آفاق العالمية في مدرسة السيد الشهيد الصدر

عبدالكريم آل نجف

مقدمة

العالمية مَعلم أصيل من معالم الرسالة الإسلامية التي هي كسائر الأيديولوجيات كلٌ لا يقبل التجزئة، فإما أن تؤخذ بكل معالمها وسماتها أو ترفض. وكما أن النتائج تتوقف على توفر كل الأسباب الدخيلة وارتفاع كافة الموانع المؤثرة، كذلك الواقع الإنساني لا يمكن أن يوصف بالإسلام ما لم تكن الرسالة بتمامها متجسدة فيه، والعالمية من تمامها. والحديث عن عالمية الإسلام حديث واسع متشعب قد يُطرق من زوايا متعددة، فتارة يطرق من زاوية أهمية الأفق العالمي في الرسالة الإسلامية، ومدى حاجة الإنسانية إليه في حل الأزمات الاجتماعية والسياسية والدولية.

ويكفي لاستكشاف هذه الأهمية أن نشير إلى حقيقة هامة يشترك في الاعتقاد بها الفكر الديني والوضعي معاً، وهي أن المجتمع البشري بدأ عالمياً في فجر التاريخ توحّده الفطرة والسذاجة، وسيعود في خاتمة المطاف عالمياً في نظامه السياسي والاجتماعي وفي بنيته العقائدية. فقد آمن الإسلام بأن البشرية كانت في أول أمرها أمة واحدة تسودها الفطرة قال تعالى <كٰانَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ>.[1]

فهذه الآية صريحة في أن البشرية كانت في أول أمرها أمة واحدة متآخية منسجمة مع بعضها ثم ظهر الاختلاف والتشتت فيها، وهنا جاءت السماء لتلعب دوراً مباشراً في إرجاع البشرية إلى سابق عهدها بالتآخي والعالمية <فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا> واستمر هذا الدور متواصلاً على مدى 124 ألف نبوة ضمن خمس رسالات أساسية هي رسالات أولي العزم عليهم السلام آخرها الرسالة المحمدية الخاتمة، التي ختم الله بها أمر البشرية والتي لابد لها من يوم في خاتمة التاريخ تظهر فيه على سائر الاديان وتحقّق انتصاراً ساحقاً وسيادة تامة عبر دولة عالمية هي دولة الإمام المهدي عليه السلام، فتكون هذه الدولة محققة للهدف المركزي لخط النبوات الذي عبّرت عنه الآية بقولها: <لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ>. فإن دور الأنبياء والكتب السماوية في رفع الاختلافات والصراعات البشرية سوف يظهر بصورة تامة متكاملة في ذلك اليوم؛ لأن الوحدة البشرية سوف تبلغ ذروتها آنذاك.

وقد ساند المفكرون الغربيون الشق الأول من هذه النظرية، حيث آمنوا بأن المجتمع الأول كان بدائياً شيوعياً، وعلى أساس هذه الفكرة آمن ماركس بأن الشيوعية البدائية هي المرحلة الأولى في المادية التاريخية، وأن المرحلة الأخيرة في مسيرة التاريخ لابد وأن تتمثل في العودة إلى هذه الشيوعية، وهذا يعني أن الماركسية قد وافقت على جوهر الشق الثاني المتعلق بالمستقبل من هذه النظرية القرآنية.

كما آمنت المسيحية من قبل بأن التاريخ سيختم بظهور ملكوت الله في الأرض على يد المسيح المنقذ، كما نادى وينادي العديد من أقطاب الفكر والسياسة في الحياة المعاصرة إلى نبذ العنصرية والعودة إلى التآخي الإنساني والقيم العالمية بدلاً عن القيم القومية. وهكذا فإن اتفاق العقائد الدينية والنظريات الوضعية على عالمية المجتمعين الأول والأخير في التاريخ يقدّم دليلاً حاسماً على أصالة العالمية وعمقها في الحياة الإنسانية وبالتالي مدى أهميتها وخطورة الانحراف عنها.

وأخرى يطرق من زاوية ما تلقيه عالمية الإسلام من وظائف والتزامات على عاتق المسلمين تأتي في مقدمتها وظيفة نشر الإسلام في أرجاء المعمورة والدعوة إليه في صفوف المجتمعات غير المسلمة؛ تجسيداً لخصوصية الشهادة التي جعلها الإسلام في المسلمين.

وقد يطرق مرّة ثالثة من زاوية الاستحقاق، استحقاق الإسلام للمكانة العالمية واعتلاء السُدّة البشرية على النحو الدائم المتواصل، واستحقاق المسلمين للزعامة الإنسانية.

ولا شك أن مهمة من هذا النوع تحتاج إلى جهود متظافرة ومتنوعة ومستوى رفيع من الشعور بالمسؤولية، غير أن هناك نوعاً من الجهود والأنشطة يمكنها أن تلخّص كل هذه الجهات معاً، وتستجيب لكل هذه الجوانب في وقت واحد، كالمبادرة إلى طرح رموز المسلمين وقياداتهم الفكرية والسياسية من الطراز الأول كرموز وقيادات ذات مكانة عالمية، فلو أن الكتّاب والفنانين المسلمين وفقوا في أعمالهم الفكرية والفنية في طرح شخصية الرسول الأعظم صل الله عليه و آله كشخصية إنسانية عالمية لا تُدانى في سموّ ولا تحاذى في رفعة من خلال بيانات فكرية موثقة ومبرهنة وعلى أساس منهج المقارنة المنصفة مع الشخصيات الأخرى التي قد يُدعى أنها تنافس الرسول صل الله عليه و آله في ذلك، وترافقت مع ذلك حركة إعلامية وتبليغية مناسبة لاتضح للعالم أن الرسول الأعظم صل الله عليه و آله هو أعلى رمز إنساني على صعيد الإصلاح والتغيير الاجتماعي.

وهكذا الأمر بالنسبة لأميرالمؤمنين عليه السلام الذي هو أعلى رمز إنساني في العدالة الاجتماعية، وللإمام الحسين عليه السلام الذي هو أعلى رمز ثوري في التاريخ البشري حتى نصل إلى الإمام المهدي عليه السلام الذي تؤكد النصوص الإسلامية على أنه سيكون خلاصة القيم الإنسانية ومنتهى القمم في العدالة والتغيير والإصلاح.

وبإمكان هذا الاتجاه أن يتواصل ويتخذ من بعض أعلام المسلمين البارزين كمحطات له، بما يؤكد قابلية المسلمين على ممارسة دور الشهادة بالنسبة إلى البشرية خاصة الحلقات المعاصرة من هؤلاء الأعلام.

وليس من شك أن السيد الشهيد الصدر قدس سره يتقدم إلى الطليعة من هذه الحلقات، وهو الحلقة المشعّة التي لو أُتيح لشعاعها أن يمتد ويأخذ ما يستطيعه من المدى لنفذ إلى قلوب أحرار العالم ومفكريه ومستضعفيه أينما كانوا، إلا أن قلّة الاهتمام وقصور المنهج هو الذي أقعد هذا الشعاع عن الوصول إلى مرماه الأخير.

ما نعنيه بالافق العالمي

والعالمية مصطلح قابل للاستعمال في ثلاثة معاني:

1۔ ذيوع الصيت وانتشاره

2۔ الاهتمام بأمر البشرية وما يمثّل قضية إنسانية عامة ومصيرية

3۔ احترام دور العناصر الإنسانية الأصيلة في حركة الفرد والمجتمع والتاريخ كالعقل والروح والفطرة وعدم تغليب العناصر المحلية كاللون والجنس والقومية عليها. فالنظرة الأيديولوجية المرتكزة على هذا المحور تسمّى نظرة عالمية، بينما تسمّى النظرة الأخرى المرتكزة على تغليب دور العامل القومي والوطني والعرقي بالنظرة المتعصبة.

وواضح أننا في دراستنا هذه نقصد المعنى الثالث، ونحاول استقصاء ما قدّمه السيد الشهيد من معالجات وآراء ونظريات في هذا المضمار وإن كانت المعاني الثلاثة تنطبق عليه. فهو مفكر عالمي بمعنى ما يستحقه من مكانة وذيوع الصيت وانتشاره، كما أنه مفكر عالمي بمعنى ما قدّمه من اهتمام بأمر البشرية وحل معضلاتها الاجتماعية والفكرية، وهو في الوقت نفسه مفكر عالمي بمعنى ما قدّمه من معالجات وأطروحات تتبنى العناصر الإنسانية الأصيلة وتستبعد دور العناصر المحلية في حركة الفرد والمجتمع والتاريخ؛ وذلك أن المعنى الثالث يشتمل على جدليات تنطوي على درجة كبيرة من الأهمية والغموض، ومن الممكن أن تؤدي إلى منزلقات وأخطار كبيرة، ومن الطبيعي أن يفزع المعنيون بمثلها من ذوات البأس إلى السيد الشهيد الصدر بوصفه قمة الفكر الإسلامي الأصيل في عصرنا، محاولين استلهام الحلول والمعالجات من مدرسته الرائدة.

الأبعاد العالمية في مدرسة السيد الشهيد الصدر

إذا ما حاول الباحث استقصاء الفكرة العالمية ومعالجات السيد الشهيد الصدر لها في مدرسته الفكرية وما خلّفه من آثار ومؤلفات، فسيجد نفسه أمام عدد كبير من الآراء والأفكار والمؤشرات المفصلة أحياناً والمقتضبة أحيانا أخرى، والتي يمكننا تقسيمها إلى أربعة مجالات:

1۔ الأبعاد العالمية في المجال العقائدي.

2۔ الأبعاد العالمية في المجال التاريخي.

3۔ الأبعاد العالمية في المجال السياسي.

4۔ الأبعاد العالمية في السيرة الذاتية للسيد الشهيد الصدر.

أولاً _ الأبعاد العالمية في المجال العقائدي

العالمية في الإسلام ليست شعاراً عاطفياً عابراً، وإنما هي مفهوم أخلاقي حيوي تنطلق جذوره من عمق العقيدة التوحيدية القائمة على الإيمان بالله كمطلق ومثل أعلى في الكون والحياة الإنسانية، وبما يستتبع انضواء كافة المخلوقات تحت لواء ربوبيته سبحانه، فيتشكل بذلك إطاراً عقائدياً وعاطفياً يربط أفراد البشرية بأخوّة إيمانية من شأنها تذويب الفوارق المحلية والطبقية وتحويلها إلى فوارق غير مؤثرة، بعد ما أصبح الإيمان بالله هو المحور للمجتمع وليس بدلاً عن العامل البيئي والمادي.

ومن هنا نعتقد أن الإسلام هو العقيدة الوحيدة القادرة على إنجاز عالمية حقيقية، وأن ما عداها عالميات زائفة تبدأ شعاراً عاطفياً ساذجاً وتنتهي غطاءً للعدوان وتبريراً للهيمنة على الآخرين؛ لأن العامل البيئي الذي يقسّم المجتمع البشري إلى قبائل وقوميات وأوطان لا يمكن التغلب عليه إلا من خلال قيم سماوية فعّالة تشعر الإنسان برابطة أعلى وأسمى من تلك الانتماءات؛ ذلك أن الانتماء القبلي ۔ وكذلك القومي والوطني ۔ المنطلق من غريزة حب الذات والمتمحور حولها ۔ بكل ما تنطوي عليه من قيم أرضية مادية ۔ إذا ما انفرد بالساحة الاجتماعية سرعان ما يطغى ويتجاوز حدوده الطبيعية ليتحول من انتماء إلى ولاء، من رابطة اجتماعية إلى مثل أعلى يعبّئ الإنسان في معارك مع الآخرين، وينتحل لنفسه كل خصائص الألوهية، وهذه هي محنة الإنسان مع المطلقات الزائفة التي أشار إليها السيد الشهيد الصدر في بعض مؤلفاته.

فقد كتب يقول:

.. على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخياً، ولكنها لا يجوز أن تحوّل من حدودها كخطوة إلى مطلق، إلى مثل أعلى، يجب أن تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الأعلى، لا أن تحوّل هذه الخطوة إلى مثل أعلى، حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الأسر فشكّلوا القبيلة، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكّلت عشيرة، حينما اجتمعت مجموعة من العشائر فشكّلت أمة، هذه الخطوات صحيحة في تقدم البشرية وتوحيد البشرية، ولكن كل خطوة من هذه لا يجب أن تتحول إلى مثل أعلى، لا يجوز أن تتحول إلى مطلق، لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان، وإنما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي، يبقى هو الله، الخطوة تبقى كأسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله، هذا التعميم الزمني أيضاً هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحوّل هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحوّل إلى مثل أعلى.[2]

ثم يقارن في موضع آخر بين المثل الأعلى الحقيقي والمثل الأعلى الزائف فيقول:

إن المثل الأعلى يوحّد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود، باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى، باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود، كل الفوارق، يهضم كل الاختلافات، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة، لا يوجد ما يميّز بعضها عن بعض، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية، المثل الأعلى بشموليته يوحّد البشرية، ولكن المثل العليا المنخفضة تجزّئ البشرية وتشتّت البشرية، انظروا إلى المثل الأعلى كيف يقول: <إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ>[3] <وَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ>[4]. هذا هو منطق شمولية المثل الأعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الأسرة البشرية. انظروا، استمعوا إلى المثل المنخفض، إلى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم، كيف يقولون أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم، <إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهٰا شِيَعاً>[5]‌.[6]

وفي موضع آخر كتب يقول:

.. حينما يتحول النسبي إلى مطلق، إلى إله من هذا القبيل يصبح سبباً في تطويق حركة الإنسان وتجميد قدراتها على التطور والإبداع وإقعاد الإنسان عن ممارسة دوره الطبيعي المفتوح في المسيرة <لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً>[7].. فمن القبيلة إلى العالم نجد سلسلة من الآلهة التي أعاقت الإنسان بتأليهها والتعامل معها كمطلق عن التقدم الصالح.. فكل محدود ونسبي إذا نسج الإنسان معه في مرحلة ما مطلقاً يرتبط به على هذا الأساس يصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيداً على الذهن الذي صنعه بحكم كونه محدوداً ونسبياً.[8]

ويكرّر الفكرة نفسها في سياق اجتماعي وسياسي أوضح فيقول:

ومن أجل ذلك شجب الإسلام أي اتجاه إلى تحويل الأهداف النسبية والمرحلية إلى هدف مطلق؛ لأن ذلك يعيق الحركة عن الاستمرار وتجاوز الهدف النسبي في مرحلة تالية، فالمسلم حينما يقاوم الظلم في قريته أو في بلده أو في بني قومه مثلاً لا يعزل هذا الظلم عن أي ظلم آخر يمارسه الجبارون على الأرض، ولا يجعل إزالة هذا الظلم خاصة هدفاً نهائياً ومطلقاً له؛ لأن في ذلك إقراراً ضمنياً بما يمارس من ظلم في أرجاء العالم، وإنما يقاوم الظلم الذي يواجهه في محيطه بوصفه ظلماً من الإنسان لأخيه الإنسان، وبذلك وحده يكون قادراً على إعادة دور عبادة بن الصامت الذي انطلق مع إخوانه من جزيرة العرب لكي يحرروا الفلاحين المظلومين في أقصى بلاد فارس.[9]

ومن هنا كانت النبوات ۔ في حقيقة الأمر ۔ ثورة سماوية قادها الأنبياء ضد المثل الزائفة التي تفتن الإنسان عن المطلق الحقيقي وتحول بينه وبين التمتع بظلاله الوارفة.

وعندما يكون التوحيد عالمياً بطبعه وجوهره ۔ كما اتضح من البيان السابق ۔ فمن الطبيعي أن تكون النبوات عالمية كذلك بجوهرها وطبعها، بمعنى أن النبوات تتعامل مع أفراد البشرية كوحدة نوعية واحدة متساوية ومتكافئة، بحيث لا نجد فيها أثراً لانحياز إلى فرد أو قبيلة أو أسرة أو قومية أو بقعة جغرافية على حساب فرد أو قبيلة أو أسرة أو قومية أو بقعة جغرافية أخرى، ومن هنا كانت العالمية صفة منحصرة في الدين السماوي الصحيح، فلا نجد لها أثراً في مبدأ أرضي ولا في دين سماوي مشوب بشوائب أرضية.

قال السيد الشهيد الصدر:

وقد عرف العالم دعوات عالمية كثيرة، عرف المسيحية الرسمية التي يدّعي أنها عالمية مع أن كتابها المقدس ينطق بأن ما عدا شعب إسرائيل كلاب، ولم تكن إنسانية في يوم من الأيام، وعرف الماركسية في العصر الحديث ويدّعي أتباعها أنها عالمية، ولكنها لن تكون إنسانية في يوم من الأيام؛ لأنها مادية وقد كفرت بالإنسان يوم جرّدته من مصدر عظمته ومن أعظم ميزاته وهو جانبه الروحي مصدر إنسانيته الوحيد، وإذا لم تكن إنسانية فلن تكون عالمية؛ لأنها تفقد الشرط الأساسي لذلك وهو الإيمان بالإنسان، ويبقى الإسلام والإسلام وحده دعوة إنسانية عالمية، كذلك كان وكذلك هو الآن وكذلك سيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.[10]

وعلى أساس هذه الفكرة ينطلق السيد الشهيد في مواضع أخرى ليناقش ويثبت حقيقتين:

1۔ صحة الإسلام كرسالة سماوية.

2۔ أن الأديان السماوية توحيدية عالمية منذ البدء.

أما الحقيقة الأولى فقد عالجها وأثبتها في كتابه (المرسل الرسول الرسالة) في مواجهة تشكيكات الخصوم التي أرادت أن تنال من الإسلام كرسالة سماوية، بادّعاء أنه مبدأ أرضي كان من إبداع النبي نفسه، وهو ادّعاء أظهره النصارى واليهود قديماً وعدد من المستشرقين حديثاً بنحو علني سافر. وانجرّ إليه بعض دعاة القومية العربية بنحو ظني حينما آمنوا بأن الإسلام جاء تعبيراً قومياً عن الشخصية العربية في تجلياتها وخصوصياتها وطبائعها.

فكتب السيد الشهيد يقول في ردهم: إن (الرسالة ۔ كمحتوى ۔ حقيقة ربانية فوق الشروط والظروف المادية، ولكنها بعد أن تحولت إلى حركة، إلى عمل متواصل في سبيل التغيير يصبح بالإمكان ربطها بظروفها وما تكتنفها من ملابسات وأحاسيس، فإذا قيل مثلاً: إن شعور الإنسان العربي بالتمزق والضياع وهو يجد نفسه يجسّد آلهته ومثله الأعلى في حجر يحطّمه في لحظة غضب، أو حلوى يلتهمها في لحظه جوع، جعله يتطلع إلى الرسالة الجديدة، أو قيل مثلاً.. أو قيل: إن الشعور القبلي لعب دوراً مهماً في حياة الرسالة.. أو قيل: .. إذا قيل شيء من هذا القبيل فهو أمر معقول وقد يكون مقبولاً غير أن هذا إنما يفسّر سير الأحداث ولا يفسّر الرسالة نفسها).[11]

ويؤكد هذه النتيجة بقوله: (إن محمداً لم يكن جزءً من تيار بل كان التيار الجديد جزءً منه)[12] ولو كان الإسلام وليد البيئة العربية لانعكست عليه خصائصها وطباعها، بينما نجد أن الرسالة الإسلامية (جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان والعمل والعلاقات الاجتماعية.. . فابن مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأة ينادي بوحدة البشرية ككل، وابن البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العروق والنسب والوضع الاجتماعي، ظهر ليحطّم كل تلك الألوان ويعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، و<إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ>[13] ۔ وليحوّل هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم.. وابن الصحراء التي لم تكن تفكر إلا في همومها الصغيرة وسدّ جوعتها والتنافر بين أبناءها ضمن تقسيمها العشائري ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم ويوحّدها في معركة تحرير العالم..).[14]

وهكذا فنحن (نواجه هنا طفرة هائلة وتطوراً شاملاً في كل جوانب الحياة، وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل بدلاً عن مجرد خطوة إلى الأمام. إن مجتمع القبيلة طفر رأساً على يد النبي إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد. وإن المجتمع الوثني طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص الذي صحّح كل أديان التوحيد الأخرى..).[15]

وخلاصة ذلك كله أن عالمية الإسلام تثبت سماويته.

وأما الحقيقة الثانية فقد بحثها السيد الشهيد الصدر في نطاق مناقشة الفكرة القائلة بأن الأديان تطورت من الصورة القبلية إلى الصورة القومية، ثم إلى الصورة العالمية على أساس (أن كل شعب حين تطورت ظروفه الاقتصادية وأتاحت له إقامة مجتمع قومي مستقل كانت الآلهة التي يعبدها قومه آلهة قومية لا تتجاوز سلطتها حدود الأراضي القومية المدعوّة إلى حمايتها، وبعد أن تلاشت قوميات هذه الشعوب بالاندماج في إمبراطورية عالمية هي الإمبراطورية الرومانية ظهرت الحاجة إلى دين عالمي أيضاً. وكان هذا الدين العالمي هو المسيحية التي أصبحت ديناً رسمياً للدولة).[16]

ويردّ السيد الشهيد الصدر على هذه الفكرة بأن المسيحية (لو كانت تعبيراً عن الحاجات الموضوعية المادية التي تشير إليها الماركسية لكان من الطبيعي أن تولد المسيحية وتنمو في قلب الإمبراطورية الرومانية الآخذة بزمام القيادة العالمية.. مع أن الواقع التاريخي يختلف عن ذلك تماماً؛ فالمسيحية لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، ولم تولد في أحضان الرومان الذين بنوا الدولة العالمية وكانوا يعبّرون في نشاطاتهم عنها، وإنما نشأت بعيدة عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقية المستعمرة للرومان، ونمت بين شعب يهودي مضطهد لم يكن منذ استعمرته الإمبراطورية على يد القائد الروماني بمبي قبل الميلاد بستة عقود يحلم إلا بالاستقلال القومي وتحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين، الأمر الذي كلّفه كثيراً من الثورات وعشرات الألوف من الضحايا خلال تلك العقود الستة، فهل كانت ظروف هذا الشعب المادية والسياسية والاقتصادية جديرة بأن تتمخض عن الدين العالمي الذي يلبّي حاجات الإمبراطورية المستعمرة؟)[17]

ومن الزاوية الإسلامية إذا (أخذنا فكرة الماركسية عن التطور التاريخي للأديان لنطبّقها على الإسلام الدين العالمي الآخر لوجدنا مدى التناقض الفاضح بين الفكرة والواقع، فلئن كانت أوروبا دولة عالمية تتطلب ديناً عالمياً فلم تكن في جزيرة العرب دولة عالمية كذلك، بل لم تكن توجد دولة قومية تضمّ الشعب العربي، وإنما كان العرب موزّعين فئات متعددة، وكان لكل قبيلة إلهها الذي تؤمن به، وتتذلل إليه وتصنعه من الحجر ثم تدين له بالطاعة والعبودية. فهل كانت هذه الظروف المادية والسياسية تدعو إلى انبثاق دين عالمي واحد من قلب تلك الجزيرة المبضّعة وهي بعد لم تعرف كيف تدرك وجودها كقوم وشعب فضلاً عن أن تعي وحدة من نمط أرقى تتمثل في دين يوحّد العالم برمته، وإذا كانت الآلهة الدينية تتطور من آلهة قومية إلى إله عالمي تبعاً للحاجات المادية والأوضاع السياسية فكيف طفر العرب من آلهة قبلية يصنعونها بأيديهم إلى إله عالمي دانوا له بأعلى درجات التجريد؟)[18]

وهو حينما يفنّد هذه النظرية في مجال تطور الأديان يطرح في قبالها نظرية جديدة يمكنها أن تعالج مسألة تغيير النبوات وتجددها وظهورها واحدة بعد الأخرى. والمجال هنا لا يسع لبسط هذه النظرية وإنما نقتصر على القدر المرتبط منها بموضوع دراستنا هذه، وهو أن النبوات تتغير وتتجدد تبعاً لعوامل، ومن جملة هذه العوامل عامل مدى استعداد الإنسان لوعي حقيقة التوحيد.

صحيح أن التوحيد حقيقة واحدة في كل النبوات والرسالات السماوية، ولكن استعدادات الإنسان وشروطه النفسية والفكرية تختلف من مرحلة زمنية إلى مرحلة زمنية أخرى، وفي حالة كهذه لابد وأن تقدّم فكرة التوحيد (على مراحل وعلى درجات كل درجة تهيئ ذهنه لتلقّي التوحيد، ونحن بإمكاننا ۔ بالالتفات إلى فكرة التوحيد المعطاة من التوراة والإنجيل والقرآن الكريم ۔ أن نفهم هذا المعنى. [نضرب] مثالاً على هذا المعنى: التوراة والإنجيل والقرآن، كل هذه الكتب تعطي فكرة التوحيد، وبقولي: التوراة والإنجيل أقصد التوراة والإنجيل الذي يعيش بيننا اليوم؛ لأن التوراة والإنجيل الموجودين بين أيدينا اليوم على أي حال قد يقصدان تصوير الفكرة الدينية في شعب موسى وشعب عيسى، في قوم موسى وقوم عيسى؛ ولا شك أنه أيضاً يحتفظ بجزء من النص الديني إلى حد قليل أو كثير، خاصة في التوراة.

ولهذا يمكن أن نستلهم من الكتابين في سبيل تقدير وتحديد الروح الدينية العامة لمرحلتين من مراحل الإنسان التي عاشها مع النبوة بطبيعة الحال، هنا نرى فرقاً فارقاً بدرجة وتطوراً في مفهوم التوحيد المعطى، فبينما التوحيد في الكتاب الأول يقوم على أساس إعطاء إله، وهذا الإله لا يستطيع هذا الكتاب أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود.. فكانت التوراة باستمرار تقدّم الإله في إطار قومي كأنه إله هؤلاء في مقابل الأصنام والأوثان التي هي آلهة الشعوب والقبائل، فلم تقل التوراة بشكل صريح عميق لهؤلاء: إن هناك إلهاً واحداً للجميع.. وإنما عوّضت هؤلاء بالخصوص عن صنم ووثن معين بإله يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم.. فخيّل لهم على مر الزمن أنهم يحتكرون الله لأنفسهم، بينما الشعوب والقبائل الأخرى هي ذات آلهة شتى وأصنام شتى.. في الكتاب الثاني صعدت فكرة الله مرتبة؛ وذلك لأن الطابع القومي انتزع عن هذه الفكرة أصبح الإله المقدّم من قبل تلامذة السيد المسيح عليه السلامللعالم إلهاً عالمياً لا فرق فيه بين شعب وشعب هو إله العالم على الإطلاق، لم يغادر منطقة قريبة من ذهن الإنسان المحسوس، لم يجرّد تجريداً كاملاً عن عالم الحس، بقي على صلة وثيقة جداً بالإنسان الحسي، كأنه أبوه.

وبهذا يعبّر في الأناجيل كثيراً عن الإنسان بأنه ابن الله.. الأناجيل تعبّر عن أي إنسان أنه ابن الله.. لأنها تعطي فكرة عن الله، فكرة الأب الواحد للجماعة البشرية، لا فكرة الخالق السيد المطلق المقتدر.

بينما الكتاب الثالث يعطي فكرة التوحيد بأنصع وأوسع ما يمكن من التنزيه الذي يبقى محتفظاً بقدرته على تحرك الإنسان؛ لأنه يجرّد هذه الفكرة عن طابع الأبوة والعلائق المادية مع الإنسان على الإطلاق..).[19]

وهذه الفكرة تؤكد ما أسلفناه من العلاقة بين التوحيد والعالمية، فكلما كان التوحيد واضحاً ناصعاً كانت العالمية الناتجة عنه أكبر وأكبر حتى جاء الإسلام ليبلغ بالتوحيد إلى أعلى مراحله وبالعالمية إلى أكبر درجاتها، وفي هذا السياق لابد من معالجة الظاهرة الملحوظة في خط النبوات، ألا وهي ظاهرة إعطاء الوصاية على الرسالة (لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطاً نسبياً أو لذريته وأبناءه، وهذه الظاهرة لم تتفق فقط في أوصياء النبي محمد صل الله عليه و آله بل اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل. قال الله: <وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتٰابَ>[20] <وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ>[21] فاختيار الوصي كان يتمّ عادة من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة ولم يروا النور إلا في كنفه وفي إطار تربيته).[22]

وهذا يعني أن خط الشهادة السماوية في مرحلتي النبوة والإمامة قد أغلق لحساب سلالة أسرية خاصة، وهذا ما لا يتفق مع قيم العالمية ومُثلها.

وقد أجاب السيد الشهيد على هذه الشبهة فكتب يقول:

وليس هنا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكّل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكّل عادة الإطار السليم لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره الرباني، وأما إذا لم تحقّق القرابة هذا الإطار فلا أثر لها في حساب السماء، قال الله تعالى: <وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ>[23]‌.[24]

ويمكننا أن نقرّب هذا الجواب بوجه آخر فنقول: إن خط الشهادة في مرحلتي النبوة والإمامة يتطلب خصائص استثنائية في النبي والإمام لا ينالها الفرد العادي وفي مقدمتها العصمة، ومن الطبيعي أن تجنّد السماء من أجل إنجاح ثورة الأنبياء كافة الاستعدادات وأعلى الإمكانات ومنها عامل الوراثة وعامل التربية وعامل النسب. فالوراثة تنقل الاستعدادات والملكات العالية، والتربية النبوية تنمّي وتوجّه هذه الملكات والاستعدادات، والنسب يلعب دوراً تشجيعياً مهماً في تنشئة الفرد الذي يجد نفسه أكثر إقداماً وتصميماً كلما انتسب إلى أسرة رفيعة.

ويمكننا أن نذكر جواباً آخر وهو أن البشرية في عصور الأنبياء والأئمة كانت تتعامل مع النسب كقيمة اجتماعية وسياسية، بحيث إنها تفرض فيمن يتصدى لزعامة المجتمع أن يكون من نسب عائلي رفيع؛ ولذا ظلّت النظم الإمبراطورية والملكية هي السائدة بلا منازع حتى قيام الثورة الفرنسية، ولا زال العالم يحتفظ ببقايا من هذه النظم، مما يدلل على أن البشرية لا زالت تعطي النسب قيمة سياسية ولو بدرجة أقل من السابق.

ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يراعي خط النبوات هذه النقطة، حتى يتمكن من إحراز النجاح المطلوب في عملية التغيير الاجتماعي، وذلك حينما ينطلق من أرضية اجتماعية قوية ممثلة بنسب نبوي رفيع يحظى باحترام الناس واعترافهم.

كما أنه من الممكن أن يقال: بأن انتظام سلسلة الأنبياء والأئمة عليهم السلام في سلالة أسرية واحدة ربما يراد منه تكريس وحدة البشرية وتعميق روح القرابة بين أفرادها.

والشيء المهم أن خط النبوات ۔ وهو يراعي هذه الضرورات والجوانب ۔ لم يساوم على عالميته ولم يخسر قيمها الخلقية الرفيعة، فالملاك في النبوة والإمامة لا زال هو الملكات والاستعدادات والفضائل التي يشترط في النبي والإمام أن يكون قد بلغ القمة فيها ونال ذروتها، ولم يكن النسب بما هو نسب ملاكاً أو جزءً من الملاك فيها.

وإذا كانت الثورة الفرنسية قد سجّلت في القرن الثامن عشر الميلادي بداية الانطلاق نحو النظم الجمهورية التي لا تعترف بالنسب كقيمة سياسية في المجتمع فإن الإسلام قد سبق هذه الثورة بثمانية قرون، حينما أعلن أن المرحلة الثالثة في خط الشهادة ۔ وهي مرحلة المرجعية التي انطلقت مع حلول غيبة الإمام عليه السلام في منتصف القرن الهجري الثالث ۔ هي مرحلة غياب الدور السياسي للنسب غياباً تاماً، وذلك حينما لم يعد خط الشهادة يشترط في حلقاته القيادية شرط العصمة الذي كان النسب يلعب دوراً مساعداً فيه من خلال عاملي الوراثة والتربية النبوية.

ثانياً _ الأبعاد العالمية في المجال التاريخي

لم يعد التاريخ كتاباً تطالع فيه الأجيال قصص الغابرين للمتعة والاعتبار، بل تعدّى ذلك وأصبح ميداناً حيوياً من ميادين المنازلة الفكرية والسياسية بين الأيديولوجيات والنظريات المختلفة، كل منها يحاول أن يلتمس من التاريخ دليلاً يؤيدها ويثبت فشل الطرف المقابل لها، وعلى أساس ذلك ظهرت فلسفة التاريخ منذ القرن السابع عشر الميلادي كاتجاه فكري حاول من خلاله الفلاسفة والمفكرون إخضاع التجربة التاريخية للبحث والتحليل الموغل في العمق؛ بغية الوصول إلى أكمل معرفة ممكنة بشأن حقيقة الفرد والمجتمع.

ومن الطبيعي أن يخضع هذا الاتجاه ۔ الذي عرف في بادئ الأمر باسم العلم الجديد ثم تغيّر اسمه إلى فلسفة التاريخ ۔ للنزعة المادية التي سيطرت على أوروبا، ونتيجة لذلك أصبحت فلسفة التاريخ تعني إعطاء تفسيرات مادية للتاريخ بنحو أو بآخر، فتارة يفسر على أساس العامل الاقتصادي، وأخرى على أساس العامل الجغرافي، وثالثة على أساس العامل العرقي، ورابعة على أساس العامل الجنسي.

ومن الضروري أن يطرح الإسلام رأيه في هذه المعركة ويبين العامل الذي يختاره، وقد عالج عدد من الأعلام والمفكرين الإسلاميين هذه المسألة في عدد من المؤلفات والكتب أبرزها كتاب فلسفة التاريخ لآية الله الشهيد مرتضى مطهري.

وقد كان مؤملاً من السيد الشهيد الصدر أن يطرح النظرية الإسلامية في هذا المضمار ويبيّن القول الفصل فيه، كما هو شأنه في كليات الفكر الإسلامي وأصوله الكبرى. لولا أن القدر المشؤوم اختطف هذا الأمل الكبير، وأكبر الظن أن سماحته كان عازماً على تناول هذا الجانب في كتاب مجتمعنا؛ وذلك لمؤشرين:

1۔ أنه كتب في نهاية فلسفتنا وفي سياق بحثه عن الإدراك وقدرة الإنسان على التكيّف مع البيئة يقول:

سوف تدرس في مجتمعنا طبيعة هذا التكيف وحدوده في ضوء مفاهيم الإسلام عن المجتمع والدولة؛ لأنه من القضايا الرئيسية في دراسة المجتمع وتحليله، وفي تلك الدراسة سنستوفي بتفصيل كل النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الإدراك هذا.[25]

2۔ وفي مقدمة الطبعة الأولى من اقتصادنا كتب يقول أيضاً:

وكنّا نقدّر أن يكون مجتمعنا هو الدراسة الثانية في بحوثنا نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته الاجتماعية وطريقته في تحليل المركّب الاجتماعي وتفسيره…[26]

والذي يعرف منهج السيد الشهيد الصدر في تناول الموضوعات وما يمتاز به من عمق يستطيع أن يرجّح بأن سماحته سوف يتناول دور البيئة وما تمثّله من عوامل مادية في شخصية الإنسان كفرد ومجتمع وتاريخ، وهل أن موقف الإنسان إزاءها هو دور المنفعل المقهور أم دور المختار المريد؟ وغير ذلك عن المباحث ذات الصلة العميقة ببحوث الإدراك والمجتمع.

والتراث الفعلي للسيد الشهيد الصدر يشتمل على جانبين من فلسفة التاريخ هما:

1۔ مناقشة المادية التاريخية لدى الماركسية مناقشة تفصيلية معمّقة تارة في ضوء الأسس الفلسفية والمنطقية التي يتكون منها مفهوم الماركسية العام عن الكون، وأخرى بما هي نظرية عامة تحاول استيعاب التاريخ الإنساني، وثالثة في ضوء ما ترسمه الماركسية من تفاصيل عن مراحل التاريخ البشري والقفزات الاجتماعية على رأس كل مرحلة، وذلك في كتاب اقتصادنا. وقد عُدّت هذه المناقشات أقوى ما واجهته الماركسية من تفنيد وردّ؛ وذلك لما تميزت به من حجج قطعية وبراهين علمية مؤكدة من وجوه متعددة.

ولكن هذه المناقشات لا يدخل منها في حساب النظرية الإسلامية في حقل التاريخ وفلسفته إلا النزر اليسير؛ لأن أكثر النقوض والردود التي أوردها سماحته تتمثل في شواهد تاريخية وفلسفية تثبت فساد النظرية الماركسية، وواضح أن إثبات فشل الماركسية شيء وإقامة النظرية الإسلامية شيء آخر.

2۔ طرح نظريته المعروفة عن سنن التاريخ في القرآن الكريم في خمس محاضرات من محاضراته القرآنية حول التفسير الموضوعي. والذي يطالع هذه المحاضرات التي نشرت باسم (المدرسة القرآنية) ويطابق بينها وبين ما ذكره عن كتابه مجتمعنا يستطيع أن يرجّح بأن السيد الشهيد قد أودع في محاضراته هذه جانباً من روح ما كان يتمنى إبداعه في كتاب مجتمعنا بشأن المجتمع والتاريخ، وأن السنن التاريخية التي شرحها في هذه المحاضرات تمثّل القاعدة القرآنية التي يمكن الاتكاء عليها في تشييد نظرية متكاملة بشأن فلسفة التاريخ، وكأن الأقدار شاءت أن يقدّم السيد الشهيد محاضراته تلك في المجتمع والتاريخ كخميرة ورؤوس أقلام في النظرية الإسلامية عن المجتمع والتاريخ بحثاً عمن ينهض بهذه المسؤولية ويحوّل تلك الخميرة إلى نظرية متكاملة، أي يحوّل تلك المحاضرات القرآنية إلى (مجتمعنا).

ومن جملة الأفكار الجوهرية التي طرحها في محاضراته هذه قوله:

إن الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ، وإننا ذكرنا أن حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الأخرى بأنها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى الغاية؛ لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل، فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية، والمستقبل معدوم فعلاً وإنما يحرّك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.

إذن الوجود الذهني هو الحافز والمحرّك والمدار لحركة التاريخ، وهذا الوجود الذهني يجسّد من ناحية جانباً فكرياً وهو الجانب الذي يضمّ تصورات الهدف، وأيضاً يمثّل من جانب آخر الطاقة ۔ الإرادة ۔ التي تحفّز الإنسان نحو هذا الهدف وتنشّطه للتحرك نحو هذا الهدف.

إذن هذا الوجود الذهني الذي يجسّد المستقبل المحرّك، هذا الوجود الذهني يعبّر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الإرادة، وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية، وهذان الأمران ۔ الفكر والإرادة ۔ في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان.

إن المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الأساسيين وهما الفكر والإرادة، إذن المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات ويجسّد هذه الأهداف من خلال مزجه بين فكرة وإرادة، وبعد هذا صح القول بأن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضمّ من علاقات ومن أنظمة ومن أفكار وتفاصيل، هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة بالمحتوى الداخلي للإنسان…[27]

وهذا المعنى يبتني أساساً على ما قرره السيد الشهيد في نهاية (فلسفتنا) من أن (الفكر نشاط إيجابي فعّال للنفس وليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجية، كما أنه ليس هو الواقع المباشر للغة كما زعمت الماركسية، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار وليست هي المكوّنة لتلك الأفكار).[28]

ثم يخلّص إلى القول بأن:

الحياة الاجتماعية والظروف المادية ۔ إذن ۔ لا تحدد أفكار الناس ومشاعرهم بصورة آلية عن طريق المنبهات الخارجية. نعم إن الإنسان قد يكيّف أفكاره تكييفاً اختيارياً بالبيئة والمحيط كما نادت بذلك المدرسة الوظيفية في علم النفس، تأثراً بنظرية التطور عند لامارك في البيولوجيا، فكما أن الكائن الحي يتكيف عضوياً تبعاً لمحيطه كذلك الأمر في حياته الفكرية، ولكننا يجب أن نعلم أولاً: أن هذا التكيف يوجد في الأفكار العملية التي وظيفتها تنظيم الحياة الخارجية، ولا يمكن أن يوجد فى الأفكار التأملية التي وظيفتها الكشف عن الواقع. ثانياً: أن تكيّف الأفكار العملية بمقتضيات البيئة وظروفها ليس آلياً، بل هو تكيف اختياري ينشأ من دوافع إرادية في الإنسان تسوقه إلى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته؛ وبذلك يزول التعارض تماماً بين المدرسة الوظيفية والمدرسة الغرضية في علم النفس، وسوف ندرس في مجتمعنا طبيعة هذا التكيف وحدوده في ضوء مفاهيم الإسلام عن المجتمع والدولة…[29]

لكن النتيجة التي نتوصل إليها من خلال هذه الأفكار تبدو غير منسجمة مع ما أفاده سماحته في كتابه اقتصادنا. والنتيجة هي أن الفرد ومن خلاله المجتمع ثم في حلقة أكبر التاريخ يتحرك على أساس عامل واحد هو عامل الفكر والإرادة المعبّر عنه بالمحتوى الداخلي للإنسان، وهذا يعني أن الإسلام يؤمن بأصل فكرة العامل الواحد في التاريخ، خلافاً لما ذكره في اقتصادنا حيث كتب يقول بعد شرح موجز عن نظريات العامل الواحد في التاريخ:

وكل هذه المحاولات لا تتفق مع الواقع ولا يقرّها الإسلام؛ لأن كل واحد منها قد حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلها، وأن يهب هذا العامل من أدوار التاريخ وفصول المجتمع ما ليس جديراً به لدى الحساب الشامل الدقيق.[30]

وواضح أن الغرض من فكرة العامل الواحد في التاريخ ليس إلغاء العوامل الأخرى وإنما الفرز بين عامل أساسي وعوامل ثانوية. والبحث عن (العامل الذي يشكّل الروح الأصلية للتاريخ وهويته الواقعية والذي يستطيع أن يكون المبرر والمفسر للعوامل الأخرى)[31] كما يقول الشهيد مطهري. وهكذا فإن فكرة الجمع بين العوامل التي طرحها بعض المفكرين ومنهم الدكتور محمد فتحي عثمان[32] فكرة وهمية؛ لأن الإنسان الذي يتحرك بعوامل متعددة غير طولية أشبه بالسيارة التي يُجعل لكل عجلة فيها محرك خاص ومقود خاص وسائق خاص، ولا أكاد أشك بأن السيد الشهيد لا يقصد من كلامه السابق الإيمان بفكرة الجمع بين العوامل المستقلة المتعددة في آن واحد، ولابد من حمل كلامه على معنى آخر ينسجم مع ما استخلصناه من (المدرسة القرآنية) و(فلسفتنا).

والشيء الذي يهمنا في دراستنا هذه أن السيد الشهيد قد قرّر بوضوح أن العامل المحرّك للتاريخ هو الفكر والإرادة، وهذا بحد ذاته يشكّل موقفاً إزاء النظريات التي فسّرت التاريخ بعوامل أخرى، ومنها النظرية الجغرافية التي اعتبرت البيئة الجغرافية هي الأساس لما يزخر به التاريخ من حركات وثورات وتحولات، والنظرية العرقية التي آمنت بإعطاء هذا الدور للعرق والجنس والدم. وهما النظريتان اللتان تعتبران مصدراً فكرياً مهماً من المصادر التي تكوّن الفكرة القومية والوطنية.

إن الإسلام حينما يعتمد الفكر والإرادة والمحتوى الشعوري والروحي للإنسان كعامل في حركة الفرد والمجتمع والتاريخ إنما يعتمد على عامل جوهري تنطوي عليه أصل الخلقة الإنسانية ويَتساوى في الانتماء إليه كل أفراد البشرية.

وهذا ما ينسجم مع الإطار العالمي للرسالة الإسلامية، وحينما تعتمد الليبرالية الغربية على العامل الجغرافي والقومي، فإنما تعتمد على عامل شكلي يتفاوت أفراد البشرية فيه، وهذا ما ينسجم أيضاً مع الإطار المادي للحضارة الغربية، والفرق بين الإسلام والليبرالية من هذه الجهة هو الفرق بين أسرة آمن أفرادها بدور الأب الروحي والتوجيهي، فكانت أسرة موحّدة متآخية تنظر لجوهر وجودها الإنساني والأخلاقي الواحد في الجميع، وتتجاهل الفروقات الشكلية بين أفرادها. وأسرة أخرى تنكّرت لدور الأب وفقدت بسبب ذلك الإطار الجامع لأفرادها، فتناست جوهرها الإنساني والأخلاقي الواحد في الجميع وتشبّث كل فرد فيها بما يمتلكه من خصوصيات شكلية في اللون والقول والجمال كأساس للامتياز على سائر إخوته، الأسرة الأولى هي الأسرة البشرية في ظل أبوة السماء التي عبّر عنها الإسلام بالعالمية، والأسرة الثانية هي الأسرة البشرية في ظل المادية الغربية التي أغرّت الإنسان بالعامل الجغرافي تارة والعامل القومي أخرى والعامل الطبقي ثالثة، لتشبع شعور الأفراد ونزعة كل واحد منهم للامتياز على من سواه، ولتلقي بالجميع في أتون الصراع الذي يعدّ ركناً خفياً من أركان الليبرالية الغربية، حيث قامت وبسبب ماديتها على تكريس الصراع والتنظير له كفكرة فلسفية وعلمية واجتماعية. ففيما ينعم المجتمع البشري في ظل أبوة السماء المتجسدة في عالمية الإسلام بفكرة الأخوة الإنسانية العامة والإيمانية الخاصة، تحاول الحضارة الغربية عبر إنكارها لأبوة السماء وتأكيدها على الجانب المادي أن تهيئ الجو لظهور مشاعر النزاع بين أفراد الأسرة بعد ما خطفت أباهم، ولا تكتفي بذلك فحسب، بل إنها تمجّد فكرة الصراع وتعتبرها القانون الفلسفي والعلمي والتاريخي والاجتماعي الطبيعي على الساحة الإنسانية.

فهناك فكرة الصراع بين الأضداد على الصعيد الفلسفي وفكرة صراع الطبقات على الصعيد الاجتماعي، وفكرة الصراع من أجل البقاء على الصعيد البيولوجي العلمي، وفكرة الصراع بين العرق الرفيع والعرق الرديء على الصعيد القومي، وفكرة التطور الديالكتيكي للتاريخ على الصعيد التاريخي. وكل ذلك يجعل الصراع فكرة حتمية في المجتمع، بينما على العكس من ذلك نجد الفرد المسلم يحسّ (بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوروبي الحديث. وقد عزّز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحمَلة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً وامتدادها مع الزمان والمكان، فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسّخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة).[33]

وحينما يعتمد الإسلام العامل الإنساني في التاريخ تصبح العوامل الأخرى داخلة في هذا النطاق أيضاً. فنحن لا ننكر دور الغريزة القومية وكذا العامل الاقتصادي وبقية العوامل في حركة المجتمع، ولكننا نرى العوامل والغرائز ومنها الغريزة القومية تنقل إيعازاتها ومطاليبها إلى الجهاز الذهني كفكرة، ولا تتحول إلى سلوك اجتماعي إلا بعد أن يمضيها، فقد يمضيها وقد يرفضها وقد يحوّر فيها.

واختيار أحد هذه البدائل يتمّ في ضوء الشروط النفسية والذهنية لذلك الإنسان، فإذا كان الذهن مشتملاً على فكرة صحيحة قوية تمكّنه من معالجة الموقف معالجة إيجابية فعّالة، وإن لم يكن كذلك أصبح بإمكان تلك العوامل والغرائز أن تملي موقفها وفكرتها عليه، ومن هنا يعتبر الإسلام النفس ميداناً لحسابات دقيقة ومستمرة بين عالم العقل الموجّه وعالم الغريزة الضاغط كما يعتبر السلوك الصحيح هو السلوك الناشئ عن توجيه عقلي كافٍ والسلوك الخاطئ أو المنحرف هو السلوك الناشئ عن غريزة ضاغطة قد عجز العقل عن توجيهها بسبب ضعفه من جهة وعنفوانها من جهة أخرى.

والتطبيق البارز لهذه الفكرة نجده في كتاب (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف) حيث ركّز السيد الشهيد فيه على الدور الخطير الذي لعبته العصبية القبلية في حرف مسيرة الأمة الإسلامية من الخط العالمي الذي رسمه النبي صل الله عليه و آله لها إلى الخط الجاهلي القبلي المتعصب النابع من غريزة حب الذات، التي تريد أن تفرض نفسها على الإنسان كمحور وحيد للسلوك، فكانت هناك الفكرة الإسلامية العالمية لكنها لا زالت فتية جديدة قد دشّنها المجتمع الإسلامي توّاً ولا زالت أمامه في مضمارها أشواطاً تطبيقية وتربوية كبيرة، وهناك الفكرة القبلية التي لا زال رصيدها الاجتماعي كبيراً، ولا زال المجتمع الإسلامي مشبعاً بها في الشعور واللاشعور.

في مثل هذا الظرف توفّي النبي صل الله عليه و آله وكانت الأمة الإسلامية (مقبلة على تحوّل اجتماعي وسياسي كبير وضخم جداً؛ لأنه كان من المفروض تحقيق فكرة المجتمع العالمي هذه الفكرة التي دعا إليها النبي صل الله عليه و آله ولكنه لم يحققها، لأن النبي صل الله عليه و آله إلى أن توفّي لم يمتد نفوذه إلى أكثر من النطاق العربي بالرغم من أن النبي صل الله عليه و آله دعا ملوك العالم، دعا كسرى وقيصر، دعا سلطان الحبشة، دعا غيرهم إلى الإسلام لأجل توعيتهم بالإسلام ولاجل تسجيل أن الإسلام مجتمع عالمي، ويدعو إلى المجتمع العالمي الذي لا يفرّق فيه بين شعب وشعب وبين قومية وقومية، بالرغم من هذا لم يتحقق المجتمع العالمي أيام النبي صل الله عليه و آله تحقق مجتمع عربي يحمل فكرة العالمية ويقوم على أساس الرسالة لا على أساس الفكرة القومية أو القاعدة القومية للرسالة، هذا المجتمع بعد النبي صل الله عليه و آله كان من المفروض أن يبني عالماً، أن ينشئ المجتمع الإسلامي العالمي.. هذه المرحلة أو هذه المهمة تحتاج إلى عقلية رسالية 100% إلى نزاهة عن كل شائبة، وعن كل الانخفاضات الفكرية والعاطفية التي يعيشها الإنسان القبلي أو الإنسان القومي.. حتى الآن لم يعيشوا المجتمع العالمي إلا كفكرة لم تولد إلى النور، إن الناس كلهم أسرة، الناس سواسية كأسنان المشط، أن لا فرق بين عجمي وعربي، هذا كانوا يسمعونه كفكرة من النبي صل الله عليه و آله.. لم يتيسر لمثل هؤلاء أن يحققوا هذه الفكرة وأن يتولّوا تحقيقها في مثل هذه المرحلة الدقيقة من التجربة الإسلامية، بطبيعة الحال سوف تحصل هناك انخفاضات فكرية وعاطفية تجعلهم دون مستوى تحقيق فكرة المجتمع العالمي..).[34]

يقول السيد الشهيد أيضاً في موضع آخر من كتابه:

.. جاء النبي صل الله عليه و آله إلى مجتمع متأخر يعيش الفكرة القبلية بأشدّ ألوانها ونتائجها وأقسى مفاهيمها وأفكارها، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالمي الذي لا فرق فيه بين قبيلة وقبيلة وبين شعب وشعب وبين أمة وأمة.. هذه الطفرة الهائلة بكل ما تضمّ من تحوّل فكري وانقلاب اجتماعي.. هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الإنسان.. إذن كيف يمكن أن نتصور أن هذا المجتمع الذي طفر بهذه الطفرة.. أنه يودّع تمام ما كان عنده من الأفكار والمشاعر والانفعالات، ويقلب صفحة جديدة كاملة دون أي اصطحاب لموروثات العهد السابق؟ هذا غير ممكن إلا في فترة طويلة جداً مع أن رسول الله صل الله عليه و آله لم يعش لمجتمع ودولة كمربي تربية كاملة في المدينة إلا عشر سنوات فقط، علماً أن جزءً كبيراً من المجتمع الإسلامي دخل الأحداث بعد وفاة رسول الله صل الله عليه و آله…[35]

وقد أثبتت التجربة النبوية أن كبار الصحابة وحتى فترة متأخرة من حياة النبي صل الله عليه و آله كانوا لا يزالون مثقلين بالشعور القبلي المتعصب، ونحن هنا غرضنا الزاوية الاجتماعية والتغييرية وليس غرضنا إصدار الأحكام، أو إنكار إيجابيات هؤلاء وتجريدهم مما قاموا به من خدمات للإسلام، فإن هذه الخدمات تجسّد نسبة معينة من التغيير أنجزوها في أنفسهم، وقد تكون هذه النسبة مقبولة في حسابات التغيير الاجتماعي بالنسبة إلى ذلك الظرف التاريخي، وقد يكون الرسول صل الله عليه و آله راض عن هؤلاء بلحاظ هذه النسبة التي تيّسر له إنجازها فيهم.

ولكن هل من المعقول أن يمنح الرسول صل الله عليه و آله قيادة التجربة الرسالية المصيرية بالنسبة للبشرية جمعاء لأفراد لم يؤثّر الإسلام إلا في جزء يسير من شخصيتهم ولا زال الجزء الأعظم منها ينتظر التغيير؟ ألا يعني ذلك أن التجربة ستنتفع من هؤلاء بالمقدار المحدود الذي حصلوا عليه من التغيير الإسلامي وستتضرر بالمقدار الواسع من أفكار ومفاهيم وموروثات الجاهلية التي لا زالت في مضمار الشعور واللاشعور؟

هل من المعقول أن تعطى قيادة العالمية الكبرى في التاريخ لأفراد لا زالت العالمية فكرة غامضة وضعيفة في أذهانهم ولا زال الشعور القبلي سائداً فيهم؟

وهنا يفرّق السيد الشهيد بين الوعي وبين ما يسمّيه بالطاقة الحرارية، وهو يرى أن (الأمة كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً مجتثّاً لأصول الجاهلية فيها).[36]

ويستشهد على ذلك بغزوة حنين يوم وزّع الرسول صل الله عليه و آله الغنائم على مسلمي مكة فقط لمصلحة وجدها في ذلك، ولم يعط الأنصار شيئاً منها، فظهر الشعور القبلي عند الأنصار وفسّروا الحادثة بأن النبي صل الله عليه و آلهحابى أهل مكة؛ لأنهم قومه وعشيرته.

ويكرر الفكرة نفسها مع هذه الحادثة في محل آخر مع استشهاد تاريخي آخر هو المخالفين للإمام علي عليه السلام بعد وفاة النبي صل الله عليه و آله كانوا يملكون طاقة حرارية ولكن بدون وعي، كانوا يحسبون أن محمداً صل الله عليه و آله يريد أن (يعلي مجد بني هاشم، أن يعلي كيان هذه الأسرة، أن يمدّ بنفسه بعده فاختار علياً، اختار ابن عمه.. كان تفكيراً منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسب الجاهلية..).[37]

ويؤكد ذلك أن المهاجرين قالوا في حادثة السقيفة:

إن السلطان سلطان قريش، إن سلطان محمد سلطان قريش، نحن أولى من بقية العرب وبقية العرب أولى من بقية المسلمين، هنا يبرز الشعور القبلي والشعور القومي في لحظة انفعال…[38]

فالمسألة مسألة قريش سلطانها أمجادها، ولذا كان عمر بن الخطاب يريد أن يعرف مستقبل الأمور من بعده، فأخذ يسأل الناس عمن يريدون من بعده، وكان يقول:

ما سألت عربياً إلا وقال: علي بن أبي طالب عليه السلام وما سألت قرشياً إلا وقال: عثمان بن عفان، يعني جماهير المسلمين كانت تقول: علي ابن أبي طالب عليه السلام وعشيرة واحدة معينة كانت تريد أن تنهب الحكم من الأمة كانت تقول: عثمان…[39]

وعمر بن الخطاب نفسه كان مشبعاً بالشعور القبلي، وهو الذي اعترف (بأن رسول الله صل الله عليه و آله حاول أن يولي علياً، أن يرشّح علياً، لكني أنا منعته احتياطاً للإسلام وحرصاً على مصلحة الإسلام).[40] والحقيقة هي الاحتياط لمصلحة قريش التي أخلص لها ولاءه يوم كان خليفة وذلك (حينما ميّز بين الطبقات، حينما أثرى قبيلة بعينها دون غيرها من القبائل، أتعرفون أي قبيلة هي التي أثراها. هي قبيلة النبي صل الله عليه و آله..).[41]

ويذكر التاريخ عنه أنه (أعفى نصارى العرب في العراق من الجزية.. عمر بدّل الجزية بالزكاة فأمر بأخذ الزكاة، هذه البذرة الصغيرة جداً والطفيفة جداً لم تنطبق إلا على عشيرة واحدة لا أكثر من عشائر النصارى في العراق، هذه البذرة على مر الزمن تأتي الشر المستطير، لعل هذه البذرة هي الأساس في كل الشرور التي عاشها المسلمون بعد هذا أو التي مني بها المسلمون نتيجة للكيانات القومية التي زعزعت بعد هذا الإسلام وحطّمت الرسالة الإسلامية الكيانات القومية العربية والفارسية والتركية والهندية، إلى غير ذلك من الكيانات القومية الكافرة التي أنشأت في العالم الإسلامي.. أريد أن أقول بأن مهمة إنشاء مجتمع عالمي هذه المهمة تحتاج إلى قيادة تختلف عن طبيعة الصلاة والذوق التي كانت موجودة في هؤلاء الخلفاء).[42]

وفي مثل هذه الحالة كان من الطبيعي أن يتخلى غير العربي عن الإسلام ويتراجع عنه ما دامت الفكرة الحاكمة هي الفكرة العربية المتعصبة، وليست الفكرة الإسلامية العالمية التي خوطبوا بها وأسلموا على أساسها (إلا أن الذي جعل الأمة لا تتنازل عن الإسلام هو أن الإسلام له مثل آخر قدّم له مثل واضح المعالم أصيل المثل والقيم أصيل الأهداف والغايات، قدّمت هذه الأطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة عليهم السلام من أهل البيت)[43] بوصفهم الخط الذي يمثّل الإسلام وقيمه العالمية تمثيلاً كاملاً.

الأبعاد العالمية في المجال السياسي

وحفلت مدرسة السيد الشهيد الفكرية بمعالجات عالمية عديدة على الصعيد السياسي نجدها موزّعة في تراثه الفكري.

ففي لمحته الفقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية نجده يحدّد بأن الدولة الإسلامية تهدف في علاقاتها الخارجية إلى حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كله، والوقوف إلى جانب العدل والحق في القضايا الدولية، وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك، ومساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطغيان وبخاصة في العالم الإسلامي الذي تعتبر إيران جزءً لا يتجزأ منه.[44]

ويقارن سماحته بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي فيقرّر بأن (الأمة هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطي، وهي محط الخلافة ومحط المسؤولية أمام الله تعالى في النظام الإسلامي).[45] وواضح أن هذا الفرق يحكي فرقاً جوهرياً وهو أن الأمة حينما تكون محط الخلافة فهي حلقة الوصل بين الله المستخلِف وسائر البشرية، وهذا يعني أنها حلقة عالمية في محتواها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، فالخلافة مفهوم عالمي بطبعه وجوهره، بينما يعبّر عن الأمة في الفكر الوضعي الحديث بأنها مصدر السيادة.

وواضح أن المقصود بالأمة هي الجماعة ذات النطاق القومي والإقليمي الخاص. فهي سيدة على نفسها ولا سيادة لغيرها عليها، وبذا تكون فكرة السيادة فكرة قومية بجوهرها وطبعها.

ويؤكد السيد الشهيد الصدر فكرة الخلافة مع شرح وتعميق أكبر في بحثه الرائع عن خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء. حيث يقسّم التاريخ البشري إلى مرحلتين: مرحلة الإشراف السماوي من خلال المعصوم عليه السلام النبي أو الإمام، وفي هذه المرحلة يكون المعصوم ممثلاً للخطين معاً، فهو يمثّل خط الشهادة بما هو نبي أو إمام ويمثّل خط الخلافة بما هو إنسان، فهو شهيد وخليفة في آن واحد.

ومرحلة المرجعية الرشيدة التي يغيب عنها عنصر العصمة فيكون بوسع الأمة أن تمارس وتمثّل خط الخلافة على أن يمارس المرجع الرشيد دور الشهادة عليها، وكأن الإسلام يحاول من خلال هذا التوزيع توفير ما يمكن توفيره من جو العصمة المفقود في هذه المرحلة.[46]

وعن عالمية الدولة الإسلامية كتب السيد الشهيد الصدر يقول:

إن استحقاق الدولة الإسلامية للأرض نوعان. النوع الأول: الاستحقاق السياسي، هو ما تستحقه الدولة الإسلامية عن الأرض باعتبارها الإدارة السياسية العليا للإسلام، أي باعتبارها المسؤولة عن الكيان والموظّفة الشرعية عن تطبيقه ونشره وحمايته. ودائرة هذا الاستحقاق ليست محدودة بحدوده؛ لأن الكيان السياسي للدولة الإسلامية قائم على مبدأ فكري عام لا تختلف بحسابه الأراضي والبلاد؛ ولذلك كان الإسلام المتمثل في الدولة الإسلامية صاحب الحق الشرعي في الأرض كلها <وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ>[47] فيحق للدولة الإسلامية إخضاع جميع أراضي العالم لها سياسياً، غير أن طريقة استعمال هذا الحق وشكل تنفيذه يختلف باختلاف طبيعة الأشخاص المستوطنين للأرض من حيث كونهم مسلمين أو ذميين أو كفّاراً غير ذميين…[48]

وفي هذا النطاق وُجّه سؤال إلى سماحته حول الفرق بين الفتح كفكرة إسلامية وبين الاستعمار الذي نندّد به ونشجبه كظاهرة غربية فأجاب عليه جواباً رائعاً خلاصته أن التوسع ظاهرة مشتركة بين الإسلام والغرب. فالغرب يقول: أنا أتوسع وأفتح وأسيطر بالإقناع أو بالقوة والإسلام يقول الشيء ذاته. ولكن أمرهما ليس واحداً. والمقياس فيهما هو أن يقيّم كل منهما في ضوء القاعدة الفكرية التي انطلق منها، فالتوسع المشروع هو التوسع الذي ينسجم مع القاعدة التي ينطلق منها، والغرب يقوم على قاعدة الحرية، ومقتضى هذه القاعدة أن يحترم الغرب حرية الأمم والشعوب الأخرى ولا يفرض نفسه عليها كمثل أعلى في مضمار الحضارة حتى على فرض أن يكون ذلك الادعاء حقيقة واقعة؛ لأن ذلك سيمثّل نقضاً للقاعدة التي تستند إليها الحضارة الغربية.

فإما أن يكون الغرب كاذباً في دفاعه عن الحرية وتمصير البلدان تحت لواءها وإما أن الحرية غير مؤهلة لأن تكون قاعدة فكرية ومثلاً أعلى للحضارة الإنسانية، فأن كان كاذباً كان التوسع عدواناً، وإن كانت الحرية لا تستحق أن تكون مثلاً أعلى وقاعدة فكرية في مضمار الحضارة فالتوسع الغربي لا يجد ما يبرّره، خاصة وأن الحضارة الغربية هي حصيلة الإبداع الغربي والذهنية الغربية. فيكون فرضها على الأمم الأخرى توسعاً قومياً على حساب هذه الأمم. فالمسألة مسألة توسع قومي أكثر مما هي مسألة حرية وديمقراطية. وهذا ما يجعلنا نشجب الاستعمار ونعتبره عدواناً على الشعوب والأمم.

أما الإسلام فقاعدته الفكرية هي التوحيد، والتوحيد ينطوي في ذاته على فكرة قيمومة السماء على الأرض، والتجسيد الطبيعي لهذه القيمومة هي أن يقوم أتباع التوحيد بإقرار سيادة التوحيد على الأرض كتكليف سماوي عليهم، وهكذا فالتوسع الإسلامي ينسجم مع القاعدة التي ينطلق منها ولا ينطوي على اعتداء؛ لأنه تكليف سماوي وليس مبادرة شخصية من المسلم إزاء غير المسلم، كما هو التوسع الغربي مبادرة شخصية من الغربي إزاء غير الغربي. ولا ينطوي على توسع قومي لأن التوحيد فكرة سماوية وليست نتاجاً بشرياً حتى إذا فُرض على الآخرين كان توسعاً قومياً.[49]

هذا هو روح الجواب الرائع الذي قدّمه سماحته على هذا السؤال.

الأبعاد العالمية في السيرة الذاتية للسيد الشهيد قدس سره

أما السيرة الذاتية للسيد الشهيد الصدر فكانت سيرة رسالية متعلقة بالمبدأ السماوي الواحد وسافرة من المبدأ الأرضي الذي يفرّق بين الناس تبعاً لخطوط الطول والعرض، وقد شاء أن يحدّثنا بنفسه عن تساميه المبكر فوق هذه الخطوط، فقد تحدّث قائلاً:

أنا حينما مر بالعراق المد الأحمر الشيوعي كنت ألف مرة ومرة أمتحن نفسي، أوجّه إلى نفسي هذا السؤال: إني أنا الآن أشعر بألم شديد؛ لأن العراق مهدد بخطر الشيوعية، لكن هل إني سوف أشعر بنفس هذا الألم وبنفس هذه الدرجة لو أن هذا الخطر وجّه إلى إيران بدلاً عن العراق أو وجّه إلى باكستان بدلاً عن العراق وإيران، لو وجّه إلى بلد آخر من بلاد المسلمين الكبرى بدلاً عن هذه البلاد؟

هل سوف أشعر بنفس الألم أو لا أشعر بنفس الألم؟ أوجّه هذا السؤال إلى نفسي متى أمتحن نفسي لأرى أن هذا الألم الذي أعيشه لأجل تغلغل الشيوعية في العراق. هل هو لأجل خبز سوف ينقطع عني؟ أو لمقام شخصي سوف يتهدم؟ أو لكيان سوف يضيع؟ لأن مصالحي الشخصية مرتبطة بالإسلام إلى حد ما، فهل إن ألمي لأجل أن هذه المصالح الشخصية أصبحت في خطر؟ إذا كان هكذا إذن فسوف يكون ألمي للشيوعية في العراق أشد من ألمي للشيوعية في إيران، أو أشد من ألمي للشيوعية في باكستان، وأما إذا كان ألمي لله تعالى، إذا كان ألمي لأني أريد أن يعبد الله في الأرض وأريد أن لا يخرج الناس من دين الله أفواجاً فحينئذ سوف أرتفع عن حدود العراق وإيران وباكستان، سوف أعيش لمصالح الإسلام سوف أتفاعل مع الأخطار التي تهدّد الإسلام بدرجة واحدة دون فرق بين العراق وإيران وباكستان وبين أي أرجاء العالم الإسلامي الأخرى.[50]

وقد كان كذلك يتألم لكل الساحات الإسلامية ويحمل هموم الإسلام في كل بقعة ورقعة من أرض الإسلام، هموم الإسلام في لبنان والبحرين وفي كل مكان. وها هو يبعث بتحياته إلى الشعب الأفغاني يوم وقف صامداً بوجه الاجتياح السوفيتي الغاشم لأفغانستان عبر رسالة جسّدت عمق معاناته الروحية والشعورية إزاء هذه المحنة.

وسيبقى موقفه المتفاني من أجل الثورة الإسلامية مثالاً منعدم النظير في الفناء من أجل الإسلام والمسلمين في كل الساحات والميادين، فإنه ليس عزيزاً أن نعثر على أفراد دافعوا عن قضايا وشعوب ومبادئ تتحرك خارج نطاقهم الإقليمي والقومي. ولكننا لم نجد قائداً كبيراً ومرجعاً دينياً مرموقاً ومفكراً عملاقاً يضحّي بكل كيانه الشخصي بل وبالساحة الإسلامية التي يقودها بنفسه من أجل ساحة إسلامية أخرى، ويذوب في قائد تلك الساحة الأخرى حتى يتمنى مراراً أن يعيش تحت ظله في قرية من قرى إيران.[51]

وقد كان يخاطب طلابه بقوله:

يجب عليكم أن لا تتعاملوا مع هذه المرجعية ۔ ويقصد مرجعيته ۔ بروح عاطفية وشخصية، وأن لا تجعلوا ارتباطكم بي حاجزاً عن الموضوعية، بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الإسلام، فأي مرجعية أخرى استطاعت أن تخدم الإسلام وتحقّق له أهدافه يجب أن تقفوا معها وتدافعوا عنها وتذوبوا فيها، فلو أن مرجعية السيد الخميني مثلاً حقّقت ذلك فلا يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيته.[52]

وقد كتب لطلابه في إيران يقول لهم:

على كل فرد قدّر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة أن يبذل كل طاقاته وكل ما لديه من إمكانات وخدمات ويضع ذلك كله في خدمة التجربة.. . إن مرجعية السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفاف حولها والإخلاص لها وحماية مصالحها والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم.[53]

إن كلمة الذوبان هنا جاءت لتدلل على معنى ثمين وغرض سام. وقد ردّ على بعض الخائفين عليه أو على أنفسهم من هذا الموقف بالتساؤل:

ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ؟ أليس هو إقامة حكم الله عزوجل على الأرض؟ وها هي مرجعية الإمام الخميني قد حقّقت ذلك، فهل من المنطق أن أقف موقف المتفرج ولا أتخذ الموقف الصحيح والمناسب حتى لو كلّفني ذلك حياتي وكل ما أملك.[54]

وتأكيداً منه على هذا الموقف حرص على أن يرفد التجربة بعطاءه الفكري الفذ، فكتب سلسلة بحوث الإسلام يقود الحياة كدعم فكري ضروري لها. وعندما أشعل النظام البعثي في العراق الفتنة القومية في خوزستان حرص السيد الشهيد الصدر على أن يمثّل موقف النجف ومرجعيته الدينية العليا في مثل هذه الحادثة النكراء، حيث بعث برسالة إلى عرب خوزستان ليوضّح لهم الموقف الشرعي داعياً إياهم إلى (تجسيد روح الأخوّة الإسلامية التي ضربت في التاريخ مثلاً أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلا بالتقوى، مجتمع عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، مجتمع القلوب العامرة بالفكر والإيمان المتجاوزة كل حدود الأرض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء. فلتتوحد القلوب ولتنصهر الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني وفي طريق بناء المجتمع الإسلامي العظيم الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كله..).[55]

وأكد هذا الموقف الواعي عندما قامت السلطة الجاهلية بإيفاد عيسى الخاقاني إليه ليحدّثه بلغة العروبة قائلاً: إن الحوزة العلمية العربية بحاجة إلى بناء جديد ولا أحد يستطيع أن يفعل ذلك غيركم وأنا مستعد لتنفيذ كل أوامركم بهذا الشأن. فأجابه السيد الشهيد بأن الحوزة العلمية في النجف الأشرف كيان واحد لا يتجزأ، ليس لدينا حوزة عربية وأخرى فارسية وثالثة أفغانية، بل لدينا حوزة فيها العربي والفارسي والأفغاني والباكستاني ومن مختلف القوميات. فأجابه الخاقاني: ولكن يا سيدي سيطر العجم على الحوزة فمعظم المراجع منهم، فردّ عليه السيد الشهيد: الأجواء في الحوزة العلمية حرّة وكل من يثبت لياقة وجدارة يتقدم ولا يمنعه من ذلك أحد.

الخاقاني: هل تعلم ۔ يا سيدي ۔ ماذا فعل العجم بالعرب في خوزستان؟ لقد قتلوا شبابهم وهتكوا أعراضهم وسلبوا أموالهم. لقد وقف الخميني ضد العرب أذلّهم وسحق كرامتهم.

السيد الشهيد: أنا لا أسمح أن تتكلم بهذا، إن السيد الخميني مرجع عادل لا يفرّق بين عربي وأعجمي كان هنا في النجف يمنح الراتب الشهري للعرب والعجم لا يفرّق بين أحد منهم.

الخاقاني: معذرة.. أحببت أن أخبركم بأن أحداثاً مؤلمة وقعت لعرب خوزستان.

السيد الشهيد: عرب خوزستان يعيشون في ظل دولة إسلامية لهم ما لغيرهم وعليهم ما على غيرهم ولا أحب أن يتكرر هذا الكلام مرة أخرى.[56] ومن سماجته كرّر الخاقاني هذه المحاولة مرة أخرى فكان موقف السيد الشهيد منه أصلب من المرة السابقة.

ويلمس الباحث في مواقف السيد الشهيد هذه حرصاً متزايداً على تسجيل قيم العالمية وتدوين هذا الأفق الكبير في كل خطوة يخطوها وكل كلمة يتفوه بها. ففي رسالته الجوابية إلى الإمام الخميني الذي كان قد أبرق إلى السيد الشهيد برقية يطلب منه فيها عدم مغادرة العراق كتب سماحته يقول:

وأود أن أعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءً هادياً للعالم كله وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خاصة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين.[57]

وكان الثمن لكل هذه المواقف البطولية الرسالية أن أقدمت السلطات الجائرة على إعدامه، ليبدأ بعد هذا طريق الخلود والمجد الأثيل الدائم الذي ظلّ يلاحق اسمه الشريف لعله يصطف معه، إنه طريق العظماء، طريق محمد وآل محمد صل الله عليه و آله.

[1]. البقرة: 213.

[2]. المدرسة القرآنية، 169، ط دارالتعارف.

[3]. الأنبياء: 92.

[4]. المؤمنون: 52.

[5]. القصص: 4.

[6]. المدرسة القرآنية، 229.

[7]. الإسراء: 22.

[8]. نظرة عامه في العبادات.

[9]. الإسلام يقود الحياة، ص180، ط وزارة الإرشاد في الجمهورية الإسلامية.

[10]. رسالتنا، ص59.

[11]. المرسل الرسول الرسالة، ص194، تحقيق عبدالجبار الرفاعي.

[12]. م. ن، ص191.

[13]. الحجرات: 13.

[14]. المرسل الرسول الرسالة، ص186.

[15]. م. ن، ص190.

[16]. اقتصادنا، ص16، ط13.

[17]. م. ن، ص116۔117.

[18]. م. ن، ص117۔ 118.

[19]. أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص39۔40.

[20]. الحديد: 26.

[21]. الانعام: 84.

[22]. الإسلام يقود الحياة، ص166.

[23]. البقرة: 124.

[24]. م. ن، ص167.

[25]. فلسفتنا، ص400، ط قم.

[26]. اقتصادنا، ص27.

[27]. المدرسة القرآنية، ص139۔141.

[28]. فلسفتنا، 399.

[29]. م. ن، 400.

[30]. اقتصادنا، ص43.

[31]. المجتمع والتاريخ، القسم الأول، ص18، مؤسسة البعثة.

[32]. المدخل إلى التاريخ الإسلامي، ص493.

[33]. اقتصادنا، ص21۔22.

[34]. اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، ص137۔ 138.

[35]. م. ن، 93.

[36]. م. ن، ص89.

[37]. م. ن، ص82.

[38]. م. ن، ص91.

[39]. م. ن، ص29.

[40]. م. ن، ص139۔140.

[41]. م. ن، ص63.

[42]. م. ن، 138۔139.

[43]. م. ن، 79.

[44]. الإسلام يقود الحياة، ص15.

[45]. م. ن، ص18.

[46]. م. ن، ص169۔ 172.

[47]. الأنبياء: 105.

[48]. الإمام الشهيد محمدباقر الصدر، تأليف محمد الحسيني، ص340.

[49]. المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمدباقر الصدر، ج13، ص99.

[50]. المحنة، 49۔51.

[51]. سنوات المحنة وأيام الحصار، للنعماني، ص164.

[52]. م. ن، ص163.

[53]. م. ن، ص164.

[54]. م. ن، ص248.

[55]. م. ن، ص259.

[56]. م. ن، ص291۔292.

[57]. م. ن، ص266.