محمدباقر الصدر..المشروع الفكري

صائب عبدالحميد

نظرية المعرفة نموذجاً

بين الاتّباع والتقليد، وبين الإبداع والتجديد، بون شاسع في عالم الفكر، تظهر على طرفيه صورتان متغايرتان للفكر البشري في الجوهر والمظهر والعطاء.

والفكر الإسلامي منذ عهد الانحطاط مُني بذهنية التقليد والاتّباع، فلم يتجاوز الخَلَف حدود الدوائر التي رسمها السَلَف، فأسقطوا عامل الزمان والمكان، وتجمّد الزمان عند نهاية القرن الخامس، ومهما تمدّد فلا يجاوز القرن السابع للهجرة.

ومن الطبيعي أن نشهد ضموراً في الفكر والإبداع وتدهوراً حضارياً شاملاً مصاحباً للانحطاط السياسي والثقافي والتفكك الأمني الذي مُنيت به الدولة الإسلامية أواخر العهد العباسي.

ومن نتائج الضمور والانحطاط: الانشداد الفائق لعصور ما قبل الانحطاط، عصور النهضة والعطاء، انشداداً يبلغ في أغلب الأحيان درجة التقديس، ليصبح النتاج الفكري لتلك العصور المصدر التشريعي الأهم الذي يفسّر على ضوئه الكتاب والسنة! ليصبح ذلك النتاج ليس محوراً للفكر فقط، بل حدوداً له أيضاً في أغلب الأحيان، فيتحول إلى ثابت فوق تاريخي، تُهمل معه كل العوامل التاريخية التي أسهمت في إنتاجه، فلا يُقرأ على أنه إنتاج مرحلة تاريخية، مواكباً للتطور الحضاري وحركة الوعي في زمانه، مجيباً على أسئلة الحياة التي كان يعيشها، بل يقرأ على أنه التفسير الأوحد والأكمل للإسلام، على امتداد الزمن، كل الزمن، أنتج مجرداً عن المتغير الزماني والمكاني، أنتجته عقول كانت تعيش فوق الزمان والمكان، عقول أصبحت وفق هذا التصور تمثل آلهة الفكر، وإن تفاوتت في سلطانها نسبياً، كالتفاوت بين الإله الأب والإله الابن والإله المساعد! وكأن سذاجة العقل البشري ملازم أكيد لضعفه وتدهوره وانحطاطه، والأمر كذلك تماماً، فالسذاجة ليست ذات حد ثابت ولون واحد لننسبها إلى مرحلة من مراحل التاريخ البشري دون غيرها.

فالسذاجة تعني كل تبسيط مفرط إلى حد السطحية، كما تعني الاتكاء على تصورات لا قيمة لها ولا تصمد أمام النقد، يركّب منها صاحبها مقدمات ويعلّق عليها نتائج، تأخذ في نظره قيمة الاستنتاجات المنطقية اليقينية، مع أن النتيجة خرافة، قامت على مقدمات فارغة من أي محتوى، لا حقيقة لها ولا واقع.

واستبعاد المتغير التاريخي وأثره في النتاج الفكري واحد من مظاهر السذاجة في العقل البشري.

ولا يُتصور أن مواجهة هذه الذهنية السطحية هي دون مستوى الثورة، بل هي الثورة بعينها في عالم الفكر، وخير شاهد على ذلك حجم التضحيات التي يقدّمها روّاد الإحياء والتجديد الفكري، على مستوى السمعة والأموال والأنفس.. إنها ثورة من سنخ ثورات الأنبياء التي تنصبّ في مراحلها الأولى على مواجهة سطحية العقل البشري ومغالطاته وهيامه في التقليد اللاواعي لآثار أسلافه.

والمطلوب من الإحياء والتجديد في الفكر الإسلامي ليس هو الاستهانة بالتراث الإسلامي وتجاهله، وإنما الخروج من ذهنية (ليس في الإمكان أبدع مما كان) إلى الذهنية الفعّالة المنتجة، التي تعيش زمانها ومكانها، وتعي معامل التغير والتطور الحياتي بعمق.. التمييز بدقة بين الثابت والمتغير في الإسلام.. الفصل بين ما هو مقدس، فوق تاريخي، في ذاته، وبين ما هو تاريخي ولكن أضفت عليه ذهنية التقليد والاتّباع صفة القداسة ومنحته سمة الثبات.. التمرد على العقلية (الاستصحابية) والاندفاع نحو تفعيل العقل من أجل تثوير النص الشرعي، ثم تجسير العلاقة بينه وبين الواقع المتغير باطراد…

ومن هنا سيحتفظ التراث الفكري الإسلامي بقيمته، دليلاً ومرشداً، إلى طرق التعامل مع النص الثابت بعد تغير ظروفه، من خلال استيعاب دلالاته وغاياته ومقاصده، بحثاً عن إجابات الشريعة وأدواتها ووسائلها في إصلاح الواقع المعاصر والتأسيس للمستقبل.

هذا بدلاً من أن يتحول تراثنا الضخم إلى قيد ثقيل على العقل الإسلامي، وغلٍّ وخيم يجرُّه إلى الوراء، الوراء، بعكس اتجاه الزمن، غريباً على لغته وأدواته.

وأصعب من الإطاحة بطاغية، الإطاحة بالذهنية المتكلّسة وتغيير متبنّياتها وركائزها؛ لذلك كان الأنبياء أصعب مهمة من الملوك الفاتحين، ومن العسكر الثائر لقلب نظام الحكم.

لقد حطّم الإسلام صناديد الشرك، وبسط نفوذه على أرض الجزيرة منذ عهد النبي؟ص؟ ولكن ما يزال يداري رواسب جاهلية ترسّخت في الأذهان!

هنا تكمن قيمة جهاد الفكر، في الإحياء والتجديد والإبداع، ومن هنا تبرز أهميته الفائقة.

غير أن الناس، كل الناس، ما زالت تشغلها قعقعة السيوف عن بريق الفكر ونداه، فلما لم يشهر جمال الدين الأفغاني سيفاً، ظلّت الأمة تجهله حتى بعد وفاته بعقود من الزمن، لكنها استفاقت على فكره بعد الزمن الطويل، ثم ما زالت تستلهم منه وتستنير به.

وتجربتنا مع الصدر من نوع آخر على قدر من التشابه، فالصدر قدح الفكر وسلّ السيف في آن واحد، فمالت الناس ۔العراقيون خاصة، إسقاطاً لواقعهم السياسي والاجتماعي۔ مع كفّة السيف وما زالت؛ لأن ميدانهم ما زال ظامئاً لذلك السيف.. وتأخّر الفكر في المرتبة الثانية، فما زال الاستلهام منه محدوداً للغاية، رغم ضخامة المدَّعى.. وما زالت الاستنارة به دون ما ينبغي بكثير رغم كثرة المزاعم.

فهذه ميادين الفكر التي شقّها ما زالت على حالها، كما غادرها، رغم حاجتنا الماسّة إليها، فالحق كل الحق أننا لا نملك سواها سبيلاً إلى مواجهة الواقع المعاصر، والكشف عن صورة الإسلام الناصعة، منهجاً متكاملاً للحياة ودستوراً شاملاً للعمل.

إننا مع الصدر نعيش الإسلام الحي القادر على بناء واقع معاصر وفق المنهج الإسلامي، قادر على إثبات الوجود، والتحدي، بين أمم تتسابق في عالم التكنولوجيا والحياة المدنية المعقدة.

نعيش في الفكر مبادئ خلّاقة قادرة على تحصيل المعرفة الحقيقية غير الموهومة أو المصطنعة.

مع الصدر نعيش حركية الفكر وحيويته، نعيش الإبداع والتجدد، نعيش المعاصرة، ونعيش ثروةً هائلةً من التأصيل النظري، وفي كل هذا تجده سابقاً غير مسبوق.

لقد أدرك الصدر قيمة الفكر وغاياته بموهبة ولياقة لا بتعليم، فقدح زناد الفكر، وفكّ عقاله، وأطلقه من أسر الذهنية التقليدية المنكمشة، بعد أن قدّم لهذه الذهنية تفسيرها التاريخي، معلناً عن أنها قد فقدت مبرراتها منذ زمن طويل، وأن التاريخ قد تجاوزها كثيراً.

فغادرها بثقة وشجاعة، وتخطّاها بجدارة أهّله لها مخزون معرفي كبير توفّر عليه واستوعبه بوعي وبصيرة.. أدرك أن الحياة المعاصرة هي المحكّ الذي يميّز المفكّر الحقيقي عن غيره، والعالم الذي استوعب رسالة الإسلام وأهدافها، عن آخر تجمّد عند حرفيات مفرداتها، والمفكر الذي يعي حقيقة أن (الإسلام يقود الحياة) ويجسّد هذا الوعي عملياً في الواقع، عن آخر يدرك من الإسلام أحكاماً فردية في العبادات والمعاملات، وأفكاراً تجريدية لا علاقة لها بواقع الحياة ومتغيراتها.

من أجل ذلك وفّر القسط الأعظم من حياته في تجسير العلاقة بين الإسلام وبين الواقع المعاش، من خلال اكتشاف أطروحة الإسلام ونظرياته، على صعيد الفكر والمعرفة، وعلى صعيد الدولة ومشروعها، وعلى مستوى البنى الأساسية لمجتمع متحضّر.

فاتّسمت دراساته ۔بعد العمق والأصالة۔ بالشمول والمعاصرة والحركية والإبداع، إضافةً إلى التأصيل النظري (تخطّي فقه الأحكام إلى فقه النظريات) الذي مثّل الذروة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

في الصفحات القليلة الآتية سنقف على صور من معالم هذا النتاج الثرّ، بعد وقفة قصيرة على العلاقة بين حركته هذه وبين الواقع المعاش، تعيننا أكثر على معرفة هذا الرجل العملاق.

حركية الفكر

الفكر الحي هو الفكر الذي يحيا زمانه، يعيش حاجاته، يحاور مشكلاته، يجيب على أسئلته، يملأ فراغاته، ويثبت أمام تحدّياته، ليأخذ بزمامه إلى نافذة غده؛ بهذا يكتسب الحياة، وبهذا يتميز على نتاج كثير متراكم لم يتعرف من زمانه على شيء، بل ما زال يحاور أهل القرون الغابرة، بأدواتهم هم، يشاركهم في حلّ مشكلاتهم التي مضت عليها القرون، بل إن من ذوي الفكر والأثر من أفنى عمره يعيش مع الغابرين بأدواتهم، دون أن يعالج واحدة حتى من مشكلات أولئك الغابرين أنفسهم.

الحياة تسأل فلا تُمهل، وتتراكم أسئلتها، فيتراكم أمامها العجز، فلا مناص من الانزواء، وإشغال النفس ومَن حولها عن دويّ هذه الأسئلة، ثم لتسكن النفوس إلى ما هي فيه، راضيةً مطمئنة، وعما قليل سيغلب عليها شعاران يأخذان عليها مجامع الأذهان: غرور بلا نهاية في ما هي عليه، وحقد بلا حدود في كل وجه آخر.. فلقد بعدت الشقّة بين الوجهين، وأصبح ذلك الحوار بين السائل و(اللامجيب) حرباً شعواء، تهدّد بالاكتساح والدمار.

وهكذا يتراكم ۔في سائر الأمم، في حقب مختلفة من أعمارها۔ نتاج فكري يجرّ بأيدي أهله إلى الوراء الوراء، بعيداً عن ساحات الصراع مع الحياة، نتاج ينمو على نفسه في محيطه الضيّق، حتى يتشظى بأيدي حَمَلَته، لتُصبح (الباطنية) باطنيات، و(الصوفية) صوفيات، و(السلفية) سلفيات.. تتصارع كلها، وهي هاربة من الصراع إلى الوراء.

نعرف، ولابد أن نؤكّد، أن أمّتنا لم تعدم في أشد حقب تراجعها الحضاري علماء أحياء ومكافحين ينفخون فيها الروح ويجدّدون وعيها برسالتها الحية، وقد شهد القرن الأخير كثافةً ملموسةً لدعوات اليقظة ومبارزة تحدّيات العصر في ميادين الحياة، فكانت حركات إصلاحية كبيرة، ونتاجات فكرية واسعة، تركت أحسن الأثر في تجديد الوعي وعودة الروح إلى هذه الأمة، في معظم البقاع التي تتمركز فيها شعوبها. هذا حق لا يُجحد، ولكل ذي حق حقه.

لكنّا مع الشهيد الصدر نجد مزية، غير شمولية المعرفة التي جاءت من توزيعه عطاءه في مشاربها المختلفة، تمثّلت هذ المزية بحركية الفكر ومواكبته لمراحل الحركة ومواضع الحاجة، فجاءت معظم نتاجات الفكرية في وقتها المناسب لتملأ فراغاً شاغراً لا يملؤه غيرها. هذا ما يُكتشف من قراءة تجمع بين تاريخ حركته الفكرية والسياسية وبين تاريخ نتاجه الفكري.

الثانية والعشرون من عمره عام 1957م كانت بداية نشاطه السياسي من خلال مشروع تأسيس حزب إسلامي، يسعى وفق مراحل مدروسة إلى استلام السلطة، فطفق في أولى خطوات مشروعه بجمع الأنظمة الداخلية لعدد من الأحزاب المعروفة، وبعد دراسة مستفيضة فيها وضع كتاباً في الأسس الفكرية لعمل حزبي إسلامي، وأطلق على كتابه هذا إسم (الأسس).[1]

وكان الاجتماع التأسيسي لهذا الحزب قد تحقق في سنة 1958م، بعد ثورة 14 تموز في ظرف أصبح فيه تشكيل عمل إسلامي منظّم ضرورةً أكثر إلحاحاً، بعد ما شهده العراق من مدّ شيوعي وفّر له عبدالكريم قاسم فرصته التاريخية.

وفي العام الثاني 1959م انبثقت في النجف الأشرف جمعية إسلامية، بدافع التصدي لهذا المد الشيوعي، وبثّ الوعي الديني تألّفت (جماعة العلماء) هذه من عشرة من كبار العلماء من ذوي الوعي الديني والحس الاجتماعي، وكان من أبرزهم: الشيخ مرتضى آل ياسين، والسيد إسماعيل الصدر، الأول خال الشهيد الصدر، والثاني أخوه. فكان له عن هذا الطريق نفوذ مهم في (جماعة العلماء) من خلال تحمّله مهمة كتابة المقال الافتتاحي لمجلة (الأضواء) التي أصدرتها الجماعة،[2] وهو آنذاك ابن الرابعة والعشرين، وقد أثبت قدرته على الكتابات السياسية الناجحة والمؤثرة في مواجهة الأفكار الغازية.

وفي تلك السنة نفسها أصدر دراسته الموسّعة (فلسفتنا) التي ناقش فيها بعمقٍ أصول المدارس الفلسفية المادية بشكل عام، والمادية الجدلية بشكل خاص، وعلى نحو لم يسبق له نظير، كشف عما تنطوي عليه من ثغرات ومن تهافت، مما يجعلها عاجزةً عن أن تكون الحل الأمثل للمشكلة الاجتماعية، فكان كتابه هذا صاعقة كبرى على الشيوعية وهي في أوج مدّها في العراق؛ فانشغلت تدافع عن نفسها بعد أن كانت غارقة في نشوة الانتصار، لكنه الدفاع الذي لم يسفر عن نتاج يصلح لأن يكون ردّاً على (فلسفتنا).

ولأول مرة تعرض الفلسفة الإسلامية بهذا النحو الذي دوّخ الخصوم، وجعل الإسلام هو الذي يتحدى، وعلى المدارس الأخرى أن تدافع عن نفسها.

وفيما كان هؤلاء منهمكون في دفع الكرات التي ألقتها (فلسفتنا) في مراميهم، داهمهم الصدر مرة أخرى في دراسته الموسّعة الثانية، في (اقتصادنا) سنة 1961م. هذه الدراسة التي قوَّضت شبح النظرية الاقتصادية الماركسية الذي كان العالم ينظر إليها، وكأنها طود شامخ مهيب يصعب النيل منه، وكذا فعلت مع خصيمتها الرأسمالية، في دراسة معمّقة ميّزت بجدارة بين علم الاقتصاد كعلم مستقل مشاع للجميع يستثمرونه ويبذلون الجهد في تطويره، وبين المذاهب الاقتصادية التي تبنى على أسس معرفية وفلسفية مختلفة، ثم استعرض في دراسة تحليلية نقدية ما انطوت عليه الماركسية والرأسمالية في النظرية الاقتصادية من تناقضات فلسفية، ومصادرات على الواقع التاريخي، ثم توّج الدراسة بمحاولة تأسيسية موفقة لاكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي.

فسحب بهاتين الدراستين كل ما في أيدي الشيوعية من سلاح تناجز به الإسلام، وقدّم الإسلام مشروعاً حيوياً بديلاً لحل المشكلة الاجتماعية بنواحيها المختلفة.

لقد رأينا قبل كيف كان السيد الصدر مهيمناً على النظريات الماركسية، فاتحاً لمغاليقها، كاشفاً عن مبهماتها، منذ صباه، فلا غرابة في أن يصدر فيها دراستيه الموسّعتين في بواكير شبابه، وهما الدراستان اللتان ما زالتا أكمل وأعمق ما قدّمه الإسلاميون في نقد المادية الجدلية والديالكتيكية، وما زالتا قائمتین بوجه الماركسية حتى اليوم.

وكل شيء في هاتين الدراستين شاهد على العمق والجدّية والدقة المنقطعة النظير في بحثه لأصول هذه النظريات ومنهجه الاستكشافي.[3]

كان صدور هاتين الدراستين متزامناً مع مقالاته الافتتاحية في مجلة (الأضواء) والتي وضعها تحت عنوان (رسالتنا).

تعاظم شأن الصدر، فنشط حسّاده، وأثاروا من حوله ضجّة عارمة، مستثمرين نشاطه السياسي الذي يعدّونه غير مناسب لمجتهد مرشّح للمرجعية! ووقع نفر من جماعة العلماء تحت تأثير هذه الضجة، فأثاروا قضية إن كانت مقالاته في (الأضواء) تحت عنوان (رسالتنا) تعبّر عن رسالة الجماعة بالحدود التي أرادوها لها، أم هي رسالة الصدر نفسه ومنهجه في الخطاب وفي معالجة قضايا المجتمع؟!

إثر ذلك بعث المرجع السيد محسن الحكيم ولده السيد مهدي الحكيم إلى السيد الصدر يطلب منه اعتزال العمل السياسي والتخلي عن دوره كفقيه لحزب الدعوة، وعن افتتاحية (الأضواء)!

أدرك السيد الصدر أن في هذا الطلب مداراة للوضع العام من ناحية، ولمستقبل الصدر كمرشح للمرجعية من ناحية ثانية، فاعتزل ذلك كله في عام 1961م، لينصرف إلى العلوم الحوزوية الصرفة. وتحت تلك الضغوط كتب شرحه المفصّل للعروة الوثقى، مصرّحاً في مقدمته أنه يكتب ويدرّس هذه المادة وفق المنهج التقليدي السائد في الحوزة، وليس وفق المنهج الذي يريده هو.

لكن المفكر الحقيقي متمرّد بطبعه ولا يستطيع أن يرضخ طويلاً، ففكر باستكمال مشروعه الذي ابتدأه بفلسفتنا واقتصادنا ورسالتنا، بدراسة موسعة في (مجتمعنا) لكنه توقّف عن هذا المشروع قائلاً: (وإن مجتمعنا لا يسمح بمجتمعنا)!![4] أي أن مستوى الوعي العام في المجتمع لا يسمح بدراسة جادة تشخّص مواضع الخلل وتأخذ بيد المجتمع إلى مستوى أرفع.

الإصلاح في الحوزة العلمية

كان شغله الشاغل بعد ذلك الإصلاح في شؤون الحوزة العلمية، في اهتماماتها، وفي هيكلها الإداري، وفي مناهجها الدراسية.. مشروع إصلاحي متكامل، قطع في تنفيذه خطوات مهمة:

– مارس دوراً مباشراً في اختیار وكلاء السيد محسن الحكيم، ثم السيد الخوئي في مناطق مختلفة، من بين من يقدّر فيهم وعياً دينياً وحسّاً اجتماعياً.

– وضع مخطّطاً مفصلاً تأسيسياً لهيكل المرجعية (الصالحة) التي عرّفها بقوله:

إن أهمّ ما يميّز المرجعية الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الأهداف، فهي مرجعية هادفة، بوضوح ووعي، تتصرف دائماً على أساس تلك الأهداف، بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة.. وعلى هذا الأساس يكون المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كل الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.[5]

ثم حدّد هذه الأهداف بوضوح، ووضع المخطّط التفصيلي للجهاز المرجعي الضروري لتحقيق هذه الأهداف، ووضع للمرجعية الصالحة مراحل ثلاث في طريق تكاملها، ولكل مرحلة برامجها ومسؤوليتها على طريق تحقيق تلك الأهداف.[6]

فقدّم في هذه الفقرة وحدها مشروعاً متكاملاً في إصلاح المرجعية، لم تهضمه الأحوال التقليدية السائدة حتى يومنا هذا، أي بعد ما يقارب من أربعين سنة!!

وأما على المحور الثالث ۔التجديد في المناهج۔ فقد كان دوره تأسيسياً وبنّاء أيضاً، فقد كان دوره رئيسياً في إنشاء (كلية أصول الدين) التي أسهم في تأسيسها السيد مرتضى العسكري ببغداد، وصبّ الصدر جهده في صياغة منهجها التدريسي، وألّف بنفسه ثلاثة من كتبها الدراسية التي تُعدّ فتحاً جديداً في مجال الدراسات الدينية، هذه المؤلفات هي: (المعالم الجديدة للأصول) و(الاقتصاد الإسلامي) و(علوم القرآن) الذي وضع مخطّطه وكتب مباحثه الأولى ثم أوكل إلى السيد محمدباقر الحكيم تدريسه وإكماله.

وإتماماً لدوره في هذا المشروع البنّاء فقد أسهم بشكل فعال في مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدرها الكلية.

أما على مستوى الحوزة العلمية فقد صنّف كتابه الكبير في علم الأصول، وفق منهج جديد بنّاء، ما زال يعتمد في مراحل الحوزة المختلفة إلى يومنا هذا.

كما أسّس لأسلوب جديد في بناء الرسائل العملية (المرجع الفقهي للجمهور) في كتابه الشهير (الفتاوى الواضحة) هذا الأسلوب البالغ الأهمية والأثر، لم تألفه الحوزة، لا في حينه ولا بعد ثلاثين سنة من تأليفه.

نقف هنا لنرصد كيف كانت مؤلفات السيد الشهيد الصدر تتحرك معه في سلّم مواجهة الواقع والارتفاع بمستوى الوعي الجماهيري إلى درجة أرفع.

نظرية المعرفة

تجديد في البناء والتطبيقات

البناء النظري للمعرفة، هو الذي يمثّل المنطلق والأساس في بناء فلسفة عن الكون والحياة.

والبحث في نظرية المعرفة يقع على محورين، الأول: مصادر المعرفة. والثاني: قيمة المعرفة.

وعلى مستوى مصادر المعرفة يتصدر السؤال: ما هو المصدر الأساس للإدراك بصورة عامة في الذهن البشري؟

وهنا ينشعب الكلام بانشعاب الإدراك إلى تصور وتصديق.

والتصور بشكل عام يمثّل الإدراك البسيط، إدراك المعاني المجردة، بغض النظر عن مصاديقها الموجودة في الخارج، وبغض النظر عن وجود مصاديق لها في الخارج أو عدمه، كتصورنا لمعنى الحرارة، أو الصوت، أو تصورنا للإنسان، أو الشجرة، أو الجبل، بشكل عام، لا من حيث الأفراد التي يتشخص فيها.

وبمعنى آخر هو الوجود الذهني للأشياء أو المعاني، وقد تتولد في الذهن صورة ليس لها وجود خارجي، بعض هذه المدركات الذهنية بسيط، صورة واحدة في الذهن للحرارة، وبعضها مركّب من صورتين ذهنيتين أو أكثر، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب التصور، التصور المركب، كأن نتصور ناراً زرقاء، أو جبلاً نصفه من ذهب ونصفه الآخر فضة.

كيف تنشأ هذه التصورات في الذهن؟ ما هو مصدرها الأساس العام؟

الإجابات متعددة، في مراحل مرّت بها نظرية المعرفة، وقامت على أساسها الفلسفات المختلفة.

عند أفلاطون كان (الاستذكار) هو مصدر كل الصور الذهنية؛ ذلك أن النفس الإنسانية ۔في فلسفة أفلاطون۔ موجودة قديماً قبل البدن، طليقة قادرة على الاتصال بكل الحقائق المجردة عن المادة (المُثل) فلمّا هبطت إلى الجسد وعالم المادة ذهلت ذهولاً تاماً عن معلوماتها، لكنها تعود إلى (استذكار) تلك المعلومات عن طريق مشاهداتها وإحساسها بالمعاني والأشياء التي ما هي إلا انعكاسات لتلك المُثل التي تعرفت عليها في عهدها الأول، وهكذا أقامت فلسفة صرحها على خرافة، زيّفها تلميذه أرسطو الذي أدرك أن المعاني المحسوسة في الذهن هي نفسها المعاني التي يدركها الذهن بعد تجريدها عن الخصائص المميّزة لأفرادها.

وفي أوروبا عهد النهضة وأوروبا الحديثة تعدّدت الإجابات واختلفت، بين ثنائية: الحس والفطرة في المدرسة العقلية، ديكارت نموذجاً، حيث يكون الحس مصدراً للكثير من التصورات، فيما يختفي أثر الحس في طائفة أخرى من التصورات ليكون مصدرها الفطرة، التي تولّد طائفةً من التصورات عن طريق الاستنباط.. . وبين تفرّد الحس في صناعة التصورات، لدى المدرسة الحسية، جون لوك نموذجاً.

وبين الاتجاهين معارك فلسفية واسعة، انتهت في أوروبا لصالح المدرسة الثانية، الحسية التجريبية، التي اختزلت دور العقل بالاستجابة للمحسوسات، ذاهلةً عن أن التجربة التي أثبتت لديها مصدرية الحس لجميع التصورات، لا يمكنها أن تنفي قدرة الذهن على توليد معان جديدة، لم تدرك بالحس من المعاني المحسوسة، فالعلة والمعلول حقيقتان تقوم عليهما التجربة، وكلاهما محسوس، فليسا مدار بحث هنا، غير أن هنالك حقيقةً ثالثة، هي تلك الصلة الأكيدة بين العلة والمعلول، والتي على أساسها ينتج المعلول عن علته، هذه الحقيقة الثالثة لا يمكن للحس أن يدركها، ولكن الذهن يولدها من ملاحظة ترتّب المعلول على علته.[7]

هذا التوليد الذهني هو الذي اصطلح عليه الشهيد الصدر (الانتزاع) ليسمّي به النظرية المعتمدة لديه:

(نظرية الانتزاع) وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة، وتتلخص في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية.

فالتصورات الأولية: هي الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصور الحرارة؛ لأننا أدركناها باللمس، ونتصور اللون لأننا أدركناه بالبصر.. وهكذا بجميع المعاني التي ندركها بحواسّنا، فإن الإحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري.

وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور، وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة (التصورات الثانوية).. فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحس إلى الذهن والفكر..

وهذه النظرية تتّسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها أن تفسّر جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.[8]

وبهذا يُحسم القول بوضوح في المرتبة الأولى من مراتب الإدراك… (التصور) لينتقل إلى المرحلة الأصعب، مصادر (التصديق) الذي ينطوي على الحكم، ويحصل به الإنسان على المعرفة الموضوعية.

وهذا هو الشطر الأهم في بحث مصادر المعرفة، فأصل المعرفة التصديقية هو الذي يقوم عليه صرح العلم الإنساني بالمستوى الأهم، ذلك لأن التصور بمختلف ألوانه لا يشكّل (قيمة موضوعية) فهو وجود ذهني (لا يبرهن على وجود الشيء موضوعياً خارج الإدراك) وإنما المعرفة التصديقية وحدها هي التي (تملك خاصية الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي).[9]

وفي تفسير مصادر المعرفة التصديقية مذهبان رئيسان:

يرى الأول أن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية، فبدونها لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقةً واحدة من الحقائق مهما كانت واضحة.

هذه هي خلاصة (المذهب التجريبي) الذي يمكن أن يكون مأزقه الأساس هو اختزال المعارف البشرية في حدود التجربة، فما لا يمكن إثباته تجريبياً فهو منفي، لا وجود له.. ومع ما ينطوي عليه هذا الفهم من مفارقة فلسفية، إذ أن نفي الشيء هو في نفسه معرفة يقينية، والمعرفة اليقينية غير ممكنة بدون التجربة، والتجربة لم تثبت أن هذا الشيء لا وجود له، بل غاية قولها أن هذا الشيء لا يمكنه أن يدخل ميداني الخاص، هذا كل ما تقوله التجربة، فيكون إنكار وجوده مفارقة فلسفية، وقول بشيء لم تثبته التجربة.

ومع هذا فإن المأزق الأساس الذي يقع فيه المذهب التجريبي يبقى هو اختزال المعارف البشرية في حدود التجربة، الأمر الذي تمرّد عليه بعض أنصار هذا المذهب والمدافعين عنه، فالماركسيون، وهم تجريبيون، اعترفوا بمساحة مهمة للذهن البشري في استنباط المعارف وراء حدود التجربة، فالمعارف التي نكتسبها من التجربة لا تمثّل سوى الخطوة الأولى من خطوات المعرفة، أما الخطوة الثانية والأهم فهي دور العقل في صياغة المفاهيم والاستنتاجات، على ضوء ما حصّله من معارف أولية عن طريق التجربة.

هنا ستبرز قوة المذهب الثاني (المذهب العقلي) فما هو ذلك الشيء الذي يصبح معه انتقالنا من الخطوة الأولى إلى الثانية مفهوماً؟ ما هي أدوات الذهن في الانتقال من المدركات الأولية إلى الاستنتاج وصياغة المفهوم والنظرية في المعرفة التصديقية؟

تلك هي دعامة المذهب العقلي: المعارف العقلية المستقلة عن التجربة.

فالمذهب العقلي يؤمن بأن الركيزة الأساسية للمعرفة هي المعارف العقلية الضرورية.. معارف يقينية، غنية عن البرهان، خارجة عن حدود التجربة، من قبيل: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد في آن واحد) وهو مبدأ عدم التناقض، و(الحادث لا يوجد من دون سبب) و(الكل أكبر من الجزء) و(ترتّب المعلول على علته) ونظائرها.. .

وهذه المعارف الضرورية ليست فقط ركيزة للمعرفة، بل هي ميزان أيضاً تقاس على ضوئه صحة كل فكرة أو خطأها.

فهذه المعارف هي الأساس في الانتقال من المدركات الحاصلة من الحس والتجربة، إلى المفاهيم والاستنتاجات النظرية، فلا يمكن للمذهب التجريبي الاستغناء عنها وهو يصدر أحكامه في تعميم استنتاجاته الجزئية على الموضوع الذي خضعت بعض أفراده للتجربة.

لكن في الوقت الذي مثّلت هذه القضية نقطة القوة في المذهب العقلي، فإنها ستجرّه لاحقاً إلى مأزق من نوع آخر، كان المذهب التجريبي في منجاة منه.

تلك هي مسألة التعميم في الأفكار، واتجاه السير الفكري، فهو عند العقليين اتجاه نزولي من الكليات إلى الجزئيات، ونموذجه القياس المنطقي، ومثاله: (كل إنسان فان) قضية كبرى وكلية، و(محمد إنسان) قضية صغرى، فـ(محمد فان) نتيجة، فالنتيجة لا تكون أكبر من مقدماتها، فهي إما أصغر منها أو مساوية لها. هذا نمط السير الفكري في المذهب العقلي.

وبخلافه المذهب التجريبي، فهو يسير صعوداً من الجزئيات الخاضعة للتجربة إلى الكليات، من هنا فهو يعتمد الاستقراء، ولا يعترف بالقياس، وليس للقياس معنى في دائرته، فما معنى استنتاجنا أن (محمداً فان) من تينك المقدمتين: (كل إنسان فان) و(محمد إنسان)؟ فعند قولنا (كل إنسان فان) عمّمنا قاعدةً ثابتة على جميع أفراد الإنسان، فإذا قلنا بعدها: (محمد إنسان) فإما أن نكون عارفين منذ البداية أن محمداً إنسان، وعندئذ قد حكمنا بفنائه عند إطلاق المقدمة الأولى التي تقضي على سائر أفراد الناس بالفناء، فلا معنى لهذه العملية العقلية أصلاً.. وإما أن نكون جاهلين بانطباق القانون على هذا الفرد من الناس، محمد، وعندئذ يكون تعميمنا باطلاً؛ لأننا أطلقنا حكماً عاماً قبل أن نقطع بانطباقه على سائر أفراده.

القضية المهمة هنا، هي: أن السيد الشهيد الذي انتصر لنمط السير الفكري في المذهب العقلي إلى حد تفسير عملية الاستقراء ذاتها في المذهب التجريبي بعكس اتجاهها، لتتواءم مع المذهب العقلي، سيعود بعد حين ليجهز على ما انتصر له اليوم.

فيقول هنا: إن السير الفكري، حتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة أن الذهن ينتقل فيه من موضوعات جزئية إلى قواعد وقوانين، إنما يكون السير في حقيقته من العام إلى الخاص، أي موافقاً لما في القياس العقلي، بحجة أن تعميم المدركات الجزئية إنما يستند إلى قاعدة عقلية كلية، مفادها: أن الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس.[10]

هذه هي القضية المهمة هنا التي سيعود الشهيد إلى ضدها في (الأسس المنطقية للاستقراء) دون أن يتراجع عن الأساس الذي يقوم عليه المذهب العقلي، والذي شكّل نقطة واحدة فيه، وهو الارتكاز إلى معارف عقلية ضرورية في بناء المعارف التصديقية، ودون أن يمسّ (نظرية الانتزاع) في مصدر المعرفة التصورية.

وهناك في (الأسس المنطقية للاستقراء) الفتح الفكري الجبّار، وسيوظّف هذا السير التصاعدي، من الخاص إلى العام، من الجزئي إلى الكلي، في البرهان على أصول الدين، ليدخل هذا الفن ميدان علم الكلام لأول مرة على هذا النحو العلمي الجاد.

وقبل الانتقال إلى ذلك الميدان الجديد نقف عند الخلاصة في قيمة المعرفة في (فلسفتنا) عند السيد الشهيد، وهي:

إن مردّ المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف أساسية ضرورية، هي الأساس العام لجميع الحقائق العلمية..

وإن قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية..

وفي المجالات غير التجريبية، كما في مسائل الميتافيزيقيا، ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتمّ فيها بصورة مستقلة عن التجربة، عن طريق عملية تفكير واستنباط عقلي بحت.. وقد يتوقف استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية على التجربة أيضاً، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.[11]

المعرفة وفق (المذهب الذاتي)

تدخل نظرية المعرفة دوراً جديداً يظهر فيه التجديد والإبداع على مستوى الفكر الإنساني كله، في الفتح المعرفي الكبير الذي أنجزته (الأسس المنطقية للاستقراء).

والاستقراء منهج في المعرفة يدخل على يد السيد الشهيد عهداً جديداً، يبلغ فيه ذروته في تحقيق قيمة المعرفة والحصول على المعارف اليقينية.

فهنا سيكون الاستقراء هو المصدر العلمي لمعظم المبادئ العقلية الضرورية، التي تمثّل أساس المعرفة وفق المذهب العقلي، لكنه الاستقراء الذي استطاع أن يتخلص من كل المشكلات التي تلاحقه في إطار المذهب العقلي، وإطار المذهب التجريبي معاً.

والمراد بالاستقراء، هو كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوينه، أي أن السير الفكري فيه سيكون من الخاص إلى العام، معاكساً للسير الفكري في الدليل الاستنباطي الذي يقوم على القياس.[12]

إنه نمط من الاستدلال يؤدّي إلى العلم بالتعميم دون الاستعانة بأي مبادئ عقلية قبلية.[13]

وليس هذا الاستقراء هو نفسه الذي يتحدث عنه المنطق الأرسطي الذي يفهم الاستقراء بأنه كل استدلال يقوم على أساس تعداد الحالات والأفراد، دون أن يميز بين الملاحظة والتجربة، والذي قسّم الاستقراء على هذا الأساس إلى استقراء كامل واستقراء ناقص.[14]

ومنطق الاستقراء في المذهب الذاتي (الصدري) لا يعدّ الاستقراء الكامل استقراءً، إذ أن نتيجته مساوية دائماً لمقدماته، فلا يصدق عليه السير من الخاص إلى العام، وإنما الذي تنصبّ عليه الدراسة هنا هو الاستقراء الناقص وفق المنطق الأرسطي، والذي سيكتسب قيمته المعرفية التامة من خلال نظرية الاحتمالات في ثوبها الجديد، ليكون دليلاً عملياً على كثير من المعارف، ليس الطبيعية فحسب، بل الميتافيزيقية أيضاً.

ومن هنا تكتسب المعارف البشرية، حتى الميتافيزيقية منها، قيمةً أكبر، فالنظرية الميتافيزيقية ستكون هنا شأنها شأن النظرية العلمية، تأتي منسجمةً مع التسلسل الفكري التصاعدي من الجزئي إلى الكلي، لتأخذ موقعها في ذروة العملية الفكرية، بدلاً من أن تتدلى من كلية عقلية كبرى تلعب دور السلطة على الفكر، دون أن يكون للفكر دور في إثباتها.

فمنطق الاستقراء في المذهب الذاتي يضيف نوعاً جديداً من المعارف، فوق النوعين اللذين أقرّهما المذهب العقلي، ففوق المعارف الأولية، ثم المعارف الثانوية المستنتجة من المعارف السابقة بالتوالد الموضوعي، يأتي الصنف الثالث وهو المعارف الثانوية المستنتجة بالتوالد الذاتي، وتشمل كل التعميمات الاستقرائية، فكل تعميم استقرائي هو مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد بينها وبين ذلك التعميم أي تلازم، ثم ينشأ العلم بالتعميم عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.

أي أن المعرفة لا يشترط أن تقوم على أساس التلازم الموضوعي بين المقدمات والنتائج.

ومن هنا يقدّم الشهيد الصدر صياغة جديدة لمصادر المعرفة التصديقية، وقيمتها، خلاصتها:

– أن هناك مبدءان عقليان قبليان فقط تستند إليهما المعارف البشرية، هما مبدأ عدم التناقض، وبديهيات حساب الاحتمال.

– وأن المعرفة البشرية تستمدّ قيمتها من مدى اعتمادها هذين المبدأين وانطلاقها منهما.[15]

– أما المبادئ العقلية القبلية في المذهب العقلي فهي على نحوين: الأول، ويشمل معظم هذه المبادئ (أربعة من ستة: القضايا التجريبية، والحدسية، والمتواترة، والمحسوسة) وهذه كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد.[16]

أما النحو الثاني، ويشمل (الأوليات، والفطريات، فهي وإن كانت مبادئ قبلية إلا أنه يمكن الاستدلال عليها استقرائياً).[17]

ومن هنا فإن المذهب التجريبي أيضاً يقع في المأزق المعرفي حين يختزل مصادر المعرفة بالحس والتجربة، الأمر الذي أرغمه على التشكيك بقيمة المعرفة الناتجة عن هذا المصدر الوحيد في العلوم الطبيعية، ثم إلغاء كل القضايا التي لا تخضع للحس والتجربة وتجريدها من أي قيمة معرفية، بعد أن عجز وفق مذهبه هذا عن إيجاد ما يبرّر التعميم الموضوعي الصادق، الأمر الذي ينجو منه المذهب الذاتي بإثبات المبدأين الأوّليين: مبدأ عدم التناقض، وبديهيات حساب الاحتمال.

لقد كشف المذهب الذاتي في المعرفة عن (الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضمّ كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة.

واستطاع أن يقدّم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة البشرية، يفسّر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً.. وتبرهن هذه الدراسة في نفس الوقت على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية…[18]

وهذه الحقيقة هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدّة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإن هذا الاستدلال استقرائي بطبيعته.

(وهكذا نبرهن على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن من وجهة النظر المنطقية للاستقراء الفصل بينهما).[19]

وهكذا اقتحم على المذهب التجريبي أسواره، لينفخ فيه الروح، ويثبت بأنه قادر على أن يتسلح بالسلاح العلمي الدقيق الذي يؤهّله ليس فقط إلى بلوغ المعرفة اليقينية في حدود التجربة والحس، بل إلى المعرفة اليقينية أيضاً في القضايا الميتافيزيقية، وبالأدوات ذاتها التي يتعامل من خلالها مع القضايا التجريبية.

ويطلّ الشهيد الصدر بعد ذلك على مختلف مباحث العقيدة، من خلال هذا المنهج نفسه الذي يمثّل نقلةً نوعية في علم الكلام الإسلامي.

ويدرك الباحث أن هذا المنهج كفيل بأن يعيد صياغة علم الكلام الإسلامي كله، الذي قام على أساس المنطق الأرسطي في دائرة المذهب العقلي.

ولقد كان السيد الشهيد ينوّه بذلك ويصرّح أحياناً بمؤاخذاته على البراهين الكلامية التي اعتمدها السلف (فقد كان يتحفظ على كثير من آراء السلف، ورغم تحفظه العام تسرّبت على لسانه الكريم أسرار تطلقها كلمات موجزة أصغى إليها بعض المقرّبين من طلابه تنبئ بتحول كبير سيطرأ على نظرية الوجود وأبحاث الميتافيزيقيا.

وقد كان السيد الشهيد في خيفة وتردّد وهو على أعتاب طرح هذا التحول.. ولعل العقل لم يبلغ الرشد الكافي لقبول تلك الأفكار).[20] العقل الذي لم يكن يسمح بكتاب (مجتمعنا) هو أولى أن لا يسمح بكتاب من هذا النوع في (عقائدنا).

ولكن في الحدود التي يسمح بها العقل تعامل السيد الشهيد وفق منهج جديد في مباحث أصول الدين.

منهج الاستدلال على أصول الدين

الجديد هنا جديد حقاً أيضاً، وهو تطبيق منهج الاستقراء في علم الكلام، للبرهان على أصول الدين بمنهج جديد يمتاز على المنهج التقليدي القائم على أسس المنطق الأرسطي من وجوه:

فهو مستغنٍ عن المصادرات التي يلجأ إليها الدليل الاستنباطي من ناحية، وهو (أقرب إلى الفهم البشري، وأقدر على ملء وجدان الإنسان بالإيمان)[21] من ناحية أخرى.

ولأول مرة يدخل منهج الاستقراء، بعد تقييمه على نحو دقيق ومعمّق كمنهج استدلالي، مجال علم الكلام الإسلامي، فبعد التأسيس النظري المعمّق لهذا المنهج، وتقييمه علمياً بكل وسائل التقييم العلمية، ينتقل به الشهيد الصدر إلى حيّز التطبيق، فيمارسه في إثبات وجود الصانع، وفي مسلّمات مهمة في مبحث النبوة، وفي إثبات كفاءة الرسالة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ويلخّص منهجه في الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات بالخطوات الخمس الآتية:

1۔ نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة.

2۔ ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، فإذا كانت هذه الفرضية ثابتة في الواقع فهي تستبطن وجود، أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً.

3۔ إثبات أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلها مجتمعةً ضئيلة جداً، كنسبة واحد في المأة، أو واحد في الألف، وهكذا.

4۔ نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا وجودها في الخطوة الأولى.

5۔ العودة إلى حساب الاحتمالات لمعرفة مدى إثبات تلك الظواهر لهذه الفرضية، إذ أن درجة الإثبات هذه تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر إلى عدم وجودها، على افتراض كذب الفرضية، فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر، حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية.[22]

يتناول الصدر هذا الموضوع بتفصيل أعمق وتقييمات أوسع في (الأسس المنطقية للاستقراء) ثم يعرضه موجزاً مبسّطاً في (موجز في أصول الدين) لذا كثيراً ما يُحيل من (موجز) إلى (الأسس) لغرض التوسع في الاطلاع.

وعلى أساس هذه الخطوات يأتي على إثبات وجود الله تعالى، وفق المنهج العلمي الاستقرائي وقواعده وأدواته، فبعد جمع الملاحظات والظواهر، وتقديم الفرضيات الممكنة في تفسير هذه الظواهر، ثم تقييم هذه الفرضيات على ضوء حساب الاحتمالات (تصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون صانعاً حكيماً، بدلالة كل ما في الكون من آيات الاتساق والتدبير)[23] بعد أن أخفقت جميع الفرضيات الأخرى في تفسيرها.

ويأخذ هذا المنهج العلمي دوره الرائع في إثبات ظاهرة النبوة، من خلال الدراسة المفصلة لطبيعة الإنسان والتاريخ، حقيقة طبيعة الإنسان التي يكشفها السبر التاريخي، والتي تتخذ فيها النبوة والوحي موقعهما الطبيعي.. وفي المسار نفسه يأخذ المعاد موقعه دون الحاجة إلى مصادرات عقلية قد لا توفّر درجة اليقين التي يوفّرها هذا الاستدلال العلمي.

فقضية نبوة محمد؟ص؟ ومصداقية رسالته تُدرس على أساس طبيعة الرسالة وخصائصها، وطبيعة المرسَل واستعداداته قبل الرسالة وبعدها.. وبعد توفير كل الملاحظات والظروف ذات العلاقة، وتقديم الفرضيات الممكنة في تفسيرها يخلص إلى (أن النتيجة إذا جاءت أكبر من الظروف والعوامل المحسوسة، بحكم الاستقراء للحالات المماثلة، كشفت عن وجود شيء غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة).[24]

وذلك هو (عامل الوحي، عامل النبوة، الذي يمثّل تدخّل السماء في توجيه الأرض).[25]

إن اعتماد هذا المنهج في الاستدلال على أصول الدين في الوقت الذي يمثّل الخطوة الرائدة في تطبيقات المنهج الذاتي المكتشف في المعرفة لينقل النظرية المكتشفة إلى الواقع التطبيقي، يعدّ في الوقت نفسه خطوة رائعة على مستوى علم الكلام الإسلامي، أحدثت فيه نقلةً نوعية، وسلّحته بالأدوات الكافية للإجابة على أسئلة العصر المثارة بوجه الاستدلال الكلامي التقليدي.

[1]. الإمام الصدر؛ سيرة ذاتية، محمد الحسيني، ص88، حزب الدعوة الإسلامية، صلاح الخرسان.

[2]. حزب الدعوة الإسلامية، صلاح الخرسان.

[3]. عن واحدة من معالم جدّيته ودقته في البحث يتحدث تلميذه السيد محمود الهاشمي قائلاً: في الوقت الذي كان فيه الشهيد مشغولاً بكتابة (اقتصادنا) بلغه صدور ترجمة عربية لكتاب وِل ديورانت (قصة الحضارة) فطلب منا السعي للحصول عليه بأسرع وقت قائلاً: (كيف أردّ على نظرية تدّعي أنها قائمة على سرّ تاريخ البشرية، فيما قد يكون هناك أمر مهم في أحوال المجتمعات ومعاملاتها الاقتصادية لم أطّلع عليه؟) فعلمنا أن شيخاً معروفاً قد اقتنى نسخة منه، وكان عزيزاً نادراً، فكلّمناه، فلم يستجب لطلبنا، فاتصل به السيد الشهيد وبعد إلحاح شديد أعاره إياه لمدة أسبوع واحد فقط، فعكف الشهيد أسبوعه ذلك على أجزاء الكتاب الثلاثة والأربعين حتى طواها بأكملها وأعاد الكتاب إلى صاحبه في موعده دون تأخير. في محاضرة للسيد محمود الهاشمي ألقاها في مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، في شوال 1420هـ.

[4]. الحياة السياسية للإمام الصدر، ملا أصغر علي جعفر، هامش 27، دراسة في كتاب محمدباقر الصدر، نخبة من الباحثين، ص512.

[5]. مباحث الأصول، السيد كاظم الحائري، ص92.

[6]. م. ن، ص 92 ۔ 100.

[7]. انظر: فلسفتنا، محمدباقر الصدر، ص51 ۔ 60.

[8]. م. ن، ص61 ۔ 62.

[9]. م. ن، ص141.

[10]. انظر: فلسفتنا، ص66۔ 73.

[11]. م. ن، ص 143 ۔ 144 باختصار.

[12]. الأسس المنطقية للاستقراء، محمدباقر الصدر، ص6.

[13]. م. ن، ص85.

[14]. م. ن، ص 13.

[15]. م. ن، ص436 ۔ 437.

[16]. م. ن، ص433.

[17]. م. ن، 434 ۔ 436.

[18]. م. ن، ص 451 ۔ 467.

[19]. م. ن، ص469.

[20]. نظرية المعرفة في ضوء الأسس المنطقية للاستقراء، السيد عمار أبو رغيف، مجلة المنهاج، العدد 17، ص133.

[21]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص469.

[22]. موجز في أصول الدين، تحقيق عبدالجبار الرفاعي، ص 129 ۔ 130.

[23]. م. ن، ص148.

[24]. م. ن، ص181.

[25]. م. ن، ص192.