حلقات التغییر السیاسي في مشروع الشهید الصدر النهضوي

علي المؤمن

التکامل في الأبعاد التي شکلت شخصیة الإمام الشهید محمد باقر الصدر، هي المیزة الأهم التي طبعت هذه الشخصیة، فلم تکن أحادیة البعد، ولم یبرز فیها بعد علی حساب آخر. وظل الإبداع السمة التي رافقت کل واحد من هذه الأبعاد. وأفرز التکامل في الشخصیة منهجاً متکاملاً أیضاً في صیاغة مشروعه الإسلامي وتنفیذه، هذا المشروع الذي أعلن عنه الشهید الصدر في مرحلة مبکرة من عمره، وشرع بتنفیذه في بدایات عقده الثالث. وازدادت سرعة تألق المشروع خلال فترة قصیرة، حتی ساد الوسط الإسلامي طیلة عشرین عاماً من تاریخ العراق (1957 ۔ 1980م).

لقد انبثق مشروع الشهید الصدر من تکامل عدة ملفات، تحمل عناوین: الإبداع العلمي، والتجدید الفقهي، والتنظیر الفکري، والعمق الثقافي، والعمل الإعلامي، والتحرك السیاسي، وقاد بها حالة النهوض الإسلامي في العراق، ببراعة نادرة، کرّس موقعه عالماً عاملاً ومفکراً ومؤلفاً ومرجعاً دینیاً وزعیماً سیاسیاً ولم یقتصر هذا التأثیر علی حدود العراق الجغرافیة، بل امتد إلی أکثر من بلد إسلامي.

ولم یکن الشهید الصدر محترفاً في أي بعد من أبعاد شخصیته ومشروعه، بل کان ینطلق من أداء التکلیف الشرعي. وهکذا لم یکن تحرکه السیاسي ۔ موضوع الدراسة ۔ عملاً احترافیاً، بل کان جزءاً لا ینفصل عن منهجه التغییري ومشروعه الإسلامي الشامل؛ لأنه ۔ بالنتیجة ۔ عمل إسلامي ودعوي یمارس بأدوات سیاسیة، أي أن أدوات هذا الجزء تعارفت الأدبیات المعاصرة علی وصفها بالسیاسة.

والحقیقة أن أهمیة الملف السیاسي في مشروع الإمام الصدر، تم اکتشافها بعد استشهاده؛ لأن الظرف السیاسي وأجواء التعتیم لم یسمحا بالکشف عن هذا الجزء، حتی إن معظم الباحثین الذین سبق أن درسوا أفکار الشهید الصدر ونظریاته ومؤلفاته، ولم یفهموا حقیقة مشروعه وطبیعة المرحلة التاریخیة التي صاغها، ظلوا ۔ بعد استشهاده ۔ متوقفین طویلاً عند المحطات السیاسیة في حیاته، متسائلین: هل صحیح أن منظّراً عبقریاً بهذا المستوی النادر من الإبداع الفکري یقود عملاً سیاسیاً وجهادیاً بالمستوی نفسه من العبقریة؟!

تطور حالة النهوض الإسلامي المعاصر في العراق

شکلت حرکة الجهاد المناهضة للغزو الاستعماري البریطاني للعراق ابتداءً من عام 1914م نقلة نوعیة في تاریخ التحرك الإسلامي المعاصر في العراق، بل لعلها تعد النواة الحقیقیة للنهضة الإسلامیة الجدیدة. فقد أعلن علماء الدین في النجف الأشرف الجهاد ضد بریطانیا بمجرد دخول قواتها البصرة عام 1914م، وقادوا المعارك إلی جانب العثمانیین، وظلوا یقاومون الإنجلیز بشدة، رغم انسحاب الأتراك المبکر من ساحة المعرکة، ثم دخول الإنجلیز بغداد عام 1917م، وإسدال الستار علی النفوذ العثماني في العراق إلی الأبد.

وحین وضعت الحرب الاستعماریة الأولی أوزارها عام 1918م، اتجه الإنجلیز نحو إقامة نوع من الحکم الذاتي في العراق، فجاءت فتوی علماء الدین في النجف وکربلاء بأن تکون الحکومة مسلمة، فاستمر الصراع مع الاحتلال الإنجلیزي، حتی بات الوضع مهدداً بالانفجار. وبالفعل انفجر العراق عام 1920م بثورة شعبیة مسلحة بقیادة الشیخ محمد تقي الحائري الشیرازي، تهدف إلی الاستقلال وطرد المحتلین وإقامة حکومة مسلمة. وانتهت الثورة باحتواء الإنجلیز للموقف والالتفاف علی مطالب الثوار بطریقة مضللة. فعاودت موضوع إقامة الحکم المحلي، ولکن بعنوان کبیر هذه المرة هو (الدولة العراقیة)، ولاسیما أن معاهدة (سایکس ۔ بیکو) عام 1916م وفرساي عام 1919م ومبادئ عصبة الأمم تعطي بریطانیا حق الانتداب علی العراق، وتعطي الشعوب الحق الشکلي في تقریر المصیر.

وقامت الدولة العراقیة الحدیثة استجابة شکلیة لمطالب ثورة العشرین. وفجأة وجد الثوار أنفسهم خارج لعبة السیاسة والسلطة، ووجدوا صنائع الأتراك والإنجلیز یحتلون معظم مناصب الدولة. وبذلك أقرت أکثریة الشعب العراقي أنها الخاسر الأکبر بعد انهیار الحکم العثماني وقیام النظام العراقي المحلي، مضیعة بذلك سنین طویلة من النضال من أجل استقلال البلاد وحریتها وإقامة حکم العدل والمساواة فیها.

وبهذا استؤنفت المعرکة بین الشعب العراقي والنظام السیاسي الطائفي، وهي المعرکة التي ظلت مشتعلة، وستبقی ۔ دون شك ۔ تزعزع استقرار البلد، وتضرب مصالحه في الصمیم، وتهدد وحدة المسلمین بطوائفهم وقومیاتهم، حتی قیام عراق جدید (تحکمه عدالة الإسلام، وتسوده کرامة الإنسان، ویشعر فیه المواطنون جمیعاً علی اختلاف قومیاتهم ومذاهبهم بأنهم إخوة.. یساهمون جمیعاً في قیادة بلدهم، وبناء وطنهم، وتحقیق مثلهم الإسلامیة العلیا)[1] کما یقول السید الشهید الصدر.

وفي الفترة التي أعقبت مؤتمر کربلاء الکبیر عام 1922م، دخل التحرك الإسلامي مرحلة غیر مستقرة، تمثلت بالسیطرة البریطانیة الکاملة علی مقدرات العراق، واتجاه معظم علماء الدین إلی هجر العمل السیاسي، إحساساً منهم بأنه لم یعد ذا جدوی. وبرز آخرون علی صعید العمل الإصلاحي والبناء الفکري والاجتماعي، کالشیخ مهدي الخالصي في الکاظمیة، الذي أبعد إلی إیران، کما أبعده ولده الشیخ محمد مع السید محمد الصدر إلی هناك من قبل. وعند احتجاج علماء الدین في النجف علی هذه الإجراءات، أقدمت السلطات علی إبعاد عدد منهم أیضاً، کالسید أبي الحسن الإصفهاني والشیخ النائیني. ثم عاد المبعدون إلی العراق بعد أن وافقوا علی بعض الشروط التي أملتها علیهم السلطة، کعدم التدخل في الشؤون السیاسیة.

ورغم صعوبة هذا الواقع، إلا أن الحالة الإسلامیة لم تکن بعیدة عن الأحداث الدائرة في الساحة بشکل مجمل، علی غرار التأیید والدعم الذي قدمته لحرکة مایس عام 1941م بقیادة الکیلاني، وکذلك السعي الحثیث لإسقاط معاهدة (بورتسموث) عام 1947م، والموقف من حرب فلسطین عام 1948م، والتصدي لحکومة نوري السعید وما تبعها من أحداث في عام 1952م وما بعده. وفي أواسط الأربعینات والخمسینات تأسست في العراق جماعات وتنظیمات إسلامیة، جدیدة في توجهاتها الفکریة وبنیتها التنظیمیة ونظرتها إلی واقع الأمة الإسلامیة، وکان معظمها امتدادات للحرکات الإسلامیة التي انشئت في بلدان أخری من العالم الإسلامي، کجماعة الإخوان المسلمین وحزب التحریر. ثمّ تأسست بعد سنوات جماعات إسلامیة أخری عراقیة في جذورها، کالشبان المسلم والعقائدیین، إلا أنها لم تساهم بشکل مؤثر في الأحداث السیاسیة، بل کانت تهتم بالجانب التربوي والتثقیفي.

وطوال الفترة الزمنیة التي استغرقتها المرحلة القلقة (1923 ۔ 1957م)، کانت حرکة الوعي الإسلامي تعیش حالة من المد والجزر، وغالباً ما کانت تضحیات الإسلامیین وانجازاتهم تستثمر من قبل بعض الجماعات النفعیة والانتهازیة، وتنتهي إلی نتاجات مغایرة لتطلعاتهم. وتعود ظاهرة القلق في الواقع الإسلامي العراقي في هذه الفترة إلی عدة عوامل، تمثل مفردات الحالة العامة التي عاشتها الساحة العراقیة، وأهمها:

١. ضعف الوعي الشعبي علی الصعیدین الاجتماعي والسیاسي، الأمر الذي کان یؤدي إلی تخبط في تحدید الخیارات والمصلحة الحقیقیة والفهم المطلوب.

٢. وجود بعض الانتهازیین والنفعیین في هامش الحالة الإسلامیة.

٣. امتلاء الساحة السیاسیة بالتیارات العلمانیة المعادیة للدین، والتي استطاعت حرف شرائح کبیرة من الأمة عن إصالتها.

4. امتناع معظم علماء الدین عن التدخل في الشأن السیاسي، وإفساح المجال لعلماء السلطة للعبث في صورة الواقع الإسلامي.

5. التشتت في القرار المرجعي، بعد توزع المرجعیة الدینیة في النجف الأشرف بین عدد من الفقهاء، علی إثر وفاة السید أبو الحسن الإصفهاني عام 1945م وانتقال المرجعیة العلیا إلی السید حسین البروجردي في قم، الأمر الذي أدی إلی إضعاف دور النجف ومرکزیتها وتأثیرها.

6. غیاب الجماعات الإسلامیة الفاعلة والکبیرة، التي تتکفل استیعاب الساحة ورعایتها[2].

٧. غیاب المشروع الإسلامي التغییري الشامل، الذي ینتشل الواقع مما هو علیه.

الصدر یعلن عن مشروعه

شهدت حالة المد في حرکة الوعي الإسلامي في العراق خلال المرحلة القلقة، بروز أسماء لامعة في سماء الإصلاح والتجدید والوعي شکلوا طبقة الرواد، فقد مثلت بعض أعمالهم إنجازات کبری للواقع الإسلامي، ومن أبرز هؤلاء: الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، والسید هبة الدین الشهرستاني والشیخ محمد جواد البلاغي والشیخ عبد الکریم الجزائري والشیخ مرتضی آل یاسین والشیخ محمد رضا المظفر، وباستثناء الشیخ المظفر الذي أبدع مشاریع تأسیسیة رائدة مازال معظمها قائماً، فإن بریق إنجازات رواد الإصلاح الآخرین أفل بعد رحیلهم، لأن طابعها الفردي حال دون تبني الآخرین لها. وبشکل عام فإن هذه الإنجازات لم تکن تفي بالحد الأدنی من حاجة الواقع الإسلامي، الذي تمیَّز في عقد الخمسینات بالتراجع والغیاب، رغم أن العامین اللذین سبقا انقلاب 14تموز 1958م العسکري شهدا بروز مؤشرات نهضة جدیدة، أو بعبارة أخری فإن عامي 1956و1957م وضعا حجر الأساس لهذا النهوض الشامل، الذي شکَّل مشروع الشهید الصدر عموده الفقري.

ثم بدأ الشهید الصدر بطرح مفردات مشروعه في الساحة، وبصورة تدریجیة، ابتداءً من عام 1957م، أي حین کان شاباً لم یتجاوز الثالثة والعشرین من عمره، وبعد بضع سنوات، باتت تلك المفردات یکمل بعضها بعضاً، فکان الشهید الصدر یقف وراء مجمل تفاصیل الواقع الإسلامي.. منظّراً أو مخططاً أو راعیاً أو منفذاً، فأحدث بذلك ثورة علی مستوی منهجیة العمل الإسلامي في الوسط العلمي الدیني، من منطلق تحسسه حاجات الأمة والساحة الإسلامیة في مختلف مراحل التحرك، وجهوده لسد هذه الحاجات، بأسالیب إبداعیة تشیر إلی مستوی النبوغ الذي تمتع به السید الصدر في جمیع المجالات، مما جعله متفرداً من بین رواد الوعي والإصلاح، وتمثلت المفردات الأولی في مشروعه بما یلي:

١. تأسیس تنظیم إسلامي، أطلق علیه اسم (الدعوة الإسلامیة) یعمل علی بناء الواقع الإسلامي، وصولاً إلی هدف تطبیق الشریعة. وکانت أول قضیة طرحت علی طاولة البحث في حینها، مشروعیة قیام الحکومة الإسلامیة في عصر غیبة الإمام المهدي؟عج؟، فکتب السید الصدر في عام 1957م دراسة فقهیة استدل فیها علی شرعیة تأسیس دولة إسلامیة في عصر الغیبة، لتکون القاعدة الفقهیة التي قام علیها العمل[3]. وکان عمره حینها حوالي 22 عاماً.

٢. البدء بتألیف سلسلة مشاریع فکریة لمواجهة التیارات العلمانیة والإلحادیة التي کانت تحرف الأمة وتشغل الساحة آنذاك، وفي مقدمتها المارکسیة، فألف ونشر کتاب (فلسفتنا) عام 1959م (وکان عمره 24 عاماً)، وتبعه بکتاب (اقتصادنا) عام 1962م.

٣. التخطیط لقیام تجمع علمائي منظم أُسست علی إثره جماعة العلماء في النجف الأشرف عام 1959م، والتي کان السید الصدر محور حرکتها ونشاطها، والمعبِّر عن مواقفها، من خلال البیانات التي کتبها باسم الجماعة أو افتتاحیات المجلة الناطقة بلسانها.

4. الشروع بتدریس أعلی مراحل البحث العلمي في الجامعة الدینیة (مرحلة البحث الخارج في الحوزة العلمیة) عام 1959م، أسوة بکبار فقهاء الحوزة المبدعین، رغم فارق السن الکبیر بینه وبینهم. ومن خلال هذا الدرس عمل الشهید الصدر علی إعداد نخبة متمیزة من العلماء، ملتزمة بمشروعه الإسلامي.

5. وضع أفکار النشاطات الإسلامیة الأساسیة التي طبعت الواقع الإسلامي بطابعها، في المرحلة التي أعقبت قیام الحکم الجمهوري في العراق عام 1958م، کالاحتفالات والندوات وسلسلات الکتب الدعویة والفکریة.

ویتضح من خلال هذه المفردات، أن السید الصدر کان یخطط لعملیة مواجهة منظمة مع الواقع السیاسي والاجتماعي والفکري العام، وإلی جانبه یستشرف الواقع الجدید الذي سیقوم مستقبلاً، فکانت مفردات مشروعه مرحلیة في قسم منها وبعیدة المدی في القسم الآخر.

ومعرفة القیمة التاریخیة لهذه المفردات تتأتی من خلال فهم طبیعة المرحلة التي ولدت فیها. فالحرکة التي فرضتها الأوضاع المرتبکة في أعقاب انقلاب 1958م، فسحت المجال أمام التیارات السیاسیة المتناقضة لتجتاح الساحة علی شکل موجه رهیبة لم یألفها الشارع العراقي من قبل. وکان الشیوعیون والقومیون والوطنیون ۔ بالترتیب ۔ أهم مکونات هذه الموجة. وخلال ذلك کان الإسلامیون یعانون الأمرّین. بعد أن نالهم الکثیر من المد الشیوعي وممارسات السلطة. فالحزب الشیوعي استهدف مجتمع المسلمین في الصمیم، من خلال نشاطه الکبیر في نشر أفکاره الإلحادیة وآرائه السیاسیة المتطرفة، حتی بات الشیوعیون یجاهرون علناً بعدائهم لله وللإسلام ولمراجع الدین، حتی أنهم حاولوا قتل الإمام السید محسن الحکیم خلال إحدی زیاراته إلی کربلاء في أوائل عام 1959م. وفي الجانب الآخر، ذهب السلطة إلی المجاهرة في محاربة تدخل علماء الدین في السیاسة، وراح کثیر من عملاء الحکم المندسین في صفوف المتدینین یطلقون علی المنابر صرخة (فصل الدین عن السیاسة)، واکتفاء علماء الدین بمتابعة الشؤون العبادیة فقط، حتی أصبح حدیث عالم الدین عن السیاسة والعمل السیاسي جریمة لدی بعض الأوساط.

ومن الطبیعي أن یکون للإسلامیین ردّهم؛ المناسب تارة والمتردد تارة أخری، في مقابل تلك الهجمة الشرسة، فقد حاولت جمهرة من علماء الدین والشباب المؤمن استثمار الفوضی القائمة والهستیریا الشیوعیة لصالح التیار الإسلامي، فبادرت بدعم من المرجعیة وتحریك من الجماعات الإسلامیة إلی تعریة الشیوعیة ورموزها وممارساتها، من خلال إقامة الاحتفالات والندوات والمجالس الخطابیة والمحاضرات والشعائر الحسینیة. کما عمد بعض العلماء إلی استحداث مؤسسات أکادیمیة حدیثة للدراسات الفقهیة والدینیة، علی غرار کلیة الفقه في النجف الأشرف، التي أسسها الشیخ محمد رضا المظفر عام 1958م، فکانت من معاقل التحرك الإسلامي. کما تم فتح العشرات من المکتبات الإسلامیة العامة وتأسس عدد من المساجد في مختلف من العراق. وکانت هذه المکتبات والمساجد بؤراً لبث الوعي الإسلامي ولتعبئة الشباب عقائدیاً. هذا الواقع کانت تقوده المرجعیة الدینیة في النجف الأشرف، وکان علی رأسها السید محسن الحکیم. أما أبرز محرك له ۔ کما ذکرنا ۔ فهو السید محمد باقر الصدر.

ونشیر إلی أن الواقع الإسلامي في العراق قد زحف بقوة إلی الأمام. بعد أن توحدت المرجعیة العلیا في إطار حوزة النجف بوفاة الإمام السید حسین البروجردي في قم، وتصدي الإمام الحکیم للمرجعیة العلیا عام 1960م. وبالنظر لما یتمتع به الأخیر من خصائص متمیزة، فإنه أحدث نقلة تاریخیة في مؤسسة المرجعیة الدینیة. ورغم أن السید الحکیم انتقد تصرفات حکومة عبد الکریم قاسم بشدة. إلا أن الأخیر کان یحاول التقرب منه، لمعرفته بأهمیة ذلك في استقطاب عواطف الشعب. وحین تقدمت السلطة بقانون الأحوال الشخصیة الوضعي، وغیره من القرارات والقوانین المخالفة للشریعة الإسلامیة، وقف الإسلامیون ضدها بکل حزم، وطالبوا بتطبیق الشریعة الإسلامیة. ثم تلقی التیار الشیوعي صفعة موجعة جداً من قبل المرجعیة الدینیة، حین أفتی السید الحکیم في أوائل عام 1960م بحرمة الانتماء للحزب الشیوعي وتأییده، وحکم علی أفکاره وأعماله بأنها کفر وإلحاد. ومن أجل تقویة نفوذ المرجعیة الدینیة، أرسل السید الحکیم مجموعة من العلماء إلی کثیر من مدن العراق ودول العالم ممثلین عنه. وکانت الکثیر من تحرکات السید الحکیم التي یقوم بها انطلاقاً من موقعه المرجعي، تعد أعمالاً سیاسیة صریحة، وتکشف عن تصد حقیقي لقیادة الأمة. کما أنه دعم الوجودات الإسلامیة ودافع عنها في مقابل الشبهات والتهم، کما حصل مع مشاریع السید الصدر، التي کانت تحارب من قبل بعض التیارات الجامدة في الحوزة العلمیة أو بعض المغفلین والمدفوعین، ونموذج ذلك جماعة العلماء، التي أطلقت ضدها مختلف الشائعات[4]. وقد شکا السید من بعض المحسوبین علی الحوزة، والذین حاولوا تشویه صورة الجماعة ونشاطاتها، وبذلك یشترکون في هدف التیارات المعادیة، فأصدر السید الحکیم فتوی جاء فیها:

(إن جمیع ما أصدره فریق من أعلام أهل العلم أیدهم الله تعالی باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف وما سیصدر عنهم من نشرات وغیرها، مما یتضمن الدعوة إلی الدین والإسلام، فهو من أهم الوظائف الشرعیة التي یجب القیام بها في سبیل إعلاء کلمة الدین وترویج مبادئه الشریفة وتعالیمه المقدسة، فعلی عامة المسلمین العمل علی مؤازرتهم والوقوف إلی جانبهم)[5]. وکما حصل أیضاً حین تحرك بعض القومیین والبعثیین لزرع بذور الخلاف بین مفردات الواقع الإسلامي من مرجعیات ووجودات وفعالیات.

الإسلامیون وتجربة القوة

ثمة مصالح سیاسیة مشترکة دفعت القومیین (مجموعة العقید عبد السلام عارف الذي دخل في صراع معلن مع عبد الکریم قاسم منذ کان شریکاً له في السلطة) وحزب البعث، للوقوف في جبهة واحدة ضد عبد الکریم قاسم، وأسفر هذا التحالف غیر المبدئي عن قیام انقلاب 14 رمضان (8 شباط) 1963م، الذي أسقط الجمهوریة الأولی بمبارکة مصریة. وشهد الشارع العراقي في أعقابها سیولاً من الدماء والانتهاکات السفارة علی ید قوات (الحرس القومي) الملیشیا الرسمیة لحز البعث. وکان للإسلامیین نصیب کبیر من هذا العدوان، مما حملهم للوقوف بوجه السلطة الجدیدة. والذي عبر عنه الإمام الحکیم في سفره الاحتجاجي إلی کربلاء والکاظمیة وسامراء، وقیام مئات الآلاف من الجماهیر بتجدید البیعة له. ولکن عبدالسلام عارف لم یمهل حلفاءه الجدد، فانقلب علی البعثیین بعد نحو ثمانیة أشهر. وحین استقرت له الأوضاع، عمل عارف علی تسییر البلاد وفقاً لنغمة جدیدة ومبادئ لم یألفها الشارع من الحکومات السابقة. فقد أظهر نوعاً من الالتزام بالإسلام، محاولاً استقطاب عواطف الشعب في مقابل إلحاد الحزب الشیوعي وعلمانیة حزب البعث، واحتواء الموجة الدینیة الجدیدة، إلا أنه في الحقیقة رفع لواء الطائفیة والتمییز المذهبي، وکأنه یعبر عن إخلاصه للواقع الذي خلقه المشروع الطائفي العثماني ۔ الإنجلیزي، إلا أن عارف أعاد صیاغة الواقع، بعد أن أضاف له مبدأین جدیدن هما: القومیة والاشتراکیة، لتشکل إلی جانب الطائفیة الاتني التي یستقر علیها حکم عارف. وقد أخذ هذا الواقع یبرز علی مختلف المستویات حتی بلغ أدنی الدوائر الحکومیة، حیث تعرض أتباع أهل البیت عليهم السلام خلالها إلی حملة طائفیة وعنصریة شعواء، بعد أن جاهر عارف بالعداء لهم، بهدف کسر شوکة المرجعیة الدینیة وإرعاب جماهیرها.

وبعد أن شعر أن هذه السیاسة ستؤدي إلی فعل معاکس، حاول إرضاء المرجعیة الدینیة وإسکاتها، فأوجد مجموعة من کبار رموز السلطة إلی السید محسن الحکیم للتباحث معه حول إعطاء أتباع أهل البیت عليهم السلام حقوقهم، إلا أن الحکیم لم یکن ینظر للأمور نظرة طائفیة، علی الرغم من تأثره من سیاسة التمییز الطائفي والعنصري التي تمارسها السلطة، فتحدث باسم الشعب العراقي المسلم بکل قومیاته ومذاهبه وطرح المطالیب التي تهم الأمة بأسرها.

وفي هذه الفترة وصل الإمام الخمیني إلی النجف الأشرف، مبعداً من إیران، بعد سلسلة الأحداث الدمویة التي بدأت عام 1962م في إیران وأدت إلی (انتفاضة 15 خرداد) عام 1963م، حیث عاش فیها نحو 15 عاماً. وقد أعطی وجود الإمام الخمیني في النجف الأشرف زخماً نوعیاً کبیراً للتحرك الإسلامي العراقي، وهیأ الکثیر من أوساط الحوزة العلمیة لتقبل أیة حالة من حالات المواجهة الشاملة مع السلطة، وکان الشهید محمد باقر الصدر هو الأقرب فکراً وسلوکاً إلی الإمام الخمیني ومدرسته في العمل. ومن هنا، وبسبب مؤشرات القوة التي برزت لدی الإسلامیین، والتي أدت إلیها مجموعة متشابکة العوامل، فإن النظام فضَّل عدم افتعال حالة المواجهة معهم، وأرغم في النهایة علی رفع الکثیر من الضغوط التي عرّضهم لها.

وبادر الإسلامیون في عام 1966م إلی تأسیس (جماعة العلماء في بغداد والکاظمیة) علی غرار جماعة العلماء في النجف الأشرف. وقد ساهمت الجماعة ۔ بشکل أساس ۔ في النشاطات الإسلامیة في العاصمة، وتعدی دورها إلی العمل السیاسي والمشارکة في الأحداث أو رسم المواقف حیالها، فضلاً عن العمل الثقافي والفکري الواقع. وکان الشهید الصدر لا یدّخر وسعاً في دعم الجماعة والمساهمة في توجیهها. وإلی جانب ذلك، ظل الصدر یوجه الفعالیات الإسلامیة الأخری التي استمرت في عملها منذ سنوات سابقة، أو التي قامت قبل ذلك، ککلیة أصول الدین في بغداد التي تأسست عام 1964م، فکان الشهید الصدر یشارك في الإشراف علیها ویولیها اهتماماً کبیراً. کما أصبحت دروسه العلمیة وأسلوبه في التدریس ومنهجه التجدیدي في البحث، محط أنظار الوسط الحوزوي العلمي، وحدیث المنتدیات الثقافیة والفکریة.

وبمقتل عبد السلام عارف عام 1966م ومجیئ أخیه عبد الرحمن إلی کرسي الرئاسة، دخل العراق مرحلة جدیدة تماماً، لم یألفها سابقاً، ولم تتکرر فیما بعد، فقد تمیز هذا العهد نبوع من الهدوء السیاسي والاستقرار الاجتماعي والحریة النسبیة والظهور الخجول للأحزاب السیاسیة العراقیة، حتی أصبح البعثیون والشیوعیون ۔ بعد إطلاق سراح قیادییهم وکوادرهم ۔ یتحرکون بسهولة في الساحة، فعادت الصراعات الفکریة والاشتباکات السیاسیة من جدید، ولکن بصورة هادئة ولم تتحول إلی ظواهر اجتماعیة، کما کانت علی عبد الکریم قاسم. أما الحالة الإسلامیة، فکانت هذه المرحلة متمیزة بالنسبة لها، إذ استطاعت أن تتحرك فیها بحریة ملحوظة، دون أن تتعرض للقمع والضغط والتطویق، فبذلت بعض المسعی للحیلولة دون التفریط بهذه الفرصة، ثم جاءت نکسة حزیران عام 1967م لتترك آثارها علی العراق، ککل الدول العربیة والمسلمة. ومن خلالها برز تبني الإسلامیین في العراق للقضیة الفلسطینیة کقضیة إسلامیة مرکزیة. فکانت النکسة عاملاً آخر أضافة قوة جدیدة للواقع الإسلامي، الذي بلغ مستوی کبیراً من القوة، بالشکل الذي أصبح فیه المراقبون یتوقعون تغییراً قریباً في خارطة العراق السیاسیة لمصلحة التحرك الإسلامي، فیما لو استثمر الفرضة ۔ الضائعة التي سنحت له ۔ بالشکل الذي ینبغي، والذي لم یتوافر مثیل له مطلقاً فیما بعد، لأن الحالة الإسلامیة باتت تهیمن علی الشارع الشعبي، وتفرض نفسها علی معظم المستویات الاجتماعیة والفکریة والثقافیة، وقد تمثلت قوة الحالة الإسلامیة في المفردات التالیة التي تکمل إحداها الأخری:

أولاً: المرجعیة الدینیة المتمثلة بالسید محسن الحکیم، والوضع الجدید في الحوزة العلمیة.

ثانیاً: الفعالیات الإسلامیة علی مختلف ألوانها: السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة والدینیة.

ثالثاً: القاعدة الشعبیة العریضة.

وقد حظیت المرجعیة ۔ في هذه الفترة بالتحدید ۔ بدعم منقطع النظیر من قبل الجماهیر، الأمر الذي جعلها ۔ أي المرجعیة ۔ في موقع الاقتدار أمام النظام. ولم تبخل الحالة الإسلامیة في إظهار قوتها من خلال العدید من الوسائل، بحیث باتت المسیرات والتظاهرات الشعبیة التي یعبئ لها الإسلامیون وتدعمها العشائر تعلن ۔ ضمن مطالیبها ۔ عن ولائها الصریح للقیادة الإسلامیة. بل إن الجامعات شهدت تحرکاً إسلامیاً نشیطاً، حتی أصبح بعضها یقرر دروساً في العقائد الإسلامیة. فضلاً من انتشار المساجد وصلوات الجماعة والندوات والمکتبات في جمیع الکلیات والأقسام. کما اعتمدت کلیة الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد تدریس کتاب (اقتصادنا) للسید الصدر کمقرر دراسي منهجي عنوانه (الاقتصاد الإسلامي).

الاستعمار یبحث عن بدیل

لقد لمست الدوائر الاستکباریة ۔ عن قرب ۔ حقیقة الموقف الإسلامي في أعقاب نکسة حزیران، والقوة الکبیرة التي أصبحت تتمتع بها الحالة الإسلامیة، وعجز النظام عن مواجهتها أو کبح جماحها. وإذا أضفنا موضوع شرکات النفط وصفقاتها الجدیدة التي ضربت جزءً من مصالح الإنجلیز والأمریکان في العراق، إلی إشکالیة القوة لدی الحرکة الإسلامیة، فإن من السهولة معرفة ما یدور في عقل المستکبرین. وکان واضحاً أن الإنجلیز شعروا بصفارة الإنذار نتیجة ما حققه الإسلامیون من واقع. إلا أن مجموعة من الأحداث، أعطت الدلیل الکافي للبریطانیین والقوی المستکبرة الأخری، علی أن الإسلامیین لیس لهم مصلحة في السلطة، ولا یریدونها، رغم ذلك فإن الدوائر المستکبرة لم تعبأ بقناعات الإسلامیین ونوایا المرجعیة، بل بادرت إلی مشروع انقلابي، یعمل عملاؤها علی تنفیذه، وفقاً لما تفرضه مصالحها. ورأی الاستکبار أن البدیل الأفضل الذي من شأنه کبح جماح الإسلامیین، واحتواء موقف بعض العسکریین من أتباع أهل البیت عليهم السلام، والذین بدأت تستهویهم لعبة الانقلابات، بدوافع مختلفة، هو حزب البعث العراقي، ویعود ذلك إلی عدة أسباب:

١. إن حزب البعث استفاد من الجو المفتوح في عهد عبد الرحمن عارف، فأخذ ینمو کماً ونوعاً، ولا سیما جناحه العسکري، الذي بات مؤهلاً للقیام بأي تحرك مطلوب.

٢. یتمیز حزب البعث بالالتزام بالمخطط الاستکباري البریطاني لإدارة شؤون العراق، ومقدرته علی قمع المعارضة أو أي حرکة جماهیریة تسیر بالاتجاه المعاکس، وهو ما برز في انقلاب 8 شباط.

٣. إن حزب البعث تنظیم علماني یناصب الدین العداء، فیمکن من خلال ذلك القضاء علی التیارات الدینیة الواسعة التي أصبحت تهدد مصالح الاستکبار في العراق.

4. إن الشعب العراقي بمختلف شرائحه، ولاسیما الإسلامیین والمرجعیة الدینیة، لم یکن مدرکاً إدراکاً کاملاً حجم خطر البعثیین، بل کانت الأغلبیة تضع الشیوعیة في مقدمة الأخطار المحدقة بالبلاد.

وقد جاء في تقریر المؤتمر القطري السادس لحزب في العراق بأن أحد أسباب انقلاب 17 تموز 1968م هو تسلل القوی الرجعیة إلی مواقع خطیرة، والخشیة من سیطرتها علی الأوضاع. ویقصد بذلك الحالة الإسلامیة المتنامیة.

ولم یکن الانقلاب ممکناً دون وفاق أو تکامل بین المصالح الأمریکیة والبریطانیة في العراق، وهو ما حصل بالفعل، حین تحالف حزب البعث مع الخط الأمریکي في الدولة، والذي تمیله معاون رئیس الاستخبارات وآمر الحرس الجمهوري في العهد العارفي. وبعد نجاح الانقلاب، بادر حزب البعث إلی استئصال الخط الأمریکي خلال 13 یوماً. حینها انهمك البعثیون برسم الخارطة السیاسیة المستقبلیة للعراق، وتحدید مواقع وثقل الاتجاهات الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة المؤثرة في الساحة وکیفیة التعامل معها. وقد أشارت أدبیات حزب البعث الداخلیة عام 1968م إلی واقع القوی السیاسیة في العراق والموقف منها، وانتهت إلی أن الوجود الطائفي (ویقصد به الحالة الإسلامیة والفعالیات الإسلامیة التي تتقدمها المرجعیة الدینیة) هو الخطر الذي یهدد الحکم. هذا التقییم التفصیلي للوضع، والذي خرج به حزب البعث في مرحلته الانتقالیة (1968 ۔ 1969م)، انتهی بهجومه الکبیر علی الإسلام، وتعرضه للمرجعیة الدینیة والتحرک الإسلامي، وقراره بتدمیرهما. ثم صدر القرار الرسمي بالقضاء علی الوجود الدیني في العراق في 4 نیسان 1969م عن القیادتین القومیة والقطریة لحزب البعث، ونص علی (ضرورة القضاء علی الرجعیة الدینیة، باعتبارها العقبة الکبری في مسیرة الحزب)[6].

وهکذا بدأ التحرش العملي بمصادرة الأموال المرصودة لجامعة الکوفة، وهي مشروع إسلامي خیري. ثم استغل النظام أجواء خلافه الحاد مع نظام الشاه في إیران، للقیام بحملة قاسیة ضد العراقیین من ذوي الأصول الإیرانیة والإیرانیین المقیمین في العراق، فبدأ منذ نیسان 1969م بتهجیر عشرات الآلاف منهم، في إطار قرار تهجیر نصف ملیون نسمة إلی إیران بهذه التهمة، أي 6­% من نفوس العراق.

ویشمل ذلك عدداً کبیراً من علماء الدین والشخصیات الإسلامیة، وفي غمرة الأحداث خطط السید محمد باقر الصدر لتحرك مضاد یتناسب مع الوضع. فوجدت مقترحاته قبولاً لدی المرجعیة، وکان لها أولها المؤتمر الجماهیري الاحتجاجي الحاشد الذي عقد في صحن ضریح الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف، والذي دعا إلیه السید محسن الحکیم الذي حضره إلی جانب جمع غفیر من المراجع والعلماء، وکتب السید الصدر کلمة، تضمنت نقداً حاداً للنظام، وتطرق إلی مجمل القضایا التي شغلت الشارع العراقي طوال فترة الحکم الجدید، کمطاردة الإسلامیین وحملات التهجیر ومصادرة الحریات والتضییق علی الحوزة العلمیة وعلماء الدین. وألقیت کلمة باسم السید محسن الحکیم من قبل نجله. وقد مثل هذا التجمع آخر رد فعل قوي من جانب الإسلامیین في عهد مرجعیة السید الحکیم. ففي أعقابه نجح حزب البعث في امتصاص الحسم من مواقف الإسلامیین، بعد أن آتت استفزازاته لهم أُکلها، فقرر وضع حد للمناورات والقرارات السریة، وبدأ بتنفیذ مخططاته بعلانیة ووضوح، تقدیراً منه بأنه بات یمسك زمام الأمور بقوة، متخطیاً کل المخاطر والمشاکل التي تتهدده جراء معارکه مع العدید من القوی الداخلیة والخارجیة، کالاتجاهات السیاسیة المختلفة والمرجعیة الدینیة والجماعات الإسلامیة في الداخل، وإیران وما تمثله من ثقل في المنطقة في الخارج. فلم تمض بضعة أیام علی مؤتمر النجف حتی شنت السلطة حملة اعتقالات جدیدة، شملت عدداً من علماء الدین الناشطین، الذین تعرضوا لأبشع صنوف التعذیب، مما نتج عنه استشهاد بعضهم. ویذکر أن السید محمد باقر الصدر اقترح علی المرجعیة حینها تنظیم تظاهرة علمائیة یقودها بنفسه، لإیقاف حملات الإبعاد والاعتقال، إلا أن المرجعیة کانت تخشی علی السید الصدر، لأنها کانت تری فیه أمل الإسلام علی الصعد کافة، الأمر الذي حال دون تنفیذ الفکرة.

وفي منتصف عام 1969م، وصل الهجوم البعثي علی المرجعیة الدینیة ذروته، حتی اتهمت السلطة نجل السید محسن الحکیم بالعمل لحساب إیران وأکراد العراق. وبهذا وجهت السلطة ضربة مباشرة لشخص المرجع الأعلی. ثم اقتحمت السلطة مقر الإمام الحکیم بهدف إلقاء القبض علی نجله السید مهدي. وحین فشلت، قامت باقتیاد السید الحکیم عنوة بسیارة حکومیة وأرسلته إلی مقره في الکوفه، ثم وضعته تحت الإقامة الجبریة المشددة، وقطعت عنه الماء والکهرباء والهاتف.

ومن هذه الحادثة بالذات، بدأت مرحلة الهستیریا البعثیة، وأخذت تتصاعد یوماً بعد آخر، إذ استمرت حملات التهجیر والنفي حتی مطلع عام 1971م، أما الاعتقالات فلم تنقطع. بل کانت تأخذ شکلاً تصاعدیاً[7].

وفي هذه الفترة وجد السید الصدر ضرورة توجیه ضغوط رسمیة وشعبیة من الخارج علی حکومة البعث، بعد أن أخذ الداخل یحترق بالتدریج بنار القمع البعثي، الذي سلب أیة مبادرة من الإسلامیین، اللهم إلا ردود الفعل الموضعیة. وعلی إثرها سافر الصدر إلی لبنان، لتصعید الموقف من الخارج، محرك الفعالیات الإسلامیة هناك، والتي قام بعضها ۔ کالسید موسی الصدر ۔ بالإبراق إلی جمیع رؤساء وملوك الدول العربیة والإسلامیة، والفعالیات الإسلامیة فیها، یشرح لهم المأساة ویدعوهم للتدخل.

وفي خضم هذه الأجواء الخانقة، ارتفع صوت الإمام الخمیني من النجف الأشرف، بکل جرأة، محطماً الصمت والجمود اللذین فرضهما من وصفهم بالعلماء القاعدین وغیر العاملین، فبدأ في مطلع عام 1970م بطرح باب في غایة الأهمیة من أبواب الفقه الإسلامي علی طاولة البحث والدرس، هو باب الحکومة الإسلامیة أو (ولایة الفقیه)، مؤکداً في دروسه هذه علی مسألة وجوب تأسیس الحکومة الإسلامیة وبناء أجهزتها، ووجوب رعایة العلماء للأمة رعایة حقیقیة، ووجوب رئاستهم للدولة، ودعاهم إلی الجهاد ومقارعة الحکومات الفاسدة والظالمة، کما فضح الأنظمة السیاسیة الوضعیة والقوی الاستکباریة، وفضح مؤامراتها بترکیز فهم (فصل الدین عن السیاسة) في الوسط الدیني[8]. وعدّ تیار السید الصدر (الفعالیات الإسلامیة المرتبطة به وأصدقاؤه وتلامیذه وجمهوره) إن مبادرة الإمام الخمیني العلمیة هذه نصراً لهم علی مختلف الصعد، سواء علی صعید مواجهة السلطة أو الأوساط الدینیة التي تستنکر أي لون من ألوان التفکیر أو العمل السیاسي، فدعا السید الصدر بعض تلامیذه البارزین إلی الاستفادة من هذه الدروس، وحضورها، کما قام بعض العلماء من أنصاره بترجمتها ومراجعتها، إذ توصل السید الصدر في هذه الفترة أیضاً إلی الموقف الفقهي ذاته، وکان یصرح بالولایة العامة للفقیه.

وبعد وفاة السید الحکیم في أواسط عام 1970م، بادر السید الصدر إلی التحرك علی المرجعیات المرشحة؛ لتبذل مساعیها لإیقاف حملات الإبعاد والاعتقال؛ إلا أنه لم یتمکن من انتزاع مبادرة مناسبة، سوی الحکم الفقهي الذي أصدره الإمام الخوئي حینها، والقاضي بحرمة سفر علماء وطلبة الحوزة العلمیة خارج العراق. وحینها کان السید الصدر یستشعر الفراغ الذي ترکته وفاة السید الحکیم، بعد أن فرضت الظروف الصعبة واجتهاد المرجعیات المرشحة ورؤیتها، تجنب التصدي للعمل السیاسي والاجتماعي. وبذلك استتب الوضع بالکامل لصالح النظام الحاکم، الذي تمادی في ممارساته ضد الإسلامیین دون رادع حقیقي، بعد تعزر الرکود في الوسط الدیني العلمي، وعودة معظم العلماء إلی التفرغ للشأن العلمي المحض، ظناً منهم بأن ذلك سیبقی علی الجامعة العلمیة الکبری في النجف، قائمة والحیلولة دون انهیارها.

مخطط التصفیة الشاملة

توزعت محاور مخطط النظام الحاکم لتصفیة الحالة الإسلامیة وفعالیاتها ووجودها، إضافة إلی آفاق تنفیذ المخطط علی ثلاثة أصعدة:

الأول _ المرجعیة الدینیة والحوزة العلمیة

ومن أبرز محاوره:

١. منع استمرار الکثیر من الطلبة ۔ غیر العراقیین ۔ في الدراسة الحوزات العلمیة، وإسقاط إقاماتهم الرسمیة، ومنع التحاق معظم الطلبة الجدد.

٢. تحدید التحاق الطلبة العراقیین بالحوزة، وإلصاق التهم بالکثیر منهم، والتضیق علیهم، ورفض إعطائهم أي تأجیل أو إعفاء من الخدمة العسکریة.

٣. منع تسجیل الطلبة في مؤسسات الحوزة التي لا تمتلك ترخیصاً حکومیاً. والحال أن الحوزات هي مؤسسات مستقلة منذ مئات السنین، فأراد النظام الحاکم ربطها بأجهزته، من خلال مختلف الضغوطات.

4. غلق معظم منافذ الإمداد المالي الشرعي (الحقوق الشرعیة) من الوصول إلی مراجع الدین من مقلدیهم في خارج العراق، في محاولة مهمة لإضعاف الحوزة.

5. الاستمرار بحملة التهجیر والنفي (أساتذة الحوزة وطلبتها) بعد إسقاط الجنسیة عن بعضهم أو الإقامة القانونیة. والتضییق علی من تبقی من العلماء. فضلاً عن اعتقال وتعذیب الکثیر منهم.

6. العمل علی اختراق صفوف الحوزة، من خلال إدخال ما یقارب من مئة وخمسین طالباً من عناصر السلطة إلی الحوزة، وإیجاد مجموعة من المعممین المرتبطین بالسلطة، ودعمهم وفرضهم کممثلین عن المرجعیة والحوزة العلمیة، إلی جانب إنشاء أو دعم بعض المؤسسات الدینیة الحکومیة التي تمارس الخداع باسم الإسلام.

٧. مصادرة الکثیر من المکتبات الإسلامیة العامة وما تحتویه من مواد المخطوطات، وشمل هذا الإجراء بعض المکتباب الخاصة بالعلماء أیضاً.

٨. بث مختلف الإشاعات ضد الحوزة وعلمائها، ولاسیما الوسط الفاعل إسلامیاً فیها، وفي المقدمة السید محمد باقر الصدر، الذي تعرض لأشکال الإشاعات والتهم، وفي مقدمتها أنه عالم سیاسي وحرکي أو أنه إصلاحي تجدیدي.

٩. محاولة زج العلماء في منزلقات خطیرة وفرض مواقف معینة علیهم، علی غرار طلب الحزب الحاکم من الإمام محسن الحکیم تأییداً علنیاً لانقلابه العسکري أو إصدار فتوی بجواز قتال الأکراد، إذ رفض المرجع الدیني الطلبین. وبعد وفاته عاود النظام ممارساته، فطلب هذه المرة، فتوی من السید الصدر بوجوب القضاء علی الشیوعیین، فرفض الصدر الطلب، لیقینه بأن هذا الطلب هو لعبة سیاسیة أو منزلق یهدف إلی الإیقاع بأکثر من طرف بضربة واحدة.

الثاني _ الوجودات الإسلامیة

ومن أهم محاوره:

١. القیام بحملات إعتقال وملاحقة وتشرید واسعة النطاق ضد عناصرها وإفضاع المعتقلین إلی أشد صنوف التعذیب، وإصدار أحکام الإعدام أو السجن المؤبد ۔ دون محاکمة ۔ ضد الکثیر منهم.

٢. القیام بحملات تشتیت ضد المشکوك بتعاطفهم من أي من الوجودات الإسلامیة، کإبعادهم إلی وظائف خارج مناطق سکناهم، وفي المناطق النائیة بالذات، وحرمانهم من الامتیازات المعاشیة والاجتماعیة.

الثالث _ الصعید الثقافي والاجتماعي

١. إغلاق الصحف والمجلات الإسلامیة، ومنع دخول الصادر منها إلی الخارج. وکذا الحال مع الکتاب الإسلامي، من خلال طبعه واستیراده وتوزیعه وبیعه وتداوله.

٢. شن حملات اعتقال وتنکیل ضد الکتّاب والمفکرین الإسلامیین.

٣. إغلاق جمیع المؤسسات الإسلامیة للتربیة والتعلیم کالمدارس والثانویات والکلیات والجمعیات الخیریة.

4. منع بث الشعائر الإسلامیة، کالأذان وصلاة الجمعة والمراسیم الدینیة، من الإذاعة والتلفزیون.

5. منع إقامة الکثیر من الشعائر الإسلامیة، کالاحتفالات والمسیرات ومجالس العزاء الحسیني.

6. نشر مختلف الأفکار الانحرافیة والوضعیة، کالفکر العلماني والقومي والإلحادي، ومختلف النظریات الغربیة التي تتقاطع مع الإسلام.

٧. القیام بحملة إفساد واسعة، استهدفت مبادئ وأعراف المجتمع العراقي المسلم، من خلال التلفزیون والسینما والصحافة، وأماکن الرذیلة والمجون وعلب اللیل، والاتحادات والمنظمات المختلفة للأطفال والناشئة والشباب، وجعلها بؤراً لانتزاع دین وعقیدة الشباب وأخلاقهم. ولم تقتصر هذه الحملة علی المدن، بل تعدتها إلی القری والأریاف والعشائر.

٨. الضغط علی کل من یتمسك بالممارسات العبادیة والدینیة، واتهامه بمختلف الاتهامات، کالرجعیة والتخلف والتحجر، أو التشهیر والاستهزاء به، فضلاً عن ملاحقته ومراقبته. وکذا الحال بالنسبة لموضوع الحجاب.

٩. إصدار قوانین (حدیثة) منافیة للشریعة الإسلامیة، کقانون الأحوال الشخصیة وغیره.

وشن النظام في عام 1971م أولی حملاته الکبیرة ضد الجماعات الإسلامیة وتحدیداً حزب الدعوة الإسلامیة، مستعیناً بخبرات ومعلومات دوائر المخابرات البریطانیة والأمریکیة، فاعتقل الکثیر من قیادییها وکوادرها وأعدم قسماً منهم. وعلی إثر ذلك، جری أول اعتقال للشهید الصدر عام 1972م، بتهم مختلفة، کالتحریض علی النظام ودعم الجماعات الإسلامیة، إلا أن تدهور حالته الصحیة أجبر النظام علی إطلاق سراحه، إلا أنه بقي مراقباً.

ولم تثن الأوضاع الضاغطة علی الشهید الصدر عن الاستمرار في إخراج الجزء العلمي والفکري في مشروعه، فقد شهدت هذه الفترة، صدور مجموعة من أعماله العلمیة الرائدة، وفي مقدمتها (کتاب الأسس المنطقیة للاستقراء)، إضافة إلی دروسه في علم أصول الفقه، التي أرادها أن تکون منهجاً تجدیدیاً في هذا العلم. وفي الوقت نفسه، بدأ الکثیر من الاتجاهات الإسلامیة والرموز الدینیة وبعض أوساط الحوزة العلمیة یطالب السید الصدر بالتقدم لموقع المرجعیة الدینیة وطرح مرجعیته وإصدار رسالته العلمیة، ولم یقتصر هذا الجو علی العراق، بل تعداه إلی بعض البلدان الإسلامیة أیضاً. وکان الشهید الصدر یری أن هذه القضیة الحساسة بحاجة إلی المزید من التأمل والدراسة، رغم أنه بات مقتنعاً بأن الفراغ الذي یتسببه عدم وجود مرجعیة متصدیة للأوضاع في العراق، لم یعد محتملاً، وأنه یؤدي إلی تصدع حقیقي في کیان المؤسسة الدینیة وعموم الحالة الإسلامیة والمجتمع المسلم. ویبقي الإعلان عن مرجعیة السید الصدر مجرد مسألة وقت.

ومرة أخری یستأنف النظام حملته ضد الواقع الإسلامي، ولکن بصورة تختلف هذه المرة عن سابقتها، فالهجوم هذه المرة کان واسعاً کماً ومرکزاً نوعاً، ففي منتصف عام 1974م، قام النظام الحاکم باعتقال السید محمد باقر الصدر للمرة الثانیة خلال سنتین تقریباً، وأکثر من سبعین کادراً وقیادیاً بتهمة الانتماء إلی حزب الدعوة الإسلامیة، بینهم عدد کبیر من العلماء وأساتذة الحوزة، إضافة إلی عدد کبیر من المشتبه بعلاقتهم بالجماعات الإسلامیة. وعلی­الرغم من إطلاق سراح السید الصدر فیما بعد، إلا أن الدلائل کانت تشیر إلی أنه کان أهم المستهدفین في هذا الهجوم الشرس، نتیجة إحساس النظام بأن مرجعیته الرشیدة المتصدیة في طریقها للإعلان، وأن التحرك الإسلامي العراقي یرتبط به کمحور قیادي وفکري وإرشادي، فکان الکثیر من المعتقلین من وکلائه وتلامذته ومریدیه، أو ممن عمل معه وتحت إشرافه. وقد أدرکت القیادات المعتقلة ذلك، فأوصت عناصرها في السجن بضرورة عدم حصول السلطة علی أیة معلومة أو اعتراف ضد السید الصدر، للحیلولة دون إعطاء أیة ذریعة بأیدي السلطة، لأنه ۔ کما أشارت هذه التوصیات ۔ أمل الإسلام ورمزه، والمساس به یعني هدم کیان المرجعیة الرشیدة وتمکین السلطة من الإسلام، وهکذا لم تحصل السلطة علی أي اعتراف، مهما کان جزئیاً وعابراً ضد السید الصدر. وفي الوقت نفسه شهدت أوساط الحالة الإسلامیة نقاشاً حول خروج السید الصدر من العراق، للحافظ علیه والحیلولة دون محاولات قتله وتصفیته، إلا أن الشهید الصدر کان یرفض أیة فکرة بالخروج من العراق، لأنه کان یعتبر مکانه الطبیعي الذي ینفذ من خلاله مشروعه الشامل هو النجف الأشرف.

وصدرت الأحکام ضد المعتقلین، دون محاکمة حقیقیة، وکان الإعدام نصیب خمسة منهم، والسجن المؤبد ومدد مختلفة للباقین. وجرت مساع حثیثة من قبل العلماء والحوزة العلمیة في العراق وخارجها لمنع تنفیذ أحکام الإعدام، کان أهمها ما فعله الشهید الصدر، الذي حصل علی تأکیدات من قبل عضو في القیادة القومیة للحزب الحاکم بأن الأحکام لن تنفذ، ولکن تأخیرها کان خدیعة من قبل السلطة، لامتصاص ردود الفعل. فتم إعدامهم في أواخر عام 1974م. وبعد إعلان النبأ، أصیب السید الصدر بحالة شبیهة بالغیبوبة، وعطل الدراسة واعتزل الناس لبضعة أیام.

وبعد إعدامات واعتقالات وتهجیرات عام 1974م، تصور النظام أنه قضی تماماً علی التحرك الإسلامي داخل العراق، ولکن الذي حدث کان العکس، الأمر الذي حمل صدام حسین علی وصف الإسلامیین بـ(النمل) الذي یخرج من جهة أخری إذا هدمت بیته من جهة، وطالب بصب الزیت علیهم وحرق الأخضر والیابس دون تراجع[9]. فتم إبعاد أکثر من (1500) عالم دین وطالب في الحوزة العلمیة إلی الخارج في عام 1975م، واعتقال المئات من الإسلامیین والحکم علیهم بمدد مختلفة، بعد تعریضهم لأبشع ألوان التعذیب.

ثم شهد عام 1976م هدوءً ظاهریاً ملحوظاً، بسبب الأسالیب المعقدة التي اعتمدتها الفعالیات الإسلامیة في التحرك، والتي لم تکن تعطي بید السلطة أیة ذریعة، فکان کل شيء مبهماً بالنسبة لها، حتی أیقنت مرة أخری أنها قد حققت أهدافها في القضاء علی التحرك الإسلامي، الأمر الذي أفاد الواقع الإسلامي کثیراً، فشعر بنوع من الاستقرار والتعامل مع الأوضاع بروح المبادرة لیس بردود الفعل. أما العامل الأساس الآخر الذي یعود إلیه الفضل في توسع الحالة الإسلامیة وامتدادها ثانیة خلال هذه الفترة، فهو تصدي الإمام السید محمد باقر الصدر للمرجعیة الرشیدة (کأطروحة تجدیدیة للمرجعیة الدینیة).

ولزعامة جزء کبیر من الحوزة العلمیة، بعد نشر رسالته الفقهیة العملیة (الفتاوی الواضحة) واتساع دائرة مقلدیه، وبنائه جهازه المرجعي، ومساهمة وکلائه في الکثیر من مناطق العراق مساهمة أساسیة في ربط الجماهیر بالمرجعیة الرشیدة ونشر الوعي الإسلامي في أوساطها.

وقد برز هذا الواقع الجدید الذي یقوده الشهید الصدر، علانیة، ولم یعد منظّراً ومحرکاً له فقط في أحداث السنوات اللاحقة، وفي مقدمتها انتفاضة صفر الإسلامیة عام 1977م، التي لم تشهد النجف الأشرف مثیلاً لها في تاریخها الحدیث، سوی ثورتها ضد الإنجلیز عام 1917م. فقوة انتفاضة صفر أربکت النظام ومعادلاته، بحیث أعلن النفیر العام في صفوف حزبه، وحالة الطوارئ القصوی في القوات المسلحة. کما جاءت الأوامر إلی الجیش والجیش الشعبي والشرطة والأمن والمخابرات بسحق الانتفاضة دون رحمة. وبعد صدامات مسلحة واسعة، انتهت الانتفاضة بصورة مأساویة، إذ وصل عدد المعتقلین من الثوار الإسلامیین نحو (30) ألف معتقل، وکان الاستجواب الأکثر حساسیة الذي وجه لرؤوس الانتفاضة ومحرکیها یدور حول علاقتهم بالإمام الصدر والحرکات الإسلامیة. فقد منح السید الصدر مبارکته وتأییده للانتفاضة منذ بدایتها، وتابع تطوراتها وتفاصیلها وشملها برعایته وتوجیهه، کما وافق علی ذهاب أحد أبرز تلامذته إلی ساحة الانتفاضة لإعلان دعم السید الصدر لها، ومحاولة إقناع زعمائها بعدم إعطاء النظام مبرراً لقمعها، بعد أن وصلت السید الصدر معلومات سریة مفادها أن السلطة تنوي إبادة المنتفضین، إذ أن مسؤولي الأمن والحزب في النجف صوروا لقیادتهم في بغداد بأن زعماء الانتفاضة یتحرکون بأوامر السید الصدر.

الانتصار الإسلامي في إیران

لم تکن الثورة الإسلامیة الإیرانیة حدثاً محلیاً أو إقلیمیاً علی الصعیدین الجغرافي والزمني، بل إن لها من الأبعاد العمیقة ما یجعلها منعطفاً ونقطة تحول في تاریخ الإنسانیة الحدیث. وکان من الطبیعي أن یکون العراق هو الأکثر تأثراً بهذا الحدث والتغییر الکبیر، لعوامل عدة أهمها:

١. جغرافیاً: یشترك البلدان بحدود طولها (1280)کم، وهما یشکلان وحدة جغرافیة واحدة تقریباً (المناخ، التضاریس، الثروات الطبیعیة، المیاه وغیرها). فضلاً عن المشترکات الکثیرة جداً في حقول الجغرافیة السکانیة.

٢. تاریخیاً: یرتبط أسماهما بأحداث کبری، تعود إلی ما قبل الإسلام. فعاصمة الدولة الفارسیة الساسانیة کانت قرب بغداد، وبعد الفتح الإسلامي، أصبحت بلاد فارس جزءً من الدولة الإسلامیة، التي کان العراق مرکزها مئات من السنین، کما ألحق العراق بإیران في مراحل زمنیة أخری.

٣. سکانیاً: تبلغ نسبة المسلمین في إیران 98­% أیضاً من عدد السکان، وفي العراق 98­%، ویشکل أتباع أهل البیت عليهم السلام في إیران 93­% وفی العراق 64­%، أي أنهم الأغلبیة في کلا البلدین. کما أن القومیات واللغات والتقالید فیها الکثیر من الاشتراك بین البلدین، فضلاً عن العلاقات الاجتماعیة والعائلیة المتشابکة.

4. عقائدیاً: یرتبط شعبا البلدین بمراکز ورموز دینیة مشترکة، کمراقد أئمة أهل البیت عليهم السلام وأبنائهم، المنتشرة في کلا البلدین، والحوزات العلمیة، وخاصة في النجف وقم، والمرجعیات الدینیة العلیا التي یجمع الشعبان علی الولاء الدیني لها.

5. موضوعیاً: یحظی العراق بوجود المرجعیة الدینیة الثائرة المتمثلة بالإمام السید محمد باقر الصدر، والتي تسیر باتجاه واحد مع مرجعیة الإمام الخمیني، وتحمل أفکارها. وتدین بالولاء لها. إضافة إلی وجود حالة إسلامیة کبیرة تتمتع بالامتداد والقوة والشمول، وکذلك الخلفیة الدینیة المتجذرة للشعب العراقي، والتي فجرت الکثیر من الأحداث الکبری منذ أوائل القرن الحالي. هذه الأحداث کان بإمکانها ۔ عند توافر بعض الظروف الموضوعیة ۔ أن تتحول إلی دولة إسلامیة[10].

واشتمل التأثر بالثورة الإسلامیة، الخارطة السیاسیة في العراق بأکملها، سلباً وإیجاباً. فلا شك أن النظام العراقي ظل أکثر الأنظمة تأثراً ۔ بالسلب ۔ بالثورة الإسلامیة في إیرن، مما جعله أکثر الأنظمة عداءً وإساءةً لها. وقبل الانتصار، کان السید الصدر وتیاره قد أعلنا ولاءهما للإمام الخمیني، وعملاً علی دعم الثورة الإسلامیة فکریاً وإعلامیاً وجماهیریاً، سواءً في داخل العراق أو الدول العربیة والأوروبیة. وحین کان الإمام الخمیني في باریس، أرسل إلیه السید الصدر رسالة مسهبة، نیابة عن النجف والمرجعیة والشعب العراقي، وجاء في مقدمتها:

إننا في النجف الأشرف، إذ نعیش مع الشعب الإیراني بکل قلوبنا ونشارك آلامه وآماله، نؤمن أن تاریخ هذا الشعب العظیم، أثبت أنه کان ولا یزال شعباً أبیاً شجاعاً وقادراً علی التضحیة والصمود من أجل القضیة التي یؤمن بها ویجد فیها هدفه وکرامته.

وتحول العراق إلی وجه آخر للانتصار الإسلامي في إیران، فمنذ الیوم الأول للانتصار في شباط 1979م، خرجت الجماهیر تتبادل البشری وتوزع الحلوی في الشوارع وتنشر الورود، علی مرأی ومسمع من السلطة. وأعلن السید الصدر عن تعطیل الدراسة في الحوزة العلمیة مدة ثلاثة أیام ابتهاجاً بالانتصار. وخرجت في الیوم نفسه تظاهرة تأیید للثورة في النجف الأشرف، فتصدت لها قوات السلطة، وکانت أول مجابهة علنیة بعد انتصار الثورة بین الإسلامیین والسلطة، تجري فصولها في الشارع. وفي الوقت نفسه، أعلن السید محمد باقر الصدر علی الملأ بیعته الشرعیة للإمام الخمیني.. قائداً للأمة وولیاً لأمر المسلمین، نیابة عن الحوزة العلمیة والحالة الإسلامیة والشعب العراقي. وجاء في برقیة البیعة: (وإنا إذ نتطلع إلی المزید من انتصاراتکم الحاسمة نضع کل وجودنا في خدمة وجودکم الکبیر، ونبتهل إلی المولی سبحانه وتعالی أن یدیم ظلکم ویحقق أملنا في ظل مرجعیتکم وقیادتکم). وهذا النوع من البیعة شيء نادر بین المراجع المسلمین، ولم یتعود علیه عرف الحوزة العلمیة، فالمرجع یحتفظ ۔ عادة ۔ بکیانه وولایته علی مقلدیه، إلا أن السید الصدر عمل وفقاً لرؤیته الفقهیة لموضوع إمامة المسلمین، إذ یعتقد بوحدتها واشتمالها علی المسلمین کافة، فیقول: بأن (المرجعیة الرشیدة هي المعبِّر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام (المعصوم) من الناحیة الشرعیة)[11].

وبعد أن طرح الإمام الخمیني مشروع دستور الجمهوریة الإسلامیة علی طاولة البحث في إیران، بادر السید الصدر إلی المساهمة في إثرائه، بآرائه ونظریاته ولا سیما الدراسة التي قدمها إلی الإمام الخمیني قبل طرح مسودة تحت عنوان (لمحة فقهیة تمهیدیة عن مشروع دستور الجمهوریة الإسلامیة في إیران). وقد وردت أکثر أفکار السید الصدر في الدستور الإسلامي الإیراني، وهو ما کان واضحاً حتی لدی الدوائر الغربیة، إذ تقول أمریکیة متخصصة بأن آیة الله الصدر یعد (أحد الآباء الفکریین لدستور الجمهوریة الإسلامیة)[12] وإن آراءه الفکریة والسیاسیة (عملت علی تقویة موقع آیة الله الخمیني فیما یتعلق بمنصبه کفقیه للحکومة الإسلامیة)[13]. ثم کتب السید الصدر بعد شهر من انتصار الثورة خمس دراسات أخری عن الدولة الإسلامیة، کجهد فکري تمهیدي في سبیل خدمة النظام الإسلامي، جمعت في کتاب (الإسلام یقود الحیاة).

ردود فعل النظام

من السهل علی المراقب ملاحظة العدید من الظواهر التي أفرزتها ثورة إیران الإسلامیة في الشارع العراقي، فقد أوجدت وعیاً دینیاً وسیاسیاً وجهادیاً في الأمة، کما انضجت الوعي الموجود، بصورة اجتاحت العراق موجة تدین واسعة للغایة، رافقها نزوع شدید نحو العمل الإسلامي، وانتهت الحالة یتطلع الشعب العراقي إلی ثورة ونظام شبیهین بإیران الإسلامیة.

ومما لا شك فیه أن الثورة حطمت معظم طموحات النظام العراقي وجهوده المبذولة خلال الأعوام العشرة من عمره لتحویل العراق إلی بلد دیني، کما أربکت معادلاته علی الصعید الخارجي، کاجتیاح الخلیج وعموم المنطقة سیاسیاً وحزبیاً، ولعب دور قیادي علی مستوی البلدان العربیة أجمع. ومن هنا کان طبیعیاً أن یتعاظم عداء النظام العراقي للثورة الإسلامیة، وتکون ردود فعله حادة للغایة، ولا سیما بدخول العامل الأساس، الذي یکمن في الصراع الحضاري والإیدیولوجي بین الطرفین، مما دفع النظام إلی فتح جبهتین واسعتین لحسم الصراع، إحداهما في الداخل في مواجهة الحالة الإسلامیة العراقیة وامتدادات الثورة، والثانیة في الخارج، في مواجهة الثورة الإسلامیة الإیرانیة مباشرة، ومواجهة تأثیراتها في العالم الإسلامي أیضاً، وکان مما فعله في الجبهتین، شن حرب إعلامیة شرسة ضد الثورة، مستغلاً کل وسائل إعلامه في الداخل والخارج، ووصف الثورة بالرجعیة والطائفیة والعنصریة والشعوبیة والعمالة وانتهاءً بالمجوسیة، واحتضان أعداء الثورة الإسلامیة من رجالات النظام السابق وغیرهم ووضع جمیع الإمکانات بین أیدیهم، والقیام بحملة إفساد منظمة الشعب العراقي لم یشهد العراق مثیلاً لها في تاریخه، لسحب البساط من تحت أقدام موجة الوعي الدیني التي کانت ترعبه بشدة، وإثارة الفتن والنعرات العرقیة والطائفیة في داخل إیران، وتحدیداً في کردستان وخوزستان، فقام عملاؤه بالکثیر من أعمال العنف والشغب، والقتل والتفجیر. وأخیراً، التحرش العسکري المباشر، والذي بدأ في 4 نیسان 1979م، أي بعد أقل من شهرین من انتصار الثورة[14].

وحیال کل هذا التآمر، کان السید الصدر یعمل في حدود إمکاناته وإمکانات تیاره الإسلامي المتنامي، علی المواجهة.. دفاعاً مرة وهجوماً أخری، وعلی مستویین، آني وبعید المدی، فعلی سبیل المثال، کان یخطط لإجراء تحول في واقع الشعب العربي في إیران، للحؤول دون استغلاله من قبل النظام العراقي، وقد تحرك بهذا الاتجاه فعلاً. وکان قد بعث لعرب إیران رسالة یحثهم فیها علی احتواء الفتنة القومیة، جاء في جانبها:

إني أخاطبکم باسم الإسلام وأدعوکم وسائر الشعوب الإیرانیة العظیمة لتجسید روح الأخوة الإسلامیة التي ضربت في التاریخ مثلاً أعلی في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقین، الذي لا فضل فیه لمسلم علی مسلم إلا بالتقوی.. فلتتوحد القلوب ولتنصهر الطاقات في إطارة القیادة الحکیمة للإمام الخمیني.

علی طریق الثورة

العوامل الموضوعیة التي وضعت العراق علی طریق الثورة الإسلامیة، تمثلت بالرکائز الثلاثة التالیة:

الأولی: المرجعیة القائدة للسید محمد باقر الصدر

تصدي السید الصدر لقیادة الواقع الإسلامي، وإعلان دعمه الکامل للإمام الخمیني، وانتشار أطروحته في المرجعیة الموضوعیة وتبنیه لها عملیاً، لعبت بمجموعها دوراً أسیاسیاً حتی باتت أجهزة الإعلام والمخابرات الغربیة تصفه بـ(خمیني العراق) و(آیة الله العراق) ففي هذه المرحلة توسعت مرجعیة السید الصدر بصورة کبیرة، وأصبحت ثاني المرجعیات الکبری في النجف الأشرف، وقد طرح مرجعیته بمضمون وشکل مختلفین عن المرجعیات التقلیدیة السائدة، التي أسماها بـ(المرجعیة الذاتیة) أما أطروحته المرجعیة، فأطلق علیها (المرجعیة الموضوعیة) أو (المرجعیة الرشیدة) أو (المرجعیة الصالحة)، والتي من شأنها تحویل المرجعیة الدینیة إلی قیادة اجتماعیة ونظام دیني مؤسساتي متکامل، کي لا تکون فردیة في عملها وارتجالیة في مواقفها، ویمکنها تحقیق الأهداف العلیا للإسلام.

وصدد لهذا النظام ثلاثة أسس:

١. إیجاد جهاز متکامل فیه جناحان: علمي تخطیطي، وآخر تنفیذي، تعمل المرجعیة من خلالهما، ویقومان علی أساس الکفاءة والتخصص وتقسیم العمل. ویحتوي الجهاز علی عدة لجان لتسییر الوضع الدراسي في الحوزة، وللإنتاج العلمي، ولشؤون علماء المناطق، وللاتصالات ولرعایة العمل الإسلامي، وللشؤون المالیة.

٢. إیجاد امتداد حقیقي أفقي للمرجعیة یجعل فیها محوراً قویاً، ویتمثل الامتداد في شرائح الأمة المختلفة.

٣. إیجاد امتداد زمني للمرجعیة أوسع من حیاة الفرد، أي تبقی الأجهزة والأنظمة المرجعیة قائمة بعد وفاة المرجع، لیتسلمها منه المرجع الجدید[15].

وعمل الشهید الصدر علی توسیع دائرة ممثلیه ووکلائه في المدن العراقیة، فبلغ عددهم أکثر من (100) وکیل، وسعی إلی تحویل بعض جوانب أطروحته في المرجعیة الموضوعیة إلی واقع عملي.

الثانیة: الجماعات والفعالیات الإسلامیة

وقد عمل الشهید الصدر علی إعادة ترتیب أوضاعها ومراقبة عملها بصورة مباشرة، ودفعها نحو التکامل مع مرجعیته، ودعمها بالمال، کجزء من التحضیر لمشروع الثورة.

الثالثة: الجماهیر المسلمة

أدی الصراع بین الواقع الإسلامي الذي یقوده الشهید الصدر وبین النظام الحاکم علی کسب تأیید الشعب، إلی وضع مضطرب جداً في الساحة، وتلاطم في الأفکار والأهواء والمصالح، وتمایز فاصل في الولاءات. وبات واضحاً إن عدم التکافؤ في الإمکانات بین الطرفین، لم یحل دون إعلان شرائح واسعة من الأمة عن ولائها للشهید الصدر، والتعبیر عن ذلك بوسائل مختلفة.

هذه الرکائز کانت مواد التفجیر وعناصر الثورة المنتظرة، والتي کان الشهید الصدر یتسلسل في الإعلان عنها. ومن أهم الخطوات التي أقدم علیها في هذا المجال:

١. أفتی بحرمة الانتماء للحزب الحاکم والتعاون معه تحت إي عنوان، ولو کان انتماءً شکلیاً.

٢. أفتی بحرمة دخول الطالبات إلی الجامعات بدون الالتزام الکامل بالحجاب الإسلامي.

٣. أفتی بحرمة الصلاة خلف رجال السلطة المتلبسین بزي علماء الدین.

4. استنفر تلامذته وممثلیه ووکلاءه للعمل بین الجماهیر في مناطق البلاد، وتعبئتها ضد السلطة.

5. أرسل أحد أبرز تلامذته (آیة الله السید محمود الهاشمي) إلی خارج العراق؛ لیکون ممثلاً عنه لدی قیادة الثورة الإسلامیة في إیران، والفصائل الإسلامیة والجماهیر في المهجر، لعمل برنامج موحد.

وقد ترتب علی هذه الخطوات تحولات وأحداث کبیرة، بدأت في نیسان 1979م، واستمرت حتی حزیران 1979م، حیث شهدت الأوضاع منعطفاً کبیراً. وردّاً علی ذلك، قامت السلطة بهجومها الثالث الکبیر علی الحالة الإسلامیة، فأخضعت تلامیذ السید الصدر وممثلیه تحت الرقابة المشددة واعتقلت قسماً منهم، وأخذت تراقب رواد المساجد والمشارکین في الشعائر الدینیة، وکل من یشتبه بعدم ولائه للسلطة. کما قام النظام بالتضییق علی السید الصدر نفسه ومنعه من مزاولة بعض نشاطاته، إلی حد محاسبته علی مجلس الفاتحة الذي أقامه علی الشهید الشیخ مرتضی المطهري، بذریعة أن المطهري شخص إیراني.

وخلال ذلك سرت شائعة قویة في أوساط المسؤولین الإیرانیین، بشأن عزم الشهید الصدر علی مغادرة العراق. فأبرق السید الإمام الخمیني طالباً منه عدم مغادرة العراق: (إنني لا أری من الصالح مغادرتکم مدینة النجف الأشرف مرکز العلوم الدینیة، وإنني قلق من هذا الأمر.. آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتکم). فأبرق الشهید الصدر مجیباً: (إني استمد من توجیهکم الشریف نفحة روحیة، کما أشعر بعمق المسؤولیة في الحفاظ علی الکیان العلمي للنجف الأشرف). وحقیقة الأمر أن السید الصدر لم یکن ینوي ترك البلاد، وهو ما صرح به لتلامذته[16]. وقد انتشر هذا الموضوع (شائعة مغادرة الصدر العراق وتبادل البرقیتین بین الإمام والشهید) بسرعة مذهلة في العراق من أقصاه إلی أقصاه، فاستثمرته الفعالیات الإسلامیة، وحشدت الجماهیر علی شکل وفود لزیارة السید الصدر في النجف وإعلان البیعة والولاء له، واستمرت وفود البیعة بالتقاطر علی القائد تسعة أیام متتالیة، ولم تکن السلطة تتوقع هذا الولاء للمرجعیة الدینیة، والذي انعکس في الخارج بقوة أیضاً، مما دفع السلطة إلی إجراءات أکثر حزماً، بل إجراءات فاصلة. وبالفعل فقد انفجر الوضع، فبعد یوم واحد من انتهاء وفود البیعة، أقدمت السلطة علی اعتقال السید الصدر، واقتادته إلی العاصمة محاطاً بسیارات قوی الأمن المدججة بالسلاح. وکان الهدف هو حمل السید الصدر علی المساومة أو التصفیة. أما الذي حال دون تنفیذ حکم الإعدام فهو انتظار ردود فعل الشعب. وعلی إثر ذلك، فجرت بنت الهدی الصدر (شقیقة الشهید) الموقف، وأعلنت للملأ عن اعتقال أخیها، فخرجت التظاهرات في صباح الیوم نفسه في أکثر من إحدی عشرة مدینة، وهي تطالب بإطلاق سراح الصدر. وعرفت الأحداث هذه بـ(انتفاضة رجب) التي تعد علامة ممیزة في تاریخ التحرك الإسلامي في العراق في هذا القرن، لما لها من أبعاد شدیدة العمق، وقد اعتبر النظام الحاکم هذا الانفجار ثورة حقیقة، قد نجحت لولا الإجراءات القمعیة الشدیدة التي اتخذتها السلطة. ونتیجة الضغط الجماهیري، أطلق سراح الإمام الصدر، وکان ذلك أول نتیجة إیجابیة للانتفاضة، مما حمل السلطة علی الاعتقاد بضرورة اتخاذ إجراءات مناسبة قبل الإقدام علی عمل مشابه في المستقبل.

وعلی إثرها بقي الشهید الصدر محتجزاً في بیته طیلة تسعة أشهر، منعته السلطة خلالها من مزاولة حتی أعماله العادیة، کالتدریس والصلاة، ومنع حتی الأطباء من زیارته، رغم تدهور حالته الصحیة، وقامت السلطة بإخلاء الدور المحیطة ببیته، وزرعت المنطقة برجال الأمن، ونصبت أجهزة التصویر والتنصت داخل منزله، رغم أن الزیارات إلیه کانت ممنوعة بتاتاً، حتی من أقاربه.

وخلال ذلك قامت السلطة بحملة اعتقالات واسعة، شملت ما یقرب من ثمانیة آلاف إسلامي، أعدم منهم (86)، وحکم علی المئات بالسجن المؤبد أو بمدد مختلفة. وکان من بین المعدومین عدد من تلامذة وممثلي الشهید الصدر. ثم اعتقلت السلطة أکثر من ثلاثة آلاف إسلامي آخر، أعدمت منهم (40) شخصاً، وحکمت علی الآخرین بین السجن المؤبد والسجن لمدد مختلفة وحینها لم یکن أمام الشهید الصدر سوی الإفتاء بوجوب الکفاح المسلح وجوباً کفائیاً، دفاعاً عن النفس. کما دعا في ندائه الأول الذي أصدره في منتصف حزیران 1979م الشعب العراقي مواصلة طلباته إلی النظام (مهما کلفه ذلك من ثمن، لأن هذا دفاع عن النفس.. دفاع عن الکرامة.. دفاع عن الإسلام). وحینها تحرکت الفصائل الإسلامیة معلنة الکفاح المسلح، وباتت العملیات العسکریة المضادة للسلطة تمارس بشکل یومي، إلا أنها لم تکن تردع النظام أو توقفه عند حدود معینة من القمع والإرهاب، بل کانت تستفزه للمزید من الهستیریا.

وقد عملت الجمهوریة الإسلامیة في إطار واجبها تجاه الشعب المسلم الجار، علی دعم الواقع الإسلامي فیه، ومحاولة رفع جزء من الضیم عنه، فحاول الإمام الخمیني إرسال ممثل عنه إلی الشهید الصدر، کما حاول السفیر الإیراني في بغداد زیارته، إلا أن المحاولتین فشلتا. ثم اتصلت به مندوب عن الإمام الخمیني تلفونیاً، حیث أجاب خلال الاتصال السید الصدر علی برقیة الإمام الخمیني بقوله: (وإني إذ لا یتاح لي الجواب علی البرقیة، لأني مودع في زاویة البیت، ولا یمکن أن أری أحداً أو یراني أحد).

وأخذت معاناة الشهید الصدر من حالة الوعي في الحوزة العلمیة تأخذ طالباً آخر، فقد کان متقدماً علیها بأشواط کبیرة للغایة، کما کانت السبب في عدم تفاعل کثیر من أوساط الحوزة مع مشروعه التغییري؛ الأمر الذي کان یحول دون استمراره أو نجاحه، بل کانت عبئاً ثقیلاً علیه.

رائحة الموت في کل مکان

کانت أوضاع النظام غیر المستقرة، تتسبب في قلق الدوائر الاستکباریة، الأمر الذي فتح عنه تغییر في قمة هرم السلطة، فحل صدام حسین محل أحمد حسن البکر، کحل تفرضه المرحلة، والتي لابد أن تکون حاسمة، ویتم خلالها استئصال أيّ تحرك إسلامي مضاد ۔ حسب الدوائر الاستکباریة ۔ ویذکر أن الأحداث انطلقت برؤیة بریطانیة للأوضاع الجدیدة، وتلخص السیناریو بتقدیم قائمة إلی البکر تضم (300) شخصیة إسلامیة، بینها السید محمد باقر الصدر، للتوقیع علی إعدامها، ومقابل رفض البکر، هدده نائبه بالمصیر نفسه. وحدث خلاف في قیادة الحزب الحاکم، أدی إلی تسلم النائب للسلطة الأولی، واعتقال جمیع القادة المعارضین في النظام، فأعدم (22) منهم. وحینها فتحت أبواب مرحلة جدیدة من المعاناة أمام الواقع الإسلامي[17].

وکان الوضع مهیأ للانفجار ضد النظام، إلا أن اعتقال السید الصدر في بیته، وفصله عن العالم الخارجي، کان یحتم وجود بدیل للسید الصدر في قیادة الانفجار واستثماره، إلا أن واقع الحال کان یؤدي إلی خیبة أمل کبیرة، جعلت الشهید الصدر یعیش مرارة یصعب وصفها[18]. وفي الوقت نفسه کانت السلطة مستمرة في قص أجنحة حرکة الصدر، لتقضي علی أي رد فعل محتمل حین اعتقاله وإعدامه.

فبلغ عدد الذین تمت تصفیتهم من الإسلامیین حتی نهایة عام 1979م، أکثر من ثلاثة آلاف شخص. ثم تصاعدت بشکل کبیر في الأشهر الأولی من عام 1980م، حتی تقول صحافیة مصریة عاشت أحداث تلك الفترة بتفاصیلها: (کنت طیلة الشهور قبل أبریل 1980م، أسمع عن الإعدامات الجماعیة التي یساق لها الشباب المسلم: 300، 400 شاب یومیاً)[19]. وکان معظم الشهداء، من تلامذة السید الصدر ووکلائه وأنصاره وجمهوره. ورافقت حملات الإعدام حرب نفسیة شدیدة مارستها السلطة ضد الصدر، حیث کانت تخبره یومیاً بأسماء المعدومین من المقربین إلیه وأنصاره، إمعاناً في إیلامه والتنکیل به، وهو محاصر في بیته.

وتحرکت المنظمات الدولیة لحقوق الإنسان تحرکاً صوریاً للدفاع عن معاناة السید الصدر، ولکن دون أي جدوی، فقد ذکر تقریر منظمة العفو الدولیة بأن الماء والکهرباء قد قطعا عن دار آیة الله الصدر، وإن الطعام یجلب له مرة واحدة في الأسبوع، ولا یسمح له بمغادرة الدار، حتی الذهاب إلی المسجد، وکذلك لا یسمح له باستقبال الزوار من أصدقائه أو طلابه، ولم یسمح أیضاً بزیارة الطبیب له رغم تدهور حالته الصحیة، وتم إشغال الدور المحیطة ببیته بعناصر الأمن[20]. بل أصبحت عائلة الصدر في حالة یرثی لها حین قطع عنها الطعام نهائیاً.

وحاولت السلطة قتل السید الصدر عدة مرات وهو في بیته، کي لا تتورط علناً بدمه، فحفرت نفقاً تحت البیت، في محاولة لهدمه، کما أرسلت ضابطاً لاغتیاله، إلا أن الضابط تاب علی یدیه، فأعدمته السلطة، ثم عاودت المحاولة أکثر من مرة إلا أنها کانت تفشل بسبب أخطاء فنیة بسیطة. وفي هذه المرحلة فکر الشهید الصدر في تشکیل القیادة النائبة التي تتکون من عدد من تلامذته البارزین والشخصیات الإسلامیة المعروفة، لتأخذ علی عاتقها قیادة التحرك الإسلامي في فترة حجزه أو بعد استشهاده، إلا أن عوامل معینة ۔ لا مجال للخوض فیها ۔ حالت دون تحقیق هدفه[21].

الاستشهاد.. خاتمة الملف

لا یمکن أن یکون الموت خاتمة حیاة الرجال العظام الذین صنعوا تاریخ الإنسانیة، فهؤلاء یظلون أحیاء بأفکارهم ومشاریعهم، وبالأجیال التي أوجدوها وصاغوا شکلها ومضمونها، لتحمل هم الفکرة والمشروع من بعدهم. والشهید الصدر أحد الذین یقفون في مقدمة صنّاع التاریخ الإسلامي. فبرغم أن السلطة کانت تهدف من وراء إعدامه إلی تصفیة الواقع الذي صنعه، ومحو اسمه وفکره من ذاکرة الأمة إلا أن الذي حصل هو العکس تماماً. ومن هنا لا یمکن أن نعد استشهاده خاتمة للملف السیاسي في مشروعه، اللهم إلا من باب الممارسة الواقعیة للعمل السیاسي، فإن الشهادة کانت خاتمتها بالفعل.

حین خففت السلطة من حجم الحصار علی السید الصدر وداره، کان المراقبون یعتقدون أن هذا الحدث هو عملیة جس نبض أخری لردود الفعل. فجاءت ردود الفعل هذه المرة أیضاً علی خلاف ما توقع النظام، فقد أقبلت علیه الجماهیر بکثافة علی مرأی ومسمع من النظام، رغم ما فعله من إجراءات الإرهاب والقمع والقتل. فأعادت وضع الحجز علی ما کان علیه من قبل. وفي 31 آذار 1980م، أصدر مجلس قیادة الثورة العراقي قراراً ۔ بتوقیع صدام حسین ۔ بإعدام کل المنتسبین إلی حزب الدعوة أو العاملین لتحقیق أهدافه تحت واجهات ومسمیات أخری، وهذا یعني إبادة التحرك الإسلامي بمسوغات قانونیة. وکان الإمام محمد باقر الصدر أبرز المستهدفین في هذا القرار، الذي جاء ورقة ضغط جدیدة بید السلطة في مفاوضاتها مع السید الصدر، إذ طرحت علیه ثلاثة شروط، مقابل عودته إلی الحیاة الطبیعیة، وإلا فإنه سیعدم، وتلخصت الشروط بإلغاء الفتوی التي أصدرها الصدر بحرمة الانتماء لحزب البعث، والبراءة من الإمام الخمیني والامتناع عن دعم الثورة الإسلامیة في إیران، والبراءة من التحرك الإسلامي والإفتاء بحرمة الانتماء لحزب الدعوة. فرفض السید الصدر هذه الشروط جملة وتفصیلاً.

ثم تنازل النظام عن شروطه واکتفی بواحد فقط یختاره الصدر نفسه، فرفض أیضاً، وطرد ممثلي السلطة، وامتنع عن مقابلتهم فیما بعد، وحینها کان یتوقع إعدامه في أي وقت، حیث قال، (إني أتمنی وأرجو الله أن یرزقني الشهادة، فإن الدم لم یعدله شيء. متی یتورط هؤلاء بدمي)[22].

واعتقل الإمام الصدر في 6 نیسان 1980م. وأرسل إلی بغداد فوراً بعد احتجاز عائلته. واتخذت السلطة إجراءات مکثفة لخنق أي ردود فعل تجاه اعتقاله کما حدث في 17 رجب، لعل من أبرزها: حملات التهجیر الواسعة إلی إیران، والتي شملت آلاف العوائل العراقیة، إذ بدأت في الیوم السابق علی اعتقال السید الصدر، وحملات الاعتقال العشوائیة الرهیبة التي لم یشهد تاریخ العراق مثیلاً لها، والتعتیم الإعلامي الشدید علی حادث الاعتقال، وبث الإشاعات السلبیة ضد السید الصدر وحرکته. فحین اعتقل السید الصدر کان الشعب في الوسط والجنوب مشغولاً بنفسه. فبین معتقل ومهجّر وملاحق، أو مدعو لتسلیم جثة أحد ذویه، أو یودع أهله وأقاربه المهجرین، أو یبحث عن معتقل من ذویه. کما أن 90­% من تلامذة الصدر والمقربین والشخصیات الإسلامیة العاملة، کانوا أیضاً بین معتقل أو معدوم أو متخف أو مهاجر خارج العراق.

وفي الأقبیة السریة لمدیریة الأمن العام والقصر الرئاسي تعرض الإمام الصدر إلی صنوف التعذیب النفسي والجسدي ثلاثة أیام متتالیة، شارك فیه رئیس النظام نفسه، بغیة حمل الصدر علی المساومة، ثم أقدم رئیس النظام صدام حسین في 8 نیسان 1980م. علی تفریغ رصاصات مسدسة في قلب ورأس السید محمد باقر الصدر، فسقط مضرجاً بدمائه[23].

إن إعدام السید الصدر قضیة ذات أبعاد واسعة، تاریخیة وحضاریة ودینیة وسیاسیة، فجذورها الحضاریة تمتد عبر قرون طویلة من الصراع بین الإسلام وأعدائه، وجذورها التاریخیة ممتدة في عمق المشروع السیاسي الطائفي الذي طرحه العثمانیون لإدارة العراق وحوله الإنجلیز إلی نظام سیاسي ظل قائماً منذ عام 1920م، أما الدینیة فلها علاقة بأهداف الحزب الحاکم في تصفیة الوجود الدیني التغییري في البلاد، وسیاسیاً یتمثل في القضاء علی المعارضة الثوریة وقیادتها ویصور مصدر غربي مجمل هذه الأبعاد بقوله: (إن النظام وضع في حسابه أن ما یثیره هذا العمل من امتعاض بین صفوف (المسلمین) هو أقل بکثیر من تحول آیة الله الصدر إلی خمیني العراق)[24].

[1]. من النداء الثالث للشهید الصدر.

[2]. علي المؤمن، سنوات الجمر: مسیرة الحرکة الإسلامیة في العراق 1957 ۔ 1986م، ص 26 ۔ 27.

[3]. انظر: الشهید السید مهدي الحکیم، مراحل التحرك الإسلامي في العراق.

[4]. سنوات الجمر، 44 ۔ 46.

[5]. السید محمد باقر الحکیم، من نظرات جماعة العلماء، ص 18.

[6]. مجلة العمل الشعبي (العراقیة)، 7/4/1969م، نقلاً عن مذکرات حردان التکریتي، ص 38.

[7]. انظر: سنوات الجمر، ص 91 ۔ 99.

[8]. انظر: الإمام الخمیني، الحکومة الإسلامیة، طهران، مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمیني.

[9]. انظر: محمد السماك، من هو صدام التکریتي؟ أمریکا، 1982م، ص 64.

[10]. سنوات الجمر، ص 143 ۔ 144.

[11]. الإسلام یقود الحیاة، ص 12.

[12]. هرایرد کمجیان، الحرکات الأصولیة في العالم العربي، ص 146.

[13]. م. ن، ص 148.

[14]. مضمون برقیة وزارة خارجیة الجمهوریة الإسلامیة، المرقم 4 ۔ 104 ۔ 50 ۔ 2 ۔ 3 في 4/4/1979م.

[15]. انظر: السید محمد باقر الصدر، أطروحة المرجعیة الصالحة، والسید کاظم الحائري، مباحث الأصول، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، ج 1 ق 2، ص 94 ۔ 95.

[16]. انظر: سنوات الجمر، ص 165.

[17]. السماك، من هو صدام التکریتي؟ ص 32 ۔ 35.

[18]. أفضل من یصور معاناة الشهید الصدر النفسیة في هذه المرحلة، الشیخ محمد رضا النعماني في کتابه سنوات المحنة وأیام الحصار.

[19]. صافیناز کاظم، یومیات بغداد، ص 24.

[20]. في حوار خاص أجراه الکاتب مع الشیخ النعماني مدیر مکتب السید الشهید الصدر وتلمیذه الذي رافقه خلال فترة الإقامة الجبریة.

[21]. م. ن.

[22]. بیان المنظمة المرقم 14۔ 14۔ 79 في 17/10/1979م.

[23]. انظر: من هو صدام التکریتي؟ ص 38 ۔ 39.

[24]. مجلة مدل ایست ستدیس، کانون الثاني 1985م، ص 10.