نبذة عن اقتصادنا

الإمام الشهيد السيد محمدباقر الصدر مدرسة فكريّة شموليّة ذات معالم متميّزة في عالم الفكر الإسلامي المعاصر، وهو المفكّر الإسلامي الذي نقل واقع الصراع الفكري بين الإسلام وسائر المدارس والمذاهب من خندق الدفاع إلى ساحة التحدّي والمواجهة، فكشف للعقول المتحرّرة زيف الفكر الإلحادي وخواء الحضارة المادية، وأثبت فاعلية الإسلام وقدرته على قيادة الحياة.

إنّ الإنجاز الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر يتميّز عن سائر الأبحاث العلمية المألوفة بالدقّة الفائقة والعمق الذي يقلّ نظيره من ناحية، وبالسعة والشمول لكلّ جوانب المسألة المبحوث عنها من ناحية أُخرى‏، الأمر الذي جعل من الصعب علی الناقد أو الباحث الحصول على‏ مجال للتوسع أو التعمق الزائد على‏ ما أتى به هذا المفكّر العبقري.

هذا مضافاً إلی أنّ الإبداع الذي حقّقته هذه المدرسة العلمية الباهرة لم ينحصر في إطار محدود ومجال معيّن كالذي تعارفت عليه أبحاث علماء الحوزة العلمية من الفقه والأُصول، بل امتدّ إلی عديد من حقول المعرفة الإسلامية والإنسانية، القديمة منها والحديثة، كالفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والتفسير، والتاريخ، والاقتصاد، وعلم الاجتماع و…

وتتمثّل بعض جوانب هذا الإبداع في إبداعه للمنطق الذاتي الذي یشقّ طریقاً ثالثاً في نمط التفكير الإنساني غير المنطق الإرسطي والمنطق التجريبي، وفي عرضه الفريد لعملية اكتشاف المذهب الذي تمخّض -كنموذج- عن مذهب الاقتصاد الإسلامي وخطوطه التفصيلية التي تمتاز تماماً عن المدارس الاقتصادية الوضعية؛ وفي منهج التفسير الموضوعي الذي‌ یقدّم للمفكر الإسلامي منهجاً متكاملاً‌ لاستنطاق القرآن الكريم في‌ سبيل الحصول على‏ النظريات الأساسية للإسلام تجاه موضوعات الحياة المختلفة، وتصدّی بنفسه لتطبيق هذا المنهج في نطاق لم يطرق من قبل وهو (السنن التاريخية) و(عناصر المجتمع وعلاقاته)؛ وغیر هذا من الإبداعات العلمية لهذا الفقيه والمفكّر الكبير.

ورغم مضيّ عقود على استشهاد الإمام الصدر إلّا أنّ مراكز العلم ومعاهد البحث ماتزال بأمسّ الحاجة إلى أُطروحاته الفذّة في شتّی مجالات الفكر الإسلامي الاصيل.

ومن هذا المنطلق انعقد المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر في طهران (بتاريخ 22و٢٣ شوّال 1421ھ) بمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله. وكان في طليعة قراراته إصدار تراثه العلمي بما يتناسب مع شأن هذا التراث العظيم.

وكان المحور الرئيس في هذه المهمّة الخطيرة _ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر – هو إعادة تحقيق كلّ التأليفات للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً عن الأخطاء التي وقعت فيه بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين لها وأمانتهم، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية.

ونظراً إلى شمول التركة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدر للعلوم والمعارف الإسلامية المتنوّعة وبمختلف المستويات الفكرية أوكل المؤتمر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت إشراف علماء متخصّصين في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا التراث بمستوى كبير من الإتقان والأمانة العلمية، وذلك من خلال القيام بكلّ المراحل اللازمة بهذا الصدد وتتمثل في الخطوات التالية:

مقابلة النسخ والطبعات المختلفة.

تصحيح الأخطاء الحاصلة في الطبعات الأُولى أو المستجدّة في الطبعات اللاحقة ومعالجة موارد السقط والتصرّف.

تقويم النصوص دون أدنى تغيير في الأُسلوب والمحتوى، أمّا الموارد النادرة التي تستدعي إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى فيوضع المضاف بين معقوفتين.

تنظيم العناوين السابقة وإضافة عناوين أُخرى بين معقوفتين.

استخراج المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها إلى مرامه وأكثرها مطابقة مع النصّ؛ ذلك لأنّ المؤلّف كان يستخدم النقل بالمعنى في عددٍ من كتبه وآثاره معتمداً على ما اختزنته ذاكرته من معلومات أو على نوع من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع متفرّقة من المصدر المنقول عنه، وقد يتفق أن يكون المصدر المنقول عنه مترجماً وله عدّة ترجمات.

إضافة بعض الملاحظات في الهامش للتنبيه على تصحيح النصّ أو غير ذلك. وتُختم هوامش السيّد الشهيد بعبارة: (المؤلّف) تمييزاً لهوامش التحقيق المضافة عن هوامش السيد الشهيد. وكقاعدة عامّة -لها استثناءات في بعض المؤلّفات- يُحاول الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض مطالب إضافية أو شرح وبيان فكرهݑݫݫݫݬٍ ما أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها.

وضع فهرس لموضوعات كلّ كتاب وللمصادر الواردة فيه.

وقد امتدّت الجهود التحقيقية إلی كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل، فشملت كتبه، وما جاد به قلمه مقدمةً لكتب غيره ثمّ طُبع مستقلّاً في مرحلة متأخّرة، ومقالاته المنشورة في مجلّات فكرية وثقافية مختلفة، ومحاضراته ودروسه في موضوعات شتّى، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهية، ونتاجاته المتفرّقة الأُخرى، ثمّ نُظمت بطريقة فنّية وأُعيد طبعها لتصدر في حلّة قشيبة.

وقد انبثق عن المؤتمر (مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر) فكان اهتمامه الأوّل مواصلة العمل علی إصدار تراث الإمام الشهيد من خلال طبع ما تبقّی من تركته العلمية التي لم يتسنݨݨّ للمؤتمر طبعها، وإعادة النظر في ما صدر سابقاً بهدف استكمال الخطوات اللازمة للوصول إلی طبعة تناسب الشأن العظيم لهذا التراث الفكري الفريد.

وعلی هذا الأساس تمّ الإصدار الجديد بعد مراجعات دقيقة وشاملة لجوانب التحقيق كافة ولا سيّما في جانب المصادر، مضافاً إلی تزويد كلّ كتاب بفهارس متنوّعة زائداً علی فهارس الموضوعات والمصادر رجاء أن تكون نتيجة هذا السعي هي الأقرب للطموح.

والكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم (اقتصادنا) كتبه السيّد الشهيد تلبيةً للضرورة الإسلامية والحاجة المُلحّة التي برزت في الساحة بعد الغزو الفكري الذي شنّته الحضارة الغربية والشرقية على الأُمّة الإسلامية، فوُجد في أبنائها من يأخذ بتلك الأفكار والقيم ويتأثر بها بحرارة وشغف، فتصدّى الإمام الصدر في كتابه هذا _ مضافاً إلى بعض كتاباته الأُخرى _ لنسف أُسس المدرستين الرأسمالية والماركسية ومناقشة مذهبيهما بدقّة علمية عالية، وعرض النظرية الاقتصادية في الإسلام.

وكانت هذه المحاولة هي البداية الراسخة في مجال التأسيس العلمي للاقتصاد الإسلامي. يقول الأُستاذ الدكتور محمد مبارك وهو بصدد الحديث عن الدراسات التي أُنجزت في ميدان الاقتصاد الإسلامي:

(اقتصادنا) للبحّاثة الإسلامي المفكّر السيّد محمد باقر الصدر، وهو أوّل محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة الإسلامية من خلال استعراضها استعراضاً تفصيليّاً بطريقةٍ جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته، وقد جعل المؤلّف كتابه في جزأين كبيرين، خصّص أوّلهما لعرض المذهبين الرأسمالي و الماركسي ومناقشتهما ونقدهما نقداً علميّاً، والثاني لاستخراج معالم النظرية الإسلامية في الاقتصاد[1].

وعلى الرغم من كون هذه المبادرة تأسيسية وبدائية على حدّ تعبير السيّد الشهيد إلّا أنّها ظلّت _ وإلى يومنا هذا _ أحدث دراسة في مجال الاقتصاد الإسلامي بعد مرور أكثر من أربعة عقود على كتابتها، وهي ما زالت تنتظر العقول المفكّرة والطاقات الإسلامية لمواصلة الطريق الذي فتحه السيّد الشهيد الصدر وإتمام مشروعه في الكشف عن سائر جوانب النظرية الإسلامية في الاقتصاد.

 

انظر نص الكتاب هنا

 

[1]. نظام الإسلام، الاقتصاد، مبادئ وقواعد عامة، ص20 _ 21.