من ملامح المرحلة الحسينية في فكر الشهيد الصدر وعمله

جاسم محمد إسماعيل الحسيني

تمهيد

لم يكتب الشهيد الصدر قدس سره بحثاً مستقلاً ومفصلاً عن ملامح المرحلة الحسينية كما كتب بشيء من التفصيل في مواضيع الفلسفة والاقتصاد والسياسة وسنن التاريخ، ولكنه قدس سره كان يعيشها حساً وجدانياً عاماً يجلبها أمام عينه بصورة دائمة ذلك الاستعداد الدائم للاستشهاد في سبيل الله والإسلام، الذي حمله بصورة مبكرة ودائمة منذ أن نذر كل حياته من أجل الإسلام، فكان هذا الاستعداد الدائم والكامل المقرون بالشوق إلى لقاء الله سبحانه وأنبيائه وأوليائه من أجداده الطاهرين عليهم السلام هو الذي يبحث عن الفرصة الملائمة، فمن كان يحمل روح الحسين عليه السلام ويقينه ورهافة حسه فلابد أنه يبحث عن كربلاء ويدرك بأنها فرصة يجب أن لا تفوت؛ لأنها الغنيمة الأبدية والمسؤولية الجسيمة التي حمّلها الله للثائر الحسيني فقبلها عن رضا وشوق وطيب خاطر.

ولابد أن تكون أكثر ملامح المرحلة الحسينية قد اتضحت في ذهن الشهيد الصدر قدس سره وإلا لما كان ينتظر الفرصة التي يطبّق عليها هذه المواصفات فيغتنمها وإن كانت المواصفات مجملة، ولكنها يقينية بالقدر الذي جاءت الأحداث بعد ذلك لتثبت دقة وصواب هذا الاختيار الصدري الرائع.

ولذا كان اختيارنا للعنوان بوضع كلمة (من) قبل (ملامح المرحلة الحسينية) لنتعرف على الصفات التي شخّصها الشهيد قدس سره نفسه للمرحلة الحسينية، ومن الأكيد أنه يختزن في ذهنه مواصفات أخرى لم يوضّحها؛ لأسباب أهمها أن تلك المواصفات للمرحلة الحسينية قد نضجت بسرعة خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية، وحمي وطيس المواجهة مع السلطة الغاشمة التي لم تتح له فرصاً كافية للكلام في مثل هذه المواضيع؛ لذا عملنا جهدنا لمعرفة بقية المواصفات التي يجب أن تنطبق على المرحلة لكي يصدق عليها بأنها حسينية مستفيدين من الخطوات العملية التي تجلّت ميدانياً فجعلت الشهيد قدس سره يقدم على تصعيد المواجهة مع السلطة مستيقناً بأن نتيجته الاستشهاد.

ونحن لا ندّعي بأننا قد اكتشفنا جميع مواصفات المرحلة الحسينية؛ لأنه ربما فاتنا منها ما لم نتفطن إليه وربما ستكشفه التجارب والسنين القادمة، وسينكشف بدقة أكثر صواب التشخيص الذي توصّل إليه وعمل به شهيد الإسلام الخالد السيد محمد باقر الصدر قدس سره.

من ملامح المرحلة الحسينية في فكر الشهيد الصدر قدس سره وعمله

منذ أن نزل الوحي السماوي بالرسالة الخاتمة ۔ بعد أن اختار الله محمداً صل الله عليه و آله لختم رسالاته ۔ كان من الطبيعي أن يبدأ الصراع الحامي بين أتباع هذه الرسالة بقيادة النبي صل الله عليه و آله والمؤمنين وبين أتباع الجاهلية الممتدة في طول وعرض المجتمع بقيادة رؤوس الكفر والضلال، حتى سجّل الإسلام نصره النهائي بفتح حصون الشرك في مقرّها في مكة وتهديم الأصنام المادية المنصوبة في بيت الله الحرام، والتي كانت رموزاً لوضع سياسي واجتماعي واقتصادي متخلف وظالم جاء الإسلام لهدمه وإقامة المجتمع الإسلامي على أنقاضه.

وقد ابتليت التجربة الإسلامية الأولى بالانحراف التدريجي منذ وفاة النبي صل الله عليه و آله والذي كانت بذوره المتبقية موجودة في مجتمع دولته صل الله عليه و آله حيث يحتاج استئصالها إلى جهود لا يستوعبها عمر الإنسان المادي كعمره الشريف صل الله عليه و آله ولا جهد إنسان أو قائد واحد كجهده صل الله عليه و آله حيث يجعل الشهيد الصدر قدس سره ذلك من مبررات وموجبات نصب الإمام من بعده، وطالما حدث الانحراف بالتجربة فإن هذا يعني بأن الصراع بين خط الاستقامة والصراط السوي وتطبيق الشريعة ونشر الرسالة بين الأمم وخط الانحراف والردّة والنفاق والجاهلية سيستمر متخذاً عدة أشكال ومستويات من الاستعمار والخمود وحسب الظروف المحيطة بأتباع الخطين وأوضاع الأمة ككل، وقد تراكم هذا الانحراف في زمن يزيد بن معاوية والإمام الحسين عليه السلام حتى أصبح يهدد أصل وجود الإسلام كدين في الأمة مما دعى الإمام الحسين عليه السلام للإقدام على ثورته الاستشهادية الخالدة التي أنقذت الإسلام من الضياع والأمم من الضلال، بذلك ارتبطت كل مرحلة قادمة تشبه تلك المرحلة باسم هذا الإمام الشهيد، فما هي الصفة العامة المشتركة للمراحل الحسينية التي تشبه المفهوم الذي يجب تعيّن مصداقه الذي يمكن أن يتكرر في فترات لاحقة؟ فالمرحلة الحسينية بصورة عامة هي المرحلة التي تحيط بالدين والأمة فيها ظروف تجعل التضحية بأعزّ شيء على الدين وأهم شيء له كالإمام المعصوم عليه السلام واجبة ومقبولة؛ من أجل استنقاذ الدين نفسه، وتجعل الأرباح التي يجتنيها الدين من هذه التضحيات العزيزة أكبر من الخسائر الظاهرة والمباشرة التي يخسرها الدين باختفاء هؤلاء العظماء عن مسرح العمل والجهاد.

ولكن متى يكون ذلك؟ ولماذا تصبح التضحية بأعزّ شيء على الإسلام مقبولة، بل واجبة من أجل الإسلام نفسه؟

إن السبب الرئيسي في ذلك هو تخلّف وعي الأمة وموت إرادتها بحيث تصاب آذانها بالصمم فلا يخترقها إلا بيانات الثورة المتحدية أولاً ثم استغاثات ساداتها وعطائها وحيدين كالإمام الحسين عليه السلام وكل حسين عصره، وتصاب كذلك بقسوة القلوب بحيث لا تحرّكها إلا مناظر أشلّاء أعزاء الإسلام مقطّعة على الرمضاء، وتصاب بالعمى فلا تستطيع أن تقرأ الكلمات إلا إذا كانت مكتوبة بأطهر الدماء.

ولا شك بأن تلك حالة مرَضية خطرة تتعرض لها الأمة؛ نتيجة لتراكم التقصير من أكثر أفرادها وإلا فلو كانت الأمة في وضع صحّي أفضل لكانت الحالة بالعكس، ولكانت فائدتها من بقاء هؤلاء العظماء كالإمام الحسين عليه السلام والشهيد الصدر قدس سره أكثر من أرباحها في فقدهم، ولما اضطرّت أن تخسرهم في وقتهم لتربحهم بعد حين، فالثائر الحسيني والأمة يدفعون نقداً ثمن تقصير الأمة على أن تستردّ الأمة خسارتها بعد حين، فالأمة تخسر حياً على أمل أن تربحه شهيداً، بينما الأفضل أن تبقى تستفيد من عطائه وعلمه وفيضه حياً وميتاً.

المرحلة الحسينية بلحاظ الطرفين

إن كون المرحلة الحسينية تعتمد على طرفي القضية، أي حالة الأمة في جهة وموقع الثائر الحسيني في الأمة من الجهة الأخرى، فقد تكون المرحلة حسينية لعامل معين من أجل أن يحتلّ موقع معين من الأمة ولا تكون حسينية لغيره، فمثلاً لم تكن المرحلة الحسينية لأي من الأئمة المعصومين عليهم السلام بعد الإمام الحسين عليه السلام بالنظر إلى وضع الأمة وموقع الإمام المعصوم فيها، بينما كانت المرحلة حسينية لكثير من أولادهم وإخوانهم من أهل البيت أو أصحابهم المخلصين، فكانت ۔ مثلاً ۔ المرحلة حسينية بالنسبة لزيد بن علي عليه السلام الذي أقدم على ثورته الاستشهادية، ولم يقم الإمام الباقر عليه السلام بمثل تلك الثورة؛ لأن الإسلام والأمة يربحون من استشهاد زيد أكثر من بقاءه حياً بينما يربحون من استمرار وجود الإمام الباقر عليه السلام أكثر من استشهاده.

وقد استمر الوضع كذلك في زمن الإمام الصادق عليه السلام حيث يشخّص الإمام بأن وضع الأمة من الغفلة والجهل وموت الإرادة وضعاً متردّياً، وتحتاج إلى هزّة عنيفة كهزة كربلاء توقظها، ولكن عدم وجود الحد الأدنى من الأنصار المستعدين للتضحية مع المعصوم عليه السلام هو الذي يحول دون ذلك فيقول عليه السلام: (والله لو وجدت أنصاراً بعدد هذه الجداء ما قعدت) قال أحد أصحابه: فذهبنا فعدّدنا تلك الجداء فما تجاوزت السبعة عشر، وهو عدد شهداء أهل البيت عليهم السلام في الطفوف، فالمرحلة بالنسبة للإمام عليه السلام حسينية إلا أن الظروف الموضوعية يعوزها أحد الشروط.

بينما يرى الإمام عليه السلام أن المرحلة حسينية بالنسبة للآخرين ويدعوهم ويشجّعهم على الخروج على السلطان الجائر وإن كانت النتيجة الشهادة بصورة حتمية؛ لأن الأمة تربح من شهادة هؤلاء الأصحاب أكثر من ربحها من بقائهم بعكس الإمام المعصوم نفسه.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث آخر: (ما زال هذا الدين بخير ما زال الخارج من آل محمد على هؤلاء الظلمة، ولوددت لو أن الخارج يخرج عليهم وعليّ نفقته ونفقة عياله)، وعلى هذا الأساس كانت المرحلة حسينية للثوار أمثال زيد بن علي ويحيى بن زيد وغيرهم، بينما لم يخرج الأئمة المعصومين بالسيف بعد الحسين عليه السلام.

ومن الأمثلة القريبة لاختلاف المرحلة حسب الثائر مما حدث في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية حيث إن المرحلة كانت حسينية بالنسبة لكثير من العلماء والمفكرين كالشهيد المطهري قدس سره والذي كان يسمّى عقل الثورة الفلسفي والثقافي والشهيد بهشتي قدس سره الذي كان يسمّى بعقلها السياسي والإداري بينما لم تكن كذلك بالنسبة للإمام الخميني قدس سره الذي كان رمزاً للثورة بجميع أبعادها، فمقابل وضوح رؤية خط الثورة وتخليصها من شوائب الانحراف والتلفيق والثقافة كان على الثورة أن تدفع ثمناً باهظاً من خيرة علمائها ومفكّريها وأن تحرم من امتداد حياتهم في الأمة واستمرار عطائهم المتنوع، وهذا أيضاً بسبب نقص وعي الأمة وإلا لما احتاجت الثورة أن تدفع هذا الثمن الغالي مقابل كشف خطوط النفاق والتلفيق الظاهرة كمنافقي (خلق) وحزب (تودة) وغيرهم، ولما اضطرّت الثورة أن تحرّك الأمة ضدهم بقوة الضمير المنفعل من هول جرائمهم، بدلاً من أن تتحرك عليهم بقوة العقل الذي يكشف انحراف خطوطهم قبل أن يكشف الضمير فساد سرائرهم وتآمرهم واستعداداتهم الخبيثة للجريمة بأفاعيلهم التي دعت الأمة لإخراجهم من الساحة بالقوة والانتقام من بعضهم.

المقاييس التي استخلصناها في بحثنا

وقد استطعنا أن نستخلص أربعة مقاييس رئيسية يمكن تطبيقها على أية مرحلة تعيشها القضية الإسلامية في الأمة، ومعرفة فيما إذا كانت المرحلة هي مرحلة حسينية أم أنها ليست مرحلة حسينية، وعلى ضوء ذلك يمكن للعامل المخلص للإسلام أن يشخّص تكليفه الشرعي، وفيما إذا كان هو الإقدام والتعرض على السلطة وإن استيقن بأن نتيجته ستكون الشهادة لا محالة، ثم بينّا مدى انطباق كل من هذه المقاييس على المرحلة التي عاشها الشهيد الصدر قدس سره قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبعدها وهذه المقاييس هي:

١. حسينية المرحلة بمقياس تهديد أصل وجود الإسلام.

٢. حسينية المرحلة بمقياس إرادة الأمة.

٣. حسينية المرحلة بمقياس الفرصة النادرة لوجود المد.

  1. حسينية المرحلة بمقياس الفرصة النادرة لرسم الخط بين الواقع والمثال.

وقد عرضنا آراء الشهيد الصدر قدس سره حول هذه المقاييس وبينّا بأنه قدس سره كان يؤكد على المقياس الثاني، بينما استشهد من الناحية العملية في مرحلته الحسينية حسب المقياس الرابع أكثر من غيره.

وقد بينّا العلاقة بين هذه المقاييس التي يمكن أن تتداخل في فترة واحدة، ولكن بنسب متفاوتة ونسأله سبحانه أن نكون قد وفّقنا لكشف بعض جوانب مظلومية حسين العصر قدس سره وأرّخنا لفترة ساخنة وحاسمة من الصراع الدامي بين أنصار خط علي والحسين علیهما السلام وخط معاوية ويزيد، حيث كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء، ومن الله السداد والتوفيق.

من ملامح المرحلة الحسينية في فكر الشهيد الصدر قدس سره وعمله

لقد ارتبط اسم الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام بالشهادة الدامية في الوجدان الإسلامي عموماً والشيعي بالخصوص، تلك الشهادة التي بشّر بها الوحي السماوي منذ ولادته وبشّر بها جدّه المصطفى صل الله عليه و آله بصورة مبكرة ثم استمر بها طول حياته، كما أدام تأكيدها بعد ذلك أبوه المرتضى عليه السلام وأخوه المجتبى عليه السلام كل ذلك التبليغ الواسع والتأكيد المستمر لما سيحدث في كربلاء سنة 61 هجرية من أجل التمهيد في عقل ووجدان الأمة للفاجعة الأليمة التي ستحلّ في أهل بيت العصمة والطهارة، وهو قراءة مفصّلة وبعيدةً في عوالم الغيب التي كشفت للنبي صل الله عليه و آله ما سيحل بدينه ورسالته من بعده، وكيف ستعصف رياح الانحراف العاتية بسفينة الإسلام وتقودها في متاهات الجاهلية والضلال وأن ولده الحسين عليه السلام سيكون هو سفينة النجاة للإسلام والمسلمين عن طريق ثورته الاستشهادية المرتقبة، تلك الثورة والشهادة التي استحق بها وسام سيد الشهداء لجميع العصور الماضية والقادمة على الإطلاق.

ومن المعروف بأن للشهادة مراتب وأساليب يتفاوت بها الشهداء في المقام والآثار والعواقب، وهي تعتمد على وعي الشهيد نفسه والمرحلة التاريخية والقيادة، ولكن أصل الشهادة يبقى هو الاستعداد الذاتي عقلياً ونفسياً وعاطفياً للتضحية بالنفس وجميع متعلقاتها من المال والأهل في سبيل الله والإسلام والمسلمين ومقدار دوام هذا الاستعداد ووضوحه، كما أن قيمة الشهادة تعتمد على تمام وخلوص النية والاختبار وخلوّها من عوامل الإكراه والضغط، وحتى من الحياء ومن عوامل الترغيب والطمع في مغانم مادية ومعنوية دنيوية، وبذلك تشوبها روح المغامرة وحساباتها في الاحتمالات مما يقلّل من أجرها ومقامها وتأثيرها في الأمة.

ولذا كان الثائر الحسيني على طول التاريخ يحمل الاستعداد الدائم للاستشهاد في سبيل الله حيثما احتاج الإسلام إلى ذلك، ويقدم على العمل الاستشهادي راضياً ومستبشراً ومطمئناً.

وقد توصّل الشهيد الصدر قدس سره ۔خصوصاً عند رسوخ التصميم على مواجهة السلطة۔ بأنه يحمل نفس الاعتقاد والقناعة التي حملها جده الحسين عليه السلام عن مرحلته وبمقياس الربح والخسارة الإسلامية التي تترتب على استشهاده أو بقائه حياً في الأمة فكانت النتيجة التي توصّل إليها هي أن الأمة والإسلام يربحان من شهادته أضعاف ما لو بقي حياً.

وقد عبّر الشهيد الصدر قدس سره عن هذه القناعة والاستنتاج في خطابه الذي أورده الشيخ النعماني، وهو يخاطبه حيث يقول:

في الاجتماع الذي تقرر فيه تشكيل وفود البيعة خاطبت السيد الصدر قائلاً: إن هذا يعني أنكم قد صممتم على الاستشهاد في سبيل الله تعالى في وقت تكون الأمة فيه بأمس الحاجة إليك بها. فقال: هل تريد إقامة حكومة إسلامية في العراق؟ فقلت: نعم. فقال: إني أرى أن طريقها هذا أن أستشهد لتستثمر الجماهير دمي. المهم أن أعمل ما أعتقد أنه يخدم الإسلام حتى لو كان ثمنه حياتي ولا أفكّر بنصر سريع.[1]

الطبيعة التعرضية للثائر الحسيني

نظراً للاستعداد المطلق للتضحية الذي يتحلى به الثائر الحسيني فإنه يتمكن من فرض المعركة واختيار الزمان والمكان والأسلوب وجرّ الخصم إليه، حيث إنه ينتزع من العدو زمام المبادرة رغم تفوّق العدو في العدد والعدة، وسبقه له في السيطرة على السلطة واستخدامها لمحاصرة وتحجيم الثائر، ويكتسب هذا العمل التعرضي أهميته من علاقته المباشرة بهدف الثائر القريب والمباشر من ثورته، بكسر حاجز الخوف والإرهاب السلطوي بأسلوب التحدي العلني والعمل بالأسلوب الهجومي سواء بالإعلام أو بالسيف؛ ولذا تقتله خنقاً لكي لا يمتدّ أثره إلى الأمة، ولكن لسعة وعيه وسرعة حركته يفوت عليها هذه الفرصة ويضطرها إلى أن تقتله أمام أعين الناس لكي يشهدوا ظلامته، فيكون ذلك حافزاً لهم أن يتحركوا ضدها وحجة عليهم إن استسلموا لها.

ولشدة مظلومية الثائر الحسيني وظهورها أمام أعين الناس والتاريخ نجد أنه قلما يلتفت الناس إلى الجانب التعرضي في الحركة الحسينية بينما يكون الثائر الحسيني من أوسع الثوّار حرية واختياراً؛ لأنه من أكثرهم استعداداً للتضحية والشهادة عنده جزء وخاتمة حركته وهو يخطط لها منذ البداية، وفي ذلك أكبر الأثر على جميع مراحل حركته التي تمهّد للحركة النهائية التي تؤثّر ۔ بعد حدوثها ۔ على جميع المراحل السابقة وتعطيها معان وأبعاد جديدة لا تكتسبها بدونها ولا تؤثّر في الأمة تلك الآثار التي يتوخاها الثائر.

المقاطع التعرضية في الثورة الحسينية

لقد مهّد الإمام الحسين عليه السلام لثورته القادمة والموعودة منذ أن شارك إلى جنب أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام في محاربة الناكثين والقاسطين والمارقين في الجمل وصفين والنهروان، حيث كان مع أبيه يناجز خط الانحراف الأموي المُحِلّ لما حرّم الله سبحانه، ثم استمر إنكار المنكر الأموي في زمن صلح أخيه الإمام الحسن عليه السلام على قدر ما تسمح الظروف وتتطلبه جهودهما في كشف الباطل ونقضه لشروط الصلح، الذي لم يكن في الحقيقة سوى هدنة تتهيأ فيها الظروف لقيام الثورة الحسينية بعد هلاك معاوية وتولّي يزيد الذي يعتبر ذلك من أظهر المخالفات الأموية لنقض شروط الصلح.

وكان رفض البيعة ليزيد بن معاوية أول أعمال الرفض والخطوة الأولى على طريق الثورة الاستشهادية، حيث إن هذا الرفض كان بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة وموجة الرفض للحكم الأموي في العراق عموماً والكوفة بالخصوص، مما دفع الناس لمكاتبة الإمام الحسين عليه السلام يعلنون له البيعة، وبعد ذلك مباشرة أخذت المظاهر التعرضية للحركة تتضح أكثر حيث أعلن الإمام الحسين عليه السلام أمام الناس رفضه للبيعة المطلوبة، وأن أهل الكوفة قد كاتبوه وبايعوه ليقوم ضد الحكم الأموي، وأنه عازم على إجابتهم مهما كانت الظروف والنتائج.

وليس مهماً فيما إذا كانت السلطة الأموية تكتفي من الإمام بالبيعة أو يكتفي الإمام منها برفض البيعة، كما توحي بذلك بعض النصوص والوقائع كقول يزيد لعامله على المدينة: (اقتل الحسين عليه السلام ولو وجدته متعلقاً بأستار الكعبة) أو قول الحسين عليه السلام: (إن بني أمية لا يتركوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جسدي) أو إصرار قادة الجيش الأموي في الكوفة بعد النكثة على الإمام عليه السلام أن يبايع يزيد ليخلّوا سبيله.

فهذه الأحداث طبيعية وتطفو على السطح للمحاججة؛ لأن مراحل الصراع المصيري والاستشهادي كانت قد أخذت مجراها بتصميم وإرادة الإمام الحسين عليه السلام تحت شعار رفض البيعة ذاتاً وأسلوباً، باعتبار أن رفض البيعة ليزيد مما يقتضيه الدين والإمامة؛ حيث سبق أن قال الإمام: (.. ومثلي لا يبايع مثله).

وأما رفضها أسلوباً فقد جسّده الإمام عليه السلام في قوله المشهود (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم قرار العبيد) ثم يتوعدهم بقوله: (فما هي إلا ريثما تركب الفرس حتى تقلق بكم قلق المرجل وتدور بكم دور الرحى) وقد استمر هذا الأسلوب الهجومي على مواقع وشخصيات النفاق والضلال الأموي على لسان الإمام زين العابدين عليه السلام والحوراء زينب عليها السلام في خطاباتها الموجهة للقادة ولعامة الناس، كما ثبت ذلك في كتب التاريخ.

ولقد خاض الإمام الحسين عليه السلام معركته الاستشهادية الأخيرة دفاعاً عن عقيدته الإلهية أولاً، ثم عن قيمه الإنسانية في الإباء للضيم والرفض للاستعباد والإذلال والتسخير، حيث قال عليه السلام: (تريدون منا الذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجورٌ طهرت وأنوف حميّة أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

ولقد أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يحيي في الأمة روح الشمم والإباء ورفض الاستعمار والاستغلال، وهو ما نسمّيه بإحياء الإرادة في الدفاع عن الذات وكرامتها؛ إذ ليس كل الناس يدافعون عن دينهم بقدر ما يدافعون عن ذواتهم وكرامتهم، وإن كان الإمام الحسين عليه السلام قد ربطها مباشرة مبيّناً بأنهم إنما يرفضون هذه الذلة؛ لأن الله ورسوله يرفضون هذه الذلة التي لا تليق بمكانتهم منه سبحانه، وهذا الهدف ۔ وهو إحياء الإرادة الميتة عند الأمة ۔ هو الغاية المباشرة والقريبة من الثورة الحسينية، والذي يضعه الثائر الحسيني نصب عينيه، كما سنشرح ذلك في المقياس الثاني للمرحلة الحسينية.

المشاهد التعرضية في حركة الشهيد الصدر قدس سره

لقد بدأت الأعمال التعرضية للشهيد الصدر قدس سره على السلطة بصورة واضحة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني قدس سره حيث سنشاهد في معرض بحثنا بأن الذي جعل المرحلة حسينية بصورة واضحة هو هذا الانتصار العظيم في إيران، وكانت العلاقة بالإمام الخميني قدس سره تقتضي إعلان تمام البيعة والطاعة لهذا الإمام الهمام ودولته المقدسة ولو دعوة الآخرين لذلك، حيث إن هذه البيعة هي الفتيل الذي يعطي الثورة دوام الاشتعال ويعطي المدّ استمرارية التعاظم عرضاً وعمقاً، بينما كان الامتناع عن البيعة من قبل الإمام الحسين عليه السلام ليزيد هو الذي بعث نفس الدور.

ولذا كانت مطالبة السلطة الأموية للإمام الحسين عليه السلام أن يؤدي البيعة ليزيد مقابل تركه لحاله وإن كان الإمام عليه السلام يشك في ذلك، بينما كان طلب السلطة العفلقية هو فسخ هذه البيعة المعلنة للإمام الخميني قدس سره لأنها تنطوي على تحدي وتجاهل واضح للسلطة، وقد لخّص العفالقة الأعمال التعرضية للشهيد الصدر قدس سره على سلطتهم في مطالبهم الثلاثة التي عرضوها عليه في أثناء الاعتقال الأخير، وجعلوها شروطاً لإطلاق سراحه، وهي:

أولاً: فسخ البيعة والتأييد للإمام الخميني قدس سره وثورته في إيران.

ثانياً: إلغاء فتوى لتحريم الانتماء لحزب البعث.

وثالثها: إعلان التأييد والرضا عن الحزب وثورته المزعومة.[2]

وقد رفض الشهيد الصدر قدس سره كل هذه الشروط عالماً أن الشهادة هي التي تنتظره وقد كان في تلك اللحظات يصول بدمه حيث أعوزه السيف والأنصار.

فصحيح أن السلطة في الظاهر هي التي تفرض على الثائر الحسيني المواجهة ويكون موقعه دفاعياً، وتتجلى فيه المظلومية بصورة أوضح، إلا أن هذا الثائر كان قد سبق أن فرض وجوده على الأمة وعلى السلطة قبل أن تحاول هي فرض المواجهة عليه، فلو لم يكن الإمام الحسين عليه السلام قد بثّ امتداداته وتأثيره في الأمة قبل بيعة يزيد ۔ بثّها بعلمه وفضله وكمالاته وجهاده وقيمه ونسبه ۔ لما احتاجت السلطة الأموية إلى هذا الإلحاح الشديد على بيعته ولتركته لحاله كما تركت الكثيرين، وكذلك الشهيد الصدر قدس سره لو لم يسبقه العفالقة رغماً عنهم إلى فرض وجوده وامتداداته في الأمة في الأبعاد العلمية والأخلاقية والجهادية لما احتاجت السلطة إلى طلب إعلان تأييده لها ونقض البيعة إلى الإمام الخميني قدس سره.

ومن الواضح بأن الثائر الحسيني يدخل في آخر مراحله في سباق مع السلطة، وينتزع منها زمام المبادرة ويفوت عليها فرص الاغتيال والتآمر والتزوير لخنقه وتقليل أو محو أثر قتله في الأمة.

يقول صاحب كتاب الجهاد السياسي للشهيد الصدر قدس سره:

لقد كان حساب السيد الصدر قدس سره أننا إذا لم نبدأ بمواجهة البعث فإنه سيبدأ بمواجهتنا، وحينئذ سيفرض علينا موقف الدفاع من ناحية كما سيكون هو صاحب اختيار في طريقة الصراع وتحديد وقته.

ويضيف:

قال يزيد (لعنه الله): اقتلوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. ورأى أبو الشهداء أنه يجب أن يتقدم بنفسه للموت قبل أن يقع فيه بغير اختيار، وهكذا كانت سياسة البعث مع حسين عصره الشهيد الصدر قدس سره فمن السذاجة إذن في هذه الحال التفكير في الهزيمة، وإذا كان عدوك حائراً بك فإن عليك أن تزيده حيرة وتدهمه وهو في الحيرة ولا تعطيه فرصة الفرار.[3]

لقد كان هذا الوضع الدقيق ونفاذ بصيرة الثائر الحسيني في الوضع السياسي والاجتماعي في عصره هو الذي يدفعه إلى اقتحام حصون السلطة ومهاجمتها في عقر دارها دون أن يمهلها أن تباغته، فتضعف آثار ثورته التعرضية المعلنة أو تقتله بعيداً عن أعين ووعي عامة أفراد الأمة؛ ولذا نرى الإمام الحسين عليه السلام يستعجل الخروج من مكة خوفاً من الغيلة، ويتملص من البيعة في المدينة، ويتجنب أن تكون المواجهة فيها حيث لا تساعده الظروف، وكذلك الشهيد الصدر قدس سره يحرص على أن تكون المواجهة مع السلطة شاملة وعنيفة، ومن خلال الأمة ولا يقلّ هدفها عن إسقاط النظام القائم وإقامة الحكم الإسلامي محله.

بعد أن استعرضنا بعض صفات الفعل والثورة الحسينية في عهد الإمام الحسين عليه السلام والشهيد الصدر قدس سره نعود إلى استعراض الآراء بما فيها آراء الشهيد نفسه ومدى انطباقها على المرحلة التي عاشها الشهيد الصدر قدس سره آملين من الله التوفيق والسداد فنقول: أول صفة للمرحلة الحسينية هي:

عند تهديد أصل وجود الإسلام

إن أهم معلَم ومقياس عام تشخّص به المرحلة بأنها حسينية هو عندما يُهدد أصل الإسلام ووجوده بالضياع، متمثلاً بالكتاب والسنة في ظرف يتسلط طاغية منافق يظهر الإسلام الشكلي ثم يطفح كفره في مرحلة لاحقة، عندما يتمكن ويعتقد بأنه لا ضرر في ذلك ولا خوف على سلطانه من هذا الإعلان، وهذا ما أفصح عنه خليفة المسلمين يزيد بن معاوية عندما ترنّم بأبياته المشهورة، بعد أن أدخلت عليه رؤوس الشهداء من أهل البيت عليهم السلام وسبايا ذراريهم قائلاً:

لعبت هاشم بالملك فلا   خبر جاء ولا وحي نزل

 

فهذا تكذيب صريح بأصل نزول الوحي من قبل خليفة المسلمين، والذي يستلزم الكفر بالله وتكذيب نبيه صل الله عليه و آله وقد أجابته العقيلة زينب عليها السلام بالآية الكريمة <ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَكٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ>[4] فهذا الخليفة الأموي سبق له أن أساء السوء في سلوكه الأخلاقي الشائن واستخفافه بأحكام الشريعة الإسلامية وشرب الخمور علناً والفسق العلني واستحلال المحرمات وضرب الطنابير واللعب مع القرود وغيرها من تصرفات الانحطاط والتسافل، كما وردت هذه الصفات في خطاب الإمام الحسين عليه السلام الذي بيّن فيه أسباب رفضه للبيعة لأمثال يزيد، حيث نجد أن يزيد بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام وفي هذا الموقف ينتقل من إعلان الفسوق إلى إعلان الكفر والإنكار للوحي والرسالة، ولولا شهادة الإمام الحسين عليه السلام لما افتضح كفره إلى هذا الحد، وهذا يعني أن أصل الإسلام يصبح في خطر الضياع إذا كان الخليفة معلناً للفسوق، ويعني بأنه لاحظ الكفر من النوع الذي نسميه (كفر الفسوق) وقد استطاعت ثورة الحسين عليه السلام أن تفضح هذا الكفر على رؤوس الأشهاد، وتجعل ذلك حجة على كل السامعين من المسلمين.

كما استطاعت ثورة الإمام الحسين عليه السلام أن تعيد الناس إلى الصراع الأصلي في زمن الرسول صل الله عليه و آله مع الجاهلية الأموية، وتضع الناس وجهاً لوجه مع حقيقة الخط والخطر الأموي المحدق بالدين على جميع الأبعاد، وأن الأمويين إذا تمكنوا فسوف لن يبقوا للدين اسماً ولا رسماً، ويعتبرون صراعهم مع أهل البيت عليهم السلام هو صراع على الملك والسلطة والأموال؛ ولذا عندما يجرّد الجانب النبوي وأهل البيت عليهم السلام من المحتوى السماوي لخطهم فعندئذ يكون عمل يزيد حسب زعمه هو استعادة للسلطة الأموية التي حطّمها النبي صل الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام والتي كانت نتيجة للوضع الجاهلي القائم قبل الإسلام، ويكون يزيد حسب منطقه في عمله الشنيع يسعى أن يستعيد حقاً سابقاً بالحكم سبق أن صادره النبي صل الله عليه و آله وأهل بيته كما أنه طالب ثأر جاهلي، ولذلك أردف البيت السابق بقوله:

لستُ من خندفَ إن لم أنتقم    من بني أحمد ما كان فَعَل

 

فهذا الخطر الشديد المحدق بالإسلام على كل المستويات يعني أن حركة التصحيح لا تقبل التأجيل مهما كانت الخسائر عزيزة على الدين؛ من أجل استنقاذ الدين نفسه.

والآن نتسائل هل أن الخطر العفلقي على الإسلام كان متوجهاً إلى أصل ووجود الدين نفسه كما كان الخطر الأموي في تلك المرحلة، حيث إن أعلى سلطة دينية ودنيوية في الإسلام ۔ وهو الخليفة يزيد بن معاوية ۔ هو رجل متهتك يمارس الفسق والفجور علناً وليس بصورة مخفية، حيث يعكس ذلك أشنع صور التحدي لله ورسوله وأكبر استفزاز لمشاعر المسلمين. على أن تقديرنا للمرحلة الحسينية التي مر بها العراق خلال حياة وشهادة السيد الصدر قدس سره بالنظر إلى افتراضين هما:

أولاً: باعتبار النظر إلى العراق وحده بغض النظر عن إيران ونجاح ثورتها الإسلامية بقيادة الإمام الخميني قدس سره.

وثانياً: باعتبار أن المرحلة حسينية مع قيام الثورة الإسلامية، وكونها أصبحت حسينية بعد أن قامت هذه الثورة وأوجدت الواقع الإسلامي الجديد بين العراق وإيران.

لقد كان الخطر الأموي بعد تولّي يزيد بن معاوية يهدد أصل وجود الإسلام واستمراره من على أضعف المستويات، ولنرى الآن فيما إذا كان الخطر البعثي على الإسلام في العراق بنفس الشدة والخطورة، وقد أسلفنا بأن يزيد بن معاوية كان قد أعرب عن مكنون كفره بعد انتصاره المؤقت بإنكار أصل نزول الوحي وتكذيب النبي صل الله عليه و آله فما هو موقف العفالقة حول هذه النقطة الحاكمة بالخصوص؟

لم يذهب العفالقة إلى إنكار أصل الوحي مباشرة وصراحة كما فعل يزيد، ولا يجد من يقرأ جميع أدبياتهم تعرضاً أو ذكراً لمفردة الوحي السماوي سواء بالتصديق أو بالتكذيب، وإنما سلكوا طريقاً آخر غير مباشر لإنكار الوحي وهو ما يصطلح عليه بـ (أرضنة الإسلام) والذي يعني إنكار الأصل السماوي كله، ويتضمن ذلك إنكار الوحي الإلهي وجعل الإسلام من نتاج الأمة العربية ودليل عبقريتها وعظمتها، في حين يتحدى القرآن الكريم نفس هذه الأمة وبلغائها أن يأتوا بسورة من مثله، ثم يؤكد بأن الإنس والجن عاجزون عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن حيث يقول: <قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً>[5].

يقول ميشيل عفلق:

فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح، وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمّة اصطدام، وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء حتى يعتبر الدين شاغلاً عنها مبدّداً لبعض ثرواتها بدلاً من اعتباره جزءاً منها مغذّياً لها ومفصحاً عن أهم نواحيها الروحية والمثالية.

فهذا نص صريح في معلولية الإسلام للأمة والقومية العربية وإن كان فيه من التمويه والتضليل ما لا يخفى على المتدبر. وحينما يضطر عفلق إلى الإشارة المبطّنة إلى سماوية الإسلام، فإنه يعمد بعد ذلك إلى تثبيت نتيجة خبيثة على هذه المقدمة غير الصريحة لا تخلو من التحريف والنفخ في أنوف الحمية والعنصرية العربية، لكي يجعلها تعتمد على افتخار تاريخي وتكويني كاذب يشغلها عن مواجهة الاستعمار الصليبي على قاعدة إسلامية راسخة فيقول:

إن اختيار العرب لتبليغ رسالة الإسلام كانت بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم، فالإسلام إذن كان حركة عربية وكان معناه تجدد العروبة وتكاملها.[6]

وفي الحقيقة فإن الإسلام أكبر من أن يكون مفخرة لأمة من الأمم، وإنما مفاخر الأمم تعتمد على موقفها من الرسالة الإلهية بين القبول والرفض، وقد اختار الله العرب أن يبدأ برسالته الخاتمة فيهم لأسباب كثيرة ليس امتيازهم لمزايا وفضائل أساسية واحدة منها، وعليه فتقييم العرب كتقييم غيرهم يعتمد على موقفهم من تلك الرسالة في وقت نزولها وكذلك في مراحلها اللاحقة؛ لأن القدر العادل لا يجيء أمة بفضائل ويحرم غيرها منها بصورة جزافية.

وقد اتّبع العفالقة نهج الخلط والتلبيس في مسألة الوحي وصولاً للتكذيب والإنكار، وذلك بأن جعلوا الإسلام امتداداً للجاهليات السابقة، مستغلّين ومحرّفين فكرة تجدّد وتكامل الأديان عن طريق تزييف التفسير الصحيح لهذه الظاهرة الطبيعية، ففي الحقيقة ليس لدينا أديان أو رسالات سماوية إلا اصطلاحاً، وما يسمّى بالتطور في الدين أو الأديان إنما هي مراحل تكامل لدينٍ إلهي واحد هو دين الإسلام، وفي هذا التكامل تكون كل مرحلة لاحقة حاوية ونافية وناسخة للمرحلة السابقة؛ ولذا كان على أتباع كل مرحلة وشريعة أن يتّبعوا المرحلة اللاحقة وكتابها ونبيها، إلى أن ختمها الله سبحانه بالنبوة والكتاب والشريعة والرسالة الخاتمة وهي رسالة نبينا محمد صل الله عليه و آله وبهذا المعنى يرتبط الإسلام بالمراحل السابقة. وقد حرّف العفالقة ذلك ليجعلوا الإسلام امتداداً وإنجازاً للجاهليات التي وقفت بوجه الرسالة الإلهية بجميع أدوارها وأنبيائها عليهم السلام.

ولقد بدأ الأمويون بالتمويه على المسلمين بأنهم هم أهل البيت المقصودون في الكتاب والسنة، والذين عرّف بهم الرسول صل الله عليه و آله إلى الأمة طوال حياته ادّعوا ذلك أيام معاوية، ثم أنكر يزيد الوحي علناً بعد فعلته الشنعاء، فكانت مؤامرته على الحلقة الثانية في العقيدة الإسلامية بعد القرآن ثم أنكروا الحلقة الأولى ومفردة الوحي.

أما العفالقة فنسبوا الإسلام إلى الأرض وأنكروا نسبه السماوي، وأن من يقرأ جميع كتبهم لا يجد مفردة نزول الوحي وربما حتى مفردة القرآن الكريم، وإنما يستخدمون ويكررون مفردتهم الخبيثة (ظهور الإسلام) والظهور يعني الخروج من المكان المخفي في الأرض في الخصوص.

يقول عفلق:

في حياتنا القومية حادث خطير هو حادث ظهور الإسلام حادث قومي وإنساني عالمي.[7]

قومية البعث إلهٌ كامل

لقد رفع البعثيون القومية من الناحية العملية إلى إله كامل، وجعلوا كل المثل العليا الأخرى بما فيها الإله الحقيقي المطلق والدين الذي يدعوا إلى عبادته والمقاييس المعتمدة في هذا الدين من الحب والبغض والتولي والتبري والتقريب والإبعاد كلها يجب أن تنصهر في هذا الإله الجديد، وعندئذ لا عجب ولا عيب أن يكون مؤسسي وقادة هذا الحزب من اليهود والنصارى من أمثال ميشيل عفلق وشميل وطارق حنّا وقدوري وغيرهم من الأيدي المدسوسة الأولى التي صاغت الخطوط الرئيسية لهذا الفكر المصنوع، ما زال هؤلاء يدّعون الانتساب إلى العروبة ويدّعون تقديس عجلها المنصوب.

فهذا هو الخطر النظري والثقافي الذي كان ولا يزال يهدّد أسس وقواعد العقيدة الإسلامية ابتداءً من التوحيد والنبوة والإمامة وبقية الركائز الأخرى، ذلك التهديم الذي لا يتم عن طريق الضرب المباشر، وإنما عن طريق التلبيس على هذه الأسس وتمييعها وتشنيعها بصورة تدريجية ومحو المعالم الرئيسية لحركة الدين والثورة الإسلامية الأولى في المجتمع، وبذلك يكون الخطر العفلقي من الأخطار الجسيمة المتوجهة إلى مضمون الرسالة الإسلامية عن طريق التحريف والتزييف.

موقف العفالقة من الشريعة الإسلامية

وأما موقف العفالقة من الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها في الحياة الإنسانية فلا يختلف عن موقف النظام الأموي في زمن معاوية ويزيد، ولقد اتّبع العفالقة أسلوبين في تعطيل وتشويه الشريعة الإسلامية والسنة النبوية؛ الأول: هو وصفها بالتخلف والتحجر والعجز عن مجاراة ما يسمّونه بروح العصر، كما تصرح بذلك الكثير من أدبياتهم.

والثاني: هو الادعاء الكاذب بمحاولة تطبيقها بما يسمّونه بالأسلوب العصري[8]بينما لا يعملون في الواقع إلا بتحليل حرامها وتحريم حلالها علناً، ويعطّلون حدودها ويميتون مناهجها، ولا يطبّقون في الواقع أحكام أي مذهب فقهي، لا مذهب أهل البيت عليهم السلام وهو مذهب الأكثرية والذي يناصبونه العداء لأسباب معروفة، ولا أي من المذاهب السنية التي يدّعون الانتساب لها.

فإلى جانب الخطر المحدق بالإسلام من الناحية النظرية فإن الخطر العفلقي العملي كان يسير معه بنفس الاتجاه ويسهّل له الحركة لمحو العقيدة الإسلامية، هذا الخطر يتمثل بتعطيل الشريعة وأحكامها ومعاكسة توجهاتها، وتنتهي إلى فساد القيم والأخلاق ومسخ الشخصية الإسلامية للشعب ونشر المعاصي علناً وتشجيع الخمور والشعور والتهتك، وترويج وسائل التسافل وتعاطي المنكرات من قبل مسؤوليهم علناً، وتشجيع الآخرين على ذلك.

وهذه التصرفات تشبه إلى حد بعيد تعاطي خليفة المسلمين يزيد بن معاوية للخمرة علناً وتغنّيه بها؛ ولذلك جعل الإمام الحسين عليه السلام أول مظاهر فسق يزيد تناوله للخمور مما يمنع الإمام عن بيعته حيث يقول: (ويزيد فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة.. ومثلي لا يبايع مثله) فالخطر البعثي إذن كان يهدد الإسلام في العراق بالضياع لفترة طويلة على الأقل ۔ كان يهدده كعقيدة وكشريعة وكقيم وكرسالة ۔ وفي مورد الرسالة زعم العفالقة بأن رسالة الإسلام هي رسالة الأمة العربية أو بالعكس، زاعمين بأن رسالة الإسلام هي رسالة القيم فقط ثم ادّعوا بأن هذه القيم هي قيم الأمة العربية التي أهّلتها لولادة الإسلام، وهي حكر عليها في حين أن رسالة الإسلام هي رسالة التوحيد، كما أن هذه القيم ترتكز على التوحيد في وجودها وبقائها ومبررات رعايتها، وبدونه تبقى غائمة وعائمة تغرق في بحور الأهواء وتسحّقه في صراعات المصالح المتناقضة.

وقد وردت في بعض أحاديث الشهيد الصدر قدس سره ما يؤكد إحساسه بهذا الخطر المحدق بوجود الإسلام من قبل العفالقة، وخصوصاً بعد تولي صدام للمركز الأول في السلطة.

يقول الشيخ محمدرضا النعماني: (كان الشهيد الصدر قدس سره يردد كراراً هذا التشخيص ويقول: ما دام هذا الشخص في الحكم فلا يمكننا عمل شيء، بل إذا سكتنا عنه فسوف يحطّم ويهدّم كيان الإسلام في العراق).[9]

وكان الإمام الخميني قدس سره يقول: (إذا تمكّن صدام أكثر فإنه سيهدم العتبات المقدسة في العراق) وقد فعل ذلك في أيام الانتفاضة الشعبانية، ولكن في ظروف اضطرّته لإعادة بنائها وإلقاء التبعة على الآخرين.

كنا لحد الآن نتحدث عن حسينية المرحلة ناظرين إلى العراق وحده في ظل النظام العفلقي وخصوص المقياس الأول وهو تهديد أصل وجود الإسلام كعقيدة وكشريعة وقيم ورسالة وأهداف، ويظهر أن الشهيد الصدر قدس سره كان يرى ويؤكد بأن المرحلة حسينية وفق المقياس الآخر، وهو ما أسماه الشهيد قدس سره بإصابة الأمة بمرض (موت الإرادة) ذلك المرض المهلك الذي أصيبت به الأمة في زمن الإمام الحسين عليه السلام فأصبحت مستسلمة للطاغوت الأموي الخبيث بصورة تامة ومنقادة إلى تنفيذ رغباته الحيوانية والشيطانية دون إبداء الحد الأدنى من الرفض والمقاومة والاعتراض.

حسينية المرحلة بمقياس موت الإرادة

وفي هذا المقياس تشخص المرحلة بأنها حسينية عندما يحس الثائر الحسيني بأن إرادة الأمة في الدفاع عن دينها وقيمها وأخلاقها وعزتها وكرامتها قد ماتت، وقد أعطت قيادتها عموماً لشيطان الطاغوت وأسلست الانقياد له، وربما وصل الوضع بها إلى عدم الإحساس بالظلم والاستعباد والاستغلال الذي يمارسه الطاغوت معها نتيجة لأسباب كثيرة وتراكمات سابقة واعتياد منها طويل على ذلك، كما سنشرح ذلك بعد قليل بشيء من التفصيل.

العلاقة بين المقياسين

هنالك علة ومعلولية طولية بين المقياسين؛ لأن حياة الإرادة إنما تطلب للأمة لكي تقوم بالدفاع إما عن دينها وشريعتها ورسالتها السماوية أو عن عزتها وشرفها وكرامتها أو عن مصالحها المادية الدنيوية، وهذه النواحي الثلاثة أو الأبعاد الثلاثة المترتبة طولياً هي التي يستهدفها الطاغوت بنسب وأساليب مختلفة، حسب درجة قوة وجودها في الأمة ومعارضتها لأهداف الطاغوت الشيطانية والأنانية الضيّقة.

ومن الواقع أن الطاغوت أول ما يستهدف دين الأمة الإسلامية؛ لأنه يدرك أن الدين الإسلامي هو المنبع الأصلي للإرادة الحرة الدافعة لمقاومة الانحراف عن خط الإسلام المستقيم؛ لأن الدين الإسلامي بفلسفته الفطرية الواضحة يضع الإنسان أمام مسؤوليته أمام رب العالمين ويأمره بالسعي لإقامة الحكم الإسلامي وتحكيم الإسلام والشريعة في كل جوانب الحياة الإنسانية، ولا يتساهل في ذلك، كان الإسلام عندما يأمر المسلم بالجهاد ومقارعة الطاغوت بكل ما ينطوي ذلك على المخاطرة بالنفس والعرض والمال إنما يأمره بذلك وفي نفس الوقت يعده بجنّات الله ورضوانه وحياة أبدية فيها كمال السعادة والحور، ثم يتوعده بالعذاب الأبدي في نار جهنم إن هو قصّر في ذلك وآثر الاستسلام للطاغوت وطاعته على الثورة عليه في طاعة الله سبحانه.

وبذلك يهيّئ الإسلام للمجاهد والثائر الأرضية الفكرية والتربوية لمقاومة الطاغوت وإن اقتضى ذلك التضحية بالنفس وكل متعلقاتها في سبيل الله سبحانه، وهي المرتبة الأولى الضرورية لتحرير الإرادة من الخوف من الطاغوت ومن الموت الذي يهدّد به القائمين بوجهه، ولا توجد على الأرض فلسفة أخرى غير الإسلامية تستطيع أن تحلّ للمجاهد عقدة الموت بطريقة تقبلها الفطرة ويطمئن لها الوجدان ويرتاح لها العقل والطباع، وهذا هو الذي يفسّر خوف الطواغيت الصغار والكبار من انتشار الإسلام؛ لأنه يحرر إرادة المظلومين من الخوف من الموت وأسبابه ويمنحهم الشجاعة المطلوبة لمقاومة الظلمة وأعوانهم.

وقد أدرك العفالقة ذلك؛ ولذا اتجهت مؤامرتهم إلى أول الحلقات التي تحرر الإرادة بالقوة والتعاظم، وهي الدين الإسلامي كفلسفة وكشريعة ورسالة، فتوجهوا إلى تحريف الإسلام وإنكار الإسلام وإنكار أصله السماوي كما بينا ذلك سابقاً، فكان ذلك التلبيس والتحريف للعلاقة بين الإسلام والقومية هو المثبّط الأول لدافع الإرادة لرفضهم والقيام ضدهم، لما يقترفونه من جرائم بحق الدين ومحتواه وأهدافه وإضعاف الغيرة عليه عند عامة أفراد الشعب المسلم، وبعدها انتقل العفالقة إلى المصدر الثاني الأدنى لمنبع الإرادة، وهي القيم المعنوية الذاتية، أي إحساس الإنسان بعزته وكرامته وشرفه وأنفته، ورفضه للاستذلال والاستعباد والتخسيس والتعالي عليه واستحماره من قبل الطاغوت، وهذه القيم هي الأخرى تنبع من الدين وترتكز عليه، وليس العكس كما يفسرها العفالقة حيث يقولون بأن الدين ينبع من القيم يقول ميشيل عفلق:

فنشوء البعث العربي إنما هو دليل ساطع على الإيمان وتوكيد الروحية التي ينبع منها الدين.[10]

فالتآمر البعثي على الدين بالتحريف هو في نفس الوقت تآمر على القيم المستندة على الدين، وهو تآمر على الإرادة في مرتبتها النازلة الثانية، حيث يسعى الطاغوت إلى استعباد الناس واستحمارهم ومصادرة حرياتهم وحقوقهم، وليس إلا الإسلام يحفظ للمسلم حريته ويدعوه للثورة على الشياطين والمتآمرين الأنانيين، حيث إن الحرية في الإسلام هي حق للمسلم وفي نفس الوقت هي مسؤولية لا يجوز للمسلم أن يتنازل عنها بسهولة ويعطي ظهره سلساً ليمتطيه شيطان العفالقة إلى غاياته الشيطانية والمادية الضيقة.

وفي المرتبة الثالثة يتآمر الطاغوت على العدالة الاجتماعية ومصالح الأكثرية ويستأثر بالأموال والامتيازات، وتنفصل بنسبة كبيرة الطبقة الحاكمة الثرية ولا تعطي الباقين إلا ما يفضل منها، بعد أن تخصّص لنفسها حصة الأسد وتترك لهم ما يسد حاجاتهم ويشدّهم إليها ولا تنسى أن تمنّ عليهم بما يزود عليهم من أموالهم وذخائرهم.

ومن المعروف بأن كل طاغوت يتآمر على إرادة الأمة بالتضليل والخداع، وإذا لم ينفع ذلك يضربها مباشرة بالبطش والإرهاب والتنكيل أو يميّعها ويفسد ضمائرها بالترغيب والرشوات وشراء الذمم، ولم تمت الإرادة لدى الأمة في العراق إلى هذا الحد إلا لأن الطاغوت العفلقي يجيد استخدام أسلحته الثلاثة ضد الأمة، وهي الترغيب والترهيب والتضليل، فعقيدته التلفيقية الالتقاطية لا تصطدم مباشرة مع الإسلام كما تفعل الماركسية والشيوعية. وإذا كان هذا المحتوى الإيجابي الخاوي للفكر العفلقي مفضوحاً إلى حد ما فإن الذي يخدع الجماهير أكثر هو المحتوى السلبي الخادع لذلك الفكر الماكر.

المحتوى السلبي الخادع للفكر العفلقي

إننا إذا تنزّلنا في مستوى الاعتقاد من مرتبة المحتوى الوجودي للفكر العفلقي ۔ والذي هو القومية والاشتراكية وشعارات الوحدة العربية والحرية والمتبناة ولو على مستوى التنظير والشعار، والذي بينّا موقف الإسلام منها أو بالأحرى موقفها من الإسلام ۔ وانتقلنا إلى الجانب المنفي من الفكر العفلقي، فإننا نجد بأن العفالقة قد رفعوا شعارات هي بالأصل محبّبة إلى القلوب والفطرة الإنسانية ومتبناة من قبلها، وأهمها شعارات الوحدة العربية والحرية وحتى الاشتراكية في مجتمع طبقي صارخ ۔حيث من المعلوم بأن النفس الإنسانية مفطورة على عشق الحرية، ولا يشك أحد في وجوب الوحدة وعظمة مكاسبها في قوة الأمة الموحدة۔ فهذه الشعارات محبوبة ومطلوبة بغض النظر عن صدق أو كذب نوايا رافعيها حيث يصعب على من يعاديهم سواء كان إسلامياً أو غيره رفضها مباشرة، وإنما يتطلب الرد بمستوى من الوعي والمعرفة يجب أن يحمله الراد، وإذا حمله فربما كان الشخص الثالث أو الجماهير لا يمتلك أكثرها القدرة على فهم الرد، فمن لا يدرك بأن تحقيق الحرية على جميع مستوياتها النظرية والعملية لا يمكن تحقيقه إلا بمقدار العبودية الفردية والجماعية لله أو لأن العفالقة يمارسون الشرك النظري والعملي بجميع أشكاله فإنهم عاجزون عن تحقيق الحرية لهم وللأمة، فالراد الذي لا يملك هذه المعرفة لا يمكنه الرد على دعاوي وشعارات العفالقة الخدّاعة بالسعي لتحقيق الحرية. وكذلك شعار الوحدة العربية أو غيرها من أشكال الوحدة، فإنها لا تتحقق بصورة فاعلة إلا بوحدة المعبود والإله.

ما زال العفالقة لا يعبدون الله ولا يريدون تعبيد الناس إليه فهم بذلك عاجزون عن تحقيق الوحدة، وكذلك في العلاقة بين العدالة والاشتراكية، فالعدالة لا تتحقق على مستوى مؤثر في المجتمع إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية؛ ولذا تصبح الاشتراكية طريقاً متغيراً وفاشلاً لتحقيق العدالة الاجتماعية كما أثبتت التجارب بعد ذلك.

على أن أخطر الشعارات على الأمة في العراق وإسلامها العزيز هي شعارات معاداة الغرب الاستعماري والصهيونية، فهذه شعارات يتبناها الإسلام ويسميها شعارات البراءة من الكفر والاستكبار العالمي، وكلما يفعله الإسلام هو أن يعطيها مفاهيم أعمق وأبعد من الأبعاد المادية، ويلبسها الثوب الديني ويضفي عليها القداسة الإسلامية، ويحل بفلسفته عقدة الموت، ويسهّل بذلك التضحيات التي تتطلبها هذه الشعارات، ويحوّل المواجهة من مسميات النضال ضد الاستعمار والصهيونية والدفاع إلى الجهاد في سبيل الله والدفاع عن المسلمين وديارهم وثرواتهم لنيل الدرجات العُلى في جنانه ورضوانه والنجاة من عذابه ونيرانه، ففي هذا الجهاد المقدس يكون الإسلام هو الوسيلة وهو الغاية، وهو السيف الذي يضرب به، وهو في نفس الوقت الحريم الذي يدافع عنه مع الإيمان المطلق بأحقّية وأهلية وحتمية انتصار معسكر الإيمان واجتياحه لكل جوانب معسكر الكفر والاستكبار العالمي إن عاجلاً وإن آجلاً إن شاء الله تعالى.

بعض جوانب الشبه الأخرى بين العهدين الأموي والعفلقي

لقد كان هناك تشابه في حالة الأمة بصورة عامة في زمن الإمام الحسين عليه السلام وزمن العفالقة، وهي حالة تراكم الغفلة والخدر وضعف أو غياب الوعي، بعد تراكم أموال الفتوحات في الشرق خصوصاً والغرب، وإقبال الناس على الدنيا وكنوزها ومقتنياتها، وإهمال شؤون الدين والشريعة، هذه الغفلة أو الغفوة كانت بحاجة إلى هزّة عنيفة جداً لا يشقّ مسامعها إلا بيانات الإمام الحسين عليه السلام الثورية منذ أن خطب في الحجيج بمكة حتى استغاثاته وحيداً على صعيد كربلاء، ولا يحرّك ضميرها القاسي إلا مناظر الأشلاء المقطّعة للأجساد الطاهرة لأهل البيت عليهم السلام وأنصارهم وأرتال السبايا من ذراريهم، فلقد كانت غفلة الأمة وموت ضميرها إلى هذا العمق بحيث لا تهزّها وتوقفها إلا فاجعة مهولة بهذا الحجم والشناعة وجريمة منكرة بحق الدين وأهله.

وأما بالنسبة للعفالقة والأمة في العراق فقد استغل هؤلاء حالات الفقر الشديد التي ورثها الشعب من أيام الاستعمار البريطاني المجرم وعملائه وحالات الجوع والحرمان، فاستردّوا بعضاً من الأموال النفطية المسروقة واستخدموها أسوء استخدام لتخدير وإلهاء الأمة وإشباع بعض حاجاتها المادية، وضنّوا عليها بهذا القليل الذي أعطوها بعد أن استفردوا بحصة الأسد منها.

على أنهم في السنين التي سبقت الحرب ضد الجمهورية الإسلامية قد أشاعوا في المجتمع السياسة الاستهلاكية فأصبحت السوق العراقية تضاهي في المستوردات الأسواق الخليجية لزيادة تعلق الناس بالدنيا وزخارفها وإبعادهم عن الله والآخرة وعن علماء الدين المتصدين للسلطة الغاشمة، وسلب المؤمنين مبررات التحرك ضد السلطة في نظر العوام، فالطاغوت يحاول أن يجعل الناس عبيد الشهوات لكي تموت إرادتهم ويسهل استحمارهم وسوقهم إلى حيث يشاء.

وفي الحقيقة فإن تآمر العفالقة على إرادة الشعب العراقي تآمر محكم ومعقّد، ويتوجه إليها منذ انعقاد نطفتها في العقل والضمير والقلب، ويضربها من كل مرحلة بالسلاح المؤثر فيها من التضليل والترغيب والترهيب.

لقد كان كل من الإمام الحسين عليه السلام والشهيد الصدر قدس سره يحسّان بسمك وارتفاع حاجز الخوف الذي يشهده النظامان الأموي والعفلقي لخنق إرادة الأمة وثنيها عن التفكير بالقيام والثورة؛ ولذلك نجد الإمام الحسين عليه السلام يعلن ثورته أمام الحجيج وعزمه على المسير إلى العراق، ثم يسلك الطريق العام معلناً التحدي للسلطة لكسر حاجز الخوف لدى الناس، وكذلك كان الشهيد الصدر قدس سره كان يحسّ بخنق هذا الحاجز لأنفاس الناس وبأنه يحتاج إلى ديناميت قوي يفجّره من الأساس.

الشهيد الصدر رضوان الله عليه يؤكد على المقياس الثاني

كان الشهيد الصدر قدس سره ومنذ الأيام الأولى ۔ التي بدأ يعلن عن رأيه بمختلف الأساليب والمناسبات بأن المرحلة هي مرحلة حسينية ۔ يؤكد بأنه يعتقد ذلك بالمقياس الثاني، وهو إصابة الأمة بمرض (موت الإرادة) الذي كانت تعانيه الأمة في زمن الإمام الحسين عليه السلام فصحيح أن الشهيد الصدر قدس سره كان يحمل الاستعداد الذاتي للشهادة بغض النظر عن الظروف المحيطة بالدين والأمة، وصحيح بأنه كان يعيشها كهدف شخصي وكرامة إلهية خاصة لأوليائه إلا أنه كان دائماً يصرّح بأنه يريدها حافزاً لدفع الأمة لمواجهة الطاغوت وسبباً لإحياء الإرادة لدى الأمة، وإيقاف حالة التداعي والاستسلام للطاغوت العفلقي المتمكن من رقابها.

لقد روى السيد كاظم الحائري حفظه الله فقال:

حدثني الأستاذ الشهيد الصدر رحمه الله ذات يوم فقال: إنني أتصور أن الأمة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمان الإمام الحسين عليه السلام وهو مرض فقدان الإرادة، فالأمة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق، ولا تشك في فسقهم وفجورهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد، ولكنها فقدت الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة عن منصب الحكم وتدافع الأمة كابوس هذا الظلم عن نفسها، وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدبّ حياة الإرادة في عروق هذه الأمة الميتة، وذلك بما عالج به الإمام الحسين عليه السلام فقدان الإرادة في نفوس الأمة وقتئذ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر وأعاد بها الحياة إلى الأمة إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط بني أمية.[11]

فهذا المقياس هو الذي يتبناه الشهيد الصدر قدس سره بصورة مباشرة من حركته الاستشهادية التي صمم عليها، ومما لا شك فيه بأنه كان مصيباً في هذا التشخيص الدقيق، وكان يحمل الاستعداد الكامل لأداء الدور المطلوب منذ وقت مبكّر، حيث من المعروف بأنه كان يحسّ بحاجته في هذا العمل الاستشهادي إلى تأييد المرجعية في النجف لكي يترك في هذا الاستشهاد التعرضي أثره في الأمة، حيث اقترح أن يلقي وهو محاطاً بالمخلصين الاستشهاديين من أمثاله في الصحن العلوي الشريف خطاباً نارياً يهاجم به السلطة المنحرفة الظالمة ويدعو الناس للقيام ضدها، وهو يتوقع بعد ذلك أن تحدث المواجهة المسلحة مع أزلام السلطة وتنتهي بشهادته في الصحن الشريف، لكي تبقى ذكرى يراها كل زائر يدخل صحن أميرالمؤمنين عليه السلام ويقول: هنا استشهد السيد محمد باقر الصدر قدس سره إلا أن الشهيد الصدر قدس سره لم يحصل على موافقة المرجعية في ذلك الوقت، وعندما عرض الفكرة على الإمام الخميني قدس سره أجابه بـ (لا أدري) حيث يصعب تقدير الموقف والقطع بأن شهادته قدس سره ستعود على الأمة والإسلام بأكثر مما يعود عليها بقائه وقيادته، وهذه التفاصيل موجودة في كتاب الشيخ محمد رضا النعماني (الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار) فمن أراد المزيد فليراجعها في الكتاب المشهور.

ثالثاً مقياس الفرصة النادرة لوجود المد

وهذه الفرصة النادرة أتاحها انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني قدس سره فهذا الانتصار الساحق واليقظة الإسلامية الكاملة هيّأت شرطاً أساسياً لا يستغني عنه الثائر الحسيني في أي زمان ومكان، هذا الشرط هو وجود المد الجماهيري المضاد للسلطة ولو بدرجة معينة، وقد حدث هذا المد الجماهيري في العراق بشكل تعاطف وفرح وابتهاج كبير بانتصار هذه الثورة الإسلامية الظافرة، مما اضطرت السلطة لمماشاة هذه العواطف وإظهار التأييد للثورة رغم تضايقها الشديد من ذلك وإحساسها بصعوبة كبت هذه العواطف، ثم ما لبثت السلطة المنافقة أن التفّت على هذه العواطف بعد مسافة معينة؛ ليقينها بأن هذه الموجة من التأييد لابد أن تنعكس كحوافز للتحرك ضدها والسعي للاقتداء بعمل الأمة في إيران، حيث لا يقلّ النظام العفلقي عن النظام الشاهنشاهي انحرافاً وإجراماً بحق الإسلام والمسلمين، فلو افترضنا عدم قيام الثورة الإسلامية في إيران فربما لم يكن الشهيد الصدر قدس سره يقدم على هذا التحدي السافر للسلطة ليضعها في خيارين صعبين إما قتله أو التسليم له.

ومن الواضح بأن كون الدين مهدداً إلى درجة كبيرة في أصل وجوده واستعداد الإمام الحسين عليه السلام وكل حسين عصره للشهادة وموت إرادة الأمة لا يكفيان بجعل المرحلة حسينية، بل إن هنالك شرطاً لابد من توفره، ألا وهو وجود المد الجماهيري بدرجة معينة، ليعطي المبرر للحركة ويسمح للقائد الحسيني بركوب الموجة وإن كان مستيقناً أو شبه مستيقن بحتمية انحصارها دون النصر وفوزه بالشهادة، ففي ثورة الإمام الحسين عليه السلام الاستشهادية كانت هنالك موجة واسعة من الرفض للحكم الأموي، وقد بادر الناس في العراق إلى دعوة الإمام عليه السلام من المدينة، وقد حاول الإمام تقوية الموجة وتنظيمها بإرسال مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الكوفة، فصحيح بأن الموجة انحسرت بسرعة ولكن كانت هنالك موجة لا يستغني الثائر الحسيني عن ركوبها في حركته وإن كان يتركها خلفه.

ولقد توفّر هذا المد بعد قيام ونجاح الثورة الإسلامية في إيران، ولو لم تقم هذه الثورة لكان على الشهيد الصدر قدس سره أن ينتظر عوامل داخلية وخارجية أخرى لصناعة هذا المد، وربما يقضي حياته الشريفة دون أن يصنعه أو يراه.

ووفق مقياس وجود المد يكون قيام الثورة الإسلامية في إيران هو الذي جعل المرحلة حسينية للعراق وحده حيث ينتفي ذلك ووفق المقياس الأول.

ولقد استطاعت ثورة الإمام الحسين عليه السلام أن تستنقذ أصل الإسلام ووجوده من الضياع دون أن تضع في حساباتها إمكانية النصر العسكري والإطاحة بالنظام الأموي وإقامة الحكومة الإسلامية، فإننا يمكن أن نقول بأن نجاح الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس الكيان السياسي والحكومة الإسلامية قد جعل أصل وجود وحياة الإسلام في مأمن، وبهذا المقياس لا يمكن أن تكون المرحلة حسينية في العراق، كيف وهي علوية في إيران حيث تمكّن خط وشخصية ونهج أمير المؤمنين عليه السلام في إيران من الإمساك بكل أطراف المجتمع والدولة، فالمرحلة إذن ليست حسينية على مستوى إنقاذ أصل وجود الإسلام كما وصف الإمام الخميني قدس سره ثورة الإمام الحسين عليه السلام بقوله: (لقد فتح سيد الشهداء عليه السلام طريق النجاة للإسلام).

الثائر الحسيني يَتخادَع ولا يُخدَع

لابد أن نفترض في البداية بأن الشهيد الصدر قدس سره قد اعتقد في البداية بإمكانية قيام ثورة إسلامية في العراق، وأن الأمة كانت حبلى بهذه الثورة، وقد حملت في أفكاره الشمولية الثورية رغم بطء نمو هذا الحمل؛ بسبب شدة إجرام النظام في إرهابه وإغداقه في ترغيبه وذكائه ومكره في تضليله، حتى أن المعارض للنظام قد لا يجد سبباً مقبولاً في موازين الوعي السائد بطرحه أمام الآخرين إلا المطالبة بإقامة نظام سياسي إسلامي، وبأنه إنما يريد أن يؤدي تكليفه الشرعي ويطلب في ذلك رضوان الله والآخرة لنفسه، وما أقل الناس الذين يقبلون ذلك وأقل فهم من يعملون وفق هذا الإيمان.

وربما يكون الشهيد الصدر قدس سره قد اعتقد في البداية بإمكانية قيام ثورة إسلامية في العراق ونجاحها في استلام السلطة بقيادته، وأن موجة الوعي والحماس الذي أحدثه انتصار الثورة الإسلامية في إيران يمكن تقويتها وترشيدها وركوبها وإسقاط الحكم الجاهلي في بغداد، وربما شاركه الإمام الخميني قدس سره نفس هذا الاعتقاد.

وإذا كان في هذا الأمر كثير من الشك والترديد وهو عُرضةً للتغير فإن إصرار الشهيد الصدر قدس سره على افتراضه يقيناً يشبه إصرار الإمام الحسين عليه السلام على إجابة دعوة أهل العراق سواءً صدقوا وصمدوا أو تراجعوا ونكثوا، وليس من حذّروه من تراجعهم كابن عباس وأخيه ابن الحنفية وغيرهم بأعرف منه حينما أجابهم بقوله: (لأجيبنّهم)؛ لأن الإمام الحسين عليه السلام كان يريد ينجز بموجتهم السريعة إنجاز ما هو أكبر منها وهو إنقاذ أصل وجود الإسلام كما أسلفنا مراراً.

وبتعبير أدق فإن الثائر الحسيني يحتاج إلى مقدار معين من المد لا يستغني عنه في تحقيق هدفه الاستشهادي المستعد له، وأما ما زاد عن ذلك فليس من الضروري أن يكون الثائر مستيقناً من وجوده بالقوة أو بالفعل وإن كان يتمنى وجوده؛ لأن في ذلك النصر العاجل للإسلام وللثائر وللأمة معاً.

وأما إذا انحسر المد وانكفأت الجماهير بسرعة إلى حالة الجزر وتركت الثائر وحده يواجه الطاغوت ويستشهد كما حدث مع الإمام الحسين عليه السلام فإن الثائر ينتصر بالشهادة والإسلام ينتصر ولو بعد حين، أما الأمة فقد تتعرض للّعنة والعار الأبدي كما شخّصت زينب عليها السلام ذلك في خطابها لأهل الكوفة قائلةً: (لقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل أبداً، قتلتم والد العترة وسيد شباب أهل الجنة).

يقول صاحب كتاب الجهاد السياسي للشهيد الصدر:

بمجموع الحسابات السياسية كان يلاحظ بأن التحرك الإسلامي على طريق المواجهة مع السلطة أصبح ضرورة وليس اختياراً، فمن ناحية تصاعد المد الإسلامي في المنطقة بشكل مفاجئ بفعل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهذه فرصة يجب أن لا تضيع، وليس معلوماً أن هذا المد سيستمر في التصاعد أو حتى سيثبت على هذه الحدود، بل كان مؤكداً أنه سيبدأ في خط تنازلي الآن سيما إذا أخذنا بالحساب الإعلام البعثي الذي يسعى جاهداً للتعتيم على الثورة الإسلامية، بل وتضليل الرأي العام حولها، وهكذا الإعلام العالمي كله، ومن ناحية ثانية فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان له رد فعل معاكس من نظام البعث الحاكم والدوائر الغربية، حيث أخذوا العبرة من انتصار الثورة الإسلامية وأخذوا يردّدون أننا لا نريد خمينياً ثانياً في المنطقة.[12]

الفرصة النادرة لرسم الخط بين الواقع والمثال (المقياس الرابع)

لقد بات من الواقع بأن أصل وجود الإسلام قد أصبح في مأمن بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وكان إمكان إسقاط النظام العفلقي وإقامة الحكم الإسلامي في العراق أمر مشكوك فيه، وكان فشل الثورة الإسلامية في العراق أمر يرد بقوة وأول ضحايا ذلك سيكون الشهيد الصدر نفسه، فلماذا إذن أقدم الشهيد الصدر قدس سره على تصعيد الموقف مع السلطة إلى الذروة عبر توطيد العلاقة مع الثورة في إيران وقيادة الإمام الخميني قدس سره وإعلان البيعة التامة والمطلقة له على جميع المستويات والتبعية الخالصة لقيادته دون أي تردد أو تحفّظ أو إشكال.

إنها كانت تعني التضحية بالنفس وبإمكانية قيام نظام حكم إسلامي في العراق وبالثورة المرتقبة والمغامرة، إن لم نقل: التضحية يقيناً بالجميع من أجل تثبيت مبادئ وأفكار وممارسات هي في اعتقاده قدس سره أهم وأغلى من حياته ونظام الحكم وفرصة النصر، فما هي تلك المبادئ والمنطلقات؟

لقد كانت الأمة في العراق حبلى بالثورة الإسلامية، وليس بمجرد الثورة على النظام القائم، فلقد أحدثت كتابات ونشاطات الشهيد الصدر قدس سره وعياً إسلامياً متقدماً في الطبقات المثقّفة خصوصاً، ولكن المد الذي حدث بعد الثورة الإسلامية في إيران كان في معظمه معلولاً لتلك الثورة العارمة وبصورة عامة كان المد الإسلامي في العراق أكبر حجماً من الوعي الذي يحمله، وكان لابد للشهيد الصدر قدس سره أن يقف مقدّراً لهذا المد المتعاظم وهو يحاول أن يخمّن قدرته على التعاظم أكثر عمقاً وعرضاً، لكي يقدّر حجم المهام التي يمكن أن ينجزها المد، وهل يختزن من الاستعداد والوعي ما يكفيه للاستمرار، ولا يتعرض للجزر عند اصطدامه بالمواقع التي يريد تحطيمها والموانع الأخرى التي تمنعه من إنجاز مهماته بعد تحطيم النظام، فكان على الشهيد الصدر قدس سره أن يقدّر فيما إذا كان هذا المد يكفي لتحطيم سد النظام وإسقاطه بقوة الغضب المتراكم، وفيما إذا كان يدرك الأهداف الأخرى ويشخّصها ويحرص على تحقيقها. لقد كان أمام ذلك المد عدة مهام وإنجازات صعبة مترتبة زمنياً وتصاعدياً في الصعوبة والعظمة في الدنيا والآخرة وهي:

أ ۔ هل إن المد كافٍ لإسقاط النظام فقط؟

ب ۔ إذا كان المد كافياً لإسقاط النظام فهل يصل في قوته ووعيه إلى تحقيق هذه الأهداف:

1۔ إقامة جمهورية إسلامية بقيادة ولاية الفقيه (مجملة ومبهمة).

2۔ إقامة جمهورية إسلامية بقيادة ولي فقيه بعينه هو السيد محمد باقر الصدر قدس سره.

3۔ إقامة جمهورية إسلامية بقيادة الولي الفقيه المتمثل بالإمام الخميني قدس سره والقبول بالتبعية الكاملة لدولته وثورته المباركة في إيران.

4۔ هل تحمل الأمة مرتبة الوعي التي تقول بأن الإسلام دين واحد والأمة واحدة فهو ذوبان كامل لكل من الجزئين والبلدين في الآخر حتى لا يتميز المذاب من المذيب عند تبعية البلدين للإسلام وإنما فرض التفاوت بسبب السبق الزمني لا غير.

ومن المشكوك فيه بأن الجماهير قد وصلت في مستوى وعيها إلى هذا المستوى لا في فكرها ولا في عواطفها، ومن المشكوك فيه بأن المد المتوفر لا تعوزه القوة والفاعلية والدوام لإنجاز هذه المهام الشاقة نظرياً وعملياً الواحدة تلو الأخرى.

إن مرتبة ومستوى الوعي المطلوب أن تبلغه الثورة الإسلامية في العراق هو أرقى وأعمق من جميع مستويات الوعي التي تتطلبها الثورة الإسلامية في أي بلد إسلامي آخر، بما فيها الثورة الإسلامية في إيران نفسها. إنها مرحلة تجاوز جميع الأطر والحدود السياسية والقومية والوطنية والعنصرية والقيادية، أي ذوبان قائدها الشهيد الصدر قدس سره في قيادة الإمام الخميني قدس سره وتابعيته التامة له، فهذا الوعي لا تتطلبه الثورة الإسلامية ولا تصل إليه إلا في زمن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه.

ولذلك كانت المرحلة الثانية لإجهاض الثورة ۔ بعد أن تكفي المرحلة الأولى المتمثلة بإعدام قائدها الشهيد الصدر قدس سره ۔ كانت بشنّ الحرب الشاملة تحت اسم (قادسية صدام) حيث تم تزييف هذه المعركة الإسلامية الخالدة التي انتصر فيها الإسلام، مع العلم بأن العفالقة يزيّفون الإسلام نفسه ويطبّعوه بالطابع القومي العربي، حيث روّج الإعلام البعثي بأن تلك الحرب كانت قومية بين العرب والفرس، وهذه الحرب هي أيضاً قومية تحت عطاء تاريخي إسلامي كما شرحنا ذلك مسبقاً.

ولقد كانت جبهة البعث تخوض تلك الحرب بتركيز نفس الشعارات التي كان على الثورة الإسلامية في العراق أن تتجاوزها، كما تجاوزها قائدها الصدر قدس سره ببيعته التامة للإمام الخميني قدس سره، وكان لابد لها أن تستمر في تجاوزها بمحو الحدود الطبيعية والمصطنعة بين البلدين المسلمين.

وكان من الواضح بأن النظام العفلقي الفاقد للقاعدة الفكرية والعاطفية لدى جماهيره عاجزاً عن الاستمرار بالحرب معتمداً على نفسه فقط، وقد ارتكس في أوحال قادسيته ولم يكن ليخرج منها لولا الدعم اللامحدود للاستكبار الكافر وعملائه ۔ هذا الدعم الذي فضح كل شعاراته الخادعة في القومية والتقدمية الزاعمة بمعاداة الاستعمار والصهيونية ۔ وبذلك أخذت الثورة الإسلامية بُعدها العالمي والذي لابد أن تأخذه أية ثورة إسلامية حقيقية، وكادت الثورة الإسلامية في العراق أن تبلغه لولا أنها أجهضت في حربين ضروستين في القادسية وأم المهالك.

فالمهم أن تعيش الأمة ولو لمدة قصيرة حالة الوعي والصحوة التامة، ثم من الطبيعي أن يلتفّ عليها التآمر والاحتواء، ولكن ولكي تبقى الحالة معلماً رئيسياً في الطريق يكفي أن يمدها بالوعي لمئات السنين وتبقى في حنين دائم لتلك الحالة والذكرى والنشوة، ولكي يبعث في أبنائها العزم والتصميم على استعادة تلك الحالة والمحافظة عليها؛ لأنها لمعة من لمعات الحق الكامل وإن طمست وجهه بسرعة مؤامرات وحروب وتحريفات الكفار والمنافقين، ولكي تبقى تلك الحالة ليس هدفاً مرحلياً بل نهائياً تبدأ الأمة تجاهد من أجل الوصول إليه من جديد.

إنها حالة رسم المثال الكامل للأمة والصعود إليه ورسم الخط الكامل بينه وبين الواقع المجزئ وإن كان بالتدحرج إلى الواقع المؤلم من جديد.

ولقد كان الشهيد الصدر قدس سره باتصاله بالإمام الخميني قدس سره بتحدّ سافر للسلطة ثم ببيعته العلنية له ودعوة الآخرين لذلك قد حمّل المد نفسه مسؤولية المغامرة بحياته ومصير المد نفسه؛ لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتثبيت المبادئ ورسم الطريق والمسار الذي يجب أن يسلكه هذا المد إن استطاع أن يستمر في التعاظم والاندفاع كما يجب أن يسلكه أي مد إسلامي قادم في المستقبل إن جزّر هذا المد وانحسر.

فلقد كان ثمن البيعة للإمام شهادة الشهيد الصدر قدس سره وثمن شهادة الشهيد الصدر قدس سره هو رسم الخط عملياً بدمه الأحمر القاني بعد أن رسمه مسبقاً بحبر ريشته ووعيه الشامل. وهذه هي أدق صفات المرحلة الحسينية وفعلها الاستشهادي عندما يتقدم القائد بقلمه وفكره أولاً ثم بدمه ثانياً، يتقدم المد الذي شارك بفاعلية في صنعه وترشيده وتنميته بالإضافة للعوامل الأخرى غير مبالٍ ولا وجل من احتمال الانحسار حتى وإن وصل لدرجة اليقين وهو يهدف إلى رسم أطول مسافة من المسار الذي يجب أن يتّبع مستقبلاً، بل يهدف إلى رسم كل المسار من الواقع حتى تمام المثال في دولة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه العالمية، وهل دولة الإمام الحجة العالمية وتحقيقها غير رفع الحدود الوطنية والقومية والعنصرية وتوحيد كل الدنيا تحت قيادته وولايته وحكومته الإلهية.

لقد كانت حقاً الفرصة الوحيدة النادرة لرسم هذا الخط، هذه الفرصة التي يعزّ أن تتكرر، ولا يمكن أن تحدث إلا بين العراق وإيران فكيف يفوّتها الصدر قدس سره وإن اقتضت التضحية بنفسه وبإمكانية نجاح الفرصة والنجاة والفوز لبعض أفراد الأمة والعار والهلاك لبعض آخر واستمرار الامتحان لمعظم الباقين.

إن ما ذكرناه هو الذي يفسّر إصرار الشهيد الصدر قدس سره على تأكيد البيعة التامة للإمام الخميني قدس سره وعدم الإصغاء لنصائح وتحذيرات المحبين والمعادين، يقول الشيخ النعماني:

لم يكن خافياً على السيد الشهيد الصدر قدس سره أن أقصر الطرق _ لو أراد فك الأزمة المستعصية مع السلطة_ هو الابتعاد بولائه وتأييده لشخص الإمام الخميني قدس سره والثورة الإسلامية في إيران؛ لأن ذلك سيحقق له السلامة ۔ ولو لأمدٍ ما ۔ وأن طريق الشهادة القصير هو في الإعلان عن هذا الولاء.

وينقل عنه الشيخ النعماني في مكان آخر قوله قدس سره:

إن هؤلاء الذين يطلبون مني أن أتريّث وأن أتخذ موقفاً من الثورة الإسلامية لا يثير السلطة الحاكمة في العراق، حفاظاً على حياتي ومرجعيتي لا يعرفون من الأمور إلا ظواهرها، إن الواجب على هذه المرجعية وعلى النجف كلها أن تتخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلامية في إيران.. ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ؟ أليس هو إقامة حكم الله عزوجل على الأرض؟ وها هي مرجعية السيد الخميني قد حققت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرج ولا أتخذ الموقف الصحيح والمناسب حتى لو كلّفني ذلك حياتي وكل ما أملك؟[13]

وقد كان الشهيد الصدر قدس سره يدعو الآخرين للذوبان في مرجعية الإمام الخميني قدس سره أسوة به، فكتب رسالة بعثها إلى طلابه في إيران يقول:

يجب أن يكون واضحاً أيضاً أن مرجعية السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفاف حولها والإخلاص لها وحماية مصالحها والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم.[14]

لقد أثمرت كتابات ونشاطات ثم شهادة السيد الصدر قدس سره رأساً في توجه وحدوي عفوي ثوري وإسلامي يتجاوز كل الحدود والانتماءات والعواطف، ويغلّب الانتماء الإسلامي على جميع الانتماءات والعواطف، فالأمة في العراق تتّبع وتطيع وتقبل بقيادة قائد إيراني يتكلم الفارسية وإن كان عربي النسب وأكثر جماهير ثورته من غير العرب، فمن الذي علّم الأمة هذا الذوبان التام في الإسلام وقيادة الإمام قدس سره بحيث تبقى متعلقة بقيادته رغم غياب قائدها الميداني العربي العراقي؟

ولو لم يسبق الشهيد الصدر قدس سره أمته إلى هذه المرتبة من الوعي والتطبيق هل يمكن أن ترتقي تلقائياً إليه؟ لقد استشهد الصدر قدس سره مبدئياً في الدفاع عن نظرية ولاية الفقيه، ولكنه طبّق عملياً مبدأ ولاية الولي الفقيه، بل ومبدأ ونظرية وحدة الولي والقائد في زمن الغيبة الكبرى، سواءاً بلحوقه اللاحق وبيعته للسابق كما يعتقد البعض وفهم الإمام الخميني قدس سره نفسه أو بالتعيين والتنصيب الإلهي المسبق في علم الله سبحانه والذي يهدي الله الأمة إلى انتخاب وليها المعين إذا استحقت ذلك كما يعتقد قليلون.

هذا المبدأ الذي يتفرع من وحدة الإمام المعصوم حتى وإن عاش معصومان في فترة واحدة إلى أن تنتهي إلى وحدة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه ثم وحدة نائبه في زمن الغيبة الكبرى هذه النظرية الفطرية والعقلية التي تحكم بأن الأمة تتمزق إذا كانت موحدة ولا تتوحد إذا كانت ممزّقة كالأمة الإسلامية حالياً إذا لم تخضع لولاية وتوجيه ولي واحد لا يتعدد، علماً بأن أكثر النظريات الأرضية تؤمن وتطبّق نفس هذا المبدأ الفطري.

وبذلك صار من السهل أن نستنتج ونثبت بأن القوات الإسلامية العراقية هي ثمرة من ثمرات دماء الشهيد الصدر قدس سره بقدر ما تلتزم قيادةً وأفراداً بالمبادئ التي ضحّى من أجلها الشهيد الصدر قدس سره وبقدر ما تلتصق وتذوب في الولي والولاية وتأخذ منه تكليفها الشرعي بخصوص العراق أو غيره ولا تسبقه في القول ولا تتخلف عن قوله.

لقد استشهد الصدر قدس سره من أجل فكرة عالمية الإسلام ورسالته التي بشّر بها في كل كتاباته ودقّ أساسها الواحد تلو الآخر في الفلسفة والاقتصاد والسياسة والاجتماع، وها هو يثبتها عملياً ويستشهد من أجلها في الولاية والقيادة، هذه العالمية التي سيحققها فعلياً الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه وهذا هو شأن الشهداء العظام الذين يستوعب وعيهم كل العقيدة والتاريخ ويطوونه ولا يطويهم.

وقد تصوّر بعض الباحثين عندما عرفوا الرغبة الذاتية والشوق المتزايد لدى الشهيد الصدر قدس سره للشهادة بأن تلك رغبة وأمنية ذاتية ليس لها ما يكفي من المبررات الكافية في الواقع الموضوعي، فمثلاً الباحث ملا أصغر علي جعفر في بحثه الحياة السياسية للإمام الصدر قدس سره يقول:

لقد أمدّت الجمهورية الإسلامية السيد الصدر بعاملي قوة كان يحتاجها افتقدهما عندما فكّر لسنوات قليلة مضت بثورته الاستشهادية الحسينية، والعاملان هما تأييد حركته من قبل المرجعية وضمان استمرارية النضال بقيادة العلماء خارج العراق.[15]

فهذا التحليل وإن كان يخلو من الصحة إلا أن الشهيد الصدر قدس سره كان قد تصدى بنفسه للمرجعية عندما تعرّض للسلطة، وقد دفع ثمن تأييده لمرجعية السيد الخميني قدس سره المنتصرة وليس العكس، فالظروف والمقاييس تغيرت بعد انتصار الثورة كما أن السيد الصدر قدس سره قد أقدم على ثورته الاستشهادية من أجل الأهداف التي شرحناها في المقياس الرابع، سواءاً استمر النضال بقيادة العلماء خارج العراق أو لم يستمر. ويضيف الكاتب قائلاً:

كذلك كان العامل النفسي الذي جعله يعيد التفكير بخطّته الاستشهادية، ذلك بأنه رأى بأمّ عينيه مولد الجمهورية الإسلامية كما أنه رأى المرجعية الموضوعية.[16]

وقد بينا بأن الرغبة والشوق للشهادة ولقاء الله سبحانه كان يعيشها في طوايا نفسه ووجدانه، إلا أن ذلك لا يدفعه أن يحقق هذه الأمنية الذاتية دون أن ينتفع بها الإسلام إلى أقصى حد ممكن، وقد انتظر طويلاً إلى أن حانت الفرصة المنتظرة.

شهادة الصدر رضوان الله عليه هزّة عنيفة للعقل والضمير والقلب معاً

لقد كانت حياة الشهيد الصدر قدس سره عطاءاً مستمراً في كل المجالات العلمية والسلوكية، فما ترك قدس سره ساحة مبهمة إلا كان له فيها اليد الطولى من الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والتفسير والتاريخ والسياسة، وإلى جانب ذلك كان يقرنه بسلوك نبوي كريم وخلق علوي قويم وفضائل راقية تشعّ على كل الذين عاشروه واتصلوا به ولو لفترة قصيرة؛ ولذا فقد اكتسب هذه المؤلفات البديعة التي هزّت العقل الإسلامي والإنساني بُعداً جديداً عندما توجّه بالشهادة وارتَدَت حُلّة جديدة، حيث إن الطبع الإنساني يميل إلى احترام العلماء ومؤلفاتهم إذا صدّقوها بالشهادة التي تعكس شدة الإيمان بهذه العلوم ورسوخها في النفس رسوخ الجبال الراسيات، وكانت شهادته قدس سره هزّة عنيفة للضمير الإسلامي حيث يرى هذه المفاخر النادرة التي قلما يجود بها الزمان أسيرة بيد الجهلة والهمج الرعاع وأتباع اليهود والنصارى، تعاني المضايقة والاعتقال والتعذيب ثم الإعدام بالأساليب الوحشية؛ فيحس هذا الضمير بشدة المظلومية التي نزلت بعلماء الإسلام والأمة ككل، ولابد أن تنمو في نفسه عقدة الشعور بالذنب نتيجة للتقصير في نصرته، وتركه وحده يستفرد به الطاغوت المجرم ويقتله في الليل المظلم ويدفن كذلك مع أخته الشهيدة بنت الهدى رحمها الله.

وهذه العقدة تدفع للتكفير عن الذنب وتراكم الغضب على الطاغية وعصابته وحزبه، ولابد أن تحين الفرصة التي حانت في الانتفاضة الشعبانية وإن لم تكن بالمستوى المطلوب.

وأما هزة القلب فلأنه منبع الإرادة الحرة التي يحاول أن يميتها الطاغوت بمختلف الوسائل، بينما كانت مشاهدة الشجاعة المحمدية العلوية النادرة ومواقف التحدي لأعتى وأوهى طاغوت عرفه التاريخ من قبل رجل أعزل وحيد ليس معه إلا إيمانه ويقينه وعشقه لربه وأمته، وليس معه من سلاح إلا دمه الفائر غيرةً على الإسلام والأمة وغضباً على الطغاة الغاصبين من عبيد الدنيا والشهوات ومن أشباههم الأنعام السائبة التي لا تدافع عن دين ولا عن كرامة.

لقد استحق الشهيد الصدر قدس سره بجدارة لقب حسين العصر حيث جسّد جميع الأبعاد الحسينية في علمه وعمله، ولئن تأخرت استجابة الأمة له عدة عقود فلقد تأخرت عن الاستجابة لجده حيث توالت الانتفاضات وأسقطت الدولة الأموية بعد تسعة عقود. فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

السيد أبو حيدر الحسيني

[1]. الشهيد الصدر قدس سره سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد­رضا النعماني.

[2]. الشهيد الصدر قدس سره فضائله وشمائله، السيد فاضل النوري، ص150.

[3]. الجهاد السياسي للشهيد الصدر قدس سره، السيد صدر الدين القبانجي، ص103.

[4]. الروم: 10.

[5]. الأسراء: 88.

[6]. في سبيل البعث، مشيل عفلق، ص 127.

[7]. في سبيل البعث، ميشيل عفلق، ص 262.

[8]. الشهيد الصدر قدس سره فضائله وشمائله، فاضل النوري، ص 150.

[9]. الشهيد الصدر قدس سره سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ النعماني، ص 193.

[10]. في سبيل البعث، ميشيل عفلق، ص 164.

[11]. الشهيد الصدر قدس سره، سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 134.

[12]. الجهاد السياسي للشهيد الصدر قدس سره، السيد صدر الدين القبانجي، ص 103.

[13]. الجهاد السياسي للشهيد الصدر قدس سره، ص 248.

[14]. م. ن، ص 164.

[15]. محمد باقر الصدر قدس سره، دراسات في حياته وفكره، مطبعة دار الإسلام، لندن، ص 501.

[16]. م. ن، ص 502.