فقه التغيير بين سيد قطب والإمام الشهيد محمد باقر الصدر؛ دراسة مقارنة

أحمد راسم النفيس

أمير المؤمنين علي؟ع؟:

اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا وأين أولئك والله الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه آه آه شوقاً إلى رؤيتهم[1].

يتحدث الإمام علي؟ع؟ عن نخبة فريدة تحمل هموم الأمة المسلمة، إنها نخبة بالمصطلح المعاصر لأنهم الأقلون عدداً ولكنها نخبة ربانية اختارتها الإرادة الإلهية لتحمل عبء الحفاظ على حجج الله وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم.

تلك النخبة المختارة المتحلقة حول إمام الزمان المنصوب من عند الله هي واسطة العقد في أطروحة التغيير عند أتباع مدرسة أهل البيت؟عهم؟ ولا شك أن كميل بن زياد النخعي كان واحداً من هذه النخبة العظيمة التي هجم بها العلم الرباني على حقيقة البصيرة وباشرت روح اليقين فاستلانت ما استوعره المترفون من معارف ثقيلة على نفس لم تخبت لله ولم تخشع لرب الأرض والسماء نفس مترفة (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين)[2].

إنها ليست وعورة الملبس والفراش إنها وعورة الطريق إلى الله وصعوبة احتمال الحق والصدع به في مواجهة مجتمعات تأمر (مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)[3].

لا نشك أن كميل بن زياد النخعي صاحب الرواية وتلميذ أمير المؤمنين؟ع؟ كان من طلائع هذه النخبة المتقدمة ممن هجم بهم العلم الحقيقي على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون.

ومن ثم فالتاريخ لقضية التغيير في مدرسة أهل البيت؟عهم؟ يبدأ في موعد مبکر عن التاريخ لنفس المسألة في فکر سيد قطب ولأسباب تختلف تماماً عن الأسباب المودعة في ملف تلك القضية عند مدرسة (الإخوان المسلمون) التي نبت فيها سيد قطب زاد أم نقص فالکل يسقى بماء واحد وإن اختلف بعضها على بعض في الأکل.

من هنا نلج إلى قضية التغيير عند الإمام الشهيد محمد باقر الصدر مقارنة بما أورده سيد قطب ممثلاً للمدرسة الفکرية المقابلة.

يرتکز المفهوم القطبي للتغيير على عدة رکائز يترتب بعضها على بعض:

الرکيزة الأولى: (حتمية إعادة وجود الأمة الإسلامية)

فالأمة الإسلامية قد انقطع وجودها منذ قرون کثيرة لأنها ليست أرضاً کان يعيش فيها الإسلام وليست قوماً کان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي فالأمة المسلمة جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم کلها من المنهج الإسلامي وهذه الأمة بهذه المواصفات قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحکم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعاً ولابد من إعادة وجود هذه الأمة لکي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى[4].

الرکيزة الثانية: (أن العالم يعيش اليوم في جاهلية معاصرة)

إن العالم يعيش اليوم کله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها جاهلية لا تخفف منها شيئاً هذه التيسيرات المادية الهائلة وهذا الإبداع المادي الهائل[5].

الرکيزة الثالثة

أنه لابد من بعث إسلامي وأنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة وتمضي في الطريق تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.

ويمضي سيد قطب ليزيد الأمور إيضاحاً فيقول:

لابد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من معالم في الطريق معالم تعرف منها طبيعة دورها وحقيقة وظيفتها وصلب غايتها ونقطة البدء في الرحلة الطويلة کما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الرحلة الطويلة[6].

إذن فالأمة کانت موجودة ولم تعد متى انقطع وجودها؟ يجيبنا سيد قطب (يوم أن توقف العمل بأحکام الشريعة الإسلامية) متى توقف العمل بأحکام الشريعة الإسلامية؟ لايجيبنا سيد قطب على هذا السؤال ولا أجابنا غيره بالرغم من أهميته المطلقة.

وبناء على ما تقرر ولا ندري کيف تقرر فإننا نعيش في جاهلية معاصرة ولأنه؟ره؟ لم يجبنا على السؤال الأول متى انتهى العمل بأحکام الشريعة الإسلامية فلا هو ولا تلامذته بإمکانهم الإجابة على معنى کلمة (معاصرة) وعلينا أن نبقيها إلى مفاوضات الحل النهائي هذا إذا ما بقي شيء نتفاوض عليه.

الرکيزة الرابعة: المثل الأعلى للأمة الإسلامية (الصحابة جيل قرآني فريد)

ينطلق سيد قطب؟ره؟ في تصوره للأمة التي کانت والطليعة التي ينبغي أن تکون حتى تعود الأمة للوجود من جديد من رؤيته للصدر الأول للإسلام وأن رجالات تلك المرحلة أي الصحابة کانوا يشکلون جيلاً قرآنياً فريداً لابد من السير على خطاه من أجل بعث الأمة الإسلامية الفقيدة من جديد فيقول:

لقد خرجت هذه الدعوة جيلاً من الناس جيل الصحابة؟رضوه؟ جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام کله وفي تاريخ البشرية جميعه ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى. نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ ولکن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مکان واحد کما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة[7].

ما هو سبب هذا التفرد السبب أن النبع الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن.. القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ويتکيفون ويتخرجون عليه[8]. ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده فکان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد.. ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع بفلسفة الإغريق وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل فلم يتکرر ذلك الجيل أبداً[9].

العامل الآخر هو أن الصحابة أي الجيل الأول کانوا يقرءون القرآن کمن يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه کما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه وهو ما أسماه منهج التلقي[10].

العامل الآخر لتفرد هذا الجيل من وجهة نظر سيد قطب هو العزلة الشعورية الکاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه تنشأ عنها عزلة کاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية فهو قد انفصل تماماً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية حتى ولو کان يأخذ من بعض المشرکين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي فالعزلة الشعورية شيء والتعامل شيء آخر[11].

ثمّ يخلص سيد قطب إلى القول:

نحن اليوم في جاهلية کالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم فلابد إذن من أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود کله ولحقيقة الوجود الإنساني ولکافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين واجب الوجوب الکامل للحق [12].

الرکيزة الخامسة: (إعادة اعتناق لا إله إلا الله من جديد)

ثمّ ينتقل سيد قطب إلى تقرير نقطة البدء في العمل الإسلامي المعاصر (کذلك ينبغي أن يکون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى لو کانوا يدعون أنفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد أنهم مسلمون يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولاً إقرار عقيدة لا إله إلّا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاکمية لله في أمرهم کله وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم. ولتکن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام أول مرة فإذا دخل في هذا الدين بمفهومه هذا الأصيل عصبة من الناس فهذه العصبة هي التي يطلق عليهم اسم المجتمع المسلم المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياته الاجتماعية لأنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته کلها على هذا الأساس وألا يحکم في حياته کلها إلا الله)[13].

الرکيزة السادسة: (ضرورة تبلور هذا المشروع العقائدي في إطار تنظيمي وحرکي)

يقول سيد قطب:

إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية وفي تنظيم واقعي وفي تجمع عضوي وفي حرکة تتفاعل مع الجاهلية من حولها کما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها بوصفهم کانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي[14].

ومرة أخرى أکرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حرکي وأن يکون التجمع الحرکي في الوقت ذاته تمثيلاً صحيحاً وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي[15].

ويکرر بعد ذلك سيد قطب إصراره على أن تتمثل نظريته عن الحاکمية في تجمع عضوي حرکي منذ اللحظة الأولى.. لم يکن بد أن ينشأ تجمع عضوي حرکي آخر غير التجمع الجاهلي ۔ منفصل ۔ ومستقل عن التجمع العضوي الحرکي الجاهلي[16]. تجمع يخدم الفکرة الأساس وهي عودة العباد لرب العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بإخراجهم من سلطان العباد في حاکميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى سلطان الله وحاکميته وشريعته وحده في کل شأن من شؤون الحياة[17].

الرکيزة السابعة: (تطبيق الشريعة الإسلامية أمر سهل وميسور)

ثم يفصل لنا رؤيته عن طبيعة الحاکمية وطريقة الوصول إليها فيقول:

ومملکة الله في الأرض لاتقوم بأن يتولى الحاکمية في الأرض رجال بأعيانهم هم رجال الدين کما کان الأمر في سلطان الکنيسة ولا رجال ينطقون باسم الآلهة کما کان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحکم الإلهي المقدس ولکنها تقوم بأن تکون شريعة الله هي الحاکمة وأن يکون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة[18].

ودين الله ليس غامضاً ومنهجه في الحياة ليس مائعاً فهو محدد بشطر الشهادة الثاني: محمد رسول الله فيما بلغه رسول الله؟ص؟ من النصوص والأصول فإن کان هناك نص فالنص هو الحکم ولا اجتهاد مع النص وإن لم يکن هناك نص فهنا يجيء دور الاجتهاد وفق الأصول المقررة في منهج الله ذاته لا وفق الأهواء والرغبات <فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ>. والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة کذلك ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة[19].

إن الإلحاح على قضية الحاکمية الإلهية وأنها وحدها التي تجعل من ادعاء الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله ذات مفهوم حقيقي وأي مفهوم غير ذلك هو جاهلية معاصرة يتسغرق القسم الأکبر من کتاب سيد قطب (معالم في الطريق) أم الجانب العملي من هذه القضية وهو کيف نحکم بما أنزل الله فهي مسألة لاتحتاج أکثر من ثلاثة أسطر من فکر رجل کان ولا زال من أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي المعاصر.

رحم الله سيد قطب فقد أتعبنا وأجع قلوبنا على الإسلام السليب وأثار فينا الحماسة لإقامة الحکومة الإسلامية وعندما وصلنا إلى نقطة الحسم وقمة الإثارة لم نجد شيئاً وکان الجواب: أن شريعة الإسلام واضحة ومعروفة وقواعد الإسلام مقررة ولا اجتهاد مع النص والإسلام هو الحل ثم عرف الماء بعد الجهد بالماء.

فها نحن مضطرون إذا أردنا أن نعمل بأحکام الشريعة الإسلامية لتصبح الحاکمية لله وتزول دولة الطواغيت أن نرجع إلى فقهاء المتاحف من وعاظ السلاطين الذين جعلوا القرآن عضين لنسألهم عن حکم الله في هذه المسألة أو تلك فمأساة الأمة الإسلامية اقتصرت على الحکام وحدهم ولم تمتد على الإطلاق إلى مباني الأمة الفقهية والأخلاقية والمشکلة محصورة في الطواغيت الذين يمنعون تطبيق الشريعة الإسلامية التي يقوم على حراستها کوکبة من وعاظ السلاطين الذين لم يفتوا يوماً بالباطل ولا أسهموا في إرساء بناء الطواغيت ولا تبرير أفعالهم وجرائمهم ولا وضعوا الأحاديث ولا کذبوا على الله ورسوله؟

إنه تصور في غاية السذاجة والتبسيط يغفل حرکة الأمة الإسلامية ومسارها التاريخي منذ بعثة محمد بن عبد الله؟ص؟ وإلى يومنا هذا ويختصر أوجاع الأمة وآلامها في کلمة واحدة هي غياب الشريعة الإسلامية من الساحة ويقترح حلاً مکوناً من کلمة واحدة هو (تطبيق الشريعة الإسلامية) ولا نقلل من قيمة الشريعة ولا أهمية تطبيقها ولکننا لا يمکننا أن نتغاضى عن تلك العوامل المعقدة والمتعددة التي أوصلت الأمة إلى حالتها الراهنة.

إنه أيضاً تصور يغفل أن الأمة الإسلامية کانت حلقة من حلقات التطور والتغيير في مسار البشرية کلها، من هنا تأتي أهمية قراءة الشهيد الصدر فکراً وأسلوباً وفلسفة لا تستخدم تلك المصطلحات المباشرة التي استخدمها سيد قطب حتى أنه يخيل للقارئ أنه يتعامل مع مادة مختلفة فماذا قال الشهيد الصدر في کتابه (المدرسة القرآنية)؟

الرکيزة الأولى لنظرية التغيير عند الشهيد الصدر

أن حرکة التاريخ حرکة غائية سببية؛ تتميز حرکة التاريخ عن کل الحرکات الأخرى أنها حرکة غائية لا سببية فقط إنها ليست مشدودة إلى سببها إلى ماضيها بل هي مشدودة إلى الغاية لأنها حرکة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية والمستقبل معدوم فعلاً وإنما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل[20].

الرکيزة الثانية: أهمية المحتوى الداخلي للإنسان

يرى الشهيد الصدر؟ق؟أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحرکة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي بکل ما يضم من علاقات ومن أنظمة ومن أفکار وتفاصيل. هذا البناء العلوي يرتبط بهذه القاعدة ويکون تغيره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي وإذا بقي الأساس ثابتاً بقي البناء العلوي ثابتاً. فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية علاقة سبب بسبب <إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ> [21]. فالآية تتحدث عن تغييرين أحدهما تغيير القوم <إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ> يعني تغيير أوضاع القوم شؤون القوم الأبنية العلوية للقوم ظواهر القوم وهي لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم.

فالمحتوى النفسي والداخلي للأمة کأمة لا لهذا الفرد أو ذاك هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحرکة التاريخية کلها.

والإسلام والقرآن الکريم يؤکدان أن البناء الداخلي للإنسان يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع البناء الخارجي مع بناء الأبنية العلوية.

ولهذا سمى الإسلام عملية بناء المحتوى الداخلي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً سماها بالجهاد الأکبر وسمى عملية البناء الخارجي بالجهاد الأصغر وربط بين الجهاد الأصغر والجهاد الأکبر فإذا فصل الجهاد الأصغر عن الجهاد الأکبر فقد محتواه وفقد مضمونه وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية[22].

الرکيزة الثالثة: المثل الأعلى

إن الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الأعلى وهي تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي. فالغايات بنفسها محرکات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه کل تلك الغايات وتعود إليه کل تلك الأهداف.

إذن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية والقرآن الکريم يطلق على المثل الأعلى في مجلة من الحالات اسم الإله باعتبار أن المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجه[23].

هذه الرکائز الثلاثة تتباين بوضوح تام مع ما يطرحه (سيد قطب) في معالمه للطريق:

أولاً: أن الحرکة الغائية للتاريخ تختلف بصورة جذرية عن التصور القائل بالعودة إلى ما کانت عليه الأمة في عصر ذلك الجيل القرآني الفريد (جيل الصحابة) فمسيرة الأمة مسيرة تکاملية متواصلة والعودة إلى الوراء أو إلى نماذج تاريخية ذاهبة هو أمر مستحيل فنحن في انتظار عودة جديدة للدين لا ترتبط حرفياً بذلك النموذج الذاهب بل هي عودة جديدة بقيادة جديدة وأساليب جديدة وإن بقي المضمون واحداً وهو الإسلام.

ثانياً: إن علة انهيار (الدولة الإسلامية) تکمن في العطب الذي أصاب البناء الداخلي لهذه الأمة وليست في الغزو الثقافي الخارجي ولا في اختلاط الثقافات الفارسية والإغريقية أو اليهودية إلى آخر هذا الکلام الساذج الذي يفتقر إلى دليل فعملية تمزيق الأمة الإسلامية بدأت على أيد أناس من ذلك (الجيل القرآني الفريد) الذي يتحدث عنه سيد قطب يوم الجمل ويوم صفين لـ <إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ> ويزحزحوا مبادئهم وأخلاقياتهم لتصبح ذات أفانين وألوان مثلما فعل قادة حزب الجمل ونعني بکل تأکيد قادة الناکثين لعهدهم وبيعتهم فضلاً عن أولئك الساکتين والمعوقين والمرجفين في المدينة والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً والقائلين لا مساس على شاکلة أبي موسى والأشعث بن قيس وکلهم وفقاً لنظرية سيد قطب من ذلك الجيل القرآني الفريد الذي تربى من ذلك النبع الصافي وکانوا يتلقون الأمر القرآني تلقي الجندي لأمر القتال اليومي!!!

إنه بناء داخلي قد انهار على يد أصحابه ولابد من مواجهة الحقائق کما هي لا کما نتمنى أن نراها. ومن هذه النقطة ۔ البناء الداخلي ۔ لابد أن يبدأ الانطلاق.

ثالثاً: قضية المثل الأعلى ترتبط ارتباطاً متسلسلاً بالرکائز السابقة: غائية الحرکة والمحتوى الداخلي فالأمة الإسلامية التي نعتقد نحن أنها بقيت إسلامية ولم تختفي من الوجود قد تبنت مثلاً علياً من النوع الأول في تصنيف الشهيد الصدر؟رضو؟ (الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه ويکون منتزعاً من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات) [24].

وهذا ما حدث بالفعل بعد استيلاء بني أمية على مقاليد السلطة في العالم الإسلامي حيث نجحوا في خلق قيم ومعايير بل وعقائد دينية تخدم أغراضهم المتدنية في إدامة الهيمنة على رقاب المسلمين ومن هنا تسلل إلى کتب الحديث تلك الروايات المعطوبة التي تجعل طاعة الطواغيت مقدمة على طاعة الله ورسوله من الناحية الواقعية مهما فعلوا أو ارتکبوا من جرائم وآثام والتي جعلت من الشريعة الإسلامية الواضحة أصلاً مسألة مليئة بالألغاز والتي طمست مدرسة أهل البيت وجعلت من شيعتهم وأتباعهم مجرمين ومنحرفين عقائدياً لدى الکثرة الکاثرة من المسلمين البسطاء ومع ذلك ظل هؤلاء الخلفاء مقصودون بالسمع والطاعة باعتبار ذلك واجباً شرعياً ورمزاً لوحدة المسلمين سقط بسقوط الخلافة العثمانية السنية.

إنه النموذج الأول الذي طرحه الشهيد الصدر؛ المثل الأعلى المنخفض الذي استمر بحکم الألفة والعادة والسبب الثاني لاستمرار قيادة هذا النوع المتدني هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ الذي يحاول دائماً أن يحول هذا الواقع المحدد إلى مطلق ويحاصر الجماعة البشرية في إطار هذا الحدود (الطاغوت)[25].

ويستعرض الشهيد الصدر النوع الثاني من المثل العليا أو من الآلهة إنها مثل عليا مشتقة من طموح الأمة من تطلعها للمستقبل إنها قبضة يقبضها الإنسان من المطلق هذه الکومة المحدودة هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق يحولها إلى نور السماوات والأرض يحولها إلى مثل أعلى يحولها إلى مطلق.

أي أن الإنسان يصنع مثله الأعلى وينتزع هذا المثل الأعلى من تصور ذهني محدود للمستقبل ثم يتحول هذا التصور الذهني المحدود إلى مطلق بقدر إمکاناته المستقبلية لکنه سرعان ما يصل إلى حدوده القصوى إلى حدود هذا المثل الأعلى وحينئذ يصبح هذا المثل نفسه قيداً للمسيرة وعائقاً عن التطور إلى مجمد لحرکة الإنسان لأنه أصبح واقعاً قائماً يومها يصبح عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو کماله الحقيقي[26].

وهذا ما نعتقده بالنسبة لحالة تلك الجماعات والأحزاب الإسلامية بما فيه التيار القطبي التي قبضت قبضة من المطلق أو الحقيقة قبضت بالفعل قبضة من نور الله بدعوتها إلى الحاکمية الإلهية ولکنها افتقدت الصلة بالمثل الأعلى الحقيقي الممنوح من نور الله ونفحته إلى رسول الله؟ص؟ وإلى الأئمة من ولده عليهم السلام فقد عجزت حتى عن تحديد معنى واضح للحاکمية الإلهية فضلاً عن کيلها التهم جزافاً للظالم والمظلوم القاتل والضحية بل أنها أدانت الضحية أي الأمة الإسلامية ونفت وجودها وتسامحت مع القتلة الذين بدلوا نعمة الله کفراً وأحلوا قومهم دار البوار ولم تتجه إلى إدانتهم إلا بعد دخولهم في دائرة النفوذ الغربي کأن الظلم والإجرام وسفك الدماء وتبديل أحکام الله لا ينبغي إدانتها إذا جاءت من (حکام مسلمين) بارکهم ويبارکهم فقهاء المتاحف ووعاظ السلاطين.

أما النوع الثالث من المثل العليا فهو المثل الأعلى الحقيقي وهو الله[27]. إن الحديث عن المثل الأعلى الحقيقي وهو الله يحتاج إلى تدقيق وتخصيص من خلال الاستمساك بنهج رسول الله؟ص؟ والأئمة؟عهم؟ من بعده ومن هنا يکون للحديث عن المثل الأعلى معنى واضحاً وهذا ما أبرزه الشهيد الصدر بعد هذا.

بمن إلى من؟

إتساقاً مع منهجه السابح في بحار الانفعال ينتقل سيد قطب من تقريراته عن الجاهلية المعاصرة وضرورة إعادة اعتناق الإسلام من جديد ليحدد لنا ما ينبغي عمله إنه الجهاد والکفاح المسلح. فالجهاد في سبيل الله (هو الشأن الدائم لا الحالة العارضة الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من العبودية للعباد رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط وانطلق هو کذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن الإنسان في الأرض ذلك الإنسان الغاصب إنها حالة دائمة لا يقف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يکون الدين کله لله)[28].

ويعتبر أن مبادأة القوى الجاهلية بالقتال واجب شرعي (ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع لا تدع مجالاً للقول بأن الدفاع بمفهومه الضيق کان هو قاعدة الحرکة الإسلامية کما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماکر)[29].

والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أکثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية. إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض وتحقيق منهجه في حياة الناس ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس والناس عبيد الله وحده لا يجوز أن يحکمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك وهذه وحدها تکفي[30].

بمن وإلى من؟ بمن يکون الجهاد في سبيل الله وفي مواجهة من؟ ما هي القضية التي عجزت الوسائل الأخرى عن حلها فلم يعد هناك بد من إعلان الجهاد ورفع السلاح؟

لا يختلف اثنان من المسلمين أو غير المسلمين على أن القوة هي إحدى الوسائل المتعارف عليه من أجل تحقيق الأهداف والغايات. ليس المسلمون وحدهم هم الذين اخترعوا هذا المبدأ ولکن يبقى السؤال بمن وإلى من؟ من يقاتل من وتحت إي شعار وهل يکفي أن تعلن جماعة ما أنها أعادت اعتناق الإسلام من جديد بشقه الأهم وهو الحاکمية لتعطي لنفسها ولاية عامة على الأمة المسلمة تحکم في أموالها ودمائها بما ترى أنه هو الحق.

لقد أعلنت حروب کثيرة بموجب هذا التبرير ضد (الأنظمة الطاغوتية) ثم عاد هؤلاء المجاهدون ليعلنوا المبادرات السلمية التاريخية لحقن دماء (المسلمين) والحفاظ على مصالح (الأمة الإسلامية) التي أعلنوا وفاتها قبل إعلان الجهاد!!

إننا نتفق مع سيد قطب في أن الإسلام لا يستبعد القوة والجهاد في مواجهة أعدائه ولکننا ننظر إلى التغيير نظرة أشمل وأعم من هذه النظرة الانفعالية الضيقة فالقتال في سبيل الله على علو قيمته ليس دواء لکل داء فالقضية أکبر من هذا بکثير ولو أن سيد قطب کان هادئاً في انفعاله وحاول أن يتعرف إلى الأسباب التي أوصلت هؤلاء الطواغيت إلى سدة الحکم ومکنتهم من الهيمنة على رقاب المسلمين وممارسة الفرعنة بدلاً من إلقاء اللوم على أسباب وهمية مثل الفلسفات الرومانية والإغريقية إلى آخر هذه الاتهامات لاختلفت النتائج عن التي توصل إليها عن تلك المسطورة في کتيباته والتي تلقفتها أجيال من الشباب المتحمس والثائر بحرفيتها وأقامت تنظيمات وأشعلت معارك أحرقتها بلهيبها دون أن تمس الطاغوت بأي أذي.

إن الملاحظ على أسلوب سيد قطب هو غلبة الأسلوب الخطابي عليه أما بالنسبة للشهيد الصدر فاللغة السائدة هي مزج الفلسفة بتفسير القرآن وومضات من التاريخ فالکارثة التي يعيشها المسلمون ذات أعماق متجذرة في عمق تاريخهم وهي کارثة متعددة الأسباب إنها ليست مجرد غياب تطبيق الشريعة الإسلامية إنها مسيرة تاريخية متراکمة.

هل کان عمرو بن العاص صاحب خدعة التحکيم متأثراً بالفلسفات الرومانية أو الفارسية؟ الإجابة معروفة وهي أن عمرو بن العاص کان واحداً من (ذلك الجيل القرآني الفريد).

ما هي علاقة تلك الفلسفات (المظلومة) بالقبلية والنعرة العنصرية ضاربة الجذور في العقل العربي وما هو جواب سيد قطب على الأسلوب الذي تم به اختيار الحکمين في واقعة التحکيم الشهيرة وإصرار القبليين والعنصريين من ذلك الجيل القرآني الفريد على أن لا يکون الحكمين من مضر قائلين لأن يحکم فينا الحکمان وأحدهما من مضر ببعض الحق أحب إلينا من أن يحکما بکل الحق وهما من مضر (انظر کتابنا عن التحکيم).

إذن فانحدار الأمة إلى هذه الهاوية السحيقة التي نحن فيها الآن هو إنتاج ذاتي متعدد المراحل أسهمت فيه طبقات الأمة المختلفة وکانت تعبيراً عن وعي اجتماعي وثقافي وسياسي ونفسي عام لم يطق البقاء في وضع مرتفع کذلك الوضع الذي عاشه مع رسول الله؟ص؟ وهو بعبارة الشهيد الصدر (المحتوى الداخلي للأمة) – <إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ> – وهي حالة أفرزت نماذج مختلة وفاسدة من المثل العليا إما من النوع الأول من الطواغيت أو من النوع الثاني (قبضة محدودة من النور المطلق تحاول أن تحاکي الحق والحقيقة وتتشبه بها وتصادر عليه وهي حالة الکثير من تلك الحرکات الإسلامية المعاصرة).

ويبقى المخرج الوحيد للأمة من هذه الظلمات المتراکبة ألا وهو مواصلة السير نحو الله؟عز؟ <يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ> [31]. يقول الشهيد الصدر: هذه الآية الکريمة تضع الله هدفاً أعلى للإنسانية ککل والکدح يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة لأن هذا السير ليس سيراً اعتيادياً بل هو سير ارتقائي هو تصاعد وتکامل هو سير تسلق فالإنسانية حينما تکدح نحو الله فإنها تتسلق إلى قمم کمالها وتکاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار.

وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقاً لا محالة هذا الطريق هو سبيل الله ۔ الصراط صراط الله هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله ولکن فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول فحينما تتقدم الإنسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً يکون التقدم تقدماً مسؤولاً وأما حينما يکون التقدم منفصلاً عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال سير نحو الله ولکنه تقدم غير مسؤول.

والله هو نهاية هذا الطريق ولکنه ليست نهاية جغرافية فالله هو المطلق هو المثل الأعلى أي المطلق الحقيقي العيني.

وبحکم أن الله هو المطلق إذن الطريق أيضاً لا ينتهي إنه اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله ولکن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً يبقى مجرد خطوات على الطريق لا يمکن أن يصل إلى اللامتناهي فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى هنا فسحة لا متناهية.

أي أنه ترك له مجال الإبداع إلى اللانهاية مجال التطور التکاملي إلى اللانهاية فالمسيرة الإنسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الکوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف يحدث تغيير کمي وکيفي على هذه المسيرة.

أما التغيير الکمي ۔ فحينما يکون الطريق إلى المثل الأعلى الحق غير متناه يبقى مجال التطور والإبداع والنمو قائماً أبداً ودائماً ومفتوح للإنسان من دون توقف هذا المثل الأعلى حينما يتبنى سوف تمسح من الطريق کل الآلهة المزورة کل الأصنام وکل الأقزام المتصنمة على طريق الإنسان والتي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى الله سبحانه.

وأما التغيير الکيفي الذي يحدثه المثل الأعلى على هذه المسيرة فهو إعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني للتناقض الإنساني ومن ثم ينشأ لديه شعور معمق بالمسئولية تجاه هذا المثل الأعلى لأن المسئولية الحقيقية لا تقوم إلا بين جهتين مسؤول ومسؤول لديه.

إن المثل الأعلى يحدث تغييراً کيفياً على المسيرة لأنه يعطي الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور هو شرط أساسي في إمکان إنجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني للجدل الإنساني في ترکيبته الداخلية من تراب ونفحة من روح الله سبحانه.

حفنة التراب تجره إلى الشهوات وروح الله سبحانه التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله إلى حيث أخلاق الله.

ثم ينتقل الشهيد الصدر؟رضو؟ عليه ليلقي نظرة علمية على العلاقة بين أصول الدين الخمسة وعملية التغيير المتواصلة التي يجب على البشرية المؤمنة أن تسير في طريقها:

1۔ التوحيد هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فکرياً وأيديولوجياً هو الذي يجمع ويعبئ کل الطموحات وکل الغايات في مثل أعلى واحد وهو الله.

2۔ العدل وهو جانب من التوحيد لأنه صفة من صفات الله ولکنه خص بالذکر لأنه الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تکون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليه أکثر من أي صفة أخرى.

3۔ النبوة التي توفر الصلة الموضوعية بين الإنسان والمثل الأعلى الله؟عز؟.

4۔ الإمامة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة النبي إمام أيضاً ولکن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبي إذا کانت المعرکة قائمة وإذا کانت الرسالة لا تزال بحاجة إلى قائد يواصل المعرکة فسوف يستمر هذا الجانب من الدور من خلال الإمامة.

5۔ الإيمان بيوم القيمة هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الاجتماعية[32].

إذن فنحن أمام مدرستين مدرسة ترى أن العلة التي ضربت الأمة الإسلامية بعد کمالها وتمامها إنما ينبع من تبنيها لمفاهيم خاطئة لشهادة لا إله إلا الله وتنحية الشريعة الإسلامية جانباً ومن ثم فقد انقطع وجود الأمة الإسلامية وأصبحنا نعيش في جاهلية معاصرة ولا خروج من هذا الظلام إلا بظهور طليعة تعيد اعتناق الإسلام من جديد وتجعل من إعلان الشهادتين معلقاً بتأکيد مفهوم الحاکمية واعتباره رکناً أساسياً من أرکان الشهادتين.

وأن هذه الطليعة عليها أن تواجه البشرية کما واجهتها الطليعة الأولى من المسلمين حول رسول الله؟ص؟ استعلاء على الجاهلية المعاصرة ومواجهة لها بالقوة والجهاد الهجومي لإزالة کل العوائق.

وبالنسبة للأمور الفقهية ومسائل الاجتهاد فکلها مسائل سهلة ميسرة ويمکن الاستعانة بأي کتاب فقهي في مکتبة المجاهدين لتحقيق الغرض خاصة أنه لا اجتهاد مع النص.

وصفة سهلة ومبسطة!

وأما في مدرسة الشهيد الصدر فالأمة الإسلامية تمضي في مسيرة تکاملية تتحرك نحو غاية مطلقة هي الله؟عز؟ وهي في مسيرها الطويل المستمر نحو المثل الأعلى ستواجهها المثل المنخفضة من حکام ذلك الزمان وحکام هذا الزمان ومن وعاظ السلاطين فضلاً عن مواجهتها لمثل (عليا) أخرى من صنع البشر من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

فالمسألة إذن ليست مجرد قرار بإعلان الثورة أو إعادة اعتناق لا إله الا الله من جديد أو مواجهة المجتمع (المسلم) بتکفيره بل هي مسألة مسير متواصل نحو الله لا تحده حدود ولا تقيده قيود نحو المطلق في إطار أصول الدين الخمسة التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد. تلك الأصول التي لم يتطرق إلى الحديث عنها سيد قطب باعتبار أن العامل الأساسي في فکره هي مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية ومع ذلك لاحظنا مدى البساطة التي تعامل من خلالها مع تلك القضية الجوهرية.

إن تطبيق الشريعة الإسلامية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الإمامة ذلك البعد الغائب في فکر نصف الأمة الغربي والحاضر واقعاً في ساحة المواجهة بين الحق والباطل بين الإسلام والفکر وفي مواجهة التيارات المنحرفة التي تريد أن تأخذ الأمة بعيداً في صحراء أهوائها. لقد وصلت تلك الحرکات الإسلامية إلى نهاية المطاف في مشوارها الجهادي وجلها إن لم يکن کلها قد قامت على هذا المشروع القطبي وأخذت منه إغلب ملامحها وهو مشروع سلفي في جوهره يعتمد القراءة الحکومية (الطاغوتية) للتاريخ الإسلامي الذي يرى أن الجيل الأول کله ولد وعاش ومات مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تاريخ المسلمين کان ياقوتة خضراء في شمس الصحراء وأن أم المآسي کانت بسبب الغزو الأجنبي الثقافي ولولا ذلك لاستمر حکم السلطان عبد الحميد ولاستمرت الحضارة العثمانية البهية تقود المسلمين نحو مزيد من الحضارة والرقي!!!

لم يکن سيد قطب صاحب مشروع ثوري بالمعنى الحقيقي لهذه الکلمة إنها ثورية ناقصة تخاصم آلهة المرحلة الراهنة وتثني على آلهة المراحل السابقة خير الثناء وتکيل لهم کل أصناف المديح کما أسلفنا من قبل.

وعلى کل حال فقد ظهرت ثمار ذلك الزرع وأخفقت تلك الحرکات في الوصول إلى أي نتيجة نافعة لها أو للمجتمعات التي تحرکت فيه وها هي الآن تستجدي حق الوجود کحزب سياسي في الجزائر ومصر وغيرها من الساحات بعد أن کانت ترى نفسها حزب الله ومن سواها حزب الشيطان.

ولسنا في موقع الشماتة بل في موقف الاعتبار والتأمل الحقيقي لأن المراجعة الجذرية تثبت أن الخلل الرئيسي کان بسبب موقف هؤلاء السلبي والمتعجرف من قضية الإمامة حجر الزاوية والرکن الأساس في بناء الأمة ومحاولة إعادة وجودها الفاعل إلى ساحة التاريخ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دکتور: أحمد راسم النفيس

المنصورة ميدان الطميهي برج الحجاز

جمهورية مصر العربية

4 ۔ 8 ۔ 1999

[1]۔ نهج البلاغة، ج 4، ص 311.

[2]. هود: 116.

[3]. الإسراء: 16.

[4]. معالم في الطريق، ص 8.

[5]. معالم في الطريق، ص 10.

[6]. م. ن، ص 12.

[7]. ص 14.

[8]. ص 15.

[9]. ص 17.

[10]. ص 18.

[11]. ص 20.

[12]. ص 21.

[13]. ص 40.

[14]. ص 45 ، 46.

[15]. ص 49.

[16]. ص 56.

[17]. ص 53.

[18]. ص 68.

[19]. ص 105.

[20]. ص 139.

[21]. الرعد: 11.

[22]. ص 140 ۔ 142.

[23]. ص 145 ۔ 147.

[24]. ص 148.

[25]. ص 153.

[26]. ص 164 ۔ 166.

[27]. ص 176.

[28]. ص 76.

[29]. ص 81.

[30]. ص 83.

[31]۔الانشقاق: 6.

[32]. ص 197 ۔ 199.