الامام الشهيد محمد باقر الصدر .. مراجعة لما كُتب عنه باللغة الانكليزية

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

لفتت الثورة الإسلامية في ايران انظار الدارسين إلى قيمة الفكر الاسلامي الشيعي والصورة التاريخية التي تطور من خلالها والعبقريات العلمية التي انتجها، كما انها كشفت عن الامكانات العلمية التي ينطوي عليها مذهب اهل البيت، باعتباره يمثل جناح المعارضة للواقع المحرف عن الإسلام ونظراً لنجاح الثورة الايرانية، فقد انصب جهد علمي كبير على معرفة شخصية قائدها وافكاره الاجتماعية ونظريته السياسية. وخلقت الثورة حالة عامة تبشر بالتغيير الاسلامي، لا سيما في المناطق التي توجد فيها اغلبية شيعية مؤثرة أو ساحقة.
وكان العراق، ولا يزال، مرشحاً لان يصبح جمهورية اسلامية. وظلت التوقعات ترتفع ثم تهبط طوال الثمانينات مبشرة بقرب حصول التغيير ولكنها لم تثمر النتيجة المتوقعة. وتولدت عن ذلك حاجة كبيرة لمعرفة طبيعة الجمهورية القادمة والنظرية السياسية والافكار الاجتماعية التي تقودها والنخبة التي ستلعب دوراً مؤثراً فيها. وجاءت ايضاً الحاجة إلى دراسة جذور الحركة الإسلامية في العراق والتكوين الفكري لها والشخصية المؤثرة في تكوينها. واهتدى البحث بالدارسين إلى شخصية مركزية صاغت الوعي الاسلامي الحديث في العراق، في القطاع الشيعي منه بالخصوص، تلك هي شخصية الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وكتاباته المعروفة.
وقدمت خلال الفترة الاخيرة دراسات جامعية حول فكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر والحركة الإسلامية في العراق، كما ان بعضاً من كتبه ترجم إلى اللغات الاوروبية. والغرض من هذا البحث هو تقديم اهم الحقائق التي كشفت عنها البحوث المذكورة والتعليق على ما جاء فيها لغرض تعريف القارىء العربي المسلم بالدراسات المقدمة باللغات الاخرى كما انّه ينفع الدارسين ايضاً لانه يوفّر مسحاً اولياً للبحوث المقدمة في هذا الميدان . وسوف نتوقف عند الدراسات المقدمة باللغة الانكليزية، علماً بأن هناك بوادر اهتمام بكتابات الشهيد الصدر لدى الألمان والفرنسيين . والكتب والمقالات التي سنتناولها هنا، هي :
ط. م. عزيز (مقال): دور محمدباقر الصدر في النشاط السياسي الشيعي في العراق من عام 1958 ـ 1980 (مأخوذ من اطروحة جامعية).
* (مقال): معنى التاريخ: دراسة في وجهة نظر محمد باقر الصدر، (مأخوذ، كما يبدو، من نفس الاطروحة الجامعية).
شبلي ملاط: تجديد القانون الاسلامي: التشيع العالمي، النجف، محمد باقر الصدر، (اطروحة جامعية).
* (مقال): الجهاد الديني في العراق المعاصر: محمد باقر الصدر والتصور العام لقضية الشيعة والسنّة.
جويس وايلي: الحركة الإسلامية لشيعة العراق (بحث جامعي).
الدكتور علي علاوي: (مقال): «اقتصادنا» للسيد باقر الصدر بعد ربع قرن.
وسوف نتوقف في مجال حياة السيد الشهيد الصدر وعلاقته بالحركة الإسلامية في العراق عند المعلومات الاضافية التي وردت في الكتابات المتقدمة التي حصلوا عليها نتيجة جراء مقابلات مع اشخاص لهم علاقة بالسيد الصدر أو المعنيين بالتحرك الاسلامي في العراق، أو تلك التي استنتجوها من خلال مقابلة النصوص المتناثرة والمنشورة في الصحافة الإسلامية العراقية. كما اننا سنعنى بذكر ملاحظاتهم النقدية وتقييماتهم الشخصية لكتابات الامام الصدر.
السيرة الفكرية والعملية للامام الشهيد الصدر
اصبحت سيرة الامام الصدر واضحة ومعروفة بمقدار لا باس به، إذا ما قارناه بغيره من رجال الحركة الإسلامية في العراق والعالم الاسلامي. وقد اتاحت المناسبات المتكررة في ذكراه وغيرها للكثير من الصحف الإسلامية اعداد ملفات عن حياة الشهيد الصدر. وهي في الغالب تتضمن معلومات خام عن حياة الامام وعلاقته بالحركة الإسلامية والسلطة الزمنية وصلته بالمراجع الآخرين. ومصدر هذه المعلومات يكون غالباً رجال اطلعوا مباشرة على حياة الشهيد من خلال صلتهم الشخصية به، كما ان هناك دراسات عديدة وضعها بعض تلامذة السيد الصدر واشخاص آخرون. واستفاد الباحثون من تفاصيل الصورة الجزئية المعروضة بصورة مقطعة ومجزئة، لرسم الملامح العامة لحياة الشهيد وجهاده الفكري والسياسي. وقد حصل البعض على معلومات اضافية، عن طريق المقابلات التي اجراها مع اشخاص لهم صلة بالحركة الإسلامية والسيد الصدر. وسنرى تأثير هذه المقابلات على طريقة البحث لدى كل باحث فيما سيأتي، ولكن قبل ذلك نود ان نذكر بأن ما نقلوه من معلومات يمثل اضافة حقيقية لما نعرفه من تاريخ وتصحيحاً لما ورد من معلومات في المادة المنشورة سابقاً.
لا تذكر جويس وايلي الكثير عن حياة السيد الصدر. وفي الفصل الذي افردته لترجمة حياة اهم شخصيات الحركة الإسلامية لا تورد اكثر من صفحة واحدة، ولا تحتوي على معلومات اكثر من كون السيد الصدر درس في بغداد ثم توجه إلى النجف ودرس ودرّس فيها ومارس نشاطاً فكرياً عاماً وأنه متزوج وترك ولداً اسمه جعفر(11 سنة) وثلاث بنات وزوجة. والاشخاص الآخرين الذين تنقل ترجمة حياتهم، هم: السيد محسن الحكيم، السيد مهدي الحكيم، السيد محمد باقر الحكيم، السيد حسن الشيرازي، الشيخ عارف البصري، وبنت الهدى. واجرت المؤلفة مقابلات مع السيدين محمد بحر العلوم ومهدي الحكيم واعطتهما قدراً لا باس به من الاهتمام، كما انها قابلت الدكتور ابو علي الربيعي وشخصاً آخر ذكرت ان اسمه «الاخ علي»، وحصلت على معلومات عن «منظمة العمل الاسلامي» من خلال مقابلة تليفونية مع شخص لم يذكر اسمه لاسباب امنية. واعطى تعدد مصادر المعلومات قوّة للبحث ونظرة موضوعية. والكاتبة ذات معرفة بالاوضاع العراقية لانها اقامت في العراق خلال فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات، وفي الكاظمية على ما يبدو، وقد منحتها هذه الاقامة معلومات اضافية عن جماعة الشيخ الخالصي، ولكنها معلومات سلبية في الغالب .
وتوصلت وايلي في دراستها إلى ان جماعة من العلماء الشبان ابتدأوا بعقد اجتماعات في بيت عالم شاب، هو السيد الصدر في اواخر عام 1957 للبحث في اسباب فشل المسلمين وطريق النهوض بهم. وجعلوا مصب انظارهم الآية الكريمة (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (سورة الرعد ـ 11). وأبان السيد الصدر بأن الإسلام عانى من تشوهات نتيجة العادات والتراكمات وان تصحيح ذلك لا يكون الا بتحرر الاجتهاد وادخال العناصر الواقعية فيه، كالرؤية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالاضافة إلى المنجزات العلمية. واخذ هؤلاء في عقد حلقة دراسية، من العلماء اولاً، ثم ضموا اليهم اشخاصاً آخرين من غير العلماء. وفي اواخر عام 1957 وبداية العام التالي «التاريخ مختلف عليه في الادبيات التي نقلت عنها المؤلفة، وهي تتراوح بين، تشرين الاول 1957 والاشهر الاولى من عام 1958) تأسس حزب الدعوة الإسلامية في منزل السيد الصدر ، وانيطت مهمة الاتصال بالطبقة المثقفة (طلاب المدارس والجامعات وغير علماء الدين عموماً) بالسيد مرتضى العسكري. ثم دُعي غير العلماء للانتقاء بالعلماء داخل الحركة في الاشهر الاولى من عام 1958. وان المرجعية اضفت شرعيتها على الحركة الناشئة بعد ثورة 14 تموز 1958، اذ حصلت على تأييد المرجع الكبير آية الله السيد محسن الحكيم. وتمثل دعم السيد الحكيم للحركة بتأييد خطوات الاصلاح في الاُمّة واقامة المكتبات العامة والمراكز الدينية. وتقول ان اندفاع السيد الحكيم نحو النشاط السياسي جاء بعد ثورة الزعيم عبد الكريم قاسم لثلاثة اسباب رئيسية، وهي: تحالف قاسم مع الشيوعيين، صدور قانون الاصلاح الزراعي، وتعديل قانون الاحوال الشخصية. ثم ان السيد الحكيم اوعز بتأليف «جماعة العلماء» والتي ترأسها الشيخ مرتضى آل ياسين، خال السيد الصدر، واصدرت «جماعة العلماء» مطبوعات، كان من اهمها مجلة «الاضواء» التي كان السيد الصدر يكتب افتتاحيتها تحت العنوان العام «رسالتنا». ثم ان السيد الصدر اصدر عددا من الكتب التي تفند المذاهب الفكرية والتيارات العلمانية الاخرى.
وتسرد المؤلفة بعد ذلك تاريخ الحركة الإسلامية وانتقالها من حالة المواجهة الفكرية إلى الصدام مع السلطة في اواخر السبعينات، بعد مرحلة من عنف الدولة تتكلم عنها بالتفصيل، ولا يرد ذكر السيد الصدر، الا فيما هو عام ومتعارف. والامور الاخرى التي تذكرها المؤلفة قولها ان الذين اعتقلوا بعد انتفاضة صفر عام 1977 استجوبوا عن المرجع الذي يقلدونه وسئلوا، تحديدا عن السيد الصدر. وان السيد كتب عقب انتصار الثورة الإسلامية في ايران في مجلة الحزب الداخلية «صوت الدعوة» ان الإسلام دخل مرحلة قتالية وان جميع وسائل التغيير، النشر والاعلام، هي بيد اعداء الإسلام، ولذا فان دعوتنا هي دعوة ثورية لانقاذ الاُمّة، وتذكر ان «جماعة العلماء» اصدرت فتوى في الجهاد المسلح ضد السلطة في تشرين الاول من عام 1979، وتقول في الهامش، ان السيد محمد باقر الحكيم هو الذي كتبها، على اغلب الظن، وانها كتبت في النجف. وان السيد الصدر اوصى السيد الحكيم وثلاثة علماء آخرين بقيادة الحركة الإسلامية (عموم الحركة الإسلامية) من بعده، ولكن اربع محاولات جرت لتوحيد الحركة الإسلامية وفشلت بسبب موقف الايرانيين وعدم حصول الاعتراف بها من قبل الامام الخميني، حتى تألف «المجلس الاعلى لقيادة الثورة الإسلامية في العراق» في 17 تشرين الثاني 1982. وتذكر ان المرجع الراحل السيد الخوئي اراد ترك العراق بعد استشهاد السيد الصدر ولكن الحكومة اجبرته على البقاء وصادرت امواله المودعة في بنك الرافدين. وتحدد المؤلفة تاريخ تشكيل «منظمة العمل الاسلامي» بعام 1961، و«انصار الدعوة» 1962.
ويتناول ط. عزيز (الاستاذ الزائر بمركز فون غرنباوم لدراسات الشرق الاوسط في جامعة كاليفورنيا، في بحثه المهم حول دور السيد الصدر في النشاط السياسي الشيعي، العوامل التي دفعت السيد الشهيد نحو العمل السياسي، والمؤثرات التي فرضت نفسها عليه في السنوات الاخيرة من حياته القصيرة. وهو يقدم عرضاً مستفيضاً لحياة السيد الشهيد، ومحتوياً على معلومات اصلية، حصل عليها من مظانها الحقيقية. ويبتدأها بالاشارة إلى ان السيد الصدر كان صاحب مشروع سياسي يهدف إلى تكوين دولة اسلامية، ليس فقط في العراق، وانما تشمل العالم الاسلامي. وان السيد الصدر عمل على جبهتين، هما: مواجهة الجمود في المؤسسة الدينية من جهة، ومقارعة الاضطهاد السياسي الذي مارسته الدولة من جهة اخرى. وان النظام الحاكم ادرك اهمية الخطر الاسلامي وأنه لا يتركز في جاذبية الإسلام، بمعناها العام فحسب، وانما في وجود حركة منظمة، لها مبادؤها وشعاراتها الخاصة. وان اتباع السيد الصدر رأوا فيه «خميني العراق» القادم.
ويستعرض المؤلف تاريخ الحركة الإسلامية في العراق منذ عهد عبد الكريم قاسم، فيرى ان تغلغل الشيوعية في المدن ذات الطابع الديني، مثل كربلاء والنجف والكاظمية، مستفيدة من تحالفها مع النظام، ادى إلى دق اجراس الخطر في صفوف المرجعية. واتخذ السيد الحكيم اجراءات مضادة، منها تأسيس «جماعة العلماء». ورغم الدور الفاعل للسيد الصدر في نشاطاتها، فانه لم يكن عضواً فيها لصغر سنه، ولكون الاعضاء هم، بصفة عامة، من المراجع. وقد مارس السيد الصدر تأثيره في الجماعة عن طريق رئيسها، السيد مرتضى آل ياسين، خال السيد، واخيه الاكبر السيد اسماعيل الصدر الذي انيطت مسؤوليات مهمة في الجماعة وحسبما افاده به السيد طالب الرفاعي، وهو من مؤسسي الحركة الإسلامية في العراق، فان الهدف المباشر من الجماعة، كان صد التحدي الشيوعي للاسلام. وكانت الجماعة واقعية في اهدافها فسعت إلى ترضية عبد الكريم قاسم في منشوراتها وما تذيعه على الناس. ووفر لهم قاسم في المقابل طريقاً لاذاعة نصوص منشوراتهم من دار الاذاعة العراقية. وكانت البلاغات تكتب من قبل السيد الصدر ويذيعها الخطيب السيد هادي الحكيم. ولم تدم علاقة الوئام طويلاً، اذ أن فتوى السيد الحكيم بتكفير الشيوعيين، حلفاء النظام، احرجت عبد الكريم قاسم، وان قاسم قام بمحاولات عديدة لمقابلة السيد محسن الحكيم ولكن الاخير رفض مواجهته إذا لم يسحب قانون الاحوال الشخصية المخالف للشريعة الإسلامية.
ويقول المؤلف ان فترة الوئام امتدت على عامين، تمّ لجماعة العلماء خلالها اصدار مجلة شهرية هي «الاضواء». وان فكرة المجلة، حسبما اخبره السيد طالب الرفاعي، جاءت من السيد الحكيم. ولما كان ارتباط مرجع بمجلة ذات اهداف سياسية امراً غير مألوف، فقد انيطت مسؤوليتها بجماعة العلماء وكان السيد الصدر يكتب في الافتتاحية اسس المشروع السياسي للدولة الإسلامية. وانّه اكتشف من خلال عمله في «الاضواء»، موهبته في كتابة مقنعة وجذابة. وانجز السيد الصدر في نفس الفترة عمليه النظريين الاساسيين «فلسفتنا»(1959) و«اقتصادنا»(1961)، وان انجازه الحقيقي هو في صياغة المذهب الاقتصادي الاسلامي اعتماداً على احكام الفقه الاسلامي، وانّه كان الاول في هذا المجال.
ويقول ان السيد الصدر واجه العلمانية من طريق ثالث، وذلك بتأسيس حزب الدعوة الإسلامية. وحسبما اخبره السيد طالب الرفاعي، فان الحزب تشكل على يد ثلاثة، هم: السيد مهدي الحكيم، السيد طالب الرفاعي، وشخص ثالث قال عنه بأنه «مجهول»، وربما تعمد عدم ذكره . وقد عرضت فكرة الحزب على السيد الصدر، فانظمّ اليهم واصبح فيما بعد قائداً له ووضع اسسه الفكرية والتنظيمية واعطي مقام «فقيه الحزب». ويذكر ان تسمية الحزب جاءت من السيد الصدر. وفي عام 1960 اصبح السيد الصدر، واحدا من ابرز المجتهدين في المدارس العلمية في النجف، وله سمعة طيبة في مباحثات الفقه والاصول. ودعا ذلك كبار رجال الحوزة العلمية، إلى نصحه بترك العمل السياسي وفك ارتباطه بحزب الدعوة لان ذلك لا يتناسب مع مقام قيادة الحوزة العلمية، والاستعداد لان يكون مرجعاً للشيعة في المستقبل. وقد جاءت النصيحة من السيد الحكيم وبتحريض من حسين الصافي الذي قام بحملة دعائية ضد الصدر وحزب الدعوة، صوّر فيها نشاطه على انّه يضر بالحوزة العلمية. وتأثر بعض اعضاء جماعة العلماء بهذه الدعاية فأخذوا يقفون موقفاً سلبياً من الشهيد. وطرحت تساؤلات حول اختياره لعنوان «رسالتنا» الذي وضعه فوق افتتاحيته، وفيما إذا كانت تعني رسالة الجماعة ام امراً آخراً. وفى عام 1961 اقنع السيد الحكيم، وعن طريق ولده الشهيد السيد مهدي، السيد الصدر بالاستقالة من منصبه كفقيه لحزب الدعوة وترك العمل في مجلة «الاضواء». وابقى الصدر على علاقة مع الحزب عن طريق واحد من تلاميذه .
وشجع السيد محمد حسين فضل الله على كتابة الافتتاحية بدلاً عنه. ويقول المؤلف في الهامش ان السيد الصدر ترك الحزب بعد اخذ الاستخارة، وكان ذلك في زيارة إلى المراقد المقدسة في سامراء، بحسب رواية السيد الرفاعي.
تحرك السيد الصدر بعد ذلك إلى تعديل اوضاع الحوزة، واتخذ طريقاً مسالماً، حتى انّه توقف عن كتابة مؤلفه الذي وعد به، وهو كتاب «مجتمعنا». ويُنقل عنه انّه قال: «مجتمعنا لا يسمح باخراج مجتمعنا» . وانصرف السيد الصدر إلى تعديل مناهج الدراسة ووضع برامج تمكّن الحوزة من اللحاق بالجامعات المعتبرة، بما يشتمل عليه ذلك من مراحل ودروس منتظمة وامتحانات دورية. ومن أجل وضع افكاره في موضع التطبيق ساهم السيد الصدر في تأسيس كلية اصول الدين في بغداد عام 1964 ووضع خطة برنامجها الدراسي، وكتب فيما بعد ثلاثة كتب دراسية، في ثلاثة مواضيع: علوم القرآن الكريم، اصول الفقه والاقتصاد الاسلامي للمراحل الاولى والثانية. وقد لاقت تجديدات السيد الصدر في نطاق الحوزة مقاومة عنيفة من قبل الطلبة والمؤسسة القديمة. ويعتبر المؤلف الفترة من 1964 ـ 1968 بمثابة العصر الذهبي للحركة الإسلامية في العراق، ويتكلم عن انتشارها ولكنه لا يذكر قولاً ولا فعلاً يتصل بالسيد الصدر رحمه الله.
تبدأ فترة التحرك السياسي الثاني في حياة السيد الشهيد الصدر بعد وصول حزب البعث إلى السلطة وممارسته الضغط على النشاط الاسلامي. وقام العلماء بمحاولة مجابهة النظام الجديد، فدعت «هيئة جماعة علماء بغداد والكاظمية» المرجع الكبير السيد محسن الحكيم إلى زيارة بغداد. واجريت احتفالات شعبية بالمناسبة، الهدف منها تحريك الشارع الاسلامي ضد السلطة. ويضع الباحث عدة اسباب لهذه المواجهة، منها: اغلاق مدارس الامامين الكاظم والجواد وكلية اصول الدين، مصادرة اموال واراضي جامعة الكوفة، اغلاق مجلة «رسالة الإسلام» منع «مواكب الطلبة»، القيام بحملة تسفيرات لطلاب المدارس الدينية من غير العراقيين، واجبار العراقيين منهم على اداء الخدمة العسكرية، وكانوا معفيين منها .
ويقول المؤلف ان الكلمة التي القاها السيد مهدي الحكيم في الجموع التي جاءت لتحية والده كتبها السيد الصدر. وبعد وفاة السيد الحكيم، رجعت السلطة إلى سياسة تهجير العلماء غير العراقيين، فحاول السيد الصدر اقناع السيد الخوئي باصدار «حكم» يلزم الطلبة بالبقاء في النجف . ثم ان السلطة زادت من شراستها واخذت في مطاردة العناصر الإسلامية المنتمية إلى حزب الدعوة الإسلامية، واعتقلت السلطة العشرات منهم في عام 1972 وحكمت عليهم بأحكام مختلفة، تراوحت بين السنة الواحدة وخمس سنوات. واستشهد عبد الصاحب دخيل (ابو عصام) تحت التعذيب عام 1973 . وفي عام 1974 حكت محكمة الثورة على خمسة من قادة حزب الدعوة بالاعدام. وقد احتجت المؤسسة الدينية على ذلك، وشجبها من المراجع السادة: الخميني والخوئي والصدر . واصدر السيد الصدر فتوى تحرّم على طلبته الانتماء إلى الاحزاب السياسية. ولم ينج الصدر من الاعتقال في العام نفسه، ونقل إلى بغداد للتحقيق معه ولكن اطلق سراحه بعد فترة وجيزة. وينقل المؤلف عن السيد صدر الدين القبانجي ان السيد الصدر اعتقل في عام 1971 ولكنه لم يوضع في السجن بسبب تردي صحته، فأحيل إلى المستشفى وبقي هناك تحت المراقبة ويدهُ مربوطة بالحديد إلى سرير مرضه، ويقول ان هذه الرواية انفرد بها القبانجي.
ويقول المؤلف ان السيد الصدر برز في الحوزة العلمية ليصبح بمثابة خليفة السيد الخوئي. وقد ادرك السيد الصدر نواقص المرجعية وعدم وجود تركيب منظم لها، يساعد في الوصول إلى قرارات فعالة ويسهل عملية فرضها، وان المرجع، كما هو موجود ومتعارف، يمارس عمله من خلال القناة المعروفة بـ«الحاشية» وبعض رجالها من الاقارب والمعارف. وسمى السيد الصدر مثل هذه المرجعية بـ«المرجعية الذاتية»، وكان يهدف نحو تكوين «المرجعية الموضوعية» المعتمدة على بناء متكامل ومنتظم. ويقول بان السيد الصدر لم يكن مستعداً لتولي مهمة ترتيب اوضاع الحوزة وبناء المرجعية الموضوعية لانه لم يكن المرجع الاعلى. وقام السيد الصدر بنشر «الفتاوى الواضحة» في محاولة للاعلان عن مرجعيته. ويفسر ذلك بأن السيد الصدر كان يؤمل بان تحوله إلى مرجع للشيعة سوف يحميه من جور السلطة، مثلما حمى ذلك السيد الخميني في ايران. وبعد نشر فتاواه اصبح اعضاء حزب الدعوة والمعجبون بالسيد الصدر يشيرون إليه بانه مرجعهم وقائدهم. وينتقل المؤلف إلى احداث انتفاضة صفر عام 1977، ويقول ان السيد محمد باقر الحكيم كان واسطة للتفاهم بين الزائرين والسلطة، وقد فشلت وساطته وحكم عليه بالسجن المؤبد بعد فشل الانتفاضة. ويقول المؤلف ان السلطة اعتقدت بان السيد الصدر وحزب الدعوة كانا وراء الانتفاضة. ودليلها على ذلك ان الانتفاضة كانت منظمة بشكل جيد من جهة، كما ان عدم اقتناع المتظاهرين بوساطة السيد الحكيم اوحت للسلطة بان السيد الصدر كان يقود المعارضة من وراء الكواليس. وألقت السلطة القبض على السيد الصدر، وارسل إلى بغداد، ولكنها اطلقت سراحه خشية ان تخرج مظاهرات في الحوزة، وبعد ان طالب الناس بالافراج عنه.
المقطع النهائي من مواجهة السيد الصدر مع السلطة جاء مع قيام الثورة الاسلامية في ايران. وبدأ السيد الصدر تحركه بارسال برقية طويلة إلى الشعب الايراني اوضح فيها تضامنه مع الثوار وامتدح افعالهم. وكان السيد الخميني وقتذاك في باريس. ويقول المؤلف ان هذه الرسالة لم تنشر لان تلميذ السيد الصدر كان مقيماً في ايران تخوّف من انعكاساتها على موقفه في العراق وانها تضع حياته في خطر. وبعد عودة الامام، ارسل السيد الصدر السيد محمود الهاشمي ممثلاً عنه إلى ايران. ثم انّه طلب من عرب ايران تأييد الثورة التي ستتكفل برعايتهم وضمان حقوقهم السياسية والقومية. واكد في احدى رسائله اليهم ان عليهم اطاعة قائد الثورة وان الدولة الإسلامية هي امتداد لدولة النبي (ص)، حيث عاش الناس من مختلف القوميات في تعاون وانسجام. وقد كانت هذه المواقف على الضد من سياسة حزب البعث في العراق وموقفه من الثورة الإسلامية في ايران. وقد ابدى السيد الصدر اعجابه البالغ بالامام الخميني وانجازه الفريد حيث انّه كتب إلى تلامذته في ايران يقول ان الامام الخميني حقق اهداف «المرجعية الموضوعية» التي كان السيد الصدر ينظّر لها من قبل. ويذكر المؤلف ان الامام الخميني في مخاطبته للسيد الصدر، كان يستعمل لقب «حجة الإسلام والمسلمين»، وفيها انقاص من قدر السيد الصدر واهانة له، لانه كان وقتذاك مرجعاً معروفاً، والعنوان المناسب لمخاطبته هو «آية الله العظمى». ولكن بعد وفاة السيد الصدر، اخذ الامام الخميني يشير إليه بعنوان «آية الله الصدر».
وتحمس السيد الصدر على الجبهة النظرية ايضاً فكتب مقالاته الستة «الإسلام يقود الحياة»، وعالج فيها الشكل الدستوري للحكومة ونظامها الاقتصادي. ويقول المؤلف ان نظراته الدستوية اثّرت بقوة في الدستور الايراني اذ ان فقرات الدستور تضمنت المبادىء التي كان يقول بها. ولا يتوسع المؤلف في هذا المجال، ولكننا سنجد تفصيلاً دقيقاً في استعراض ما كتبه كل من شبلي ملاط وجويس وايلي حول الافكار الدستورية عند السيد الشهيد. وتقول ان السيد الصدر بقي في معالجاته الاقتصادية عند الآراء التي ذهب اليها في «اقتصادنا»، مما يثبت قناعته بالاجتهاد الذي قال به سابقاً.
وعلى الصعيد السياسي، اصدر السيد الصدر فتوى بتحريم الانتماء إلى حزب البعث أو المنظمات التابعة له. وقد كان من خطورة الفتوى، كما يقول المؤلف، ان عدداً من وكلاء السيد الصدر في مدن عراقية مختلفة لم يذيعوا امرها. ومن اجل اذاعتها، لجأ السيد الصدر إلى اسلوب تشجيع طلابه لطرح السؤال عن الانتماء إلى حزب البعث في دروسه المعتادة في الحوزة، فيعود إلى الافتاء بما اصدره سابقاً وكان متوقعاً ان يحصل الصدام بعد ذلك مع السلطة الحاكمة، ولكن المؤلف يقول ان الضربة القاضية جاءت من ايران. وقد اذاع الامام الراحل السيد الخميني من ايران رسالة اعتمد فيها على ما وصله من اوساط علمائية نجفية، بان السيد الصدر عازم على ترك الحوزة. وكانت رسالة السيد الخميني توصي الصدر بالبقاء في الحوزة. ويقول المؤلف ان السيد الصدر، ورغم الاخطار التي تهدده بالسجن أو الاعدام، فانه لم يكن عازامً على ترك الحوزة، حسبما اخبره السيد فضل الله في مقابلة مع المؤلف. وكان لنشر رسالة السيد الخميني وجواب السيد الصدر عليها اثره على الشارع العراقي حيث خرجت المظاهرات في عدد من المدن العراقية. وكانت النجف مركزاً للتظاهر، حيث قدمت الوفود من مختلف المدن للاعلان مبايعتها للسيد الصدر، وحظت بمقابلته. ثم ان السيد الصدر طلب من الناس التوقف عن المظاهرات، لما فيها من كشف للعناصر الإسلامية وتعريضها للخطر المحتمل، وانّه اخبر عضواً في حزب الدعوة عليهم الحذر من الهدوء الحذر الذي تبديه السلطة، لان ذلك ينطوي على مخاطر خفية .
وجاءت الضربة المتوقعة حيث ان السلطة القت القبض على وكلاء السيد الصدر واعضاء حزب الدعوة الإسلامية، وتعرّض السيد الصدر نفسه إلى الاعتقال. وقد ذهبت شقيقته بنت الهدى لاثارة المشاعر فى حضرة الامام علي (ع) ودعوة الناس للتظاهر والالتفاف حول قائدهم. وعلى اثر اعتقال السيد الصدر خرجت التظاهرات في بغداد والبصرة وديالى والسماوة والكوت والديوانية وكربلاء والمدن العراقية الاخرى. ويقول ان اسواق النجف اغلقت وبدت المدينه وكأنها محاصرة. واضطرت الاحتجاجات الشعبية السلطة إلى اطلاق سراح السيد الصدر. وظهر للسلطة مقدار التأييد الشعبى الذي يحظى به السيد الصدر وانّه اصبح يمثل قائداً وطنياً معارضاً، وان وجوده صار يشكل خطراً على السلطة. واراد البعثيون قص اجنحة السيد بعزله عن انصاره من حزب الدعوة والوسط العلمائي. وهكذا بدأوا بحملة اعتقالات واسعة لعناصر حزب الدعوة والعلماء، ويقول ان السلطة وصلت في هجمتها إلى حد اعتقال عدد من العلماء الذين عرفوا بتعاونهم مع السلطة وتأييد مواقفها، ولكنه لا يعطي سجلا باسماء هؤلاء. ويقول بان السجلات الحكومية تشير إلى احكام بالاعدام وصلت 258 حكماً، من مجموع 22 محاكمة. ووضع السيد الصدر تحت الاقامة الجبرية. ويقول المؤلف ان فاضل البراك، مدير الامن العام في شهر آب من عام 1979، طلب من السيد الصدر، اثناء استجوابه، ان يصدر بياناً يتنصل فيه من الجمهورية الإسلامية في ايران ويعلن تأييده لسياسة النظام تجاه ايران. ولما رفض السيد الصدر ذلك، خفف البعثيون من مطالبتهم، وارسلوا الشيخ عيسى الخاقاني لمفاوضة السيد الصدر، وان يطلب منه الموافقة على واحد من خمسة امور، هي: اصدار بيان بتأييد سياسات الحكومة، مثل تأميم النفط والحكم الذاتي للاكراد، اصدار فتوى بتحريم الانتماء إلى حزب الدعوة، التراجع عن فتواه بتحريم الانتماء إلى حزب البعث، سحب تأييده للامام الخميني والحكومة الايرانية، السماح لصحيفة عراقية أو عربية لها صلة بالنظام في اجراء مقابلة معه. ولكن السيد الصدر رفض ذلك، وقال، كما نقل عنه الشيخ النعماني: «انّ كل ما كنت اطمح إليه في الحياة واسعى له فيها هو ان تقوم حكومة للاسلام في الارض. والآن بعد ان اقيمت في ايران بقيادة السيد الامام، فانّ الموت والحياة عندي سواء، لان الحلم الذي كنت احلم به واتمنّى تحقيقه قد تحقق والحمد لله».
وبادرت الحركة الإسلامية المؤلفة من حزب الدعوة الاسلامية ومنظمة العمل الاسلامي، إلى السلاح، لما رأت ما يتعرض له القائد الصدر من مضايقة. ويستعرض المؤلف بعضاً من فقرات الصراع الدامي. ويذكر المؤلف ان السيد الصدر هرّب ثلاثة رسائل اثناء الاقامة الجبرية المفروضة عليه، موجه إلى الشعب العراقي. وطرح السيد الصدر نفسه امام الشعب باعتباره قائداً لهم، وطالب الحكومة بالحقوق الدينية والسياسية للشعب، بعربه واكراده، وسنته وشيعته. ويضيف ان السيد الصدر خاطب البعثيين انفسهم، ووصف قادتهم بأنهم خالفوا مبادىء الحزب الذي ينتمون إليه، وطالب حزب البعث الحاكم بفسح المجال امام الشعب للتعبير عن رأيه الصريح في النظام لمدة اسبوع واحد. وطلب من الشعب في احد بياناته ان ينهض للاطاحة بالحكم القائم وان يقيم حكومة اسلامية في محله. وسارعت اجهزة الامن إلى القاء القبض على السيد الشهيد واعقتلته في 5/4/1980 ونقلته إلى مديرية الامن العامة في بغداد، ثم سلمت جثته بعد ثلاثة ايام إلى عمه السيد محمد صادق الصدر في النجف، لكي يدفن سرّاً. واما «بنت الهدى» فلم يعرف لها اثر، والاعتقاد الشائع انها قضت نحبها شهيدة. وقد نقل المؤلف عن ابن عم للسيد الصدر خبراً مثيراً مفاده ان هناك احتمال بنجاة العلوية الطاهرة من المذبحة وان آل الصدر يؤملون ذلك. وقد اذاع الامام الخميني بعد اسبوعين خبر استشهاد السيد الصدر واخته بنت الهدى وطلب من الشعب العراقي والجيش قلب النظام الحاكم.
وفي ختام بحثه، يطرح عزيز جملة من الاستنتاجات، هي: ان السيد الصدر في رأيه دخل المعترك السياسي عن طريق الصدفة، ولم يكن قد خطط للموضوع تخطيطاً شاملاً. وانّه كان منصرفاً إلى دراسة الفقه، الا انّه دفعه صديقه وزميله السيد طالب الرفاعي للدخول في حزب الدعوة وعرّفه على المؤسسين. وقد رأى فيه هؤلاء خير وسيلة لاضفاء الشرعية على عملهم السياسي في وسط الحوزة في النجف والتي هي بعيدة عن السياسة. وانّه اصبح فقيه الحزب، كما انّه، وبعد نشره كتاب «فلسفتنا» اصبح منظّر الحزب. وفي السنوات التالية رأى الاسلاميون الحركيون من العلماء وغيرهم ان وصول السيد الصدر إلى مقام المرجع الاعلى سوف يساعد كثيراً، وامّلوا الخير في ذلك. وكان توليه المقام المذكور عدى مدى قام قوسين أو اقرب. فكان هؤلاء يرون ان توجس المرجعية من الدخول في السياسة سوف ينتهي بوصول السيد الصدر إلى مقام المرجع الاعلى للشيعة. ويقول المؤلف أيضاً ان السيد الصدر وضع في السنتين الاخيرتين من عمره نحو المعارضة العلنية للسلطة بتأثيرين، الاول القيادة: الايرانية، والثاني: حزب الدعوة الإسلامية وبعض المقربين منه وممن كانوا متحمسين للثورة الايرانية. ولم يكن السيد الصدر مقتنعاً بان الوقت مناسب للتحرك. أو بالعبارة التي ينقلها عنه «الشروط الموضوعية» لم تكن مهيأة. وان السيد الصدر لم يكن راضياً عن المظاهرات التي نظمها حزب الدعوة لتأييده، نظراً لما توقعه من خطر. ويقول ان السيد الصدر لو كان عالماً بأن الظروف مهيأة، لما اشار إلى الخطر وتحسب له. ولكن القيادة الايرانية شرعت ببرنامجها للتحريض على السلطة، فطلبت في اذاعتها العربية من الشعب العراقي الوقوف خلف قيادة السيد الصدر وقلب النظام القائم . ويعطي المؤلف مثالاً على تدخل الايرانيين، فيقول ان السيد الصدر ادخل المستشفى عام 1979، فطلب احد العلماء الايرانيين من السيد طالب الرفاعي كتابة رسالة موجهة إلى السيد الصدر يُعرب فيها عن تمنياته بالشفاء العاجل. فلما كتب ذلك، رفض العالم الايراني الرسالة لانها مهادنة ولم تحتو شيئاً من الهجوم على صدام وحزب البعث، فرفض الرفاعي كتابتها، لان ذلك يضع حياة السيد الصدر في خطر. واستمر الايرانيون في مطالبتهم الشعب العراقي التظاهر والالتفاف حول قيادة السيد الصدر. ويقول المؤلف ان السيد الصدر وجد نفسه امام مأزق حرج، فان اندافعه مع مطالب الجماهير التي تطالب بقيادته هو على الضد من قناعته الشخصية، ولكنه كمرجع يفترض فيه الوقوف إلى جانب هؤلاء الذين يطالبون برعايته وقيادته في مواجه الطغيان. ويضيف المؤلف بأن القيادة الايرانية والحركة الإسلامية العراقية ربما لم يكونا على اتصال ومشاورة مع السيد الصدر، وانّه سمع النداءات الايرانية من الاذاعة، كما ان التظاهرات التي خرجت لنصرته كانت عفوية. ونقل عن عضو في حزب الدعوة هو احمد كبة الذي ساهم في اخراج المظاهرة في مسجد الخضراء الذي يصلي فيه السيد الخوئي في النجف عام 1978، قوله انّه لم تكن لديه اوامر من الحزب لاخراج التظاهرة وكانوا، بالاحرى، ضدها، ولكنهم تبنوها بعد نجاح الثورة الإسلامية في ايران. ويقول المؤلف بان حزب الدعوة رحّب بالتظاهرت واستعملها كوسيلة ضغط على المرجعية، مرجعية السيدين الصدر والخوئي، لكي تقوم بتحرك مماثل لما فعله السيد الخميني، وان قيادة الحزب كانت مقتنعة بأن الظرف اصبح مناسباً. وخطأ القيادة، كما يقول عزيز هو في توهمها ان الجماهير العراقية والنظام الحاكم لهما نفس خصائص الجماهير التي ثارت في ايران والسلطة التي واجهتها. وهذه الحسابات الخاطئة، كما يقول، هي التي اضطرت السيد الصدر واتباعه لدفع الثمن غالياً. وينقل خبراً مرسلاً، مفاده ان السيد الخوئي وعبر ممثله في الكويت نصح السيد الصدر بعدم التورط في صراع سياسي مع الحكومة البعثية، لانها لا شك ستقتله، في وقت تحتاج فيه الحوزة إلى علمه وخدماته.
لقد توقفنا طويلاً عند الورقة السابقة، نظرا لكونها الوحيدة التي اهتمت بحياة السيد الصدر ونشاطه السياسي بشكل تفصيلي. ولا نجد في دراسة شبلي ملاط معلومات تفصيلية عن حياة السيد الصدر، لانصراف جهده نحو الجوانب الدستورية والاقتصادية. ومن الامور التي يذكرها، مما لم تسجله البحوث الاخرى، ان ارضية التجديد في الوسط الحوزوي قامت على كتابات ونشاطات الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وان السيد الصدر وصل مرحلة الاجتهاد في عصر قياسي في تاريخ الفقه الشيعي، وان الصلة بين السيد الصدر والامام الخميني كانت ضعيفة، ويذكر ان السيد الصدر التقى بالامام الخميني في عام 1967 للاتفاق على تحريك الاُمّة ضد اسرائيل، وينقل نصاً للسيد الصدر يندد فيه بأمريكا واسرائيل، وهو مأخوذ من افتتاحية كتبها لمجلة «الاضواء» ونشرت ضمن «رسالتنا». ويلتفت ملاط إلى فكرة طريفة، وهي ان علماء العراق لم يركزوا على القضية الفلسطينية بالشكل الذي احتلته هذه القضية لدى الامام الخميني واتباعه. والسبب في رأيه ان التوجه القومي للنظام في العراق وكثرة مطالبته الظاهرية بالقضية الفلسطينية قد صرف العلماء عن هذا الموضوع بعد 1968، في حال ان الامام ومؤيديه كانوا يواجهون سلطة لها علاقات مع اسرائيل، وهي حكومة الشاه، وبالتالي، فهم كانوا يحرجون الشاه بهذه المطالبة. ويذكر قصـة الالقاب في الرسائل المتبادلة بين الامام الخميني والسيد الصدر بعد الثورة، وهو ما ذكره عزيز ايضاً، كما انّه يورد أيضاً ان السيد الخوئي كتب إلى الامام الخميني معطيا اياه لقب «حجة الإسلام» ويدلل بذلك على المنافسة في اوساط العلماء، وينقل عن السيد محمد حسين فضل الله ان كبار العلماء في الحوزة (وعلى رأسهم السيد الخوئي ـ كما يقول المؤلف نجحوا في تطويق التحرك السياسي الاسلامي في اوساط الستينات، ثم انّه ينقل عن مصدر باللغة الفارسية، رسالة من السيد الخميني إلى ولده السيد احمد، تحتوي كما يقول إلى اشارة إلى السيد الصدر في مجال المزاحمة على المرجعية .
التفكير السياسي عند السيد الصدر
يتعرض شبلي ملاط في القسم الاول من كتابه إلى التفكير الدستوري عند السيد الصدر، ويولي عناية خاصة لما كتبه اثناء، وبعد، انتصار الثورة الإسلامية في ايران، وهي البحوث التي جمعت ونشرت في كتاب «الإسلام يقود الحياة». ولكن الباحث يشير أيضاً إلى انّه حاول البحث عن اصول التفكير الدستوري عند السيد الصدر في شبابه، وتباحث في ذلك مع الشهيد السيد مهدي الحكيم، فأفاده بأن السيد الصدر اعد دستوراً في بداية الستينات. ويقول ملاط ان استشهاد السيد الحكيم في الخرطوم عام 1988 حال دون التوسع في هذا المجال . ويقول ان السيد الصدر لم يتعرض لقضية الحاكم الاسلامي في كتابه «اقتصادنا» لانه افترض تطبيق هذا الاقتصاد في ظل حكم اسلامي موجود اساساً. وهذا جزء من خلو الكتاب من البحث المذهبي حول شخصية الحاكم، وبالتالي المواصفات التي يتطلبها الفقه الشيعي في الحاكم. وهو يرى ان توجه السيد الصدر نحو البحث الدستوري جاء بتأثير من الثورة الاسلامية في ايران.
يقول المؤلف ان محاضرات السيد الخميني حول «الحكومة الإسلامية» قررت مبادىء عامة ولم تتطرق إلى جوانب تفصيلية، ولذا فان الثورة وجدت نفسها في حالة فراغ بعد انتصارها. ولكن السيد الصدر قام اثناء الثورة، وقبيل نجاحها، بوضع صيغة دستورية ضمنها في اجابته على رسالة بعث بها علماء لبنان، لسؤاله عن تركيبة الدولة القادمة. وتؤلف اجابته كراس «لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية». وقبل ان يدخل في شرح ومناقشته الـ «لمحة» يطرح المؤلف الاساس القرآني لنظرية السيد الصدر السياسية، وذلك من خلال شرحه للآية الكريمة (انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) «المائدة 44». ويتوسع المؤلف في قراءة تفسير السيد الصدر لها في رسالته الموجزة «خلافة الإنسان وشهادة الانبياء» ويقارنا بباقي التفاسير. ويقول ان السيد الصدر اعتمدها للتدليل على مسؤولية العلماء في الشهادة على الأمة وانهم امتداد لخطي النبوة والامامة. ومن طريف ما يذهب إليه المؤلف في دراسته المقارنة ان الشهيد سيد قطب استعمل الآية نفسها بمعنى مضاد، فهو يأخذ الجانب السلبي للعلماء من احبار ورهبانيين حينما يتخلون عن دور الشهادة ويحرفون الكتاب لكي يرضوا اصحاب السلطة. ويقول المؤلف ان سبب ذلك هو ان سيد قطب كان يواجه علماء من هذا النوع، وكان لا يرغب في تولية مسؤولية الهية كبيرة للازهر. ويقول ان السيد الصدر بتركيزه على دور المرجعية في هذا الكتاب فأنه ابتعد عن الصفة العمومية للحاكم الاسلامي التي جاءت في اقتصادنا، نحو تصوّر شيعي محدد.
ويطرح المؤلف أيضاً التصور الفلسفي للدولة الإسلامية عند السيد الصدر، من خلال رسالته «منابع القدرة في الدولة الإسلامية». ويرى ان هناك جانبين، هما: المستوى العقائدي للدولة، والاساس النفسي لها في تكوين الفرد المسلم. وفي الوقت الذي يرد فيه السيد الصدر ان قيمة الدولة الإسلامية انها «تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً للمسيرة الإنسانيّة وتطرح صفات لله واخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير، فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية»، فان الجانب الآخر الذي يركّز عليه هو جانب: «تحرير الإنسان من الانشداد إلى الدنيا». وهذا امر له قيمته في زمن كان السيد الصدر فيه معني بأمر الثورة. ويرى السيد الشهيد ان التصور الاسلامي عن العدالة ليس امراً نظرياً، بل جرى تطبيقه في حياة النبي «ص» والامام علي «ع» ومن ثم يدرس السيد الصدر اثر التجربة التاريخية على مكانة العقيدة الإسلامية في حياة الفرد المسلم. ويرى ان العقيدة مهما بهت لونها، فانها «تشكل على الرغم من خفوتها وعدم اتقادها عاملاً سلبياً تجاه اي اطار حضاري أو نظام اجتماعي لا ينبثق فكرياً أو آيديولوجيا من الإسلام، لانها «الجماهير المسلمة» تؤمن، ولو نظرياً على الاقل، بأن كل اطار أو نظام لا يستمد قواعده من الإسلام فهو غير مشروع . وبقي المسلمون يسارعون إلى الجهاد حينما يصبح الإسلام في خطر، ويلتزمون بدفع الحقوق المالية الشرعية، كالزكاة طواعية. ويقول المؤلف ان هناك القليل مما يذكره السيد الصدر حول «المنابع» عدى اظهار تميز الدولة الإسلامية وتفردها عن غيرها، ولكنه يشير إلى الحاح السيد الصدر على مبدأ «الزهد» في مجال النظرة الغيبية وقيمتها في التطبيق الاسلامي، حيث يقول السيد: «وأما إذا البست الارض اطار السماء واعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوّة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة، وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية.
ويقف المؤلف بشكل تفصيلي عند «لمحة» السيد الصدر ويرى انها حين كتابتها لم يكن هناك شكل دستوري جاهز، لانها انجزت قبل ايام قليلة «نحو ستة ايام» من انتصار الثورة الإسلامية في ايران. ويرى انها تمثل المخطط الاولي لدستور الجمهورية الإسلامية في ايران. ويقول ملاط ان السيد الصدر سبّاقاً في طرح المقام المتميز للفقيه في نظريته الدستورية، في حال ان الدستور الذي اعلنته اول حكومة ايرانية بعد الثورة في 18 حزيران 1979 لم يحتو على ذكر لولاية الفقيه. ويذكر أيضاً ان الـ «لمحة» ترجمت إلى الفارسية ونشرت باللغتين العربية والفارسية في ايران بشكل واسع. ويقول ان تأثيرها في الاوساط العلمائية «الحوزة» لاشك فيه، كما انّه يفترض وجود تأثير لها على الصياغة النهائية للدستور الايراني، نظرا لكونه يحتوي الكثير من مفرداتها. وينطلق السيد الصدر من تصور دستوري محدد، هو: ان الدولة الإسلامية «تقوم على المبادىء التشريعية التالية في الفقه الاسلامي:
1ـ لا ولاية بالاصل إلاّ لله تعالى.
2ـ النيابة العامة للمجتهد المطلق العادل الكفوء.
3ـ الخلافة العامة للامة على اساس قاعدة الشورى التي تمنحها حق ممارسة امورها بنفسها، ضمن اطار الاشراف والرقابة الدستورية من نائب الامام.
4ـ فكرة اهل الحل والعقد التي طبقت في الحياة الإسلامية والتي تؤدي بتطوريها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى، وقاعدة الاشراف الدستوري من نائب الامام إلى افتراض مجلس يمثل الاُمّة وينبثق عنها بالانتخاب».
على ضوء ذلك يرفض السيد الصدر، نظرية القوة والغلبة «هوبز» ونظرية التفويض الالهي الاجباري، نظرية العقد الاجتماعي «روسو ولوك وغيرهم» ونظرية تطور الدولة عن العائلة «انغلز». ويرى ان «الدولة ظاهرة نبوية» وهي تصعيد للعمل النبوي، بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية.
ويرى المؤلف ان الدستور الايراني لعام 1979، تضمن فقرات مطابقة لما يذهب إليه السيد الصدر، ويشير إلى الفقرات 2 و5 و56. ويشير إلى كل من السيد الصدر والامام الخميني، والدستور الايراني يعطي الفقيه القائد أو المرجع المطلق «الصدر» أو الفقيه العالم العادل «الخميني» أو رهبر «الدستور» هو الذي يملك القرار النهائي في الدولة. ومن حيث ان الدولة الإسلامية تقوم على القانون، فان السيد الصدر يذهب إلى مساواة القائد مع الافراد العاديين في المجتمع امام القانون. ويقول الامام الخميني، وكذلك الدستور الايراني، بهذا المبدأ أيضاً كما بيّن المؤلف. ويقرر السيد الصدر مبدأ فصل السلطات في النص التالي: «ان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد اسندت ممارستهما إلى الاُمّة، فالامة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور. وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى» . ويذهب السيد الصدر في لمحته الدستورية إلى ان الاُمّة تمارس صلاحياتها في اختيار رئيس الدولة، بعد موافقة المرجعية، وتمارس نفوذها من خلال انتخاب برلمان أو مجلس اهل الحل والعقد. وهذا المجلس يولي تثبيت اعضاء الحكومة الذين يختارهم رئيس الدولة، كما ان المجلس يتولى التشريع، ضمن ما يقع في «منطقة فراغ» . ويقول ملاط بأن الدستور الذي يقترحه الصدر يحتوي على الفقرات التقليدية في المنحى الدستوري الحديث، ويتضمن فصل السلطات الثلاث، كما انّه يقر تكوين «ديوان المظالم» أو «محكمة عليا» للتحقيق في التجاوزات التي تحصل في المواضيع السابق ذكرها. ولكن الجديد في الصيغة التي يقدمها السيد الصدر، هو الموقع الذي يوليه للمرجعية، باعتبارها سلطة منفصلة لها حق الاشراف والتوجيه. وهذا أيضاً ما يقول به الامام الخميني في نظريته عن ولاية الفقيه والدستور الايراني.
ويشكل ملاط على هذه النظرية من جانبين، الاول من جهة الصلاحيات التي يمتلكها الفقيه في الدولة، والثاني من جهة تركيب جهاز المرجعية الذي يتولى القيادة. وفي الاتجاه الاول، يرى ان السيد الصدر يعطي الفقيه مسؤولية تحديد الموقف الدستوري للدولة وقيادة الجيش ومهمات الدفاع وهو الذي يجيز ترشيح الراغبين في المنافسة على رئاسة الدولة أو انهم يسميهم لهذه المهمة، وهو الذي يعيّن القضاة، كما انّه يقرر شرعية ما يتوصل إليه مجلس اهل الحل والعقد. وفي حال ان الامام الخميني يقول برأي مشابه لرأي السيد الصدر، فان الدستور الايراني وضع مسؤولية الاشراف على اعمال مجلس الشورى في يد مجلس صيانة الدستور. ويقول المؤلف ان هذا تعقيد في مستوى السلطات في الدولة الإسلامية وانّه ادى إلى تناقضات وصراعات يستعرضها المؤلف في فصل مستقل ، ويرى ان موقف السيد الصدر اكثر تبسيطاً وأقرب إلى صيغة الحل العملي. ويرى في الاتجاه الثاني ان تكوين المرجعية وطريقة عملها في زمن الدولة الإسلامية امر يحيطه الغموض. ونظرا لثقل المسؤولية الملقاة على عاتق المرجع، فان السيد الصدر يقترح تكوين مجلس المرجعية حيث «يقوم بتأليف مجلس يضم مائة من المثقفين الروحانيين ويشتمل على عدد من افاضل العلماء في الحوزة وعدد من افاضل العلماء الوكلاء وعدد من افاضل الخطباء والمؤلفين والمفكرين الاسلاميين، على ان يضم المجلس ما لايقل عن عشرة من المجتهدين وتمارس المرجعية اعمالها من خلال هذا المجلس» . ولكن ملاط يعترض على كون هذا المجلس يمتلك اعلى سلطة في البلد، ومع ذلك فان نتيجة «تعيين» والتعارض في نظره هو ان اختيار اعضاء المجلس مرتبط بشخص المرجع وحده، في حال ان المسؤولية التي يتحملها المجلس هي مسؤولية جماعية. ثم ان السيد الصدر ينيط بالمجلس مهمة اختيار المرجع ذاته، فقد وضع في الصفات التي يشترط توفرها في المرجع «ان يشرحه اكثرية اعضاء مجلس المرجعية ويؤيد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية» . والمشكلة عنده تتركز في طريقة اختيار المرجع، فحينما يقول السيد الصدر ان «المرجعية حقيقة اجتماعية في الاُمّة تقوم على اساس الموازين الشرعية العامة» ، فهو يفترض طريقة اجتماعية متعارفة في اختيار المرجع اعتادها الشيعة منذ تأسيس الاجتهاد عندهم، ولكن هل تتفق هذه الطريقة مع التحديدات الدستورية التي يتطلبها تكوين الدولة؟ وما هو اثر التحديد الدستوري لمنصب المرجعية على المنافسة بين الفقهاء، خصوصاً وانها كانت اقرب ماتكون إلى الانتخاب الطبيعي؟ اما الموازين الشرعية التي يقرها السيد الصدر فهي تشترط على المرجع المتصدي للقيادة «ان تكون مرجعيته بالفعل في الاُمّة بالطرق الطبيعية المتبعة تاريخياً» . ويرى المؤلف ان هذه القضية كانت محلولة اثناء حياة الامام الراحل الخميني، ولكن امرها ليس بالسهولة المتوقعة بعد رحيله. ويستعرض المؤلف من فصل خاص موضع النظرية من التطبيق والمشكلات التي تعرضت لها في ضوء التجربة الايرانية، وهي مما يقع خارج نطاق هذه المقالة.
وتقوم جويس وايلي بتحديد الخطوط العامة للفكر السياسي عند السيد الصدر، مبتدأة بمركزية فكرة الدولة الإسلامية عنده. وتقول وايلي ان السيد الصدر حل مشكلة العلماء الشيعة الذين يتساءلون عن دورهم في فترة الغيبة، فالسيد يقرر ضرورة العمل لاقامة الدولة الإسلامية. وستكون الدولة في رأيه عاملاً مؤثراً في توجيه الافراد نحو الالتزام العملي بالاحكام الشرعية نتيجة للجو الذي تخلقه والتسهيلات التي تقدمها. ووضع الصدر مسؤورية العمل بهذا الاتجاه على العلماء والجماهير المؤمنة. وحول تصور السيد الصدر للدولة فان المؤلفة تحاول التخفيف من حدة التصور الذي عرضه ملاط، والمشابهة بينه وبين الامام الخميني، وتحاول اعطاءه صبغة ديمقراطية. وتقول ان السيد الصدر يرى ضرورة تأليف مجلس تؤدى عملية الشورى عن طريقه ولكنها لا تعرض ذلك من خلال السياق العام لنظريته. كما فعل ملاط، وانما تجتزأ الفكرة لوضعها في الاطار الذي اشرنا إليه. ثم انها تقول ان السيد الصدر لم ينط بالعلماء مسؤولية تولي الحكم، وانما اعطاهم مهمة الاشراف فحسب، وان مهمتهم التقليدية هي شرح القانون واصدار الحكم الشرعي. وهذا، على ما يبدو، تفسير مبسط، ان لم نقل مختلف، لما ذهب إليه السيد الصدر. وفي وصفها للسلطات الدستورية في الدولة الإسلامية، كما يراها السيد الصدر، تقول انّه ترك امر الهيئة التنفيذية والتشريعية إلى الناس، ولم يبيّن كيفية اختيار السلطة القضائية ، كما انّه لم يبيّن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتعطي مستويات السلطة عند السيد الصدر وفق المخطط التالي:

وتقول ان السيد الصدر كان سباقاً في اقتراح الشورى طريقة لاختيار السلطة التنفيذية في الدولة الإسلامية. ولكنها تشير أيضاً إلى ان الحكومة الإسلامية في رأي السيد الصدر ليست هي حكومة الاغلبية، لانها في رأيه خضوع الإنسان للانسان، في حال ان العبودية هي لله تعالى. وتقول أيضاً بأن الحكومة التي يتولى فيها الفقهاء تفسير الشريعة، ولا يملك الناس حق تغيير القانون الالهي، ليست حكومة ديمقراطية في جوهرها. وحول الوصول إلى مرحلة الدولة، ترى ان السيد الصدر اعزى انحراف المجتمع عن الخط الاسلامي إلى تخلف حركة الفقه وابتعاد الفقهاء عن السياسة وان الفقهاء توسعوا في تبيان الاحكام الشرعية الفردية، ولم يهتموا بالتشريعات العامة التي يتطلبها المجتمع والدولة. وطريقة السيد الصدر في الوصول إلى الدولة هي تحريك جماهير الاُمّة وتحرير ارادتها للتعبير عن طاقاتها المختزنة. وتضع الاختلاف الاساسي بين نظرية السيد الصدر في الحكومة و«ولاية الفقيه» كما يقول بها الامام الخميني، في ان الامام الخميني يضع السلطة كاملة في يد الفقيه، بينما يعطي السيد الصدر المرجع مهمة الاشراف على القوانين التي تصدرها الدولة والتأكد من مطابقتها للشريعة.
قضية الشيعة والسنّة
تدفع جويس وايلي بقوة شبهة الطائفية عن الحركة الإسلامية الشيعية في العراق، وهي تحتج بحجتين، هما: ان هذه الحركة جزء من الظاهرة الإسلامية التي نشاهدها في مختلف اقطار العالم الاسلامي. وان كتابات رائدها، السيد الصدر، لا تحمل اية صبغة طائفية. وتترك الباحثة القضية عند هذا التصور الاساسي ولا تخضع ادبيات الحركة الإسلامية، وكتابات السيد محمد باقر الصدر، لدراسة تفصيلية على ضوء ما هو مطروح هنا. وهي أيضاً تعرّج في مواضيع اخرى من الكتاب على المظاهر اللاطائفية في تاريخ الحركة الإسلامية الشيعية، مثل التعاون مع «الحزب الاسلامي»، والعلاقات الطيبة بين رواد الحركة الإسلامية السنية، مثل الشيخ امجد الزهاوي والشهيد عبدالعزيز البدري، وعلماء الشيعة في بغداد والنجف الاشرف، ومن طريق ما تذهب إليه المؤلفة هو ان حزب الاخوان المسلمين وحزب الدعوة، اشتركا عام 1960 في تأسيس حزب علني اجيز هو «الحزب الاسلامي» وكان الاستاذ «الدكتور حالياً» نعمان عبد الرزاق السامرائي رئيساً له والسيد الشهيد مهدي الحكيم ممولاً له . وتشير في موضع آخر إلى علاقة علماء الشيعة، مثل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وآية الله البروجردي، وتعاونهم مع اخوانهم من السنة، وفتوى الشيخ محمد شلتوت بخصوص المذهب الشيعي.
وقد اهتم شبلي ملاط بهذه القضية فأفرد لها بحثاً مفصلاً، درس فيه هذه المسألة على ضوء المواقف العملية والكتابات النظرية. ويرجع ملاط بداية الحوار الشيعي ـ السنّي إلى مؤتمر النجف عام 1743 الذي دعا له نادر شاه، ملك فارس. وقد اتفق فيه الطرفان على محو خلافاتهما، وعدم التوقف عند حوادث الفترة الاولى من تاريخ الإسلام. ولكن هذا الاتفاق لم يدم بسبب اوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية، تتعلق بالصراع بين العثمانيين والايرانيين. ومع ذلك فالمؤلف يرى ان وجود هذه السابقة، يدل على امكانية تكرارها، وهو ما حصل فعلاً في ثورة العشرين، ولكن مثل هذا التقارب لم يحصل في العهد الجمهوري، لا من قبل السلطة، ولا من قبل شيعة الجنوب. ويقول ان خطاب الحركة الإسلامية تردد بين «الإسلامية العامة» و«المذهبية الضيقة». وقد انتصرت بفعل اجراءات النظام والحرب العراقية الايرانية. برغم كل محاولات طرح صورة «اسلامية عامة».
ويفحص ملاط كتابات السيد الصدر لملاحظة المجال الذي اخذته قضية الشيعة والسنة وكيف تأثرت الحركة الإسلامية بذلك. ويقرر ان كتب السيد الاربعة: «فلسفتنا»، «اقتصادنا»، «البنك اللاربوي في الإسلام و«الاسس المنطقية للاستقراء» تخلو من اية اشارة طائفية، وانّه اخذ في كتابه «اقتصادنا» من مصادر شيعية وسنية على السواء. ولكن العالم الشيعي النجفي لا يستطيع ان يتغاضى عما هو مطلوب منه مذهبياً، ولذا هو مضطر إلى ايجاد بحث مذهبي. وفي الوقت نفسه، فان تصديه للسياسة يفرض عليه التخفيف من لهجته الشيعية. والنزعة الشيعية تظهر عند السيد الصدر في كتابه الاول: «فدك في التاريخ» الذي يدرس فيه قضية فدك، ارث فاطمة الزهراء «رض» من والدها النبي محمد «ص». ويقول ان الحقيقة التي تقود نظر السيد الصدر في نقاش هذه القضية هي حق الامام علي «رض» في الخلافة، وان قضية فدك هي المظهر الذي تجلى فيه افتراض السياسة الجديدة عن خط الرسول «ص». ولكن السيد الصدر لم يتعرض في كتابه لشرعية خلافة الشيخين، وانّه ذكرهما باحترام وكان يقول «رضي الله عنهما».
وقد كتب السيد الصدر كتابه السابق عام 1956، وعلى امتداد العشر سنوات القادمة فانه لم يطرح قضية شيعية بشكل تفصيلي سوى مقال منفرد في افتتاحية مجلة «الاضواء» ، وان ذكر التقية في مقال آخر . ولكنه في عام 1966 القى محاضرة بعنوان «دور الائمة في الحياة الإسلامية» ، شرح فيه المبادرات الايجابية للائمة رضي الله عنهم في الحفاظ على الإسلام في عصور توالت فيها انظمة جائرة. وكانت هذه بداية سلسلة محاضرات جديدة في الفترة 1968 – 1969، جمعت فيما بعد تحت عنوان «اهل البيت.. تنوع ادوار ووحدة هدف» القصد منها إظهار الجانب التربوي والاعداد الروحي عند الائمة، في مقابل الدور السياسي. والائمة عند السيد الصدر يمثلون خط الإسلام الصحيح الذي لا يقاتل الشيعة وحدهم في سبيله، بل المسلمون من اتباع المذاهب الاخرى. والائمة عنده يمثلون خطاً فكرياً لا يتحدد بزمنهم وانما يمتد على مساحة زمنية عريضة، تشمل تتابع الاجيال. ويقول ملاط ان الطريقة التي طرح السيد الصدر بها تصوره لدور الائمة «عليهم السلام» حاولت تجنب المجابهة مع السنّة واثارة النزاع الشيعي ـ السني التقليدي، كما انّها تطرح صورة تاريخية تضعف من طابع المنافسة الشيعية ـ السنية في بعض المواقف التاريخية الاساسية. ولكن تناول السيد الصدر لحياة الائمة عليهم السلام، يعكس في رأيه الاثر الشيعي العميق في شخصية هذا القائد العراقي. ويخلص إلى ان الفكرة الاساسية في تفكير السيد الصدر، هي ان بداية الانحراف في التاريخ الاسلامي، جاءت مع اخذ اشخاص آخرين لمقام خلافة النبي «ص» من الامام علي «رض».
ويقول الملاط ان السيد الصدر اتبع محاضراته هذه في النصف الثاني من السبعينات ببحثين هما: «بحث حول الولاية» و«بحث حول المهدي»، وهما يحملان صفة مذهبية صريحة. وطرح السيد الصدر قبيل انتصار الثورة الإسلامية نظريته عن دستور الجمهورية الإسلامية، وهي تقوم على التصور الشيعي لمقام الفقيه، كما انّه كتب أيضاً بحثاً عن خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، لخص فيه نظرية شيعية عن القيادة، واشتقها من تفسير الآية 44 من سورة «المائدة»، الوارد ذكرها سلفاً . ويرى المؤلف ان السيد الصدر تردد بين «الإسلامية العامة» و«المذهبية الضيقة» وان طائفية السلطة الحاكمة، والقسوة التي واجهت بها العلماء، دفعت علماء النجف نحو التركيز على تقوية القاعدة الشيعية. ولكن هذا يأتي، في المطاف الاخير، على الضد مما قصد إليه السيد الصدر في بياناته إلى الشعب العراقي قبيل استشهاده وخاطب فيها عموم الشعب، سنيه وشيعيه، عربه وأكراده. ويقول المؤلف في ختام بحثه: «ان عجز السيد الصدر واصحابه في تجاوز الشق الشيعي ـ السنّي في خطابهم السياسي، بالرغم من كل محاولاتهم لارساء نظامهم الاقتصادي والمنطقي والفلسفي في القالب الاسلامي العام، يجعل تركة المذهبية الضيقة من الثقل بحيث انّه يصعب تصحيحها في زمن الشدّة».
التفكير الإقتصادي عند السيد الصدر
يفرد الدكتور شبلي ملاط فصلاً موسعاً لتقديم كتاب «اقتصادنا» للقارىء الغربي والوسط الاكاديمي الناطق بالانكليزية. ويمهد لذلك بوصف الكتابات الإسلامية في المجال الاقتصادي باللغتين العربية والانكليزية، فيرى ان الكثير منها تاه في العموميات، وانها على كثرتها في الآونة الاخيرة تفتقد إلى الدقة العلمية في تشخيص المسائل المعروضة. ويرى ان التراث الاسلامي في بحث قضاية الاقتصاد كان متوقفاً عند ما كتبه ابن خلدون. ويعتبر كتاب السيد الصدر «اقتصادنا» في مطلع الستينات، ومن بعده كتاب «البنك اللاربوي في الإسلام» فتحاً جديداً. ويقول ان القاهرة كانت سباقة في طرح مشكلة «الربا» وانها صارت محوراً لنقاش ساخن في مصر، دخل فيه الازهر والحكومة، ولكن تجديد السيد الصدر هو انّه لم يطرح سؤال: مع أو ضد الربا، وانما طرح صيغة متكاملة لطريقة عمل بنك خال من الربا. اما في مجال الاقتصاد الاسلامي، فانه كان حقلاً بكراً. ويستعرض المؤلف الكتاب كاملاً، ثم يذكر اهمية الكتاب وانّه اصبح في عداد الكتب المدرسية التي وجدت طريقها إلى الجامعات العربية والإسلامية، وخصوصاً في مصر وان اقرب عمل في هذا المجال في الاطار الشيعي هو كتابات محمود الطالقاني وحسن الشيرازي، وفي الوسط السني، سيد قطب وعلال الفاسي، ولكنه يضعف من اهمية هذه الكتابات ويؤكد اصالة وتميز كتاب السيد الصدر. ويورد المؤلف نقداً للكتاب من جهـات سنّيّة في مصر ، ظهـر في مقال وكتاب يحاول ان يضفي على الكتاب طابعاً طائفياً، ويفند ملاط ذلك ويثبت ان الكتاب خلو من اي منحى مذهبي في اصول اكتشاف المذهب أو في الاحكام الشرعية التي استمد بناءه منها، وان رأيه في ملكية الاراضي مثلاً تقع حول اختلافات قادمة من صراعات معينة داخل كل مذهب، وتفسيرات متعددة داخل المذهب الواحد، وليس اتجاهاً طائفياً.
ويقارن ملاط النظام الاقتصادي الذي يقترحه السيد الصدر مع التجربة الإسلامية في ايران، خصوصاً في مجال استصلاح الاراضي، ويظهر الاختلافات الكبيرة بين الذين يذهبون إلى الملكية العامة واعادة توزيع الاراضي «مجلس الشورى» وانصار الملكية الخاصة «مجلس صيانة الدستور»، وبدأ هذا الصراع مع لائحة الشهيد بهشتي وآخرين، والبند «ج» فيها، وامتد طوال فترة الثمانينات. وظهرت خلال هذه الفترة لوائح اخرى، وقاد الصراع ذاته إلى مشاكل دستورية، انتهت بتأليف «مجلس تشخيص المصلحة» وحل جزئي للاشكالات القائمة، ولكنه يترك مجال بحثها عند هذه النقطة.
ولا تزيد وايلي في استعراضها لكتاب «اقتصادنا» على فقرة أو فقرتين تعطي فيها شيئاً من مبادئه العامة. وتفعل الشيء نفسه مع «البنك اللاربوي»، ولكنها، ونظراً للاطار الذي تحاول ان تخرج فيه افكار السيد الصدر، تجعله مؤيداً لـ «التحديث الاقتصادي». وتقول ان منطلق السيد الصدر في ذلك الآية الكريمة: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةّ) «الانفال60/». وانّه يفسر الآية بما يشمل القوة الاقتصادية. والمعنى الذي يقول به السيد الصدر، قد يختلف عمّا تعنيه المؤلفة بـ «التحديث».
ويصدر ملاط حكمه على تفكير السيد الصدر في خاتمة هذا الفصل، فيقول ان الكتابة عن مجال لم توجد له سابقة في التراث الاسلامي أمر صعب وما هو موجود يدور في اطار الاحكام الشرعية. ثم ان تناوله بلغة حديثة يستوجب الالتزام بالمفردات الحديثة المصاغة من قبل الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. ويقول ان السيد الصدر كان في موقع متميز، فقد تعامل مع التراث الفقهي مباشرة، اعتماداً على تكوينه الفقهي وخبرته في هذا المجال، كما انّه كان مطّلعاً على الكتابات الحديثة. ويمتدح ملاط السيد الصدر لكونه لم يغال في الاقتصاد الاسلامي فيجعله علماً لان هذا مطلب صعب، وانما ميّز بينه وبين العلم، وسماه «مذهباً». ويستدرك المؤلف فيقول ان السيد الصدر لم يكن رجل اقتصاد، ولذا فان البعض قد يجد اخطاء في كتاباته. ولم يجد ملاط خطأ يؤشر عليه، لانه هو نفسه ليس اقتصادياً وانما هو رجل محاماة.
واضح جداً ان ملاط يهتم بالناحية القانونية، ووايلي تهتم بالناحية السياسية، ولذا فان طرحهما للتفكير الاقتصادي عند السيد الصدر يتوقف عند العرض ولا يتجاوزه إلى الرؤية النقدية النافذة، وهذا ما يفعله رجل الاقتصاد ذو الخبرة المناسبة. ومن هنا تأتي اهمية المقال الموجز والمهم، للدكتور علي علاوي، حول («اقتصادنا» بعد ربع قرن). يتحدث الكاتب في مقدمة بحثه عن صعوبة طرح موضوع «الاقتصاد الاسلامي» في الستينات والسبعينات. ويقول ان التعبير لوحده قد يثير اشكالات كثيرة، في عالم تعود على صياغة علم الاقتصاد بمصطلحات ريكاردو وكينز وماركس وآدم سميث. وان اقصى ما كان متوقعاً من «الاقتصاد» هو ادخال المجتمعات الإسلامية ضمن الاطر العامة للتحليل الاقتصادي، كحالة خاصة. ويكون الاقتصاد بذلك فرع صغير من نظريات النمو والتطور الاقتصادي. وقد دخل العالم الاسلامي مجال الاهتمام بعد ارتفاع اسعار النفط في السبعينات، وقامت محاولات لتطوير «اقتصاد اسلامي» يتمحور حول الخطوط العامة للاقتصاد العالمي. واخذ الاقتصاد الاسلامي يبدأ بالظهور استجابة لحاجات قطاع يعتبر نفسه متديناً، على امتداد الخارطة الإسلامية. ولم يكن المقصود من هذه المحاولات وضع تصور اسلامي اصيل ومتميز. ولا توجد في هذه الدراسات اشارة إلى مجهود السيد محمد باقر الصدر وانجازه في هذا المجال، وجرى التعامل معه من منطلق طائفي. ويقول الكاتب انّه في فترة نهاية السبعينات اطلع على بحث السيد الصدر عن «البنك اللاربويو. ويقول انّه كان يسمع بمكانة السيد الصدر واحتمال تصديه للمرجعية، ولكن البحوث دلته على ان علاقة السيد الصدر باحتياجات المؤسسة المالية لم تكن مجرد علاقة سطحية بل انّه ينطلق من معرفة اعمق من ذلك، مما دفع الباحث إلى تقصي بحوثه الاخرى، وهكذا تعرّف على «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، وانّه وجد في الكتاب الاخير اثارة اكثر للأسئلة والتفكير. وادهشه أيضاً عمق اطلاع السيد الصدر على المصادر الماركسية. ووجد ان السيد الصدر ينقض الماركسية بشكل شامل، ومن خلال حججها ذاتها. وقد نقل له اشخاص آخرون ان كتاب السيد الصدر انجاهم من الوقوع تحت تأثير الماركسية. ولكن الكتاب كما يقول علاوي، يمكن استعماله، بشكل معكوس، واعتباره خير دليل للتفكير الماركسي. وهو كتاب لا يلجأ إلى الحشو اللفظي والحيل البلاغية، وانما يحتوي على محاكمة عقلية هادئة وخالية من التشويهات.
ويرى الكاتب ان «اقتصادنا» نقل المناقشة من «الاقتصاد الاسلامي» إلى «الاقتصاد في الإسلام» حيث ان السيد الصدر نظر إلى الاقتصاد باعتباره جزءاً من كل، وليس بناء على اقتصاد قائم. وان نقده للماركسية واسع وشامل، ولكن نقده للرأسمالية ناقص ومحدود ولا يشكل كثر من 1/12 من الكتاب. وهذا يظهر اثر الزمن على الكتاب، ففي حين ان التحدي في زمن السيد الصدر، كان صعود الشيوعية، فان التسعينات تقدّم صورة معكوسة تتهدم فيها الشيوعية ويتحقق نوع من السيادة للرأسمالية، ويقول لو ان السيد الصدر كان حيّاً لتوسع في نقد الراسمالية ولاختزل نقد الشيوعية، ولو ركز جهده بدلاً من ذلك على نقد اقطاب الفكر الرأسمالية، مثل كينز، فريدمان، فون هايك وميسز. ويقول ان الكتاب بحاجة إلى اعادة كتابة ولكن السيد الصدر هو الوحيد الذي بامكانه القيام بمثل هذا العمل. ان اوضاع العالم الاسلامي، والاوضاع العالمية قد تغيرت بشكل كبير. وهذا يفرض في رأيه مراجعة ثلاثة امور في الكتاب، هي: صرف النظر عن نقد الماركسية، التحول من نقد الرأسمالية إلى نقد «اقتصاد السوق»، ومدّ مناقشة اقتصاديي القرن التاسع عشر إلى النظريات الاقتصادية الحديثة، واخيرا طرح تصورات واقعية عن الكيفية التي يعمل الاقتصاد الاسلامي من خلالها، مع ما يتضمنه ذلك من الموازنة بين الطرح الايديولوجي والامثلة العملية، مثلاً كيفية تطبيقه في التجربة الإسلامية في ايران.
وحول قيام «اقتصاد اسلاميو يقول الدكتور علاوي ان السيد الصدر كان واقعيا في تصوره ان مثل هذا الاقتصاد لا ينفصل عن اسلمة المجتمع. ويرى علاوي في ضوء الظروف العالمية الحالية ان تحقيق الاقتصاد الاسلامي يأتي عن طريق واحد من الاساليب التالية: طرح برنامج اسلمة من خلال رؤية سياسية اسلامية محددة، فيكون الاقتصاد الاسلامي ناتج عرضي لمسألة الاسلمة. والاسلوب الثاني: هو مفصلة الاقتصاد الاسلامي على الصيغ الاقتصادية الغربية، ويتولد عن هذا الاسلوب نوع من البنوك الإسلامية والمؤسسات التي تعتمد مبدأ «التكافل» بينما سيستمر افراد المجتمع في اختيار الكون الاقتصادي الذي يرغبون في التعامل معه. والاسلوب الاخير هو اعتماد المبادرة الذاتية لمجموعات اسلامية متقاربة في الفهم، وهي تتعامل يوميا بالشؤون المالية. ومثال على ذلك الجاليات الإسلامية في الغرب.
التفكير الفلسفي عند السيد الصدر
لا نجد الكثير من المناقشة للتفكير الفلسفي عند السيد الصدر في كتاب ملاط، عدا ملاحظاته حول التوجه العام لكتابي «فلسفتنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء». وفي رأيه ان الكتابين لا ينتميان إلى تراث العالم المتصدي للاجتهاد، ولذا فهما اقل اصالة من بحوثه الاخرى. ويقيم الكتاب الاول تقييما سلبياً، فهو يشك في موازناته للبحث الفلسفي المعاصر، ويشكك في اضافته لفلسفة ملا صدر الدين الشيرازي، ويشك في قيمته بعد سقوط التصور الماركسي الستاليني البوليتزيري، ويقول ان هذه الادبيات الماركسية، والنموذج الفلسفي الماركسي الذي تقدمه، اصبحت متجاوزة في الاوساط الماركسية. وبخصوص «الاسس المنطقية للاستقراء» يقول ملاط ان الاهتمام بها جاء من خلال مناقشات علم الاصول، ولكن السيد الصدر نقل المناقشة إلى مجال الفلسفة الحديثة وصارعها في ميدانها الخاص، واستخدم مصطلحات جديدة طوّر بها نقاش قضية الاستقراء في اللغة العربية، ويرى ان الكتاب جزء من مشروع اوسع واضخم، ولكنه مع ذلك كان اضعف كتب السيد الصدر، في رأيه، للصعوبات التي ينطوي عليها هذا الموضوع، وبكلمة اوضح، هو يرى ان السيد الصدر غير مؤهل للبحث في هذا الموضوع.
واما جويس وايلي فانها لا تذكر الكثير عن هذا الموضوع، ولكنها تلخص بعض تصورات السيد الصدر. وترى وايلي ان الفرد والمجتمع لهما شخصية قائمة في نظر السيد الصدر، فالامة وجود معنوي متحقق، لورود ذلك في الآية الكريمة (كل امة تدعى إلى كتابها) (الجاثية/28) وانّه يرى علّة المجتمع الغربي هي في تفضيله مصلحة الفرد على ما عداها، وانّه يرى التحرر في الانعتاق من جميع الالهة الكاذبية، ومن الاطماع المادية والنزوات، وتسلط العباد على العباد. وتلفت المؤلفة النظر إلى ان السيد الصدر في تقديمه للمفهوم الالهي للعالم، يلاحظ ان هذا المفهوم لا يعني التخلي عن العالم الطبيعي وعلاقاته السببية، وترى ان اتباع السيد الصدر استفادو من منهجه، واتجهوا نحو دراسة الموضوعات العلمية في الجامعات والمدارس.
والبحث الوحيد الذي اعتنى بالتفكير الفلسفي عن السيد الصدر عن بحث ط. عزيز عن «معنى التاريخ». وقد بذل فيه جهداً يستحق التقدير، لانه اعاد تركيب افكار السيد الصدر في هذا المجال من مختلف كتاباته. والمهمة الرئيسية التي يتولاها الكاتب هي تلخيص وجهة نظر السيد الصدر، ومقارنتها بالنظرة الفلسفية الغربية لموضوع «وجهة التاريخ». والفلاسفة والمفكرون الاكثر ذكراً في المقالة هم: هيغل، ماركس، والقديس اوغسطين، وافلاطون، ومن الاسلاميين: ابن خلدون.
وخلاصة ما يذكره عزيز، ان السيد الصدر يرى ان حوله التاريخ يتحرك بحركة سببية وفق انماط محددة. وان الإنسان والعالم من حوله مخلوقان لله تعالى، فلابد ان ينطوي خلقهما على معنى. وان حركة التاريخ لا يمكن تفسيرها من داخلها باعتبارها حلقة مكتملة، وانما لها جانب مفارق لها، هو البعد الالهي. وهناك في رأيه وجهان لحركة التاريخ: الوجه المادي المحكوم بعلاقات طبيعية سببية، والوجه الميتافيزيقي، حيث تمتلك فيه الارادة الالهية السيطرة على غايات حركة التاريخ. ولذا فان حركة التاريخ في نظر السيد الصدر هي الهية في غاياتها، واجتماعية في تأثيرها على الحياة الإنسانيّة. ويخضع التاريخ لثلاثة اشكال من السنن، هي السنن الاختيارية (الشرطية) والسنن الطبيعية (التي تكون على شكل الاتجاه العام في التاريخ، وقد يحيد عنها الإنسان ولفترة من الزمن ولكنه لا يستطيع ان يستمر على ذلك لفترة طويلة، والسيد الصدر يرى إن الدين سنة مصاغة على شكل الاتجاه العام في التاريخ)، واخيراً السنة الجبرية (المصاغة على شكل القضية الوجودية الناجزة).
ويستعرض الكاتب مراحل التاريخ عند السيد الصدر، وهي: مرحلة الحضانة (من خلق آدم وحواء وحتى نزولهما إلى الارض)، مرحلة الوحدة (مرحلة الفطرة)، مرحلة التشتت التي سوف تنتهي بمجيء الامام المهدي (عجل الله فرجه). ويسمي المرحلة الاولى «الحضانة» لان آدم وحواء (ع) كانا فيها مصانين من شرور العالم الفيزيائي. وفضّل الإنسان على الملائكة بثلاثة امور، هي: قدرته على التعلم، ممارسته للارادة الحرّة، واخضاعه لمبدأ الثواب والعقاب. ويفسر المواجهة بين آدم (ع) وابليس بأنها كانت تحريكاً للامور الثلاث المتقدمة واستفاد منها الإنسان، بالنتيجة، تجربة روحية، بطلب الغفران من الله تعالى، وتمت قدرته العقلية إلى الحد الذي يؤهله لاستلام دور الخلافة على الارض. وفي المرحلة التالية تطورات قدرات الإنسان الاجتماعية، واكتشف انّه لا يستطيع العيش بمفرده، وكان مجتمعه آنذاك، اقرب إلى مجتمع الفطرة، والإنسان الطبيعي، كما تصوره لوك وهوبز وروسو. اما المرحلة الثالثة فقد بدأت مع ظهور الاختلاف في الجماعة البشرية وتضارب مصالح الافراد. ويختلف الصدر عن ماركس في تفسيره لاصل الاختلاف، فماركس يراه متأسساً في نمو وسائل الانتاج، اما السيد الصدر فو يفنّد رأي ماركس في ان وسائل الانتاج وتطورها هو الذي اثر على طبيعة الإنسان في جوانب مثل، اللغة والتفكير، ويظهر ان وجود هذه الملكات عند الإنسان هو الذي اثّر في تطور وسائل الانتاج وليس العكس.
ويذهب السيد الصدر ان حركة التاريخ هي صراع مستمر بين طرفين بين اولئك الذين يحاولون الحفاظ على مصالحهم والابقاء على الظلم، واولئك الذين يفضلون الثورة لقلب نظام الاستغلال واستبداله بنظام عادل. وهناك نوعان من الثورات، الاولى تهدف إلى تغيير الجانب المادي من الاستغلال، والثانية تقوم على التسليم الكامل لله سبحانه وتعالى واستيحاء صفاته من عدل وحق ومساواة، لتحقيقها في عالم الناس. والانبياء عليهم السلام هم اصحاب الصنف الثاني للثورات. وهدف النبوة ليس ازاحة التناقضات الاجتماعية، بل حل مشكلة التناقض الداخلي للانسان ذاته. وقاد الانبياء (ع) الإنسان إلى خوض معركة الجهاد الاكبر (جهاد النفس) باتجاه الجهاد الاصغر (الجهاد في اطار المجتمع)، وازالة كل اشكال الاستغلال. وكان الانبياء يهدفون إلى اقامة نظام عادل يضمن حقوق الافراد ضمن البناء الاجتماعي. ومن هنا فقد ارتبط نشوء الدولة بعمل الانبياء (ع)، على عكس ما تراه الماركسية.
ويقول ان عناصر حركة التاريخ عند السيد الصدر، هي: الإنسان والطبيعة والله. وهذا يتطابق مع الاشكال الثلاثة للسنن التاريخية: الشرطية والجبرية والاتجاه العام. ويدخل الإنسان في ثلاثة علاقات اساسية: العلاقة الاجتماعية مع اخيه الإنسان، العلاقة الاقتصادية مع محيطه الطبيعى، وعلاقة الاستخلاف مع الله سبحانه وتعالى. ويرى السيد الصدر ان الإنسان هو القوة الفاعلة في حركة التاريخ، وان العلاقة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى هي التي تفسر التاريخ، ويضعف من دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية، لانها في نظره انتاج ثانوي للفعل الإنساني وهذه نقطة خلاف اساسية مع الماركسية. كما ان بواعث حركة التاريخ تختلف عند السيد الصدر عن غيره، فهو يراها قائمة في «المثل الاعلى» الذي يختاره الفرد والجماعة البشرية. ويشرح الكاتب هذه الفكرة بشكل تفصيلي، لا يتكلم عن كل الاشكال للمثل الاعلى التي طرحها السيد الصدر وناقشها واظهر قصورها، وكونها في نتيجة سيرها الطويل، عامل اعاقة لحركة التاريخ. ويرى السيد الصدر ان الله هو المثل الاعلى الحقيقي الذي يمكن ان يسير الإنسان نحوه دون توقف، لان الله تعالى هو المطلق. ومسيرة الإنسان نحو الله امر ضروري وسنة مركبة في خلق الكون ذاته. والإنسان اما ان يسير نحو الله عن وعي أو بدون وعي . الاول يسميه السيد الصدر تحرّك «مسؤول» والثاني «غير مسؤول». والحركة المسؤولة عند الله هي ما يعتبر في الفقه الاسلامي عملاً عباديا. وفي تقدمه هذا، سوف يسوق الإنسان الاشكال القاصرة للمثل الاعلى ويعرج في طريق لا حدود له ولا توقف، وانما تطور مستمر.
والتاريخ في رأي السيد الصدر يمر بحركة لولبية صاعدة نحو الله. وفي هذا الطريق تتبع الإنسانيّة مثالاً ما وتنساق خلفه في حركة تنقلها إلى موقع جديد، ولكن المثال يصبح قاصراً بعد فترة، فتعاق الحركة التاريخية، وتبدأ الإنسانيّة بالتطلع نحو مثال آخر. ولكن الرسالات السماوية تقدم مثالاً بديلاً ينجي الإنسانيّة من متاهتها ويدخلها في افق مختلف. ورغم ان الرسالات السماوية قد هدت الإنسانيّة نحو المثال الافضل، فان التجربة التاريخية عرضت صوراً مختلفة من هبوط الإنسان وانحرافه عن هذا المثل، وهو ما يديم حالة الظلم. والانتصار الكامل للمثال الالهي يتحقق مع مجيء الامام المنتظر، وبعد تراكم حالة الظلم وتفاقهما . وسوف تزال كل اشكال الظلم وتتطور الإنسانيّة في افق جديد، ينعم فيه الإنسان بالتدرج في الكمالات الروحية، ويقول الكاتب ان هذا مطابق لنظرية صدر الدين الشيرازي (الملا صدرا) الذي تكلم عن «الحركة الجوهرية» في صلة الروح والجسد. كما انّه يقارن رأي السيد الصدر مع «مدينة الله» التي قال بها القديس اوغسطين، والتي تعتمد على عودة السيد المسيح (ع). الفارق بين الاثنين هو ان الإنسان يبذل سعياً وجهداً في النظرية الإسلامية ويتعرض طوال التاريخ إلى صعود وهبوط في مسيرته الروحية والاجتماعية، في حال انها تمثل خطاً واحداً في نظر القديس اوغسطين، هو البراءة من «الخطيئة الاصلية». وان هذا لا يتحقق الا مع عودة السيد المسيح (ع).
ملاحظات ختامية
حاولنا في هذه المراجعة تقديم آراء الكتّاب بامانة وبالشكل الذي يفي بحاجة القارىء الذي لا يحسن الانكليزية، لكي يطلع على الكتابات القيمة حول فكر وحياة السيد الصدر.
ونود ان نسجل الملاحظات التالية:
1ـ حول حياة السيد الصدر: يلاحظ تأثر الباحثين بوجهات نظر الاشخاص الذي قابلوهم، فجويس وايلي تأثرت مثلاً بعدد من الشخصيات الإسلامية العراقية التي تحاول ان تقدم الحركة الإسلامية في صورة مقبولة من الغرب. وحاولت وضع مواقف السيد الصدر الفكرية في اتجاه متضاد نسبياً مع الامام الخميني والثورة الإسلامية في ايران، والحت في كتابها على صفة الانفتاح في الحركة الإسلامية العراقية مقابل ما وصفت به فكر الامام الخميني والتجربة الإسلامية في ايران. ولا نقصد من ذلك ان وجهة نظرها جاءت بايحاء من الاشخاص الذين قابلتهم، ولكنها وظفت ذلك في الاتجاه الذي تريده، مستفيدة من الصورة التي وضعت امامها. وتأثر ط. عزيز بالتاريخ الذي رواه له السيد طالب الرفاعي. ودفعه ذلك إلى تجريد السيد الصدر من تاريخه السياسي وتقليص صورته بحيث نراه دفع إلى العمل السياسي، من دون ان يكون لديه الميل والاستعداد. وهذا امر يصعب تقبله، إذا ما التفتنا إلى ما كتبه السيد الصدر نفسه في اوراق نشرت تحت عنوان «المحنة» (كتبت في اول السبعينات) . وذكر كيف انّه امتحن نفسه وهو يواجه الشيوعية، وانّه واجهها بدافع اسلامي خالص، وان تسلطها على العراق حزّ في نفسه كثيراً. ولعل المؤلف يريد القول ان السيد الصدر لم يكن سياسياً بالمعنى المتعارف عن السياسيين، وان مهماته العلمية اخذت الكثير من وقته، فهذا امر قابل للنقاش. كما انّه لو اشكل على حكمة السيد الصدر السياسية، لكان ايضاً موضوعاً قابلاً للأخذ والرد، ولو اراد ان السيد الصدر دفع إلى اتخاذ موقف بعينه، لكان ذلك ايضاً امراً محتملا، ولكن كيف نفسر مسيرته الطويلة إذا جردناه من المشروع السياسي ومن العمل باتجاه تحقيق هذا المشروع، وهو الذي قال ان ثورة ايران الإسلامية حققت حلمه؟! ثم ان تاريخ الحركة الإسلامية في العراق لم يكتب بشكل تفصيلي. والربط بين السيد الصدر والحركة الإسلامية لا يتعدى العموميات الغامضة، وليست لدينا معلومات تفصيلية عن طبيعة علاقة السيد الصدر بحزب الدعوة الإسلامية مثلاً خلال الستينات والسبعينات. وما هو الاطار الذي كان ينسق السيد الصدر من خلاله مشروعه السياسي؟ وما هي علاقته الفعلية بالقيادة والعناصر المتقدمة في الحزب خلال الفترة ذاتها؟ ما الذي كان يريده من الحزب وما الذي كانوا يريدون منه؟ والاجابة على هذه الاسئلة ربما تلقي ضوءاً جديداً على الدعوى التي يقول بها عزيز.
2ـ لا يختلف الكتّاب في الاشادة بطاقة السيد الصدر الفكرية. وان ادقهم في التعبير عن ذلك الدكتور شبلي ملاط. وقد كتب في اطروحته الجامعية فقرة رائعة يصف فيها السيد الصدر، يقول: «ان قيمة السيد الصدر هي: كما يبدو، في قدرته على تقديم رؤية جديدة عن الاسئلة المطروحة في صميم التغييرات التي تعصف بالمجتمع وفي اثبات طاقته العقلية كعالم شيعي».
3ـ حول «فلسفتنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء»: لم يدرس الكتابان دراسة دقيقة، ولم يحظيا بأكثر من تعليقات ملاط. ونعتقد ان قيمة «فلسفتنا» هو في المنهجية التي قدمها وطريقة مناقشة الافكار المطروحة. ولا خلاف على رصانة نقده للماركسية، خصوصاً وان الكتب التي تعرض اليها تعتبر كتباً اساسية ولم يجر التخلي عنها بالصيغة التي وصفها المؤلف. وآراء انغلز وماركس وتسي تونغ ما تزال تتردد في الادبيات الماركسية، ولذا يبقى نقدها قائماً. ثم ان الكتاب يقدم تجربة بالامكان احتذاؤها في نقد الافكار، بالاضافة إلى كونه مدخلاً قيما لقراءة تاريخ الفلسفة. واما «الاسس المنطقية للاستقراء» فانه ما يزال عرضة لاخذ ورد، لا يقومان على قراءة متكاملة ودقيقة.
4ـ ما يزال العراق يعيش حالة مأساوية لم تحسم بعد. وما تزال الظروف السياسية داخل الوسط الاسلامي العراقي وخارجه، تفرض حذراً مبالغاً فيه عند التعامل مع فكر الشهيد الصدر وتاريخ الحركة الإسلامية. وقد تثير الاسئلة الكثيرة والبحث الدقيق حساسيات خاصة. وينتج عن ذلك ان البحوث المنشورة في اللغة العربية، والمقابلات التي تجرى بصورة مستمرة، يغلب عليها واحد من ثلاثة عناصر: المجاملة والمبالغة الاعلامية والانحياز. ولهذه العناصر اشكال محددة تنعكس فيها وطريقة خاصة في بناء البحث والاستنتاج. وربما تقدم البحوث التي عرضناها في هذا المقال صورة لما يمكن ان يقود إليه البحث الدقيق الخالي من العناصر السابقة من استنتاجات. وينبغي ان يسود نوع من الثقة بالنفس، يسمح بطرح الصورة التاريخية كما حصلت فعلا، وان يناقش الافكار بغض النظر عن الاشخاص والظروف التاريخية الخاصة، وهي مرحلة لا اعتقد اننا سندخلها إلى فترة من الزمن قد تطول.

عبد الرحيم حسن