ابن خلدون والصدر – مدخل لدراسة مقارنة في الفكر والمنهج

عبد اللطيف الحرز[1]

يقول هيجل: (إن بومة مينرفا لا تحلق إلا عند الغسق).. عبارة أراد منها هيجل أن يقول بأن الحكمة تلقف في أحلك الأوقات، وبالفعل فقد كان كل شيء في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي يعلن أن الحضارة الإسلامية في طريق الأفول، فقد أضحت الدولة العباسية مجرد خبر من الأخبار وأثر من الآثار، في حين تلاشت دولة الموحدين مع تعالي حدة هجمات البدو، مضافاً إلى الضغط المسيحي في الأندلس وشواطئ إفريقيا.. كل ذلك جاء متتابعاً في مسرحية الانهيار التي تمثل فصلها الأول في سقوط بغداد على يد التتر سنة (655ق)، لكن ورغم هذه الظلمات بزغ نجم ابن خلدون، الرجل الذي حاول أن يؤدي دوره كمفكر وأحد أبرز رجالات العلم في التاريخ الإسلامي.

وإذا انتقلنا من المغرب الإسلامي إلى المشرق وإلى العراق بالتحديد سنجد ثمة تحركاً سياسياً معارضاً في أرض النجف الأشرف، تم في إطار علمائي عام 1924م ۔ وذلك بعد الثورة العراقية الكبرى ضد الإنجليز (1920) ۔ إثر المواجهة مع الملك فيصل الأول وممثلي الاستعمار البريطاني، فقد اختار بعض المراجع في النجف العيش في المنفى، كضريبة للمعارضة السياسية، لكنهم عادوا بعد بضع سنوات إلى العراق دافعين ثمن تلك العودة بالصمت، باستثناء الشيخ مهدي الخالصي الذي يستحق لقب (مثقف المنفى).

دخلت المؤسسة الدينية في النجف بعد هذه الأزمة في صراعات عنيفة أخرى، مع المد الأحمر، ومع القيادات المختلفة للانقلاب العسكري المتجدد، ثم مع البعث الذي وصل في 1968 إلى السلطة. ومن رحم هذه الأحداث ذات التفاصيل المثيرة خرجت (فلسفتنا)، (اقتصادنا)، (الأسس المنطقية للاستقراء) و(مجلة الأضواء)، نعم هكذا كانت ولادة المفكر الإمام الشهيد محمد باقر الصدر.

أولاً: ابن خلدون

1ـ المنهج

يعتقد ابن خلدون أنه أبدع علماً جديداً أطلق هو عليه اسم (علم العمران)، وذلك أنه بعد أن تصفح ما كتبه علماء التاريخ وجد فراغاً كبيراً فبادر إلى محاولة ملئه، يكتب ابن خلدون: (وطالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، ونبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم.. فأنشأت في التاريخ كتاباً)[2]. لكن لماذا عدل ابن خلدون عن نهج أسلافه من المؤرخين؟ يجيبنا ابن خلدون بأن من سبقه كان يهتم بجمع الأخبار وتكريسها وفاته في هذا المضمار أمران:

الأول: عدم الحرص الكافي على إعطاء صورة تاريخية صادقة، من خلال عدم الاهتمام بوثاقة رجال الحديث والرواة؛ لأن أسباب الخطأ كثيرة ومختلفة، فمع اهتمام المؤرخين بتوثيق الرجال فإنهم (إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً)[3].

الثاني: يورد ابن خلدون اعتراضاً يتمتع بقيمة علمية هامة، يعتبر صدوره في ذلك العهد أمراً مثيراً للإعجاب، فيقول: إن هؤلاء المؤرخين قد اهتموا بصورة التاريخ لا بمادته، أي أن هؤلاء انصب جهدهم على نقل حكايات الماضي دون تمحيص لطبيعة البشر الذين كانوا يمثلون هذا الماضي، ودون بحث الأسباب والعلل التي أوجبت أن يكون الماضي على هذه الصورة دون غيرها، مع أن هذه الأمور هي بمثابة (الغمد) إلى (السيف)، فهم (يجلون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأُول، صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انقضيت من أغمادها.. ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها.. ولا علة الوقوف عند غايتها)[4].

لقد جاء ابن خلدون ليكتب علماً جديداً يقوم على ضبط الأخبار، والاهتمام بعلل وأسباب الحوادث الواقعة، واعتمد على الأخبار وتابعها متابعة جادة محاولاً معرفة طبيعة البشر والعمران. لكنه من جهة ثانية حاول أن يركن أحياناً إلى طبيعة العمران لمعرفة صحة الخبر، ذلك أن الاعتماد على مجرد (النقل) لا يكفي، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغاليط في الحكايات والوقائع، (لاعتمادهم فيها على مجرد النقل.. ولم يعرضوها على أصولها.. ولا سيروها بمعيار الحكمة. والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر)[5].

فمثلاً ينكر ابن خلدون على المسعودي قوله أن موسى عليه السلام أحصى جيش بني إسرائيل فكان عدد من يطيق حمل السلاح هو (ستمائة ألف أو يزيدون)، فيقول: إن هذا الخبر لا وزن له من الصحة؛ لأن بلاد مصر والشام آنذاك تضيق عن هذا العدد، بالإضافة إلى (أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها.. فكيف يقتتل هذان الفريقان)[6]، وفي حين يحدد ابن خلدون قيمة الأخبار بعرضها على (طبائع الكائنات) فإنه يقوم من جهة أخرى بالتعرف على طبيعة بعض الكائنات بواسطة الأخبار[7]، وعليه فهو ينطلق دائماً من ثنائية (الأخبار/ طبيعة الكائنات). لكن ثمة ملاحظات نبديها هنا بإيجاز:

أ ۔ الملاحظة الأولى: إن ابن خلدون يستقرئ الأمور استقراء ناقصاً بشكل دائم، الأمر الذي يلاحظه كل من له إلمام بمقدمته، بالإضافة إلى اهتمامه بالمغرب العربي خاصة[8]، فعلى ماذا استند في هذا الاستقراء؟ وهل قدّم دليلاً على كونه استدلالاً علمياً؟

إن نزعة ابن خلدون كفقيه أشعري جعلته محارباً للفلسفة، مما أدى إلى عدم طرحه سؤالاً على منهجه يتوخى تحديد صحة الأدلة وماهية مرتكزاتها، إذ أن من الواضح أنه لا يكفي القول باهتمامه بطبيعة العمران وأسباب وعلل الحوادث، كما أن دفاع البعض عنه بكونه عقلانياً، أو أنه كان بالضد من المنطق القديم[9]، لا يجدي نفعاً ما لم يكن ابن خلدون قد أعطى وسائل الإثبات الكافية، ولو من وجهة نظره هو لحجية هذا المنهج، وبما أنه لم يقم بذلك يظل أمامنا أمران يمكن التعويل عليهما في تفسير ذلك:

1۔ إنه اعتمد على قياس الغائب على الشاهد[10]، فهو يقيس ما شاهده وما تعرف عليه من خلال الأخبار ثم يقيس عليه ما يأتي من أمور (الغائب) مما يعني أنه يعمم الحكم تأثراً بعقلية سلفية.

ومع أن هذا القول ممكن في نفسه كما يتيسر تطبيقه على (المقدمة)، غير أن ابن خلدون يصرح بعدم تبنيه هذا المنهج في دراسة التاريخ إذ يقول: (ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب)[11]، فهل ادعى ابن خلدون شيئاً ثم خالفه كما هو الحال في نظريته في المقدمة والتي خالفها في تاريخه؟

2۔ إن ابن خلدون قد تأثر بخبرته الشخصية من خلال موروثه في العمل السياسي، وباعتباره من أسرة علمية ودينية، وأيضاً من خلال معايشته للبدو والحضر، لذلك فإنه التقط خبراً من هنا ورواية من هناك، وشاهداً من وقائع وطبيعة الحياة، ثم أدرجها في كتاب (المقدمة).

ب ۔ الملاحظة الثانية: إن ابن خلدون لم يستطع أن يكون موضوعياً أحياناً عند كتابته للمقدمة، فعلى سبيل المثال ينكر على المؤرخين نقلهم لقصة العباسة (أخت الرشيد) وعشقها لجعفر بن يحيى بن خالد وما جرى بعد ذلك، ففي حين يعترف ابن خلدون بإجماع كافة المؤرخين على نقل تلك الحادثة، فإنه يكذبها لا لشيء، إلا لأن العباسة هذه امرأة يعود نسبها إلى ابن عباس[12]، في حين أن طبيعة الأشياء التي يقرها ابن خلدون تقضي خلاف ذلك.

ج۔ الملاحظة الثالثة: إن ابن خلدون ومع أنه أحد علماء الدين لم تتخذ نظريته الصبغة الدينية رغم استشهاداته بآي القرآن والأحاديث النبوية، ولعل ذلك يعود إلى أمرين:

1۔ ربما يعتقد ابن خلدون بعدم وجود دور مهم وأساسي للدين في (الاجتماع)، وأنه لا دور له سوى لمّ الشتات الحاصل في البادية أو أنه قادر على إيجاد دولة كبيرة[13]، مما يعني أنه ليس للدين دور كبير لديه في علم العمران، وبالتالي عدم وجود مبرر (لأسلمة) هذا العلم الجديد.

2۔ يؤمن ابن خلدون بأن الفقهاء أبعد ما يكونون عما سوى الفقه كالسياسة، وعليه فإن إعطاء علم العمران (صبغة دينية) معناه إفساح المجال للفقهاء كي يمارسوا دوراً خارج دائرة الاختصاص.

لكن ابن خلدون لم يمزج وقائع التاريخ بأخبار الكهانة كما فعل (هرودوت)، ولم يحاول أن يفسر التاريخ عن طريق تأثيرات النجوم، كما صنع (جان بودن)، وإنما حث على أن نتعرف أسباب وعلل الحوادث، فعلمنا أن للتاريخ ظاهراً وباطناً، رغم أنه كان أشعرياً يقتضي اعتقاده ترك النظر في الأسباب والعلل[14]، علماً أن موروثه من الفقه وغيره أثّر عليه في صياغة نظريته استدلالاً ومصطلحاً.

2ـ النظرية

طبيعة العمران

يؤمن ابن خلدون بأن هناك (طبيعة) بشرية واحدة في تاريخ الإنسانية، وأن للتمدن والعمران والخراب طبيعة واحدة على مر التاريخ[15]، ومن هذه الطبائع (الاجتماع)، لذلك فهو ضروري بمعنى أن الإنسان بحكم ضعفه مجبور على الاستعانة بالغير، ولم يوضح ابن خلدون كيف يكون الشيء (مفطوراً من طبيعة الإنسان) في نفس الوقت الذي يكون اكتسبه نتيجة العجز الذي يعني ضرورة الاستعانة بالغير. (إن الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم: إن الإنسان مدني بالطبع، أي لابد له من الاجتماع، الذي هو المدينة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران)[16] ويبدو أن ابن خلدون يرادف بين الطبع والاضطرار عن طريق التفكير بحاجاته، كما قد يظهر منه[17].

يعتقد ابن خلدون أن هناك ثلاثة أمور هي التي تخلق (طبيعة) الإنسان:

1۔ الإقليم والطقس: فإن من الأمور المتقدمة في الفكر الخلدوني هو ملاحظة العامل الجغرافي، حتى عده البعض أكثر عمقاً من (مونتسكيو) في الاهتمام بعامل تأثير الإقليم والطبيعة في أخلاق الإنسان وطباعه[18]، ففي حين كان يسود ذلك العصر اعتماد التغيير الأسطوري، والاهتمام بما ينقله الرواة في كيفية اختلاف ألوان البشر وأخلاقهم وأمزجتهم نجد أن ابن خلدون يترك كل ذلك، فيستنطق الواقع ويحاول أن يتلقى الجواب منه مباشرة، معترضاً على المسعودي ومن تابعه، من الذين عللوا الأمور بعلل واهية استنتجوها بواسطة المنهج التقليدي[19].

2۔ العامل الاقتصادي: الذي يطالع مقدمة ابن خلدون يجد لحضور العامل الاقتصادي مكانة كبيرة في هذه الأطروحة، فحتى الاعتماد على طبيعة الاجتماع لدى الإنسان كان متأثراً بهذا العامل[20]؛ لذا اهتم ابن خلدون بطبيعة الإقليم ومدى قيمته الاقتصادية، ملاحظاً أن سكان الإقليم الغني بالموارد الطبيعية أكثر رقة من سكان البادية أو سكنة الجبال، فكما أن الإقليم والطقس المعتدل ينتج مزاجاً معتدلاً، فإن اعتدال الإقليم اقتصادياً يخلق طباعاً معتدلة[21]، إلا أنه لابد من القول بأنه لم يكن هذا العامل حسياً دائماً عند ابن خلدون.

3۔ التربية والتعليم: للتربية والتعليم دور مهم في فكر ابن خلدون حول تكوين الطباع والأخلاق، غير أن هذه التربية على نوعين: سماوية عن طريق الأنبياء والأولياء، فابن خلدون يؤمن بالرياضة الصوفية والعرفانية، ويعتقد بأن للدين قدرة على تهذيب أخلاق من يتصفون بالغلظة والأنفة والمنافسة ۔ وهم الأعراب ۔ (فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق)[22].

وهناك أيضاً تربية (أرضية) ولهذه التربية مدارس ومناهج مختلفة أبدى ابن خلدون ملاحظات قيمة فيها[23].

الذي يطالع نظرية ابن خلدون يجد فيها صبغة أخلاقية واضحة، حيث يقسم المجتمع إلى (البدو) وهم أهل الأرياف وسكان البادية، و(الحضر) وهم أهل المدينة، وبما أنه يعتقد بتقدم (الضروري) على (الكمالي) فإنه يقدم البدو على الحضر ويجعل من الثاني فرعاً للأول[24]، إذ مع أنه يرى أن البدو (الأعراب) وسكان الأرياف أبعد الناس عن العلم وتعلم المهنة والصنائع، وأنهم إذا انتصروا سياسياً فإنهم سيعتمدون سُنة النهب انطلاقاً من قاعدة الغنيمة.. رغم ذلك فإنه يعتقد بأن البدو أقرب إلى الخير من الحضر (وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه.. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف.. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر)[25]. ولا تقف (الأخلاق) عند هذا الحد بل يرى ابن خلدون أن قيام الدولة يعتمد على أخلاق البدو وأن هرمها وفناءها مرتبط بمقدار ارتباطها بهذه الأخلاق، لكنه مع ذلك لا يمنح الأخلاق سمة العامل التام في هذا المجال وإنما لابد لصاحب السلطة من أن يكون محنكاً، فابن خلدون لا يوافق ميكيافيللي، بيد أنه ليس نقيضاً له، ولم يهمل ابن خلدون دور العامل الاقتصادي ونمط البيئة في تكييف الأخلاق، فبيئة البادية تصوغ الخشونة بخلاف بيئة الحضر التي تتجلى فيها الرقة.

الدولة

يؤمن ابن خلدون بنظرية التعاقب الحضاري الذي يجري (دائرياً) خلافاً لمن يرى أنه يرسم التاريخ بصورة خط مستقيم صاعد[26]، فإن الذي يطالع (المقدمة) يجدها ترسم خط الأحداث بشكل يجعلها متصلة مع بعضها حيث تتصاعد حتى تبلغ ذروتها في (قيام الدولة)، ثم بعد ذلك تعود من حيث بدأت، حيث تزول الدولة ويستأنف الحديث حول (البدو) والعصبية الجديدة. وليس الدين عند ابن خلدون هو الأساس لقيام الدولة، وإن كان موروثه الفقهي يمنعه من تجاوز أثر الدين في ذلك، الأمر الذي دعاه إلى معالجة مسألتين:

الأولى: في شروط صاحب السلطة العليا، حيث يرى أنها تتمثل في أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس. ولا يشترط أن يكون الخليفة قرشياً وذلك لارتباط هذا بملاك (العصبية) كما يرى، والتي كانت سائدة في قريش سابقاً، والمتقرر لديه أن شوكة العصبية أينما تحققت فإنها تكون كافية[27]، لذا فهو يقول: (ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صل الله عليه و آله كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلاً، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية ..، فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب، وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المسكن فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها، وذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر وأهلهم وأهل الغلب منهم)[28]، والملاحظ في هذا النص أن ابن خلدون يستخدم منهج (السبر والتقسيم) لمعرفة مدلول هذه الأخبار، وهناك ملاحظة أخرى أهم وهي أن ابن خلدون يولي (مقاصد الشريعة) أهمية أساسية، مما يعني أنه كان يفكر بذهنية مقاصدية، الأمر الذي ساعده في جعل هذه الأخبار منسجمة مع نظريته من جهة، وأبعاد عقائد الخصم من جهة أخرى.

الثانية: يعتقد ابن خلدون أن الأمور قد تغيرت، حيث انقلبت الخلافة إلى (المُلك)؛ لأن الخلافة ما هي إلا أحد فصول التاريخ، فيكون من الطبيعي بل الضروري أن تنقلب إلى شيء آخر[29]، وعليه فإن الكيان السياسي قد طرأ عليه التبدل واتخذ أبعاداً جديدة، فبعد أن كانت السلطة ملكاً لمن تجتمع فيه تلك الصفات الأربع، أصبحت اليوم ملكاً لصاحب العصبية الأقوى؛ لأن غاية العصبية هي ذلك، ومما يبنى على هذا أن الفقهاء بعد أن كان دورهم تعيين الشروط الأربع في الخليفة الجديد، فإن تدخلهم في السياسة أصبح مضراً، إذ بات الواقع السياسي الجديد لا يتلاءم مع السياقات الفقهية مما يبعد الفقهاء عن السياسة (والسبب في ذلك أنهم معتادون للنظر الفكري والغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس.. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن.. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقه من الأحوال)[30]. ولكن من هو الذي غيّر الأمور وجعلها تصل إلى هذا الحد؟ يجيب ابن خلدون: إنها سنّة وقانون العصبية الذي لا يعرف الرحمة. فقد عرفنا سابقاً أن ابن خلدون يؤمن بأن البدو هم أصل المجتمع، والمجتمع البدوي ولضيق محيطه الاقتصادي يتسم بالخشونة، لكن ولأن العمران البشري لابد له من سياسة تنظم شؤونه، ولأن الاجتماع أمر ضروري كما يقول، فكان لابد من وجود تشكيل سياسي يحفظ هذا التجمع البدوي، ويتمثل هذا التشكيل بالقبيلة التي تكون خاضعة ومطيعة لصاحب الرئاسة الأوحد، وهذا الشخص لم يصل إلى الرئاسة والزعامة عن طريق الشورى أو عن رضا قلبي؛ لأن البدو أصحاب أَنَفة ومنافسة، لذا يكون تنصيب الزعيم خاضعاً لقانون (الزعامة للأقوى) ذلك أن الرئاسة كالتفاعل الكيميائي حيث يكون التغلب فيه للعنصر الأقوى (لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج المتكون وهذا لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلابد من غلبة أحدها.. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية)[31]، وبعد أن يتم هذا التشكيل القبلي تمارس القبيلة فعالياتها في كسب العيش عن طريق الرمح والسيف، ولما كانت الأمم الوحشية أقدر على الحرب، يكون انتصار القبيلة أمراً مفروغاً عنه، حسب منطق الحسابات الخلدونية[32]. ولأن الإنسان كلما وصل إلى رتبة طلب ما فوقها فتكون غاية (العصبية هي الملك، إذ كلما انتصرت القبيلة الأقوى التحمت معها القبيلة المغلوبة إلى أن يتم الأمر إلى بلوغ الهرم وهو تشكيل الدولة)[33]. بعد ذلك يتم الانتقال من طور البداوة إلى طور الحضارة حين يتم الاستيطان، فيبادر (البدو) إلى تقليد أصحاب الحضارات السابقة في ألوان المعاش وأساليب الإدارة (فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل الملك تبعه الرفاه واتساع الأحوال والحضارة)[34]، بعد ذلك يبنى بيت المال، وتعلم المهن والصنائع وتفتح الأبواب للعلم، بل يصل الأمر إلى استقالة العصبية، فإنه بعد أن تستقر الدولة فإن بالإمكان الاستغناء عن العصبية (والسبب في ذلك أن الدولة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب، للغرابة وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين نسيت النفوس شأن الأولوية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم)[35]. لكن هذا ليس هو الغالب بل الغالب هو العصبية، فهي تتحول ۔ حتى في حال استتارها ۔ إلى عصبية من نوع آخر غير قائم على النسب، فإن العصبية تمتد إلى أربعة أعقاب وتنتهي. وبعد أن تستقر الدولة وتتسع بفضل الدين مثلاً يحصل الانفراد بالمجد، إذ من الطبيعي أن يكون الحاكم واحداً بحسب الكيمياء الخلدونية، لكن هذه المعادلة تنقلب إلى الضد فيتم إلغاء العنصر الغالب، فبعد أن يتعين الأقوى ويستلم السلطة، يقوم بإبعاد من ناصره وشاركه في استلام السلطة (فمن الطبيعة الحيوانية خُلق الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم، ويجيء خُلق التأله في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام.. فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتُفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته)[36] فيأخذ هذا الأقوى بالاعتماد على الأجانب، وإذا عرفنا أن من طبيعة الملك الدعة والسكون والترف[37] أمكن التنبؤ بما سيحصل آجلاً، ذلك أن المباشر الأول للسلطة يتسلمها بعد تعب وجهد، بخلاف الذي سيتلوه فيها، وحين يؤول الأمر إلى جيل الخلف الرابع الذي يضيع الأصول التي ملكت وسادت بها آباؤه فيكون رقيقاً ضعيفاً بخلاف أخلاق البدو التي بها قامت الدولة، وحسب هذا يكون للدول (بانٍ، ومباشر، ومقلد، وهادم)[38]، ومن هنا يؤمن ابن خلدون بأن للدولة عمراً، كما هو الحال لدى الأشخاص، فهي تمر بالبداوة والحضارة والهرم والموت[39]، حيث يتم ذلك في الجيل الرابع الغارق في بطر العيش والملذات.

سؤال أخير: الأمر الذي لا نقاش فيه هو أن ابن خلدون أولى (الدولة) اهتماماً كبيراً في نظريته بل اعتبر البعض أن مسألة الدولة هي القضية الجوهرية[40] في نظريته، فهل التاريخ عند ابن خلدون هو تاريخ دول وحضارات أم تاريخ شخصيات؟

إذا صادقنا على الرأي القائل بأن نظرية ابن خلدون هي نظرية في (الدولة) وأخذنا بالاعتبار الصيغة القسرية التي يكرسها ابن خلدون، والتي تجعل الأشخاص مجبورين تحت الضغط الاجتماعي والبيئي والاقتصادي وتدفعهم نحو تكوين الدولة، وأن أدوار التاريخ ما هي إلا مراحل ولادة الدولة واستقرارها وهرمها وبالتالي موتها أو انتحارها..، إذا أخذنا بهذه الأمور أمكن القول: إن التاريخ في تصور ابن خلدون هو تاريخ حضارات ودول.

أما إذا أخذنا بالاعتبار أن ابن خلدون كان غرضه بيان طبيعة العمران البشري، وهو على الرغم من اهتمامه بالدولة وجعله ازدهار العلوم والصنائع في ظل المدنية، فإنه لم يصرح ۔أو لم يعط تلميحات كافية۔ بأن مراحل التاريخ هي مراحل الدول، فإذا أضفنا إلى ذلك إيمانه بأن صانع الدولة هو الأقوى، ولو قلنا بأنه يقسّم مراحل التاريخ حسب الدول، فإنه يبقى تحليل ابن خلدون لكيفية ولادة الدولة وسقوطها، بشكل يجعلها مرهونة بالاقتراب والابتعاد من شخصية البطل، وسيكون التاريخ في نظره هو تاريخ الشخصيات، وبهذا المعنى يغدو عمل ابن خلدون تاريخاً للبطل.

التربية والتعليم: بما أن ابن خلدون حاول دراسة طبيعة العمران البشري فليس غريباً أن يتطرق إلى العلوم والصنائع؛ لأنها تمثل ذروة هذا العمران، حيث وجدها تنعدم في البدو وتظهر في الحضر. وقد ركّز ابن خلدون على مسألة التربية في نظريته، كما أنه كان دقيقاً من أول الأمر في تحديد مسألة المنهج، فلم يكن من أولئك الذين يحددون المعرفة والحقيقة بأحد الطرق (البرهان، العرفان، البيان) بل كان يرى أن لكل علم منهجه الخاص به، مع إيمانه بالمنطق القديم، وإن ادعى البعض تضاد ابن خلدون مع ذلك المنطق، غير أن الصحيح هو اهتمام ابن خلدون بذلك المنطق كما يتضح في (المقدمة)[41]. لقد تكلم ابن خلدون عن العلوم كلاً على حدة، وبسط الكلام فيها يخرجنا من هذا المدخل، غير أن ذلك لا يمنعنا من ذكر بعض ملاحظات ابن خلدون.

1۔ اهتم ابن خلدون _ وهو يتحدث عن تاريخ العلوم _ بالتطرق إلى مسائل ذلك العلم ومنهجه، أي أنه ذكر مسائل العلم ومنهجه بجوار تاريخ العلم، وقد جاء ذلك عبر اهتمامه بأن لا يكون كلامه مجرد (صورة) فقط، وهذه الرؤية تعتبر متقدمة في طريقة تدوين تاريخ العلوم لم تظهر إلا مؤخراً.

2۔ اهتمام ابن خلدون بمسألة التخصص في العلوم، فبالرغم من انتماء ابن خلدون إلى عصر كان معنى (العالِم) فيه يقتضي العلم بكل شيء، نجده يستنكر الاهتمام بجمع كل شاردة وواردة في العلم، بل يدعو إلى الاهتمام بالمسائل المهمة فقط، لذا كان يرى كثرة التآليف في العلوم مضرة ومعيقة للتحصيل[42].

3۔ اهتمام ابن خلدون بالظواهر الجديدة، كاللهجة الدارجة والموشحات، والارتقاء بها بجعلها علماً يستحق الدراسة والبحث، وهو موقف منهجي بالغ الأهمية في دراسة الظواهر الاجتماعية، دراسة علمية منهجية.

4۔ مثلما كان ابن خلدون مهتماً بمسألة التربية اهتم أيضاً بكيفية التعليم، فأبدى ملاحظات متقدمة جداً، قياساً بذلك العهد، وهكذا يمكن اعتبار جهوده منطلقاً لعلم التربية ومناهج التعليم، لولا انهيار الحضارة الإسلامية وضياع (مقدمة) ابن خلدون في إنقاض هذه الحضارة[43]. غير أن أطروحته وجدت موطناً آخر احتضنها، فوجد فيها سعياً لتحليل الواقع في الحضارة الإسلامية، مما دعاهم إلى القول بأن ابن خلدون لو اطلع على تاريخ العالمين (الكلاسيكي والمسيحي) لكانت رسالته أعظم وأثمن الرسائل في الأدب العالمي[44].

ثانياً: محمد باقر الصدر

1ـ المنهج

إذا كانت الصعوبة في الكتابة عن ابن خلدون تكمن بتنوع كتابات ابن خلدون عن علم المنهج والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والتاريخ، فإن ذات هذا الأمر موجود عند الشهيد محمد باقر الصدر، لكن بينما كان أسلوب ابن خلدون متعباً للقارئ، نرى كتابات الشهيد الصدر بخلاف ذلك، فقد كان هذا الرجل يسلب عقول قرائه شغفاً بأسلوبه الممتاز، الذي من أبرز صفاته أنه (السهل الممتنع).

لقد كان الصدر كابن خلدون رجلاً موسوعياً، لكنه لم يكن حافظاً ومقلداً، وإنما كان الصدر يأبى إلا أن يدلي بدلوه حينما يكتب في المنطق ومناهج البحث أو في السياسة وفي الاجتماع أو في الفقه وفقه النظرية الاقتصادية، إذ كان الصدر يحمل همّ التأصيل في كل ما يكتب، وكان لهذا الأمر طبعاً أثر إيجابي لملء الفراغ الذي كان يعاني منه المشهد الثقافي الإسلامي، غير أن ذلك لم يكن هيناً بحيث يمكن أن يتحمله رجل واحد، وإن كان الصدر رجلاً مثقفاً بحق، لذا حاول أن يستفيد من كل شيء، فيوظف حساب الاحتمال ۔ وله نظرية خاصة هنا ۔ ليحدد وثاقة الخبر ويعطي أبعاداً أخرى لمباحث الرجال والدراية، كما استطاع بفضل الإنجازات العلمية أن يعطي لأصول الفقه صبغة أخرى، واستفاد من نظرية الاقتران الشرطي لصياغة نظرية (القرن الأكيد) في اللغة[45]. وكان همّ الصدر من وراء ذلك هو تكوين صورة نظرية عن موقف الإسلام في كل حقل من الحقول العلمية؛ ولذا كان الصدر يحاول أن يمارس نوعاً من (الأسلمة) لبعض المعطيات العلمية، حيث يتم تذويبها ضمن تلك الصورة المكوّنة. وعمل الصدر هذا كان يعتمد على إبراز ثلاثة عناصر:

1۔ العقل.

2۔ الواقع ومعطيات الظرف الاجتماعي.

3۔ الدين.

فقد كان الشهيد الصدر ذا نزعة عقلية واضحة، كما نلاحظ في (الأسس المنطقية للاستقراء) في حين لم يكن مهتماً بالتصوف والعرفان بخلاف ابن خلدون[46]، بل كان يُعمل العقل دائماً كطاقة وظيفتها اكتشاف الكون والإنسان ومدى انسجام الدين مع ذلك (كما أن مواجهة الصدر للتيارات المعادية للدين، جعلته ۔ وهو فقيه النجف ۔ يدرس هذه المناهج والمدارس ويعود مرة أخرى لمراجعة التراث الإسلامي ليخرج بنظرية إسلامية تمثل (الذات) في معركتها هذه، مما جعل الصدر يقوم بمراجعة (حفرية) للتراث، قادته إلى أن يستل من التراث الإسلامي ثلاثة جوانب:

1۔ جانباً ثابتاً لا يتغير.

2۔ جانباً متغيراً لارتباطه بظرف معين.

3۔ جوانب أخرى تفهم عبر مطالعة الشريعة والتراث تكون هي (روح) الشريعة، حيث أن للإسلام غايات عليا تمثل روح النصوص الناطقة باسمه (مقاصد الرسالة)[47].

لقد لاحق الشهيد الصدر هذه المعطيات عبر مطالعاته المتعددة، ومن هنا انبثقت نظريته المسماة بـ(منطقة الفراغ) لكن عبقريته جعلته يوظف هذه النظرية في البحث الفقهي دون المساس بقيمة النظرية الإسلامية[48].

على أن الشهيد الصدر حينما واجه التيارات الفكرية غير الإسلامية لاحظها تنطلق من أرض الواقع ومشاكل الإنسان المعاشة عبر معطيات الواقع نفسه، في حين وجد أن الفكر الإسلامي مشغول بالتفكير طبقاً لمناهج قديمة، وأن الباحثين الإسلاميين يقضون أعمارهم مع نظريات العقل الفعال، ومسائل البئر والعبيد، حتى أصبح الفكر الإسلامي مناقضاً لأهداف منابعه الأولى (قرآناً وسنة)، الأمر الذي دعاه لإنتاج خطاب جديد تتجلى حداثته في الاهتمام بمشاكل الإنسان المعاصر، فنبذ البحوث التي لا نفع فيها وجاء ليعالج المشاكل المطروحة، كما عمل على توزيع التراث الإسلامي على جبهات متعددة، واضعاً في كل بحث مقدمة تشير إلى أن المنهج يتحدد وفقاً لطبيعة موضوعه، لذا فقد كان منهجه في (فلسفتنا) غيره في (اقتصادنا) وغيره في (المدرسة القرآنية)، وإن كانت روح الفقيه لا تفتأ تلاحقه كما هو واضح في كتابه (أهل البيت..) مثلاً، أي أن الشهيد الصدر في هذا الجانب شابه ابن خلدون تماماً، غير أن الأمر الملاحظ عند الشهيد الصدر هو مقدرته الكبيرة على مزج قراءاته المعاصرة وخبرته في التعامل مع التراث وإنتاجه آلية جديدة في البحث. فقد مزج الصدر بين معطيات علم المنهج الحديث وطريقة السبر والتقسيم، فجاء بحثه في نظرية الإمامة متماسكاً جداً، فبينما برهن ابن خلدون على أن الإمامة في قريش شرط اقتضته (العصبية) وأنه لا يوجد نص على الإمامة بالمعنى الذي تقوله الشيعة[49]، نجد الشهيد الصدر أثبت العكس عبر تقرير ثلاث فرضيات: (إهمال الأمة، تعيين أو تفويض النبي الخلافة إلى الشورى، التعيين والاختيار) ودرسها في إطار طبيعة المجتمع في ذلك العصر، وحركة الرسول صل الله عليه و آله فيه، ثم يقيّم كل واحد من هذه الفروض ليستخلص النتيجة وهي ۔ دون شك ۔ مخالفة لابن خلدون[50].

نلاحظ أن الشهيد الصدر يسير بشكل تقليدي في دروسه العالية في أصول الفقه، كما أنه في (فلسفتنا) يخطو خطوة أخرى، لكنها ليست بعيدة المدى، لكون هذا الكتاب جاء جواباً عاجلاً للتحدي الماركسي حينذاك، بخلاف منهجه في (اقتصادنا) و(المدرسة القرآنية) حيث كان الشهيد الصدر في الاقتصاد وفي التفسير يعتمد مساراً بحثياً واحداً، عندما وظف منهجه العلمي المطروح في اقتصادنا، ضمن محاولته تحديد أسلوب التفسير الموضوعي أو التوحيدي للقرآن الكريم، عبر استقراء الآيات والمسائل القرآنية والسعي لتحديد روح الإسلام ومضامينه العامة، ليصار بعدها إلى عرض مشاكل المسلم المعاصر على النص القرآني، في محاولة لاستنطاقها ضمن سياق تحديد الوظيفة والموقف إزاء هذه المشكلة أو تلك[51].

تتميز كتابات الشهيد الصدر بثلاث سمات رئيسية:

1۔ الوضوح في الخطاب، مع الاهتمام بجانبي الأصالة والمعاصرة معاً.

2۔ تكوين صورة واضحة لما يكتنف الموضوع المعالج، من خلال توضيح ما يحيط به من أمور.

3۔ تحديد موقف واضح من الإشكالية المطروحة، بمعنى أن كتاباته اتسمت بالحسمية بعيداً عن ممارسة المراوغة والتضليل، فنجده يحاول إعطاء مواقف محددة دائماً.

4۔ الحرص على الاتزان العقلاني في الكتابة، وتجنب الصخب أو تعاطي المفردات الانفعالية الحادة، والابتعاد عن طريقة السجال والجدل العقيم، حتى وإن كان البحث في أكثر الأمور حساسية، كما هو الحال في (بحث حول الولاية).

كما أن الصدر يحاول دائماً أن تكون استنتاجاته وبراهينه وجدانية مقنعة لكافة المستويات العلمية؛ لذا فهو يفتخر بأنه استطاع إعطاء دليل علمي على وجود الله بشكل يتوافق مع الوجدان، خلافاً لاستدلالات علماء الإسلام القدامى: حيث أن براهين علم الكلام التقليدية لم تكن لتقنع إلا فيلسوفاً أو متخصصاً في لغة الجدل تلك، (هذا إضافة إلى أن الدليل التجريبي على وجود الله ۔ الذي يضع هذا الكتاب [الأسس المنطقية للاستقراء] أساسه المنطقي.. أقرب إلى الفهم البشري العام، وأقدر على ملء وجدان الإنسان ۔ أي إنسان ۔ وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم)[52].

5۔ اهتمام الشهيد الصدر بإرجاع الأمة إلى ذاتها، فخطاب الصدر يتسم بأنه خطاب تثويري تارة وتربوي تارة أخرى، لكن ذلك يكون عادة في مقدمة البحث أو نهايته، أما أثناء البحث فيغيب هذا الأمر حيث يسير الصدر وفق منهج علمي خالص.

من هنا نجد أن كلاً من ابن خلدون والصدر كان يبحث في علوم متعددة، وحاول أن ينظر إلى موضوع كل علم ويتعامل معه بمنهجية مختلفة.

أما أبرز ما يتصف به منهج الصدر في البحث فهو:

1۔ تحديد المصطلح وتحديد نوع الدليل: حيث يبدأ الشهيد الصدر بتحديد المصطلحات أولاً، فيحاول تحديد ما هو المراد من (اقتصادنا) أو (فلسفتنا) أو (الأسس المنطقية للاستقراء) أو (أصول الدين) أو (التفسير الموضوعي) وذلك في مقدمة كل كتاب من هذه الكتب، وبعدها يحدد نوع الدليل الذي يمكن استخدامه في هذا الموضوع، وهل بالإمكان استخدام أكثر من منهج؟ كأن نستفيد من الدليل التجريبي إضافة إلى العقلي أو دليل النص[53]، ومدى الفارق بين المصطلحات، أو حجم التباين بين الأدلة[54].

2۔ تحديد المشكلة المطروحة: حيث يحدد الشهيد الصدر ۔قبل الدخول إلى البحث۔ المشكلة أولاً، فيحددها في إمكانية وجود مذهب اقتصادي ۔ مثلاً ۔ أو هل يمكن الاستدلال على أصول الدين؟

3۔ بيان موضوع البحث وهدفه: وهو أمر تعلمه الشهيد الصدر ۔ علاوة على تأثير قراءاته المعاصرة ۔ من منهج البحث التقليدي في الحوزة، حيث يتم تعيين الموضوع بشكل دقيق ومعمق قبل بدء عملية البحث[55].

4۔ بيان ترتيب مراحل البحث: حيث يحرص الشهيد الصدر على بيان كيفية سير البحث، وله نظرية خاصة في المنهج قام بتطبيقها فعلياً في كتابه (دروس في علم الأصول) فقد ابتكر الصدر طريقة جديدة في تبويب بحوث أصول الفقه تواكب وعي الطالب وتؤهله لتطبيق القواعد الأصولية خلال ممارسة الاستنباط الفقهي[56].

5۔ حجية الدليل: من الأمور الملاحظة لدى الشهيد الصدر هي اهتمامه بأن لا يكون طرحه مصادرة على المطلوب، أو يكون استدلاله معتمداً على أمور لم يفرغ من مناقشتها مع الآخر، ومن هذه الأمور الاهتمام بحجية البرهان والمنهجية التي يسير وفقها، لذا يقوم في (فلسفتنا) بالاستدلال على (استحالة التناقض) والاستدلال على كون المبدأ الذي تستند إليه التجربة هو ذات المبدأ الذي تثبت به بعض أصول الدين، كما هو الحال في بحثه العقائدي وفي (الأسس المنطقية للاستقراء)[57]، لذا نجده عالج أموراً نظير حجية الاستقراء الذي أنجز فيه خطوة جريئة جداً، بخلاف ما كنا نلاحظه عند ابن خلدون، الأمر الذي انعكس على بعض بحوثه ومنحها متانة وتماسكاً جليين، كبحث توثيق الأخبار، حيث تجاوز فيه الصدر طريقة ابن خلدون، حين استطاع تطوير ما ذكره بشأن صدق الرواة أو كذبهم وطبيعة الأخبار المنقولة[58].

وبما أن الشهيد الصدر كان يحاول أن يعتمد في تنظيره على التراث وعلى المعطيات العامة للفقه وقواعد الإسلام، نجده يضع عدة مقدمات يشرح فيها مشكلة الباحث مع هذا التراث، فركّز اهتمامه على قضايا تتمحور حول إشكالية معرفية مهمة تتمثل في عدم خروج أي نظرية ۔ يتم تركيبها من خلال التعامل مع النصوص ۔ عن كونها اجتهاداً من الاجتهادات وبالتالي يكتنفها ما يلي:

أولاً: كون هذا الاجتهاد ممثلاً لحصيلة نظر الباحث ولا يمثل بالضرورة رأي الإسلام الواقعي، علاوة على وجود اجتهادات أخرى مخالفة، وهنا يعتمد الشهيد الصدر على خبرته في العلوم التقليدية، حيث يقول: أن المطلوب هو استفراغ الجهد في التعامل مع النص، وليس من الضروري أن تكون نتيجة البحث مطابقة لواقع الموقف الإسلامي، وحين تتعدد الاجتهادات نختار (أقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام)[59]، مما يفيد أن الصدر لا يعني بذكر نظرية إسلامية إعطاء صورة نهائية تمثل الموقف الإسلامي الواقعي، وإنما يطرح إمكانية الخروج بنظرية إسلامية في هذا المجال أو ذاك تمثل اجتهاداً من الاجتهادات[60].

ثانياً: بما أن وظيفة الباحث هي وظيفة اجتهادية فهي مبتلاة بمنهج بعض النصوص التي تعالج موضوعاتها بشكل مباين لما هو مطروح اليوم، مضافاً إلى انعدام النصوص المتعلقة مباشرة بالموضوع، فيما دعا الشهيد الصدر إلى تفعيل الأداة الاستقرائية لملاحقة النصوص وفرز خصائصها وتحديد مدى ارتباطها بظرف معين أو خضوعها لسياق خاص، كما لاحظ الصدر ۔ على مستوى إشكالية الباحث ۔ خطر (الذاتية) على عملية من هذا النوع خصوصاً وأن (الذاتية) قد تكون ضرورية أحياناً[61]، ومن هنا راح الصدر يبحث عن مصادر هذه النزعة (الذاتية) فوجدها متمثلة بأربعة أمور:

1۔ تبرير الواقع: وتأتي جرّاء تباين القناعة أو الموقف المكتسب من مجريات العصر مع النصوص. مما يؤدي بالباحث إلى تطويع النص وتأويله وفقاً لذلك الموقف، فيرى الشهيد الصدر (أن عملية تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس ۔ بقصد أو دون قصد ۔ إلى تطويع النصوص وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها)[62].

2۔ دمج النص ضمن إطار خاص: وهذا الإطار يكون من إفرازات الواقع أو ينتج من الاعتماد على إحدى المسلّمات التي يظن بارتباطها مع النص في حين أنها ليست كذلك، ويذكر الشهيد الصدر لذلك أمثلة عدة منها ما يُستدل به على تشريع الملكية الخاصة في الأرض على ضوء اقتضاء الحاجة لذلك؛ لأن الإنسان ليس كالبهائم وإنما هو مدني بالطبع يحتاج المأوى، فيعلّق الصدر على ذلك بأننا (نعترف طبعاً بوجود الملكية الخاصة في الإسلام.. ولكن الشيء الذي لا نقرّه هو أن يُستمد الحكم في الشريعة من الرسوخ التاريخي لفكرة الملكية.. ولو استطاع هذا الممارس ۔للاستدلال۔ أن يميّز بين سكنى الإنسان مسكناً خاصاً وبين تملّكه لذلك المسكن ملكية خاصة لما خدع بالتشابك التاريخي بين الأمرين)[63]، وتأتي في هذا السياق مسألة تاريخية المصطلح اللغوي وما يلعبه من دور مهم (كما إذا كانت الكلمة الأساسية في النص لفظاً مشحوناً بالتاريخ أي ممتداً ومتطوراً عبر الزمن، فمن الطبيعي أن يبادر الممارس بصورة عفوية إلى فهم الكلمة كما تدل عليه في واقعها لا في تاريخها البعيد..)[64].

3۔ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه: لقد لاحظ الشهيد الصدر أن الدليل الشرعي مرتبط بجملة شروط وظروف لا يمكن الاتكال عليه دون أخذها بعين الاعتبار. وأكثر ما يبتلي الباحث بهذا الالتباس المنهجي في مورد لدى استخدامه لدليل الإمضاء أو التقرير الصادر من الشارع، لذا فإن الشهيد الصدر يضع عدة ضوابط لعملية الاستدلال بهذا النمط من الأدلة[65]، بنحو يمكن فيه ملاحظة كل ما هو دخيل في تحديد حجيته أو تنقيح مفاده، وفي الحقيقة فإن هذه السمة المنهجية هي التي أتاحت للشهيد الصدر أن يمنح الفكر الفقهي والإسلامي أبعاداً جديدة، حيث لم يكن الإسلام لديه مجموعة نصوص وحسب.

2ـ النظرية

طبيعة الدين وتأسيس الدولة

إذا لم يكن الدين يحتل مكانة كبيرة في فكر ابن خلدون، فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للشهيد الصدر، فبينما يحاول ابن خلدون اكتشاف (طبيعة العمران البشري) نجد الصدر يسعى إلى اكتشاف طبيعة العقل والعلم والدين، للبرهنة على حجم انسجام هذه العناصر الثلاثة، ليطرح تصوره حول قدرة الدين على تحقيق أهداف العلم وأماني الإنسان، حيث لا يعتقد أن الدين مجرد طقوس عبادية تنظّم العلاقة بين الإنسان والمطلق (الله) كما يقول (ولتر ستيس)، أو أن طاقة الدين تتجلى في البعد العرفاني أو الصوفي كما يرى إقبال[66]، بل يعتقد الشهيد الصدر بأن الدين أوسع من ذلك بكثير، ذلك التصور الذي ساهمت في بلورته لديه عوامل متعددة، علاوة على ما ذكرناه من مواصفات المنهج الذي اعتمده، وتلك العوامل هي:

1۔ تحليل دور الدين في التاريخ: حيث يعترض الشهيد الصدر على من يقول: بأننا لا نتوقع من القرآن ۔ فضلاً عن السنة ۔ أن يعطينا نظريات متعددة في مختلف الحقول العلمية؛ لأنه كتاب هداية وحسب[67]، ويسجل ملاحظتين على ذلك:

أ ۔ أن النبوة ظاهرة تطورت بتطور وعي الإنسان ومشاكله، وعليه فلابد من أن يكون للمرحلة الأخيرة منها موقف وكلمة إزاء الكثير من الأفكار لتحديد مشاكل الإنسان وعلاجها[68].

ب ۔ أن الدين حركة لتغيير الواقع، وهي تمتاز بكونها وحياً من السماء، فهي من هذه الجهة فوق التاريخ، لكن هذه الحركة الدينية من جهة كونها ظاهرة ذات تجليات اجتماعية تخضع لأحكام التاريخ وتتم في إطاره، وذلك حينما تلحظ بوصفها متجسدة في جماعة من الناس هم الرسول صل الله عليه و آله وأصحابه إذ تصبح عملية بشرية[69]، وحيث كان فعل وسلوك أصحابه (كنموذج لسيرة المتشرعة) محكوماً بسنن التاريخ، فإن هذا يعني تجسيد الدين لحالة تاريخية، وبهذا استطاع الشهيد الصدر أن يعطي للمفاهيم والمبادئ الدينية أبعاداً أخرى في علاقتها مع الإنسان، وعمم هذا التصوير ليستوعب أشد الأمور غيبية، وهي أصول الدين حيث استلّ منها مداليل جديدة في إطار رؤيته هذه[70].

2۔ مقارنة الدين بالنظريات الأخرى: فبدلاً عن أن يقارن بين نظرياته ونظريات الآخرين ۔كما صنع ابن خلدون۔ قام الشهيد الصدر بمقارنة الدين بالنظريات الأخرى، من خلال نقده لها، فكشف بذلك ما يبتني عليه الدين من هيكل، فوجد أن الأصل الذي ترتكز عليه العلوم هو ذات الأصل الذي يعتمد عليه إثبات أول المبادئ الدينية (وجود الله) كما تشترك العلوم مع الدين في بعض المعتقدات[71].

3۔ استقراء النصوص وتحليلها: فإن خبرة الشهيد الصدر واستقراءه للنصوص الدينية مميزه، إذ هو فقيه أصولي يلاحق النصوص ويحلل مدلولاتها بدقة وعمق، مما مكّنه من إدراك سقم العديد من الانتقادات الموجهة للدين[72].

من هنا نستنتج أنه بينما كان ابن خلدون لا يهتم بمعالجة النصوص الدينية حينما طرح نظريته، إلا بشكل نادر، وذلك في مناقشة نهي النصوص عن العصبية والتعرب، كما لم يهتم بمنح نظريته الطابع الديني، نجد العكس تماماً لدى الصدر، حيث كان يستعين بالنصوص في عموم مباحثه ودراساته، مما برر له أن يعتبرها إحدى وجهات نظر الإسلام؛ لأنها نتيجة علمية انبثقت عن اجتهاد فقيه من فقهاء الإسلام.

لقد كان الشهيد الصدر يعتقد بأن الحركة الدينية تسير نحو تأسيس الدولة، مما جعله يوليها الأهمية الكبيرة، حيث يرى أن الوحي (الدين) هو المربي الأول للبشرية الذي لا يمكن أن تبلغ الكمال بدونه، وذلك لطبيعة الإنسان المحدودة (لأن البشرية بدون الوحي ليس لديها إلا حس بالمادة، وإدراك عقلي غائم قد يصل إلى الإيمان بالقيم والمثل وبالله، إلا أنه إيمان عقلي على أي حال، لا يهزّ قلب هذا الإنسان)[73]. فالدين عند الصدر ليس هو الدين عند الغزالي مثلاً والذي يتصور أن الدين لأجل الآخرة فقط، بل هو لدى الصدر يتسع للدنيا والآخرة، حيث تجري أهم فعاليته في الحياة الدنيا، وفقاً لما بلوره في مفهوم (خلافة الإنسان) على الأرض حيث يرى وفق ذلك أن المشاكل التي يعاني منها المجتمع تعالج بمفهومات وتشريعات الدين، لكن هذا لا يعني أن الدين سيتدخل بشكل مباشر ليلغي كافة الاختصاصات العلمية، بل للأخيرة دور مهم في عملية التطبيق وذلك ضمن الممارسة التشريعية في (دائرة الفراغ الشرعي)، لكن كلام الشهيد الصدر يظل غير كاف في إيضاح ما يتعلق بهذه الدائرة[74]، غير أن الصدر يعتقد أن هذا الدور المتميز للدين لا يمكن الاستفادة منه بشكل كامل إلا في ظل الحكومة الدينية، وهو يؤمن بعدة أفكار في مجال تكوين الدولة، نوجزها فيما يلي:

أولاً: الدولة ظاهرة نبوية لا أرضية، حيث ينص على أنها (ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان، وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء)[75]. وعلى غير عادته لم يذكر الشهيد الصدر هنا دليلاً على تفسيره هذا لنشوء الدولة سوى الآية (213) في سورة البقرة، وهي خالية من أي إشارة إلى سماوية ونبوية الظاهرة، إلا أن الشهيد الصدر يحاول البرهنة على ذلك بتجربة داود وسليمان وموسى ونبي الإسلام عليهم السلام فقط، في حين أن تجربتي داود وموسى؟عهما؟ لا يوجد فيهما مواصفات الدولة بالمعنى المصطلح تاريخياً، علاوة على وجود ظاهرة الدولة قبل ذلك، بالإضافة إلى قصة طالوت وداود، وفرعون وموسى، أما دولة سليمان عليه السلام فإنها لا يمكن اعتبارها دولة بالمعنى المألوف، وإنما هي نموذج استثنائي تديره الجن وتشغل مواقعه الوظيفية الطيور (هدهد سليمان) وما شابه، كما أن دولة النبي صل الله عليه و آله جاءت بعد تبلور مفهوم الدولة وتعدد التجارب السياسية تاريخياً، ولعل الشهيد الصدر كان يمكنه أن يوافينا بما هو أكثر عمقاً من ذلك وأن يشبع المسألة بحثاً لولا أن وافته المنية مبكراً، وكان بحثه الذي تضمن هذه الإشارة لنشأة الدولة قد كُتب على عجل في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة[76].

ثانياً: يؤمن الشهيد الصدر بتطور الوحي تبعاً لتطور المدركات البشرية وحاجات الإنسان، فكل نبوة هي بمستوى عصرها ومخاطبيها، وعلى هذا فالتاريخ لدى الشهيد الصدر هو مراحل النبوات المتعددة وقادتها المصلحين[77]، بخلاف ابن خلدون الذي كان يرى الدولة مؤسسة بشرية تنتج عن قوى العصبية، وأن للدين تأثيراً قليلاً يشمل بعض مراحلها[78]، كما أن الشهيد الصدر يؤمن بأن التاريخ البشري تاريخ صاعد لا حركة دائرية كما كان يرى ابن خلدون، لذا يعتقد الصدر بأن مشروع الدولة الإسلامية ليس قضية مرحلية بل لابد من مواصلة السعي لتحقيق هذا الهدف، لكن.. من الذي يحقق هذا الهدف؟

نجد هنا تبايناً كبيراً بين ابن خلدون والصدر حيث دعا الأول إلى عزل الفقهاء عن السياسة، بينما يرى الصدر أن الشأن السياسي من وظائف الفقيه، وهنا قام الصدر بدورين مهمين:

1ـ التنظير للدولة: حيث بادر إلى بلورة موقف الإسلام في بعض الحقول ۔كالاقتصاد۔ وإبرازه كأطروحة تستحق الثقة، كما قرر أن مشروعية الدولة تستمد من الحق الإلهي، غير أن هذا لا يعني إلغاء الحريات، فقد وضع بعض ضمانات التطبيق نظير (أن السلطة التشريعية والتنفيذية قد أسندت ممارستها إلى الأمة، فهي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعيّنها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية، مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى. وبهذا ترتفع الأمة وهي تمارس السلطة إلى قمة شعورها بالمسؤولية؛ لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة الله في الأرض)[79].

إلا أن الشهيد الصدر لم يكتف بهذا المقدار بل قام بتحويل الفقه إلى بنود قانونية، من خلال كتابته لمشروع دستور الجمهورية الإسلامية.

2ـ تنظيم المرجعية: بما أن الشهيد الصدر يؤمن بأن التاريخ حركة صاعدة، لذا فهو يؤمن بضرورة العمل لتحقيق (الدولة) وإلا فسنكون قد رجعنا إلى الوراء. من هنا يؤمن بضرورة (البطل) الذي هو الفرد الراعي للأمة، وقائدها في مسيرة التغيير، فكما أن ابن خلدون يهتم بهذا البطل الصانع للدولة نجد نفس الأمر يتكرر مع الصدر[80]، إلا أنه ولاهتمامه بعنصر الدين يحصر البطل في أنحاء ثلاثة، جميعها تتمثل بالقيادات الدينية، ويطلق على البطل (الشهيد)، (فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الأيديولوجية، ويشرف على سير الجماعة وانسجامه أيديولوجياً مع الرسالة الربانية التي يحملها، ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافاً في مجال التطبيق)[81]. وهذا (الشهيد) له حضوره الفعال في جميع مراحل التاريخ ويتمثل في:

أ۔ الأنبياء.

ب۔ الأئمة؛ الذين يعتقد الشهيد الصدر أنهم الامتداد الرباني للنبي.

ج۔ المرجعية؛ التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبي والإمام[82].

لكن ما الذي يقصد الشهيد الصدر بـ(المرجعية) وهل يعني الشكل المألوف لمنصب الفقاهة الذي هو دور يشبه في مستوى تنظيمه (زعيم القبيلة) لكن يناله الأعلم لا الأقوى وقانون الأعلمية لا (العصبية)؟

لقد كان مراد الصدر من المرجعية التي تؤدي دور الشهادة غير المرجعية الدينية المألوفة، فقد كان يدعو إلى إيجاد المرجعية الرشيدة ۔بتعبيره۔ عن طريق تربية الفرد الفقيه والوسط المتدين ثم تحقيق المرجعية الموضوعية، وهي مؤسسة تتكون من عدة لجان وتشكيلات[83].

إن الشهيد الصدر بهذه الطريقة لاحظ كذلك حالة عدم تشكيل الدولة الإسلامية، فحاول من خلال مشروع المرجعية الموضوعية أن يقلل من حجم الخسائر التي لا يمكن تلافيها قبل قيام الدولة، عبر تربية كل من الأمة والفقيه، لكي يكونا بمستوى النهوض للقيام بتشييد الدولة في حال حصول فرص مؤاتية.

التربية والتعليم

كان الشهيد الصدر يحرص على تربية الأمة كآلية لرفع مستواها، حتى تستوعب فكرة الدولة الإسلامية، وتنهض بمسؤولية تشكيلها؛ لذا فإن منهجه اعتمد على:

1۔ سلاسة الخطاب ووضوحه.

2۔ إعادة ثقة الأمة بذاتها وتزويدها بالقناعة بأن عملية الإصلاح لا تتم إذا أهملنا الدين باعتبار رسوخه في وجدان الأمة[84].

3۔ إصلاح وعي الأمة وتوجيهها إلى المشاكل الراهنة دون الانشغال بالقضايا التقليدية.

4۔ الحرص على عمومية الخطاب دون إثارة الحزازات المذهبية[85].

5۔ الاهتمام بالاستفادة من الوجدانيات المؤثرة في الأمة، إلى درجة أن الشهيد الصدر ذاته قد تأثر بهذا الأسلوب أحياناً[86].

6۔ رغم اهتمام الشهيد الصدر برضا الله ومسألة الموت، لكنه صاغ خطاباته التربوية صياغة جعلت جميع مفاهيم الإسلام مفاهيم حياة، لكي يحفز مخاطبيه على التفاعل مع الحياة. على العكس من بعض نماذج الخطاب الديني التي تحمل (لغة موت) تجعل الأمة تنظر إلى الأمور بتشاؤم[87].

7۔ اهتمام الشهيد الصدر بمسألة التدرج في التعامل مع الأمة، بخلاف من يقسو على الأمة فيباغتها ويطرح عليها نظرياته مرة واحدة، وقد استفاد الشهيد الصدر من بحوثه التاريخية، حيث لاحظ كيف أن النبي هيّأ الأذهان لاستيعاب فكرة الإمام مثلاً.[88]

الأمر الذي نلاحظه ونحن ننهي هذا المدخل أن ابن خلدون حينما أراد كشف طبيعة العمران كان يهدف إلى اكتشاف سرّ نكبة الأمة وأفول الحضارة الإسلامية، وأن ذلك قاده إلى العزلة والتشاؤم، في حين أن الصدر كان يهدف من وراء اكتشافاته وأفكاره إلى معرفة سر نهضة الأمة في السابق وكيف يمكن تكرار تلك التجربة، وقاده ذلك إلى الاندماج مع الأمة والثورة وختم أمره بالشهادة.

لكن ما حدث مع ابن خلدون تكرر مع الصدر، فكما ظلت مدرسة ابن خلدون مغيبة عن الوسط العلمي ردحاً طويلاً حتى تلقفها الغربيون، نجد أن الصدر وفكره ومدرسته لا زالت مغيبة عن ميدان البحث العلمي حتى في الحوزة العلمية التي هي محضن الشهيد الصدر، بالرغم من بعض الاهتمامات التي ظهرت مؤخراً، ولسنا ندري هل تغييب الفكر ونسيانه مسألة أصيلة في حضارتنا، أم أن للأمر ملابسات أخرى؟

[1]. باحث من الحوزة العلمية.

[2]. ابن خلدون، المقدمة، طهران: انتشارات استقلال، ص 5.

[3]. م. ن، ص 5، وص 441 وما بعدها.

[4]. م. ن، ص 5.

[5]. م. ن، ص 9.

[6]. م. ن، ص 10.

[7]. م. ن، ص 44 ۔ 94، هذا بالإضافة إلى متابعته أخبار نشوء وسقوط الدول ومن خلال ذلك بنى نظريته في ولادة وموت الدولة.

[8]. م. ن، ص 6.

[9]. راجع: د. علي الوردي في: (منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته) ود. محمد عابد الجابري في: (فكر ابن خلدون؛ العصبية والدولة) ونقد ابن خلدون للفلسفة، ص 514 من المقدمة.

[10]. لاحظ رأي أحمد محمود صبحي في كتابه (فلسفة التاريخ).

[11]. المقدمة، ص 9.

[12]. م. ن، ص 15.

[13]. م. ن، ص 151.

[14]. الحصري، ساطع، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ص 495 وص 114، وفكر ابن خلدون؛ العصبية والدولة.

[15]. يبدأ ابن خلدون بطرح بحثه مقدماً له بمسألة الأعراض الذاتية وإثبات موضوع العلم الجديد، لاحظ ص 6 من المقدمة، كما صنع الصدر في بحوثه الأصولية، لاحظ: بحوث في علم الأصول، بقلم محمود الهاشمي.

[16]. المقدمة، ص 21 ۔ 42.

[17]. م. ن، ص 43.

[18]. دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ص 229.

[19]. المقدمة، ص 87.

[20]. م. ن، ص 41، إلا أنه يمكن أن يقال بأن ابن خلدون نقل رأي القدماء موافقاً لهم، لكنهم جميعاً ۔ مع ابن خلدون ۔ لم ينتبهوا إلى أن تفسيرهم هذا إنما يعتمد على إيضاح العامل الاقتصادي.

[21]. اقتبس العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان هذا الرأي من ناحية تأثير طبيعة الطقس على الإنسان.

[22]. المقدمة، ص 151.

[23]. م. ن، ص 539 وما بعدها.

[24]. م. ن، ص 122.

[25]. م. ن، ص 123.

[26]. قارن بين أحمد محمود صبحي والجابري.

[27]. المقدمة، ص 193 ۔ 194.

[28]. م. ن، ص 195.

[29]. م. ن، ص 202 ۔ 208، 542.

[30]. م. ن.

[31]. م. ن، ص 131، 138، 139، 172، 154، 166، 167، 137، 170.

[32]. م. ن.

[33]. م. ن.

[34]. م. ن.

[35]. م. ن.

[36]. م. ن.

[37]. م. ن.

[38]. م. ن.

[39]. م. ن.

[40]. الجابري. مصدر سابق.

[41]. صاحب هذا الرأي هو د. علي الوردي.

[42]. المقدمة، ص 531.

[43]. المقدمة، ص 537 و440، وراجع حول الموضوع الأخير عن ابن خلدون: عبدالله شريط، الفكر والأخلاق عند ابن خلدون.

[44]. الحصري، ص 176.

[45]. بحوث في علم الأصول، ج1، أما نظرياته في تواتر الأخبار ووثاقتها فراجع ج 4.

[46]. م. ن، مقدمة المقرر، وأيضاً عمار أبو رغيف، دراسات في الحكمة والمنهج.

[47]. مجلة قضايا إسلامية، العدد الثالث، 1997، ص 45.

[48]. الشهيد الصدر، اقتصادنا، ص 400.

[49]. المقدمة، ص 197.

[50]. الشهيد الصدر، نشأة الشيعة والتشيع (بحث حول الولاية).

[51]. قارن بين ص 34 وما بعدها من المدرسة القرآنية، وبين ص 391 من اقتصادنا.

[52]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 740.

[53]. الشهيد الصدر، موجز في أصول الدين، بتحقيق عبد الجبار الرفاعي.

[54]. راجع الدروس الأولى من المدرسة القرآنية، واقتصادنا، ص 377 ۔ 384.

[55]. انظر مثلاً: فلسفتنا، قم، مجمع الشهيد الصدر، 1408ق، ص 7.

[56]. بحوث في علم الأصول، ص 57 ۔ 62.

[57]. خاتمة الأسس المنطقية للاستقراء، وموجز في أصول الدين، ص 103.

[58]. قارن بين: المقدمة، ص 9، وبحوث في علم الأصول، ج 4.

[59]. اقتصادنا، ص 416، 403، 415، 404، 407، 409، 410.

[60]. م. ن.

[61]. م. ن.

[62]. م. ن.

[63]. م. ن.

[64]. م. ن.

[65]. م. ن.

[66]. راجع: ولتر ستيس، الدين والعلم الحديث. ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، ومحمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود.

[67]. المدرسة القرآنية، ص 44.

[68]. موجز في أصول الدين، ص 199 فما بعد، وقد أخذ هذه النظرية وتوسع فيها أبرز تلامذة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، وهو المرجع الشهيد محمد الصدر في كتاباته المختلفة، كموسوعة الإمام المهدي عليه السلام.

[69]. المدرسة القرآنية، ص 48.

[70]. لاحظ الدراسة التي كتبها عبد الجبار الرفاعي (المدلول الاجتماعي لأصول الدين في فكر الشهيد الصدر) في مقدمة كتاب موجز في أصول الدين.

[71]. الشهيد الصدر، بحث حول المهدي عليه السلام.

[72]. لاحظ مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة.

[73]. موجز في أصول الدين، ص 228.

[74]. اقتصادنا، ص 400.

[75]. الإسلام يقود الحياة، ص 3.

[76]. أخذ المرجع الشهيد محمد الصدر هذه الرؤية من أستاذه بلا أدنى إضافة، انظر: اليوم الموعود، ص 461 ۔ 462.

[77]. م. ن.

[78]. المقدمة، ص 218.

[79]. الإسلام يقود الحياة، ص11 و134.

[80]. لاحظ ما ذكره صدر الدين القبانجي بخصوص رأي الشهيد الصدر في: المذهب السياسي في الإسلام.

[81]. الإسلام يقود الحياة، ص 145 ۔ 144.

[82]. م. ن.

[83]. مباحث الأصول، بقلم السيد كاظم الحائري، وهي تقرير دروس الشهيد الصدر، ج1، ص 98.

[84]. لاحظ مقدمة كتاب اقتصادنا.

[85]. انظر مثلاً: المحنة، مؤسسة الرسالة الإسلامية، ص 49.

[86]. لاحظ محاضرته في حب الدنيا، المحاضرة الرابعة عشرة من المدرسة القرآنية.

[87]. قارن بين أسلوب الشهيد الصدر في عرض مفهوم (الجهاد الأكبر) وبين الآخرين مثلاً.

[88]. قارن بين ما ذكره في مباحث الأصول، ص 93، وبين بحث حول الولاية، وبحث حول المهدي عليه السلام.