الشهيد الصدر والدستور الإسلامي

الدكتور مصطفى الأنصاري

ملخّص البحث

هذا البحث هو واحد من ثلاثة بحوث تشكّل بمجموعها محاولة للتعرف على معالم كتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر حول القانون والدولة، لم نوفّق بعد لإنجازها جميعاً، فهي إذن ما زالت قيد الإنجاز.

لقد راجعنا من أجل التعرف على المعالم المذكورة كتابات السيد الشهيد فوجدنا مادة موزّعة في مواضع عديدة، ربما كان أوثقها صلة بموضوع الدستور ما جاء في اللمحة الفقهية التي كتبها السيد الشهيد عن دستور الجمهورية الإسلامية، وفي الأسس الدستورية التي حرّرها قبل اللمحة بعشرين عاماً ونُشر قسم منها مؤخّراً تحت عنوان (أصول الدستور الإسلامي) في أحد مصادر البحث.

غير أن كتابات السيد الشهيد الأخرى ليست بعيدة عن موضوع البحث، ذلك أنه ركّز في معظمها على مسألة البحث عن حل للمعضلة الاجتماعية والتي لخّصها بالبحث عن النظام الأمثل الذي (يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية)، ومسألة النظام كما هو معلوم هي محور الدستور والدراسات الدستورية.

لقد تناولنا نظرات السيد الشهيد حول الدستور في ثلاثة فروع:

الأول: يهتمّ بتعريف الدستور وعرض العناوين الرئيسة للموضوعات التي يشتمل عليها.

الثاني: ينصبّ على دراسة طبيعة الدستور ومحاولة استكشاف الموقف من هذه الطبيعة في خضم الاختلاف القائم بشأنها، وكذلك التعرض للمواصفات الرئيسة للنصوص الدستورية ومكانتها في النظام القانوني للدولة.

الثالث: يتعرض بشكل مباشر لمضامين الدستور وبالنظر إلى أننا تناولنا نظام الدولة في مبحث آخر فقد اقتصرنا هنا على ما يتعلق بالحقوق والحريات من جهة وبالمضمون الفكري والتربوي من جهة أخرى.

تتلخص نتائج البحث التي انتهينا إليها بأن الدولة الإسلامية كما استكشفها السيد الشهيد دولة دستورية قانونية، وأن للدستور الإسلامي لدى السيد الشهيد معنيين أحدهما واسع يشتمل على كل أحكام الشريعة الإسلامية، والثاني ضيّق وهو الذي يقصد به الدستور الموضوع للدولة اعتماداً على أحكام الشريعة.

و من نتائج البحث أن أحكام الدستور الإسلامي الثابتة صراحة بأحد الأدلة الأربعة هي أحكام ثابتة جامدة، بمعنى عدم إمكان تغييرها أو تعديلها، وأن الأحكام المنقولة بشكل غير مباشر من تلك الأدلة إلى الدستور بمعناه الضيّق لها ثبات نسبي، وأن ما يمكن تغييره منها إنما هو متعلق غالباً بمساحة الفراغ التشريعي الذي لم نجد فيه حكماً قاطعاً أو توفّرت لنا خيارات في الحكم أشار البحث إليها، وفي كل الأحوال فإن الدستور يمتلك مرجعية ثابتة في مواجهة قواعد ونصوص الضبط الاجتماعي الأخری، ويبقى الدستور بالمعنى الضيّق نفسه خاضعاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي هي الدستور بالمعنى الواسع، ذلك المعنى الذي تسمو به الأحكام المذكورة على الراعي والرعية وعلى كافة مؤسسات الدولة ومقرراتها. و(ما دام الله ۔يقول السيد الشهيد۔ هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية).

هذا وقد حاولنا قدر الإمكان مقارنة نظرات السيد الشهيد بما يتعرض له فقهاء القانون الدستوري المعاصرون؛ لتكون الفائدة أشمل وأعم، آملين أن ننجز البحثين الآخرين المكمّلين لهذا البحث وهما يتعلقان بفلسفة القانون وبناء الدولة لدی السيد الشهيد.

المقدمة

تشكّل دراسة (القانون الدستوري) مادة أساسية في الدراسات القانونية، وربما جاءت الأولى في تسلسل الدراسات المذكورة من حيث الأهمية بعد المدخل الفلسفي إلى حقل القانون، ذلك أنها تنصب من جهة على الدستور وهو القانون الأساسي في الدولة، ومن جهة أخری على الدولة نفسها وهي الهيكل القائم على أساس الدستور وبهدف إعمال الأحكام الواردة فيه.

ولدی استعراضنا لكتابات السيد الشهيد محمد باقر الصدر نجد مادة غنيّة وعلى درجة من الأهمية في الموضوعات المذكورة، وإن كانت موزّعة في مواضع عدة من مؤلفاته؟رح؟ ولعل من نافلة القول أن نذكر أن تعرّض السيد الشهيد لهذه الموضوعات لم يكن في إطار استكشاف النظرية بقدر ما كان في إطار استكشاف المذهب، أي استكشاف المواقف الحلول الإسلامية المتعلقة بما تطرحه الكتابات العصرية من مشاكل في إطار ما يسمى بالقانون الدستوري. والحق إننا لم نلمس في منهجه هذا سعياً مخصصاً لدحض النظريات القائمة (كما فعل ذلك في فلسفتنا واقتصادنا) وإنما كانت كتاباته في هذا الصدد جهداً على طريق حل مشكلات واقعية قائمة أو محتملة، ولا يعني ذلك أنه لم يطرح جوانب تتعلق بالنظرية، بل على العكس فإنه في الأثناء كان متصدياً لبيان الأسس والخلفيات الشرعية لما يختاره من حلول دستورية وكاشفاً عن عيوب الخلفيات التي تقوم عليها الدول الرأسمالية والاشتراكية.

و على كل حال فإننا سنحاول في هذا المدخل أن نتعرف على ما استنبطه السيد الشهيد من الحلول الإسلامية لطائفة مما يطرح من أسئلة في إطار القانون الدستوري بشقيه: الدستور والدولة وبما يمكن أن يشتمل عليه ذلك من تصور للمشكلة الاجتماعية التي اعتنى السيد الشهيد عناية فائقة بتحليلها وإبرازها على الصعد المختلفة الفلسفية والاقتصادية والقانونية والسياسية.

و بناء على أن السيد الشهيد قد أشار إلى أسبقية وجود الدستور من الناحية التاريخية على خلاف الكثير من الكتابات الحديثة فإننا سنتعرض إلى مبحث الدستور قبل مبحث الدولة وإن كنا نجد، كما يجد القارئ الكريم تشابكاً ظاهراً في عدة موضوعات مما يقع في إطار المبحثين المذكورين[1].

أولاً: التعريف بالدستور وموضوعاته

أ: تعريف الدستور

يعرّف القانون الدستوري بأنه (ذلك الفرع من فروع القانون العام الداخلي الذي يحدد نظام الحكم في الدولة ويبيّن السلطات العامة فيها، ويوزّع الاختصاصات فيما بينها، ويحدد علاقات التعاون أو الرقابة بين بعضها والبعض، وينصّ على ما للأفراد من حقوق قبل الدولة والواجبات الأساسية التي تقع عليهم.. وهو أساس كل فروع القانون الداخلي)[2]، وهو لهذا يسمى في بعض البلدان بالقانون الأساسي. وهذا التعريف مشابه لكثير من التعريفات التي اعتمدت استعراض موضوعات المعرّف.

ويلاحظ في الوقت نفسه أن القليل من الكتّاب حرص على التمييز بين (القانون الدستوري) وبين (الدستور)، وفي الواقع أن أهمية مثل هذا التمييز تتضاءل يوماً بعد يوم على أساس أن دراسات (القانون الدستوري) تنصبّ أساساً على دراسة مضامين الدستور المعني، وبالتالي فإن التمييز الأساس يتركز في كون الدستور مجموعة من القواعد التي اعتبرت قانوناً أساسياً للدولة بعناصرها المختلفة وكون (القانون الدستوري) عنوان الدراسات التي تبحث في تلك القواعد تأصيلاً وتحليلاً ونقداً ومقارنة.

و مع هذا فقد يعنى أحياناً بالقانون الدستوري الدستور نفسه؛ تمييزاً له عن فروع القانون الأخری كقانون العقوبات أو القانون المدني. ففي تعريف آخر مشابه للتعريف المتقدم من حيث استعراض موضوعات (المعرَّف) يقول باحث آخر: (يتكون القانون الدستوري من القواعد التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وتكوين السلطات العامة واختصاص كل سلطة وعلاقات السلطات بعضها ببعض، كما يشمل القواعد التي تبيّن حريات الأفراد العامة وحقوقهم وواجباتهم قبل الدولة[3]، بل إنه يقول في بيان طبيعة قواعد (القانون الدستوري): إنها (تعدّ قواعد قانونية بالمعنى الصحيح من حيث العمومية والتجريد والجزاء..)، ويقصد كما هو واضح قواعد الدستور أو القواعد ذات الطبيعة الدستورية وإن كانت في وثيقة أخری غير الدستور[4].

على أن باحثاً آخر مع اعترافه بأن (تسمية القانون الدستوري droit constitutionnel) تتأتى من كون قواعده الأساسية تجد مكانها في (الدستور la constitution) إلا أنه يسعى جاهداً إلى التمييز في معاني القانون الدستوري بين المعنى اللغوي والمعنى التاريخي والمعنى العلمي ۔ على حد التسميات التي اختارها ۔[5]:

فكلمة الدستور من الناحية اللغوية فارسية معرّبة وأصل معناها (الدفتر الذي تجمع فيه قوانين الملك وضوابطه وأن تعبير القانون الدستوري يجد أصله في اللغة الإيطالية) حيث درّست مادة بهذا الاسم لأول مرة في عام 1797 في إحدى مدن إيطاليا الشمالية) ولكنه في العربية قد استخدم كترجمة للمصطلح الفرنسي على ما يذهب إليه الباحث نفسه.

والدلالة الظاهرة مما تقدم أن القانون الدستوري لغوياً (يشير إلى أنه العلم الذي يهتمّ بدراسة القواعد التي تتعلق بتنظيم ممارسة السلطة) وأما في المعنى التاريخي فقد أضيف في فرنسا مبحث الحريات العامة إلى مبحث السلطة، غير أن المفهوم العلمي كما يقول الدكتور الشاوي في السياق نفسه: (لا يتضمن في الحقيقة دراسة الحريات العامة). وإن تعرّض لأوجه من تلك الحريات (وذلك بقدر ما يسهم من يتمتع بها في ممارسة السلطة)[6].

على أننا لا نرى هنا كبير فائدة في الإطالة في التمييز بين هذه المفاهيم ذلك أن النتيجة واحدة، وقد ألمحنا إليها فيما تقدم؛ ذلك أن الدساتير المعاصرة تتضمن موضوعات متقاربة وأن مادة القانون الدستوري إنما تنصبّ على تلك الموضوعات، فإذا أردنا أن نعرّف الدستور مع كثير من فقهاء القانون الدستوري بأنه قانون السلطة أو قانون الدولة، فلأنه يشتمل بصورة أساسية على بيان السلطات في الدولة وكيفية توزيعها وآليات ممارستها وأسلوب الإشراف عليها وضبطها إلى آخر ما يمكن أن يكون هنالك من أحكام تفصيلية تتعلق بالهيئات والهياكل التي يؤلّفها العاملون في حقل أداء وظائف الدولة. وليس من شك في أن تلك السلطات إنما تمارس وظائف الدولة الموزّعة عليها تحقيقاً لأهداف هي التعبير الأكثر إيجازاً للفكر الموجّه لنظام الدولة.

وبكلمة أخرى فإن (فلسفة النظام) تجد أفضل مناسبة للتعبير عن نفسها في الصياغات الدستورية التي تحدد المؤسسات الأساسية في الدولة التي تمارس السلطات المختلفة من خلالها، فالمؤسسات بهذا المعنى ليست أشكالاً وهياكل مجردة في بناء الدولة ونظامها، إنما هي أيضاً أدوات لتحقيق أفكار معينة وترجمتها على صعيد التطبيق العملي، وبالتالي فالمؤسسات الدستورية هي عبارة عن شكل ومضمون يحددهما الدستور.

إن الدستور في الحقيقة هو قانون القوانين، حيث يوجد مخطّط المؤسسات الدستورية وبيان السلطات الثلاث، كما يوجد بيان فلسفة الحكم وأسسه العامة وأهدافه الإستراتيجية، وهكذا فإن الدستور منظور إليه من جانب آخر يمكن أن يتعدى الطابع الوصفي والتسجيلي لما أسّسه من هياكل ووضعه من مبادئ وقواعد العمل إلى مهمة تربوية توجيهية، مهمة فكرية عقائدية يضمن لها التطبيق ويضمن بها المسيرة نحو الهدف.

هذه الوقفة القصيرة عند التعريف ذات فائدة كبيرة لبحثنا الذي نتلمس فيه مواضع معالجات السيد الشهيد الصدر لمجموعة أساسية من مفردات القانون الدستوري: ما تعلق منها بالسلطة أو الحريات العامة أو المهمة التربوية والهدفية.

و قبل كل شيء فإن تعريف الدستور عند السيد الشهيد الصدر في غاية الاختصار والوضوح، ففي الدولة الإسلامية ليس الدستور شيئاً آخر سوى الشريعة الإسلامية، غير أن هذا الإجمال يقودنا إلى البحث عن أبعاد تعريف السيد الشهيد والآثار التي تترتب عليه، وبالتالي إلى مقارنته بما تقدم ذكره لنرى ما إذا كان هذا الإجمال يغطّي ما بحثه المعاصرون من أصحاب (الصنعة الدستورية).

ولنلاحظ أولاً أن السيد الشهيد يميّز بين معنيين: واسع وضيّق لمصطلح الدستور. فإذا استخدم بمعناه الواسع كان هو الشريعة ذاتها، وإذا استخدم بمعناه الضيّق كان القانون الأعلى في الدولة المستمد من الشريعة، وهذا تمييز قريب مما فعله الأستاذ المرحوم أبو الأعلى المودودي، إذ ميّز بين دستورين: مدوّن وغير مدوّن، فقال:

المراد بالدستور المدون: صك Document ينطوي على القواعد الأساسية التي يقوم عليها نظام دولة من الدول، ولها في هذه الدولة منزلة قانونية مسلّم بها من جميع الأهالي..

وأضاف قائلاً:

فكل دولة لا يكون دستورها مدوناً بصورة صك، مثل هذا الصك لا يقال لمجموع قواعدها إلا دستوراً غير مدون حتى لو كانت هذه القواعد مكتوبة ومبعثرة في مختلف مصادرها[7].

وحين ينظر الأستاذ المودودي في الحالة الإسلامية ومطالبات أبناء الباكستان بتطبيق (الدستور الإسلامي) في باكستان ينبّه إلى أن (دستوراً) إسلامياً من هذه القبيل لم يدوّن بعد فهو شبيه بالدستور البريطاني غير المدون والمبعثرة قواعده هنا وهناك، ويرى المودودي أن من الضروري السعي لتحرير دستور إسلامي لباكستان يكون مصدره الدستور غير المدون للمسلمين ويعني به الشريعة الإسلامية المستقاة من مصادرها التي يعددها، فيقول: إنها القرآن والسنة وأعمال الخلفاء الراشدين ومذاهب المجتهدين. يقول المودودي:

الذي نطالب به اليوم ونعمل على تحقيقه هو أن يكون الدستور الإسلامي دستور هذه البلاد، لكننا لا نعني بذلك أن الدستور الإسلامي دستور قد تم تدوينه وجئنا نطالب اليوم بتنفيذه، بل الواقع أننا نريد أن نحوّل دستوراً غير مدون unwritten constitution إلى دستور مدون written constituttion. فإن الدستور الإسلامي شيء لم يعمل على تدوينه بعد، ولهذا الدستور غير المدون عدة مصادر علينا أن نستفيد منها عندما نرتّب لبلادنا (دستوراً مدوناً) وفقاً لأحوالنا التي نحن فيها اليوم[8].

وهكذا يبدو لنا تعبير الدستور بالمعنى الواسع لدي السيد الشهيد الصدر مرادفاً إلى حد بعيد لتعبير الدستور غير المدون لدى الأستاذ المودودي بينما يرادف تعبير الدستور بالمعنى الضيّق لدى الشهيد تعبير الدستور المدون لدى الأستاذ المودودي، وبالتالي فإن أحكام الشريعة عند الاثنين تشكّل الدستور بالتعبير الأول، فتكون مصدراً للدستور بالتعبير الثاني.

و من أجل إيضاح أكبر لمصطلح الدستور عند السيد الشهيد نورد بعض النصوص من (اللمحة الفقهية) عن الدستور الإسلامي المنشورة ضمن كتاب (الإسلام يقود الحياة)[9] وعن (أسس الدستور الإسلامي) التي وضعها السيد الشهيد وأوردها البحّاثة شبلي الملاط في كتابه عن (تجديد الفقه الإسلامي) تحت عنوان: (أصول الدستور الإسلامي)[10].

والانطلاقة إنما تكون مع مصطلح الإسلام، يقول السيد الشهيد عند تحديده للأساس الأول من أسس الدستور الإسلامي:

أما المعنى الاصطلاحي للإسلام فهو العقيدة والشريعة اللتان جاء بهما من عند الله تعالى الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صل الله عليه و آله[11].

و يستطرد السيد الشهيد فيعرّف كلاً من الشريعة والعقيدة، وهذا التعريف لكل من المصطلحين يعتبر ضرورياً في بحثنا هذا؛ لأنه يسهم كثيراً في التعريف بالدستور من جوانبه المختلفة كما سنری.

يقول السيد الشهيد: (و نقصد بالعقيدة مجموعة المفاهيم التي جاء بها الرسول صل الله عليه و آله التي تعرّفنا بخالق العالم وخلقه، وماضي الحياة ومستقبلها ودور الإنسان فيها، ومسؤوليته أمام الله..)[12] وبالتالي فإن العقيدة هنا تخرج من إطار القانون بمعناه الغني لتبقى أساساً له وإطاراً، فهي مفاهيم، وهي (معلومات جازمة يعقد عليها القلب)، وهذه المفاهيم والمعلومات تصلح أن يستند إليها القانون باعتباره قواعد سلوكية ولكنها ليست هي القانون بذاته.

ما يهمنا في هذه المرحلة من البحث إذن أن نتلمس تعريف الشريعة نفسها وعلاقته بتعريف الدستور، يقول السيد الشهيد:

ونقصد بالشريعة مجموعة القوانين والأنظمة التي جاء بها الرسول صل الله عليه و آله التي تعالج الحياة البشرية كافة، الفكرية منها والروحية والاجتماعية، بمختلف ألوانها من اقتصادية وسياسية وغيرها[13].

غير أننا في مواضع متعددة من إشارات السيد الشهيد في المصدرين المذكورين (اللمحة الفقهية والأسس) نجده يستخدم تعبير الدستور كمرادف للشريعة، ويضعه بين قوسين أمام كلمة الشريعة لتعريفها، وهو يعلم أن كلمة الدستور التي يتداولها الناس اليوم أضيق من ذلك.

ويبدو لنا أن السيد الشهيد يفعل ذلك لتأشير درجة أهمية الشريعة في حياة المجتمع الإسلامي، وبالتالي درجة إلزامها مما سنتعرض له لاحقاً إن شاء الله، وإلى جانب ذلك فإن السيد الشهيد يلتفت إلى المعنى المتداول فيقول:

إن اصطلاح الدستور الإسلامي حينما يطلق على الشريعة المقدسة هو أوسع من المصطلح المتعارف للدستور؛ لأنه يشمل كافة أحكام الشريعة الخالدة حيث تعتبر بمجموعها أحكاماً دستورية..[14].

ولكن السيد الشهيد كما قدّمنا قد عرّف الشريعة بأنها (مجموعة القوانين والأنظمة)، كما أنه يذكر في موضع آخر (الأساس الثامن) أن هناك (تعليمات) بالإضافة للقوانين والأنظمة، فما هي حدود هذه المصطلحات الأربعة (الدستور، القانون، النظام، التعليمات) وما نسبتها من الشريعة؟

ينبغي هنا أن نتابع إيضاحات السيد الشهيد نفسه من أجل فهم المعاني التي رمى إليها من المصطلحات التي يستخدمها، ذلك أنه يعلم أن هذه المصطلحات المتداولة يجب أن تجد موقعها الدقيق إذا ما كان الحديث في الإطار (الإسلامي)، أي في إطار أحكام الشريعة الإسلامية، ويهتم الأساس الثامن من أسس الدستور الإسلامي التي وضعها السيد الشهيد بشكل خاص بهذه المسألة[15].

فأحكام الشريعة الإسلامية المقدسة عند الشهيد الصدر هي (الأحكام الثابتة التي بينت في الشريعة بدليل من الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل)، وهكذا فهي دستور الأمة (ولا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير؛ لأنها ذات صيغة محددة شاملة لجميع الظروف والأحوال، فلابد من تطبيقها دون تصرف.. أما التعاليم أو القوانين فهي أنظمة الدولة التفصيلية والتي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعية الدستورية لظرف من الظروف..)[16].

وواضح أن السيد الشهيد لم يرد بهذا أن يعرّفنا بمعنى (القانون) و(النظام) و(التعليمات) بالمعنى المتداول عند أهل القانون والإدارة في عصرنا الحاضر، وإنما أراد أن ينبّه إلى أن هناك قواعد ثابتة تسمو على ما سواها؛ لأن ما سواها يستمدّ منها ويستند إليها ويجد مبرّره الشرعي فيها، فالقواعد السامية إما أن تطلق على قواعد الدستور بالمعنى الواسع فهي الشريعة نفسها، وإما أن تطلق على الدستور بالمعنى الضيّق فتكون مستمدة من الشريعة وتكون سامية أيضاً ولكن بقدر كونها من قواعد الشريعة الثابتة، أو سامية وثابتة (بالوضع) أي بوضعها ضمن قواعد (الدستور) من قبل المكلفين باستنباط الأحكام، وذانك سمو وثبات نسبيان كما سنرى لاحقاً.

ولكن إلى جانب القواعد السامية الثابتة بالمعنى المتقدم هناك قواعد متغيرة (توضع) تحت عناوين متنوعة كالقوانين والأنظمة والتعليمات. وما دامت غير مستقرة عادة لارتباطها بظروف الدولة، ولكونها غير واردة في الشريعة (مباشرة وبنصوص محددة) فإن باستطاعتنا أن نحدّد لها أدوارها ومعانيها فنتسالم على معانيها المتداولة أو نعطيها ما نجده أكثر فائدة أو مناسبة من المعاني والاستخدامات.

وبالتالي فلا نجد ما يمنع من إقرار المعاني القائمة لمصطلحات (قانون، نظام، تعليمات، قرارات) لدى الوضعيين في نسبتها إلى بعضها من جهة، وإلى الدستور من جهة أخری. هكذا نجد أن السيد الشهيد قد حدّد معنى الدستور بكونه قواعد الشريعة التي لا تتغير ومعنى القواعد الضبطية الأخرى (قوانين وأنظمة وتعليمات وقرارات) بكونها قواعد ظرفية متطورة، وهي تتنوع من حيث العنوان إما بدلالة الموضوع الذي تعالجه أو بدلالة موقعها في سلّم إلزام القواعد الضبطية.

ومع هذا فقد استخدم السيد الشهيد كلمة (القانون) بمعنى الدستور أيضاً، فقال في الأساس السادس من أصول الدستور الإسلامي: إن من مهامّ الدولة الإسلامية (بيان الأحكام وهي القوانين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية المقدسة بصيغها المحددة الثابتة).

فالقوانين عندما تبين أحكام الشريعة المقدسة بصيغها المحددة الثابتة إنما هي مجموعة من الأحكام الدستورية، أي أنها جزء من الدستور، وقولنا هنا: إن القانون هو الدستور لا غبار عليه باعتبار الدستور نفسه قانوناً من القوانين وإن اختلفت قواعدها من حيث السمو والثبات.

أما تعبير السيد الشهيد في موضع آخر عن التعليمات بتعبير (القانون) وذلك في الأساس السادس نفسه حيث يقول: إن من مهامّ الدولة الإسلامية (تطبيق أحكام الشريعة ۔الدستور۔ والتعاليم المستنبطة منها ۔القوانين۔ على الأمة) فذلك ما يعني أن السيد الشهيد إنما يتحدث هنا عن كون القانون الموضوع كالتعليمات الموضوعة من حيث كونهما مستمدين من الدستور كقواعد ضبطية متطورة.

و خلاصة الأمر في شأن تعريف الدستور لدى السيد الشهيد كما نلمحه في كتاباته المشار إليها أعلاه هي:

  1. أن القواعد العليا التي ينصاع لها المجتمع الإسلامي ويسلم هي أحكام الشريعة الثابتة، وهي دستور الأمة بمعناه الواسع.
  2. أن أحكام الشريعة الثابتة لا تكفي لوحدها كقواعد ضبطية، وإنما تحتاج قواعد تفصيلية متطورة مستمدة من تلك الأحكام، وتظهر على شكل قوانين وأنظمة وتعليمات وقرارات.
  3. أن القانون الإسلامي متدرّج القواعد من حيث الإلزام حيث يأتي الدستور في القمّة وهو القانون الأساس، وتتلوه القوانين الفرعية والأنظمة والتعليمات والقرارات.
  4. تبقى ملاحظة مهمة تضاف كنقطة رابعة إلى هذه الخلاصة، هي أن الظاهر من كتابات السيد الشهيد أنه وإن استعمل مصطلح الدستور كمرادف للشريعة ذات الأحكام الثابتة، فإنه لا يجد تعارضاً في ذلك مع إقامة دستور (بالمعنى الضيق) تكون قواعده على نوعين: الأول قواعد ثابتة؛ لورودها نصاً ومباشرة في مصادر الشريعة، والثاني قواعد متغيرة ولكنها ذات ثبات نسبي بالمقارنة مع بقية القواعد المتطورة التي توضع تحت أي عنوان آخر، ومن هنا وجدنا أن مشروع الدستور الواردة أحكامه في اللمحة الفقهية للسيد الشهيد يتضمن النوعين من القواعد المذكورة كما سيمرّ بنا لاحقاً.

وبهذا فإن السيد الشهيد لا يبدو لنا مقتنعاً بإمكانية الاكتفاء بالقول من الناحية القانونية، إن الشريعة الإسلامية هي دستور الدولة الإسلامية من دون إقامة هذا الدستور فعلاً، أي وضع دستور محدد المعالم والمواد، مؤسس بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة على أحكام الشريعة، ومعلوم أن بعض الدول الإسلامية قد أخذت بالطريقة المجملة، وذلك بإصدار قرار خاص يعتبر الشريعة الإسلامية دستوراً للدولة، وبالتالي فإن ما يشرّع من قواعد ضبط أخرى تأخذ عناوينها المتنوعة حسب المقام (قانون، نظام، مرسوم، قرار، تعليمات..) وهي كلها تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها الدستور الأعلى وفقاً للقرار المتقدم.

وهكذا فإن أنصار هذه الطريقة لا يرون طائلاً وراء وضع دستور خاص على اختلاف في الرأي فيما بينهم. وربما كان من المفيد أن نشير إلى نموذجين لهذه الطريقة، وهما النموذج الليبي والنموذج السعودي.

ففي ليبيا يصرّح (الكتاب الأخضر) بأن (الشريعة الطبيعية لأي مجتمع هي العرف أو الدين، أي محاولة أخرى لإيجاد شريعة لأي مجتمع خارجة عن هذين المصدرين هي محاولة باطلة وغير منطقية، الدساتير ليست هي شريعة المجتمع، الدستور عبارة عن قانون وضعي أساس.. إن شريعة المجتمع تراث إنساني خالد ليس ملكاً للأحياء فقط. ومن هذه الحقيقة تصبح كتابة دستور واستفتاء الحاضرين عليه لوناً من الهزل)[17].

ويخلص الكتاب الأخضر إلى أن الدين هو شريعة المجتمع الطبيعية التي لا تحتاج إلى وضع دستور فيقول:

الدين احتواء للعرف، والعرف تعبير عن الحياة الطبيعية للشعوب.. إذن الدين المحتوي للعرف تأكيد للقانون الطبيعي وإن الشرائع اللادينية اللاعرفية هي ابتداع إنسان ضد إنسان آخر، وهي بالتالي باطلة؛ لأنها فاقدة للمصدر الطبيعي الذي هو الدين والعرف[18].

ويشرح المحامي عبد الفتاح شحاذة فكرة انتفاء الحاجة إلى الدستور بالتخوف من استغلال الحكام لإدارة الدستور، من أجل تكريس مصالحهم على حساب المحكومين في المجتمع الذي يميّز بين الطرفين، أما في المجتمع الذي يتساوى فيه الجميع فليس من حاجة إلى شيء اسمه دستور.

يقول المحامي شحاذة:

ما دام الحاكم هو الذي يضع الدستور، وهو الذي يستطيع تعديله كبقية القوانين، مهما قيل: إن هناك أسباباً مشددة للتعديل ومهما وصف بأنه دستور جامد، وما دامت الغاية من الدستور كما قلنا هي وضع القيود على تصرفات السلطة، فمعنى ذلك أن السلطة الحاكمة وهي القيمة على إنشاء الدساتير وتعديلها لن تضع قيوداً فعلية على نفسها، إنما القيود المحكي عنها تبقى قيوداً نظرية لا أكثر ولا أقل.

ثم يتساءل: (ما هي حاجة المجتمع لدستور إذا كان الشعب هو صاحب السلطة ويمارسها بشكل مباشر، ألا تنتفي الحاجة للدستور بمجرد اندماج الحاكم بالمحكوم؟) ثم يتساءل من جديد ويجيب قائلاً:

ما هي شريعة المجتمع ولا دستور له؟ النظرية العالمية الثالثة عرضت لما قدمنا وردّت على هذا التساؤل بأنه في ظل سلطة الشعب سيكون العرف والدين هو الدستور؛ لأنه لا مجال لتحديد في ظل سلطة الجماهير على حركة الجماهير نفسها[19].

وأما في خصوص التجربة السعودية فمعلوم أن المملكة العربية السعودية تتخذ القرآن الكريم دستوراً، وتعتبر الشريعة الإسلامية مرجعاً في تحديد الأحكام القانونية وفقاً للتفسير المعتمد لدى علماء المذهب الوهابي الحنبلي، وتصدر القوانين والقرارات الأدنى مرتبة بمراسيم ملكية أو أوامر وزارية، ويفترض في القضاء بدوره الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وتمارس إدارة الدراسات والبحوث التي تضم كبار علماء المذهب في المملكة دوراً ذا شأن في صدد بيان الأحكام الشرعية وإصدار الفتاوى في الشؤون المختلفة.

من ناحية أخرى فإنه لابد للباحث أن يسترجع التاريخ الغني للحركة الدستورية في المنطقة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومروراً بشكل خاصل بطابع الحركة وعناصرها الأساسية في إيران وتركيا والعراق وبشكل أخص بما سمّي بثورة الدستور في إيران (المشروطة 1905)، ذلك أن علماء الشيعة في إيران والعراق قد عاشوها بعمق وتركوا تراثاً غنياً في هذا المجال للمتصدّين بعدهم لأنشطة الحوزات العلمية وللمسألة الدستورية في البلدين.

ولكن هذا البحث يضيق عن مثل هذه المتابعة التاريخية ويهمنا منها أن نشير إلى وجود جذور للمطالبة بالدستور ضاربة في التاريخ، جديرة بالدراسة والتحقيق ويمكن في هذا الصدد، بالإضافة إلى كتاب الباحث شبلي الملاط، مراجعة كتاب (الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي 1905 ۔ 1920) للباحث جعفر عبد الرزاق، وهو الكتاب الثاني والعشرون من سلسلة: قضايا إسلامية معاصرة، وكذلك المصادر المشار إليها في هذين الكتابين.

ب: تحديد موضوعات الدستور

ألمحنا سابقاً إلى الخلاف الذي يتوزع فقهاء القانون الدستوري فيما يتعلق بتحديد الموضوعات التي يشتمل عليها الدستور، وبالتالي ما تتناوله دراسات القانون الدستوري كعلم من العلوم القانونية.

ولعل ما تقدم بيانه ينبئ بنفسه بأن السيد الشهيد لم يتناول مثل هذا الخلاف بالبحث؛ لأنه لم يجد من مهمته الولوج فيه، فهو ليس مشكلة عملية مما يبتلى بها الناس في حياتهم العامة وفي بحثهم (للمشكلة الاجتماعية) التي تمحورت دراسات السيد الشهيد حولها في الغالب.

غير أن السيد الشهيد تطرق إلى تحديد موضوعات الدستور في مناسبتين رئيسيتين، فضلاً عن إشارات متناثرة لا تبتعد كثيراً عن تشخيصاته في تينك المناسبتين، ونعني بهما مناسبة تحرير عدد من الأسس الدستورية التي يعتقد أن تاريخها يعود إلى أوائل الستينات، وفقاً لما نقله البحاثة شبلي الملاط عن المرحوم السيد مهدي الحكيم، وقد نشر الملاط منها تسعة أسس من مجموع 33 أساساً سماها أصول الدستور الإسلامي[20]، والمناسبة الثانية حين عرض لمحته الفقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية بعد حوالي عشرين عاماً بعد تحرير الأسس المذكورة، وقد نشرت اللمحة هذه في بداية كتاب (الإسلام يقود الحياة) للسيد الشهيد.

أما في الأسس الدستورية فقد عرّف السيد الشهيد بالإسلام تعريفاً موجزاً، وأشار في تعريفه إلى مصطلحات العقيدة والشريعة والقانون والنظام. وفي الأساسين الثاني والثالث تحدّث عن المسلم والوطن الإسلامي والمركز القانوني العام للمسلم (الحقوق والواجبات)، وفي الأساس الرابع تحدّث السيد الشهيد عن (الدولة الإسلامية) وميّز بين أنواع ثلاثة للدولة من حيث أنظمتها السياسية والاجتماعية كما فصّل قليلاً في أشكال النظم في الدول (الإسلامية) القائمة، وهي النوع الثالث من الأنواع المتقدمة كما بيّن الموقف من هذه الأشكال وفي الأساس الخامس بين السيد الشهيد أن (الدولة الإسلامية دولة فكرية)، وأوضح اختلاف مثل هذه الدولة في رسالتها عما أسماه بالدولة (الإقليمية) والدولة (القومية) وفي الأساس السادس توغّل السيد الشهيد في بيان شكل الحكم في الإسلام، فعرّفه وعدّد المهام التي تتولاها الدولة الإسلامية، وعن شكل الحكم في عصر الولاة المعصومين وفي عصر الولاة غير المعصومين، وأثر ذلك في تطبيق مبدأ الشورى في ظروف الأمة الحاضرة، ويعود السيد الشهيد في الأساس الثامن ليوضّح الفرق بين أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة بدلالة أحد الأدلة الأربعة وبين التعاليم، وكما ألمحنا سابقاً فالسيد الشهيد لم يهتم كثيراً بعد ذلك بالتمييز بين مصطلحات التعاليم (التعليمات) والقوانين والأنظمة وما إلى ذلك من قواعد الضبط التي تقررها السلطات المختصة في الدولة. وأخيراً فإن السيد الشهيد يتطرق في الأساس التاسع إلى موضوع في غاية الأهمية، وهو بيان الجهة المختصة ببيان أحكام الشريعة الإسلامية وكيفية تولّي منصب القضاء في الدولة الإسلامية.

وأما الأسس الأربعة المنشورة في (ثقافة الدعوة الإسلامية، ج 4) (10 ۔ 13) فقد تطرّقت في العاشر إلى تثبيت المقياس الذي ينبغي أن تقاس به سياسة الدولة ولخّصه السيد الشهيد بالدستور والمصلحة، وفي الحادي عشر تطرّق إلى موقف الدعوة والدولة من (النفوذ الكافر)، وفي الثاني عشر تطرّق إلى وصف الدعوة الإسلامية من حيث كونها إصلاحية أم ثورية، وفي الثالث عشر والأخير تحدّث عن بعض آليات الثورية الإسلامية.

هذا، ولا ريب في أن الكشف عما ورد في بقية الأسس الثلاثة والثلاثين يمكن أن يغني البحث في (الأفكار الدستورية) للسيد الشهيد إلى حد بعيد وهو ما نأمل أن نتوصل إليه يوماً ما بجهود المتابعين لجمع ثروة السيد الشهيد الفكرية.

وبعد عقدين من كتابة هذه الأسس التي أريد بها على الأغلب أن تكون دليل عمل للحركة السياسية الإسلامية الناهضة جاءت (اللمحة الفقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية) لتكون موقفاً أكثر (تخصصاً) وتركيزاً لمفردات الدستور الإسلامي الذي كان موضوع حاجة ملحّة، وبالتالي فإن تلك المفردات تصلح أن تكون نموذجاً للموضوعات التي تشكّل هيكل الدستور الإسلامي، وقد سمّى السيد الشهيد ما اشتملت عليه اللمحة الفقهية بأنه استعراض لـ (عدد من الأفكار الأساسية في مجال التمهيد لمشروع الدستور..) ونحن نجد في هذه العبارة _ فضلاً عن مسحة التواضع _ ما يفيد أن الأفكار الأساسية لا تمنع إضافة أفكار أخرى قريبة منها أو مفصّلة لها، وسيدخل تعبير (الدستور) بصفته (القانون الأساس) ليقيّد الأفكار القريبة والتفصيلية ويمنعها من الاسترسال إلى ما هو غير أساس أو غير دستوري، فالدستور كما ألمحنا إلى معناه في الأصل لا يسمح بكثير من التفصيلات، بل لا يشتمل على شيء منها إلا بقرينة الضرورة والعلاقة المتينة بالأسس التي تشكّل هيكله.

في ضوء ذلك وباستعراض ما اشتملت عليه اللمحة الفقهية نجد أن السيد الشهيد قد تطرق إلى موضوع السلطات ومصدرها، والسيادة ومآلها، والشريعة ومنبعها وعلاقتها بالدستور، وعملية التشريع ودور الأمة في السلطات الثلاث والمجالس المنتخبة، والمرجعية ووظائفها، والقضاء والحقوق والواجبات ورسالة الدولة وأهدافها.

وبعد أن استعرض السيد الشهيد كل هذا انتقل إلى بيان المبادئ التشريعية التي يستند إليها في تقرير تلك الموضوعات، فهي تدخل في الأساس النظري للدستور.

هكذا، وعلى قدر ما يظهر لنا من هذين المصدرين والتقارب بين موضوعاتهما، فإننا نجزم بأن السيد الشهيد كان يرى أن موضوع الدولة وسلطات وتنظيم هيكلها العام، وموضوع الحقوق والحريات والواجبات، وموضوع أهداف الدولة الإسلامية هي من صميم ما على الدستور أن يشتمل عليه من موضوعات.

وليس في سياق ما كتبه السيد الشهيد في مجالات القانون الدستوري الإسلامي ما يشير إلى حدود معينة لمشتملات الدستور، غير أن ذلك لا يعني انعدام مثل تلك الحدود لديه. فمن ناحية كان (مشروع الدستور) في اللمحة الفقهية ذا موضوعات محددة وأساسية، ومن ناحية أخرى كانت الأسس الدستورية لديه من قبل تحدّد هي الأخرى موضوعات بذاتها متخذة تعبير (الأسس) ولم تفترق اللمحة والأسس كثيراً في تحديد موضوعات الدستور، وسنرى عند تحليلنا لموضوعات اللمحة والأسس لاحقاً مزيداً من القرائن على تشخيص السيد الشهيد لموضوعات الدستور، وأن من نافلة القول: إن الموضوعات التي عدّدناها هي ما درج عليه الوضعيون أيضاً في الدراسات الدستورية وفي مشاريع الدساتير التي يضعونها، غير أن الطابع الإسلامي هو الذي يميّز موضوعات الدستور الإسلامي كتناول دور المرجعية الدينية وبعض الوظائف والمهمات على سبيل المثال.

من ناحية أخرى يجدر أن نذكر أن محاولة السيد الشهيد في صدد وضع نموذج دستور إسلامي قد أشبهت في معالمها الرئيسة محاولات إسلامية جادّة أخرى نذكر منها:

  1. محاولة الأستاذ المودودي في باكستان، وتعود إلى عام 1952 وقد سبقت الإشارة إليها عند التعريف بالدستور. أما في موضوعات الدستور فقد تحدث المودودي تحت عنوان (مسائل الدستور الأساسية) فعرض تسع مسائل بشكل مقارن مختصر هي: أ۔ مناط الحكم. ب۔ مدى ولاية الدولة. ج۔ توزيع السلطات الثلاث. د ۔ هدف الدولة. هـ ۔ مواصفات الحاكمين. و۔ أسس المدنية والمواطنة. ز۔ حقوق المواطنين. ح۔ حقوق الدول قبل المواطنين.[21]
  2. محاولة المستشار علي جريشة في مصر، حيث أصدر كتاباً بعنوان (إعلان دستوري إسلامي)[22]، وتعود إلى عام 1980 والطريف في هذا الكتاب أنه ضم ثلاث محاولات مهمة إضافة إلى محاولة المستشار جريشة، فالمشروع الأول وضعته لجنة مشكّلة من الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر؟رح؟، والثاني عبارة عن تنقيح للأول قام به الدكتور مصطفى كمال وصفي، والثالث وضعته مجموعة من المتخصصين وقدّمته إلى المجلس الإسلامي العالمي 1984، وقد أشار الأستاذ جريشة إلى وجه آخر لأهمية مشروعه إذ قال: (لقد أشاد به وراجعه من لم يعرف قدره إلى القليل من إخوانه وتلاميذه ومحبيه ذاك هو كبير دعاة عصره الأستاذ عمر التلمساني؟رح؟)[23].

وعلى كل حال فإنه يهمنا ونحن في صدد بحث تحديد موضوعات الدستور أن نرى ما في هذه المشاريع من تحديدات.

ففي إعلان الأستاذ جريشة نرى أنه تطرّق إلى مقومات الدولة الأساسية وجوانب وظائفها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وفي نموذج مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر تعرض مشروع الدستور لوصف الأمة الإسلامية وأسس المجتمع الإسلامي، ثم تناول الاقتصاد والحقوق والحريات ومركز الإمام ثم القضاء والبرلمان والحكومة.

أما في نموذج الدكتور مصطفى كمال وصفي فجرى الاهتمام بالعالم الإسلامي، ثم تحدّث الدستور عن أسس المجتمع الإسلامي، ثم الواجبات العامة والحقوق والحريات ثم الاقتصاد الإسلامي، والأمة والإمام والقضاء والشورى والتشريع والرقابة، ثم الحكومة. وأخيراً فقد تطرّق مشروع المجلس الإسلامي العالمي إلى أسس الحكم ومقومات المجتمع والحقوق والواجبات العامة، ثم مجلس الشورى والإمام والقضاء والحسبة والنظام الاقتصادي وولاية الجهاد والمجلس الدستوري الأعلى ووسائل النشر والإعلام[24].

ثانياً: طبيعة الدستور

أ: ضرورته وأسبقيته

ترتبط دراسة (الدستور) بدراسة (الدولة) من حيث الوجود والوظيفة والأسبقية في الظهور، وقد رأينا أن موضوعاته متصلة اتصالاً مباشراً بظاهرة الدولة، أياً كان الرأي حول تشخيص الموضوعات المذكورة.

ومن المعلوم أن النظريات الاجتماعية والسياسية قد اختلفت في تاريخ ظهور الدولة، بل وفي ضرورة وجودها أصلاً، غير أن الذين ذهبوا إلى التشكيك في ضرورة الدولة، وبالتالي إلى إمكانية محو هذه الظاهرة والعودة إلى نوع من المشاعية قريب مما كان سائداً ۔فيما يقال۔ أول ظهور المجتمع الإنساني لا يمثّلون فيما يبدو إلا نفراً قليلاً من الباحثين وهم في طريق الاضمحلال.

وإذا تجاوزنا الأشكال البدائية للدولة فإن كثيراً من السياسيين والمؤرخين بل القانونيين يتوقفون عند أواسط القرن السابع عشر، ليجدوا في نتائج تطورات الأوضاع السياسية في أوروبا في ذلك التاريخ معالم ظاهرة الدولة الحديثة.

وتذهب جمهرة الفقهاء القانونيين إلى أن الدولة هي التي تضع القانون ليحكم الروابط المختلفة في المجتمع الإنساني المعين، وبذلك فإن ظهور الدولة أسبق من ظهور القانون الذي يضعه حكامها، والقانون في تدرجه إنما يرتفع إلى مرتبة الدستور وهو أعلى القوانين، فالدستور بدوره تال في ظهوره لظهور الدولة، وهكذا فإن ظاهرتي (السلطة) و(القانون) ظاهرتان اجتماعيتان تبلورت الأولى بالدولة، والثانية بالقواعد التي تضعها الدولة لحفظ مسيرتها ومسيرة المجتمع الذي تمثّله، وأن القانون ضروري لوجود الدولة؛ لأنه من أنجح وسائلها في ضبط سلوك الأفراد داخل المجتمع[25].

أما لدى السيد الشهيد فإن كتاباته تتظافر سواء في (فلسفتنا) أو (اقتصادنا) أو في (اللمحة الفقهية) أو (الأسس الدستورية) أو في (المدرسة الإسلامية) أو (الإسلام يقود الحياة) على القول بضرورة الشريعة التي هي الدستور بمعناه الواسع، بل وبضرورة وجود الأحكام الأدنى مرتبة من ذلك، ابتداءً بالدستور في معناه الضيق وانتهاءً بأدنى مرتبة من القرارات التي تشكّل مع ما علاها قواعد الضبط في المجتمع والتي لا تستقيم المسيرة من دونها.

والحقيقة أن الكتابات المذكورة قد وضعت في مقدمة مهمتها الكشف عن مشكلة الإنسانية في كل مكان، ألا وهي المشكلة الاجتماعية التي يقدّمها السيد الشهيد بقوله: (إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم وتمسّ واقعها الصميم هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخّص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال التالي: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟)[26].

إن ضرورة الدولة والنظام إذن لا تبدو عسيرة على الإثبات عند السيد الشهيد، فابتداءً من بداهة ضرورة الدين لديه والاعتقاد بالنظرة الكونية التوحيدية تبدأ رحلة السيد الشهيد لاستكشاف معالم الدولة والنظام انطلاقاً من تعريف الإسلام _ وهو خاتم الأديان_ بأنه عقيدة وشريعة كما ألمحنا سابقاً، يقول السيد الشهيد في الأساس الأول من أسسه الدستورية:

فالإسلام إذن مبدأ كامل؛ لأنه يتكون من عقيدة كاملة في الكون، ينبثق عنها نظام شامل لأوجه الحياة ويفي بأمسّ وأهم حاجتين للبشرية، وهما القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي[27].

على أن هذا لا يعني أنه لم يدر بين الإسلاميين جدل حول ضرورة الحكومة الإسلامية؛ إذ لم يعدموا من يقول بعدم وجوب السعي إلى إقامة الحكومة، وربما حرّم نفر منهم مثل ذلك السعي، إلا أن جمهرة علماء المسلمين لم يختلفوا في أصل ضرورة الحكومة الإسلامية، وإنما اختلفوا في شروطها وكيفية تولّيها السلطة وسعة أو ضيق ولايتها إلى ما هنالك مما يلي موضوع الضرورة.

ولا يختلف الذاهبون إلى ضرورة قيام الدولة الإسلامية، ومنهم السيد الشهيد كما سنری إن شاء الله في ضرورة وجود ضوابط تلتزم بها الدولة حكاماً ومحكومين، رعاةً ورعية.

ولقد بيّن السيد الشهيد في أسسه الدستورية أنواع السلطة وأنواع الدول، وميّز الحكومة الإسلامية بما تختص به من مواصفات وأهداف، وأشار إلى ضرورة وجود قواعد الضبط المذكورة، وهي القوانين والقرارات بدرجاتها، بل ذهب إلى بيان واجبات الأمة في كل حالة من حالات السلطة وأنواع الدول التي ذكرها، كما حدّد في لمحته الفقهية نموذج الدستور الذي يراه وأساسه الفقهي، مما يعني إجمالاً أن السيد الشهيد قد ذهب لا إلى ضرورة الدولة والدستور وحسب، بل سعى إلى إيجادهما فيما سعى إليه وكتب فيه.

وتذكّرنا هذه المساعي والكتابات بما جری أيام ثورة الدستور في إيران 1905 وأيام اشتداد المطالبة بوضع (دستور إسلامي) للجمهورية الباكستانية الناشئة، ويشخّص المرحوم الأستاذ أبو الأعلى المودودي كعلم من أعلام تلك المطالبة ولاسيما في محاضرته المشار إليها سابقاً التي ألقاها في 24/12/1952 في جمعية المحامين في مراكش، ونشرت عدة مرات قبل ظهور ترجمتها العربية في القاهرة سنة 1953 والثانية في دمشق في عام [28]1980.

ولعل من المفيد أن الأستاذ المودودي قد عرّف _ كما أسلفنا _ نوعين من الدستور، وهما الدستور غير المدون والدستور المدون وهو يذهب في تلك المحاضرة إلى أن الحاجة قد مسّت لإيجاد الدستور المدون واستخلاصه من مصادره. كونها ضرورة حضارية بشكل إجمالي قائلاً:

لأنها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانية وإنقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع[29].

ويزوّدنا بحث السيد الشهيد حول (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) بشكل خاص كما سنری أيضاً بمفاتيح دراسة قرآنية نفيسة في هذا المجال، يهمنا منها ناحيتان:

الأولى: أن الدولة هي أحد إنجازات الأنبياء عليهم السلام.

الثانية: أن الأنبياء عليهم السلام الذين تصدّوا لهذه المهمة كانوا يحملون معهم رسالة السماء على شكل عقائد وشرائع.

والناحية الأخيرة هي التي تتعلق بهذه المرحلة من البحث؛ لأنها تشير إلى أن الشريعة ۔ أي الدستور بمعناه الواسع۔ كانت من ضمن ما تزوّد به الأنبياء عليهم السلام في مهمتهم وقبل أن يستطيع الأنبياء عليهم السلام بناء الدولة المكلفين ببنائها كان في أيديهم دستور واضح يتم البناء ويدام ويحافظ عليه بموجبه وفي ضوء أحكامه الربانية[30].

ومعنى ذلك أن الدستور بالمعنى الواسع قائم قبل أن تقوم دولة الأنبياء عليهم السلام، فالدستور أسبق في الوجود من الدولة، وهذه الأسبقية لها آثار مهمة في تحديد معالم الدولة ومؤسساتها وحقوق وواجبات الراعي والرعية، كما تفسّر لنا بعض ما يتساءل عنه فقهاء القانون عادة في هذا الصدد.

ب: بعض مواصفاته

يتوقف فقهاء القانون الدستوري كثيراً عند المواصفات الأساسية المميزة للدستور والمبيّنة لطبيعة قواعده[31].

ولعلنا نستطيع أن نركّز تلك المواصفات حول محوري: القانونية والسمو.

1ـ قانونية الدستور

لقد دار نقاش فقهي طويل حول مدی قانونية الدستور، أي مدى اتصاف قواعده بمواصفات القاعدة القانونية، والتي تتلخص بالاطراد والعموم والتجريد والإلزام وبوجود جزاء يضمن لها النفاذ والاحترام. ويميل غالبية الفقه إلى أن القواعد الدستورية هي قواعد قانونية وإن اختصت بعض الأحيان بطابع يختلف شيئاً ما عنها، وهكذا دافعوا عن اتصافها بالمواصفات الثابتة للقاعدة القانونية فقالوا على سبيل المثال عن إلزامية الدستور وتوفر الجزاء الذي يضمن نفاذه قالوا: إن الإلزام متوفر في القاعدة الدستورية، وهي واجبة الاحترام من قبل الحكام والمحكومين، وهذا الوجوب مسلّم به لدی الجميع. وأما الجزاء الذي يترتب على مخالفة القاعدة المذكورة فإنه جزاء من نوع خاص، بل إنه أقوی من الجزاء المترتب على مخالفة القواعد القانونية الأخری. إن من المعلوم أن مخالفة قاعدة من قواعد القانون العادي لا تثير من الاعتراضات ولا من رد الفعل الاجتماعي ما تثيره مخالفة قاعدة دستورية، أما بقية المواصفات القانونية فهي أكثر ظهوراً ولا يسعنا التوقف عندها.

ولو عدنا إلى الدستور بمعنييه الواسع والضيّق لدی الشهيد الصدر فإننا نجد الصفات القانونية متوفرة فيها مع بعض التحفظ الذي تقتضيه الطبيعة الخاصة للدستور الإسلامي.

إن أحكام الشريعة الإسلامية، وهي المقصودة بالدستور الإسلامي بالمعنى الواسع، لا شك في كونها إلزامية مع مراعاة الثابت والمتغير منها، واللذين يمثلان أحد الجوانب المهمة من الطبيعة الخاصة التي أشرنا إليها. وهذه حقيقة إسلامية وليست وجهة نظر خاصة لأحد المسلمين.

وبكلمة أخری فإن ما يثبت بشكل قطعي من أحكام الشريعة الواردة في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل يمثّل دستوراً ثابتاً للمسلمين ينهلون منه في أحوالهم المختلفة، ليدبّروا أمورهم ويحلّوا مشاكلهم ويضعوا الإجابات الشافية لما يعترضهم من تساؤلات، وبالتالي فإن كافة أحكام الشريعة الخالدة ۔ كما يعبّر الشهيد الصدر في الأساس الثامن من أصوله الدستورية ۔ تعتبر بمجموعها أحكاماً دستورية، وفي الأساس السادس يقول الشهيد: إن من مهام الدولة الإسلامية (تطبيق أحكام الشريعة ۔ الدستور ۔ والتعاليم المستنبطة منها ۔القوانين۔ على الأمة، وفي الأساس الرابع يوجب السيد الشهيد إطاعة الدولة الإسلامية عندما تكون على النحوين الأولين الذين وضّحهما، وجماع هذه الإشارات الثلاث أن من واجب الدولة الإسلامية بيان أحكام الشريعة وتطبيقها، وأن من واجب الناس حينذاك طاعتها، وغني عن القول: إن إلزام أحكام الشريعة شامل للدولة حكاماً ومحكومين بناءً على قاعدة السمو، كما سنری أو كما يقول السيد الشهيد عن الدولة الإسلامية حيث يصفها بأنها (قانونية أي تتقيد بالقانون على أروع وجه؛ لأن الشريعة تسيطر على الحاكم والمحكومين على السواء)[32].

وإذا انتقلنا من مستوی الدستور بمعناه الواسع هذا إلى الدستور بمعناه الضيّق، وهو مجموع الأحكام الموضوعة من قبل الدولة الإسلامية، والتي تنظّم شؤون الأمة في الموضوعات التي ورد ذكرها فيما تقدم من البحث فإننا سنجد في الأساس طائفة من تلك الأحكام الثابتة في الشريعة وأخری من تلك الأحكام التي (تستنبط من أحكام الشريعة على ضوء الظروف والأحوال التي هي عرضة للتغير والتبدل) وهذه الطائفة الثانية، وبالنظر إلى أهميتها القصوی سواء من ناحية ارتباطها الوثيق بالأحكام الثابتة أو من ناحية الموضوع الذي تعالجه فإنها تنضمّ إلى الطائفة الأولى في إطار الدستور الموضوع، وتتمتع جميعاً بالأهمية التي يعترف بها للدستور باعتباره القانون الأساس في الدولة، والذي تتفرع عنه وتبنى عليه بقية القوانين والتعليمات والقرارات. وكل من طائفتي الأحكام المتضمنة في الدستور (الموضوع) تشتمل على أحكام ملزمة، وإذا كانت أحكام الطائفة الأولى ثابتة بشكل مطلق فإن الثانية ثابتة هي الأخری، ولكن بشكل ظرفي نسبة إلى قواعد القوانين والتعليمات التي تشتقّ من أحكام الدستور وتعتمد عليها، ويعني نوعا الثبات المذكور ضمنا إلزامية القواعد المذكورة، أي قواعد الدستور بمعناه الضيق.

وعلى كل حال فإن نسبية الثبات لا علاقة لها بالإلزامية؛ ذلك أن عنصر الإلزام متوفر في القوانين الأدنى، وهي متغيرة بحسب الفرض، فكيف بالدستور الذي هو القانون الأساس.

إن وضع دستور بالمعنى الضيّق في نظر السيد الشهيد هو إذن استخراج قواعد أساسية تنظّم وتحكم حركة الدولة الإسلامية بعناصرها المختلفة، سواء كانت تلك القواعد مستقاة مباشرة من الأدلة الأربعة للأحكام الشرعية أم كانت مستنبطة منها بشكل غير مباشر.

وقد وضع السيد الشهيد بنفسه في لمحته الفقهية التمهيدية عن الدستور الإسلامي ورقة عمل لمشروع دستور (وليس صياغة نهائية للدستور) ضمّنها مخططاً أولياً للمبادئ الدستورية الإسلامية.

والحقيقة أنه ليس من شك لدی أحد من المسلمين في إلزامية قواعد الشريعة، فإذا تحوّل ما يتعلق من قواعد الشريعة والأحكام المستنبطة منها بحركة الدولة وممارسة سلطاتها وحقوق الراعي والرعية إلى قواعد دستورية فإن القول بإلزامية تلك القواعد يكتسب سبباً آخر للقوة؛ ذلك أن وضع أحكام شرعية في إطار دستور الدولة يعني إيجاد ضمان (رسمي) لتنفيذها وترجمتها في واقع الأمة باعتبارها قواعد ملزمة.

وهنا نودّ أن نلفت النظر إلى أن أحكام طائفتي القواعد الدستورية التي ذكرناها (الثابتة مطلقاً والثابتة نسبياً) لا تنقل في الدولة الإسلامية إلى الدستور نصاً كما هي واردة في مصادرها، لاسيما إذا تذكّرنا أن عملية استخلاص الحكم من مصادره، نقلاً واستنباطاً إنما هي عملية استنباط فنية تشتمل نتيجتها على إعطاء حكم ذي شكل ومضمون، وإذا كان المضمون معبراً عن الحكم الشرعي السليم سواء كان واقعياً أم ظنياً فإن الشكل ۔بمعنى النص المعبّر عن الحكم۔ لن يكون إلا فيما ندر متطابقاً مع الحكم الشرعي المباشر والمستنبط.

وبعبارة أخری فإن هناك عمليتين تجريان بالضرورة لنقل الحكم الشرعي من أدلته الشرعية أو بالاعتماد عليها من النص الفقهي إلى النص القانوني سواء كان النص القانوني دستوراً أو قانوناً في مرتبة أدنى من الدستور:

فأما العملية الأولى فهي نقل المضمون المطلوب من الدليل الشرعي أو بالاعتماد عليه إلى الساحة القانونية، ويمكن أن تمثّل لهذه العملية بما فعله السيد الشهيد الصدر في لمحته الفقهية عن الدستور الإسلامي، وإن جاءت اللمحة مشتملة على بعض المناقشات والتأصيلات الفقهية التي لا تظهر في الصياغة القانونية، والتي سوف تختفي لهذا السبب تماماً، إلا في حالات استثنائية في مرحلة العملية التالية، وهي التي تتضمن صياغة النص القانوني (الدستور أو غيره) على شكل قاعدة تتضمن ما يسمّى عند أهل الصنعة فرضاً وحكماً وهما تعبيران عن طرفي القاعدة، حيث يعني الفرض حدوث أمر في الواقع، ويعني الحكم ما يترتب على ذلك الحدوث[33] كترتب حكم الإعدام في قانون العقوبات على حدوث واقعة القتل العمد، أو كترتب ضمان المستأجر للعين المؤجرة على عقد الإيجار في القانون المدني.

فصياغة القاعدة ذات الفرض والحكم (في العملية الثانية)، حتى إذا لم يظهر هذان العنصران في النص بشكل واضح تعتبر عملية فنية يمارسها ذوو اختصاص محدد ربما لا يتطابق مع اختصاص أولئك الذين قاموا بالعملية الأولى.

ومن الناحية العملية فإن الفقهاء القادرين على استخلاص الأحكام الشرعية من أدلتها هم الذين يقومون بالعملية الأولى، أما العملية الثانية فتعني أن أمام الممارس نصاً استخلصه الفقيه المعني من الأدلة الشرعية ليكون الميزان الشرعي في النظر إلى مسألة من المسائل، ولكن هذا النص عبارة عن (مادة أولية) لم تتخذ شكل الصياغة القانونية، أي أنها بحاجة إلى أن تجري عليها العملية الفنية الثانية، وهي عملية الصياغة القانونية.

إن عملية تدوين الدستور التي تكلم عنها الأستاذ المودودي في محاضرته التي سبق أن ذكرناها أو التي تكلم عنها السيد الشهيد الصدر في لمحته الفقهية وفي الأسس الدستورية هي العملية الأولى لنقل الأحكام الشرعية إلى الساحة القانونية للدولة الإسلامية من مظانها التي تدعى بالتعبير العصري مصادر القانون. فإذا صيغت الأحكام الواردة في محاولتي الأستاذ المودودي والسيد الشهيد على شكل مواد قانونية فإنها تصبح دستوراً مدوناً كما يسمّيه الأستاذ المودودي، أو دستوراً بالمعنى الضيّق كما يسميه السيد الشهيد أو دستوراً إسلامياً وضعياً كما يمكن تسميته بتعبير آخر؛ ذلك أن الدستور المصاغ بهذه الطريقة إنما هو نصوص وضعها البشر، وأما استخلاصها من الأدلة الشرعية الإسلامية فقد منحها اسم (الإسلامية) فصارت دستوراً إسلامياً وضعياً تمييزاً لها عن النصوص غير الإسلامية التي يضعها البشر ويقال لها: وضعية، وهكذا يمكن أن نری في التطبيق دساتير وضعية إسلامية، ودساتير وضعية غير إسلامية؛ نظراً لاختلاف مصادر النوعين، ومن أمثلة الدساتير الإسلامية الوضعية بالمعنى المتقدم دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ونماذج الدساتير الواردة في مؤلف المستشار علي جريشة الذي سبق أن أشرنا إليه.

2 _ سمو الدستور

يعتبر الدستور القانون الأعلى أو القانون الأساس في الدولة، فقواعده أسمى من قواعد غيره من القوانين؛ لأن هذه تستقي منه وتعتمد عليه وكل مخالفة منها لنصوصه تجعل منها قوانين (غير دستورية) فتفقد اعتبارها وإلزاميتها، وقد أكد كثير من الباحثين في مجال القانون الدستوري على هذه الحقيقة وبيّنوا وجهات نظرهم في مصدر سمو الدستور[34].

وإنما ثار الجدل بشكل خاص حول مدی صحة هذا الرأي في حالة الدساتير غير المدونة كالدستور البريطاني؛ ذلك أن الدستور العرفي ۔ كما يذهب بعض الباحثين ۔ يعتبر دستوراً مرناً بطبيعته، ولذلك فإنه يفقد سموه وعلويته على القواعد القانونية الأخری، وكأن هؤلاء الباحثين يربطون بين مسألة تدوين الدستور وجموده وبالتالي سموه وعلويته، كما يربطون بين عدم تدوين الدستور ومرونته.

وعلى هذا يلاحظ أولئك الباحثون أن (الدستور العرفي هو دستور مرن بطبيعته؛ لأن نشوء عرف جديد لابد أن يعدّل العرف القديم وينسخه، أما مرونة الدستور المكتوب فتتوقف على الإجراءات التي يتضمنها عادة الدستور المكتوب والمتعلقة بتعديل أحكامه)[35].

لقد علّقنا في دراسة سابقة على مثل هذا الرأي وذهبنا إلى (أن الجمود ليس في حقيقته إلا نتيجة من نتائج العلوية.. وليس مصدراً لها، فنحن نستطيع بالتالي اعتبار الجمود دليلاً على العلوية وليس سبباً أو مصدراً لها)[36].

على أن نسبة المرونة وسهولة التعديل إلى الدساتير غير المدونة قد يثير إشكالاً مهماً لدی البعض بالنسبة إلى الدستور الإسلامي (غير المدون) وهو أحكام الشريعة نفسها. ووجه الإشكال هو الذي تثيره تسمية الأستاذ المودودي للدستور الإسلامي المتمثل بأحكام الشريعة بأنه دستور غير مدون، فإذا كان غير مدون فهو مرن، وإذا كان مرناً فقد علويته وسموه وحاكميته على ما سواه من قواعد الضبط من قوانين وأعراف وغيرها.

والحقيقة أن الأستاذ المودودي إنما شبّه تشبيهاً أحكام الشريعة الإسلامية كـ(دستور) بأحكام الدستور البريطاني غير المدونة (العرفية) ووجه التشبيه مقصور في الواقع على التدوين وعدم التدوين، ومأخوذ بمعنى أن تلك الأحكام (أحكام الشريعة الإسلامية) مثبتة في الكتاب والسنة وليست مستخرجة جميعاً، وأن استخراجها يحتاج إلى جهد واجتهاد، ومن ثم إلى تدوين نتائج ذلك الاجتهاد وصياغتها بشكل خاص.

والأمر بالتأكيد يختلف عن حال الدستور البريطاني العرفي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة مدونة وليست أحكاماً عرفية.

وأما عند الشهيد الصدر فقد عرضنا سابقاً تمييزه بين تعابير (الشريعة الإسلامية) التي سماها دستوراً بالمعنى الواسع، ولم يقل عنها: إنها (دستور غير مدون) وبين الدستور بالمعنى الضيّق تمييزاً لهما عن القوانين والتعليمات التي تستقى من الدستور وتستمد صلاحيتها منه.

إن جمود أحكام الدستور الإسلامي بمعناه الواسع ۔ أي أحكام الشريعة الإسلامية ۔ ورد ذكره في عدة مواضع من كتابات السيد الشهيد، ومنها الفقرة الأولى من الأساس الثامن من أصوله الدستورية حيث قال:

أحكام الشريعة الإسلامية المقدسة هي الأحكام الثابتة التي بيّنت في الشريعة بدليل من الأدلة الأربعة.. فلا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير..

وينتقل هذا الجمود بشكل كبير إلى (الدستور) بمعناه الضيّق؛ ذلك أنه يحتوي في الجزء الأكبر منه أحكاماً شرعية ثابتة لا تقبل التبديل أو التغيير، وأما الجزء الآخر من أحكام الدستور بمعناه الضيق فلها ثبات نسبي بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً لكونها جزءاً من وثيقة الدستور الثابتة في معظمها، ويمكن أن يظهر في أحكام الدستور (المدون) ما يضفي على هذه القواعد صفة الثبات النسبي أو المرونة بحسب الأحوال.

يقول السيد الشهيد في لمحته الفقهية التمهيدية:

إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الذي يستمد منه الدستور ۔بالمعنى الضيّق۔ وتشرّع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية وذلك على النحو التالي:

أولاً: أن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور، سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أم لا.

ثانياً: أن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة، ثالثاً..[37].

وواضح من تعبيرات السيد الشهيد توكيده على تبعية القوانين الأدنى للدستور وسموّه عليها، كما هو واضح أيضاً ثبات أحكام الشريعة أو جمودها بالتعبير العصري[38].

وقد قدّم السيد الشهيد للعبارات المذكورة المبرر الذي جعل من أحكام الشريعة أحكاماً ثابتة، فهي (الشريعة النازلة بالوحي من السماء) وأنه (ما دام الله تعالى هو مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية)[39].

فمصدر العلوية إذن إرادة الله، وهذه العلوية هي سبب الجمود بالمعنى المتقدم، وقد أوكل السيد الشهيد في لمحته الفقهية إلى (المرجعية الرشيدة) تعيين الموقف الدستور للشريعة الإسلامية والبتّ في دستورية القوانين[40].

ولابد أن نشير هنا من جديد إلى أن السيد الشهيد إنما يثبت حقائق من حقائق الشريعة الإسلامية الغرّاء التي جاءت لكل زمان ومكان وخاطبت الناس كافة، وبذلك فإن أحكامها التشريعية الثابتة (دستور) ثابت لا يمكن تغييره، سواء وردت تلك الأحكام في الدستور المكتوب أم لم ترد، وعلى هذا سارت أحكام دستور الجمهورية الإسلامية في إيران الذي مهّد له السيد الشهيد بلمحته الفقهية، فقد أوجب في المادة الرابعة منه (أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات..) مشيراً إلى أن هذا الحكم نافذ (على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً..) كما نص في آخر مواده على أن (مضامين المواد المتعلقة بكون النظام إسلامياً وقيام كل القوانين والمقررات على أساس الموازين الإسلامية والأسس الإيمانية، وأهداف جمهورية إيران الإسلامية، وكون الحكم جمهورياً وولاية الأمر وإمامة الأمة، وكذلك إدارة أمور البلاد بالاعتماد على الآراء العامة، والدين والمذهب الرسمي لإيران هي من الأمور التي لا تقبل التغيير).

وفي محاولة المستشار جريشة الدستورية _ التي أشرنا إليها سابقاً _ نقرأ في المادة الأولى: أن مشروعية الإسلام هي العليا فوق كل النصوص، ونقرأ في المادة 22: وجوب تشكيل محكمة دستورية عليا من مهمتها إبطال كل ما يخالف الإعلان الدستوري أو أي نص قطعي من الكتاب أو السنة، ونقرأ في مذكّرته الإيضاحية: أن الوحي قرآناً وسنة هو فوق الدستور الإعلان الدستوري.

وعلى كل حال فإنه ينبغي أن نتذكر أن أهم نتائج علوية وسمو الدستور[41] تتمثل في:

استقرار أحكامه وثباتها مطلقاً أو نسبياً.

مرجعيته بالنسبة لسلطات الدولة وما يصدر عنها من قواعد ضبط، وبالنسبة للمؤسسات والأفراد على مختلف المستويات وفي مختلف الحقول.

إقرار مبدأ الرقابة لتحقيق قانونية الدولة من جهة، ولتحقيق انسجام قواعد الضبط عمودياً وأفقياً في نظام حركة متكاملة.

وقد رأينا في تأكيدات السيد الشهيد ما يحسم موضوع مرجعية الدستور الإسلامي واستقرار وثبات أحكامه، كما قرأنا له تعيين الجهة التي تراقب دستورية القوانين، ولم يبق إلا أن نلقي نظرة على ما يشتمل عليه الدستور الإسلامي في نظر السيد الشهيد من موضوعات سبق أن اقتصرنا على ذكر عناوينها فيما سبق.

ثالثاً: مضمون الدستور

سبق أن شخّصنا ثلاثة موضوعات يشتمل عليها دستور الدولة الإسلامية في نظر السيد الشهيد، ولاحظنا أن ذلك لا يمنع من افتراض إمكانية شموله على موضوعات أخری أساسية تتصل بها اتصالاً وثيقاً أو تتفرع عنها، ولكن مع التمتع بأهمية متميزة؛ ذلك أن السيد الشهيد لم يضع حدوداً لما يمكن أن يشتمل عليه الدستور، كما لم يقل: إنه يشتمل على كل شيء، وإنما استفدنا تلك الموضوعات مما كتبه السيد الشهيد عن الدستور، وقد خلصنا في حينها إلى أن تلك الموضوعات هي ما درج عليه الوضعيون أيضاً في الدراسات الدستورية وفي مشاريع الدساتير التي يضعونها، وها نحن نستعرض موقف السيد الشهيد من محتويات الدستور من خلال كتاباته المختلفة. ولعل من المفيد أن نذكّر بأن السيد الشهيد لم يدرس موضوع القانون الدستوري كما يصنع المتخصصون، وإنما عرض التصور الإسلامي لأهم مشتملات الدستور والخلفية الفقهية لذلك من خلال الإحساس بالحاجة الاجتماعية لمثل هذه البيانات، وبالتالي فإن ما كتبه ليس بحثاً متخصصاً في القانون الدستوري، وإنما هو أفكار أساسية وأوراق عمل إسلامية موزّعة في كتبه؟رح؟.

أما الموضوعات الأساسية الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها فهي:

ممارسة السلطة في الدولة.

الحقوق والحريات.

المضمون الفكري والتربوي.

ولما كنا أفردنا مبحثاً خاصاً لدراسة الدولة وسلطاتها فإننا سنقصر الحديث هنا على الموضوعين الأخيرين:

أ: الحقوق والحريات

ليست الحقوق والحريات التي تحرص الدساتير على النص عليها مقصورة على الجانب السياسي، وإنما تتعدی ذلك إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي أيضاً. ولكل نظام من الأنظمة التي تتبناها الدساتير نظرته إلى تلك الحقوق والحريات من حيث الأساس الفكري والسعة والضيق وما إلى ذلك.

وقد عني السيد الشهيد عناية خاصة بمقارنة ما عليه النظام الإسلامي بالحقوق والحريات في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، باعتبارهما مدرستين منفصلتين تتوزّعان أنظمة دول العالم إلى جانب النظام الإسلامي الذي كان قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران من ذخائر التاريخ تطبيقياً[42].

وإذا كانت الأسس الفكرية لاسيما المقارنة هي في الأصل أقرب إلى مهمة الجزء الخاص بالدولة من هذا البحث، فإننا نكتفي هنا ببعض اللمحات التي وردت في كتابات السيد الشهيد عن موضوع الحقوق والحريات، ولنذكر أولاً أن السيد الشهيد لم يهتم بوضع هيكل للحقوق والحريات في الدولة الإسلامية، مكتفياً فيما يبدو بما كان مورد الحاجة وقت كتابته من ناحية، وبأن دراسة الحقوق والحريات في الإسلام لا تشكّل عقبة كبيرة بعد بيان نقطتين رئيسيتين هما:

_ إن المعين الدستوري للدولة هو الشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن أحكام الحقوق والحريات كغيرها من الأحكام تستخلص بالطريقة التي سبقت الإشارة إليها في إطار الثابت والمتغير من الأحكام الإسلامية.

_ الكليات والمبادئ المتعلقة بالموضوع.

لقد عرض السيد الشهيد موقف كل من الرأسمالية والاشتراكية من موضوع الحقوق والحريات، وبيّن مجموعة من المآخذ على ذلك الموقف القائم على (التفسير المادي المحدود للحياة) والذي ينبغي تطويره في نظر الإسلام كحلّ وحيد للمشكلة الاجتماعية، وقد عبّر السيد الشهيد عن دور الدين في هذا المجال بأنه (يوحّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاه والعدالة)،[43]، وينتهي في ذلك إلى القول بأن (الفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق لمأساة الإنسانية)[44].

والسيد الشهيد في تأشيره للقواعد الفكرية وللمبادئ والكليات في الدولة الإسلامية في هذا المجال يثبّت:

۔ (أن المقياس الخلقي الجديد الذي يضعه الإسلام للإنسانية هو رضا الله تعالى.

۔ الخط العريض في النظام الإسلامي هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن)[45].

۔ أن الدولة الإسلامية دولة قانونية تتقيد بالدستور بمعنييه الواسع والضيق[46].

بعد هذا يتوقف السيد الشهيد عند مفهوم الحرية[47] في الإسلام مؤكداً على أن قاعدة الحرية الأساسية في الإسلام هي: (التوحيد والإيمان بالعبودية المخلصة لله، الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ)[48].

ومن هنا كان اختلاف الإسلام عن الحضارة الغربية في هذا الصدد، وهو اختلاف على صعيد المقدمات كما هو على صعيد النتائج. يقول السيد الشهيد:

فالإسلام والحضارة الغربية، وإن مارسا معاً عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير، فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والإيمان به، والحضارة الغربية تقيمها على أساس الإيمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد أن شكّت في كل القيم والحقائق وراء الأبعاد المادية لوجود الإنسان[49].

ولا يحصر السيد الشهيد مناقشته في هذا الإطار، بل إنه يتعداه إلى مفهوم الضمان أيضاً؛ ذلك أن الحرية والضمان بالشكل الذي عرضته الحضارة الغربية المادية: الرأسمالية فالاشتراكية يمثّلان المقترحين الأساسيين للحضارة المذكورة لحل المشكلة الإنسانية، والذين تمحورت حولهما التشريعات المتعلقة بالحقوق والحريات في الشرق والغرب.

فأما الحرية فقد أشار السيد الشهيد إلى قاعدتها في الإسلام _ كما قدمنا _ وإلى كرامة المواطن وحقه في الحرية والمساواة والمساهمة في بناء المجتمع[50]. واستطرد السيد الشهيد بعد إشارته إلى حقيقة كون الله مصدر السلطات جميعاً، حيث تعني لديه (أن الإنسان حر ولا سيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه.. وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان..)[51].

وقد أشار السيد الشهيد إلى الآليات العملية التي تجسّد دور الأمة في إدارة الدولة وتعيين من يتولى سلطاتها[52] كما سنری عند الحديث عن الدولة، كما ثبّت في اللمحة الفقهية الدستورية كذلك مساواة أفراد الأمة أمام القانون وحقهم المتساوي في صدد إدارة شؤون الدولة واستثمار طاقاتها ونموّ أنشطتها، كما نصّ على حق المواطنين في التعبير عن الآراء والأفكار وممارسة العمل السياسي والشعائر الدينية والمذهبية[53].

ولم ينس السيد الشهيد في هذا الصدد التأكيد على حق غير المسلمين من المواطنين في التمتع بما تقدم، وسنری في الحديث عن الدولة تفاعل وتكامل أجزاء وجوانب الحياة الاجتماعية في الدولة الإسلامية.

وأما فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي فقد نص السيد الشهيد على تكامله مع مبدأ التوازن الاجتماعي[54].

وقد بحث الأمر بشكل خاص في كتاباته الاقتصادية، وقد أرجع هذين المبدأين إلى أحد الأركان الأساسية للاقتصاد الإسلامي، وهو مبدأ العدالة الاجتماعية، فقال:

الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامين لكل منهما خطوطه وتفصيلاته، أحدهما مبدأ التكافل العام، والآخر مبدأ التوازن الاجتماعي..[55].

ولا ينفصل الحديث في هذا عن الركنين الآخرين للاقتصاد الإسلامي كما وضّحهما السيد الشهيد، فالركن الأول يتعلق بحق التملك، وقد تطرّق فيه إلى قاعدة ازدواجية الملكية في الإسلام[56]، والركن الثاني هو مبدأ الحرية الاقتصادية كما يراها الإسلام الذي يقيّدها بعدد من القيم المعنوية والأخلاقية[57] ويمزجها بمبدأ الضمان[58].

وعلى كل حال فقد لخّص السيد الشهيد الحق في التنمية والرفاه والتقدم بنقاط محددة منها: الضمان الاجتماعي الذي يكفل الحد الأدنى من الرفاه لجميع أفراد المجتمع، ومنها التوازن الاجتماعي في المعيشة بالتقريب بين مستوياتها، وبين الدخول، وذلك بالمنع من الاحتكار وتركّز الأموال[59].

أما دستورية هذه النقاط فنستنتجها من إشارات السيد الشهيد في اللمحة الفقهية والأصول الدستورية التي وضعها، ومن تشديده على أن تحقيق تلك النقاط هو من الواجبات الأساسية للدولة من خلال أدائها لواجبها في تحديد وتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة في الاقتصاد الإسلامي.

هذا وتكرّس تعبيرات السيد الشهيد الحق في الضمان والمساواة فيه، فهو يقول: إن (الضمان الاجتماعي في الإسلام حق من حقوق الإنسان التي فرضها الله تعالى، وهو بوصفه حقاً إنسانياً لا يتفاوت باختلاف الظروف والمستويات المدنية ولا يختص بفئة دون فئة)[60].

وفي هذه المناسبة فقد أوضح السيد الشهيد أن الضمان في الإسلام واجب على الأفراد تارة ضمن مبدأ التكافل العام؛ لأن كل مسلم مسؤول عن ضمان معيشة الآخرين، وواجب على الدولة تارة أخری ضمن مبدأ الضمان الاجتماعي نفسه وهو مبدأ (يقرر مسؤولية الدولة في هذا المجال، ويحتمّ عليها ضمان مستوی من العيش المرفّه الكريم للجميع من موارد ملكية الدولة والملكية العامة وموارد الميزانية)[61].

وفي هذا السياق عدّد السيد الشهيد أمثلة من التزامات الدولة (التي تمثل حقوقاً للمواطنين)، فقال:

تلتزم الدولة بتوفير العمل في القطّاع العام لكل مواطن وبإعالة كل فرد غير قادر على العمل أو لم تتوفر له فرصة العمل وتقوم بجباية الزكاة لتوفير صندوق للضمان الاجتماعي، كما أنها تخصص خمس عائدات النفط وغيره من الثروات المعدنية للضمان الاجتماعي وبناء دور سكنى للمواطنين وفق تنظيم تضعه الدولة. وتلتزم الدولة بالإنفاق ۔بكل أشكاله۔ على نحو يوفّر لكل مواطن القدرة على الاستفادة من المجال التعليمي والصحي بدون مقابل وفقاً لنظام معين تقرره الدولة[62].

ب: المضمون الفكري التربوي

في الفقرة الأخيرة من الأساس الأول من أصول الدستور الإسلامي يلفت الشهيد الصدر الانتباه إلى أن الإسلام (مبدأ كامل؛ لأنه يتكون من عقيدة كاملة في الكون ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأمسّ وأهم حاجتين للبشرية وهما: القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي).

وإذا كان هذا هو شأن الدستور بمعناه الواسع فإن الدستور بمعناه الضيّق لابد أن يتعدی مجرد وضع (نظام) لدولة المجتمع الإسلامي إلى تكريس القاعدة الفكرية التي يقوم عليها ذلك النظام، والحقيقة أننا سواء كنا في حضرة دستور رأسمالي أو اشتراكي أو إسلامي أو تلفيقي فإن الأحكام الدستورية لابد أن تكشف عن مضمون فكري، لا من خلال الأحكام الخاصة بالحقوق والواجبات ومصدرها وحسب، بل من خلال الأحكام الأخری الخاصة بشكل دقيق بكيفية ممارسة السلطة أيضاً وحتى تلك الأقل أهمية من ذلك.

يقول العلامة الفرنسي موريس ديفرجيه:

إن كل نظام سياسي هو عبارة عن مجموعة من الإجابات موضوعة لكل واحد من الأسئلة التي يطرحها وجود وتنظيم الحكّام في وسط هيئة اجتماعية ما.[63]

وفي الحقيقة فإننا سواء كنا من القائلين بالطبيعة السياسية أو الطبيعة القانونية للقواعد الدستورية مضطرون للقول بأن تلك القواعد تكشف بنصها الحرفي أو بمضامينها عن موقف فكري للحكم.. فواضعو الدستور يعبّرون عن توجهات معينة للدولة التي يضعون دستورها.

ولا يقدح في ذلك أنهم يطابقون فيما يذهبون إليه في الأحكام الدستورية التي يضعونها ما يذهب إليه أبناء الشعب أو يخالفونهم، بل ليس من أثر لمطابقة ذلك لما يعتقدونه هم أو مخالفته له. إنهم يعبّرون عن توجهات مركز أو مراكز القوة الماثلة في الدولة التي يضعون دستورها.

فإذا سلمنا بوجود قاعدة فكرية للدستور هي عبارة عن فلسفة الحكم التي تؤمن بها القوة الكامنة (أو توازن القوی الكامن) خلف أحكام الدستور فإن هذه الأحكام ستكون معبّرة عن تلك الفلسفة حريصة على تطبيقها وسيادتها في الواقع العملي للمجتمع إذا لم تكن مطبّقة فعلاً، وإذا كانت مطبّقة فعلاً فستكون مهمة الأحكام المذكورة الحفاظ عليها وتكريسها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، بل وحمايتها من كل خطر. وفي الحالين يبدو واضحاً أن قواعد الدستور والقواعد القانونية القائمة عليه لا تلعب دور المعبّر عن فكر معين وحسب، بل تمارس دور توجيه المجتمع وتربيته، بل وضبط مسيرته بالاتجاه الذي يفرضه ذلك الفكر أيضاً.

من هنا فإن التمييز الذي لجأ إليه العلامة ديفرجيه بين ما سمّاه الدستور القانون (la constitution-loi) وما سمّاه الدستور البرنامج (la constitution-proqramme) غير مقنع فيما يتعلق بالنتيجة التي يؤدي إليها من نفي صفة التوجيه أو المضمون التربوي كما عبّرنا عنه عن النوع الأول من الدساتير (الدستور ۔ قانون) والذي نجد نماذجه في الديمقراطيات الغربية، بينما يكون النوع الثاني (الدستور البرنامج) هو الشائع في الدول (المتخلفة) وعموم الأنظمة المركزية، حيث يكون الدستور عبارة عن برنامج عمل لنظام الدولة، ويستهدف الوصول في النهاية إلى أهداف محددة. كما أن هذا لا يبدو مناسباً للمقدمة التي ذكرها ديفرجيه وأشرنا إليها قبل قليل حول تعريفه للنظام السياسي.

ولو رجعنا إلى كتابات السيد الشهيد التي أشار فيها إلى المضمون الفكري والتربوي لنظام الحكم الإسلامي لوجدناها عديدة واضحة صريحة، وهو حين عمد إلى أسلوب المقارنة بين النظام الإسلامي وبقية نماذج الأنظمة _ التي عرفتها المجتمعات البشرية _ قد أوضح في الوقت نفسه حقيقة كون الأنظمة المذكورة ذات محتوی فكري وأهداف تتجه إليها وتدفع المجتمع إليها بما تعتمده من وسائل وإمكانيات تتفق مع فكرها المشار إليه.

أما كتابات السيد الشهيد التي يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن فقد لا تخلو واحدة من كتاباته من شيء يتعلق بذلك، غير أننا نجد إشارات مباشرة وواضحة تحت العناوين الستة التي وردت في كتاب (الإسلام يقود الحياة) وكذلك في الأصول الدستورية المشار إليها سابقاً، وفي (المدرسة الإسلامية) لاسيما تحت عنوان: الإسلام والمشكلة الاجتماعية، وتحت عنوان: موقف الإسلام من الحرية والضمان، فضلاً عما ورد في اقتصادنا وفلسفتنا ورسالتنا.

وها نحن نقتبس بعض تلك الإشارات لنتعرف على كيفية تناول السيد الشهيد للموضوع وحقيقة ما ينطوي عليه النظام الإسلامي من مضمون فكري وتربوي في الأسس المعنونة (أصول الدستور الإسلامي) حيث يركّز السيد الشهيد على إعطاء تعريف أولي للإسلام كمصطلح فيقول عنه: إنه (العقيدة والشريعة اللتان جاء بهما من عند الله تعالى الرسول الأعظم صل الله عليه و آله ونقصد بالشريعة مجموعة القوانين والأنظمة.. التي تعالج الحياة البشرية كافة: الفكرية منها والروحية والاجتماعية بمختلف ألوانها من اقتصادية وسياسية وغيرها) (الأساس الأول).

ها هنا موجز للفكرة التي نبحثها تحت عنوان المضمون الفكري والتربوي للدستور. فقد سبق أن أشرنا إلى المعنى الواسع للدستور عند السيد الشهيد وهو الشريعة، وهذا الدستور قائم بدوره على العقيدة أو هما ركنان متكاملان للإسلام لا يصلح أحدهما بدون الآخر.

وحين يقدّم السيد الشهيد إيضاحاته عن أنواع الدول (في الأساس الرابع) ويعرف الدولة الإسلامية بأنها: (هي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام وتستمد منه تشريعاتها، بمعنى أنها تعتمد الإسلام مصدرها التشريعي، وتعتمد المفاهيم الإسلامية منظارها الذي تنظر به إلى الكون والحياة والمجتمع) وهذا تعبير آخر عن تلازم ركني العقيدة والشريعة ووصف لهما حينما ينتقلان إلى مجال التطبيق العملي، فالنظام الإسلامي يحكمه يضبط حركته وعلاقاته الدستور (الشريعة) الذي يقوم على قاعدة فكرية محددة هي العقيدة الإسلامية التي تتلخص بالنظرة الكونية التوحيدية.

ويجمع السيد الشهيد بين عنصري: الفكر والنظام حين يحرّر (الأساس الخامس) تحت عنوان: (الدولة الإسلامية دولة فكرية) ويقول في مزيد من الإيضاح إن: (من طبيعة الدولة الفكرية أنها تحمل رسالة فكرية وكذلك الدولة الإسلامية فإنها دولة ذات رسالة فكرية هي الإسلام).

ومن الطبيعي أن تكون من هموم الدولة الأساسية التي تضمنها دستورها رعاية العقيدة والشريعة معاً للتلازم القائم بينهما في تعبيرهما عن الإسلام، فروح الدستور الإسلامي نظرته الكونية التوحيدية، ومفرداته مطبوعة في تنظيمها للدولة والمجتمع بتلك الروح بشكل لازم.

ومن هنا كان أول الأمور التي يثبتها السيد الشهيد في لمحته الفقهية الدستورية القاعدة الأساسية التي تقول:

إن الله هو مصدر السلطات جميعاً.. وإن السيادة لله وحده، وما دام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرّع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية..

هكذا تمّ الربط بين القاعدة العقائدية الفكرية التي تشكّل فلسفة في النظام الإسلامي وبين الدستور الذي يصوغ هيكل وحركة الدولة الإسلامية.

وتعود أهمية هذا الربط لتظهر لا في وضع القواعد الخاصة (بالضبط الاجتماعي) على مستوی الراعي والرعية فحسب، بل في (التوجيه الاجتماعي) أيضاً، بمعنى تجسيد الأهداف الربانية في إقامة النظام والدفع باتجاهها، أي تحقيق الرسالة الإسلامية في تنقية المجتمع البشري والسموّ به إلى مدارج الكمال.

وعليه فإن المضمون التوجيهي والتربوي للدستور لابد أن يظهر بشكل جلي مجسداً أهداف الدولة الإسلامية، تلك الأهداف التي لخّصها السيد الشهيد في لمحته الفقهية أيضاً جاء في جانب منها (أنها تتمثل في:

۔ تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.

۔ تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصية الإسلامية العقائدية في كل مواطن؛ لتتكون القاعدة الفكرية الراسخة التي تمكّن الأمة من مواصلة حمايتها للثورة).

إن الدستور الإسلامي في منظور السيد الشهيد لابد أن يتميز عن كل الدساتير الأخری بأنه دستور لدولة القرآن، و(أن دولة القرآن العظيمة ۔ يقول السيد الشهيد في لمحته الفقهية الدستورية ۔ لا تستنفد أهدافها؛ لأن كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرك في اتجاه المطلق لا يتوقف) وفي هذه التعبيرات ما فيها من دلالات على المضمون الفكري والتربوي في الدستور الإسلامي الذي ينبغي له وفقاً لتأكيدات السيد الشهيد أن يجسّد مضمون خلافة الإنسان على الأرض، والخلافة كما يراها السيد الشهيد (حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة، وهي حركة لا توقّف فيها؛ لأنها متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوی المطلق ۔ سوی الله ۔ سوف يكون هدفاً محدوداً وبالتالي سوف يجمّد الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان)[64].

وإذا كانت كتابات السيد الشهيد تطفح في تعبيراتها ومداليلها بالمعاني المتقدمة فإننا قد وجدنا في أحد نصوصه أسطراً قليلة تختصر العلاقة بين القاعدة الفكرية والعقائدية وبين دستور الدولة الإسلامية الذي يسطر أهدافها وفلسفة الحكم فيها، ذلك ما قاله السيد الشهيد في نهاية كلامة عن (الإسلام والمشكلة الاجتماعية) إذ قال وهو يشرح رسالة الدين:

فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: إحداهما تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والأخری مراقبته من خارج وإرجاعه إلى القاعدة الفكرية إذا انحرف عنها عملياً.

ويستطرد السيد الشهيد قائلاً:

ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق مردّه إلى نظرة كلية كاملة نحو: الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل[65].

مصادر البحث

  1. الوسيط في شرح مقدمة القانون المدني، الدكتور رمضان أبو السعود، ج 1، الدار الجامعية، بيروت، 1983.
  2. الرقابة على دستورية القوانين، بحث في مجلة العراق أوراق قانونية، الدكتور مصطفی الأنصاري، ع 1، ص 5 ۔ 81، 1999.
  3. المدخل لدراسة القانون، الدكتور محمد علي بدير، بغداد 1982.
  4. إعلان دستوري إسلامي، المستشار علي جريشة، الطبعة الثانية، دار الوفاء (المنصورة ۔ مصر)، 1988.
  5. المدخل لدراسة القانون الوضعي، الدكتور منذر الشأوي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1996.
  6. الديمقراطية بين النظرية العالمية الثالثة والمفاهيم المعاصرة، المحامي عبد الفتاح شحاذة، الطبعة الأولی، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 1986.
  7. اقتصادنا، السيد محمدباقر الصدر، ج 2، الطبعة الثانية، المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1408ق.
  8. الإسلام يقود الحياة، السيد محمدباقر الصدر، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الثالثة، 1403ق.
  9. المدرسة الإسلامية، السيد محمدباقر الصدر، طبعة بيروت، 1973.
  10. القانون الدستوري، الدكتور علي غالب العاني، والدكتور لطيف نوري، مقرر دراسي، ج1، بغداد، 1986 ۔1987.
  11. الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي، عبد الرزاق جعفر، 1905 ۔ 1920، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة ۔ 22، قم 1999.
  12. الكتاب الأخضر، العقيد معمر القذافي، الطبعة الحادية عشر، طرابلس، 1986.
  13. ثقافة الدعوة الإسلامية، المركز الإسلامي للدراسات الإسلامية، ج 4، 1989.
  14. تجديد الفقه الإسلامي: محمدباقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، شبلي الملاط، دار النهار للنشر، الطبعة الأولی، بيروت، شباط 1998.
  15. تدوين الدستور الإسلامي، أبو الأعلى المودودي، الطبعة الثامنة، مؤسسة الرسالة، دمشق، 1980.
  16. Duverger Maurice: “les Regimes politiques” P.U.F-Que sais-je? 5e. ed. paris 1960.

[1]. الوارد هنا هو مبحث الدستور، أما مبحث الدولة فهو قيد الإنجاز.

[2]. بدير، الدكتور محمد علي (المدخل لدراسة القانون) بغداد، 1982، الباب الثالث، ص 222.

[3]. أبو السعود، الدكتور رمضان (الوسيط في شرح مقدمة القانون المدني)، ج 1، الدار الجامعية، بيروت، 1983، ص 141 ۔ 142.

[4]. م. ن، ص 143.

[5]. الشاوي، الدكتور منذر (المدخل لدراسة القانون الوضعي)، بغداد، 1996، ص 35 ۔ 40.

[6]. م. ن.

[7]. انظر: محاضرته حول (تدوين الدستور الإسلامي)، الطبعة الثامنة، مؤسسة الرسالة، دمشق 1980، ص 5 (الطبعة الأولى كانت في عام 1953 في القاهرة).

[8]. م. ن.

[9]. الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص 1 ۔ 19، إصدار وزارة الإرشاد الإسلامي (إيران)، ط 2 طهران 1403ق.

[10].: تجديد الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، شبلي الملاط، ص 33 ۔ 48، دار النهار للنشر، بيروت، ط 1، شباط 1998.

[11]. الإسلام يقود الحياة، ص 33.

[12]. تجديد الفقه الإسلامي، ص 33.

[13]. م. ن.

[14]. م. ن، ص 45.

[15]. م. ن، ص 44 – 45.

[16]. م. ن، ص 44.

[17]. الكتاب الأخضر، العقيد معمر القذافي، ص 55-60، طرابلس، ط 11، 1986.

[18]. م. ن.

[19]. الديمقراطية بين النظرية العالمية الثالثة والمفاهيم المعاصرة، المحامي عبد الفتاح شحاذة، ص 137-139، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 1986.

[20]. تجدید الفقه الإسلامي، ص 15 وما بعدها ص272؛ والأسس التسعة ص 31 ۔ 48، وأما في كتاب ثقافة الدعوة الإسلامية الذي نشره المركز الإسلامي للدراسات الإسلامية عام 1989، الجزء الرابع فقد وجدنا أربعة أسس أخرى (من 10 إلى 13) مؤرخة في عام 1958 وليس في أوائل الستينات كما ذكر الملاط.

[21]. تدوين الدستور الإسلامي، ص 16 ۔ 64.

[22]. صدر عن دار الوفاء للطباعة والنشر في المنصورة عام 1985 وأعيد طبعه في عام 1988.

[23]. م. ن، ص 5.

[24]. م. ن.

[25]. فلسفة القانون عند الشهيد الصدر، الدكتور مصطفى الأنصاري، بحث معد للنشر.

[26]. المدرسة الإسلامية، ص 11، طبعة بيروت، 1973.

[27]. تجديد الفقه الإسلامي، ص 34.

[28]. تحت عنوان تدوين الدستور الإسلامي، والتي أشرنا إليها سابقاً.

[29]. م. ن.

[30]. راجع: البقرة: 213.

[31]. انظر: بحثنا الموسوم (الرقابة على دستورية القوانين) المنشور في مجلة: (العراق أوراق قانونية) العدد الأول، 5 ۔ 81 سيما الفصل الأول منه.

[32]. انظر: لمحة فقهية لدستور الجمهورية الإسلامية، السيد الشهيد.

[33]. راجع في تحليل القاعدة القانونية الدكتور رمضان أبو السعود في مؤلفه سابق الذكر ص 45 وما بعدها.

[34]. راجع وجهة نظرنا في مصدر علوية الدستور ونتائجها في (الرقابة على دستورية القوانين) بحث سابق الذكر.

[35]. القانون الدستوري، ص 240، د. علي غالب العاني، ود. نوري لطيف: المقرر الدراسي لكلية القانون والسياسة، جامعة بغداد، قسم القانون، الصف الأول 1986 ۔ 1987.

[36]. الرقابة على دستورية القوانين، ص 26.

[37]. الإسلام يقود الحياة، ص 10.

[38]. يبين السيد الشهيد بعد هذا وجه المرونة في ممارسة التشريع في منطقة الفراغ.

[39]. الإسلام يقود الحياة، ص 10.

[40]. م. ن، ص 12.

[41]. للتوسع راجع بحثنا المشار إليه سابقاً (الرقابة على دستورية القوانين).

[42]. المدرسة الإسلامية، ص 11 ۔ 149.

[43]. م. ن، ص 90.

[44]. م. ن، ص 94.

[45]. م. ن، ص 93 ۔ 98.

[46]. الإسلام يقود الحياة، ص 17.

[47]. المدرسة الإسلامية، ص 101 وما بعدها.

[48]. م. ن، ص 109.

[49]. م. ن، ص 110.

[50]. الإسلام يقود الحياة، ص 9.

[51]. م. ن.

[52]. اللمحة الفقهية، ص 9 وما بعدها.

[53]. م. ن، ص 14.

[54]. م. ن، ص 14 ۔ 15.

[55]. اقتصادنا، ج 2، ص 303 ۔ 307، 1408ق.

[56]. م. ن، ص 295 ۔ 298.

[57]. م. ن، ص 298 ۔ 303.

[58]. المدرسة الإسلامية، ص 125.

[59]. الإسلام يقود الحياة، ص 125.

[60]. المدرسة الإسلامية، ص 128 ۔ 129.

[61]. م. ن، ص 128 ۔ 131.

[62]. الإسلام يقود الحياة، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، ص 53 .

[63] . Duverger, Maurice… “Les regimes poitiques” .p.u.f.que sais-je?paris. 1960 5eed.p9

[64]. الإسلام يقود الحياة، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، ص 142.

[65]. المدرسة الإسلامية، ص 97 ۔ 98.