مدرسة الشهيد الصدر الأخلاقية، أصولها.. وخصائصها

عـادل القاضي

دواعي البحث

تقوم الحاجة إلى البحث في مدرسة الإمام الشهيد الصدر! الأخلاقية على الدواعي والموجبات التالية:

1_ دراسة سيرة الشهيد الصدر! دراسة شاملة تستوعب مفردات حياته وعطائه كلها، ذلك أننا لا نجد في هذه الحياة وهذا العطاء شيئاً لغير الإسلام، وبالتالي فإن دراسة شخصيته من جوانبها كلها سيساعد في فهم منهجه الذي ينبغي أن يكون زاداً للأجيال كلها.

2_ إن البعد الأخلاقي والتربوي هو خلاصة أبعاد شخصيته! الأخرى: العلمية والفكرية والعقائدية والفقهية والعملية، يقول الإمام الخميني! مخاطباً طلبة العلوم الدينية:

إن العلوم التي تدرسونها ليست في الواقع إلا مقدمة للحصول على مستوى خلقي رفيع.

3_ إن التدهور الأخلاقي الذي شهدته بعض صفوف وصنوف الحوزة العلمية، والذي حرص الشهيد الصدر! على معالجته من خلال تقديم المثال والنموذج، ما زال يعاني العديد من المفارقات التي تستدعي أن يكون النموذج الصدري الحوزوي الأخلاقي مثلاً أمامه أبداً.

4_ إن حاجة الأمة اليوم، بل والإنسانية في كل مكان، إلى ما يصلح شأنها وكل فاسد من أمورها أكثر من ماسّة، وقد تعددت الأسباب في ذلك، لكن التشخيص يكاد يكون إجماعياً أن الخلل الأساس هو في البنية التربوية، وأن أزمة الأزمات هي الأزمة الأخلاقية، وسيرة المرجع الصدر! حرية بأن تحتذى في تقديم النموذج المنقذ للإنسانية من وقوعها في وحل المادة.

5_ إن حياة الصدر! الأخلاقية لا تقتصر على جانب أخلاقي معين يمتاز به دون سواه من الخصائص والخصال الحميدة، بل هي منظومة أخلاقية متكاملة يشدّ بعضها أزر بعض، وهذا هو مكمن القوة في شخصيته التي حازت شرف مكارم الأخلاق كلها بلا استثناء، مما يقتضي تسليط الضوء كاشفاً ساطعاً على هذه الشخصية الجامعة للشمائل والفضائل الفذة الفريدة.

6 _ قد نجد في عالم العلماء _ كما هو معروف ومألوف _ عالماً فقيهاً، ومرجعاً أعلم، أما أن يجمع عالم فقيه علماً جمّاً وفريداً إلى جانب أخلاق جمّة وفريدة، فتلك صفة من الصفات النادرة التي تستحق الدرس عند الصدر أو عند أمثاله. فكما امتاز! علماً فذّاً، تميز أخلاقاً فريدة، والجمع بينهما ليس يسيراً، الأمر الذي يجعلنا نفكّر بالشهيد الصدر على أنه من أشد تلامذة المدرسة الإمامية برّاً بنهجها وبأساتذتها وبأهدافها. يقول الشهيد مطهري! في (الإنسان الكامل):

إن معرفة الإنسان الكامل أو النموذجي في نظر الإسلام واجبة علينا نحن المسلمين، لأن الإنسان الكامل يكون بحكم المثال والقدوة وما ينبغي أن يحتذى. فنحن إذا شئنا أن نكون مسلمين كاملين، والإسلام يريد صنع الإنسان الكامل، وإذا أردنا أن نصل إلى كمالنا الإنساني بالتربية والتعليم الإسلاميين علينا أن نعرف من هو الإنسان الكامل؟ وكيف هي ملامحه الروحية والمعنوية وسيماه ومميزاته؟ حتى نستطيع أن نصنع مجتمعنا وأنفسنا على شاكلته.[1]

منهجية البحث

سيحاول البحث _ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً _ أن لا يعتمد الأسلوب التقليدي في دراسة أخلاقية المرجع الشهيد، والقائم على استقراء سيرته الأخلاقية والتربوية في المفردات التي اعتاد بعض الكتّاب اعتمادها في معرفة زهد وتواضع وأخلاق وتسامح الشخصية المدروسة، بل سنعمد ما وسعنا ذلك _ إلى الدخول إلى شخصيته _ في جانبها التربوي والأخلاقي _ من خلال مدخلين:

  1. النص.
  2. التجربة.

وأعني بالنص كل ما ورد في مأثور السيد الشهيد! من نقاط إضاءة في الجوانب المشار إليها، والتي سيتضح من خلال البحث أنه لم يكن يطلقها كأفكار معلّقة في الفضاء، وإنما مارسها ممارسة شخصية عملية أثبت من خلالها أن بالإمكان نقل القيم العليا من التحليق في فضاء التجريد إلى نطاق التطبيق والتجسيد.

كما أعني بالتجربة ما تركه! من سيرة ذاتية عملية لا يجد الدارس أية ثغرة بينها وبين متبنياته الأخلاقية والتربوية، فلقد أرسى دعائم نظرية تربوية إسلامية رصينة، وحرّك في موازاتها تجربة عملية ضخمة لا تدع مجالاً للطعن في قدرة المنهج الإسلامي على رسم الخط التربوي الواضح، الذي لا يتمثل في أشخاص معدودين ينتهي برحيلهم، بل يمتد في الزمن لينتج أمثالاً وأمثلة أخرى تتعزز بها المسيرة الصالحة.

وسيكون الاعتماد على الشواهد والأمثلة _ في هذه الدراسة _ ضمنياً، أي أننا سوف لا نستعرض المواقف الأخلاقية بعملية نقل مجردة، إنما نسوقها كدلائل، ونلجأ إليها _ في البرهنة والتحليل _ على ما يمكن استخلاصه من تجربة أخلاقية إسلامية عملاقة.

هيكلية البحث

على ركيزتين أساسيتين يقوم هذا البحث:

أولاً: أصول المدرسة الأخلاقية الصدرية.

ثانياً: خصائص هذه المدرسة.

الركيزة الأولى: أصول المدرسة الأخلاقية الصدرية

من خلال دراسة مستقصية للنصوص التربوية التي بثها الإمام الصدر! هنا وهناك في تراثه الفكري، يمكن تلمّس ثلاثة أنواع من الوعي، أو ثلاثة أصول رئيسية تشكّل المنهج الذي قامت عليه المدرسة الصدرية الأخلاقية، وهي:

1 _ الوعي الذاتي.

2 _ الوعي التاريخي.

3 _ الوعي الميداني.

وحتى نضيء كل أصل من هذه الأصول، لابد أن ندخل إليها من أبوابها لنتعرف _ بشيء من التفصيل _ على كل وعي، وكيف أسهم في صياغة منهج أخلاقي رائد يمكن أن يخرّج لنا أكثر من صدر، أو مَن هم أقرب إليه أو على شاكلته.

وغير خاف أن استخدام مصطلح (وعي) هو للإشارة إلى أن السيد الشهيد! توافر على ذلك كله ببصيرة نافذة وإدراك تام لمتطلبات بناء شخصية إسلامية هادفة وملتزمة ونازعة إلى إمامة المتقين <وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً>.[2]

1 ـ الوعي الذاتي

وهو ما عبّر عنه السيد الشهيد! في أكثر من موضع بـ (صياغة المحتوى الداخلي للإنسان) ولا شك أن هذا المحتوى هو حصيلة جملة عوامل متظافرة تلعب بالتعاون مع بعضها البعض في إنشاء المحتوى الإيماني الذي تعمر به نفسُ الإنسان المؤمن، والذي يمثّل عمق العبادات لا شكلها الظاهري فقط، أو لنقل: إنه روح العبادات لا طقوسها وشعائرها. فالمحتوى الداخلي الإيماني هو الذي يُنتج إرادة تلوي عنان الضعف والانهزام، ويحفّز الجوارح للعبادة على طريقة:

فإذا حلّت الهدايةُ قلباً   نشطت للعبادة الأعضاء

 

ويتجلّى هذا الوعي، عبر المخطط المرسوم ذاتياً، من خلال النقاط أو المحطات التالية:

أ ـ الإعداد الروحي

لنأخذ في البداية هذا التعريف المهم للجانب الروحي في الشخصية الإسلامية، فهو (الصلة الداخلية للمؤمن بالله تعالى وانشداده النفسي والعاطفي به من حيث الإيمان والحب والإخلاص، وما يرافق هذه المعاني الثلاثة الرئيسية من: خوف ورجاء وتواضع.. إلخ. إن المضمون الداخلي المرتبط بالله تعالى هو الجانب الروحي، وهو الذي يشكّل الأساس الذي يقوم صرح الشخصية الإسلامية بالكامل عليه، وتصدر عنه عناصرها الأخرى وسماتها وخصائصها المميزة).[3]

ومن هذا التعريف يمكن أن نستلّ فهمنا للمحتوى الداخلي من أنه (فطرة سليمة) تتعاهدها (تزكية دائمة): <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا>[4] <سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ>[5] الأمر الذي يقودنا إلى فهم الصدر لها، حيث يقول:

فالنظرة الروحية في وجودها عبارة عن إدراك صلة الحياة والكون بالله وانبثاقها عن قدرته وتقديره، وبهذا المعنى يمكن أن نعتبر الكون بصورة عامة روحياً، لأن تلك الصلة بالمبدع الخلّاق، صلة الخلق والإبداع، تشمل المادة كما تشمل الروح، وتنفذ إلى سياستها جميع محتويات الكون وحقائقه. وليست هذه النظرة الروحية _ التي تتمثل فيها الحقيقة الكبرى للكون _ نظرية مجردة، وإنما تتصل بالوجود العملي للإنسان كل الاتصال، وتحدّد له موقفه من عالمه الذي يعيشه، والحياة التي يحياها ويستمد الإنسان منها، أو على ضوئها، اتجاهه العام الذي ينعكس في كل نشاطاته وأفعاله.[6]

من هنا يمكن تفسير حركة الشهيد الصدر! _ في كل نشاطاته وأفعاله ومواقفه من عالمه وحياته واتجاهه العام _ على أنها نابعة من نظرة روحية كونية تموّن تلك الحركة بالزخم الذي يجعلها دائماً على طول الخط ربانية.

ب ـ التسامي عن طريق التوحيد

لا ريب أن للاعتقاد بالتوحيد منعكساته الأخلاقية والتربوية التي تدفع الإنسان إلى التسامي بحيث يصبح التوحيد محطّ نظره في كل خطوة يخطوها، أو قول يقوله أو عمل يعمله، حتى ليمكن القول: إن التوحيد ينتج لدى الموحّد منظومة أخلاقية منسجمة مع وحيه وهداه. يقول السيد الشهيد!:

إن فكرة التوحيد كلما تجذّرت في النفس تحرّر الإنسان من الشهوات والأغلال التي عليه، كما في الآية الكريمة <وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ>[7] ولأجل ذلك كان مردّ فكرة الحرية في الإسلام إلى عقيدة إيمانية موحدة بالله ويقين ثابت على سيطرته على الكون، وكلما تأصّل هذا اليقين في نفس المسلم وتركزت نظرته التوحيدية إلى الله تسامت نفسه وتعمّق إحساسه بكرامته وحريته، وتصلّبت إرادته في مواجهة الطغيان والبغي واستعباد الآخرين <وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ>[8]‌.[9]

من هذا النص يمكن قراءة أو تحليل تحرّر السيد الشهيد! من الشهوات، وشعوره بالانعتاق والحرية والكرامة. فحينما يحتجّ عليه الحاكم الظالم في مراسلاته مع الإمام الخميني! وتأييده للثورة الإسلامية، أو حينما يزور الإمام عندما تقرر السلطة الباغية إبعاده من العراق في ظروف خانقة لا يجرؤ أحد على كسرها، وحينما يقيم مأتماً للشهيد مطهري! في ظروف أمنية وسياسية لا تسمح بذلك، فإنه يتحرك بوحي من هذه العقيدة التي تصلّب إرادته بيقين راسخ أن السيطرة على الكون لله وحده فلا خوف ولا خشية ولاحساب إلا له <أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ>[10]؟!

وقد تدعو بعض الظروف إلى التعامل وفق منطق: انحنِ للعاصفة حتى تمرّ، لكن نطاق الخوف العام إذا لم يُخترق أو يكسر، فإنه يصبح حينئذ أمراً واقعاً يصعب خرقه أو كسره، وبالتالي فأن موقف السيد الشهيد! في تحدي السلطة في الأجواء الخانقة، هو أشبه شيء بموقف الذي يتصدق علناً في أجواء الشحّ والأيادي المغلولة إلى العنق. إن صدقة العلن هنا تصبح خيراً من صدقة السر؛ لأنها تلعب دور المحفّز على العطاء.

ج ـ الجهاد الأكبر

ومن هذا المنطلق الواسع والكبير، فإن النظرة التوحيدية الكونية لا تشكّل ركيزة أساسية في المحتوى الداخلي للإنسان المؤمن ما لم تنتقل من دائرة النظرية العقيدية إلى المجال الشعوري الذي يحيلها من مجرد قواعد إلى حركة حياة نابضة، أي إطلاقها من مكمن القوة إلى مرحلة الفعل، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال ما اصطلح عليه المربّي الإسلامي بـ (الجهاد الأكبر) وهو جهاد النفس؛ حتى تكون مؤهلة لاستلام مهمة (الخلافة) في مستوى القاعدة، ومهمة (الشهادة) في مستوى القيادة، وسيتضح ذلك في مطاوي البحث جلياً.

يقول السيد الشهيد!:

وقد استطاع الإسلام _ بعملية التحرير من الداخل وبتحقيق متطلبات الجهاد الاكبر _ أن ينبّه في النفوس الخيرة كل كوامن الخير والعطاء، ويفجّر فيها طاقات الإبداع على اختلاف انتماءاتها الطبقية في المجتمعات الجاهلية، فكان الغني يقف إلى جانب الفقير على خط المواجهة للظلم والطغيان، وكان مستغل الأمس يندمج مع المستغل _ بالفتح _ في إطار ثوري واحد بعد أن يحقق الجهاد الأكبر فيه قيمه.[11]

من هذا نفهم أن (الجهاد الأكبر) الذي مارسه السيد الشهيد! مع ميدانه الأول – نفسه _ نبّه في هذه النفس الخيرة كل كوامن الخير والعطاء، وفجّر فيها طاقات الإبداع، التي لسنا بصدد الإشارة إليها أو الإشادة بها، فهي أوضح من أن تذكر.

بيد أن السيد الشهيد! يحدّد لنا الإخلاص في صفاء النية التي يريد بها وجه الله في كل عمل يعمله او قول يطلقه، حينما يقول! في تحديد معالم العمل الصالح في القرآن:

فالإسلام يهتم بدوافع العمل لا بمنافعه، ويرى أنه يستمد قيمته من الدوافع لا من المنافع، فلا عمل إلا بنية، وما لم تتوفر النية الصالحة لا يكون العمل صالحاً، مهما كانت منافعه التي تنشأ عنه.. . إن الإسلام يريد أن يصنع الإنسان نفسه صنعاً إسلامياً، فهو يتبنى لأجل ذلك تربية هذا الإنسان ويستهدف قبل كل شيء تكوين محتواه الداخلي والروحي.[12]

فإذا أردنا أن نعرف كيف طبّق الشهيد الصدر! ذلك على نفسه، فإننا نقف على الإجابة من خلال بعض الدلائل التي تشير إلى أنه كان يستحضر النية الخالصة المخلصة في كل عمل يقوم به. وبعبارة أدق فإن النية الخالصة كانت حاضرة لديه في كل حركة وسكنة. فعندما دعا (السيد ميرمحمد القزويني) أحد علماء البصرة الأجلاء لمرجعية الشهيد الصدر! في البصرة التمسه السيد الشهيد! بعدم الدعوة لذلك. ويوم صدر كتابه القيم (اقتصادنا) غلّفت إحدى دور النشر في بيروت الكتاب بغلاف يحمل صورته ونبذة من حياته، فأمر السيد الشهيد! أحد أقربائه أن يتفق مع الموزّع على نزع الغلاف قبل بيعه.

وعندما كتب (فلسفتنا) أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف بعد عرضه عليهم متنازلاً عن حقه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب، إلا أن الذي منعه من ذلك أن جماعة العلماء أرادت إجراء بعض التعديلات في الكتاب المذكور، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي السيد الشهيد! فاضطر إلى أن يطبعه باسمه.

غير أن اللافت في الأمر هو تعليق السيد الشهيد! على هذه الحادثة، بالقول:

حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم، والدويّ الكبير في المجتمعات البشرية مما يؤدي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب، وكنت أفكر أحياناً فيما لو كنت مطلعاً على ذلك وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلفه لدى الناس، فهل كنت مستعداً لطبعه باسم جماعة العلماء وليس باسمي كما كنت مستعداً لذلك أولاً؟ وأكاد أبكي خشية أني لو كنت مطلعاً على ذلك لم أكن مستعداً لطبعه بغير اسمي.

ولكن السؤال الأهم هنا هو: كيف استطاع السيد الشهيد! أن ينكر ذاته لهذه الدرجة من الخلوص؟ وكيف تمكّن من الاندكاك بهدفه _ مرضاة الله _ كل هذا الاندكاك؟

إنه يختصر علينا الطريق في الإجابة على هذا السؤال حينما يقول:

ليس معنى ذلك أن يمحى حب الذات من الطبيعة الإنسانية، بل إن العمل في سبيل تلك القيم والمثل هو تنفيذ كامل لإرادة حب الذات، فإن القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبّراً عن لذة شخصية خاصة، فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة خاصة بذلك.[13]

فلنا أن نتصور مدى سعادة السيد الشهيد! وهو يعيش الذوبان التام بمحبوبه، حتى أنه كلما بذل أكثر عاش السعادة أكثر وعاش القرب أكثر، وتلك لعمري لذة لا يعيشها إلا الخلّص من المؤمنين الذين ذابوا في ذات الله فعظم في أنفسهم وصغر ما دونه في أعينهم.

ومن بين مصاديق عبوديته المخلصة لله زهده في هذه الحياة الدنيا. ولأجل أن نتعرف على أثر الزهد في بناء أخلاقية الصدر، لنتعرف عن كثب كيف لعب الزهد في حياته دور التضامن مع عناصر أخلاقه الأخرى ليخلق هذه النفس المطمئنة الكبيرة.

هذه أولاً إضاءات سريعة على زهده:

فنحن نراه لم يملك منذ أن لمع نجمه في مدرسة النجف وحتى التقى ربه شهيداً سوى ما يقتات به ليومه. فزواجه من ابنة عمه كان من موقوفة خصّصت لتزويج السادة، وأداؤه فريضة الحج كان بحقوق طباعة كتابه (فلسفتنا). ولعلنا نتلمس خيوط أو خطوط زهده منذ بداياته الأولى، فلقد أضرب في العاشرة من عمره عن الطعام مكتفياً بكسرة خبز ليثبت لأهله أنه قادر على مواصلة حياته كلها على هذه الشاكلة، وهذا المشهد يتكرر ليؤكد أن السيد الشهيد! كان قد اكتفى _ كأستاذه علي% _ من طُعمه بقرصيه.

فخادم السيد! يدخل عليه _ ذات يوم _ فيراه يأكل خبزاً يابساً، وكان ذلك في الظروف الاعتيادية. وفي ظروف المحنة والحصار ينقل مدير مكتبه (الشيخ النعماني) أنه عندما رآه يتناول الخبز اليابس أسف لذلك، مما دعا السيد الشهيد! أن يقول له: (إنه أطيب طعام ذقته في حياتي لأن فيه رضا الله)

هذه المشاهد الثلاثة تعني أن زهد الصبي محمد باقر وزهد المرجع محمدباقر وزهد محمدباقر زهد واحد، وإنما هي نفسه يروّضها، حتى إذا ضاق الخناق عليها لم تشعر به، بل تستشعر _ على خلاف ذلك _ لذة غير متصورة. فهناك من المسرّات الروحية التي كان الإمام الصدر يحياها بجهاده الأكبر ما لا يقدر أحد على إحصائه أو وصفه.

لم يكن الزهد عند الشهيد الصدر! شعاراً، أو مفارقة بين واقع داخلي يضرب الزهد عرض الجدار، وبين مظهر متقشّف يشتري به ثمناً قليلاً من إعجاب الناس وثنائهم، بل كان من جنس زهد علي% (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ!)، (أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ.. وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ).[14]

إنها تربية باتجاهين:

الأول: (الذات) لصهرها في بوتقة العشق لرضا الله ولما عند الله من الباقيات الصالحات، والانصراف عن الدنيا ومتعها الزائلة الحقيرة انصراف وعي وتأسٍّ وضرورات يفرضها الواقع الديني والاجتماعي.

الثاني: (الأمة) لاسيما مفاصلها المتحركة: علماء وعاملين ليتأسى بهم ضعفة الناس، فالكثير من طلبة العلوم الدينية _ يومذاك _ وهم الشريحة الألصق به، كانوا يعانون شظف العيش، فكان من أبلغ دروس التربية وأوقعها في النفس مواساتهم فيما هم فيه، وهذا ما نلاحظه في مقولاته المتكررة: كيف أصنع هذا وفي الطلبة من لا يملكون قوت يومهم؟!

د ـ نظرة تأملية في عباداته

سبقت الإشارة إلى أننا لا نملك اطلاعاً تفصيلياً على عبادات شهيدنا العظيم، والقليل الذي نمتلكه منها _ على الرغم من قلته _ موح ومعبّر وذو دلالة واضحة على أن هذه النفس الإسلامية الإيمانية التي تعمر بالقيم هي وليدةُ بناء تربوي غاية في المتانة، ولئلا تسبق النتيجة التحليل والبرهان، نلتقط من عباداته! ما كان ظاهراً منها:

فلقد كان! (يهتم في هذا الجانب بالكيف دون الكم، فكان يقتصر على الواجبات والمهم من المستحبات، وكانت السمة التي تميّز تلك العبادات هي الانقطاع الكامل لله، والإخلاص والخشوع. قال تعالى <قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ>.[15]

كان) لا يصلي، ولا يدعو ولا يمارس أمثال هذه العبادات إلا إذا حصل له توجه وانقطاع كامل، وكان متكتّماً على أمره هذا، ومتخفياً في عبادته، ولا يعرف أقرب الناس إليه منه شيئاً عن هذا الأمر).[16]

ففي هذا النص الشهادة من لدن مقرّب لسيدنا الشهيد يتجلى واضحاً أنه! حكم عباداته أو تحكّم بها من خلال مبدأين كبيرين وهما: (الإخلاص) حيث الانقطاع الكامل لله تعالى إرادة لوجهه الكريم، والتكتم والتخفي فراراً من الرياء والسمعة. و(الخشوع) حيث لا ممارسة للعبادة إلا مع حصول التوجه والانقطاع، وهو ما سنلمسه في عباداته كلها وليس في الصلاة وحسب.

وهذان المبدءان هما في الحقيقة مبدأ واحد، أو لنقل إنهما سبب ونتيجة، فالخشوع مظهر من مظاهر الإخلاص، والإخلاص أسّ من أسس الخشوع، ولذلك فالتلازم أو الترابط الجدلي بينهما قائم محكم حتى لا يمكن الفصل بينهما، إذ كيف إخلاصٌ ولا خشوع وكيف خشوعٌ ولا إخلاص؟!

يقول (النعماني) الذي شهد صلاة الصدر اليومية طوال المدة التي أقامها معه: (كنت أتربص الفرص لأصلي خلفه جماعة في البيت، فكان في أحيان كثيرة يجلس في مصلاه، فكنت أجلس خلفه، وقد دخل وقت الصلاة، بل قد يمضي على دخول وقتها أكثر من نصف ساعة والسيد الشهيد جالس مطرق برأسه يفكّر، ثم فجأة ينهض فيؤدي الصلاة). وعند السؤال عن سبب ذلك يجيب! قائلاً: (إني آليت على نفسي منذ الصغر أن لا أصلي إلا بحضور قلب وانقطاع، فأضطرّ في بعض الأحيان إلى الانتظار حتى أتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم إلى الصلاة).[17]

ويعقّب (النعماني) بالقول: (ولم تكن هذه الحالة خاصة بالصلاة فقط، بل كانت تمتد إلى كل أشكال وصور العبادة الأخرى). فعن قراءته للقرآن، يقول: (سمعته يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين وشجي ودموع جارية يخشع القلب لسماعه، وتسمو النفس لألحانه، وهو في حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن).

ويذكر صورة عن انقطاعه في أداء العمرة في فصل الصيف هي الأروع بين صور عباداته الأخرى، فيقول: (كان في الساعة الثانية ظهراً يذهب إلى المسجد الحرام حيث يقل الزحام بسبب شدة الحر، وكانت أرض المسجد مغطّاة بالمرمر الطبيعي، فكان لا يتمكن أحد _ من شدة الحر _ من الطواف في تلك الفترة. فكان) يذهب في ذلك الوقت إلى المسجد حافي القدمين، وكنت أطوف معه، فوالله ما تمكنت من إكمال شوط واحد حتى قطعت طوافي وذهبت مسرعاً إلى الظل، فقد شعرت أن باطن قدمي قد التهب من شدة الحر، وما طفت في تلك الساعة إلا منتعلاً. وكنت أعجب من حال السيد الشهيد) وهو يطوف ويصلي، وكأنه في الجو الطبيعي الملائم، فسألته يوماً بعد عودتنا من المسجد الحرام عن هذه القدرة العجيبة من التحمل، فقال: ما دمت في المسجد الحرام لا أشعر بالحرارة. نعم بعد أن أعود إلى الفندق أحس بألم في قدمي) ويعلّق مرافقه قائلاً: (ولم يكن ذلك إلا بسبب انقطاعه وتوجهه إلى الله تعالى، وإلا فإنه رضوان الله علیه كان يتضايق من الحر في الظروف الطبيعية) الأمر الذي يزيد في تقدير استعداده للتحمل وهو في حضرة المولىÅ.

ومهما قيل في عباداته الأخرى، فإن أكبر عباداته وأكثرها (التفكر) وهي كما في الأثر أفضل العبادات وأجلها، ولولاه _ أي لولا التفكر _ ولولا خُلقه العظيم، لما حظينا بنعمتين كبيرتين: علم جمّ نوّر حياتنا وأثراها، وأخلاق وشمائل فاضلة سمحة أكسبتها عبقاً لا يفنى مع الأيام.

يقول (النعماني) في إحدى شهاداته:

اتخذ السيد الشهيد منهجاً خاصاً لتربية نفسه من الناحية العلمية، فقد كان _ وكما سمعنا منه _ يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسّمها بين المطالعة والكتابة والتفكير، ولعل التفكير كان يأخذ أكثرها.[18]

إن صدرنا الشهيد! يحاول _ في عباداته كلها _ أن يؤسس لحالة عبادية متميزة، كان أجداده( مثلها الأعلى ونموذجها الأسمى، حتى ليمكن القول: إنه أعاد لها نضارتها وحيويتها وحقيقتها بعد ما شحبت في عبادات الناس الخالية من نبض الروح، وتوق النفس، وشغف القلب، ولهفة الجوارح.

إنه في (حلبة) العبادة لا يريد إلا تسجيل الانتصارات المتتالية: نصراً على الذات <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا>[19] وآخر على الشيطان <فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً>[20] وثالثاً على الحياة الدنيا <مَتَاعُ الْغُرُورِ>[21] ورابعاً على الطاغوت <فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ>.[22] إنها تصارعه كلها فيصرعها كلها ببصيرة نافذة، وبإرادة منه صلبة، وتسديد من الله بالهداية إلى سبله <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ>.[23] ومقابلة الانتصار للدين بالنصر ينزّله مالك النصر ليثبّت به فؤاده والأقدام <إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ>.[24]

وإذا كانت الثمرة المجتناة من منظومة العبادات في الإسلام هي (التقوى)، وأن هذه العبادات ليست مطلوبة لذاتها، وإنما لتحقيق هذا الهدف السامي، فإن مردود التقوى _ أخلاقاً وعملاً _ مردود مباركٌ مزدوجٌ على الفرد وعلى الأمة فـ (التقوى تمنح الإنسان أول ما تمنح الحرية الأخلاقية والمعنوية، وتعتقه من ربقة العبودية للرغبة والهوى، وترفع عن رقبته سلاسل الحرص والطمع والحسد والشهوة والغضب).[25] يضاف إلى ذلك كله أن التقوى بالنسبة للمرجع الحابس على ذات الله نفسه، تمثّل عصب شخصيته وروحها، فبها تنقاد له القلوب، وبها تكسب فتاواه ووصاياه السمع والطاعة، وبها يتعلم الآخرون دروس التقوى العملية.

وبكلمة مقتضبة فإن مرآة الصدر الشهيد! نقية جداً لدرجة أنها تستقبل ضوء الحب الإلهي كله فلا غبش يمتص شيئاً منه أو يبدّده، كما أن وديان وجدانه تستقبل أمطار الحب الإلهي كلها فلا تدع قطرة منها إلا وتنتهلها انتهالاً.

هـ ـ استذكار الموت والإحساس بالآخرة

لنتأمل _ في البداية _ الصور والمواقف التالية:

1 _ ترددت إشاعة بين أوساط المؤمنين مفادها أن مؤامرة تحاك للقضاء على شخص الإمام الصدر! بشكل لا يثير الشكوك ضد السلطات التي قررت تدبير حادث سيارة له وهو في طريقه إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين%. وإثر ذلك سارع أحد العلماء للتعبير عن قلق المؤمنين لذلك، فأطلع السيد الشهيد على المؤامرة وحذّره من كيد السلطة، فأجابه!: (لا يهمني بأية طريقة أموت، في حادث سيارة أو بطلقة أو على الوسادة).[26]

2 _ لما طلبت السلطة في العراق من السيد الشهيد! إدانة الثورة الإسلامية والتعرض بسوء لشخص قائدها الإمام الخميني!، قال السيد الشهيد! مخاطباً ضابط الأمن الذي نقل له الطلب: (لقد كان هدفي وأمنيتي في حياتي تأسيس حكومة إسلامية، والآن وقد تأسست في إيران وتحققت أمنيتي، فكيف أقول شيئاً ضدها؟) فقال له الضابط بأنه سيعدم جرّاء هذا الموقف، فرد السيد الصدر!: (إذا كنت مأموراً بتنفيذ حكم الإعدام فنفّذه الآن وأنا أنتظر الإعدام منذ فترة، والشهادة طريق آبائي وأجدادي).

يقول!: إن (الأئمة( علّمونا بأن تذكّر الموت دائماً يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا، فكل واحد منا يعتقد بأن كل من عليها فان، لكن القضية دائماً وأبداً لا يجسّدها بالنسبة إلى نفسه، هذه العبر التي علّمنا الأئمة( أن استحضارها دائماً يكسر فينا شره الحياة، ما هي هذه الحياة؟ لعلها أيام فقط.. لعلها أشهر فقط، لعلها سنوات، لماذا نعمل ونحرص دائماً على أساس أنها حياة طويلة؟ لعلنا لا ندافع إلا عن عشرة أيام.. إلا عن شهر.. إلا عن شهرين.. هذه بضاعة رخيصة).[27] فالإمام الصدر! يتخذ من تذكّر الموت والاستعداد له علاجاً مفيداً لحب الدنيا، ليكسر شره الحياة التي إنْ هي إلا أيام معدودات وبضاعة رخيصة.

يقول الشهيد مطهري في (الإنسان الكامل): (إن من المقاييس التي يقاس بها الإنسان الكامل هو ردود فعله عند مواجهة الموت).[28] ويضيف في موضع آخر (إذا لم يخش الإنسان الموت فحياته بأسرها تتغير).[29]

وعلى هذا فإن النتيجة التي يمكن استخلاصها من استحضار الموت والاستعداد له عند السيد الشهيد! هي أنه أعطى _ كما مر معنا _ الحياة ما تستحق من حجم ومن قيمة، فهي زائلة فانية متاع لعب ولهو، قليلة غرّارة غدّارة. وأنه عمل لما بعد الموت؛ لأنه أبقى وأدوم وخير وأنفع فهو النعيم المقيم والقرب الدائم والرضوان الأكبر والسعادة التي لا سعادة فوقها.

2 ـ الوعي التاريخي

إن المراد بالوعي التاريخي هنا هو إحساس الإنسان المسلم بمجموعة من القضايا التي تتصل بالنشاط الإنساني التاريخي، والصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال في التاريخ البشري برمّته.[30] ولهذا الوعي ثلاث شعب:[31]

1 _ الشعور بحركة الأحداث.

2 _ الشعور بوحدة المسيرة.

3 _ الإحساس بحتمية الانتصار.

على أن هذا الشعور الثلاثي (بحركة الأحداث ووحدة المسيرة وحتمية الانتصار) هو في الحقيقة شعور واحد متكامل مترافد متعاضد، ذلك أن الإحساس بحركة الأحداث وحركة التاريخ والظواهر التاريخية عن طريق توسيع أفق الإنسان المسلم وتكوين العقلية التاريخية لديه، يرتبط بنحو وبآخر بالإحساس بوحدة المسيرة التي قادها الأنبياء والمرسلون والأئمة والصالحون؟سهم؟ رغم تعدد أساليبهم ومراحلهم، فهذا (الشعور ينتهي من الناحية النفسية إلى أرقى المعاني التي تكون زاد المؤمنين العاملين، ووقودهم في الجهاد، وهي التوحد مع الأنبياء والصالحين، ومحاولة الانصهار في نهجهم الرباني، وعبادتهم وعبوديتهم لله تعالى، والاعتزاز بالنسب التاريخي العريق والثقة بالنفس والتعزي عند البلاء والمواجهة بمواجهات الموكب الكريم والرهط الكريم، والاستفادة من تجاربهم في العمل والجهاد).[32]

وكل من الشعورين أو الإحساسين السالفين بـ (حركة الأحداث ووحدة المسيرة) يرتبط بالإحساس بحتمية الانتصار ارتباط المقدمات بالنتيجة، وذلك كله من خلال وجهة النظر الإسلامية القرآنية بالطبع. فحركة الأحداث على طول التاريخ الرسالي وامتداده، والإحساس بالانتماء إلى السلف الصالح عبر خط واحد ممتد في مسالك الزمن يموّن القائد أو الداعية إلى الله بحقيقة أن النصر حليفه وحليف رسالته التي حملها الأمناء من قبله، فحققوا لها أروع الانتصارات المادية والمعنوية إن آجلاً أو عاجلاً.

يقول سيدنا الشهيد!:

إن الصعاب التي تواجه الدعوة الإسلامية واجهت كل دعوة انقلابية في التاريخ، فلو أنها كانت صعاباً قاهرة لجمد التاريخ، بل لقد واجهت الصعاب الدعوة الإسلامية في مطلعها، فلو أن أحداً كان يتنبأ لحظة اختفاء الرسول الأعظم- في الغار والعيون منتشرة في الصحراء للتفتيش عنه والقضاء عليه، لو أن أحداً تنبّأ في هذه اللحظة أن هذا الطريد الشريد الوحيد سوف يصل في طريقه إلى عواصم القياصرة والأكاسرة ويغزو العالم المتحضّر كله، ويُحدث أعظم انقلاب عرفه التاريخ لقال المثبّطون عن هذا المتنبئ: إنه مجنون. وما هو بمجنون. إي والله ليس بمجنون إن هو إلا ذكرٌ للعالمين ولتعلمنّ نبأه بعد حين.[33]

هذا الاستلهام الدقيق للتاريخ والاستيحاء العميق لأسراره ولسننه، منح السيد الشهيد! وعياً تاريخياً غنياً لا كمؤرخ يتوافر على دراسة علمية منهجية، بل كموظّف رائع لدروسه وعبره ومحطات التزود والإشراق الكبرى فيه، ولذا تراه يخلص من جولته التاريخية التي سبر أغوارها حتى عاد في قراءته للأمم السابقة وكأنه أحدهم _ حسب تعبير الإمام علي% _ بالمحصّلة التاريخية التربوية الباهرة التالية: (إن الذين حملوا مشعل الدين على مر الزمن كانوا أقوى الناس نفساً وأصلبهم عوداً).[34]

وهذا ما سنستشرفه في حياته! أيضاً من خلال النصوص تارة، ومن خلال التجربة تارة أخرى. ولذا فإننا سندمج الشعورين الأوليين بـ (حركة الأحداث ووحدة المسيرة) ببعضهما لجهة صعوبة الفصل بينهما في تجربة السيد الشهيد! التي استلهمت التاريخ بحركة أحداثه ووحدة مسيرته في مفاصل تجربته المستحضرة ذلك كله.

فهو ومن خلال دراسة متأنية انتهى إلى أن القرآن الكريم يوفّر لنا _ من خلال التعمق في نصوصه الداعية إلى استجلاء التاريخ _ فهماً واعياً لحركة أحداثه، بمعنى أن معترك الصراع بين الحق والباطل قائم منذ فجر البشرية، وأن لهذا الصراع معادلاته وسننه التي لن تجد لها تبديلاً. فهي جارية في الأمم غابرها وحاضرها، وهي ربانية، وهي مبرمة _ حسب التوصيف الصدري لها _ وبالتالي فإن دخول الشخص أو الأمة في مجرى الصراع الراهن لا يمكن اعتباره _ بأي حال _ حركة مبتدأة من الصفر، وإنما هو حلقة في مسلسل يقتضي خوضه أو النجاح فيه إدراك أبعاده التي جلّاها الكتاب المجيد في أكثر من سورة وأكثر من آية، الأمر الذي يفتح آفاقاً تاريخية أمام الدعاة إلى الله والقادة إلى سبيله فلا (يصنّمون) المرحلة العابرة _ حسب تعبير السيد الشهيد _ ولا ينظرون إلى أوضاع الانحراف كأمر واقع مستقر ينتهي إلى نتائج سلبية عديدة منها: فقدان الأمل، وانحسار الاندفاع الرسالي، وتقديم التنازلات العلمية من أجل الانصهار في التيار الذي لا يؤمّل تغييره، والتنازل الفكري من حيث التشكيك في الموقف المبدئي.[35]

فكيف _ يا ترى _ عاش الإمام الشهيد! حركة الأحداث ووحدة المسيرة في التاريخ كعامل تربوي ضخم أنتج شخصية بهذا المستوى من الإيمان والأخلاق والشجاعة والتضحية؟

فحينما يتحدث! عن مفهوم الإسلام للخلافة، وعملية الاستخلاف الرباني للجماعة على الأرض، يقول:

إن هذا الكائن الحر الذي اجتباه للخلافة، قابل للتعليم والتنمية الربانية، وإن الله تعالى قد وضع له قانون تكامله من خلال خط الربانية والتوجيه الرباني على الأرض.

الخطة الربانية _ والرأي للشهيد الصدر _ وضعت خطين جنباً إلى جنب: أحدهما خط الخلافة والآخر خط الشهادة الذي يجسّده شهيد رباني يحمل إلى الناس هدى الله ويعمل من أجل تحصينهم من الانحراف.[36]

من هذا النص الصدري نستلّ المفهومين التربويين التاليين:

أ _ الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض قابل للتعليم والتنمية الربانية.

ب _ الإنسان باعتباره قائداً وشاهداً وموجّهاً للمسيرة الربانية قابل للتكامل.

وحتى نتعرف على هذه المسؤولية بشكل تفصيلي أيضاً، نعمد من جديد إلى النص الصدري، مع توجيه العناية _ دائماً _ إلى أن الحديث هنا عن خط الشهادة هو حديث بالضمن عن الدور الذي اضطلع به سيدنا الشهيد!. أي لابد من التذكير باستمرار بتلازم النص مع التجربة عند السيد الصدر!. فهو حينما يبيّن لنا التدخل الرباني في خط الخلافة من خلال خط الشهادة، يذكر أصناف الشهداء الثلاثة (النبيون والربانيون والأحبار) فيقول عن الصنف الثالث:

والأحبار هم علماء الشريعة، والربانيون هم درجة وسطى بين النبي والعالم، وهي درجة الإمام. ومن هنا أمكن القول بأن خط الشهادة يتمثل:

أولاً: في الأنبياء.

ثانياً: في الأئمة الذين يعتبرون امتداداً رشيداً للنبي في هذا الخط.

ثالثاً: في المرجعية التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبي في خط الشهادة.

والشهادة على العموم يتمثل دورها المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء، فيما يلي:

أولاً: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها <بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ>.[37]

ثانياً: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها.

ثالثاً: التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.[38]

وما يهمنا من الشهداء الثلاثة شهادة المرجع تحديداً، خاصة وأن حديثنا منصبّ على مرجعية السيد الشهيد! التي زاولت مسؤولياتها في خط الشهادة على الصعد الثلاثة: استيعاب الرسالة والحفاظ عليها، والإشراف على الممارسة بإعطاء التوجيهات في المفاهيم والأحكام، والتدخل لمقاومة الانحراف.

(فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الأيديولوجية، ويشرف على سير الجماعة وانسجامها أيديولوجياً مع الرسالة الربانية التي يحملها. ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى الطريق الصحيح إذا واجهت انحرافاً في مجال التطبيق).[39] ومن ذلك نستشفّ أن المهمة واحدة بالنسبة للنبيين والربانيين والأحبار، وأن الحديث الشريف (الفقهاء أمناء الرسل) ناظر إلى المسألة من هذه الزاوية، وأن الفارق هو في العصمة التي يمكن أن نتلمس مظهر التشبه بها في هذا المجهود التربوي الجهيد (الجهاد الأكبر) الذي يمارسه المرجع كيما يكون في الدرجة العليا من التقوى والورع والأخلاق والعمل، لاسيما إذا عرفنا (أن الإسلام يتجه إلى توفير جو العصمة بالقدر الممكن دائماً).[40]

يقول سيدنا الشهيد!:

والمرجع هو الإنسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري معاناة طويلة الأمد، استيعاباً حياً وشاملاً ومتحركاً للإسلام ومصادره، وربما معمّقاً، يروّض نفسه عليها، حتى يصبح قوة تتحكم في كل وجوده وسلوكه، ووعياً إسلامياً رشيداً، وما يزخر به من ظروف وملابسات ليكون شهيداً عليه. ومن هنا كانت المرجعية مقاماً يمكن اكتسابه بالعمل الجاد المخلص لله. ومن هنا كانت المرجعية كخط قراراً إلهياً، والمرجعية كتجسيد في فرد معين قراراً من الأمة.[41]

إن هذا النص الصدري _ على وجازته _ يقدّم تصوراً مغايراً لمواصفات المرجع السائدة، فهناك معاناة طويلة الأمد، وهناك ترويض للنفس عليها حتى تصبح قوة متحكمة بكل وجود المرجع وسلوكه وهناك وعي إسلامي رشيد، وهناك العمل الجاد المخلص لله.

وفوق هذا وذاك فإن المرجعية بالإضافة إلى كونها قراراً إلهياً _ حسب التصنيف الثلاثي للشهداء والذي سبقت الإشارة إليه _ فهي تفويض من الأمة لحامل لواء قيادتها الشرعية. وبهذه المواصفات يمكن القول إن السيد الشهيد! قد أحرج المراجع الذين تنحصر مرجعياتهم في الفتيا فقط، لأنه حدّد بالفعل الصورة التي ينبغي أن يكون المرجع الشاهد عليها. إنه بكلمة واحدة: خليفة الإمام المعصوم% الذي لابد له أن يكون صورة ناطقة عنه.

ثم يخلص السيد الشهيد! من ذلك كله إلى المحصّلة التي تقودنا إلى فهم مرجعيته المتميزة فكراً وعاطفة وسلوكاً، حيث يقول: (وهكذا نخرج من ذلك بأن الشهيد سواء كان نبياً أو إماماً أو مرجعاً يجب أن يكون عالماً على مستوى استيعاب الرسالة، وعادلاً على مستوى الالتزام بها، والتجرد عن الهوى في مجال حملها، وبصيراً بالواقع المعاصر له، وكفؤاً في ملكاته وصفاته النفسية)[42] فأي من تلك الصفات والخصائص لم تنطو عليها شخصية المرجع الشهيد؟ لقد التقت كلها جميعاً فيه وعلى أرقى مستوى وفاقاً لما جاء عن الإمام العسكري% (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه). وهو هنا لا يضرب لنا مثلاً بنفسه، علماً أنه هو نفسه مثلٌ لكل ما أراده المعصوم من خليفته أو وكيله أو أمينه على الرسالة ممن بعده، لكنه يستشهد بمثل حي آخر وهو الإمام الخميني! الذي يقول عنه:

سقطت في يده إمبراطورية الشاه بكل خزائنها، ورجع إلى بلده رجوع الفاتحين، فلم يؤثر على بيته القديم بيتاً، بل عاد إلى نفس البيت الذي نفاه الجبارون منه قبل عشرين عاماً تقريباً، ليقدّم الدليل على أن الإمام علياً لم يكن شخصاً معيناً وقد انتهى، وإنما هو خط الإسلام الذي لا ينتهي.[43]

وهنا نمسكُ بخيط متين من الخيوط التي ترشدنا إلى شخصية الصدر الأخلاقية في كل ما قدمته من تجربة غنية ومشعّة في هذا المضمار، فهو كما وصف الإمام الخميني! قد قدّم الدليل على أن الإمام علياً% لم يكن شخصاً معيناً وقد انتهى وإنما هو! خط الإسلام الأصيل الذي لا ينتهي، الأمر الذي يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً من أن أحد أهم الأهداف التي توخّاها الشهيد الصدر من سيرته الأخلاقية العلمية هو تأكيد المنهج وترسيخ الخط وإبراز معالم المدرسة وقد كان (وأي مسلم لا يشعر بالزهو والاعتزاز إذا أحس بعمق أنه يعيد إلى الدنيا من جديد أيام محمد وعلي وأيام أصحاب محمد الميامين الذين ملأوا الدنيا عدلاً ونوراً!)[44]

ويتضح الهدف جلياً من مقولة للصدر يركّز فيها (المرجعية _ الخط) لا (المرجعية _ الشخص)، وإن كانت هذه _ بقدر اندكاكها بالخط وتجسيده _ تمثله كمصداق مشرق، وكلما ازدادت المصاديق الممثلة للخط تأكّد خط الشهادة في المرجعية. (المرجعية عهدٌ رباني إلى الخط لا إلى الشخص، أي أن المرجع محدّد تحديداً نوعياً لا شخصياً، وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله بل المركز كمواصفات عامة)[45] وهذا ما أكّده أيضاً في رسالته التي بعثها إلى طلابه بُعيد انتصار الثورة الإسلامية، وفيها يقول: (وليست المرجعية الصالحة شخصاً، وإنما هي هدف وطريق، وكل مرجعية حققت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص).[46]

عملية الاختزان

هذه هي أهم الأطر النظرية التي استند إليها السيد الشهيد! في رسم معالم المرجعية الرشيدة في خط الشهادة. فلننتقل الآن إلى استبيانها من خلال الإدراك العميق لوحدة المسيرة والمتمثل في عملية الاقتداء والائتمام بالأنبياء والأئمة( فيما أسماه! بمبدأ (الاختزان) أي اختزان مواقفهم وصبرهم وتضحياتهم وتحمّلهم وثباتهم للاستعانة بذلك كله في وقت الحاجة بمعنى أن (المختزَن) _ حسب ما يراه السيد الشهيد _ يقوم بعملية تمثيل واستحضار لتلك المواقف الجليلة والمشرّفة حينما يتعرض لمثل ما تعرّض له سلفه الصالح من رموز خط الشهادة، وبذلك فهو يطرح أسلوباً راقياً من أساليب التربية، ولندعه يشرح لنا فحوى هذه العملية بنفسه، يقول!:

في اللحظات التي تمر على أي واحد منا ويحسّ بأن قلبه منفتح لمحمد- وأن عواطفه ومشاعره كلها متأججة بنور رسالة هذا النبي العظيم-.. في تلكم اللحظات يغتنم تلك الفرصة ليختزن. وأنا أؤمن بعملية الاختزان _ والإقرار للسيد الشهيد _ بمعنى أن الإنسان في هذه اللحظة إذا استوعب أفكاره، وأكّد على مضمون معين، وخزنه في نفسه، سوف يفتح له هذا الاختزان آفاقاً في لحظات الضعف. وبعد هذا حينما يفارق هذه الجلوة العظيمة، حينما يعود إلى حياته الاعتيادية سوف يتعمق بالتدريج هذا الرصيد، وهذه البذرة التي وضعها لحظة الجلوة، وهي لحظة الانفتاح المطلق على أشرف رسالات السماء.. تلك البذرة سوف تشعره، وسوف تقول له في تلك اللحظة: إياك من المعصية، إياك من أن تنحرف قيد أنملة عن خط محمد-.[47]

إن عملية الاختزان _ كأسلوب تربوي منتج وفعال _ يعتمد في الأساس التقاط صور القدوة، لاسيما الباهر منها، وإيداعها في محفظة أو مخزن الذاكرة، وهي ليست عملية أرشفة مجردة للمواقف وإنما هي _ كما أشرنا _ عملية استدعاء لتلك المواقف لتفعل فعلها الإيجابي في (المخزِّن) كما فعلت من قبل في المثال أو القدوة.

وبمعنى آخر فإن تخزين المواقف الرسالية والبطولية المشرّفة في منطقة اللاشعور، ولا نميل إلى تسميتها كذلك وإنما نصطلح عليها بمنطقة (الوعي المدخر) سيكون له في وقت لاحق أثره الفاعل والكبير في التربية، حينما يستنزل _ في المواقف المماثلة _ إلى مناطق الشعور أو الوعي الحاضر _ وهو وعي استدعائي _ إباءً وتحدّياً وبذلاً واستجابة وتضحية.. إلخ.

ولا داعي هنا للقول إن مخزون الصدر _ الذي عرف الإسلام معرفة واسعة وأبدع في حقوله كلها _ ثرّ غزير، فهو لا يستحضر محمد بن عبدالله- وعلي بن أبي طالب% على مستوى الموقف المعصوم فقط، بل حتى محمد بن عمير ويوسف بن تاشفين على المستوى غير المعصوم أيضاً.

ولنأخذ الآن أمثلة من النصوص الصدرية التي تدلّل على ما كان يختزنه الصدر نفسه، وما كان يريد للأمة أن تخزنه لتعيش الإباء والتحدي والممانعة كما عاشها هو. يقول! في تفسير النص النبوي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية): (إن الارتباط بالقيادة جزء من التربية الشاملة الكاملة للإنسان).[48]

ولننظر كيف ارتبط سيدنا الشهيد بهذه القيادة؟ يقول في دعوته للتعامل مع النبي- تعاملاً مباشراً وكأنه يتعاطى معه، كما لو كان حياً، فيعاهده على الالتزام والعمل بما جاء به (ليس كل إنسان يعيش محمداً- مائة بالمائة وإلا لكان كل الناس من طلابه الحقيقيين.. فكل إنسان لا يعيش محمداً إلا لحظات معينة تتسع وتضيق بقدر تفاعل هذا الإنسان برسالة محمد-.. إذن ففي تلك اللحظات التي تمرّ على أي واحد منا ويحس بأن قلبه متفتح لمحمد- وأن عواطفه ومشاعره كلها متأججة بنور رسالة هذا النبي العظيم- في تلك اللحظات يغتنم تلك الفرصة ليختزن).[49]

فإذا كانت اللحظات التي عناها السيد الشهيد! تمرّ على أي من المؤمنين، فإنها ولا شك مرّت عليه _ أي السيد الصدر _ ليعيش النبي- بقدر تفاعله مع رسالته، وما تأجّج من عواطفه وتشرّب من مشاعره كلها بنور رسالة هذا النبي- العظيم، إلا انعكاس للحظات الحية الكثيرة التي عاشها مع جده المصطفى-.

وليس بين أيدينا تصور واضح عن الكيفية التي كان الصدر العظيم يعيش بها محمداً العظيم-، لكن ما يمكن استشفافه هنا أنه كان يستحضر روحه العظيمة وخلقه العظيم ومواقفه العظيمة؛ ليستمد من هذه وهذه وتلك عظمته التي شغلت الأعداء قبل الأصدقاء، فكان مثالاً للتأسي بالنبي-.

أما اختزانه لعلي% فيتجلى من خلال عدة نصوص:

يقول في محاضرة (حب الدنيا): (علي بن أبي طالب كان يعمل لله سبحانه.. لم يكن يعمل لدنياه.. أليس هذا الإمام هو مثلنا الأعلى؟!.. علينا أن نحذر من حب الدنيا).[50]

ويمكن التعرف على مدى الاختزان الصدري للتجربة العلوية من خلال تساؤلاته الحادة التالية:

_ أليس هذا الإمام هو مثلنا الأعلى؟

_ أليست حياة الإمام هي سنّة؟ (كما هي حياة المصطفى وأهل بيت المصطفى().

_ أليست السنّة هي قول المعصوم وفعله وتقريره؟

إن لهذه الأسئلة أو التساؤلات لجواباً واحداً عند الصدر لا غير.. وهو أن علياً% هو ذلك كله، وكما أدار عليٌّ% للدنيا ظهره وطلّقها ثلاثاً لا رجعة له فيها، أرانا الصدر! كيف يمكن أن يزهد بالدنيا من يقتدي بعلي% وهو في موقع القيادة للأمة.

ونقرأ تمثله لعلي% في نص آخر:

كانت مهمته الكبرى هي أن يحافظ على وجود الأمة على أن تتنازل عن وجودها.. لم يكن يفكّر فقط في الفترة الزمنية التي عاشها.. وإنما كان يفكّر على مستوى آخر أوسع وأعمق.. هذا المستوى يعني أن الإسلام كان بحاجة إلى أن تقدّم له في خضم الانحراف بين يدى الأمة أطروحة واضحة صريحة نقية لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.. كان يريد أن يقوم المنهاج الإسلامي واضحاً غير ملوث بلوثة الانحراف التي كتبت على تاريخ الإسلام مدة طويلة من الزمن، وكان لابد لكي يتحقق هذا الهدف من أن يعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح دون أن يعمل بقوانين باب التزاحم.[51] و[52]

واستناداً إلى ذلك فإنه (أي السيد الصدر) سعى المسعى نفسه ليقدّم في خضمّ الانحراف الجارف أطروحة واضحة صريحة نقية من دون أن يعمل بقوانين التزاحم، أي أن سلّم الأولويات كان مبوّباً لديه بما لا يسمح بتقدّم أولوية على أولوية، رغم ما يمكن أن يتذرع به غيره من حجج شرعية تقعده عن هدف إعطاء التجربة هذا النوع من الصفاء القاطع والوضوح القاطع.

وعودة إلى ما يصطلح عليه السيد الشهيد! ببناء المحتوى الداخلي، نراه يؤكّد أن أولى الخطوات في هذا البناء هي اتخاذ المثل الأعلى، فيتساءل: (ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للإنسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية؟) ثم يجيب (المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الأعلى).[53]

فمن المثل الأعلى كحجر أساس تنطلق عملية البناء التربوي الرصين، والمثل الأعلى عند السيد الصدر! واحد متعدد، بمعنى أنه على تعدده يلتقي في كونه من الله وإلى الله وفي سبيل الله، ولذا أمكن القول: إن مثل الصدر الأعلى هو:

1 _ الله، وذلك من خلال الدعوة إلى التشبه بأخلاق الله.

2 _ النبي- والأئمة من آل بيته(: <أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ>.[54]

3 _ التلامذة الأبرار من مدرسة الإمامة.

ولما كان الحديث قد تقدّم عن المثلين الأعليين الأوليين، فإن الحديث عن المثل الأعلى الثالث نستوحيه أيضاً من نصوص الصدر الشهيد! ذاته.

فهو عندما يتحدث عن المحدث الثقة محمد بن أبي عمير وعن صبره تحت سياط الجلادين، إنما كان يتحدث عن نفسه في حقيقة الأمر، وحينما كان يتحدث عن التضحية بالمصالح الصغيرة في سبيل المصلحة الكبرى، إنما كان يتحدث عن قناعة في نفسه راسخة.[55]

ولذا فهو يحوّل النص التاريخي إلى حوار حي ينبض بالحركة بين المعتقل والجلاد وكأنه كان يحتفظ في ذهنه بسيناريو دوّنت فيه الحركة مع الكلام مع الصور.. فيعقّب على صمود محمد بن أبي عمير ورفضه الاعتراف بأسماء الصحابة وتحمّله مصادرة أملاكه بصبر واحتساب، فيقول:

هذا الكيان الذي تمتلكه الحوزة العلمية اليوم، هو الكيان الذي انبثّت فيه آلام محمد بن أبي عمير ومئات من أمثال محمد بن أبي عمير. إنه يضع نفسه أمام تلاميذه وأمام محبيه ومعتنقي أفكاره قائلاً: إنني سأكون في المحنة كمحمد بن أبي عمير فلتكونوا أنتم كذلك.[56]

إن اختزان ابن أبي عمير في وعي الإمام الصدر! اختزان حي ماثل للعيان نابض بالحركة المحركة، ولنتأمل كيف نظر إليه السيد الشهيد!:

ماذا قال هذا الفقيه الصالح؟ ماذا قال هذا الإنسان الذي يمثل نتاج مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق؟.. فهو في قمة المحنة لم يشأ أن ينحرف قيد أنملة حتى عن التعاليم والوصايا الأخلاقية التي ذكرها جعفر بن محمد الصادق(.[57]

ثم يصف رفض محمد أن يبيع دائناً له داره ليوفيه دينه الذي عليه، ورغم ما كان عليه محمد من أزمة مالية خانقة (لا يطلب الحياة إلا لكي يضرب المثل الأعلى للإنسان المسلم في أخلاقه وسلوكه وسيرته).[58]

فماذا نستفيد من تحليل السيد الشهيد! لموقف محمد بن أبي عمير؟

إنه يعتبره فقيهاً صالحاً، ونتاجاً مخلصاً لمدرسة الإمام جعفر الصادق% وإنه في كل ما كان يتصرف يحاول أن يكون المثل الأعلى في الأخلاق والسلوك والسيرة، وهكذا هو السيد الشهيد!.

فنحن هنا إذن أمام (وحدة المسيرة) واندغام حلقاتها المشرقة بعضها بالبعض الآخر. والحوزة العلمية اليوم هي كيان قيادي تقف رموزه الريادية من محمد بن أبي عمير إلى محمد باقر الصدر كحصون واقية من الانحراف. فهي _ أي الحوزة _ لم تنبثّ فيها آلام هؤلاء فقط، بل رفعت رأسها عالياً بمواقفهم وإنجازاتهم الفريدة التي حفظت لكيان الحوزة ألقه في قيادة الأمة، وتحصينها من الانحراف بتقديم قيادتها الرشيدة المثل الأعلى. فهي تستسقي من مثل أعلى سابق وأسبق منه وتموّن بالقوة موقع المرجعية القائدة من يلحقوا بها ويسيروا على أثرها.

وثمة ملاحظة جديرة بالتأمل، وهي أن الموقف الرسالي المشرّف _ كما في مثال بن أبي عمير _ هو ولّاد مواقف _ إذا صح التعبير _ فهو كما هزّ في نفس السيد الشهيد! أوتاراً حساسة، قادر دائماً على أن يهزّ في نفس كل مؤمن ومؤمنة أمثالها حسب درجة التلقي، الأمر الذي يعني أن الموقف الرسالي ليس موقفاً آنياً ولا شخصياً، فآنيته تخرج من إطارها الزمني المحدود لتمتد مع حركة الزمن كله، وشخصانيته تخرج من إطارها الذاتي المحدود لتكون معيناً _ للأجيال المقتفية الأثر _ لا ينضب، وهذا هو أثر المثل الأعلى.. أثر لا يندثر باندثار الأيام.

وكما محمد بن أبي عمير كذلك هو يوسف بن تاشفين أمير المغرب الذي نزل البحر مع أسطوله وجيشه لينقذ _ كما يعرّفنا السيد الشهيد! ذلك _ المسلمين في إسبانيا من الغزو المسيحي، فلقد دعا الله أن يسكن البحر وتهدأ العاصفة بقوله: (إن كنت تعلمُ أني حسنُ النية فأسكن عنا هذه العاصفة) [59] وهكذا قدّر لابن تاشفين أن ينقذ المسلمين في اسبانيا ويؤخر _ كما يقول السيد الشهيد _ مأساتهم أربعة قرون.

ونترك للسيد الصدر! أن يستلّ لنا الدرس التربوي من قصة يوسف بن تاشفين حيث يقول:

لابد من أن يعيش الإنسان خطه الطويل متصلاً بالله تعالى، حتى يمكنه أن يترقب من الله الاستجابة لدعائه.. الإمداد والمعونة والمساندة والمعاضدة له في عمله.[60]

وننتهي من هذا التطلع إلى المثل الأعلى، اقتداءً وتجسيداً، إلى محصّلة يخلص إليها السيد الشهيد! وهي أن الانشداد إلى المثل الأعلى الحقيقي أو الأكبر وهو الله تعالى والمثل العليا التي تنتمي إليه (نبوة وإمامة ومرجعية) يؤدي إلى صفاء الشخصية الإسلامية ونجاتها من شرك الازدواجية والتناقض.

يقول سيدنا الشهيد أعلى الله مقامه: (الجدل الإنساني قائم بين حفنة التراب التي تشدّ الإنسان إلى السفح، وبين أشواق الروح التي تحلّق به نحو القمة، حيث المثل الأعلى الحقيقي نحو الله.. وما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض)[61] وأفضل النقيضين _ كما هو واضح _ هو الانشداد إلى الله لا إلى الدنيا.

الشعور بحتمية الانتصار

إن الشعور الإيماني الواثق أن مآل الجهاد في سبيل الله إحدى الحسنيين، هو في جوهره لون من ألوان الوعي التاريخي للمسيرة الإسلامية، فالدعاة إلى الله _ ورغم العقبات التي تصطفّ في طريقهم وتنشب أظفارها في قلوبهم _ لا يتجمدون عند اللحظة الراهنة التي قد تعصف فيها المحن، وتشتدّ المصائب، وتزداد المصاعب، وتتراكم الابتلاءات، وربما الهزائم والخسائر والتضحيات بحيث لا يبدو في الأفق أي بصيص للأمل <حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ>.[62] فالمؤمن حق المؤمن لا يرى في معاناته إلا بارقة أمل في أن شمس الفرج قائمة مستبطنة بين تلافيف الغيوم <إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً>.[63] أي إن للمؤمن عيناً ترى ما لا يراه غيره، فهو لا يرى في المصائب التي تلمّ به إلا جميلاً، وفي الابتلاءات إلا ألطافاً خفية لا يشعر بها من لم يذق قلبه حلاوة الإيمان. فالمؤمن الحق هو كعلي% في أيما محنّة يمر يهتف عالياً: (فزت ورب الكعبة)!

ولنطلّ على شخصية السيد الشهيد! من خلال نافذة هذا النص الذي ينبئ عن شعور عميق بالانتصار:

إن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ التي تتميز عن كل الحركات بأنها حركة غائية لا سببية فقط، غائية متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلاً، وإنما يحرّك من خلال الوجود الذهني الذي هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ. وهذا الوجود الذهني يعبّر بجانب منه عن الفكر، وفي جانب آخر منه عن الإرادة، وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية. والمحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الأساسيين، وهما الفكر والإرادة.[64]

فإلى ماذا يرشدنا السيد الشهيد! في نصه هذا؟

فالتاريخ بما هو حاضر في اللحظة التي يُصنع فيها، وبما هو ماض بالنسبة للحظة التي نحن فيها يتجه بنظره وبخطواته إلى الغد، ولذا فإن المستقبل هو مدار حركة التاريخ، وهو _ أي المستقبل _ يستند إلى ركيزتين أساسيتين: (الفكر) على مستوى النظرية والرؤية. و(الإرادة) على مستوى الفعل والتنفيذ، وبغير هاتين القدمين لا يمكن للفعل التاريخي أن يسير نحو المستقبل.

وعلى هذا الاعتبار فإن انطواء حركة السيد الشهيد! على فكر خلّاق وإرادة صلبة، يفتح أمامنا مستقبلاً مشرقاً يخرجنا من دائرة حاضر يُطبق عليه الظلم والظلام من كل صوب إلى فضاءات النور الرحبة. فهو يقول لنا بلسان حال حركته: إن فكراً كهذا، وإرادة كهذه قادران على أن يصنعا مستقبلا مشرقاً، كما صنعا من قبل، وكما هما الآن يفعلان، وكما سيصنعان في المستقبل. فالمحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس المتين لحركة التاريخ، وهو قائم على فكر وعلى إرادة، وهذا ليس مرهوناً بإنسان بعينه ولا زمان بذاته ولا مكان معين.

ويمكن أن نستوحي هذا الإحساس بالمستقبل وضرورة البناء والتمهيد له من خلال نظرة السيد الشهيد! لتجربة الإمام علي% حينما يقول عنه:[65] (كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه ولم يتردد لحظة وهو في قمة هذه المآسي والمحن في صحة ماضيه وفي صحة حاضره، وفي أنه أدى دوره الذي كان يجب عليه، هذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها).

فالعيش للهدف هو حركة باتجاه المستقبل، وقد يموت الإنسان حتف هدفه، وقد يقطع شوطاً أو أشواطاً إليه ويخفق في الأخرى، لكن السيد الشهيد! يرى أن أية مرحلة يصلها أو يقطعها السائر إلى الله فإنها توصله إليه، فالرحلة إلى الله ليست كالرحلة الجغرافية بين نقطتين لابد أن تبلغ بها المقصد وهو نقطة الهدف. وهذا هو الإمام زين العابدين% يصوّر المسألة بقوله: (إن الراحل إليك قريب المسافة).[66] وحيثما يدرك الإنسان المهاجر إلى الله أو السالك إليه الموتُ فقد وقع أجره على الله.

ومن هنا فإن تعليق الآمال على الأرباح الحاضرة والمكاسب الآنية قد يكون عقبة في طريق الإنسان العامل، أو صارفاً له عن الهدف الأكبر، أو مقلّلاً من قيمة الإخلاص، وربما ينسفه نسفاً. وهذا هو ما يؤكده السيد الشهيد! لاحقاً حيث يقول:

(يجب أن لا يجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب، بل كون العمل حقاً وكفى، وحينئذ سوف نكون سعداء سواء أثّر عملنا أو لم يؤثّر.. سواء قدّر الناس عملنا أم لم يقدّروا.. سواء رمونا باللعن أو بالحجارة. على أية حال سوف نستقبل الله ونحن سعداء لأننا أدّينا حقنا وواجبنا، وهناك من <لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا>[67]‌.[68]

وهذا المقطع من النص يؤكد أهمية استشعار المستقبل كمحرك لنشاط الإنسان المؤمن، وحتمية الانتصار في النهاية، حيث نقف فيه على حقيقة أن (مقياس السعادة) هو (رضا الله): <رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ>،[69] <وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ>،[70] <وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ>،[71] والرضا هدف أقصى وهو مستقبل، وقد يتلمس الإنسان المؤمن بعض مصاديق الرضوان في الحياة الدنيا، لكن الرضوان الأكبر هو ما ينتظره في اليوم الآخر وفي الدار الآخرة.

ثم إنه! يقدّم منظوراً آخر للمستقبل وللانتصار حينما يضيف: (وحقانية العمل هي كون العمل حقاً وكفى). فحقانية العمل تكتب له الدوام كخط لا يمحى <فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ>،[72] رغم جولات الباطل وبطشه وتجبّره، فمجرد كون العمل حقاً هو انتصار حتى ولو لم يحقق العامل الانتصار.[73]

وقوله! (سوف نستقبل الله ونحن سعداء لأننا أدّينا حقنا وواجبنا، وهناك من <لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا> يعني أن الإيمان باليوم الآخر والعمل لذلك اليوم الحق هو تفكير دائب بالمستقبل المضمون ضمانة أكيدة، فلا شيء يضيع هناك ألبتة. فالمهم أن تؤدي حقك وواجبك ومسؤوليتك الشرعية ولا عليك بعد ذلك إن هُزمت أو خسرت أو انكسرت أو لم تجن ثمار عملك في الحاضر، أو جنيت بدلاً عن ذلك انعدام الاستجابة، أو عدم التقدير، أو الرمي باللعن أو بالحجارة أو بالجنون.

إن الإمام الصدر! يعلّمنا كيف نحدّق بالهدف فلا يطرف لنا جفن، وهو يذكّرنا بما طرحه الإمام علي% من سؤال على رسول الله- حينما أخبره بالطريقة التي سوف يستشهد بها: (أوَفي سلامة من ديني يا رسول الله؟ فقال: بلى، قال: إذن لا أبالي!!)

3 ـ الوعي الميداني

غني عن البيان أن المراد هنا بـ (الوعي الميداني) ليس هو العلم بالمكان والزمان والإنسان في المدة أو البقعة التي يعيش فيها (الشاهد) المصلح أو المغير، مع الأهمية الفائقة لذلك. فالعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. ولكن ما نحن بصدده ليس هو العلم المحيطُ بحقائق المكان ومتطلباته، ولا بطبيعة الزمان ومقتضياته، ولا بالإنسان المعاصر من حيث حاجاته أو اهتماماته الأساسية، إنما المراد من الوعي بالمكان والزمان والإنسان أخلاقياً أن تأتي مواقف وتصرفات وأفعال العامل الرباني (الشاهد) متوافقة مع ما يتطلبة الواقع والمرحلة وأبناء الجيل من أخلاق عملية تنتشل المجتمع من وهدة التخلف الأخلاقي، مما يمكن أن يصاب به من أمراض أخلاقية فاسدة مزمنة أو طارئة ودخيلة تبعده _ كثيراً أو قليلاً _ عن هويته وطابعه الإسلامي.

وهذا الوعي _ الذي هو في حصيلته نتاج الوعيين السابقين: الذاتي والتاريخي _ هو مما كان قد ركّز عليه سيدنا الشهيد! بالنصوص المقترنة بالتجربة تارة وبالتجربة المؤيدة بالنصوص الإسلامية المستنبطة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه- وسيرة الأئمة المعصومين من أهل بيته( وسيرة المراجع الراشدين، ممن مثّلوا خط الشهادة أصدق وأوفى وأنبل تمثيل تارة أخرى.

ولذا فبوسعنا أن نستقرأ مصاديق أو مفردات هذا الوعي من خلال الدائرتين التاليتين:

1 _ أخلاقية الإنسان العامل.

2 _ أخلاقية العلم.

أولاً: أخلاقية الإنسان العامل

لنقرأ هذه النصوص الصدرية أولاً:

أ _ (إننا ندرس العلم للعمل ولا ندرس العلم كي نجمّده في رؤوسنا. ونحن ورثة الأنبياء بحسب زعمنا. والأنبياء عاملون قبل أن يكونوا علماء.. هم علماء لكي يكونوا عاملين، وليسوا عالمين من دون عمل).[74]

ب _ (مطالب الفقه والأصول تملأ عقل الإنسان، ولكنها لا تملأ ضميره.. لا تملأ وجدانه، فسوف يمتلئ عقله علماً، لكن من الجائز أن ضميره ووجدانه سوف يبقى فارغاً كما كان فارغاً حينما كان ابن القرية، أو ابن المدرسة أو ابن المعمل الذي جاء منه إلى هذه الحوزة، هذا الفراغ في الضمير والوجدان يعيشه الإنسان حتى إذا أصبح ثرياً من الناحية العقلية.

وهذا الفراغ سوف يميّع بالتدريج شعوره بالارتباط بالله، لأن هذا الشعور لن يجد ما ينمّيه وما يغذّيه لا نظرياً ولا عملياً؛ أما نظرياً فلأنه لا يأخذ من النظريات إلا ما يرتبط باستنباط الأحكام الشرعية والنظريات التي يستنبط على أساسها الحكم الشرعي غذاء للعقل لا للوجدان والضمير.

وعملياً فلأنه لا يعيش تجربة الاتصال بالله تعالى، لا يعيش حياة عملية، وإنما يعيش حياة مدرسية خالصة. وهذه الحياة المدرسية الخالصة التي يعيشها كثيراً ما تكون مشوبة أيضاً بالمبعّدات عن الله تعالى، قد تكون أحياناً مشوبة بكثير من الذنوب التي تبعّد الإنسان عن الله تعالى وتميّع صلته به.

وبعد أن يكون هذا الطالب قد قضى مرحلة طويلة من حياته العلمية، بعد أن يكون قد أصبح مهيئاً من الناحية العملية لكي يجسّد ذلك الشعور في عمله، في جهاده، في تطبيقه، بعد أن يكون قد وصل إلى المرحلة التي يكون مدعوّاً فيها إلى المساهمة في خدمة الدين يكون قد فرغ وجدانه وضميره نهائياً من ذلك الشعور الذي عاشه وهو في طريقه من القرية إلى النجف.. وهو في طريقه من المدينة إلى النجف.. تلك الأحلام والآمال.. تلك التصورات الكبيرة الفخمة الروحية التي كان يعيشها وهو في طريقه إلى مهجره العظيم.. . تلك التصورات تعود كلها خواء.. تعود كلها فراغاً.. لأنها بعد أن جمّدت وأصبحت شعوراً إجمالياً، بعد هذا فقدت أي غذاء وإمداد متصل حتى تمزقت. وهذا هو معنى نسيان الله تعالى.. وأنتم كلكم تعرفون أن من ينسى الله ينساه الله، من ينقطع عن الله ينقطع عنه الله. ألم يقل الله: صانع وجهاً واحداً يكفيك الوجوه كلها؟)[75]

ج _ (الأخلاقية التي كنا نعيشها ليست أخلاقية الإنسان العامل، بل هي أخلاقية إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي)[76].

ففي النصوص السابقة خطاب لطلبة الحوزة العلمية لاستنهاض همهم من أجل أن يكونوا (عاملين) لا مجرد (علماء) ونقد للواقع الذي هم عليه، وهو واقع أخلاقية الإنسان اللاعامل، الإنسان الثري عقلياً الفقير أخلاقياً. وكما في جميع معالجاته الأخلاقية فإنه! لا يكتفي بالتنبيه إلى المرض وتشخيص الداء بل يعمد إلى علاجه بطريقة تقديم المثال، كما يتضح من الشواهد التالية:

يقول النعماني:

إن السيد لم يكن يؤمن بالسائد من المفاهيم في إطار العملين الإسلامي والمرجعي، فهو لا يرى للكيان الأسري أي اعتبار، هذا ما نلمسه على الصعيد النظري في أهداف مشروع المرجعية الموضوعية الذي كتبه بنفسه. وأما على الصعيد العملي فقد سارع الشهيد الصدر لتطبيق ذلك في دائرة عمله وتحركه، فاختار كافة أعضاء جهازه المرجعي من غير أرحامه وأقاربه، في الوقت الذي كان بأمسّ الحاجة إليهم ببعض الأعمال الضرورية ومنها المناسبات الاجتماعية التي تقتضي مشاركة من يمثّل السيد الشهيد! من أرحامه وأقاربه.. وحتى هذا المقدار البسيط كان يحرجه نفسياً في بعض الأحيان.[77]

وهذا الشاهد يضعنا مباشرة أمام النص الناطق والتجربة الحية، حينما يقول عن عدم اعتبار السيد الشهيد! للكيان الأسري إن هذا ما نلمسه على الصعيد النظري في أهداف المرجعية الموضوعية. وأما عن معطيات التجربة فإنه استبعد أرحامه وأقاربه عن جهازها مع الحاجة إليهم في إدارة شؤونها. ويضرب لذلك مثلاً:

وأتذكر أن السيد الشهيد حينما كان يؤمّ المصلين في الحسينية الشوشترية تخلّف يوماً عن الحضور، فطلب المصلون من أحد أرحامه _ وهو معروف بالفضل والتقوى[78] _ أن يتقدمهم للصلاة جماعة، فصلى بهم الظهر والعصر بعد إصرار وإلحاح شديد من قبلهم، ولما بلغ السيد الشهيد ذلك تأثّر تأثراً بالغاً، فأرسل إليه أن يحضر، وعندها عاتبه وطلب منه أن لا يكرر ذلك في المستقبل مهما كانت الأسباب.[79]

ويعقّب النعماني على هذه الحادثة بالقول:

ومن المؤكد أن هذا اللون من التفكير والسلوك كان يستهدف حماية المرجعية باعتبارها الممثل الحقيقي لخط الأئمة( الذي يقوم على أساس المقاييس الربانية، وليس على أساس العواطف والرغبات الخاصة.. أضف إلى ذلك الأجواء الحساسة جداً من تلك الأمور، فكان رضوان الله علیه يقول: يجب على المرجعية أن ترسّخ وجودها في القواعد الشعبية في النجف قبل أن تمتد إلى المدن الأخرى، لأن النجف هي المدينة التي تحتضن المرجعية، فإذا ما ربحتها كان امتدادها إلى غيرها أسهل.[80]

وإذا كان التفسير الأول مقبولاً لجهة قناعة السيد الشهيد! الفكرية والعملية أن أخلاقية الإنسان العامل _ وهو هنا موقع المرجعية _ لابد أن تكون ممثلة تمثيلاً حقيقياً لخط الأئمة(، وأن تقوم على أساس المقاييس الربانية، فإن التفسير الثاني لا يمكن قبوله بظاهره من جهة النظر إليه على أنه مراعاة للأجواء النجفية الحساسة. لأننا نتساءل: لو أن السيد الشهيد! لم يعش في النجف الأشرف، هل كان يفسح المجال في جهازه المرجعي للأرحام والأقارب؟ خاصة وأن النعماني نفسه يقول _ كما مر قبل قليل _ : إن السيد الصدر لا يرى للكيان الأسري أي اعتبار، وهذا ما نلمسه على الصعيد النظري في أهداف مشروع المرجعية الموضوعية الذي كتبه بنفسه. نعم، قد تكون مراعاته هذه قد التقت عرضاً مع طبيعة الأجواء التي لا تسمح بذلك.

غير أننا نفهم المسألة من زاوية ثانية، وهي أن السيد الصدر! وتقديراً منه إلى أن حواشي المرجعيات وبطاناتها تلعب دوراً في التأثير على المرجعية القائدة وعلى قراراتها إلا ما رحم الله، أراد أن ينأى بها عن أية تأثيرات جانبية حتى تكون حرة مستقلة تتعاطى مع الشأن المرجعي بعيداً عن حسابات البيت والأسرة والعشيرة، حتى ولو كان ذلك على صعيد استثمار أفراد هذا البيت أو هذه الأسرة والعشيرة لموقعها القريب من المرجع.[81]

ومما يؤكد هذا المعنى أنه! كان (يعتزّ بكل أحد بمقدار صلته بالإسلام وتفانيه فيه، وحبه وتمسكه به، سواء كان من أسرة آل الصدر أو من عامة الناس من أبناء الإسلام).[82] وهذا ما ورد في أحد بياناته السياسية الموجهة إلى الشعب العراقي حيث يقول: (فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق).[83]

ولنأت الآن إلى نماذج من تعامله أو أخلاقيته على المستويات التالية:

أ _ اختياره لوكلائه.

ب _ المشاركة الوجدانية.

ج _ مع مستخدمه.

د _ تعامله مع أعدائه والمناوئين له.

وسأرجئ الحديث عن تعامله مع طلابه إلى النقطة التالية: (أخلاق العلم) لأن موقعها هناك أنسب لسياق البحث.

أ ـ اختيار الوكلاء

فلقد حرص السيد الشهيد! على (إرسال خيرة العلماء والفضلاء هدياً وأخلاقاً وتقوى وإحاطة بما تتطلبه الحياة والمجتمع، وتجنّب إرسال العناصر المتسمة بالجفاف والانزواء، أو التي لا تعرف مقتضيات العصر ومتطلباته. وكان يشترط امتناع الوكيل عن قبول الهدايا والهبات التي تقدّم له من قبل أهالي المنطقة).

ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن اختيار السيد الشهيد! لوكلائه أو نوابه بعناية، بحيث يكونون نسخاً طبق الأصل عنه أو قريبة الشبه به، يعني أنه كان يرى فيهم سفراءه إلى المناطق، وكما يتعين على الجهة التي تريد أن تبعث سفيراً أن تراعي أفضل المواصفات التي تبرزه كوجه مشرّف لدولته، كذلك كان يفعل السيد الشهيد! مع ممثليه في المناطق، فهم وجهه، وهم الناطقون باسم مرجعيته، وهم النوافذ التي يطل منها على الناس ويطل الناس منها عليه، فلابد من توافرهم على أخلاقية الإنسان العامل القريبة من مواصفات الموكل، حتى إذا رأى الناسُ الوكيل فكأنما يرون الأصيل. وهذا _ لعمري _ وعي حركي دقيق لانتقاء العالم الممثل للمرجعية، فالوكلاء أذرع المرجعية المتحركة، وهم الذين يتبنون ليس فقط إيصال فتاواه إلى مقلديه وإيصال حقوق هؤلاء إليه، إنما هم الرسل الأمناء الذين يقدّمون صورة نابضة عن معالم مرجعيته الصالحة، الرشيدة، الموضوعية، المغيرة.

ب ـ المشاركة الوجدانية

لنستمع أولاً إلى هاتين الشهادتين الموحيتين، ومنهما نأتي إلى المراد من هذه الخصلة، أو المعلم البارز من معالم شخصية السيد الشهيد! الأخلاقية. يقول النعماني:

إن من سمات شخصية المرجع الشهيد) تلك العاطفة الحارة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبوي تجاه كل أبناء الأمة. تراه يلتقيك بوجه طلق، تعلوه ابتسامة تشعرك بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد الشهيد لا يحب غيره، وإن تحدّث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وإن سأله أجابه بمقدار استيعابه وتحمله، فتحصل حالة يحس الزائر من خلالها بحب وعاطفة تملك قلبه.[84]

ويقول أحد تلامذته السيد نور الدين الأشكوري:

كان الإنسان الذي يحظى بلقائه لا يخرج من عنده إلا وهو مليء بالأمل.. ففي الشدائد حينما كنا نلتقي سيدنا الشهيد كنا نلتقيه ونحن في منتهى العبوس واليأس، وما أن يحدّثنا حتى يزول كل هم وغم من قلوبنا. وكنا لا نخرج من عنده إلا وقد ملئنا بالأمل.[85]

هاتان الشهادتان _ وغيرهما مما لا تسع الدراسة حصرها _ ترجمهما السيد الشهيد! بمشاركات وجدانية فيها الكثير من التعاطف والمواساة والتفاعل الاجتماعي المعبّر عن الارتباط النفسي والروحي بينه وبين من يشملهم بأبوّته، الأمر الذي يعطي لحركته الاجتماعية كمرجع وكداعية وكشاهد زخماً ودفقاً كبيرين.

فلقد جاءه شاب فجع _ في لحظة واحدة _ بجميع أهله بحادث سيارة فأجلسه السيد الصدر إلى جانبه، وخفّف عليه مصيبته، وشرح له حقيقة الموت، وأنه بداية الطريق لحياة أسعد. وقرأ له بعض الأبيات والروايات، ثم قال: (إذا كنت فقدت أباك فأنا أبوك، وإن كنت فقدت إخوتك فهذا ولدي جعفر أخوك، بل جميع هؤلاء إخوتك).[86]

ج ـ مع مستخدمه

وقد يكون تعامل السيد الشهيد! مع أقرانه من المراجع، أو أبنائه الطلبة أو زواره، بهذا المستوى من الأخلاق النبوية مبرراً في أنه يريد أن يعطي لمرجعيته صورة المرجعية _ الأبوة _ لكن أخلاقية العمل والتعامل حينما تكون كلاً متكاملاً، فيصل الإحسان حتى إلى خادمه، فذلك مما يكشف عن روح كبيرة تنظر إلى النظير في الإنسانية والأخ في الدين بقطع النظر عن موقعه الاجتماعي: (ينقل عنه خادمه أنه في يوم زفافه حضر الإمام الشهيد) ومعه تلاميذه فتكلم بالمدعوين قائلاً: أنا مبتهج بهذا الزواج وكأنه زواج ابني). ولم يقتصر على تلبية الدعوة بل أطال الجلوس ليشعر الخادم الحنان والعطف الذي تعوّده منه وعرف عنه. وقدّر لخادمه هذا أن يهاجر من العراق ويبتعد عن مخدومه بل حبيبه، فلم تنفصل علاقتهما، بل واصل السيد الشهيد) رعايته له بين الحين والآخر.

د ـ تعامله مع أعدائه والمناوئين له

وقد يفهم الدارس لسيرة المرجع الصدر! تعامله مع خادمه بهذا المستوى من النبل والإنسانية والأريحية والوفاء والشكر، ولكن أخلاقية التعامل الصدري _ كما أكّدنا مراراً _ لا تتجزأ، فهو نبيل تفيض إنسانيته حتى مع أعدائه والذين يكيدون له، وهذا خلق لا يتمتع به إلا نفر قليل ممن سار على نهج الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين. فلنعرض الصورة أولاً، ثم يكون لنا تعليق عليها:[87]

ففي فترة الحجز كانت قوات الأمن تطوّق منزل السيد الشهيد! تطويقاً تاماً وكأنهم ذئاب يتربصون بفريسة لينقضّوا عليها. فكانت هذه العاطفة الصدرية تمتدّ حتى إلى هؤلاء. ففي ظهر أحد أيام الاحتجاز كان النعماني نائماً في غرفة المكتبة فاستيقظ على صوت السيد الشهيد رضوان الله علیه وهو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وظن أن حدثاً ما قد وقع، فسأله: هل حدث شيء؟ فقال: كلّا، بل كنت أنظر إلى هؤلاء _ ويقصد قوات الأمن _ من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار.

فقال النعماني سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوّقون منزلكم، ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبيكم وأنصاركم؟ هؤلاء هم الذين روّعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟ فقال: ولدي، صحيح ما تقول، ولكن يجب أن نعطف حتى على هؤلاء، إن هؤلاء انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين).

من ذلك كله نخلص إلى أن عاطفة الشفقة، حتى على المناوئين والمناهضين والأعداء، هي عاطفة إسلامية سامية ومتميزة، وقد أرادها المربي الإسلامي مدخلاً واسعاً لقلوب هؤلاء التي لم تبصر نور الهداية، حيث يجدون منهجاً سلمياً مغايراً للتعامل السائد والقائم على الاقتصاص (واحدة بواحدة) أو (المقابلة بالمثل). وإن كان هذا من المنهج الإسلامي أيضاً، لكنه يمثل منزلة أدنى من منزلة الإحسان، أي أنه يمثل مستوى: <فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ>.[88] لكن المنزلة الأخرى أرفع وأسمى وهي منزلة: <وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ>.[89]

ثانياً: أخلاقية العلم

لقد تبين من خلال تشخيص ميداني حركي أن مطالب الفقه والأصول _ كما يرى السيد الشهيد _ تملأ عقل الإنسان، ولكنها لا تملأ ضميره ووجدانه، وأن الثراء العقلي قد يقابله أحياناً فقر في الشعور بالارتباط بالله تعالى، لأن تغذيته الشخصية تتم بالصورة النظرية فحسب.
وفي خصوص السيد الشهيد! فإن المتتبع لسيرته ومنهجه الأخلاقي في التعامل يرى أنه اختطّ خطاً واضحاً، يمكن أن نصطلح عليه بـ (أخلاق العلم) والذي يعني ردم الفاصلة القائمة بين العلم النظري المجرد وبين العلم الذي تجلله الأخلاق ويزيّنه حسن السيرة. ولذا فإننا سنتناول هذه الأخلاق من زوايا ثلاث:

1 _ أخلاقه مع تلامذته.

2 _ أخلاقه مع نظرائه من المراجع والمجتهدين.

3 _ أخلاقه مع العلماء والمفكرين غير الإسلاميين.

1 ـ أخلاقه مع تلامذته

فعلى صعيد تعامله مع طلابه وتلاميذه نلاحظ تواضعاً فريداً، وعطفاً شديداً، وتفقّداً دؤوباً، وتهذيباً دائماً، وإحساناً إلى المسيئين منهم، وهذا ما تصدّقه الأمثلة التالية:

فما يروى عن تواضعه الجمّ أنه سأل أحد تلامذته مسألة فلكية، فقال له _ بتواضع وتهذيب _ : اعتبرونني تلميذكم واشرحوها لي![90]

ومما يروى عن عطفه ورأفته أن (أبوّته لطـلابه كانـت ذات طـابع خـاص لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحوزات، حيث شمل طلابه وتلاميذه بعناية خاصة. ففي أيام التسفير[91] التي دامت ستة أيام كان) يودّع طلبة الحوزة وهو يبكي بكاءً شديداً، حتى أنه كان يودّع الطلبة من الذين يعادونه ويسبّونه وهو يعلم بذلك، ولكنه حينما ودعهم كان يبكي بكاءً شديداً لفراقهم).[92]

وعن تفقده ورعايته لطلابه (نقل أحد المقربين منه أنه أخبره أن في المدرسة الشبّرية أحد الطلبة لم يذق طعاماً منذ يومين، فاعتلت وجه السيد الشهيد! كآبة، وقال: هل في النجف من الطلبة من هو جائع لم يذق الطعام منذ يومين وأنا شبعان؟ ماذا أقول للإمام الحجة؟! ماذا أجيب ربي يوم القيامة؟ ثم ناول الشخص المذكور خمسة دنانير وأمره أن يسرع ويعتذر إلى الطالب ويطلب منه أن يستغفر للسيد الشهيد لأنه لم يكن على علم بحاله).[93]

ومن الأمثلة على إيثاره طلابه على نفسه أنه حينما عرض عليه أحدهم داراً قال له: (إذا اشتريت هذه الدار فإني سوف أوقفها لسكنى الطلاب ولن أسكنها أبداً).

وقال لمتبرع آخر: (أنا لن أمتلك داراً حتى يتمكن كل الطلبة من شراء دور لهم، وحينئذ سأكون آخر من يشتري)!!

2 ـ أخلاقه مع نظرائه من المراجع والمجتهدين

ويمكن تناول ذلك من خلال الدوائر التالية:

أ _ الدعوة إلى حماية المرجعية من الداخل.

ب _ اتهام الذات (نقد المرجعية).

ج _ التواضع للمراجع واحترام مواقعهم.

د _ المواقف المؤيدة والمساندة للمرجعية.

أ ـ الدعوة إلى حماية المرجعية من الداخل

لنتعرف، قبل كل شيء، على رؤية السيد الشهيد! لموقع المرجعية في الأمة، لأن ذلك يعدّ مدخلاً لفهم دعواته المتكررة إلى ضرورة حماية المرجعية من الداخل. فهو يرى أن (المرجعية عهد رباني إلى الخط لا إلى الشخص، أي أن المرجع محدد تحديداً نوعياً لا شخصياً، وليس الشخص هو الطرف المتعاقد مع الله، بل المركز كمواصفات عامة).

ويرى أيضاً أن (المرجعية الدينية الرشيدة والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف. ومن تلك الحقائق أن القيادات الروحية كانت تقوم بدورها هذا وتنجزه إنجازاً جيداً).

ويرى مع هذا وذلك:

أن أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي، وتتصرف دائماً على أساس من تلك الأهداف، بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية، وبروح تجزيئية، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة.[94]

ومن هنا فإن المرجعية كتحديد نوعي وكمواصفات عامة متعاقدة مع الله. وكحصن واق من ألوان الضياع والانحراف، وكموقع هادف لا يتصرف بعشوائية، أو روح تجزيئية، أو بوحي من ضغوط الحاجة، لابد من حمايتها من الداخل لتحافظ على ذلك كله، وإلا فأي تصدع أو أي خلل في أي من مواصفاتها السالفة الذكر هو تحطيم لكيان الشهادة في الأمة.

هذه الرؤية يترجمها مرافقه الشيخ النعماني بصيغة أخرى، حيث يقول:

لقد أدرك الشهيد الصدر! أن المرجعية _ بما هي كيان قيادي للمسلمين _ مستهدفة من قبل السلطة الحاكمة في ظرف كانت تواجه فيه انتقادات خطيرة من بعض قواعدها الشعبية يتعلق ببعض القضايا المادية، فكان لابد من حمايتها، لأن في ذلك حماية الإسلام، فكان الهدف إذن هو الدفاع عن الإسلام.[95]

وبناء على ذلك، فإن تلمّس مفردات أخلاق السيد الشهيد! في تعامله مع أساتذته وأقرانه من المجتهدين أو مراهقي الاجتهاد لا ينحصر في تعبير كلمة (أستاذنا) التي يشير بها إلى المرجع الديني الذي تتلمذ على يديه، وإنما في هذه الروح التي لا تجد فيها وأنت تقرأها جيداً أية نزعة للتنافس أو الحسد أو التعالي، وبالتالي فإن نظرة مقارنة بين مرجعية السيد الشهيد! التي تجعل همّها الدائم (الكيان) لا (الشخص) وبين مرجعيات أخرى تقدّم الثاني على الأول، تفضي إلى أن من بين سبل حماية المرجعية من الداخل هو هذا النفَس الإيماني المتسامي الذي لا يترك للمتصيدين في الماء العكر أي شيء يصطادونه، حتى ولو كان ديداناً متحركة تشبه السمك وما هي من السمك في شيء.

إننا نرى ذلك ونلمسه في أكثر من موقع يخاطب فيه السيد الشهيد! مدير أعماله الشيخ النعماني في أنه محسوب على مرجعيته، وأنه ينبغي أن لا يتصرف بأي نحو يمسّ تلك المرجعية بأدنى سوء، بل لم يسمح له أن يمارس بعض المباحات، لأنه كان يرى أن موقع المرجعية الحساس في الأمة، والذي صمّم على تمثيله أفضل تمثيل لا يسمح حتى بذلك.

ب ـ اتهام الذات (نقد المرجعية)

ومن بين أهم مظاهر (أخلاق العلم) التي نتحدث عنها هو أن يتهم العالم ذاته بالتقصير، إن كان ثمة تقصير، وأن لا يلقي تبعة ذلك على هذا العامل أو ذاك مجنّباً نفسه أو موقعه المسؤولية في ذلك. وهذا هو شأن رجالات التاريخ العظماء الذين كانوا لا يعفون أنفسهم من التقصير، بل كانوا على استعداد دائم لتحمّل المسؤولية كاملة.

فهو (لم ير في الأمة سبباً للانتكاسة دون القيادة، بل وجده فيهما معاً. ويرى أن على العلماء أن يفتّشوا في أخطائهم قبل أن يفتّشوا عن أخطاء الأمة. ولذلك أخذ ينبّه تلامذته على السبب الحقيقي وراء الانفصال بين القواعد الشعبية والقيادة الإسلامية، فلم يفسّره بخيانة هذه القواعد، وإن كانت جزءاً من المسؤولية، بل عمد إلى الكشف عنه وذلك في محاضرته التي ألقاها عن المحنة، ومحاضرته التي ألقاها عن الدور التاريخي للمرجعية، فوجد أن الخطأ يكمن في طبيعة العلاقة بين القواعد الشعبية وقياداتها الإسلامية، لأن الأوساط العلمائية لا تتعامل مع هذه القواعد، بل تتعامل مع أجدادها الأموات).[96]

وبهذا يكون السيد الشهيد! قد شخّص نقاط الخلل في الحوزة العلمية على مختلف مستوياتها مرجعيات وطلبة علوم دينية بـ:[97]

1_ فقدان روح التضحية والإيثار؛ حيث يرى أن الحوزة بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلاً عن أخلاقية المصلحة الشخصية.

2_ فقدان نزعة التجديد في أساليب العمل؛ حيث يرى أن الحوزة تدرّس العلم لكي تجمّده في الرؤوس لا أنها تدرّسه للعمل.

3_ عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالى؛ فهو يرى أن الأخلاقية التي تعيشها الحوزة _ بشكل عام _ ليست أخلاقية الإنسان العامل، بل هي أخلاقية إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي.

4_ فقدان الحدس الاجتماعي كأساس للعمل الاجتماعي؛ ويرى أن الحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس والإطلالة على ظروف العالم، ويدعو إلى التحرر من النزعة الاستصحابية التي تشلّ العمل وتجمّده وتحجّمه.

5_ حب الدنيا؛ حيث يرى أنه إذا كان حب الدنيا خطيئة، فهو منا نحن الطلبة _ وهذا هو تعبيره بالحرف _ من أشد الخطايا؛ لأننا نصّبنا أنفسنا أدلّاء على طريق الآخرة، ويضع تلامذته على محكّ التجربة حينما يخاطبهم: (نحن نقول: إننا أفضل من هارون الرشيد، أورع من هارون الرشيد، أتقى من هارون الرشيد. عجباً! هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد؟!)[98]

إن سيدنا الشهيد! في نقده للمرجعية، إنما يحاول حمايتها من الداخل، ذلك أن السكوت على التقصير فيها يعني تركها تتآكل وتتصدع وتسقط هيبتها في أعين الناس، فيما التنبيه إلى نقاط الخلل فيها ينبغي أن يكون داعياً ودافعاً لتفادي ذلك، وإصلاحه، والعمل على معالجته من قبل أن يستفحل فيصعب علاجه، أو _ في مرحلة أسوأ _ قد يتحول السلب إلى أمر واقع فيصبح إنكاره أو استنكاره مدعاة لهجوم المتحجرين أو أعداء الحوزة المتربصين بها لدوائر، وهو ما حصل في بعض مقاطع التاريخ الحوزوي لاسيما المتأخرة.

ج ـ التواضع للمراجع واحترام مواقفهم

منذ نعومة أظفاره عُرف السيد الشهيد! بالعلم وبالتواضع المتلازمين، ونَمَيا في مراحل عمره اللاحقة متلازمين: العلم كشاخص والتواضع كظلّ له.

يقول معلّمه في منتدى النشر الابتدائية في الكاظيمة: (ما وجدته يوماً وقد ارتكبه الغرور، أو طغى عليه العجب بنفسه، أو تعالى على زملائه التلاميذ مما عنده في علم ومعرفة).[99] وهذا يعني أنه لم يكن يباهي بعلمه أو ينافس غيره من العلماء، إنما كان يريد به وجهاً واحداً وهو وجه الله تعالى، وهذا بحد ذاته معلم أساسي من معالم شخصيته العلمية والأخلاقية.

وكما أن حالة الاحترام للزملاء والتواضع لهم _ على الرغم من رجاحة علم السيد الشهيد! وجلالة قدره _ لم تنشأ متأخرة، فإنها كانت تزداد أكثر كلما كان علمه يزداد أكثر، وكلما كان موقعه يبرز أكثر. فلقد بقي ينظر إلى السيد الخوئي! كأستاذ يراعي موقعه العلمي في الحوزة العلمية وبين المراجع الآخرين، كما كان يجلّ المرجع السيد محسن الحكيم! ويستشيره ويتداول معه في شؤون العمل الإسلامي ويستجيب لطلباته. كما كان أيضاً يجلّ الإمام الخميني! غاية الإجلال، ويمكن النظر إلى ذلك ليس فقط من خلال الاحترام الشخصي المجرد، بل باتخاذ المرجعيات المذكورة مرجعية استشارية خاصة له أيضاً، بمعنى أنه يلجأ إليها في المواقف الصعبة مستنصحاً ومسترشداً، كما رأينا ذلك في استجابته للسيد محسن الحكيم! في تجميد عضويته في حزب الدعوة الإسلامية إثر إدراك السيد الحكيم لخطورة بقائه في الحزب، بعد ما علم بأن السلطة الحاكمة في العراق تخطّط للقضاء عليه، على خلفية ما توافر لديها من معلومات عن ارتباطه بالحزب المذكور.

د ـ المواقف المؤيدة والمساندة للمرجعية

كان يمكن أن تدمج هذه الفقرة بالتي سبقتها، خاصة وأنهما تصبّان في عنوان متقارب، لكن آثرنا الحديث عن هذا الموضوع بشيء من الاستقلالية؛ لأنه إذا كان التواضع للمراجع الآخرين واحترامهم مما يمثّل الجنبة الأخلاقية البحتة في التعامل معهم، فإن مواقف التأييد والمساندة تعني التجسيد العملي لما هو أعراف أخلاقية سائدة في أوساط المرجعية أو الحوزة العلمية، بل تعني _ في المغزى الآخر _ تقديم الصورة الأمثل للتعامل الأخلاقي بين المراجع، فإن صورة السيد الشهيد! تطلّ على صفحة الذاكرة مشعّة بكل تلك المعاني.

فحينما يتهم الشهيد السيد مهدي الحكيم! بالعمالة من قبل النظام الحاكم في بغداد يبادر السيد الصدر! وبالتنسيق مع مرجعية السيد الحكيم! لإقامة اجتماع جماهيري حاشد يعبّر عن مستوى تغلغل المرجعية وامتدادها في أوساط الأمة.

وحينما تحاصر السلطة الباغية السيد محسن الحكيم نفسه يكسر السيد الشهيد الحصار ليكون أول داخل عليه، بل يسافر إلى لبنان ليقود من هناك حملة إعلامية مكثّفة دفاعاً عن المرجعية.

بيد أن أبلغ صور التأييد وأوفاها، تلك التي وقف فيها السيد الشهيد! موقف النصرة التامة لثورة الإمام الخميني!، وللجمهورية الإسلامية في إيران، بل ولمرجعية الإمام القائد! سواء في برقيات التأييد والمساندة والمباركة، أو في التعبير عن الاستعداد لأن يضع نفسه ومرجعيته وكل ما يملك في خدمة الثورة وقائدها، أو في دعوة تلامذته ومريديه أن لا يدّخروا وسعاً في بذل أقصى ما يستطيعون من أجل تلك الخدمة الجليلة، ومما جاء في رسالة موجّهة منه إليهم:

ويجب أن يكون واضحاً أن مرجعية السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم، لابد من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم.[100]

يقول النعماني شاهداً على مدى اندكاك السيد الشهيد! بالثورة الإسلامية وبقائدها:

وقد سمعته مراراً يقول أمام بعض من كان يعترض على تأييده للسيد الإمام والثورة الإسلامية: لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما ترددت في ذلك. إن السيد الخميني حقّق ما كنت أسعى لتحقيقه.[101]

3 ـ أخلاقه مع العلماء والمفكرين غير الإسلاميين

أخلاق العلم أو الخلق العلمي خصّيصة من خصائص الأخلاق الصدرية الكبرى، ففي الوقت الذي قد يرى فيه البعض سبباً لربط العلم بالأخلاق، يؤكد منهج السيد الشهيد! الأخلاقي أن الصلة بين العلم وبين الأخلاق وثيقة، بل إن علماً بلا أخلاق، مهما كان عظيماً، قد يتحول إلى خصومة، وإلى تعال، وإلى تجاوز، وربما إلى عصبية مقيتة.

ولقد وفّر علينا الأستاذ نزيه الحسن في كتابه: (السيد محمد باقر الصدر؛ دراسة في المنهج) عناء البحث في مقومات هذا الخلق الصدري الذي يقول عنه:

من الإخلاص للحقيقة العلمية أن يشار إلى الخطأ لدى باحث معين أو فكرة محددة، وعلى الباحث ألّا يراعي هذه الفكرة أو لقب ذاك الباحث من أجل تبيان وجه الصواب الذي حيدَ عنه، سواء أكانت النية حسنة أم كانت غير ذلك. ونحن نرى باحثنا _ ويعني السيد الصدر _ يذهب إلى أبعد من هذا الخلق العلمي فلا ينقد رأياً أو فكرة إلا بمزيد من الترفق بمن هو موضوع هذا النقد. ولئن جاز لي _ للحسن _ التمثيل فلأستعيرنّ مصطلحين إسلاميين هما: العدل والإحسان. فالعدل هو الجانب الموضوعي من الحق، أما الإحسان فهو إلزام ذاتي تفرضه على نفسك لغاية سامية.[102]

وحينما يتحدث عن سمة (الموضوعية) كقيمة أخلاقية للعالم، فإنه يراها تتمثل لدى السيد الصدر!، فيما يلي:[103]

أ _ إنصاف الخصم وإبراز مزاياه. فهو إذ يفنّد آراء (ماركس) ويهدّم الماركسية بأسلوب علمي رصين نراه ينصف ماركساً، ويرى أنه صاحب عقلية جبارة.

ب _ الأمانة العلمية. وهذا ما نلاحظه في دقته في الاعتماد على المراجع، وفي نقل أفكار الخصم بأفضل صورة ممكنة وبتحرره المذهبي، ونزاهته في البحث. والمراد بالتحرر المذهبي هو أنه على الرغم من أن السيد الصدر ينتمي إلى مذهب أهل البيت( فقهياً فإن انتماءه هذا لم يقف حائلاً دون أخذه بآراء المذاهب الفقهية الأخرى: الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية.

ويمكن أن نضيف هنا إلى ما تفضّل به الحسن: أن من بين أخلاق العلماء عدم المتاجرة بعلمهم، أو تسخيره لمآرب دنيوية رخيصة، أو استعماله في غير مرضاة اللهÅ. فلقد حاول رئيس الجمهورية العراقية السابق أحمد حسن البكر أن يسخّر علم السيد الشهيد! بأن يطلب منه تأليف كتاب بمستوى كتبه العلمية الرائعة ويطبعه باسم البكر لقاء ما يشاء من مال وجاه، لكن السيد الشهيد! رفض العرض، مثلما رفض من قبل عروضاً مثله، كما في طلب السلطة بطبع وتبنّي كتاب فلسفتنا بعد إجراء تعديلات عليه. وربما كان بإمكان السيد الشهيد! أن يمارس التقية في هذه الحالات الضاغطة خاصة وأن الرفض يضيف إلى قائمة حسابه عند السلطة عوامل جديدة لقتله، لاسيما وأنه يرفض طلب رأسها الأعلى، وهو الذي تعوّد أن لا يُرفض له طلب. لكن هذا قد يكون خُلق الضعفاء، أما السيد الصدر! فإنه ترك صورته في أذهان الطغاة قوية تهزّ جبروتهم في رفض كل ما طرحوه عليه من عروض خفيفة وثقيلة.

ولعل من أخلاق العلماء النادرة أن يكون العلم وما يحققه من منفعة وهداية للناس أهم من الاسم والجاه والعنوان. ولقد سبقت الإشارة إلى أن السيد الشهيد! كان مستعداً أن ينشر أهم كتبه _ فلسفتنا _ باسم جماعة العلماء في النجف.

وإن من أخلاق العلماء الذين يقدّرون العلم حق قدره، أن يقدّروا علم الآخرين ممن هم دونهم علماً. وهذا ما نجده فيما كتبه! من مقدمات لكتب بعض تلامذته والتي قدّر فيها جهودهم العلمية بإنصاف العالم وتحفيزه للذين هم دونه في العلم، ولا يعني ذلك المجاملة على حساب القيمة العلمية للكتاب. بل إنك تراه حينما يزوره الدكتور عبدالفتاح مقصود يثني على كتابه عن الإمام علي% لكنه يقول له: ولنا عليه ملاحظات، ويذكرها له بما يثير دهشة مقصود وتسليمه بكل تلك الملاحظات التي وعده بالأخذ بها في طبعات الكتاب اللاحقة.

الركيزة الثانية: خصائص المدرسة الأخلاقية الصدرية

بعد أن وقفنا على أبرز أصول المدرسة الأخلاقية الصدرية، وتبين لنا التلازم الشديد بين نصوص الصدر التربوية والأخلاقية وبين تجربة الصدر الأخلاقية، لدرجة النص مع التجربة، نقف الآن عند خصائص هذه المدرسة والتي يمكن استشرافها ضمن الخصائص الخمس التالية:

1 _ الشفافية.

2 _ الشمولية.

3 _ التجسيدية.

4 _ المعيارية.

5 _ الغيرية.

1 ـ الشفافية

وسنقف عند الخصيصة الأولى مطولاً تقديراً منا لأهميتها في حياة السيد الشهيد! ولما أثير حولها من تقييمات فيها الكثير من التجني، والكثير من الجهل والمغالطة.

فما نريده بـ (الشفافية) هو العاطفة الصدرية الجيّاشة التي لم يتفيأ ظلالها تلامذته فقط، ولم يستشعرها العلماء الآخرون فحسب، بل بسطت ظلالها الوارفة حتى على أعدائه ومناوئيه.

وإذ نستعير للعاطفة مصطلح (الشفافية) فلأننا نجدها أكثر انطباقاً على الجانب العاطفي في حياة السيد الشهيد!، فأنت تلمس هذه الشفافية من خلال أول لقاء تلتقيه، ومن أول كلمة تسمعها منه، بل أول نظرة حب باسمة تستقبلك قبل الترحيب والسلام، حتى إذا حادثته _ أياً كان فحوى حديثك _ ملك عليك العقل والقلب والجوانح كلها، فأنت في حضرته لست آذاناً صاغية كلك، بل عيوناً متطلعة للآفاق، ومشامّ تتنشق عبق الأنبياء( وأريج الأئمة(، ولوامس تتكهرب بالروح الدفّاقة كنبع صاف، يذوب لحلاوتها وعذوبتها كيانك _ مهما كنت تحمل له من درجات الحب.. ألم يقل له ذلك الجلف الذي رأس أخطر وأرهب مؤسسة مخابراتية في الشرق (فاضل البراك): (سنقتلك ونبكي عليك!!) هل رأيتم قاتلاً يبكي قتيله، إلا إذا كان القتيل بشفافية أكمام الورد وصفاء قطرات الندى ورقة النسيم العليل؟!

وبالنظر لكون البحث علمياً فإننا لا نرى أن هذه الديباجة الأدبية تشذّ عن سياق البحث، لأنك لا يمكن أن تتحدث عن الشفافية بلغة جافة، لكن ذلك لا يمنع من أن نتقرى عاطفة السيد الشهيد! من خلال النصوص التي بين أيدينا والتجربة التي أمامنا، فلننظر إلى ما قاله في ذلك، وإلى ما قيل في ذلك، وإلى ما يمكن أن نقوله في ذلك.

فحينما يستظل الآية الكريمة <أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ>.[104] يقول!:

ألم يأن لهؤلاء الذين أضاء الإيمان عقولهم وتمكنت العقيدة من نفوسهم، وتبين لهم الحق متجسداً في أشرف رسالات السماء، أن يفجّر هذا الإيمان في نفوسهم موجات العاطفة، ويشعّ فيها انفعالاً خاصاً يتفق مع طبيعة ذلك الإيمان وجوهره حتى تمتلئ قلوبهم بالخشوع للحق والانقياد له والانصياع إلى أوامره ونواهيه؟![105]

ويضيف:

وبمقدار ما تكون الرسالة أكثر عمقاً وتركّزاً في موضعها الرئيسي من عواطف المسلم، ترتفع شخصيته الفكرية، ويكتمل طابعه الإسلامي، كما ترتفع شخصيته الفكرية، ويكتمل طابعه بمقدار وجود القاعدة الإسلامية وتمركزها فيها.[106]

ومن هذين النصين يمكن استنباط الحقيقة التربوية التالية: أن استخلاص القواعد التربوية والأخلاقية من النصوص الصدرية ليست ناجمة عن دراسة متعمقة لأثر الرسالة الإسلامية التربوية على نفسية الشخصية الإسلامية فحسب، وإنما هي ناشئة أيضاً من عملية تجريب لهذا الأثر، وتلمّس لانعكاساته على تلك الشخصية، وهي هنا شخصية السيد الشهيد!.

فتعمّق الرسالة وتركّزها في عواطف المسلم قائدة _ بشكل طردي _ إلى اكتمال الطابع أو الهوية أو الصبغة الإسلامية من جهة، وإلى اكتناز الشخصية الفكرية من جهة أخرى، وكلاهما عند سيدنا الشهيد! بائنتان واضحتان فلا تباين ولا تناقض ولا تفاوت ولا ازدواج.

واستكمالا للنص السابق فإنه! يرى أن العقيدة الإسلامية هي ينبوع العواطف الإسلامية، فيقول:

فالعقيدة الإسلامية ينبغي أن تكون في نظر الإسلام ينبوعاً لأعمق العواطف في نفس المسلم، كعاطفة الحب العميق لله ولرسوله وللرسالة التي تسمو على كل عاطفة وتهون في سبيلها كل العلائق: علائق الأبوة والبنوة والأخوة والزوجية والعشيرة، وعلائق المال والتجارة والمسكن. وتقوم على أساس التقدير العاطفي لكل موقف ولكل واقع).[107]و[108]

فالسيد الشهيد! يلفت النظر هنا إلى أن العقيدة لا تحتاج إلى التزاوج العقلي _ العاطفي، أو تطعيم العقل بالعاطفة والعاطفة بالعقل، فالعقيدة الصالحة ينبوع ومخزن لأعمق العواطف، فلا يمكن أن يكون توحيدٌ لله ولا حبَّ معه وفيه، وإلا فالخلل في التوحيد ليس خالصاً، فعلى أساسه أو بوحي منه _ حسب رؤية السيد الشهيد _ يقوم التقدير العاطفي لكل موقف ولكل واقع، بل ولكل إنسان وكل علاقة، وبالتالي فالتناسب طردي بين عمق التوحيد وعمق الحب لله، وحب من يحبه الله، وحب أي عمل يقرّب إلى الله.

وهو يدعونا إلى أن نعي الفرق بين عاطفة إسلامية سامية وعميقة متجذرة في النفس تسوسها وتقودها في دروب الخير وفي مرامي رضا الله، وبين عاطفة سطحية مائعة ليست أكثر من أحاسيس ومشاعر سريعة الطفح والاشتعال، سريعة الأفول والزوال، فيقول:

وأما العواطف السطحية المائعة التي لا تستند إلى مفهوم، والتي يثيرها الإحساس أكثر مما يثيرها الفكر، فليس من الصحيح للدعوة أن ترتكز على هذه العواطف؛ لأن انتشار هذه العواطف المنخفضة يشكّل خطراً على الدعوات الفكرية التي تحاول الارتفاع بذهنية الأمة إلى المستوى الفكري والتسامي بها عن المشاعر المرتجلة والأحاسيس الساذجة.[109]

إن الفكر العميق والإيمان الكبير إذا توّجا بعاطفة عميقة وكبيرة فإنهما يفتحان الفكر على الأذهان، والإيمان على القلوب، والحب على السلوك وحسن السيرة والعمل. وهذا ما امتازت به شخصية الشهيد الصدر الأخلاقية، ذلك أن الجمع بين هذه الصفات يوفّر جواً من الكمال لا يتسنى لأي كان، فقد يكون إيمان مع علم، وقد يكون علم مع عاطفة، وقد تكون عاطفةٌ خلواً من فكر ومن إيمان راسخين. ولهذا كان فكر السيد الشهيد! عميقاً مؤثراً راسخ العمق، مستديم التأثير، وكانت عاطفته كذلك، وكان إيمانه _ الذي هو الأساس لهذا وذاك _ عميقاً مؤثراً أيضاً.

إن القول: إن السيد الشهيد! عاطفي ولا يصلح للمرجعية ولقيادة الأمة مردود لأكثر من جهة، فهل أن من شروط المرجعية الصالحة والرشيدة، بل هل من شروطها العامة أن يكون المرجع فضّاً قاسياً عنيفاً متجهماً غليظاً شديداً؟! أم أنه شرط ابتدعوه ليشترطوه على السيد الشهيد! دون غيره من المراجع؟!

بل حتى لو تعدّى الأمر إلى قيادة الأمة، فمن _ يا ترى _ يقول: إن القائد الإسلامي حتى يكون قائداً ناجحاً يصلح للقيادة فإن عليه أن يضرب بالعصا وبالسيف وبالرصاص؟ وأن يكون نسخة من القيادات الأرضية والوضعية والمادية التي لا تراعي في الناس إلاً ولا ذمة؟ والله تعالى نفسه يخاطب رسوله القائد الأمين والرحمة المهداة إلى العالمين- بقوله: <فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ>.[110] وهو الذي يصف رسوله وأتباع رسوله- بالقول: <مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ>.[111] وهذا يعني أن العاطفة الإسلامية واحدة لا تتجزأ، فلا تعارض ولا تناقض بين الشدة هناك والرحمة هنا، إنهما وجهان لعاطفة واحدة، ولكل مقام مقالٌ وموقفٌ وعاطفةٌ خاصة به.

لقد عابوا على السيد الشهيد! شفافيته وعدّوها منقصة ومثلبة، وهي لعمري _ في مفاهيم القرآن الكريم وسيرة النبي- والأئمة من آل بيته( _ فضيلة ومكرمة ومنقبة.

ثم أن شفافية السيد الشهيد! قد آتت أكلها حتى مع أعدائه وخصومه ومناوئيه، ممن كان يحتمل أن الإحسان إليهم هو سبيل إلى صلاحهم وإصلاحهم، وهكذا كان. وقد سبقت الإشارة إلى أكثر من مثل في هذا الصدد. أما أعداؤه ممن طغى وتكبّر وتجبّر فإنه لم يبد لهم سوى أشد ألوان الشدة والعنف والمجابهة التي لا تدّخر أنملة عطف أو تهاون أو تساهل. وهذا هو قول الشهيد الصدر! الذي مر قبل قليل: (ماذا يريد هؤلاء مني؟.. هل يريدون أن أتعامل مع الناس بجفاء وخشونة؟ هل يريدون أن لا أمنحهم حبي. إذ كيف يمكن للأب أن يربي أبناءه بقلب لا يحبهم؟!)

إن ما اعتبر عيباً أو ضعفاً يقدح في شخصية المرجع أو القائد، تطلّ الدراسات العلمية التربوية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية الحديثة لتعتبره عكس ذلك تماماً. فبين أيدينا مقالة تحت عنوان (الذكاء العاطفي)[112] جاء في جانب منها (أخيراً.. ومنذ سنوات قليلة فقط اكتشفوا أن هناك نوعاً آخر من الذكاء البشري غير الذكاء التقليدي الذي تعارفوا عليه منذ مئات السنين. هذا النوع الآخر من الذكاء أسموه الذكاء العاطفي Emotional intelligence).

ويعرّف الذكاء العاطفي بأنه (القدرة على أن ترصد عواطفك وتفهمها.. والتأمل الذاتي، والسياحة داخل مشاعرك وأحاسيسك. إنه القدرة على الحب والفهم والعطاء. إنه ضبط النفس والتحكم في الغضب والاندفاع. إنه القاعدة الأخلاقية التي تتكون من الصدق والأمانة والعدل والإنصاف والتعاطف والرحمة. إنه القدرة على التفهم لوجدان الآخرين ومشاركتهم وتبنّي وجهة نظرهم حتى وإن اختلفوا معنا، وهو التفاعل والإنصات والتقدير وهو أيضاً كياسة الاستجابة للغير.. وهو أيضاً قدرة التأثير في الآخرين، وامتلاك الحجة القوية في الإقناع والقدرة على القيادة الملتزمة بهدف، والقدوة والمثل الأعلى في التغيير، ثم هو في النهاية القدرة على بناء جسور الوفاق ودعم الفريق).[113]

ونطرح السؤال التالي على من يؤاخذ السيد الشهيد! على شفافيته: هل فيما تطرحه الدراسات الحديثة مما تصطلح عليه بـ (الذكاء العاطفي) ومما وردت مواصفاته في الأسطر الآنفة الذكر، يعدمونها أو بعضها فيه؟ وإذا كان الجواب بالنفي، ولا يكون بغير النفي، فسيدنا الشهيد! يكون قد حاز على ذكاءين متلازمين متكاملين: الذكاء العلمي والذكاء العاطفي. ونعتقد أن لا تنافي أو تضادّ بينهما، بل نرى أن الشخصية حينما تنطوي على كلا الذكاءين فإنها تكون في موقع التأثير الكبير، وهذا من أهم ما تتطلبه المرجعية وتقضيه القيادة.

يقول المعترفون بالذكاء العاطفي: (إنه أشذى الزهور الحية التي تقف على سيقانها، وتبعث إلى الهواء مكنونها، فيمتد كالسحر إلى الآخرين ليهزّ وجدانهم، فيحدث التواصل الإنساني البديع، وتعزف سمفونية الحب، والتي لا يمكن أن تنبعث نغماتها إلا من خلال اهتزاز قلب وقلب). وهل الشفافية غير ذلك؟!

2 ـ التجسيدية

في ضوء ما عرفنا عن شخصية السيد الشهيد الصدر! فإننا كما نعدم الفاصلة بين القول والفعل، فلا تناقض ولا ازدواجية في أي موقف من مواقفه، فإننا نعدم كذلك الفاصلة بين النصوص التربوية والأخلاقية الصدرية، وبين التجربة السلوكية الصدرية، بل نعدمها بين درجة المثل الأعلى وبين درجة الاقتداء والتأسي، إلا ما ميّز الله به المثل الأعلى واختصّه به من مزايا لا تنال إلا بفضله واجتبائه، وهذا هو بالضبط ما نعنيه بمصطلح التجسيدية، فهي ترجمة كاملة غير منقوصة للأفكار والمبادئ والمعتقدات والعواطف التي تنطوي عليها الشخصية الأسوة.

ولذا فإن التجسيدية في مدرسة الشهيد الصدر الأخلاقية هي التي أعطت لشخصيته هذا التأثير الكبير والفاعل في الأمة، وستبقى تعطي ما بقي الدهر، فكما خلّد الزمان مواقف الأنبياء والرسل والأئمة( لأنهم كانوا الرسائل الناطقة مقابل الرسائل الصامتة، كذلك ستخلّد مواقف المراجع (الأحبار) الذين مثّلوا خط الشهادة خير تمثيل.

خذ _ لا على سبيل المثال والتخصيص والحصر _ أية مقولة للسيد الشهيد! وقارنها مع مواقفه وأفعاله، فإنك لن تجد إلا أن هذه المقولة هي صدى لذلك الفعل، وأن هذا الفعل هو انعكاس أو مظهر لتلك المقالة. فالسيد الشهيد! لم يأمر بشيء إلا وسبق أن ائتمر به، ولا نهى عن شيء إلا وسبق إلى الانتهاء عنه، وله في هذا أسوة في جده المصطفى- ومولاه أمير المؤمنين%، لذلك لم يقف السيد الشهيد! أمام الآية المباركة <أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ>[114] إلا موقف القانع السعيد أنه ما أمر ببرّ إلا وكان العامل الأول به.

فحينما نصح الطبيب مدير مكتبه الشيخ النعماني بشراء مكيفة لوالدة السيد الشهيد! المريضة، غضب رضوان الله علیه غضباً شديداً، وقال مخاطباً النعماني: (هل مات إحساسك؟ هل تريد أن أنعم بالهواء البارد وفي الناس من لا يملك حتى المروحة البسيطة؟ ألم تعلم بأني أريد لهذه المرجعية حياة البساطة والاكتفاء بأبسط مظاهر العيش بل الضروري منه؟!)

وحينما يبرّر النعماني المسألة بالقول: (إن الناس لا يعلمون بذلك) يردّ عليه: (الناس يعلمون أنك معي وتصرّفك يحسب عليّ). وبعد أن يخبره أن ذلك وصية الطبيب ونصيحته، يقول له: (أنا يا ولدي أريد أن أغير هذا الواقع بقولي وفعلي، وعليك أن لا تنسى هذه الحقيقة في كل تصرفاتك وأعمالك في المستقبل).[115]

فالمسألة _ كما هو واضح _ ليست مسألة مكيفة هواء، ولا عدم تقدير لظروف والدته المريضة وهو الرؤوف الرؤوم البار بها، ولا هي مسألة لم ينظر إليها باللحاظ الشرعي وهو الفقيه العارف بالأحكام العامل بها، إنما هو منهج دأب عليه السيد الشهيد! ليس في هذا الموقف وحده بل في جميع المواقف المماثلة، خاصة وأن أي تصرف، حتى بالنسبة لمن هم قريبون منه، يحسب عليه بنحو أو بآخر، ودونكم حياته فادرسوها.. لقد كان جسده) في تعب شديد، والناس منه في راحة شديدة.

3 ـ الشمولية

من بين أهم خصائص المدرسة الصدرية الأخلاقية أنها جامعة شاملة للفضائل والخصال الحميدة كلها، فلا تجد خُلقاً محدداً يمتاز به الصدر! دون الأخلاق الأخرى، كما أنك لا تجد تفاوتاً ولا تفاضلاً بين خلق وخلق، فأخلاقه كلها على مستوى راق، مما يوضّح أن منظومة الأخلاق عند السيد الشهيد! وكما هي في الإسلام كل متكامل يكمل بعضها بعضاً، ويعكس بعضها أثره الإيجابي على الخلق الآخر بما يعزّزه ويقوّيه.

فقناعته وزهده ونكران ذاته وتواضعه وعطفه ورأفته ونبله وتسامحه واحترامه للآخر وتساميه وترفعه وشجاعته وصدقه وما إلى هناك من سمات خلقية رفيعة، لم تكن تؤخذ عند السيد الشهيد! بمعزل عن بعضها آحاداً. فدماثة خلقه يمكن تصويرها كما اللوحة الجميلة التي تسرّ الناظر على نحو الإجمال، حتى إذا أراد أن يتعرف على مواطن الجمال فيها أقبل عليها يدرسها جانباً جانباً.

إن هذه الشمولية التي وصفها الله تعالى _ دون الدخول في التفاصيل والمفردات والمصاديق _ بقوله: <وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ>[116] هي عند السيد الشهيد! عامل أساس من عوامل التغيير، الذي هو في حقيقته تغيير مزدوج: عملية تغيير داخلي (جهاد أكبر) تطلّ على عملية تغيير خارجي (جهاد أصغر)، <إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ>.[117]

ويصف لنا إحدى النصوص الصدرية ذلك على النحو التالي:

إن الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه وأعماق روحه، ولم يبنِ نفسه بناء صالحاً، لا يمكن أبداً أن يطرح الكلمات الصالحة، لأن الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها الكلمات، وإلا تبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى. فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.[118]

فإذا رجعنا إلى نص مفسّر لهذا النص، فإننا نفهم من (مسألة القلب) التي عناها السيد الشهيد! المحتوى الداخلي النفسي والروحي للإنسان، والذي هو نتاج كل المثل والقيم والأخلاق الإسلامية التي تمثل البنى التحتية التي يقوم عليها البناء العلوي الاجتماعي. يقول!: (لا يتغير هذا البناء العلوي إلا وفقاً لقاعدة التغيير، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان).[119]

ولذا فإن شمولية الأخلاق في المدرسة الصدرية لازمة كبيرة من لوازم التغيير، ولأجل أن يكون هذا شاملاً، لابد أن تكون الأخلاقية القائدة له أو المؤديّة له شاملة، وهذا ما توافر عليه سيدنا الشهيد! تقديراً منه أنه السبيل إلى مرجعية صالحة رشيدة.

4 ـ المعيارية

ونعني بها تقديم المثل والقدوة والنموذج في كل عمل كان يقوم به السيد الشهيد!. فمن معالم عظمة مدرسته الأخلاقية _ التي هي مدرسة الإسلام _ أنها تقتدي وتتأسى بالمثل الأعلى بحيث تختزنه وتوظّفه في اللحظة المناسبة، وأنها تجعل من نفسها قدوة وأسوة لمن حولها وللقادمين على الأثر. يقول السيد الشهيد!:

إن الارتباط بالقيادة جزء من التربية الشاملة الكاملة للإنسان، فوجود قيادة إسلامية للحياة الاجتماعية كان جزءاً ضرورياً في الحياة الإسلامية الاجتماعية.[120]

ويقول مشيداً بالنماذج التي منحت المسيرة صبغتها الإسلامية:

وفي تاريخ التجربة الإسلامية مثل فريدة نجدها حتى في الفترات التي شحبت فيها التجربة وعصفت بها أهواء كثير من الظالمين.[121]

لهذا كان السيد الشهيد! يحرص دائماً وأبداً على أن تكون مرجعيته رائدة تعيد للتجربة الشاحبة نضارتها، وللخط استقامته، وأن تكون قيادته للأمة عاملاً من عوامل تربيتها الشاملة الكاملة. وهذا ما نلاحظه في تأكيده الدائم على المرجعية الصالحة وإرادة تغيير الواقع من خلال حركتها، وتفاعلها مع الأشخاص والأحداث والمواقف. وما حقّقه! في هذا المضمار من خطوات عملية باهرة لا يتأطر بمواقف أخلاقية محدودة بالوسط الحوزوي أو المرجعي، بل تمتد إلى أقصى مدياتها في المجابهة السياسية المحتدمة والضارية مع السلطة التي لا تراعي لمفكر أو مرجع أو عالم أية حرمة، فهو حينما يصدر فتواه بتحريم الانتماء إلى حزب السلطة الجائرة المجرمة في العراق لا يحسب في ردّ الفعل المترتب عليها حساباً شخصياً يهدد مرجعيته أو شخصه، وإنما أراد أن يضرب مثلاً في تحدي المرجع للواقع الفاسد والمتخاذل والمتراخي ليصيب في السلطة التي اتخذت مال الله دولاً وعباده خولاً مقتلة عظيمة.. لقد قتلها قبل أن تقتله!!

فهذه الأريحية القصوى، وهذه الترابية المتناهية، وهذه الشجاعة الفائقة، وهذه الشفافية البالغة، وهذه الهادفية الشاملة، وهذا الزهد في كل شيء، وهذا الاندكاك بخط الشهادة حد التماهي، وهذا البذل أقصى البذل، كلها تركت للأمة قيادات وقواعد معايير في التعامل الأخلاقي والتربوي، وما أحوجنا في ظل انهيار المعايير أو ازدواجها أو شحوبها، أن نلزم معالم المحجّة البيضاء التي مثّلها الأنبياء والرسل( والأئمة( والأحبار، وهم _ كما مر _ معنا المراجع العظماء، وفي الطليعة منهم صدرنا الشهيد!.

5 ـ الغيرية

يلاحظ الدارس لحياة السيد الشهيد! أنه أوقف حياته الكريمة في خدمة أبناء الإسلام للحد الذي أنكر ذاته في سبيل الله (وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان، لأن كل عمل من أجل الله فإنما هو من أجل عباد الله، لأن الله هو الغني عن عباده، ولما كان الإله المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيّز له إلى جهة، كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً، وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك).[122]

فمن أجل الناس ولخير الناس جميعاً كان عمل سيدنا الشهيد! كله. فهو إذ يحدّثنا عن الحاجات الثابتة في حياة الإنسان يشير إلى بعض الخطوط الثابتة لها، إذ علاوة على (الحاجة إلى الارتباط بالمطلق) و(الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية لضمان التنفيذ) يرى أن هناك حاجة ثالثة ثابتة وهي (الحاجة إلى الموضوعية في القصد وتجاوز الذات).[123] وهو ما نريده من التعبير بـ (الغيرية) التي يصفها لنا! بقوله:

الإنسان بحاجة إلى التربية على الموضوعية في القصد وتجاوز الذات في الدوافع، أي على أن يعمل من أجل غيره، من أجل الجماعة، وبتعبير آخر: من أجل هدف أكبر من وجوده ومصالحه المادية الخاصة. وهذه تربية ضرورية لإنسان عصر الذرة والكهرباء، كما هي ضرورية للإنسان الذي كان يحارب بالسيف ويسافر على البعير على السواء، لأنهما معاً يواجهان هموم البناء والأهداف الكبيرة، والمواقف التي تتطلب تناسي الذات والعمل من أجل الآخرين، وبذر البذور التي قد لا يشهد الباذر ثمارها. فلابد إذن من تربية كل فرد على أن يؤدّي قسطاً من جهده وعمله لا من أجل ذاته ومصالحها المادية، ليكون قادراً على العطاء وعلى الإيثار وعلى القصد الموضوعي النزيه.[124]

إذن فحاجة الإنسان المؤمن إلى نكران ذاته، والعمل من أجل غيره حاجة ثابتة تفرضها طبيعة العبادة في الإسلام، والتي تتحرك عادة في اتجاهين: عمودي لتوطيد العلاقة مع الله، وأفقي في بناء وتوثيق العلاقة مع الناس. والسيد الشهيد! إذ لا يرى في تناسي الذات ونكرانها سحقاً لهذه الذات وإنما احترامها وإسعادها ووضعها في موضع البذل والعطاء، مما يعطيها شعوراً فائقاً بقيمتها وبقدرتها على التضحية، يرى _ فی قبال ذلك _ أن ارتفاع قيمة العمل هو بتجاوز الذات لدوافعها، فيقول: (وإنما يعتبر العمل فاضلاً ونبيلاً إذا تجاوزت دوافعه الذات، وكان في سبيل الله وفي سبيل عباد الله. وبقدر ما يتجاوز الذات ويدخل سبيل الله وعباده في تكوينه يسمو العمل وترتفع قيمته).[125]

هذه الغيرية عبّر عنها الشهيد مطهري! بالعمومية في مقابل الذاتية، حيث يقول: (فمعيار الأخلاقية هو العمومية، ومعيار غير الأخلاقية هو الخصوصية، فالعمومية تضفي على الفعل قيمة، مع أنه لا يختلف عن الفعل الذاتي).[126] ويرى أن جميع الأخلاق تردّ إلى أصل واحد ثابت دائم هو خدمة الآخرين.

ومن هذا المنطلق قدّم السيد الشهيد! من نفسه مثلاً رائداً في الإيثار والبذل والتضحية ونكران الذات. وللتدليل على ذلك بالإمكان الوقوف على بعض الشواهد المعبّرة عن هذه الخصيصة في أخلاقه!.

ففي شهادة للشيخ النعماني: (كان السيد الشهيد) ينهج أسلوب الشورى في أموره الهامة، فكان يجمع أهل الرأي والخبرة ممن يثق بهم، ثم يطرح عليهم ما هو المهم من الأمور، وكان لا يخالف الأكثرية حتى لو كان رأيهم يغاير قناعاته الخاصة).[127] والمهم هنا ليس انتهاج نهج الشورى في العمل، وإنما عدم مخالفة الأكثرية حتى ولو كان رأيه مخالفاً لرأيهم، وهو خُلقٌ علاوة على أنه يربّي على لزوم الجماعة، فإنه يدلّل على روح كبيرة تتناسى ذاتها خدمة للعمل الجماعي، ولقد رأيناه يستشير العلماء والمراجع في أكثر من قضية وموقف.

لكننا نلاحظ غيرية السيد الشهيد! بشكل أجلى وأصرح في مواقف التضحية بالقليل وبالكثير. يقول النعماني:

إن من عاش مع السيد الشهيد يستطيع أن يدرك بسهولة أن حالة التضحية حالة متجذرة في أعماق نفسه، ولم أعهده إلا مضحياً، مؤْثِراً غيره على نفسه، وهي حالته وسلوكه قبل المرجعية وبعدها. وكان سخياً إلى حد كبير في ميادين التضحية، فتارةً يضحّي بمرجعيته، وأخرى بكتابه، وثالثة بماله وجاهه، وأخيراً بروحه ودمه.[128]

وقد سبقت الإشارة _ في ثنايا البحث _ على كل هذه التضحيات فلا حاجة للتكرار _ وإنما تجدر الإشارة أيضاً إلى رفض السيد الشهيد! للهدايا التي كانت تقدّم تكريماً له _ كما هي العادة الجارية في أوساط العلماء _ ومحاولته خلق دوافع أخرى عند المتبرعين (دوافع إسلامية خالصة بعيدة عن أجواء المودة العاطفية والصداقة المجردة والهوى القلق، فيحثّهم على توجيه هذه الأموال إلى ما ينفع الأمة بشكل عام كبناء المدارس والمساجد والمؤسسات الاجتماعية وتوظيفها في خدمة الجميع. ولذلك كله عمد السيد الشهيد إلى عدم قبول الدار والسيارة وغيرها مما يقدّم إليه في موارد ووجوه أخرى).[129]

وفي أوجز عبارة: فإن غيرية السيد الشهيد! تتضح من خلال التضحية بالعنوان وبالمكسب المادي والمعنوي، كما تتضح أيضاً من خلال احترامه وإكباره للآخر موافقاً كان أو مخالفاً، مسلماً أو غير مسلم، الأمر الذي يعني أنه لا ينظر إلى ذاته كمحور استقطاب رغم ما كان يتمتع به من مزايا فريدة لا يتمتع بها الكثيرون، وإنما ينظر إلى الغير، حتى الذين هم دونه علماً وخلقاً، نظرة فيها الكثير من الإنصاف وعدم البخس، بل والتقدير وحسن الظن.. وهذا ما عبّر عنه أروع تعبير في موضعين: حينما وصف ساحات الخدمة الإنسانية التي يزجيها الإنسان المؤمن للآخرين بأنها مسجد واسع، حيث يقول:

وإنما استحق المسجد أن يكون بيت الله لأنه الساحة التي يمارس عليها الإنسان عملاً يتجاوز فيه ذاته ويقصد به هدفاً أكبر من منطلق المنافع المادية المحدودة، وأن هذه الساحة ينبغي أن تمتدّ وتشمل كل مسرح الحياة. وكل ساحة يعمل عليها الإنسان عملاً يتجاوز فيه ذاته ويقصد به ربه والناس أجمعين فهي تحمل روح المسجد.[130]

والمورد الآخر حينما كتب بيانه السياسي الثالث الذي خاطب فيه الأمة في العراق بقوله: (وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخلاص، وهدف الجميع).[131] إنها غيرية مبكرة (منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة) بلغت أوجها في سفك دمه لإنقاذ الأمة وخلاصها من محنتها.

بقي أن نشير في ختام هذا المقطع من البحث أن خصائص شخصية السيد الشهيد! الأخلاقية والتربوية الأخرى سواء الشفافية أو التجسيدية أو الشمولية أو المعيارية إنما هي أوجه مشرقة لهذه الغيرية التي عبّر عنها! بالموضوعية في القصد وتجاوز الذات.

خلاصة واستنتاجات

نصل الآن إلى الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن توظيف تراث أو تجربة الشهيد الصدر! الأخلاقية والتربوية توظيفاً سليماً؟

إن ما يمكن أن نجنيه من تراث الإمام الصدر! في هذا المضمار هو الأمور التالية:

1 _ لقد خلّف سماحته النموذج المقتدى الذي يحق للأمة أن تتخذه مقياساً عملياً، بل ومائزاً بين عامل وبين عامل آخر. فلقد قام بإحياء أمر وسيرة وأخلاق وقيم الأئمة من أهل البيت( حيث سيّل! ذلك كله في واقعنا المعاش حركة مدروسة وملموسة ويانعة الثمار، حتى أننا بتنا نرى ظلال كلماتهم( في كلماته! وصورة عملهم( في عمله! بكل ما في كلماتهم وأعمالهم من نبل وجمال وحق وعدل وخير وتقوى وانصهار في حب الله تبارك وتعالى.

وإذا كنا نبحث عن تلميذ بارّ بمدرسة أهل البيت( الأخلاقية في المنهج وفي الأسلوب، أعاد لتلك المدرسة بريقها الساطع، ونبضها الحي المتحرك، فإن السيد الشهيد! هو ذلك التلميذ الذي قرن القول بالعمل، والنص بالتجربة. ولذلك فإن من الصعب جداً أن نتخيل مدى الزمن الذي سيمتدّ فيه الشهيد الصدر!.

فإذا كان ذكر عمار بن ياسر والمقداد ومالك الأشتر ومحمد بن عمير وغيرهم من النجوم التي لمعت في سماء المدرسة الإمامية، لم ولن يخبو، فإن ذكر السيد الشهيد! سيبقى خالداً ما بقي الدهر، بمعنى أنه سيبقى قادراً على العطاء الطويل حتى بعد الرحيل، فلا يمكن لتجربة بهذا العمق، وهذا السخاء، وهذا الصفاء، أن تطمس أو تدرس أو تنسى أو يعفو عليها الدهر.

إنها تستمدّ ديمومتها من مقومات خلود أخلاق أهل البيت( الذي عمل الصدر الشهيد! على إخراجها من أقبية الكتب إلى مساحات الضوء الشاسعة، وحرّكها من إطار التمجيد في المناسبات إلى أن نعيشها في آلامنا وآمالنا ودعوتنا ومواجهتنا للظلم وفي عقولنا وقلوبنا وأخلاقنا بل في حياتنا برمّتها، فهل هم غير الإسلام، أو الباب الذي منه يؤتى؟!

2 _ لقد أعاد المرجع الشهيد! للحوزة العلمية اعتبارها الضائع والمضيّع وكرامتها المهدورة وسمعتها التي تألّقت في بعض مراحل عطائها الفريد، ومكانتها اللائقة كقائدة شرعية للأمة. فهو إذ يرى فيها امتداد خط الإمامة، يدعو _ ومن موقع ميداني رائد _ إلى أن تأخذ المرجعية الدينية الرشيدة مقام الشهادة في الأمة، أي إشغال الموقع الذي شغله المعصوم% ولكن من غير عصمة.

3 _ لقد قدّم السيد الشهيد! ملامح نظرية أخلاقية إسلامية متكاملة تقود من شاء أن يقتدي ويهتدي إلى مصافّ شخصيته الربانية _ في جميع خصائصها التي درسناها _ لأنه وهو يرسم لنا معالم هذه النظرية فكراً تربوياً، ويجسّدها لنا سلوكاً عملياً، كان يحرص على أن يترك المنهج والخط والمدرسة التي يمكن أن تخرّج نماذج أخرى تملأ الحياة خيراً وحقاً وصفاءً وجمالاً وهداية.

إنه بعبارة أخرى كان يريد أن يبني أجيالاً، أو قل نماذج ترقى إلى مصافّ الشخصية الهادفة الملتزمة، التي تقف شخصية المعصوم% في الذروة منها ثم الأمثل فالأمثل. فهل ستلتفت مؤسساتنا ومناهجنا التربوية إلى تجربة الصدر! لتأخذ منها ما يفتح للحياة ما فتحه الإمام الخميني! والشهيد الصدر!؟!

4 _ لقد أعاد السيد الشهيد محمد باقر الصدر! بتجربته التربوية الرائدة الثقة كاملة للأمة الإسلامية، برموزها وقادتها ومراجعها الصالحين الراشدين، بعد ما تعمّقت الهوّة، حتى لقد أضحت عملية إعادة البناء شاقّة بل غاية في المشقّة. وقد قدّم! من نفسه نموذجاً سلوكياً راقياً تماهى فيه القول بالعمل، فأضحى مدرسة تربوية واضحة المعالم، هي صورة ناطقة عن مدرسة الأئمة من أهل البيت( فإذا بمَن يرى تلك تتبادر إلى ذهنه هذه، ومن يرى هذه يرى صورتها في تلك.

وما تقديمه! نفسه الزكية قرباناً على طريق البذل في سبيل الله تعالى، إلا عملية ضخّ مدروسة بعناية لزخم ثقة جديدة في الأوصال المتيبسة والمفاصل المتخشبة للعلاقة بين المرجعية ومريديها أو مقلديها أو جمهورها العريض، وهي أكبر برهان يمكن أن يقدّمه مرجع في طريق إعادة الإسلام إلى قيادة الحياة، حسب تعبيره الرائع والدقيق والمليء بالإيحاءات والدلالات.

5 _ إنه ذلك الثائر النبوي الذي يعرّفه لنا بقوله: (الثائر النبوي هو ذلك الإنسان الذي يؤمن بأن الإنسان يستمدّ قيمته من سعيه الحثيث نحو الله، واستيعابه لكل ما يعنيه هذا السعي من قيم إنسانية، ويشنّ حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال، باعتباره هدراً لتلك القيم وتحويلاً للإنسانية من مسيرتها نحو الله وتحقيق أهدافها الكبرى، وإلهائها بالتكاثر وتجميع المال. والذي يحدّد هذا الموقع للثائر النبوي مدى نجاحه في الجهاد الأكبر لا موقعه الاجتماعي والانتماء الطبقي).[132] فهل يمكن أن نجد مثلاً ينطبق عليه وصف الثائر النبوي غير السيد الشهيد! ومن نهج نهجه ودعا بدعوته وتخلّق بأخلاقه؟!

لقد نظر هذا الثائر النبوي عميقاً فرأى أن هناك مثالاً أو مثلاً أعلى ينهار ويتحطم وعلى أيدي ولاة الأمر المرجعي أنفسهم، ونظر فرأى أن هناك تركيزاً _ في المضمار الفقهي والأصولي _ على (الأعلمية) كتقييم أوحد، فيما هناك أفول واضح للأخلاقية العلمية في أفق الحوزة العلمية. ونظر فرأى أن هناك مرجعية للفتيا فقط، ولا وجود للمرجعية الموضوعية المتصدية الشاملة المتعاملة مع قضايا الأمة وهموم الميدان والحياة، مما حجّم صورة المرجع القائد وحسرها في تصور جمهورها الملتفّ حولها المطيع لأوامرها في النطاق الأضيق.

ولعل من بين أسباب هذا الانحسار هو انكشاف المرجعية الميدانية المتصدية أمام الناس، الأمر الذي يستدعي التزاماً فائقاً بالشروط والمواصفات التي حددتها الرواية المشهورة عن الإمام العسكري% في تحديد المعالم العامة لشخصيات المراجع، وهذا ما لا يتأتى إلا إلى مرجع دفع الضريبة باهضة كثائر نبوي تفوّق في جهاده الأكبر فضرب في الجهاد الأصغر أمثله رائعة.

وعلى هذا، فقد تحرّك السيد الشهيد! منطلقاً في هذه الاتجاهات الثلاثة المتحدة في جوهرها ومغزاها:

أ _ محاولة ترميم المثال المرجعي المتداعي.

ب _ إعادة الترابط العضوي والجدلي بين (الأعلمية) في شخصية المرجع الفقيه وبين (الأخلاقية) لدرجة تساوي الاهتمام والبحث عنهما.

ج _ تحويل المرجعية من دور فتيائي محدود إلى دور إشرافي واسع على التجربة الإسلامية كلها، وهو أمر يتطلب في رأس ما يتطلبه، مثالاً أخلاقياً له في أخلاق الله تعالى وأخلاق رسوله- وأخلاق الأئمة من أهل بيته( أسوة حسنة.

6 _ إن إرث السيد الشهيد محمد باقر الصدر! الأخلاقي الضخم في نوعه، ليس في أنه ترك لنا نظريات تؤسّس للأخلاقية العلمية، بل بما جسّده شخصياً من تطبيقات لتلك النظرية أكسبتها حرارة وحيوية وإقناعاً في أنها ممكنة التطبيق رغم صعوبتها الظاهرية والفعلية.

7 _ إن مدرسة السيد الشهيد! الأخلاقية والتربوية تقوم على عدة ركائز مهمة، لكن ركيزتها الأساس والأهم هي أن عملية تحرير الذات من العبوديات الأخرى _ سوى العبودية لله تعالى _ تفتح للنفس آفاقاً رحبة للعمل والإبداع والحب والإخلاص، فلا يقف في طريق تكاملها أي عائق يربك أو يعطّل كدحها إلى ربها، فهي عروج دائم وانعتاق دائب لا يأبه بالحواجز الدنيوية ماديةً ومعنوية، ولا يكترث للخطوط الحمراء الوضعية قيد أنملة.

8 _ يقول السيد الشهيد!: (إن الإسلام يتشدد في النظرية ويتسامح في التطبيق) لكننا رأيناه _ من خلال البحث في سيرته الأخلاقية والتربوية _ قد شدّد كشرط أساس في بنائه لصرح مرجعية رشيدة في التطبيق أيضاً، ليأتي موافقاً للنظرية في صفائها وسطوعها وغناها وامتداد تأثيرها.

يقول!:

إذا بقيت لدى الأمة محاولة استرجاع هذا الوجود باستمرار هذه المحاولة التي يحاولها خط علي% ومدرسة علي% والشهداء والصديقون من أبناء علي% وشيعته، إذا بقيت هذه المحاولة فسوف يبقى مع هذه المحاولة أمل في أن تسترجع الأمة وجودها، وعلى أقل تقدير سوف تحقّق هذه المحاولة كسباً آنياً باستمرار، وهو تحصين الأمة ضد التميع والذوبان المطلق في إرادة هذا الحاكم وفي إطار ذلك الحاكم. أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أنصاره وشيعته والسائرين في خطه والمساهمين في هذه المحاولات.[133]

فكيف يمكن للأمة _ يا ترى _ أن تسترجع هذا الوجود؟

لقد أجاب السيد الشهيد! على ذلك إجابتين: نظرية وعملية، فهو إذ يحثّنا على الالتزام بالاختزان كأسلوب تربوي ناجح، نراه يختزن علياً% في تجربته اختزاناً رائعاً، حيث يقول:

كان الأمل في أن علياً يمكنه أن يحقق الهدف ويعيد للأمة وجودها من دون حاجة إلى المساومات وأنصاف الحلول، كان هذا الأمل أملاً معقولاً وكبيراً، ولهذا لم يكن هناك مجوّز لارتكاب أنصاف الحلول والمساومات.[134]

وقد يبدو هذا نهجاً سياسياً في التعامل مع الطغاة المتخذين مال الله دولاً وعباده خولاً، وهو كذلك. لكننا نقرأ فيه أيضاً نهجاً تربوياً تشرّب الرفض لأي نوع من أنواع الظلم والاستغلال. فهو! حينما يستخلص الأسباب التي دعت علياً% أن يرفض مساومة معاوية وإقراره على الشام، يقدّم لنا أسباب رفضه للتعاطي _ ولو على مستوى السكوت أو الإغضاء السلبي _ عما كان يفعله الطغاة في عصره، فهناك الحاجة إلى قاعدة عقائدية وإعدادها فكرياً ونفسياً وعاطفياً، وهناك لحظة الثورة التي تستبطن تركيز وتعبئة وتجميع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الأمة لصالح القضية الإسلامية، وهناك محاربة الشك الذي استفحل في الأمة كظاهرة، ولذا فإن الإقرار بما يصطلح عليه بسياسة الأمر الواقع كانت تعني بالنسبة للسيد الشهيد! كما عنت لأستاذه علي% تعويقاً لعملية التغيير الحقيقي.

وبعد، فكما استدل سيدنا الشهيد! على صفات الله تعالى من خلال صنعه وإبداعه، وقيّم خصائصه بما تشعّ به مصنوعاته من دلالات،[135] وكما استدل على نبوة النبي- بهذا الاستدلال الرائع: (الوجه الثالث _ هناك وجهان آخران لسنا في معرض الحديث عنهما _ ملاحظة أحوال الرسول- وأمانته وصدق لهجته وخلقه العظيم واستقامته في أمره وصموده أمام المحن والمصائب التي كانت تكفي لرفع يد الكاذب عن كذبه وعلوّ همته بدرجة لو وضعت الشمس في يمينه والقمر في يساره، وجعل سلطاناً على وجه الأرض لما رفع اليد عن دعوته، فلا يعقل أن تكون دعوته استطراقاً إلى كسب المال والجاه وما أشبه ذلك. فمن لاحظ كل هذا وما إليه حصل له القطع، إذا كان سليماً في فطرته وعقله بنبوته-).[136]

أقول كما استدلّ بهذه الاستدلالات على صفات الله تعالى هناك، وعلى صفات رسوله- هنا، كذلك كان استدلالنا _ اقتداءً بنهجه _ على معالم شخصيته التربوية بما شعّت به تجربته وإبداعاته وما لاحظناه من أحواله وأمانته وصدق لهجته وخلقه العظيم واستقامته في أمره وممانعته في قابل المحن والمصائب والتحديات.. ومن لاحظ ذلك كله يحصل له القطع _ إذا كان سليماً في فطرته وعقله _ بأنه المرجع الرشيد الذي جسّد مثال خط الشهادة أروع تجسيد، مما يجعله شاهداً على المسيرة بعد رحيله مثلما كان شاهداً عليها في حياته.

توصيات

وتأسيساً على ذلك رأينا أن نقدّم التوصيات التالية للمعنيين بالشأن التربوي للأمة، عسى أن ننهض ببناء مدرسة الصدر الأخلاقية التي أكدنا مراراً أنها مدرسة الإسلام الأخلاقية:

1 _ لابد من طرح تراثه الأخلاقي بصيغه العلمية والتجاربية، إلى جانب تراثه الفكري والفقهي والفلسفي، على مستوى جامعاتنا الإسلامية المهتمة بالشؤون التربوية، وأن نحثّ طلبة الدراسات العليا _ في كليات التربية على وجه الخصوص _ على إعداد الدراسات والبحوث العلمية في هذا الجانب، والعمل على إماطة السكوت عن كنز أخلاقي دفين هو للإنسانية كلها وليس للأمة فحسب.

2 _ إن مراجع الأمة الذين مثّلوا خط الشهادة خير تمثيل كالإمام الخميني! والشهيد الصدر! وغيرهم ممن وصفهم السيد الشهيد بالمرجعية الرشيدة، منظومة مراجعية كبرى وثرية لابد من تقديمها للأمة على الطريقة الموضوعية الشاملة التي كان الصدر الشهيد ينادي بها في المجالات كلها؛ ذلك أن الصدر هو _ بمعنى وبآخر _ خميني آخر، كما أن الخميني _ بمعنى وبآخر _ هو صدر آخر، وأن الاقتران بينهما وبين أمثالهما في دراساتنا،[137] ضروري للكشف عن معالم مدرسة أهل البيت( فيما صنعته من نماذج كانت زيناً لهم. وليس الكلام هنا محصوراً في هذه الأسماء بل بكل هذا الخط الذي مثّل المرجعية كحصن واق للأمة من كل ألوان الضياع والانحراف.

3 _ إن عرض جهود وجهاد السيد الشهيد! في فلم سينمائي وثائقي، وتقديمه من خلال المسرح الجادّ ينطوي على خدمة جليلة لمشروعه ليس التربوي فقط بل الفكري والحركي والنهضوي أيضاً. فهو _ في تقديرنا _ الأبلغ في التأثير وإيصال رسالته من الكثير من المشاريع الكتابية التي تناولت سيرته ومنهجه وآثاره. ولا يعني ذلك تقليلاً من شأن البحث العلمي والدراسة الأكاديمية في المشروع الصدري أو المدرسة الصدرية، ولكنه إلماعٌ إلى أن الصورة الحية المرئية هي الأكثر استقطاباً للاهتمام العام، على أن يكون الفلم أو المسرحية بالمستوى الذي عليه أفلام ومسرحيات الشخصيات التاريخية العظيمة التي أثّرت بل وحفرت عميقاً في مجرى التاريخ.

4 _ إن دخول السيد الشهيد الصدر! كمدرسة وكمشروع تربوي وفكري على خطوط شبكة المعلومات (الإنترنت) بشكل عصري مبرمج، لا يكتفي بتقديم تعريف بنتاجات وإبداعات السيد الشهيد، بل يفتح حوارات بين تلامذته ودارسيه من جهة، وبين قارئيه ومحبيه من جهة أخرى، يعني فتح صفحة مهمة ونادرة من صفحات الإشراق الفكري والتربوي والحركي، ويوسّع دائرة المهتمين بفكر هذا العملاق الذي يأتي الاهتمام بكتبه في بعض البلدان بعد الكتاب الكريم.

5 _ إن موسوعة السيد الشهيد محمدباقر الصدر! التي جرى الكلام عنها في مطلع الثمانينات، والتي توقفت أو ألغيت _ لست أدري لماذا _ بحاجة إلى بعث الحياة فيها من جديد، وأن تتظافر جهود فريق عمل خبير، مختص لإنجازها على نحو الموسوعات العصرية الراقية، لتكون عوناً لأبناء الإسلام في ثقافتهم وعملهم وإبداعهم.

6 _ إن مشاريع الصدر التي تنتظر حول (أصول الدين) و(مجتمعنا) واستكمال (المدرسة القرآنية) و(الفتاوى الواضحة) ومشاريعه الفلسفية والمؤسسة المرجعية وغير ذلك من أحلام وتطلعات السيد الشهيد الفكرية والعملية، تدعو إلى حلبة العطاء أصحاب الغيرة على خط السيد الشهيد! ونشر تراثه، إلى أن يبذلوا قصارى جهودهم ليحققوا للصدر ما كان يؤمّله من تلامذته وعشّاق مدرسته في أن يضيفوا للبنات الفلسفية والاقتصادية والفكرية لبنات أخرى ليكتمل بناؤها.

اللهم احشر سيدنا الشهيد ومرجعنا الرشيد محمد باقر الصدر! مع من تولى من الأنبياء والمرسلين، ومع الأئمة الهداة المهديين( واجعله مباركاً نفّاعاً ما امتدت حياة المسلمين، ووفقنا إلى أن نكون من أتباع مدرسته مدرسة الإسلام قولاً وعملاً، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[1]. الإنسان الكامل، مرتضى مطهري، ترجمة جعفر الخليلي، ص 5 _ 6.

[2]. الفرقان: 74.

[3]. الإعداد الروحي، حسين معن، ص 45.

[4]. الشمس: 9.

[5]. الأعلى: 10.

[6]. رسالتنا، محمد باقر الصدر، ص 42.

[7]. الأعراف: 157.

[8]. الشورى: 39.

[9]. مجلة الفكر الجديد، العددان 11 _ 12، ص 61.

[10]. الزمر: 36.

[11]. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 29.

[12]. مجلة (الأضواء)، العدد الثالث، السنة 1404 ق / 1984 م، مقال (العمل الصالح في القرآن)، السيد محمد باقر الصدر، ص 20.

[13]. فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص 43.

[14]. هذه مقاطع وردت في (نهج البلاغة) من كتاب له؟ع؟ إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري)، ص 357. طبعة المستشارية الثفافية الإيرانية، دمشق.

[15]. المؤمنون: 1 _ 2.

[16]. الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، 119.

[17]. م. ن، 121.

[18]. م. ن، 79.

[19]. الشمس: 9.

[20]. فاطر: 6.

[21]. الحديد: 20.

[22]. التوبة: 12.

[23]. العنكبوت: 69.

[24]. محمد: 7.

[25]. التقوى، مرتضى مطهري، ص 16.

[26]. صحيفة (الجهاد)، العدد 283، 7 شعبان 1407 ق، ص 9، على لسان السيد حسين الحسيني.

[27]. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 171.

[28]. الإنسان الكامل، مرتضى مطهري، ص 83.

[29]. م. ن، ص 107.

[30]. الإعداد الروحي، حسين معن، ص 125.

[31]. هذا التصنيف لشعب الوعي التاريخي مستقى من المرجع الآنف الذكر.

[32]. الإعداد الروحي، ص 131.

[33]. مجلة الاضواء، العدد الأول، السنة الخامسة 1403ق / 1983 م، ص 17 _ 18.

[34]. المرسل الرسول الرسالة، محمد باقر الصدر، ص 15.

[35]. هذه التصورات عن ضيق الأفق التاريخي مأخوذة بتصرف عن كتاب (الإعداد الروحي) للشهيد حسين معن، ص 129.

[36]. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 139.

[37]. المائدة: 44.

[38]. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 144 _ 145.

[39]. م. ن، ص 145.

[40]. م. ن، ص 172.

[41]. م. ن، ص 145.

[42]. م. ن، ص 146.

[43]. م. ن، ص 188.

[44]. م. ن، ص 198.

[45]. من مقدمة (البنك اللاربوي في الإسلام)، طبعة دار التعارف 1400 ق / 1980 م.

[46]. السيد محمد باقر الصدر؛ دراسة في المنهج، نزيه الحسن، ص 146.

[47]. أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، ص 53.

[48]. صحيفة (الموقف)، العدد 55، محمد الحسيني. تحت عنوان (مفاهيم تربوية من وحي فكر الإمام الشهيد الصدر).

[49]. أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 53.

[50]. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 169.

[51]. محمد باقر الصدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 12 _ 14.

[52]. المراد هنا غض الطرف عن معاوية في البدء حتى يستتبّ الأمر لعلي؟ع؟ ومن ثم يقوم بتصفية الحساب معه، الأمر الذي لم يقره علي؟ع؟ لأنه لم يردّ إقرار معاوية على وضعه اللاشرعي ولا حتى لحظة واحدة.

[53]. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 107.

[54]. الأنعام: 90.

[55]. محمد باقر الصدر، دراسات في تاريخه وفكره، ص 612.

[56]. م. ن، ص 173 _ 640.

[57]. هكذا قال الصدر، ص27.

[58]. م. ن، ص 28.

[59]. هكذا قال الصدر، ص 52.

[60]. م. ن، ص 55.

[61]. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 138.

[62]. البقرة: 214.

[63]. الانشراح: 6.

[64]. المدرسة القرآنية، ص 105.

[65]. هذه النصوص التي قالها السيد الصدر في تقييمه لتجربة الإمام علي؟ع؟ عن كتاب أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 14 _ 30.

[66]. من دعاء (أبي حمزة الثمالي) للإمام علي بن الحسين؟عهما؟.

[67]. الكهف: 49.

[68]. أئمة أهل البيت؟عهم؟ ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية، محمد باقر الصدر، ص 28.

[69]. المائدة: 119.

[70]. التوبة: 72.

[71]. الضحى: 5.

[72]. الرعد: 17.

[73]. ترد هنا مقولة علي الأكبر؟ع؟ إلى أبيه الإمام الحسين؟ع؟ : أبه أولسنا على الحق؟ فيجيبه: بلى. فيردّ الأكبر: فوالله لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا!

[74]. هكذا قال الصدر، ص 63 _ 64.

[75]. م. ن، ص 47.

[76]. ومضات، ص 442.

[77]. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 23.

[78]. هو المرجع الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر؟ق؟.

[79]. الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 23.

[80]. م. ن، ص 24.

[81]. لقد تنبّه الإمام الخميني؟ق؟ أيضاً إلى هذه النقطة الحساسة فلم يقبل بالعروض التي قدّمت لنجله المرحوم السيد أحمد في إشغال هذا المنصب أو ذلك، ولم يعرف عنه أنه تأثر بشكل أو بآخر بآراء وتدخلات المحيطين به.

[82]. الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 25.

[83]. م. ن، ص 305.

[84]. م. ن، ص 96.

[85]. صحيفة (الجهاد)، العدد 283، 20 جماى الثانية 1403 ق _ 4 نيسان 1983 م.

[86]. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 109.

[87]. هذه الروايات عن الشيخ النعماني في سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 104 _ 105.

[88]. البقرة: 194.

[89]. البقرة: 195.

[90]. الجهاد، العدد 232، 27 رجب 1406ق، ص 5، عن الشيخ إبراهيم الأنصاري، أحد تلامذة السيد الشهيد وهو المعني بالرواية المذكورة.

[91]. قام النظام العفلقي الذي حكم العراق بالحديد والنار بعمليات تهجير فظيعة بعد عامين من تسلمه السلطة، حيث شملت حملات التسفير إلى إيران طلبة العلوم الدينية إلى جانب شرائح أخرى.

[92]. الإمام الشهيد محمد باقر الصدر؛ دراسة في سيرته ومنهجه، محمد الحسيني، ص 79.

[93]. م. ن، ص 79 _ 80.

[94]. مباحث الأصول، ص 92.

[95]. سنوات المحنة وايام الحصار، ص 113.

[96]. الإمام الشهيد محمد باقر الصدر _ دراسة في سيرته ومنهجه، محمد الحسيني، ص 84.

[97]. نقاط الخلل هذه مأخوذة بتصرف من محاضرته عن (حب الدنيا).

[98]. هكذا قال الصدر، ص 85.

[99]. مقدمة مباحث الأصول، السيد الحائري، ص 40.

[100]. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 164.

[101]. م. ن، ص 164.

[102]. السيد محمدباقر الصدر؛ دراسة في المنهج، نزيه الحسن، ص 46 _ 47.

[103]. م. ن، ص 248 وما بعدها بتصرف.

[104]. الحديد: 19.

[105]. رسالتنا، محمد باقر الصدر، ص 33.

[106]. م. ن، ص 36.

[107]. م. ن، ص 37.

[108]. وهذا هو قوله؟عز؟ <قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ>. التوبة: 24.

[109]. م. ن، ص 38.

[110]. آل عمران: 159.

[111]. الفتح: 29.

[112]. لأستاذ علم النفس المصري الدكتور عادل صادق، نشرت في مجلة (الأهرام العربي) السنة الثالثة، العدد 145 في 1 / 1 / 2000، ص 56 _ 57.

[113]. م. ن.

[114]. البقرة: 44.

[115]. سنوات المحنة والحصار، ص 98.

[116]. القلم: 4.

[117]. الرعد: 11.

[118]. محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص 107.

[119]. م. ن، ص 58.

[120]. الموقف، العدد (55) مقال (مفاهيم تربوية من وحي فكر الإمام الشهيد الصدر). لمحمد الحسيني.

[121]. الإسلام يقود الحياة، ص 189.

[122]. الفتاوى الواضحة، محمد باقر الصدر، ص 716.

[123]. راجع: الفتاوى الواضحة، ص 705.

[124]. م. ن، ص 715.

[125]. م. ن، ص 717.

[126]. ثبات الأخلاق، مرتضى مطهري، ص 62 وما بعدها.

[127]. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 124.

[128]. م. ن، ص 129.

[129]. الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، محمد الحسينى، ص 73.

[130]. الفتاوى الواضحة، ص 725.

[131]. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 304 _ 305.

[132]. الإسلام يقود الحياة، ص 29 _ 30.

[133]. أهل البيت؛ تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 31.

[134]. م. ن، ص 30.

[135]. راجع: المرسل؛ الرسول؛ الرسالة، ص 59.

[136]. مباحث الأصول، كاظم الحائري، ص 511.

[137]. كما فعل محمد خاتمي في كتابه (بيم موج).