خواطر وفاء للإمام الشهيد محمد باقر الصدر

الشيخ أحمد الوائلي

لقد نظّمت هذه القصيدة وأنا في غمرة المرض بحالة كنت أتوقع الموت لحظة بعد لحظة وتداعت إليّ في تلك الفترة ذكريات غوالٍ لاح فيها الوجه الحبيب إلي في بسمته المضيئة، ووضوحه المعبّر، فانهمرت دمعة وتدفّقت خواطر كان مزيجها هذه الأبيات:

عزائي ولولا ذاك عزَّ عزائي   بأنك حي رغم كل فناء
مسستَ الردى فاهتزّ حياً مغرِّداً   كما اهتزّت الأرضُ المواتُ بماءِ
ومثلُك لا يفنى فما الفكر ميتٌ   وما كان طبعُ الفكرِ غيرَ بقاءِ
وهل ملكَ الدنيا سوى العلم وحدَهُ   وهل خالدٌ فيها سوى العلماءِ
فما أنا إذ أدنو إليكَ مؤبِّن   ولا مِن دعاةِ الحزنُ رغمَ شجائي
ولكنني أدنو لأقتبسَ اللظى   وأحملَه جمراً ليومِ لقاءِ
فقد غمر الدنيا الجليدُ فأجدبت   فلا تنتهي دون اللظى لَنماءِ
فما عصفت بالظالمين ورهطِهم   سوى جولة في الساحِ يومِ فِداءِ
ولمْ لا وإنّ الموتَ في الناس يستوي   به أجلُ الشجعانِ والجبناءِ
فمُتْ مرة كي لا ترى ألفَ موتة   تموتُ بها في قبضةِ الحُقَراءِ
هو الوثب إما موتةٌ مشرأبّة   وإما صعودُ المجدِ في خيلاءِ
أبا الفكرِ مَن أردوك ما كان همُّهم   شفاءَ غليل لَانتهى لشفاءِ
ولا هو محض الانتقام مِن الذي   تحدّاهم في عزمة ومضاءِ
ولا عطشٌ للدم فالقوم أشبعوا   ثرى الوطنِ المنكوب بحرَ دماءِ
فهم من فصيل تستوي في حسابهِ   دِما عبقريٍّ أو هزيلةُ شاء
ولكنهم ألفَوك نَسراً بوسعِه   بأنْ يرتقي في نزعة لسماءِ
وخافوا لواءً راح يخفقُ ظلُّه   على أمة في حاجة للواءِ
فأرادك حقدٌ ينتهي بجذوره   إلى دمنةٌ غذّته شرَّ غذاءِ
لآكلةِ الأكبادِ للشفة التي   تبلُّ غليلاً من دمِ الشهداءِ
وما زال فينا من بنيها عصائبٌ   هي الأمس لكن يختفي بغطاءِ
يمزّق إذ يقوى ويرفع إن كبا   (مصاحفَه) الصفراء للبُلهاءِ
أبا الفكر عمر الورد حتى لو انتهى   سريعاً يضلّ العطرُ غيرَ نهائي
وعطرُ دماءِ الواهبين ملاحمٌ   مضمّخةٌ ما هنَّ محض شذاءِ
فليت الذي يبكونهم يندبونهم   بملحمةٍ حمراء لا ببكاءِ
فما أرجع الدمعُ الحقوقَ ولا انتهى   لفتح ولا روّى غليلَ ظماءِ
فقل للقوافي الهادراتِ فصيحةً   كلامُ المواضي أفصحُ الفصحاءِ
ومَن رضوا بالذلِّ إنّ دواءَهم   كؤوسُ المنايا فهي خيرُ دواءِ
أبا الفكر يربي محنة الفكر لو غدت   تحكم فيه قبضة الجهلاءِ
ولو مشت الظلماء في غمرة الضحى   لتغتال زهو النور غير فضاءِ
وإن تتداعى ألسُنٌ حثّها الهوى   لتمدح فحوى العار دون حياءِ
وكنتُ أخال العلمَ دون تعصّب   يعمُّ الورى من عدلهِ بسواءِ
ويثأرُ للمظلومِ دون هوية   وكان الرجا هذا فخاب رجائي
تسألني نفسي أما كان (باقرٌ)   فتىً من جنودِ الله والأمناءِ
أما استهدف الإلحاد واهتزّ الهدى   حساماً ورمحاً ما التوى بأداء
أما كان سبطاً للنبي وإن أبى   له البعض أن يُدعى ابنَه بنداءِ
أليس أبوه وهو فوق خلافة   لدى البعض يدعى (رابع الخلفاء)
أليس أمه الزهراءُ سيدةُ النسا   إذا ذكرت بالفخر أيُّ نساءِ
فما بالُ آل اللهِ أخوةِ دربِه   نسوه فما أعطوه حقَّ إخاءِ
وليتَهم ما ارتاح للذئبِ سمعُهم   وقد سمعوا للذئبِ صوتَ عواءِ
فيا باقرَ العلمِ الذي ما أجاره   بنوه سوى أن أكثروا بدعاءِ
ولاقاهُ أبناءُ العقيدةِ بعدما   قضى العمرَ في تكريمهم بجفاءِ
ويا من تحدّى البغيَ جهراً بواضح   من العزم والإيمان لا بجفاءِ
ستبقى ولا يبقى سوى من تجرّدوا   ومن أخلصوا للهِ من حنفاءِ
وتبقى الدِّما هدراً إلى أن يجيءَ من   يُجلجلُ بالبارودِ لا برثاءِ
ويا أيها الشلو الدفين (بكوفة)   من الرمل في وادي الحمى المتنائي
بوجه يشعُّ النورُ في قسماتهِ   دليلاً على طهر به ونقاءِ
وثغر كأنّ الشمسَ في بسماته   تضيء فما تلقاه غير مضاء
إليك على بُعد مشاعر عانقت   جراحَك تستوحيك رمزَ إباءِ
وتمسح قبراً كلُّ جزء برمله   فمٌ صارخٌ في أوجهِ العملاءِ
وتستمطرُ الأنواءَ لطفاً ورحمةً   لثاوٍ سقى رملَ الحمى بدماءِ
وقرّب نحراً في نحور تعاقبت   بدرب (علي) والدِ الشهداءِ
يوحّدها دربُ الفداء فتلتقي   كبارُ المنى في حلبةِ الكبراءِ
وللجرحِ في وعي الشعوبِ مكانةٌ   وللجرحِ عندَ اللهِ خيرُ جزاءِ
وعندي وقد عايشت فيك خلائقاً   كمثلِ شفيفِ النورِ يومَ صفاءِ
سجاحة طبع أريحيٍّ تمازجت   بمتّزن من هيبةِ الفقهاءِ
فيا صدرُ ما ضافت رحاب فسيحة   على الأقرب الأدنى ولا البعداءِ
وداعاً فقد ألقاك إن جادت المنى   بمقعد صدق في أعزّ فناءِ

 

12/4/1998م. لندن

أحمد الوائلي