؛ لكي يعلم الثائر أي الأعراف تصبّ في تحريك المجتمعات نحو غاياتها المرسومة عندهم. فالعراق بلد زراعي سكنه البدو الرحّل من زمن بعيد، وتزاوجت العادات الريفية والبدوية معاً وبقت آثارها مع الريفي الذي انتقل إلى المدينة. وبالرغم من تغير نوعية العمل وشكل الارتباط ونمط الحياة، لكن هذا لم يقدر على الانتصار وتغيير كل العادات الريفية المترسخة آلاف السنين، بل نجد التحول الاجتماعي في الكثير من جوانبه الممتدة على الرقعة الجغرافية في العراق هو صراع، فعلى سبيل المثال لا الحصر: عودة المرأة إلى البيت قبل غروب الشمس هي عادة ريفية مستحكمة ومفيدة، حيث لا عمل لأحد في الحقل بعد الغروب. وإنما الأعمال والوظائف موجودة في البيت في ذلك الوقت. وقد ترتبت أحكام قضائية يقوم بها أبناء الريف لفك الخصومات على هذا الأساس، فمثلاً يحكم على المرأة المعتدى عليها بالموت أيضاً إذا تم الاعتداء عليها بعد الغروب خارج البيت، ويحكم على المعتدي فقط إذا حصل الاعتداء على المرأة في النهار خارج البيت؛ ولذا تحصل المرأة العاملة بالحقل على الأمن العرفي عندما تعمل في النهار وتُرفع عنها الحماية ليلاً، فتعود مسرعة.
نجد أن هذه العادة ما زالت موجودة لحد يومنا هذا حتى لو كان عمل المرأة يتطلب منها العودة بعد الغروب وحتى لو توفّرت وسائل النقل العامة. فما زال الرجل يحكم بعقلية جده الريفي بلزوم عودة زوجته وابنته قبل الغروب!
والتغيرات الاجتماعية تبدأ بتغيير ثقافة المجتمع ومعتقده، ونحن نعلم أن للإعلام ۔ السلطة الرابعة في المجتمع ۔ أثر كبير في تغيير العادات الاجتماعية بغض النظر عن حاجة المجتمع إلى هذا التغيير أو لا، كما أن للقوانين التي تسنّها السلطة الحاكمة أثر مهم في تغيير العادات والتقاليد، فعندما تم فرض لبس السترة والبنطلون للموظف والطالب تغيرت الملابس الشعبية وانحسرت داخل البيوت، لكن مثل هذا الفرض لم يتم في الحجاز. فبقي الشعب هناك متمسكاً بعاداته القديمة في اللبس.
والدين والمعتقد وما يتركه من آثار ومعتقدات وعادات موروثة، عمل بها أكثر الأفراد في أكثر الأحيان بدون وعي ولا يقدر على تركها، فهو يشعر بتأنيب ضمير كبير، وإحساس ثقيل بالهمّ؛ لأنه ترك هذه العادة، فهو لا يعرف أسرارها ومعانيها العميقة، وكل ما يدركه أنها عادة دينية تنجّيه وترضي الله وبالتالي ترضي ضميره الديني مهما كان ضعيفاً.
هنا يمكن أن نقسّم العادات والتقاليد الاجتماعية إلى:
١. عادات وتقاليد قديمة، تنشأ بحكم العمل ونوعه وشكل وحاجة الارتباط الاجتماعي.
٢. عادات وتقاليد وافدة، بفعل السلطة والإعلام والغرب.
٣. عادات وتقاليد موروثة عن الدين.
وقد (تصارعت) هذه التقاليد فيما بينها في مدن مثل بغداد، الموصل، البصرة (وسادت) تقاليد محافظات أخرى كالنجف وكربلاء ومدن الجنوب، وأدّى هذا الصراع إلى ظهور مجتمعات مختلفة الأنماط كالجزر في البحر، وأصبح من الطبيعي جداً أن نجد الاستهزاء والنظرة الدونية كلٌ للآخر حسب تقاليده المختارة، لم يكن هناك حوار، لم تكن هناك جسور تربط بين هذه المجتمعات، فاستحوذت العادات الوافدة على الإعلام والجامعات والمدارس والدوائر الحكومية، وبعض لا يستهان به من مناطق بغداد الراقية وبدأت بالزحف إلى بقية المناطق والمحافظات، بما لديها من دعاية وإعلام متنفذ ورؤوس أموال لتشغيل الأيادي العاطلة عن العمل لخدمة مصالح الاستعمار.
ويمكن أن نشير إلى التناقض والصراع بين مجتمعين من خلال هذا المثال:
في النجف الأشرف وكربلاء اعتادت العوائل الدينية والغنية والكبيرة من ارتداء نسائها البوشية ۔ غطاء الوجه ۔ وحتى عند افتتاح مدارس الزهراء في بغداد والكاظمية وإغلاقها سنة 1971 كانت طالباتها ترتدي البوشية، لكن كان من الصعب على المرأة الخروج بمفردها في بغداد مرتدية البوشية، بينما تقدر ذلك بكل راحة في النجف أو كربلاء!! والسبب في ذلك أن الشبهة التي ألقيت على البوشية في بغداد والتي بها تشير إلى أن هذه المرأة سهلة المنال!! وإخفاؤها لوجهها لأجل أنه لا يعرفها أحد وهي تتعامل مع من تريد!! وبالتالي كان صعباً على الشريفة المحجبة أن ترتدي البوشية وتسير بمفردها في شوارع بغداد بفعل هذه الشبهة المثارة من الطرف المصارع الآخر! ولأجل هذا كانت الشهيدة بنت الهدى لا ترتدي البوشية أثناء تحركها في بغداد وترتديها في النجف مراعاة للعرف العام السائد هناك.
ب ۔ ولكن كيف تعاملت بنت الهدى مع العادات والتقاليد القديمة؟
مثلاً من العادات العراقية:
١. اللطم على الميت بقسوة وعنف، وخصوصاً إذا كان الميت زوجها أو أخاها أو إذا كان شاباً، وعندما يكون المتوفی هو الزوج فإن العدة تعني قبر المرأة في بيتها سنة كاملة، والخروج من بعد ذلك له ألف حساب.
حاربت بنت الهدى هذه العادة بشدة، فنجدها عندما توفي أخوها آية الله إسماعيل الصدر، فكان ضربها ولطمها مقتصراً على ضرب رجليها وهي جالسة، كما أنها كانت توصي في محاضراتها الأرامل أن لا يلزمن بهذه العادة التي تشلّ حركة المرأة وعملها، وتجعلها كعادة الفراعنة حيث تدفن الزوجة حية مع زوجها المتوفى، فأوضحت أن العدة لا تتعدى بضعة أشهر فقط، ويمكنها خلالها أن تمارس نشاطها المعتادة عليه في الخروج من المنزل لشراء حاجاتها أو مزاولة عملها.
٢. ومن العادات النظر بريبة من زوجة الأب، ومظلومية المرأة الأولى، وقد خصصت بنت الهدى في أول محاضراتها في بغداد لتعديل هذه المسألة الأخلاقية تجاه الزوجة الثانية والأسباب الصحيحة لاقتران الرجل بالثانية، ومميزات ذلك على الأولى وكانت توضّح أن أحد أسباب وجود هذه العادة الأخلاقية الرذيلة هو استغلال الرجل حق تعدد الزوجات بشكل تهان به الأولى لعيب فيها وتستغل الثانية بالإهانة نفسها وهو اعتبارها متعة جسدية زائلة أو مهدّدة بالزوال، فلا الأولى تشعر بالراحة ولا الثانية، وتبقى الحروب مشتعلة بين الطرفين بوقود هذه العادة المتأصلة.
٣. ومن العادات القديمة إهانة المرأة واحتقارها اجتماعياً، حتى لو تعلّمت وتثقفت، فتتّهم بالتكبر والتمرد والعصيان، فطلاق زوجها حيث لا يصفو لها العيش مع رجل، وأما الجاهلة فمحتقرة لجهلها، وإن كان حظها سعيداً في الزواج أولاً في ترك التعلم الذي لا تستفيد منه في أمور بيتها ويشغلها عن وظيفتها الأساسية داخل الأسرة في خضوع الجاهل للزوج ثانياً، هنا أصبح التعلم هو لسد فراغ المرأة ۔ البنت ۔ ولابد من تركه بعد الزواج حتى لو كان هذا العلم من العلوم الدينية فلا تعود إلى تعليمه للنساء (كالملة) التي تقرأ للنساء قصة عاشوراء وبعض المواعظ الدينية أو الملة التي تعلّم القرآن، في معظم الأحيان لا ينتدب إلى هذا العمل سوى الأرامل والعوانس أو اللاتي لا يجدن لقمة العيش!!!
وكم كانت بنت الهدى رحمها الله تتألم من هذا الوضع، وقد ظهر ذلك كثيراً في قصصها وفي تشجيعها للبنات على إكمال تعليمهن، وأن العلم قوة وسلاح للمرأة يصونها من أن يستغلها الآخرون وتكون قادرة على تربية أولادها خير أداء، وتكون فرداً نافعاً لمجتمعه. ومن جهة أخرى شجّعت ودفعت بالوجوه الشابة إلى أخذ مواقعهن في القراءة الحسينية، وكتبت المحاضرات الهادفة (للملالي) المعروفات ليقرأنها بدلاً من المحاضرات التقليدية؛ لأجل توعية المرأة العراقية أينما حلت وأينما كانت.
4. ومن العادات القديمة غلاء المهور، وبالذات المهر المؤجل، والمسمى بالغايب، وقد هاجمت بنت الهدى هذه العادة وشجّعت مريداتها على رفض المهر الغائب واعتبرته إهانة للمرأة وكأنها متاع تباع وتشترى به، واعتبرت فريضة الشارع الإسلامي للمهر هو كالهدية يعبّر الزوج فيها لزوجته عن حبه ورغبته في الحياة المشتركة الكريمة. وقد تم زواج العديد من البنات على مهر قدره 25 ديناراً (400 درهم) فقط لا غير!! أو على مصحف من القرآن الكريم، أو على حجة الإسلام وغير ذلك، وقد أحدثت هذه المهور طفرة في التقدم نحو الدين والإقبال عليه، وكثرة زواج الشابات قد تمت في ذلك الوقت أيضاً.
5. وأخيراً من المعتاد أن ترضى المرأة بالمقسوم لها من الزواج، وأنه مكتوب عليها الاستسلام والانقياد لأوامر الأهل والزواج حتى لو كان المتقدم عاصياً لله تعالى، وهي معذورة للإطاعة له حتى لو أمرها بنزع الحجاب سواء كان الآمر زوجاً أو أهلاً، ومن الواضح أن الحكم الشرعي يقتضي معصيته (إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وأوضحت ذلك بنت الهدى كثيراً في قصصها وكما ذكرنا ذلك سابقاً.
6. كما أنها لم تغفل عن التوجه إلى الأهل والرجل والزوج (الأب، الأخ) والطلب منه أن يتجرد عن فرعنته، وأن يفسح المجال للمرأة أن تستنشق الهواء الإلهي النقي، وترى شعاع القدسية ينفذ إلى قلبها المستضعف، وناشدت غيرته لتكون حماية لدين المرأة كما هي حماية للمرأة ولا تكون تسلطاً على المرأة لا تبالي بدين الله وأمره. (اتقوا الله في النساء) و(المرأة ريحانة وليست بقهرمانة).
تقول الشهيدة بنت الهدى رحمها الله:
وإني لآسفة جداً أن تؤخذ أحكام الإسلام من مجتمع فاسد لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، فيخيّل للرجل فيه أنه خوّل له هذه السلطة وله أن يستعملها لأغراضه الشخصية، ويتخيل للمرأة فيه أنها أسيرة مهيضة الجناح لا حول لها ولا طول إلا إذا نقمت على الإسلام وكفرت بمثله وركضت وراء مبادئ مستوردة.
ج ۔ العادات الوافدة
وكما ذكرنا سابقاً أن المجتمع تتغير عاداته بتغير الثقافة. وتغيير الثقافة يتم مرة عن طريق الإعلام وأخرى السلطة وأخرى تغير شكل الارتباطات بين المجتمعات.
ولا ننسى أمراً مهماً هو سعي الغرب لتشويه صورة الإسلام لدى أهله بصورة متعمدة وهكذا كان:
١. فهم الإسلام المغلوط هو السبب في انحراف المرأة واتجاهها نحو الغرب ناقمة من تعاليم الدين، متصورة أن الإسلام جاء ليحبس المرأة بالحجاب، ويحصر دورها في داخل البيت، ويأسرها للزوج، ويطلق عنان شهوات الزوج، ويحرمها من التمتع بالحياة الدنيا، ويزهّدها في الدنيا ويجعلها راهبة متصوفة مكتئبة حزينة ذليلة جاهلة، لا خبرة لها، معزولة معقدة، تعيش في أحكام المثل التي لا واقع لها.. وكل هذه الصفات الآنفة الذكر ردت عليها الشهيدة بنت الهدى في قصصها وأحاديثها، بل عمدت إلى تصوير المبتعدة عن الدين بأنها (أسيرة) الشهوات، ألعوبة بيد الرجال، متعة زائلة، كآبة التخفّي وراء المكياج والموضة، مشغولة عن تحصيل العلم بالركض وراء الشهوات، تعيش في أحلام المتع وتستيقظ على واقع مر لا يحتمل من الخصومات والكراهية.
وأما المحجبة فهي مرتاحة قانعة وسعيدة بالقليل الذي لديها، صامدة قوية أمام المغريات، زوجها يحترمها ويهب لها كل حبه ووفائه، وإيمانه يحرس العلاقة الزوجية، ويرقی بها إلى مستوى راقي من المودة والمحبة، لا خصومات ولا خيانات ولا غش.[1]
تقول الشهيدة بنت الهدى:
كانت تقارن بين سعادة خديجة الزوجية والتعاطف الروحي الموجود بينها وبين زوجها وبين القلق الذي تعيشه بشرى مع زوجها والمخاصمات العديدة التي كانت تنشأ بينهما نتيجة الشك والغيرة وحب الذات والرغبة في الاستقلال.[2]
لكن السؤال يبقى مطروحاً متى حلّت العادات الوافدة محل العادات الشريفة القديمة والإسلامية ثم ما هو موقف المصلحين منها وبالضبط الشهيدة بنت الهدى هل كان موقفها مساوياً بالصلابة مع مواجهتها للعادات الموروثة القديمة؟!!
لا نعرف عن الشهيدة بنت الهدى موقفاً ليناً سواء مع العادات الموروثة أو الوافدة ما دامت تتعارض مع القيم الإسلامية وبالذات الشرعية ۔ الواجب والحرام ۔ لكن في نفس الوقت، ومن خلال مراجعتنا لقصصها، نجدها أنها قد أضافت عنصر الاستهزاء والاستخفاف بالعادات الوافدة، وهذا ما لا نلحظه في مناقشتها للعادات الموروثة الخاطئة، فقد كانت تتسم بالأدب والخلق الرفيع والنقاش الهادئ مع المدافعين عن هذه العادات وهم بالغالب الأهل والزوج، وهي بالتالي خالفت في مسير قصصها، معظم القصص المنشورة في تلك الأيام والتي تستخف وتستهزئ وتحارب العادات القديمة وتشجّع الجيل الجديد على التمرد والمواجهة للأهل، للزوج، للقيم الاجتماعية القديمة ومحاربتها؛ لأنها قديمة!! ولا نعني بذلك أنها لها موقف لين لا بالعكس، لكن بطلاتها الصامدات في قصصها اتجاه الإغراء، التهديد والطرد، كانوا لا يهابونه، بل كانت تظهرهم بمظهر الهادئ الرافض لكل هذه العروض، لكنه مؤدب، ولا يجامل إلا بالحق، الأمر الذي يجعل التهور وفقدان التوازن العصبي، فالشروع بالطلاق أو الطرد من البيت هو من شأن المحاربين لبطلاتها المؤدبات القويات، سواء كان المحارب أماً، أباً، زوجاً.
ولا تنسى بنت الهدى أن تصالح الجيلين: الوالدين والبطلات، وذلك بهداية الوالدين إلى الإسلام، كما يحصل في الواقع المعاش في ذلك الوقت.
بصورة عامة لا تحاول الشهيدة بنت الهدى في قصصها إثارة المتزمّتين بالعادات الموروثة، بل نجد أنها في أول كتابتها للقصص في الستينات تحاول أن تبرز وجود مثل هذه العادات (المباحة) أي لم يأمر الإسلام بها وتركها للعرف العام، فادّعت بطلتها نقاء بعدم الحاجة إلى تعلم سياقة السيارة؛ حيث كان العرف آنذاك لا يستسيغ ذلك، وعدم إكمال التعليم للمرأة في أوروبا، فكانت بنت الهدى لا تجد ضرورة ماسة للثورة على هذه العادات، بل كما ذكرنا برّرت سبب التمسك بها.[3]
وهي كما نعلم أنها بعد سنوات كانت تنتقل من جلسة إلى أخرى في بغداد بسيارة تقودها صاحبتها المؤمنة الشهيدة سلوى البحراني، وكانت تجلس إلى جانبها فشجعتها على عمل الخير هذا، حيث كانت الشهيدة سلوى البحراني تقود سيارتها لخدمة الإسلام والمسلمين!! هنا نعلم أن الشهيدة بنت الهدى لم تكن رافضة للمرأة أن تقود السيارة، بل لأن الهدف كان أكبر وأهم وأن مجابهة كل العادات تخلق أعداء من كل طرف في وقت واحد يصعب التخلص والانتصار عليهم بسهولة، كما أن الشهيدة رحمها الله كانت توصي أن التغيير الاجتماعي لا يعني الانقلاب على كل ما موجود، بل لابد من التمييز ما هو له أصالة إسلامية فنحافظ عليه (ونزيل عنه ما تراكم عليه من انحراف وتشويه شيئاً شيئاً) بل وتشجّع الموقرين له المقدسين لهذه الشعيرة.
٢. الموضة (الموديلات) منذ أن صلى الملك فيصل بالقبعة الإنجليزية عند سفره إلى إنجلترا، وفي الوقت الذي اعتبره الإنجليز إهانة للقبعة؛ لأنه هبط بها إلى الأرض للسجود كان العراق قد استقبل ذلك بشيء من الإزعاج والتنفر؛ لأن الملك قد أدخل الموديلات الغربية، وهكذا كان ۔ كما قلنا سابقاً ۔ دخول العادات الغربية ومنها موديلات الملابس كل سنة، والتغير إذا حصل يبدأ عندما تحضر النسوة احتفال عرس كبير، وبالتالي تتعرف النسوة موديلات جديدة من خلال ما تلبسه العوائل الكبيرة.
لكن هذه العادة انزاحت بدخول التلفزيون واستيراد إنتاج المعامل الغربية، حيث عمدوا إلى نشر النزعة الاستهلاكية لدى الشعب العراقي وخصوصاً بعد إنتاج النفط؛ كي يصرّفوا منتوجاتهم، فكانت الدعايات تملأ الصحف والمجلات والتلفزيون. ولم يكتف باستيراد الملابس بل استورد حتى الراقصات من الخارج حيث استورد 200 راقصة أجنبية للترفيه عن الضبّاط!! وأشاع شرب الخمر، وسمح بفتح معامل الخمر واشترط ابتعادها عن المسجد 50 متراً، وأن لا يكون صاحبها مسلماً.
وعند ما جاء صدام إلى الحكم ألغى هذين الشرطين ۔ ولا أدري كيف ينخدع البعض بإسلاميته ۔ كما تم فتح دار البغاء بمرسوم جمهوري وبإشراف الوزارة، وتزوّد الباغية بهوية رسمية باعتبارها تمارس مهنة اجتماعية، كما فتح للمبنى فروع في بقية المحافظات، وازداد السفر إلی الخارج لإكمال الدراسة، وأصبح اقتران العلم والفساد والسفر إلى أوروبا هو شيء واحد، وهو الحضارة الغربية التى جاءت إلى العراق وفتحت مدارس حسب النظام الإنجليزي وإكمال الدراسات لا تكون إلا في بريطانيا!! ثم توسّعت لتشمل بقية الدول الأوروبية، ولم تفتح في العراق دراسات عليا نافعة للبلد إلا في وقت متأخر؛ ولهذا تقاطرت الوفود إلى الخارج وازداد الشعب التصاقاً مع العادات الوافدة ومنها الموضة، حيث كانت (بوردا) تختزل كل الموديلات وتسيطر على السوق ويترقبها الجميع كل عدد!!
ولو قمت عزيزي القارئ باستفتاء عن رأى الشهيدة بنت الهدى رحمها الله من النساء، واستفسرت عن ملابسها فلا يذكر أحد أنها كانت متنوعة، ولا أحد يذكر أنها كانت تتبع الموضة، ولا أحد يذكر لك أن فستانها كان غير ملائم في الجلسات الكبيرة التي كانت تحاضر فيها أو تحضر فيها، الجميع يذكر فستانها الأخضر الأنيق ولا شيء آخر.
أما في قصصها فتقول بنت الهدى على لسان بطلتها غفران:
أما موضوع البدلة التي ذكرتها فإنه يمكنك أن تذهبي إليها اليوم ثم ترسلي إليها بدلتك بعد أن يتم إنجازها، فتفرست هيفاء في وجه غفران: ما أراك إلا ساخرة بي يا غفران. قالت غفران: وإلا فما هو المانع الذي يمنعك أن تلبسي ما لديك من ثياب وكلها جميلة وأنيقة، وما هو الغرض من أن تكون زيارتك للعروس مرهونة بارتداء بدلة جديدة؟ قالت هيفاء: لكي أبرز بشكل مرضي ولكي أكون جميلة. قالت غفران: لا شك أن لك تجارب سابقة في خصوص هذا الموضوع وقد سبق أن ارتديت ما يبرزك بشكل مرضي فأين هي تلك الملابس ياترى؟
هكذا وجّهت الشهيدة بنت الهدى تلميذاتها في الابتعاد عن تلقّف آخر الموديلات ونزع الحالة الاستهلاكية واستبدالها بالقناعة.
وقد كانت بنت الهدى في هذا المجال قولاً وفعلاً، واستطاعت دون خجل أو وجل أو شعور بالضعف أن تدخل كل الاجتماعات النسوية المختلفة والمتناقضة في الموديلات والترف ببساطتها، وكانت تجذب بحديثها وتؤثّر على الحاضرات وهن يصبغن أنفسهن بمئات المساحيق وهي خالية من كل تسريحة ومن كل مكياج، كانت تؤثّر على الزمن ولم يؤثر الزمن عليها!
٣. الحرية والمساواة: جاء الغرب بهذا الشعار وطرحه الحزب الشيوعي، وتمردت بعض النسوة على تعاليم الإسلام في الزواج، وانتشرت ظاهرة العلاقات غير المشروعة قبل الزواج باسم (التعرف عليه) والحرية في الاختلاط، والمساواة فكما أن الشاب له علاقات سابقة فلابد أن يرضى بفتاة لها علاقات سابقة أيضاً.
عمدت الشهيدة بنت الهدى إلى رفض الموضوع تماماً؛ موضّحةً أن الحرام هو حرام سواء كان الرجل قام به أو المرأة، ولا يحق لنا نحن النسوة أن نتّبع الرجال في فسوقهم، بل علينا أن لا نرضى بأي علاقة معهم وإذا كان زوجاً تم الطلاق وإذا كان والداً أو أخاً فلا ارتباط ولا علاقة، ولا طاعة في معصية الخالق. كل هذا شرحته في قصصها.
فتمردت المؤمنات بشكل ملفت للنظر من الزواج من شاب غير متدين، ورفضت المؤمنات الحضور في الحفلات المختلطة، ولا يجلسن في مكان توزّع فيه أقداح الخمر فضلاً عن الاستماع إلى المغنيات ومشاهدة الراقصات الماجنات!
وانتشرت قصص بنت الهدى تعالج هذه المواضيع التي لم تكن نسجاً من خيالها بقدر ما كانت تنقل الواقع المرير والجهاد الكبير الذي كانت تعيشه المؤمنات الصابرات واللاتي يلجأن إليها، لقلبها الكبير، لمعرفة الحل والطريق الأفضل، لكي تبقى المؤمنة محافظة فيه على إيمانها وتقواها وعفتها.
4. السفر إلى الخارج: كما ذكرنا سابقاً أن هذه العادة قد حاربتها بنت الهدى؛ لما فيها من فساد على المرأة بالذات،[4] والسبب في ذلك هو عدم وجود نساء يواجهن التيار المنحرف بصمود حجابهن ويقوى عفافهن، حيث كانت الطالبات الجامعيات ينزعن العباءة في باب الجامعة ويدخلن الدرس سافرات؛ ولهذا نرى الشهيدة بنت الهدى في قصصها الأولى كالفضيلة تنتصر وغيرها توضح مفاسد وخطر الذهاب إلى الخارج سواء كان بصحبة زوج أو لإكمال الدراسة فمرة توحي لقرّائها انشغالها في الشهوات عن إكمال الدراسة، ومرة تظهر أن الخارج لا ثمرة له يقدّمها للمرأة الشرقية سوى أن يجعلها ألعوبة بيد الرجال يضعوها كيفما يشاؤون، لكن في قصتها الأخيرة عدلت عن هذا الموقف، بأن جعلت إحدى المؤمنات في الخارج تكمل دراستها الجامعية!! وكل هذا راجع إلى وجود تيار نسوي متدين قوي يشدّ بعضه إلى بعض، كما سنلاحظ ذلك في الفقرة التالية.
5. النزعة الاستهلاكية: كثيرة هي العادات الوافدة علينا وخلقت فينا حالة من الهلع والرغبة نحو الاستهلاك والشراء، ولا مفهوم للقناعة إلا عند الفقراء المعدمين. وهذه العادة موجودة في الغرب لتسويق الإنتاج وانتقلت كما ذكرنا إلى العراق، وأصبح من اللازم ارتداء بدلة جديدة لكل حفلة، وتقديم العديد من المأكولات المرهقة مالياً، قضاء أوقات فراغ المرأة في التجوال في الأسواق، الهدف الأساسي والعلامة المميزة للمرأة الأنيقة هو كثرة شرائها.
الترف، وقد عالجت الشهيدة بنت الهدى هذه الحالة بالحث على القناعة، وأوعزت سببه إلى حب الظهور والغيرة لتصدّر الأخريات، وفقدان الشخصية يجعلها تبحث عن كمال لها أو وجود لها في استهلاك ما يمكن استهلاكه، احتقار المجتمع وعدم تقييمه للفقير الذي لا مال له ليغذّي في ذاته نزعة الاستهلاك والبذخ والترف.
تقول بنت الهدى رحمها الله:
لم تمضِ ربع ساعة حتى صعقتها الصدمة فلم تجد إلا الصحون الخالية والكراسي المبعثرة، واتجهت إلى المطبخ لتجد المآكل التي كلّفتها الكثير من المال العناء، وحمّلتها المزيد من جميل المساعدات، وجدتها مصفوفة في صحونها فها لها الأمر واستعرضت في فكرها، فتح بينها وبين زوجها فجوة لم تكن لتوجد لولاه.
6. الرجعية في الروحية، والتقدمية في المادية:
من المآسي التي نعاني منها حد يومنا هذا هو اعتبار كل الأمور المعنوية أمور قديمة رجعية وأسطورة من الأساطير التي نشغّل أذهاننا بها ونهرب عن الواقع الذي نحسبه ونلمسه (الماديات) فقط.
وقد عالجت بنت الهدى في قصصها هذه الظاهرة بكثرة وتصور الخيبة والفشل الذي تصل إليه المرأة المادية التفكير وتكتشف في النهاية أنها أسيرة وألعوبة للماديات والشهوات، وأنها إذا أرادت لروحها الحرية فعليها بالتوجه إلى الله تاركة الشيطان وأساليبه والغرب وألاعيبه. تقول بنت الهدى:
أوضحت لهن أنهن هن اللواتي رجعن بسلوكهن إلى أبعد عصور الجاهلية حيث لا أحكام ولا قوانين ولا مثل ولا مفاهيم، المرأة والرجل والحيوان في عرفهم سواء، غايتهم الماء ولقمة العيش!!
٧. احتقار الذات وتمجيد الأجنبي
لقد كانت هذه أول الأهداف التي توخّتها الأفكار الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي، فشعورنا بالعجز والضعف لأننا مسلمين أولاً ونساء متأسرات بفعل إسلامنا ثانياً وجهلنا وقلة تعلّمنا أمام هذا الكمّ الهائل من المخترعات والعلوم الحديثة للغرب، هذا أدى إلى أن يكون مفروغاً منه، تمجيد الأجنبي؛ لأنه غدا المرجع والقياس الصحيح الذي يستند فيه تصحيح القياسات المادية والمعنوية؛ والسبب لأنه أجنبي سواء بالمواد والأجهزة المستوردة أو بالأفكار والنظريات الاجتماعية.
وقد ساعدت هذه العقدة (احتقار الذات) إلى زعزعة المفاهيم والتقاليد الدينية عند الشعوب، وسهل استلاب شخصيتها واستعمارها وتجنيد عملاء من أبنائها ضد مصالح الأمة الإسلامية تقول بنت الهدى:
فهل يمكن لأمة أن تتقدم وتتحضر بحضارات أجنبية لا تمت لها بصلة لتكون بذلك متقدمة، فإنها لم تتقدم خطوة، ولم تزدهر لحظة، وإنما الأفكار الخارجية والدعايات الأجنبية هي التي تقدمت وازدهرت على حسابنا نحن أعدائها الحقيقيين.
٨. الصراع بين الجنسين: منذ أن طرح الغرب شعار المساواة حتى ظهر الصراع بين المرأة والرجل، وبدأ يتطور في داخل الغرب قبل انتقال شعار المساواة إلى الشرق، وأصبح كل من ينادي من النساء بالمساواة والاستقلال الاقتصادي وحق الملكية للمرأة فهو ضد الرجل!!
ربما لا علاقة موجودة بين موقف المساواة مع الرجل والصراع معه، ولكن النتيجة التي وصلتها المرأة الغربية المظلومة من قبل الرجل هو محاربة الرجل لأجل أن تحصل على حقوقها المهدورة؛ ذلك لأن الرجل بيده سَنّ القوانين بعد سقوط الكنيسة، وقد جر الصراع إلى المزيد من الآلام والظلم للمرأة؛ كما أن أفكار الغرب القائمة على أساس الصراع، حيث يفسرون كل ظاهرة به حتى الظواهر الطبيعية يصفوها بأنها تسير تحت قانون الأصلح للأقوى!! هي سبب رئيسي لاحترام الصراع بين الجنسين، علاوة على ظاهرة الاستقلال والاستكبار التى تجعل العلاقات خالية من الحب والرحمة والوفاء؛ لهذا فقد حاربت الشهيدة بنت الهدى هذه الظاهرة وصوّرتها بشكل استهزاء مقزّز (العلاقات التي تربط مثل هذه الشخصيات المخدوعة بعضها ببعض) هذا مع العلم أن الشهيدة بنت الهدى كانت تدعوا إلى التعلم والمساواة والحرية ولكن بانطلاقة إسلامية عادلة تختلف تماماً عن انطلاقة الغرب الاستكبارية للحصول على حقوق المرأة؛ لأنها (انطلاقة الغرب) صراع بين سلطتين (سلطة الرجل على المرأة وسلطة المرأة على الرجل) والأصلح هو الأقوى والغالب في الصراع، أما الشهيدة بنت الهدى (والإسلام) يراه صراعاً بين الاستكبار والاستضعاف، صراعاً بين العدل والظلم، بين أنصار الله والشيطان، وأن الرجل والمرأة مأمورون بمراعاة التقوى والحلال والحرام في علاقاتهم مع بعضهم البعض.
حتى الطاعة للزوج فقد رأته بنت الهدى هو جزء من المودة والرحمة التي أوصى الرسول النساء بالالتزام به لأجل سعادتهن وراحتهن، ولا يعملوها لأنهن أسيرات لا حق لهن في الحياة، بل يعملوها لأنهم يطيعون الله، ولابد من الصراع لإحقاق الحق. تقول الشهيدة بنت الهدى:
فالإسلام مثلاً يفرض على المرأة إطاعة زوجها وأبيها في بعض الأمور التي لا تتلاءم مع مصلحتها العامة، ولكنه لم يجعل منها ألعوبة في يد الرجل يفرض عليها سيطرته فرضاً بدافع من قرابة أو سمو مكانة فيتحكم بتصرفاتها وحركاتها وسكناتها.. فاسمعني يا أخي المسلم ولا تتحكم مع ميولك ولا تندفع وراء أهوائك تحت ستار من الدعوة إلى تطبيق الإسلام، فالإسلام سمح سهل لا يريد للمرأة إلا العزة والكرامة.
د ۔ عادات وتقاليد موروثة عن الدين
لقد واجهت العادات والتقاليد الدينية حرباً هوجاء من قبل السلطة الحاكمة والسلطة الرابعة (الإعلام) في البلاد، بحجة التخلف والرجعية والجمود الفكري ومع هذا فقد صمدت هذه العادات كالعادات القديمة الأخرى (رقم 7) لعمقها في ضمير الأمة من جهة، ومن جهة أخرى لقوة ارتباط الشعب بالإسلام، فكلما زاد الشعور الديني الشعبي ظهرت هذه العادات أكثر تنظيماً وتهذيباً وحيويةً، الأمر الذي جعل هذه العادات الدينية رمزاً للشباب المتدين ثم المعارض للظلم، كما سنرى ذلك في الفصل القادم إن شاء الله.
في البداية كانت المتدينات المبتدئات يرفضن العادات الدينية باعتبار عدم وجود نص شرعي ۔ حلال أو حرام ۔ عليها، لكن الشهيدة بنت الهدى وبصبرها وحكمتها الواسعة قرّبت الجيل الشاب المتدين من هذه العادات، واعتبرته وميض تراث لو تمسكنا به فسوف نقرّب الدين للناس المتعلقة بهذا الوميض. تقول بنت الهدى:
إلى المجد يا فتيات الهدى |
لنحيي مآثرنا الخالدات | |
ونكتب تاريخنا ناصعاً | مضيئاً بأعمالنا الزاهرات |
١. العباءة
وهو اللباس التقليدي لنساء العراق، وقد واجهت (العباءة) ضغوط كثيرة وإشاعات قاسية، وربما كانت أول شعار تقليدي ديني يحارب بهذا الشكل الواسع الصحف والشعراء والمدارس: الكل لا يريدون العباءة لماذا؟ لأنها عادة فارسية رجعية متخلفة جاهلة متحجرة، حجر عثرة أمام تطور المجتمع، عبودية وأسر للرجل، ومن جهة أخرى زاوجت السلطة الرابعة ۔الإعلام۔ بين السفور والعلم، ففي الوقت الذي يدعو فيه الطاهر الحداد ۔على سبيل المثال۔ في سنة 1930 في كتابه (أسرتنا في الشريعة والمجتمع) إلى تعليم المرأة وضرورته العملية دعا في نفس الوقت إلى رفع الحجاب باعتباره رمز خضوع المرأة وانقيادها إلى الرجل. هذه الفكرة قد حاربتها بنت الهدى بشدة في كتبها وأشعارها وفي تخطيطها للعاملات بالتوجه نحو الجامعات وإكمال تعليمهن، وحثّهن على الدراسة بتفوّق. تقول بنت الهدى:
فكأنما التعليم ليس بممكن إلا إذا برزت بغير غطاء! في الوقت الذي يكون ذلك سهلاً ويسيراً إذا طبّق النظام الإسلامي، وارتفع شبابنا عن وهدة الجنس وتسامى عن حضيض الرذيلة، وإذا عمت النظرة الأخيرة وشاعت الفكر الإنسانية الفاضلة بين المجتمع الإسلامي، وإذا اكتسبن فتياتنا شيئاً من صمود أمهاتنا المسلمات وراجعن عهودهن الزاهرات، أيام كنّ يعقدن النوادي الأدبية ويفحمن أعاظم الرجال من وراء حجاب، أيام كنّ يشهدن الحروب الدامية! وهنّ كالزهرة في الأكمام لم يعقهنّ الخمار عن خوض الميادين.
أما في الواقع العملي ۔ وكما ذكرت ذلك معظم قصصها؟سها؟ ۔ فكان الحجاب المتعارف للطالبات والجامعيات والسافرات اللاتي رجعن إلى الإسلام هو الجلباب الطويل وغطاء الرأس. ولم تكن العباءة شعاراً تلبسه تيار الشهيدة بنت الهدى في السبعينات، لكن بعد الهجمة الشرسة على الحجاب في الجامعات وغيرها التجأ أكثر الشابات إلى ارتداء العباءة وتحتها غطاء للرأس والصدر كي تحافظ على حجابها إذا ما فتحت حجابها، وهذا الأخير أيضاً أصبح رمزاً معارضاً حوربت عليه المرأة المسلمة وأصبحت العباءة (الملتزمة) مثل الحجاب ۔ الجلباب وغطاء الرأس ۔ معروف بتديّن صاحبته والتزامها الكامل بالشريعة الإسلامية، ويرفع تقرير الأمن في المنطقة عادةً بالقول: إن هذا البيت رجعي أو إن أفراد عائلته رجعية أو من حزب الدعوة أو لهم ميول وعمالة رجعية.
٢. القيادة إرشاد لا استكبار أو سيادة
يتصور الكثيرون أن القائد الإسلامي هو سيد مستكبر؛ لأنه الأفضل والواجب الطاعة، وقد أوضحت بنت الهدى أن المرء كلما زاد تدينه وتقواه كلما ازداد تواضعاً واحتراماً بين الناس، وأن الطاعة له طاعة محبة. وأما الطاعة لفرعون فهي ناتجة من استخفاف واستكبار فرعوني، إنهم كانوا قادة للعالم لا سادة، والإسلام لا يعترف بقانون السادة والعبيد، لم يكن المسلمون في طريقهم للسيادة على العالم، بل كانوا في سبيل إرشاد العالم وتوجيهه، ولا يمكن الخلود لمبدأ ورسالة تقوم على السيادة.
٣. الشعائر الحسينية
أ ۔ كانت المجالس الحسينية التي تعقد بين النساء جامدة الفكر والمعنى سلبية النتائج، لا توضّح بطولة العقيلة زينب بقدر ما توضّح وحدتها ومسكنتها وذلتها، إضافة إلى وجود مراسم اللطم بأشكال مختلفة، وكلٌ له عادة خاصة يعرف بها عند اللطم: لطم العمارة، لفحة بخفّيه.. وأخيراً كانت عادة لبس السواد في شهر محرم وصفر.
كانت ۔ كما ذكرنا سابقاً ۔ هذه العادات موضع رفض من قبل المتدينات المبتدئات حيث كن يواجهن هجمة شرسة تجاه حجابهن، وعلاوة على ذلك كان الاستهزاء بالحجاب وبشكل المحجبة لا يقف عند حد أو نوع، وكان الاستهزاء يشمل الشعائر الحسينية أيضاً في مناطق مثل بغداد ومحيط مثل الجامعات وغيرها، فيعتبر لبس السواد واللطم على شخص قد مات قبل 1400 سنة مسألة غير مقبولة ولا عقلانية فيها!! وقد شجّع هذا الكلام وجود تيار ديني يدعوا إلى نسيان هذه الواقعة المؤلمة وبدء صفحة جديدة تقرّب بين السنة والشيعة المتدين.
استوعبت بنت الهدى هذه الحالة عند المتدينات المؤمنات ولم تخض معهم في مناقشات ومصادمات كالتي كانت تخوضها معهن حول لبس الجوراب الثخين مثلاً، التي سيأتي الحديث عنه في الفقرة التالية.
ب ۔ لكنها عمدت إلى كتابة واقعة الطف والحديث عنها من جانب أنه يشكّل نقطة مضيئة وشجاعة وقوة للمرأة المسلمة ضد الظلم والطغيان، وكان هذا الحديث له عذوبة خاصة وجديدة غير مطروحة في الوسط النسوي في المجالس الحسينية؛ لذا عمدت بنت الهدى إلى كتابة أحاديث الملّة ۔ القارئة الحسينية ۔ وشجّعت الوجوه الشابة المؤمنة من امتهان هذه المهنة المقدسة ودفعهن إلى ممارسة القراءة الحسينية بعد أن كانت مقتصرة على العجائز أو اللاتي ليس لهن معيل!!. كانت هذه الخطوات التجديدية قد أعادت الحيوية و(الفخر) للمجالس الحسينية.
ج ۔ وحتى لبس السواد أصبح رمزاً لرفض الظلم، وليس حزناً على ميت قبل ألف سنة، جعلت من المتدينات ۔ وخصوصاً في الجامعات ۔ يرتدین السواد في أيام محرم وصفر ۔ بحيث إن الجامعة اضطرت إلى وضع قانون الزيّ الرسمي للحيلولة دون لبس السواد في الجامعة! وقد صمدن المؤمنات تجاه هذ التخطيط واعترضن عند أعلى مستوى في الجامعة على هذا الإجراء المخالف لعادات اجتماعية موروثة!! الأمر الذي أدى إلى جعل هذا القرار إلى قانون على ورق.
واللطيف ذكره أن اللاتي قمن بالدفاع عن هذه الشعائر الحسينية ۔ لبس السواد ۔ ووقفن بصمود في الجامعة على ارتدائه كن سابقاً من المعارضات لهذه الشعائر وبالذات لبس السواد، وبحكمة الشهيدة بنت الهدى وتروّيها في الإقناع أصبحن لا يعبأن بكتابة التقارير عليهن جراء صمودهن هذا.
د ۔ أما اللطم فكانت الشهيدة بنت الهدى تشجّع عليه أيام عاشوراء، بل عمدت إلى تعليم البنات على طريقة اللطم؛ كي يكن نموذجاً مقبولاً في المجتمع الذي اعتاد على اللطم لإظهار حزنه على أبي عبدالله الحسين، وكانت تراه مفيداً بجذب النساء إلى المجالس الحسينية الهادفة التي كانت تعمد رحمها الله إلى الإكثار من إقامتها في مختلف البيوتات التي تزورهن في بغداد أو الكاظمية.
4. الجوراب السميك
أ ۔ اعتادت المحجبات في العراق لبس الجوراب السميك إكمالاً لحجابهن (العباءة) لكن هذه العادة (تميّعت) وأصبحن النسوة يرتدين جوراباً خفيفاً وحجتهن الواجب هو تغير لون البشرة. أما المتدينات وحتى اللاتي يرتدين الحجاب التقليدي كن يلبسن الجوراب السميك في الشارع لكن عند وصولهن إلى بيت مضيّفتهم ينزعنها ويرتدين الجوراب الخفيف؛ تمشّياً مع (المودة) والعرف السائد في ذلك الوقت، وخصوصاً أيام الصيف الحارة؛ لأجل أن يكون المظهر منسجماً مع ملابس الصيف الخفيفة أثناء جلوسهن مع النسوة في احتفال أو دعوة ضيافة.
أما الشهيدة بنت الهدى فقد وقفت من هذا الأمر موقفاً صلباً، رفضت الجوراب الخفيف ودخلت في نقاش طويل مع من يرفضن إكمال حجابهن بلبس الجوراب السميك، بل عمدت إلى خطّة ذكية حيث إنها كانت لا تنزع جورابها السميك كما تفعل النسوة عند الدخول إلى الاحتفال النسوي الصيفي ۔ بل تبقى مرتدية إیاه، مما يثير استغراب الجميع بسبب عدم انسجام المظهر ۔ الملابس صيفية والجوراب سميك ۔ ومع هذا فقد بقت وأصرت على ارتدائه وشجّعت حتى البنات (15 ۔ 20) إلى البقاء بالجوراب السميك بعد نزع حجابهن والجلوس في الاحتفالات النسوية، كانت ترى أنه خير طريقة لإثارة التساؤل عن لبس الجوراب السميك في صيف حار، للدخول من خلال هذا التساؤل إلى موضوع الحجاب، فكم مجلس نسوي دخلته بنت الهدى وتلميذاتها أيضاً وأثار لبس الجوراب السميك هذا التساؤل وانفتح موضوع الحجاب وردّ الشبهات عنه.
كانت بنت الهدى تقول: إننا بعد أن ننزع حجابنا أمام النسوة سوف لا نتميز عنهن بشيء ولا يعرفن في الجلسة كم محجبة فيه؛ لأننا جميعاً فيه سافرات، لكن الجوراب السميك سوف يكشف عن أن هذه المرأة محجبة في الشارع، ويثير تساؤلاً أيضاً والإجابة ستكون انبثاقة هداية وانطلاقة إيمانية للمتسائلة، وهكذا كان بالفعل فقد أثار موضوع الجوراب السميك جدلاً واسعاً انتهى إلى سرعة انتشار للحجاب الكامل في مدن بغداد والكاظمية.
ب ۔ كما عمدت تلميذاتها في المدرسة إلى ابتكار حمل ربطة غطاء الرأس باليد بعد نزع حجابهن داخل المدرسة؛ لئلا تفاجأ بالفرّاش أو المفتّش يدخل الصف أو ساحة الطالبات، وكلما تحجّبت طالبة تبدأ يرفع الإيشارب ۔ غطاء الرأس ۔ وحمله باليد، مما أدى إلى لفت أنظار الطالبات إلى الحجاب والدخول في ندوات جماعية للنقاش مع المحجبات حول الحجاب والدين.
وفي إحصائية لطيفة قامت بها طالبة في الثاني متوسط أنه خلال 3 أشهر من هذا العمل في منطقتها تحجّبت 100 طالبة، هذا الحجاب الذي لم يكن متعارفاً عليه ۔ الجلباب وغطاء الرأس ۔ أو العباءة الملتزمة، العباءة مع الإيشارب، وكان ذلك عام 1969 ۔ 1970.
5. زيارة العلماء
ضعفت العلاقة بين المرأة والعالم منذ أن انحسر دور المرأة في المجتمع، واقتصر على البيت، ولكن بقي لقاء المرأة مع العالم مقصوراً على قضايا الزواج والطلاق والإرث، لكن بعد انتشار الوعي الإسلامي في أوساط النساء بفضل حركة الشهيدة بنت الهدى، كانت النسوة تلجأ إليها لمعرفة الأحكام الشرعية التي تأخذها؟سها؟ من الشهيد الصدر (رضوان الله عليهم) واتسعت وشملت أحكام اجتماعية وعقائدية، ولم تعد المرأة تسأل عالم منطقتها ما يخص مشاكلها الذاتية فقط.
أ ۔ منذ أول تحرك الشهيدة بنت الهدى في أوساط النسوة دأبت على تقوية العلاقة بين المرأة ومرجعها، ففي سنة 1969 في أواخرها توفي الإمام الحكيم رضوان الله عليه شجّعت الشهيدة بنت الهدى رحمها الله البنات المؤمنات في بغداد على المجيء إلى النجف للتعزية على شكل موكب نسائي، فانطلقت النسوة وسرن بشكل مرتب في شوارع النجف حتى الدخول إلى بيت الإمام الحكيم، وهناك ألقيت كلمة من قبل ممثّلتهن واستقبلتهن الشهيدة بنت الهدى.
ب ۔ وهي نظّمت الوفود النسوية التي رغبت في المجيء لبيعة الشهيد الصدر في الثمانين، وخطّطت حتى مسيرتهن، إلا أن الظروف منعت من مجيئهن؛ لأن الشهيد الصدر قد شكر الوفود وطلب منها عدم المجيء فلم يحظ من النسوة في البيعة إلا وفد البصرة النسوي.
6. الصلاة في المساجد
لم تكن النسوة في العراق تذهب للصلاة في المساجد وإنما فقط في حضرات المراقد المقدسة، هذا بالنسبة إلى الشيعيات.
أما السنة فقد كانت المساجد تستقبلهن، والصلاة خلف إمامها، لكن بعد انطلاقة النسوة نحو إسلامها تم فتح المساجد للنساء وخصّصت أماكن خاصة للنساء للصلاة والاستماع إلى المحاضرات، وأصبحت مركزاً للنشاط الديني النسوي في المنطقة، كانت الشهيدة بنت الهدى تشرف وتشجّع النسوة على التواجد والصلاة هناك، فأثيرت شبهات أن صلاة المرأة في بيتها أثوب، وبالتالي تكون أثوب من المسجد، فشرحت الأمر إلى الشهيد الصدر الذي أفتى بدوره على حصول ثواب أكثر للمرأة إذا صلّت في المسجد؛ لما يحمل تواجدهن هناك على تقوية أواصر الدين وتعلم أحكام الإسلام.
٧. الاحتفالات الدينية
أ ۔ كانت تجري في مناسبات محدودة ومحصورة للرجال، أما النساء فكانت مقتصرة على احتفالات مولد الرسول صل الله عليه و آله وليلة 15 شعبان، وعندما توسّع الواعون في إقامة الاحتفالات بمواليد الأئمة عليهم السلام سعت بنت الهدى إلى تشجيع العاملات على إقامة الاحتفالات بمواليد الأئمة، بل كانت تشجّع كما نلاحظ في قصصها على اللقاءات الأسبوعية ومذاكرة الدين، بل دعت إلى ابتكارات لإحياء ذكر الأئمة ليس في مواليدهم فقط، بل حتى في الأعراس. فتشكلت مجموعة من المؤمنات لإنشاء المواليد الإسلامية الهادفة تتخللها أسئلة وأجوبة عن العرس وأهداف الزواج، والزواج الصالح، والحجاب و.. كما توزّع الحلوى وقد كُتبت الأحاديث الإسلامية وغلّفت الحلوى بها وبعد ذلك بدأت المواجهة للوقوف أمام الرقص المبتذل والأغاني المحرمة في الأعراس، فتغلقها المؤمنات ۔ الضيوف ۔ ثم يبدأن بإنشاد الأشعار بألحان عذبة مما يطيب خاطر العروس وأهل العريس؛ لأن البديل أجمل وأكثر صفاءً وطهارة وإخلاصاً.
ب ۔ كما أن الشهيدة بنت الهدى استفادت في أول حركتها في بغداد من عادة اجتماعية تدعى النسوة فيه لشرب (شاي العباس) فتلقي بنت الهدى محاضرتها.
ج ۔ وكانت أول امرأة تقوم بهذا الشكل من المحاضرات الذي نألفه اليوم، أما في ذلك الوقت فقد كان غريباً جداً ۔ ويتكرر نذر شاي العباس شهرياً لدى هذه المرأة التي استجاب الله لنذرها فتعمد إلى إقامته شهرياً وفاءاً للنذر، فكانت كل 3 بالشهر تعقد هذه العادة الاجتماعية (شاي العباس) وتأتي النسوة حسب الموعد المتعارف للمشاركة وللنذر ولاستماع محاضرات الشهيدة بنت الهدى، فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث ورحمة الله وبركاته.
السلطة في مواجهة بنت الهدى رحمها الله
ربما لم تكن بنت الهدى تتصور وهي تكتب (بطولات المرأة المسلمة) أنها ستكتب بدمها الطاهر الفصل الأخير من كتابها، حيث إن الحكومات المتعاقبة على الشعب العراقي لم تجرأ على إقحام المرأة المتدينة في السجن أو التعذيب، بل كان دخول المتدين السجن علامة على عمالة السلطة للأجانب؛ لأن الاستعمار هو أول من حارب الدين، وعلماء الدين هم أول من قاد الثورة ضده.
ويتصور الكثير ممن لم يعش في العراق أن النظام في العراق لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الحاكمة في العالم الثالث المستبدة؛ لذا يتخيل في نفسه أن هناك انفراجاً سياسياً بسيطاً يتمثل بإبداء الرأي أو حق التصويت على قرار سياسي بسيط، فيستغرب عندها من السبب في سكوت الشعب وعدم إبداء معارضة للنظام الحاكم، متصوراً أن هناك فسحة من الحرية بسيطة يمكن أن تكشف عن رأي الشعب، وخصوصاً أن إعلام السلطة الخارجي يوحي باستمرار على وجود حرية للشعب منذ أول يوم، ولا يدري العالم أن شعب العراق لا يملك دستور دائم إلا قبل سنوات ويحكم بالدستور المؤقت ثم مجلس قيادة الثورة ثم بشخص صدام وعائلته المتفرعنة وبعد ذلك أعلن عن دستور دائمي كحبر على ورق لا يغني ولا يسمن من جوع.
وفي ظل نظام دكتاتوري لا يتوقع أحد أن بالإمكان أن يتربى الفرد سياسياً أو يكون له حق في إبداء الرأي، فهذا الاستضعاف السياسي شمل الرجل والمرأة على حد سواء، كما أنه لا يسمح لأحد غير السلطة في إبداء رأيها ونقدها ومعارضتها لسياستها، ومع هذا لم نجد للمرأة حضور ولو على مستوى السلطة الحاكمة؛ وذلك لأن هدف السلطة هو تمييع دور المرأة وجعله مقتصراً على الجانب الأنثوي الإغرائي، وليست هي المبدعة في هذا الإجراء، فقد كانت المرأة لعبة ودمية الرجل الحاكم أو السياسي للوصول إلى أهدافه السياسية، سواء ذلك في الشرق أو الغرب، ويستخدم من لعبته هذه الجانب الجنسي فقط؛ وبهذا تزاوجت السياسة مع الإغراء فابتعدت النسوة عن الحركات السياسية العلمانية بعدما شاهدت بنفسها درجة الإهانة والذلة في التعامل من قبل السياسيين، وانعكس آثار هذا التعامل لدى الناس؛ لأن الحكومات المتعاقبة جميعها علمانية، فأصبح من المنكرات الاجتماعية تداول المرأة السياسية فضلاً عن ارتقاءها في المناصب الحزبية أو السلطة الحاكمه.
ولكن هذا لا يعني أن لا وجود للمرأة في السلطة الحاكمة، فقد دخلت النساء الأحزاب كحزب البعث والحزب الشيوعي وغيره وتعرضت للاعتقال بعد كل انقلاب يحصل، وكان من الواضح عند الناس أن هذه الأحزاب علمانية، وبالتالي فالنساء فيها غير متدينات، أو مجبورات فهن أسيرات جامدات في التحرك السياسي للسلطة.
أما الإسلاميون فقد كانت الحركات الإسلامية تتخذ من الإسلام منبعاً ومنهجاً وتخطيطاً؛ لذ اتسمت حركة الوعي التي قادتها بنت الهدى في وسط النساء باسم الدعوة الإسلامية، والملاحظ في أول كتاباتها في مجلة الأضواء والتي جمعتها في كتاب كلمة ودعوة استخدامها لهذا الاسم كثيراً حتى غلب عليه اسم مصطلح للتحرك الإسلامي الذي قاده الشهيد الصدر رضوان الله عليه ولم تكن السلطة في البداية قد اتخذت موقف المواجهة من هذا التحرك، لكن كانت تراقبه بحذر، وتتحرش بالإشاعات والتهم وتدرس حساسية الأمة تجاه هذا التحرك.
وكانت الشهيدة بنت الهدى تؤمن بما قاله الصدر الشهيد تجاه السلطة الغاشمة، بأنها تقضي على الإسلام ولابد من مواجهتها قبل أن تستفحل، لكنها كانت حذرة جداً ويقظة مع أن تصرّح بكلمة يمكن أن تدان عليها وتتخذها السلطة حجة في اعتقالها؛ لذا لم نرى في قصصها ما يشير إلى عداء تجاه السلطة، ولم تقدر السلطة الوقوف بوجه تداول كتبها بين الطالبات إلا بقرار رسمي يقضي بمنع أي كتاب غير دراسي تتداوله الطالبات في المدارس، ومع هذا كانت كتبها تنتشر، وانشداد الفتيات بها يزداد أكثر وأكثر، حيث اضطرت لتخصيص يوم السبت لاستقبالهن في بيت أخيها، ثم جعلته وقتاً حراً حتى في وقت الظهيره، حيث يتمكن الجامعيات من زيارتها والاستفادة من نصائحها.
وقد اعتادت بنت الهدى على الحذر في الجلسات العامة، وهي تدرك أن الجاسوسة تسجّل سهواً أشياء تعتبرها السلطة خطيرة؛ لذا كانت واضحة في الكلام ولا تغمز فيه ولا تشير فيه إلى ما يثير السلطة عليها، ومع هذا فقد تعرضت إلى المضايقات، فقد حاول أحد رجال الأمن بالتحرش عندما استقلت تاكسي ينقلها من بغداد إلی الکاظمية في وقت متأخر من الليل، ولم تکن ترکب تاکسي لوحدها إلا من شركة سيارات مطمئن منها، ومع هذا فقد أدى رجل الأمن مهمته فأوقفت السيارة ونزلت في منتصف الطريق، وتصورت السلطة أن مثل هذه الأعمال الاستفزازية سوف تثني امرأة شابة عن الإقدام والمسير في هذا الطريق إلا أن قصتها الجديدة قد طبعتها وظهر الشعر الذي انبثق من قريحتها كما ذكرت وهي تهبط من السيارة مهددة السائق بفتح باب السيارة وهي تسير، فلما نزلت وسارت في الشارع المظلم وحيدة أنشدت قصيدة (لن أنثني) المشهورة وقالت في وقتها:
أنا كنت أعلم أن درب الحق بالأشواك حافل | ||
خال من الريحان ينشر عطره بين الجداول | ||
كما أن خطوة تأميم المدارس ۔ والذي كان هدفه بالأساس القضاء على المدارس الإسلامية الأهلية ۔ قد أرادوا به تحجيم حركتها وجعلها تحت نظرهم المباشر، حيث طلبت منها وزارة المعارف أن تقدم طلب لهم لتعين معلّمة في المكان الذي يختاروه لها، فرفضت ذلك وهي تعلم أن فيها خسارة مادية، حيث إنها تحصل على راتب وشهادة علمية بخبرتها في التعليم إن وافقت على ذلك، فلولا زهد الشهيدة وصبرها على تحمل الضغوط لاستسلمت للإغراءات ولما استطاعت أن تبني تياراً نسوياً حراً يرفض الضغوط متخذاً بنت الهدى قدوة.
والكل يعلم كم الجهود التي صبّتها الشهيدة بنت الهدى لتقرن العلم بالحجاب والشرف والأمانة والأخلاق العالية، وكم تحصل البلاد على الإنتاج الأفضل والطهارة والصفاء بانتشار الحجاب، وقد أثمرت ۔ كما ذكرنا ۔ جهود بنت الهدى والكثير من المخلصين في إيجاد ظاهرة الحجاب في المدارس والجامعات، لكن مع الأسف الشديد لم يرق ذلك للسلطة الحاكمة واعتبرت الحجاب رمزاً للعمالة وللتخلف ووقفت بوجهه، حتى غدا الحجاب رمزاً للمعارضة، والسفور رمزاً للمحايد، والتحلل الخلقي رمزاً للبعثي النصير وجهاز الأمن والمخابرات السيّء الصيت، كما أصبحت الإشاعات تطلق على المحجبات بأنهن من وراءهن امرأة تدعى بنت الهدى تحت الرقابة، وقد أدى أن تقطع بنت الهدى مجيئها إلى الاحتقالات كي لا تضاعف الإشاعة والخوف منها في المجتمع.
وكان لبنت الهدى أمل في الوصول إلى نتيجة مع النظام ترضي الله وتحمي المؤمنين من إراقة دمائهم، لكن السلطة رفضت إلا المواجهة وأشاعت في أوساط البعثيين الغافلين بأن القضاء على محمد باقر الصدر سوف ينجي الشباب المخدوع به وتنقذ البلاد من إراقة الدماء، فاستكانوا إلى هذا الأمر ثم اكتشفوا أن مقتل الصدر لم تكن نهاية لإراقة الدماء وإنما هي البداية، فاستشاط الكثير منهم فسجن وعذّب واستشهد الكثير من البعثيين الذين وعوا الحقيقة بعد فوات الأوان.
من هنا تغيرت حركة بنت الهدى بعدما وجد الصدر أن لا معنى للسكوت ولابد من إعلان المواقف، وأن السكوت تخاذل، وانطلقت بنت الهدى تعلن أن لا فائدة من السكوت، لا سكوت بعد اليوم، وبنت الهدى الوديعة التي كانت توصي البنات والمتزوجات بالهدوء والاستكانة والحفاظ على الأسرة والأولاد ونشر الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، هذه الشهيدة بنت الهدى نفسها تقوم بتشجيع النساء، البنات المتزوجات، المتعلمات، الجامعيات، ربّات البيوت، أمهات الأطفال على أخذ البيعة للصدر الشهيد، ولحماية الولاية متأسية بأمها الزهراء؟عها؟ عندما ضحّت بموقعها ومكانتها، وقدّمت نفسها شهيدة لحماية ولاية علي عليه السلام فتقدمت بنت الهدى وتبعتها النساء إلى مرقد الإمام علي عليه السلام وصرخت بصوت عالٍ: الظليمة الظليمة.. يا جداه إني أشكو إلى الله.. لقد اعتقلوا ولدك الصدر.. وتبعتها النساء بتظاهرات احتجاجية انطلقت مع تظاهرات الرجال من الصحن الشريف، ووصلت الأنباء إلى بغداد وبقية المحافظات، فخرجت الناس مندّدة بهذا الاعتقال.. فأدى إلى أن تخرج السلطة الشهيد الصدر من اعتقاله وإرجاعه إلى النجف.
إن المرحلة الجهادية التي تمر بالعراق تتميز عن غيرها، بأن العمل الإسلامي البسيط الذي قد لا يأخذ زمناً ولا جهداً تكون نتائجه مرة وطويلة، فيحتاج المرء إلى إقناع نفسه بفائدة هذا العمل البسيط جراء المحنة التي سيعانيها من نتائجه، فالخروج إلى التظاهرة أو الإعلان عن اعتقال الشهيد الصدر، زيارة بيت الشهيد الصدر أو الاحتجاج بصوت عالٍ على ظلم السلطة، أو حتى التهامس مع غريب حول ذلك، أو أوقعت نفسك في موقع يمكن أن يشتبه بك، أو حملت كتاباً للشهيد الصدر أو زرت أحد الناشطين أو التقيت به لسبب تجاري أو غير ديني كل هذه الأمور البسيطة قد أدت أن يكون حكمك السجن لسنة أو لعشر سنين أو الإعدام، أو الإقامة تحت المراقبة الشديدة. والحجز كما حصل لبنت الهدى.
ويا ليت الأمر يقتصر على نفس الشخص الذي قام بهذا العمل البسيط بل يشتمل حتى أقرباءه وأعزاءه، حتى الدرجة الثالثة!!!
فأي ظلم مثل هذا الظلم، يحتاج المرء أن يقدّس هذه الصرخة المدوية وأن لا يتصور أن انتظار بنت الهدى طلوع النهار بعد اعتقال السيد الشهيد.
عمل بسيط لا يحتاج إلى الجهد والحكمة والصبر والقوة والعزيمة؛ لأن في طلوع النهار ۔كما قالت بنت الهدى۔ تواجد عدد أكبر من الناس مما هو عليه في وقت الفجر، لقد أوضحت هذه الصرخة المقدسة دروساً كثيرة منها:
١. أن الشهيد الصدر قد وجد لا فائدة من المماطلة سوى الموت سراً تحت أستار الظلام؛ لذا وجد من الضروري نقل المواجهة إلى الضوء لينكشف الزيف ويظهر الحق.
٢. أثارت الصرخة ضمير القاعدين أو الذين يجدون أن الحفاظ على حياتهم أكثر فائدة من التحرك والمواجهة بعمل بسيط كما ذكرنا، فصرخ الصامتون وكسروا حاجز الخوف وهم يشاهدون امرأة عظيمة تضحّي بنفسها بصرختها هذه.
٣. أصبحت صرخة الظليمة صدى لفتوى (الدفاع عن الإسلام واجب على المرأة والرجل) وعلى أثرها غدا المراجع والعلماء والشباب المتدين والأمة المسلمة في موقف لا مناص من أحدهما: إما التبري أو الدفاع، ولا تردد.
ملاحظة: ما زالت آثار هذه الصرخة ممتدة على طول الزمن، وما زال الجميع يجد نفسه غير قادر على الوقوف في النقطة الحرجة ولكن بتفاوت زمني عن زمن الشهيدة بنت الهدى، وكل متحرك يجد في النهاية نفسه قد صمم على الشهادة.
4. هذه الحالة الحرجة (التردد) التي تفقد العمل الجهادي الكثير من الفرص الذهبية، جاءت صرخة الظليمة لتسد باب كل حيرة وتضع النقاط على الحروف، ولم يعد للتردد وجود وللتأخر والنكوص مكان، وهذا هو أهم دور قامت به المرأة العراقية في المرحلة الجهادية، وهذا الدور هو الوقوف ضد حالة التردد والشك والتراجع التي يوسوس الشيطان بها عادة كل من يقدم على خطوة جهادية ۔ بسيطة أو كبيرة ۔ تكلّفه حياته أو ماله أو هجرته عن الوطن.
5. الصبر والثبات على الجهاد حتى لو علمت بأن فيه احتمالية اعتقالها، فدخول السجن ليس دخولاً في التهلكة، ما دامت السلطة الغاشمة لا تعرف طريقاً آخر؛ لذا استمرت في المقاومة رحمها الله حتى اعتقلها الطغاة.
6. وباستشهادها؟سها؟ رسمت لكل ثائرة الصمود المطلوب وحدود الصبر هو الشهادة في سبيله، وبالتالي فإن هذا العمل الذي تقدمت إليه المئات من الشهيدات (رضوان الله عليهن) سيخلّده التاريخ وسيصعب على الجميع نسيان هذا التراث العظيم، فلا السلطة قادرة بعد هذا التكحل بمكياج العدالة والتدين، ولا الشعب قادر على نسيان بناته الشهيدات، لذا كانت أول انتفاضة هتفت بالموت لصدام الكافر.
٧. لم يستمر خداع الشعوب الإسلامية والحركات الإسلامية والإنسانية والمدافعة عن حقوق الإنسان من قبل إعلام النظام، فقتل بنت الهدى الكاتبة المؤمنة دون محاكمة ودفنها في مكان مجهول، لدليل ناصح على وحشية ودناءة السلطة الصدامية وعدم القدرة على التفاهم معها، فسبحان الله لم تقدر السلطة الصدامية على إبقاء الشهيدة بنت الهدى حية ولا على محو ذكرها ميتة؛ لأن الشهيدة بنت الهدى قد اختارت طريقة استشهادية حرة أثارت التساؤل والاستفهام عند الكثيرين وكعادتها في التحرك نحو القلوب الميتة وجذبت أرواحهم إلى النور الإلهي وقدسيته التي يشع منها، ولم تجذب أنظارهم إلى الجانب الأنثوي من شخصيتها، كما يسعى الغرب من تحرير المرأة، وهذا هو الفرق الكبير بين تحرك المؤمنة والمتحررة الغربية في جذب أنظار الناس إليها.
المصادر:
- كتب الشهيدة بنت الهدى.
- عذراء العقيدة، نزار جعفر.
- الشهيدة بنت الهدى سيرتها ومسيرتها، محمدرضا النعماني.
- ذكرياتي الخاصة.
- المعاشرة الزوجية، آية الله محمدمهدي شمس الدين.
[1]. الفضيلة تنتصر ،ص 99 و117؛ الخالة الضائعة، ص 71.
[2]. م. ن.
[3]. الفضيلة تنتصر، ص 36.
[4]. الفضيلة تنتصر، ص 28 ۔30.