النقد الابداعي في أعمال الإمام الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

اولاً: الامام الصدر.. مفكراً، مبدعاً، ناقداً

من الصعب ان يختلف اثنان حول اعتبار الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر مفكراً مبدعاً؛ فقد كان ـ رحمه الله ـ كذلك، بكل المقاييس المعتمدة لتعريف العملية الابداعية والإنسان المبدع، باعتبار ان الابداع هو النشاط أو العملية التي تقود إلى انتاج يتصف بالجدة والاصالة والقيمة[1]، وبكل ما تنطوي عليه المقدرة الابداعية من قدرات فرعية اخرى، مثل القدرة على الاحساس بوجود مشكلة أو موقف غامض يحتاج إلى ايضاح والحل، والقدرة على انتخاب واختيار الحلول الملائمة للمشكلة من بين الامكانات المتناهية للحل، والقدرة على وضع تصورات أو صياغات جديدة تثبت فاعليتها وكفاءتها، واخيرا القدرة على متابعة الجهد العقلي عبر كل المشتقات (العقلية أو الوجدانية أو العملية)، أو بالرغم منها[2].

ويستطيع الباحث اليوم ان يبرهن على امتلاك الامام الصدر لكل العوامل المطلوبة في ابراز الصفة الابداعية، والتي يأتي في مقدمتها الطلاقة، والمرونة، والحساسية للمشكلات، والاصالة، والاحتفاظ بالاتجاه ومواصلته، واخيرا القدرة على تكوين ترابطات واكتشاف علاقات[3].

فالطلاقة تعني القدرة على انتاج اكبر عدد من الافكار الابداعية، مما يبرهن على تفوق الشخص المبدع من حيث كمية الافكار التي يقترحها عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة بالمقارنة بغيره، اي انّه على درجة من القدرة على سيولة الافكار وسهولة توليدها. وقد تمتع الامام الشهيد بهذه الصفة الابداعية منذ سنوات شبابه المبكر، حيث كان كتاب «فدك» (1374هـ) من بواكير نتاجه الفكري، الذي كتبه الامام الشهيد في «عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة»[4]، انتهاء بمحاضراته القيمة حول تفسير التاريخ وسنن المجتمع، مروراً باقتصادنا، وفلسفتنا، والاسس المنطقية للاستقراء، واسس الدولة الإسلامية، والإسلام يقود الحياة، وغيرها.

وامتاز الامام الشهيد بحساسية مرهفة ازاء المشكلات، وقدرة فائقة على حلها، فقد كان (رض) قادرا على رؤية المشكلات في الموقف الواحد، ويعي الاخطاء، ونواحي النقص والقصور، ومن ثم الاستجابة الواعية والمبدعة لها، تأليفا، وانتاجا للفكر، وحلا للمشكلة القائمة. وهكذا شخّص منذ وقت مبكر «النزعة الاستصحابية في العمل الاجتماعي العام[5]»، وسلبيات المرجعية الذاتية[6]، ونواحي النقص والقصور في الكتب الاصولية المعتمدة في الدراسة والتدريس في الحوزة العلمية[7]، وغيرها.

وكان الامام الشهيد ذا تفكير اصيل، استطاع ان يولّد افكاراً جديدة، ولم يكن خاضعا للافكار الشائعة، أو صدى لغيره من العلماء والمفكرين والفقهاء. لقد كان صاحب تجديد وابتكار وخلق ابداعي، على مختلف المستويات الفلسفية والفكرية والاصولية والفقهية. ومن الطبيعي، لا يمكن انكار ان الإسلام كان هو الفضاء الفكري الذي حلّقت فيها ابداعات الامام الشهيد، حيث استلهم من الإسلام العظيم (قرآنا وسنة معصومة) افكاره ونظرياته واطروحاته، ولكن هذا الاستلهام كان مصداقا عميقا لـ «اعمال الخاطر في الشيء»، حسب تعريف بن منظور للفكر، الذي هو صيرورة ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات[8]، اي ترتيب المعلومات لتحصيل المجهولات[9]، فقد كان استلهام الامام الشهيد للاسلام ترتيباً للمعلومات التي يقدمها النص الالهي أو النبوي، واستخدامها في اكتشاف ما كان مجهولا وتطلبت «الترتيب» و«الاكتشاف» قدرة ابداعية عالية الكفاءة عبرت عن ضخامة الدور الذي يمكن ان يلعبه «العامل الذاتي» في حركة الفكر، سلباً أو ايجاباً، ذلك العامل الذي كان الامام الشهيد قد اعترف بدوره، وهو يشرح عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الاسلام[10]، مقراً بأن الصورة التي كونها عن هذا المذهب هي «نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص، وطريقة تنسيقها والجمع بينها»[11].

وهذا يقودنا، في النهاية، إلى الحديث عن قدرة الامام الشهيد على تكوين ترابطات واكتشاف علاقات، كأحدى معالم ابداعيته، حيث يُقال ان القدرة على تكوين عناصر الخبرة وتشكيلها في بناء وترابط جديدين يؤدي إلى فائدة عملية وشخصية في مجال الابداع. وبمقدار ارتفاع حظ الشخص من هذه القدرة، بمقدار ما تزداد فرصته على الابداع والاصالة. وتستبطن هذه القدرة، ليس فقد امكانية جمع المفردات القائمة في نسق علاقات جديدة، وانما في القدرة على تجاوز انساق العلاقات السائدة والمتوارثة[12]، وهذا ما تجد في عمل السيد الصدر، سواء في تجربة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ام في تجربة اكتشاف المذهب الاقتصادي الاسلامي ام في غيرهما، حيث عمد الامام الشهيد إلى نصوص قرآنية ونبوية متداولة ومتوارثة وخلق بينها ترابطات وعلاقات جديدة، متجاوزا انماط الفهم السائدة، لينتج افكارا وتصورات جديدة، جعلت منه «مفكراً مبدعاً»، وليس مفكراً مقلداً، أو شارحاً لغيره. مجسداً في ذاته الدور الذي يقوم به المفكرون عادة في المجتمع، وهو ـ حسب بوتومور ـ «الاسهام المباشر في ابتكار ونقل ونقد الأفكار»[13].

وكان الإتجاه النقدي هو مفتاح العمل الابداعي للامام الشهيد، وهو الوريث الاصيل لصرح ضخم من الافكار والتصورات والذي يقف على قمة شامخة رجال عظام، ترنّ ذاكرة التاريخ لسماع اسمائهم، من الذين سيطروا، بافكارهم ومساهماتهم الابداعية ـ في حينها ـ على الساحات الفكرية، وصارت لهم السيادة العليا والنفوذ المطلق على من جاء من بعدهم، من الذين لم تتعدد اسهاماتهم الفكرية (كلاميا، واصوليا، وفقهيا) حالة الشرح، والتفسير، والتحليق في فضاءات اولئك العظام الفكرية، المسيطرة. ورث الامام الشهيد هذا الصرح العظيم، وهو الذي يمتاز بنزوع ذاتي نحو النقد والتفكير، شحذه في آن واحد، عاملان، كان اولهما الموقف المبدئي في الإسلام والمؤيد لممارسة النقد والحاث عليها. فالاسلام بطبيعته، دين يحارب التقليد الاعمى، ويدعو إلى التأمل والتفكير والابداع والاكتشاف. اما العامل الثاني، فهو المشكلة الواقعية، المزدوجة، التي كان يحس الامام الشهيد ان الإسلام يواجهها، حيث كان الوجه الاول لهذه المشكلة هو عدم كفاية العلاقات القائمة بين النصوص الإسلامية على مواكبة التطورات التي حصلت في الوضع البشري العام، وعدم قدرتها على انتاج افكار جديدة تجيب على الاسئلة والمطالب التي يطرحها التطور الدائب في حركة البشرية، في حين كان الوجه الثاني لهذه المشكلة هو تراكم الاشكالات والتحديات الفكرية والسياسية التي يعززها الواقع الاجتماعي الموضوعي القائم. وبهذه الخلفية، دخل الامام الشهيد المعترك الفكري، مفكراً ناقداً، مجسداً مقولة شومبيتر من ان «المفكرين الحديثين يعيشون على النقد»، مبرهناً على ان «رجال الفكر، هو رجل نقد قبل كل شيء»[14]. واكاد ازعم انّه لو لم يكن الامام الشهيد ناقداً بالحدة والجذرية التي نلمسها في اعماله، لما كان مبدعا بالدرجة التي نعرفها عنه اليوم!

ثانياً: معارك نقدية على مختلف الجبهات

خاض الامام الشهيد، بشجاعة فائقة دفع ثمنها غاليا في حالات كثيرة، معارك نقدية حادة وعنيفة على جبهات مختلفة وعديدة. ولم يكن الامام الشهيد في معاركه هذه مهادناً، ولا مساوماً، ولا مستسلماً؛ ولم يكن يرى بالحلول الوسط، أو الحلول الترقيعية للمشكلات التي استثارت عقليته الابداعية الناقدة. وكان يخوض تلك المعارك، معركة اثر اخرى، بثقة عالية بصوابية منهجه، وصحة فكره ونظرياته، وبايمان كبير بقدرته على تحقيق اهدافه، كقدرة الطبيب الجرّاح، وهو يجري اخطر وادق العمليات الجراحية. ولا تستطيع هذه الدراسة الاحاطة بكل معارك الامام الشهيد النقدية، ولهذا، فسوف تركز على ما نعتبره اهم هذه المعارك، في خمس جبهات هي: الاصول، والفقه، والمرجعية، والتفسير، والعمل الاجتماعي العام.

أ ـ الجبهة الاصولية

درس الامام الشهيد العلوم الإسلامية في الحوزة العلمية وتخرج منها فقيهاً مجتهداً. وكغيره من طلبة العلوم الدينية، قطع الامام مرحلتي الدراسة، وهما مرحلة السطوح ومرحلة الخارج، وقد جرى العُرف العام في الحوزة على تدريس كتب معينة في علم الاصول، هي:

كتاب «المعالم» للحسن بن زين الدين الجبعي العاملي، المعروف والدُهُ بالشهيد الثاني (ت1011هـ) وكتاب «القوانين» للميرزا ابو القاسم القمي (ت1151هـ)، وكتاب «الرسائل» للشيخ مرتضى الانصاري (ت1281)، وكتاب «الكفاية» للشيخ الخراساني (ت1329هـ). ورغم الهالة القدسية التي تتمتع بها هذه الكتب، ويعيشها عن قرب كل طلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، الا ان الامام الشهيد فتح النار بكثافة عالية عليها، معلنا اعتقاده «بعدم صلاحيتها في مجال التدريس على الرغم من قدسيتها العلمية والتاريخية»[15]، غير ان الامام الشهيد لم يصدر هذا الحكم القاسي والعنيف، قبل ان يشيد بهذه الكتب، وبالدور الذي ادته، وبمكانتها التاريخية في سياق التطور الموضوعي لعلم اصول الفقه في مدرسة اهل البيت (ع). فقد حفظ لها «مقامها العلمي» معتبرا اياها ـ «حسب مراحلها التاريخية ـ كتبا تجديدية ساهمت إلى درجة كبيرة في تطوير الفكر العلمي الاصولي على اختلاف درجاتها في هذه المساهمة[16]، شاكراً لها اداءها «دوراً جليلا في الدراسات الحوزوية» حيث «تخرج من حلقاتها الدراسية خلال نصف قرن الآلاف من الطلبة الذين وجدوا فيها سلمهم إلى ابحاث الخارج»، لكنه سجل بألم ان هذا «عرف جرت عليه مناهج الحوزة منذ اكثر من نصف قرن ولم يطرأ تغيير ملحوظ».

ولم يمنح هذا الواقع الكتب الاربعة هالة قدسية وحصانة فكرية تحول دون الاقتراب النقدي منها، والتعامل معها على اساس تاريخيتها، التي تمنع من اعتبارها كتبا ذات قيمة مطلقة، تعلو على الزمان والمكان، وحركة التطور التاريخي، وبالتالي، التسليم بها، دون النظر إلى امكان، بل ضرورة تطويرها، وربما تجاوزها، إذا انجزت كل ما يتعين عليها انجازه في مرحلتها التاريخية. وهذا ما عبر عنه الامام الشهيد بعبارة سهلة ومفهومة: «غير ان هذا لا يحول دون ان نحاول تطوير الكتب الدراسية وتحسينها إذا وُجدت مبررات تدعو إلى ذلك، وامكن وضع كتب دراسية اكثر قدرة على اداء دورها العلمي في تنمية الطالب، واعداده للمرحلة العليا».

وكان للامام الشهيد مبرراته الكافية للدعوة استبدال هذه الكتب «بصورة كاملة، فيعوض عن مجموعة الكتب الدراسية الاصولية القائمة فعلا بمجموعة اخرى مصممة بروح واحدة وعلى اسس مشتركة». وهذه المبررات هي:

أوّلاً: ان هذه الكتب تمثل مراحل مختلفة من الفكر الاصولي، فالمعالم تعبّر عن مرحلة تاريخية قديمة تاريخيا، والقوانين تمثل مرحلة تخطاها علم الاصول، والرسائل والكفاية نتاج اصولي يعود لما قبل 100 سنة.

وقد حصل علم الاصول بعد الرسائل والكفاية، كما يرى الامام الشهيد، على خبرة مائة سنة تقريبا من البحث والتحقيق على يد اجيال متعاقبة من العلماء المجددين، وخبرة ما يقارب مائة سنة من البحث الاصولي، جديرة بان تأتي بافكار جديدة كثيرة.

ثانياً: ان الكتب الاربعة لم تؤلف من قبل اصحابها لتكون كتبا دراسية، وانما الفت لكي تعبر عن آراء المؤلف وافكاره في المسائل الاصولية المختلفة؛ والفرق كبير بين الحالتين، ولهذا كانت هذه الكتب «غير صالحة للقيام بهذا الدور على جلالة قدرها»، حيث لم يراع فيها ما يجب ان يراعى في الكتب الدراسية من توفير فهم مسبق عند الطالب للمسائل والقواعد التي يستعان بها لاثبات المدّعى في مسألة اخرى والبرهنة عليها، أو لاقتناص الثمرة، الاصولية لها.

ثالثاً: ان مؤلفي الكتب الاربعة كانوا يكتبون لامثالهم لا للمبتدئين، وحاصل هذا ان المقدار الذي ينبغي ان يُعطى من الفكر الاصولي في مرحلة دراسية ما، كان اكثر مما تطلبه تلك المرحلة، الامر الذي اوقعها في استطرادات تزيد عن الحاجة.

رابعاً: ان الطريقة المتبعة في تحرير المسائل وتحديد كل مسألة بعنوان من العناوين الموروثة تاريخيا في علم الاصول لم تعد تعبر عن الواقع تعبيرا صحيحاً حيث برزت في سياق تطور علم الاصول قضايا كثيرة جديدة ضمن معالجات المسائل الاصولية الموروثه، وكثير من هذه القضايا تعبر من الناحية الفنية ومن الناحية العملية معاً، اهم من جملة من تلك المسائل الموروثة.

من اجل هذا، قال الامام الشهيد، ان هذه الكتب «غير صالحة» للتدريس «على جلالة قدرها العلمي» داعيا إلى استبدالها بكتب جديدة بصورة كاملة، رافضا الحلول الترقيعية، التي من شأنها ان تشوش على الطالب. وبثقة المفكر المبدع بنفسه، قال الامام الشهيد: «وهذا ما قمنا به بعون الله وتوفيقه». فكانت حلقات دروس في الاصول، التي لم تعبر فقط عن القدرة الابداعية للامام الشهيد على المستوى العلمي فقط، بل كانت مصداقا لطلاقته وغزارته في الانتاج. فقد انجز الامام الشهيد الحلقات الثلاث في شهرين من الزمن، فقط، وهو زمن قياسي لانتاج مثل هذا العمل الاصولي العظيم.

ب ـ الرسائل العملية

اعتاد المجتهدون الذين يتصدون للمرجعية والتقليد على تأليف كتاب يتضمن فتواهم في مختلف المسائل الدينية والاحكام الشرعية، ويُعرف هذا الكتاب باسم «الرسالة العملية»، وهو الصلة بين المجتهد ومقلديه و«الاساس لتعرف المقلدين على فتاوى من يقلدون» وبالتالي ما يحتاجون إليه من الاحكام الشرعية»[17]. ويوجد اليوم عدد كبير من هذه الرسائل العملية، بعدد الفقهاء الذين تصدوا، أو ارادوا التصدي للمرجعية الدينية العامة. ولعل من اشهر هذه الرسائل العملية العروة الوثقى، للفقيه كاظم اليزدي، ومنهاج الصالحين، للامام الراحل محسن الحكيم، وتحرير الوسيلة للامام الراحل السيد الخميني، ومنهاج الصالحين للامام الراحل السيد الخوئي، وهداية العباد للمرجع السيد محمد رضا الگلبايگاني، وجامع الاحكام الشرعية للفقيه السيد السبزواري، وغيرهم. وتكاد تتشابه هذه الرسائل من حيث التبويب، حيث تقسم إلى قسمين رئيسيين هما: العبادات والمعاملات، ومن حيث اللغة، التي تتصف بالصعوبة، والانغلاق، وعدم مواكبة التطور في اللغة العربية وفي مفردات الحياة اليومية للناس.

وقد تعرض الامام الشهيد لهذه الرسائل العملية بالتقويم، ثم بالنقد، واخيرا باقتراح، ثم تقديم، البديل.

ففي معرض الاشادة بها قال الامام الشهيد: «وقد قامت الرسائل العملية بدور مهم وجليل»[18] في مجال ربط المقلدين بمجتهديهم، اضافة إلى امتيازها بـ«الدقة في التعبير والايجاز في العبارة».

لكن الامام الشهيد سجّل على هذه الرسائل العملية الملاحظتين النقديتين التاليتين:

اولاً، انها تخلو غالبا من المنهجية الفنية في تقسيم الاحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الابواب المختلفة. وقد نتج عن هذا عدد من المضاعفات السلبية، ذكر الامام الشهيد منها ما يلي:

1ـ ان كثيرا من الاحكام اعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعا للابواب ولم تعط لها صيغة عامة يمكن للمقلد أن يستفيد منها في نطاق واسع.

2ـ ان عددا من الاحكام دُس دساً في ابواب اجنبية عنه لادنى مناسبة، حرصاً على نفس التقسيم التقليدي للابواب الفقهية.

3ـ ان جملة من الاحكام لم تذكر نهائيا لانها لم تجد لها مجالاً ضمن التقسيم التقليدي.

4ـ انّه لم يبدأ في كل قسم بالاحكام العامة ثم التفاصيل، ولم ترتبط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المعين لها، ولم تعط المسائل التفريعية والتطبيقية بوصفها امثلة صريحة لقضايا اعم لكي يستطيع المقلد ان يعرف الاشياء والنضائر.

5ـ افترض في كثير من الاحيان وجود صورة مسبقة عن العباد أو الحكم الشرعي ولم يبدأ العرض من الصفر، اعتمادا على تلك الصورة المسبقة.

6ـ انطمست المعالم العامة للاحكام عن طريق نثرها بصورة غير منتظمة وضاعف على المكلف استخلاص المبادىء العامة منها.

اما الملاحظة الثانية فهي ان الرسائل العملية لم تعد بوضعها التاريخي المالوف كافية لاداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة، ذلك ان الرسالة العملية تعبر عن احكام شرعية لوقائع من الحياة، والاحكام الشرعية بصفتها العامة وان كانت ثابتة، لكن اساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر إلى عصر آخر، ووقائع الحياة تتجدد وتتغير، وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل أو بآخر.

ولما كان تطبيق الاحكام الشرعية يختلف تبعا للظروف من عصر إلى عصر، على الرغم من كونها ثابتة، فقد اكد الامام الشهيد ضرورة ان تأخذ رسالة عملية تعاصر التغيير الكبير الحاصل في كثير من الظروف، هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي، وان تأخذ العرف المتطور بعين الاعتبار في تحديد الاحكام الشرعية المرتبطة بالعرف. فلهذا عبّر الامام الشهيد عن ايمانه بضرورة وضع رسالة عملية جديدة تأخذ ملاحظتيه السابقتين بنظر الاعتبار، وتتقيد بمنهج سليم في العرض من الناحية الفنية، وتلتزم بلغة مبسطة حديثة، وتبدأ في العرض من الصفر، وتحاول ان تعرض الاحكام من خلال صورة حية وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة، وتتجه إلى بيان الحكم الشرعي لما يستجد من وقائع.

ولم يكتف الامام الشهيد بابداء هذه الملاحظات والتعبير عن هذه الرغبة، وانما بادر، كعادته، إلى تقديم البديل الذي يجسد هذه الرغبة، فكان ان وضع رسالته العملية المسماة «الفتاوى الواضحة» عام 1396 هـ، لتحقق رغبته وتصوره «بالقدر الذي تسع له المجال واتاحته الفرصة».

وإذا كان اول ما امتازت به رسالة الامام الشهيد العملية هو سهولة العبارة ويسر الكلمات، فان اهم ما امتازت به، هو انفرادها بتقسيم جديد لابواب الاحكام الشرعية. فقد عدل الامام الشهيد عن التقسيم الثنائي التقليدي لابواب الفقه (اي: العبادات، والمعاملات) ليبتكر تقسيماً رباعياً جديداً، على الشكل التالي:

اولاً: العبادات، وهي الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة والكفارات.

ثانياً: الاموال، وهي علل نوعين:

أ ـ الأموال العامة، ويقصد بها كل مال مخصص لمصلحة عامّة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، باعتبار ان الجانب المالي فيهما ابرز، على الرغم من كونهما عبادتين. وادخل ضمن هذا الباب أيضاً الخراج والانفال وغير ذلك. ويدور الحديث في هذا القسم حول انواع الاموال العامة، واحكام كل نوع، وطريقة انفاقه.

ب ـ الاموال الخاصة، وهي ما كان مالاً للافراد، ويتم استعراض احكامها في بابين:

الباب الاول، في الاسباب الشرعية للتملك أو كسب الحق الخاص سواء كان المال عينيا ـ اي مالا خارجيا ـ أو مالا في الذمة، وهي الاموال التي تشتغل بها ذمة شخص لآخر كما في حالات الضمان والغرامة. ويدخل في نطاق هذا الباب احكام الاحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات، بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين وغير ذلك.

الباب الثاني، في احكام التصرف في المال، ويدخل في نطاق ذلك البيع والصلح والشركة والوقف والوصية وغير ذلك من المعاملات والتصرفات.

ثالثاً: السلوك الخاص، ويُقصد به كل سلوك شخصي للفرد، لا يتعلق مباشرة بالمال، ولا يدخل في عبادة الإنسان لربه.

واحكام السلوك الخاص نوعان:

أ ـ ما يرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمبارات والظهار، والايلاء وغير ذلك.

ب ـ ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاص في غير ذلك المجال، ويدخل فيه احكام الاطعمة والاشربة والملابس والمساكن وآداب المعاشرة واحكام النذر واليمين والعهد والصيد الذباحة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الاحكام والمحرمات والواجبات.

رابعاً، السلوك العام، وهو سلوك ولي الامر في مجالات الحكم والقضاء والحرب ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك احكام الولاية العامة والقضاء والشهادات والحدود والجهاد وغير ذلك.

وقد اصدر الامام الشهيد الجزء الاول من «الفتاوى الواضحة» الذي شمل القسم الاول من الاحكام الشرعية، وهو احكام العبادات. ولكن استشهاده السريع حرم الاُمّة والفكر الاسلامي والإنساني من الاجزاء الاخرى، التي كان يفترض ان تغطي باقي اقسام الاحكام الشرعية، حسب تخطيط الامام الشهيد. والمؤسف، انّه اياً من تلاميذ الامام الشهيد لم يبادر إلى سد هذا النقص الكبير، واتمام ما بدأ به رضوان الله عليه.

جـ ـ المرجعية الدينية

لعل اخطر معركة نقدية خاضها الامام الشهيد هي معركة المرجعية الدينية، وهي مؤسسة برزت في الوسط الشيعي بعد فترة من وفاة علي بن محمد السمّري، المعروف بالسفير الرابع للامام المهدي، وذلك في سنة 329 هـ. وإذا كان الشيخ المفيد(336 ـ 413 هـ) هو اول ابرز قيادة شيعية فيما يسمى بعصر الغيبة الكبرى، الذي لابد ان يكون قد برز واشتهر بعد حوالي 40 سنة من وفاة السفير الرابع، فان هناك من يعتقد ان اول فقيه تسلّم القيادة المرجعية، قبل الشيخ المفيد، هو الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني[19].

والمرجع هو المجتهد المطلق العادل الاعلم، الذي يتبوأ مركز نائب الامام الغائب، بناء على عملية تشارك بها الاُمّة، من خلال افرادها المقلّدين، بناءً على تصور يقول: ان المرجعية كخط وموقع قرار الهي،  لكنها قرار من الاُمّة، كتجسيد في فرد معين[20]، وهذا يعني ان المرجعية متعلقة دائما بفرد واحد، هو الشخص الذي حاز على شروط التقليد، من الاعلمية والكفاءة والعدالة.. الخ، فهي بهذا النوع «ذاتية دائما»، كما قال الامام الشهيد[21]. وربما كان هذا سبب الممارسة الذاتية والفردية للقيادة المرجعية، الامر الذي تصدى الامام الشهيد لنقده والدعوة إلى تغييره، بقوله: «فالمرجع تاريخيا يمارس عمله المرجعي كله ممارسة فردية، ولهذا لا تشعر كل القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقية معه في المسؤولية والتضامن الحاد معه في المواقف»[22]، وهو الاسلوب الذي اطلق عليه الامام الشهيد اسم: المرجعية الذاتية، وهي المرجعية المرتبطة كاسلوب عمل بشخص المرجع، والتي تموت بموته، فلم تكن هناك، على امتداد الالف سنة التي شهدت بروز القادة المراجع مؤسسة دائمة للمرجعية، يتبوأ المراجع: المركز الاول فيها، مرجعا اثر مرجع، دون ان تتأثر وتنحل بموت المرجع القائم.

ان قيادة المرجع التالي غير مرتبطة لا فنيا ولا موضوعيا بقيادة المرجع السابق، في المرجعية الذاتية، حيث يقوم كل فقيه ببناء مرجعيته الخاصة، التي تنحل بوفاته، ليرث جهازُ مرجعيته وابناؤه، في الغالب، اسمه والثروات الشرعية التي كانت تجبى إليه لصرفها فيما يرون من مواردشرعية للصرف والانفاق. وهذا يعني ان كل مرجع يبدأ من نقطة الصفر، متحملا مشاق هذه البداية، وما تتطلبه من جهود جانبية، يتضمن بعضها عناءً مع المراجع المعاصرين لهم، و«حاشيتهم»، اي الجهاز الخاص للمرجع، بدل ان يبدأ ممارسة مسؤولياته من حيث انتهى المرجع العام السابق، الامر الذي يؤدي إلى حدوث «انقطاعات» في القيادة المرجعية، فلا تغدو خطا متصلا من الناحية الموضوعية ومن الناحية الفنية. وبالرغم مما قد يبدو «مزايا» في المرجعية الذاتية، مثل سرعة التحرك وضمان درجة اكبر من الضبط، الا ان الامام الشهيد طرح تصوراً مغايرا اسماه: المرجعية الموضوعية، وهو تصور لا يحمل معنى الانقلاب على الذاتية في شخص المرجع، وانما يحاول ان يُعطي صفة موضوعية لممارسة القيادة المرجعية، من خلال تكوين جهاز، أو مؤسسة، دائمة للمرجعية، يقف المرجع على قمة هرمها، وحين يخلو الموقع بوفاة المرجع فان مرجعا تاليا يحتل المركز، دون الحاجة إلى بناء مرجعية جديدة من البداية.

واستهدف طرح فكرة المرجعية الموضوعية، تحقيق عدد من الاغراض، ذكرها الامام الشهيد، وهي:

اولاً: ايجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على اساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد. ويحل هذا الجهاز المؤسسي محل (الحاشية)، التي تعبر عن «جهاز عفوي مرتجل، يتكوّن من اشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعية». ويشتمل هذا الجهاز الجديد المقترح على لجان متعددة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى ان تستوعب كل امكانات العمل المرجعي.

ثانياً: ايجاد امتداد افقي حقيقي للمرجعية، يجعل منها محورا قويا تنصب فيه قوى كل ممثلي المرجعية والمنتسبين اليها في العالم. وقد افترض الامام الشهيد ان المرجع إذا مارس عمله من خلال مجلس يضم علماء الإسلام والقوى الممثلة له دينيا وربط نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعي موضوعياً.

ثالثاً: ايجاد امتداد زمني للمرجعية الصالحة لا تتسع له حياة الفرد، على اعتبار ان المرجعية الموضوعية سوف تتألف من عنصرين هما: شخص المرجع، الذي يموت كذات، والمجلس الذي لا يموت، ويكون، بثباته، ضمانا نسبيا إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلو المركز.

لقد كانت اطروحة «المرجعية الموضوعية» جريئة إلى مدى بعيد، ولكنها صعبة إلى مدى اكبر. ذلك ان الموروث المتركز في الاوساط الحوزوية حول القيادة المرجعية كان، وما يزال، قويا بدرجة كبيرة ضاغطة لصالح التمسك بصيغة المرجعية الذاتية، ورفض المرجعية الموضوعية، ان لم يكن بالتصريح، فبواقع الحال والممارسة العملية. وقد حاول الامام الشهيد تطبيق اطروحته هذه، وفق تصور مرحلي وعملي وضعه، لكن عوامل خارجية كثيرة، من بينها استشهاده المبكر، حال دون تحقيق انجاز ملموس على هذا الصعيد. وليس من المتوقع ان تعود صيغة المرجعية الموضوعية إلى التداول مرة اخرى دون ان يتبناها فقيه ومرجع واع، تسانده (حاشية) واتباع واعون ومخلصون ايضاً.

د ـ تفسير القرآن

لم يكن من طبيعة فقهاء ومراجع الاُمّة التوجه إلى تفسير القرآن، عدا استثناءات قليلة ونادرة ابرزها محاولة الامام الراحل السيد الخوئي، الذي وضع تفسيرا لسورة الفاتحة وجزء من سورة البقرة، لكن الامام الشهيد تناول في اخريات حياته مسألة تفسير القرآن الكريم، وتعرّض، بطريقته النقدية الابداعية، للاسلوب السائد في تفسير القرآن، والذي يتناول آيات القرآن آية آية حسب تسلسل ورودها في المصحف الشريف، وهو الاسلوب الذي اطلق عليه الامام الشهيد اسم: التفسير التجزيئي. وكعادته في نقده الموضوعي للامور، سجل الامام الشهيد انجازات التفسير التجزيئي وحصيلته، وهي الحصول على «عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية»[23] ولم ينكر الامام الشهيد اهمية هذه الحصيلة، لكنه سجل، في نفس الوقت نقده الحاد لهذا الاتجاه في التفسير، قائلا انّه ساعد على اعاقة الفكر الاسلامي القرآني عن النمو والتكامل، وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية، حتى نكاد نقول ان قرونا من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والطوسي، لم يحقق الفكر الاسلامي فيها مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتاً لا يتغير الا قليلا خلال تلك القرون على الرغم من الوان التغيير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين»[24].

وبين ان التفسير التجزيئي يقدم مفردات حصيلته في فهم القرآن في «حالة تناثر وتراكم عددي من دون ان نكتشف اوجه الارتباط بينها، ومن دون ان نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الافكار، ومن دون ان نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة»، مؤكدا ان الكشف عما بين هذه المعلومات من «روابط وعلاقات، وتحويلها إلى مركبات نظرية ومجاميع فكرية» من شأنه ان يساعد على تحظير «نظرية قرآنية لمختلف المجالات والمواضيع» وهذا امر «ليس مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي».

وانتقد دور المفسر التجزيئي في التفسير، ووصفه بأنه «سلبي». فهو يبدأ اولاً بتناول النص القرآني المحدد ـ آية مثلاً ـ أو مقطعاً قرآنياً دون أي افتراضات أو طروحات مسبقة، ويحاول ان يحدد المدلول القرآني في ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يُتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة. هنا يلعب النص دور المتحدث، ودور المفسر هو الاصغاء والتلقي والتفهم ـ ولهذا فان التفسير التجزيئي يدور في حلقة مغلقة ـ انّه «يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن».

ولكن الامام الشهيد في نقده العلمي والبناء للتفسير التجزيئي لم يدعُ إلى الغائه واستبداله والاستغناء عنه. وانما دعا إلى «اضافة اتجاه إلى اتجاه»، انّه يتحدث عن خطوة جديدة إلى الامام، تجعل التفسير يمر بمرحلتين أو خطوتين: «الخطوة الاولى، هي التفسير التجزيئي، والخطوة الاخرى هي التفسير الموضوعي». وشرح «الاتجاه الموضوعي» الجديد المقترح قائلاً: «هذا الاتجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية، أو الاجتماعية، أو الكونية». فالموضوعية هنا نسبة إلى «الموضوع» أو «الموضوعات» التي سيتناولها المفسر. والهدف من هذا النوع من التفسير هو «تحديد موقف نظري للقرآن الكريم» ازاء الموضوع المبحوث. وفي هذا يبرز الاختلاف الاساسي بين المفسر التجزيئي والمفسر الموضوعي في علاقة كل منهما بالقرآن. فاذا كان الاول يبدأ بالنص، وينتهي به، معزولاً عن الواقع الخارجي، فان الثاني «لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة». ان المفسر الموضوعي يذهب إلى القرآن وهو يحمل معه مشكلة فكرية، أو سياسية، أو اجتماعية، انتزعها من الواقع، ويحمل معه أيضاً «ما اثارته تجارب الفكر البشري» حول تلك المشكلة، ليطرح على النص القرآني «موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حوار سؤال وجواب»، وهذا ـ حسب رأي الامام الشهيد ـ هو «الاستنطاق» الذي دعا إليه تلميذ القرآن الاول الامام علي بقوله: «ذلك القرآن فاستنطقوه».

وفي منهج التفسير الموضوعي «يلتحم القرآن مع الواقع».

ومن هنا كان «قادراً على ان يتطور، وعلى ان ينمو، ويثرى، لان التجربة البشرية تثريه»، اضافة إلى هذا، فان التفسير الموضوعي يستهدف كشف «اوجه الارتباط» بين المدلولات التفصيلية للنص القرآني، من الوصول إلى «مركب نظري قرآني». وبهذا يكون التفسير الموضوعي عملاً ابداعياً، كونه يكشف عن العلاقات بين العناصر القائمة، ولا يكتفي بشرح هذه العناصر، عنصراً عنصراً، بشكل فردي مستقل.

وقد قدّم الامام الشهيد تطبيقاً عملياً للتفسير الموضوعي، تناول فيه السنن التاريخية، وعناصر المجتمع.

هـ ـ عقلية الإستصحاب في العمل الإجتماعي

وإذا كان التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي آخر معارك الامام الشهيد النقدية، فان معركته ضد ما أسماه «النزعة الاستصحابية في العمل» من معاركه النقدية المبكرة: كان ذلك في شهر صفر عام 1389هـ. حينما القى محاضرتيه القيميتن حول المحنة، ويقصد بها المحنة التي واجهتها الحوزة العلمية في النجف الاشرف، بقيام النظام الدكتاتوري البعثي بتسفير عدد كبير من طلبة العلوم الدينية في النجف ضمن مخططه الخبيث في محاربة ومحاصرة جامعة النجف الاشرف كمصدر اشعاع روحي وفكري للعالم الاسلامي. وقد حلل الامام الشهيد في هاتين المحاضرتين العوامل الذاتية والموضوعية التي تؤدي إلى حصول محنة ما، وبين ان من هذه العوامل: النزعة الاستصحابية في العمل الاجتماعي. والاستصحاب مصطلح اصولي معناه «حكم الشارع على المكلف بالالتزام عملياً بكل شيء كان على يقين منه، ثم شك في بقائه» والاستصحاب يحكم على المكلف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقين منها، ومعنى هذا: ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية، اي العمل بما كان، مع ملاحظة ان الاصوليين يتفقون على ان من شروط الاستصحاب «وحدة الموضوع».[25]

كان معركة الامام الشهيد النقدية هذا تجربة رائدة في النقد الذاتي، فقد قال بعبارة تجلّت فيها اروع اشكال الصراحة والمكاشفة والاعتراف بالخطأ والجرأة:

«الاستصحاب الذي قرأناه في علم الاصول طبقناه على اساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً إلى ما كان، ولا نفكر ابداً في انّه هل بالامكان ان يكون افضل مما كان» معترفاً بأن هذه النزعة تجعلنا «غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا»[26] (…) «تجعلنا دائماً نعيش مع امة قد مضى وقتها، مع امة قد كانت وانتهت بظروفها وملابساتها، لاننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع امة لم يبق منها احد، وقد انتهت وحدثت امة اخرى ذات افكار اخرى، ذات اتجاهات اخرى، ذات ظروف وملابسات اخرى».[27]

وفي مقابل هذا، دعا إلى التحرر من النزعة الاستصحابية «من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل اساليب العمل»[28]، داعياً إلى ما أسماه «نزعة التجديد في أساليب العمل»[29]لان اساليب العمل «ترتبط بالعالم،.. بمنطقة العمل… بالامة»، وهذه الاُمّة «ليست لها حالة واحدة.. الاُمّة تتغير.. الاُمّة اليوم غير الاُمّة بالامس»، ولهذا «يجب ان تأخذ بعين الاعتبار الظروف والتغيرات والتصورات التي توجد في الاُمّة تحدد لنا اساليب العمل، وليس بالامكان ان يكون هناك اسلوب واحد يصدق على الاُمّة اليوم، وعلى الاُمّة بالامس، وعلى الاُمّة غداً»[30]. ورفع الامام الشهيد شعاراً يقول:

«لابد وان نجعل جزءاً من وظيفتنا ان نفكر دائما في انّه كيف نغيّر اساليب العمل، كيف ننسجم مع وضعنا وبيئتنا».[31]

وقد كانت حياة الامام الشهيد، رضوان الله عليه، بحث دائم عن التجديد، والتطوير، والتغيير لا فقط في أساليب العمل، وانما في الافكار والنظريات والمحتوى، تلك النزعة التي مارسها الامام الشهيد حتى مع انتاجه الخاص ودروسه، فقد علّق ـ على سبيل المثال ـ على محاضراته:

«بحوث في شرح: «العروة الوثقى» التي بدأها في 10 جمادى الثانية عام 1385هـ قائلاً: «وواضح لديّ ـ وانا الاحظ هذا الكتاب ـ ان المنهج بحاجة إلى تطور اساسي، يعطي للبحث الفقهي أبعاده الكاملة».[32]

ثالثاً: عناصر النقد الابداعي

لاشيء في الموروث الثقافي يعلو على النقد عند الامام الشهيد، كما لاحظنا في الصفحات السابقة. وهذه هي، كما قلنا، من ابرز خصائص المفكر المبدع، بل اننا نزعم ان ثمة علاقة جدلية بين هذه الاوصاف الثلاثة: المفكر، المبدع، الناقد، مع ملاحظة ان النزعة النقدية تحتل موقعاً مركزياً في هذه العلاقة.

وفي ختام هذه الورقة، نحاول، بعد ان استعرضنا نماذج مهمة من معارك الامام الشهيد النقدية، ان نبرز اهم خصائص أو معالم الممارسة النقدية عنده، وهي بتصورنا كالآتي:

أ ـ اخلاقية الممارسة النقدية: يمارس الامام الشهيد النقد بأخلاقية عالية وروح موضوعية وعلمية ملتزمة مطلقة. وفي اطار هذه الاخلاقية نجد ان الامام الشهيد يحفظ للطرف الآخر «شخصاً، أو فكرة، أو مسألة» مقامه اللائق، ويقرّ بحاله من فضل، ودور، وأداء.

لاحظنا هذا وهو يحلل دور الكتب الاصولية الاربعة، حين اشاد بما انجزته في اطاره مرحلتها التاريخية. بل ان الامام الشهيد حافظ على هذه الاخلاقية العالية حتى حين تعامل مع كارل ماركس، حيث وصفه بـ «المفكر الكبير»[33]، وصاحب الموهبة الفذة في التعبير[34]، مشيراً إلى ما أصابه من التوفيق وما اتقنه، بذكاء وبراعة، من التصرف البارع بالألفاظ[35] وأشار إلى ما يختزنه العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية من «عواطف ومشاعر انسانية» رغم انّه «ناقص»[36]. وحين كان الامام الشهيد يكشف عن مواضع الخلل والنقص والقصور فيما ينقده، كان يبتعد تماماً عن اسلوب التسخير والتسقيط والتهويل، الأمر الذي يعكس، كما يقول الاستاذ غالب حسن الشابندر، ثقته العالية بنفسه وعقله وقلمه[37]. ولاشك، ان الامام الشهيد يجسد في هذا اخلاقيات الإسلام الداعية إلى احترام «الآخر»، وتثمين جهوده، والاعتراف بدوره، حتى مع الاختلافات معه، أو تجاوزه في اطروحاته.

لقد جعلت هذه الأخلاقية الامام الشهيد يتحدث عن ايجابيات الآخر بنفس قوّة حديثه عن سلبياته ونواحي نقصه أو قصوره.

ب ـ تبرير النقد: وحينما كان الامام الشهيد يشن معركته النقدية ضد هذا الاتجاه أو الموضوع، كان يبرز الاسباب والتبريرات الداعية إلى ذلك. فحينما نقد «المرجعية الذاتية» بيّن أسباب ذلك، بل انّه توسّع كثيراً في بيان الاسباب التي تجعله يعتقد ان «الكتب الاربعة» لم تعد صالحة للتدريس في الحوزات العلمية. ان تبرير النقد أو تعليله يحقق في آن واحد هدفين. اولهما، ابعاد النقد عن العامل الشخصي، ويجعله عملية على درجة عالية من التجريد والتسامي على النوازع الذاتية والمصالح المحدودة المرتبطة بها. وثانيهما، اتاحة الفرصة للقارىء، أو المستمع، إلى التعامل مع النقد بعقلانية اساسها الاسباب والتعليلات المقدمة لتبريره. وبالتالي، فأنت تستطيع ان تتخذ موقفك من النقد على اساس درجة قناعتك / أو عدمها / بالاسباب المطروحة. وهذا منهج يرتفع بالنقد إلى درجة عالية، وتحول بينه وبين ان يكون مجرد تذمر، أو عدم رضى، مما هو كائن أو موجود، انّه عدم رضى مبرر، أو معقلن. وبتصوري ان عقلانية النقد جزء مهم من اخلاقيته.

ج ـ هدفية النقد: لم يكن الامام الشهيد يمارس النقد لاجل النقد، انّه لم يكن يهدم ما هو كائن لمجرد الرغبة في التخلص منه، انما كان نقده هادفاً وبناء. فأما هدفه فقد كان، دائماً، تطوير ما هو كائن، اما بالاضافة إليه، أو باستبداله بما هو افضل منه، أو بتطويره وتحسينه في هذا المجال أو ذاك. لقد كان الامام الشهيد يهدم كلّ ما هو كائن، أو جزءاً منه، لكي يبني، مكانه، ما ينبغي ان يكون، من الصرح الثقافي المطلوب، الذي يعبر باقتدار وتاريخية عن عظمة المشروع الحضاري الاسلامي واصالته، وقدرته عن التجدد، والتطور، ومواكبة المستجدات والمتغيرات. وهذه الميزة، بالذات، هي التي جعلت النقد عن الامام الشهيد عملية ابداعية.. عملية خلق وتكوين وتجديد، تستفيد مما هو كائن، لتتجاوز سلبياته إلى ما افضل. وهذا ما تجسد في كل اعمال الامام الشهيد النقدية. فقد حاول الانتقال من «المرجعية الذاتية» إلى «المرجعية الموضوعية». ومن «التفسير التجزيئي» إلى «التفسير الموضوعي»، ومن «الكتب الاربعة» إلى «دروس في الاصول» ومن الرسائل التقليدية إلى «الفتاوى الواضحة»، الرسالة العملية ذات اللغة المعاصرة، والتبويب المبتكر ومن «الاستصحاب» إلى «التجديد». وهكذا لم يكن الامام الشهيد يرفض ما هو سلبي وناقص من الموروث الثقافي، وانما كان يقدّم بديله الاصلح والانسب، في اطار اجتهاده الابداعي الخاص.

ملحق تواريخ طبع كتب الامام الشهيد الوارد ذكرها في هذه الدراسة

1ـ فدك في التاريخ 1374 هـ.

2ـ فلسفتنا 1379  هـ.

3ـ اقتصادنا 1381 هـ.

4ـ المعالم الجديدة للاصول 1385 هـ.

5ـ محاضرة حول المحنة 1389 هـ.

6ـ بحوث في شرح العروة الوثقى 1391 هـ.

7ـ الفتاوى الواضحة 1396 هـ.

8ـ دروس في علم الاصول 1397 هـ.

9ـ الإسلام يقود الحياة 1399 هـ.

10ـ محاضرات التفسير الموضوعي 1399 هـ.

محمد عبد الجبار

[1] الكسندر روشكا «ترجمة ر. غسان عبدالحي أو فخر»، الابداع العام والخاص، ص 19.

[2] عبدالستار ابراهيم، ثلاثة جوانب من التطور في دراسة الابداع، مجلة عالم الفكر الكويتية / العدد4 / 15 «يناير 1985» ص 29.

[3] المصدر السابق، ص 40 ـ 47.

[4] الامام الشهيد الصدر، فدك ص 11.

[5] راجع محاضرة الامام الشهيد الصدر حول المحنة في شهر صفر عام 1389 هـ.

[6] اقرأ: للسيد كاظم الحائري، مباحث الاصول، ج1، ص 91 ـ 100.

[7] اقرأ: الامام الشهيد الصدر، دروس في الاصول، مقدمة الحلقة الاولى.

[8] محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص 248.

[9] محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص 267.

[10] الامام الشهيد الصدر، اقتصادنا ص 380 ـ 405.

[11] المصدر السابق: ص 381.

[12] اقرأ: د. عبدالرحمن عيدي، سيكولوجية الابداع، ص 65 ـ 66.

[13] بوتومور «ترجمة د. محمد الجوهري وآخرين»، الصفوة والمجتمع، ص 86.

[14] محمد مروان داود: النخبة والنخبة الفكرية ص 115.

[15] الامام الشهيد الصدر، دروس في علم الاصول، الحلقة الأولى «الأعمال الكاملة» ج3، ص 223.

[16] نصوص الامام الشهيد في هذا الصدد عن المصدر السابق ص 213 ـ 234.

[17] الإمام الشهيد: الفتاوى الواضحة «الأعمال الكاملة» ج9، ص 94.

[18] نصوص الامام الشهيد الصدر في هذا الصدد عن المصدر السابق، ص 94 ـ 98، و132 ـ 134.

[19] السيد محمد كاظم القزويني، الامام المهدي ص 265 ـ 266.

[20] الإمام الشهيد الصدر، الإسلام يقود الحياة «الأعمال الكاملة، ج12» ص 133.

[21] النص في: كاظم الحائري، مباحث الأصول، ج1، ص 96.

[22] نصوص الامام الشهيد في هذا الصدد في المصدر السابق، ص 91 ـ 100.

[23] الامام الشهيد الصدر: التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية، محاضرات الامام الأخيرة «طبعة الشيخ جلال الدين علي الصغير» ص 18.

[24] المصدر السابق ص 24، وبقية نصوص الصدر في هذا الصدد ص 14 ـ 39.

[25] الإمام الشهيد الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى «الأعمال الكاملة، ج3» ص 333 ـ 335.

[26] الامام الشهيد الصدر، المحنة «الأعمال الكاملة، ج13» ص 50.

[27] نفس المصدر، ص 52.

[28] نفس المصدر، ص 50.

[29] نفس المصدر، ص 49.

[30] نفس المصدر، ص 51.

[31] نفس المصدر، ص 55.

[32] الامام الشهيد الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى «الأعمال الكاملة، ج5» ص 5.

[33] الامام الشهيد الصدر، اقتصادنا «الأعمال الكاملة، ج10» ص 167. الامام الشهيد الصدر، اقتصادنا «الأعمال الكاملة، ج10» ص 167.

[34] نفس المصدر، ص 165.

[35] نفس المصدر، ص 166.

[36] الإمام الشهيد الصدر، اقتصادنا «الأعمال الكاملة، ج2» ص31.

[37] غالب حسن، خصوصية المنهج عند السيد الصدر، مجلة المنطلق العدد 42، نيسان 1988، ص 28 ـ 29.