مقدّمة الشهيد الصدر: ليست «فلسفتنا» قصّة كتابٍ فكريٍّ فحسب، ولا قصّة كيانٍ فلسفيٍّ انتظم في سطور وفصول فقط، وإنّما هي إلى ذلك قصّة محنة الإسلام الهائلة، التي شاءت الظروف أن يقف فيها الإسلام وجهاً لوجه أمام عدوٍّ مارد يحاربه في كلّ الميادين والمجالات، في المجال العقائدي والفلسفي، وفي المجال الاجتماعي والخلقي.. ويحاول أن يقضي على الإسلام بوصفه القوّة الروحيّة الوحيدة لهذه الأمة.
ولم تكن المشكلة أنّ الإسلام واجه عدوّاً صلباً عنيداً، وإنّما المشكلة هي أنّ الإسلام واجه هذا العدوّ الطاغي في وقت منيت الأمّة فيه بالانخفاض الفكري والروحي إلى أبعد الحدود، ممّا يهدّد كثيراً من أبنائنا بفقدان المناعة الذهنيّة والنفسيّة ضدّ السموم المعادية.
وهكذا قدّر للكثير أن يواجهوا عقيدة جديدة في إطارٍ علميٍّ جذّاب تشمل الكون والحياة، وتصبّهما في قالبها المادي الخالص، وتستعين في سبيل سيطرة تلك العقيدة وامتلاكها القيادة الفكريّة بالأدلّة الفلسفيّة والعلميّة المزعومة من ناحية، وبالتضليل والتمويه الفكري وإظهار الفكرة في أشكال مزوّرة من ناحية ثانية، وبألوان الإغراء ومختلف الوعود التي تُكال دون حساب لهذه الملايين من أمّتنا الإسلاميّة الشقيّة ـ بواقعها الفاسد الذي تعيشه ـ من ناحية ثالثة.
ولا شكّ في أنّ دعوةً فكريّةً تملك كياناً فلسفيّاً وعلميّاً وقدرةً على النفاق والتمويه في المجال الفكري، ووعوداً جذّابة تستهوي أفئدة الناس.. لهي دعوةٌ خطيرةٌ يجب أن يحسب لها ألف حساب. فهي من ناحية كيانها الفلسفي والعلمي تغزو الذهنيّة الفلسفيّة والعلميّة للأمّة، وتستطيع أن تنفذ إليها.. خصوصاً إذا كانت الذهنيّة مجدبة من كيان عقائدي راسخ. ومن ناحية نفاقها في المعترك الفكري العام، تستطيع أن تلبس تلك العقيدة غير ثوبها، وتعرضها على الأوساط العامة للأمّة بوصفها نظريّة لا تتعارض مع جذورهم الروحيّة الفكريّة. ومن ناحية وعودها، تستطيع أن تسيّل لعاب كثير ممّن يسلمه فساد الواقع إلى الاستسلام لمحاولة كلّ تغيير.
وهكذا نجد أنّ الخطر يمتدّ من القمّة إلى القاعدة.. من العقل العلمي والفلسفي إلى الناس الذين يطلبون شيئاً من السعادة والاستقرار، فلا يجدونه في واقعهم.
فكان لا بدّ من إحباط كلّ الأساليب التي يملكها العدو، ومكافحته في كلّ الدرجات والمستويات.. في مستوى الوعود التي كان يغري بها الجماهير، وفي مستوى الأوساط التي كان يخدعها بنفاقه ويوهمها بأنّ عقيدته الجديدة لا تتعارض مع دينهم وعقيدتهم، وكذلك أيضاً في المستوى الأعلى على الصعيد الفلسفي والعلمي.
وكان نصيب «فلسفتنا» أنّه أخذ على نفسه ـ أو حاول على أقلّ تقدير ـ أن يصارع العدوّ في أعلى المستويات التي يحارب فيها، بتقديم نظرة فلسفيّة أخرى عن التفكير والكون والحياة أعمق وأشمل، ودحض العقيدة الفلسفيّة التي يقدّمها العدو ومناقشتها في مختلف أدلّتها الفلسفيّة والعلميّة.
ولم يكن «فلسفتنا» حاجة شخصيّة أشبعتها، وإنّما كان حاجة أمّة وحاجة مجتمع يريد أن يسمع صوت الإسلام في إطاره الفلسفيّ الكامل. ولهذا كان المجتمع الذي أعيشه يمدّني كلّه بالروح المعنويّة والهمّة والإرادة، حتّى استطعت أن أنجز تأليف «فلسفتنا» خلال شهور يعضدني في ذلك الأخ المفدّى العلامة الجليل السيّد محمّد باقر الحكيم، ويسبغ عليّ العلامة الجليل شيخنا الجعفري[1] فضلاً بوضع فهرس فنيّ للكتاب، ويتفضل عليَّ كثيرٌ من الإخوان بتوفير مصادر البحث اللازمة لي.ح
وجاء بعد طبع الكتاب دور مؤلّفنا الإسلامي المجاهد صاحب هذا الوحي، الذي أبى إلا أن يشارك في أهداف «فلسفتنا»، فقرأ الكتاب، ولكن لا كما قرأه كثيرون، بل قرأه ليستوحي منه، ويضع في ضوئه بحوثاً استمدّها منه، أو تفتّح عنها ذهنه على ضوء مطالعته للكتاب. وجمع البحوث في هذا الكتاب القيّم الذي يدلّ على فضل واطّلاع، وحسن تدبّر وعلوّ همّة. وليس غريباً عن مؤلّفنا الجليل أن يكون كذلك، وهو الذي ساهم بحقّ في خضمّ الصراع بين الإسلام والشيوعيّة مساهمةً فكريّةً وعمليّةً لا تتاح إلا لنوابغ الأفراد أو لأمّةٍ من الناس مجتمعين.
أسأل الله تعالى أن يسدّده في جهاده العلمي والفكري، ويأخذ بيده ويريه ثمرات جهوده المشكورة ونتائج مؤلّفاته القيّمة وعياً وفكراً في الأمة، وثواباً ونعيماً في الآخرة، ويديمه ذخراً للإسلام ومصدر هداية وتوجيه للمسلمين.
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
النجف الأشرف
الراجي عفو ربه محمّد باقر الصدر
«فلسفتنا»:
إنّي لا أريد أن أتحدّث عن كتاب «فلسفتنا» ومؤلّفه، وإن كنت أستوحي منه. ولكنّني أقتطف ما كتبه قرّاؤه الواعون، عن أهميّة الكتاب:
1ـ يقول الدكتور الجواري:
كتاب «فلسفتنا» «… ثقافةٌ فلسفيّةٌ دقيقةٌ عميقةٌ، يستمدّ منها المتخصّص إحاطةً شاملةً تجمع الأشباه والنظائر، وتعكس صور التناقض والتهافت والاختلاف في شتّى الآراء والأفكار، وينتفع بها غير المتخصّص في تثقيف عقله بألوان من الفلسفة جُمعت في تناسق ونظام، وعرضت عرضاً موضوعيّاً أميناً.
وأنا أشهد أنّ فلسفة الإسلام وعقيدته لم تشهد في عصرها الحاضر من أحسن جلائها، وجلا نورها على هذا الوجه الأمين الرزين الدقيق، الذي لم تفعل فيه العاطفة ولم يؤثّر فيه الشعور والانفعال الذاتي [مثل محمّد باقر الصدر]».
«ولعلّ المؤلّف الفاضل ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة في تأريخ الفكر العربي الإسلامي[2]: أوّلهما حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وثانيهما ابن رشد والثالث هو الفيلسوف المسلم المعاصر محمد إقبال، على اختلاف في الطرائق والتفاوت في المسالك…».
وقال الكاتب العربي الكبير[3]:
«… إنّ المؤلّف يعرض في كتابه المفاهيم الفلسفيّة المتصارعة في الميدان وحدودها، ويقدم الإيضاحات الضروريّة عنها، حتى إذا تناول المذاهب الماديّة الديالكتيكيّة الحديثة، درسها دراسةً موضوعيّةً مفصّلة بكلّ خطوطها العريضة التي رسمها «هِگِلْ» و«كارل ماركس» وناقشها واعتمد في ذلك كلّه على الطريقة العقليّة في التفكير.. لأنّ العقل بما يملك من معارف ضروريّة فوق التجربة، وهو المقياس الأوّل في التفكير البشري. وحتى التجربة التي يزعم التجريبيّون أنّها المقياس الأوّل، ليست في الحقيقة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي..
وقد عُني المؤلّف عناية خاصّة بدرس مبدأ العليّة (السببيّة)، وقوانينها التي تسيطر على العالم، وما تقدّمه لنا من تفسير فلسفي شامل. كما بدّد عدّة شكوك فلسفيّة نشأت في ضوء التطوّرات العلميّة الحديثة.
وإذا ما بلغ المرحلة النهائيّة من مراحل الصراع بين الماديّة والإلهيّة (المادة أو الله)، صاغ في بلاغة وإحكام المفهوم الإلهي للعالم في ضوء القوانين الفلسفيّة وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.
هذه نظرةٌ إجماليّةٌ للكتاب.. وإذا أردنا مزيداً من التفصيل قسّمنا الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: هو تمهيدٌ مهمٌّ بين يدي البحوث.
والثاني: يدور حول نظريّة المعرفة.
والثالث: يتحدّث عن المفهوم الفلسفيّ للعالم.
1ـ القسم الأوّل: التمهيد
ففي التمهيد يستعرض صاحبنا أهمّ المذاهب الاجتماعيّة التي يقوم بينها الصراع، فيذكر النظام «الديمقراطي الرأسمالي» والنظام «الاشتراكي» والنظام «الشيوعي» والنظام «الإسلامي». وكلٌّ من النظامين الأوّلين يملك كياناً سياسيّاً يحميه في صراعه مع الآخر:
أمّا النظام الشيوعي، فلم يجرّب تجربةً كاملة، إذ عجزت قيادته عن تطبيقه فلاذت بالنظام الاشتراكي كخطوة نحوه، وظلّ وجوده بالفعل فكريّاً خالصاً.
وأمّا النظام الإسلامي، فمرّ بتجربة ناجحة، ثم عصفت به العواصف بعد أن خلا من القادة المبدئيّين، وظلّ فكرةً أو أملاً في ذهن الأمّة الإسلاميّة.
ويفصل المؤلّف نظام الديمقراطيّة الرأسماليّة «التي تجعل مصالح المجتمع منوطة بمصالح الفرد، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه! وهذا النظام مشبع بالروح المادية الطاغية من دون أن يبني على فلسفة مادية واضحة الخطوط للحياة..»[4]. ثم يعرج على النظام الشيوعي «وطابعه العام إفناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها..»[5].
ولا أنكر أنّ أستاذنا «الصدر» في استعراضه مآسي النظامين، رغم حرصه الشديد على النزاهة وعلى الموضوعيّة، لم يستطع أن يتخلّى عن نظّارته السوداء التي تبرز قتامة المذهبين، ثم يتحدّث عن معالجة المشكلة، ويرى أنّ أمام العالم سبيلين إلى دفع الخطر:
أحدهما: أن يبدّل الإنسان غير الإنسان، وتخلق فيه طبيعةٌ جديدةٌ تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة وبمكاسب حياته الماديّة المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه، مع إيمانه بأنّه لا قِيَمَ إلا قيم تلك المصالح الماديّة.. وهذا السبيل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيّة بتحقيقه ويرَون أن توكل قيادة العالم إليهم.
وأمّا السبيل الثاني: فهو الذي سلكه الإسلام «فلم يبتدر إلى مبدأ الملكيّة الخاصّة ليبطله، وإنّما غزا المفهوم المادي عن الحياة، ووضع مفهوماً جديداً، وأقام على أساسه نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكيّة في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئةً قائمةً لحساب الفرد، بل وضع لكلٍّ منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنويّة والماديّة معاً»[6]. وجعله «يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق للكمال»[7]، «ونصب له مقياساً خلقيّاً جديداً في كلّ خطواته وأدواره، وهو رضا الله تعالى. فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصيّة فهو جائز»[8]، ولا كلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو حماقة.. وإنما المقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأفعال هو مقدار ما يحصل عليه من الرضا الإلهي. فالدين «يربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحبّ الذات المتركّز في فطرته»[9].
والخطُّ العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزيّة في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرّع لحسابه.
2ـ القسم الثاني: نظريّة المعرفة
أمّا القسم الثاني للكتاب، وموضوعه نظريّة المعرفة، فإنّه يتحدّث عن المصدر الأساسي للمعرفة، ويتكلّم في هذا الباب عن نظريّة «الاستذكار الأفلاطونيّة»، والنظريّة «العقليّة» والنظريّة «الحسيّة» ونظريّة «الانتزاع»، حتّى إذا تحدّث عن «الخيوط الأوّليّة التي نسجت منها الأحكام والعلوم، والمبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشريّة في التعليل ويعتبر مقياساً أوّليّاً عاماً لتمييز الحقيقة عن غيرها»[10]، تناول بالدرس المذهب العقليَّ الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلاميّة، والمذهب التجريبي السائد في المدرسة الماركسيّة.
وقد فنّد هذا الأخيرَ في تفصيل وقوّة حجّة، غير منكرٍ في الحين ذاته فضل التجربة على الإنسانيّة، ومدى خدمتها في ميادين العلم. ولكن ما حرص على توكيده وإثباته، هو كونها ليست «المقياس الأوّل والمنبع الأساسي للأفكار والمعارف الإنسانيّة، بل المقياس الأوّل والمنبع الأساسي هو المعلومات الأوّليّة العقليّة التي تكتسب على ضوئها جميع المعلومات والحقائق الأخرى، حتى إنّ التجربة ذاتها محتاجةٌ إلى ذلك المقياس العقلي»[11].
ثم تناول قيمة المعرفة ومدى إمكان كشفها عن الحقيقة، فاستعرض آراء اليونان، وفلسفة «دِكارت» اليقينيّة، وفلسفة «جون لوك» الممثّل الأساسي للنظريّة الحسيّة والتجريبيّة؛ ثم تحدّث عن دور «المثاليّة» في نظريّة المعرفة الإنسانيّة، فتناول بالدرس الاتجاهات المهمّة للـ«مثاليّة الفلسفيّة» و«المثاليّة الفيزيائيّة» و«المثاليّة الفيزيولوجيّة». ثمّ تطرّق إلى فلسفة الشكّ الحديثة، ومذهب «النسبيّة» وحدودها في العلوم البشريّة، وعن اتجاهَيها الرئيسيّين أي «نسبيّة كانت» و«النسبيّة الذاتيّة» التي مهّدت للنسبيّة التطوريّة التي تنادي بها «الديالكتيكيّة».
وقد أفاض المؤلّف في نقضها مبرهناً على أنّ الحقيقة مطلقةٌ وغير متطوّرة: «وإن كان الواقع الموضوعي متطوّراً ومتحرّكاً على الدوام»[12]، كما برهن على أنّ «الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ»[13]، وعلى أنّ «إجراء الديالكتيك الماركسي على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشكّ المطلق في كلّ حقيقة ما دامت في تغيّر وتحرّك مستمرّ. بل يحكم [أي الديالكتيك] على نفسه بالإعدام والتغيّر أيضاً، لأنّه بذاته مدينٌ لتلك الحقائق التي يجب أن تتغيّر بحكم منطقه التطوري الخاص»[14].
3ـ القسم الثالث: المفهوم الفلسفي للعالم
أمّا القسم الثالث من الكتاب، فقد خصّصه المؤلّف للمفهوم الفلسفي للعالم، فاستعرض في تفصيلٍ وعمق، مدارك الماركسيّة وألوان استدلالها على تطوّر الحقيقة والمعرفة، وأسهب في بيان مغالطتها الفلسفيّة، وعلى الأخصّ ما حاولته من اعتبار العلوم الطبيعيّة في تطوّرها الرائع على مرّ الزمن ونشاطها المتضاعف وقفزاتها الجبّارة مصداقاً للحركة التطوريّة في الحقائق والمعارف.. مع أنّ تطوّر العلوم في تاريخها الطويل لا صلة له بتطوّر الحقيقة والمعرفة بمعناه الفلسفي الذي تحاوله الماركسيّة «فالعلوم تتطور لا بمعنى أنّ حقائقها تنمو وتتكامل، بل بمعنى أنّ حقائقها تزداد وتتكاثر وأخطاءها تقلّ وتتقلّص..» [15].
وامتاز هذا القسم بما أورد المؤلّف من تصحيح لأخطاء شائعة، مثل محاولة اعتبار الصراع بين «الإلهيّة» و«الماديّة» مظهراً من مظاهر التعارض بين «المثاليّة» و«الواقعيّة»، «فالواقعيّة ليست وقفاً على المفهوم المادي، كما إنّ المثاليّة أو الذاتيّة ليست هي الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادي، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي، بل يوجد مفهومٌ آخر للواقعيّة هو المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة، ويرجع الروح والمادة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً»[16]. ويصحّح أيضاً الخطأ القائل إنّ المفهوم الإلهي يجمّد مبدأ العليّة (السببيّة) في دنيا الطبيعة.
وبعد ما استعرض المؤلّف أخطاء المفهوم المثالي، تناول دراسة المفهوم المادي واتجاهه الآلي والديالكتيكي، ونقد الديالكتيك كمنطق عام، وكشف عن الأخطاء الرئيسة التي يرتكز عليها، وبرهن على عجزه عن حلّ مشكلة العالم.
وكان المؤلّف موفّقاً في درسه مشكلة الإدراك، وهي هدفُ صراعٍ فلسفيٍّ عنيف بين الماديّة والميتافيزيّة، وفي معالجتها على ضوء مختلف العلوم ذات الصلة بالموضوع من طبيعيّة وفسيولوجيّة وسيكولوجيّة.
ثم كان مبدعاً بليغاً قويَّ الحجّة حين بحث موقف «الميتافيزيقيّة» من «المادة والحركة»[17]، ومن «المادة والوجدان»[18] «فالطبيعة [إذن] صورةٌ فنيّةٌ رائعة، والعلوم الطبيعيّة هي الأدوات البشريّة التي تكشف عن ألوان الإبداع في هذه الصورة، وترفع الستار عن أسرارها الفنيّة، وتموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبّر الحكيم وعظمته وكماله»[19]، ومن «المادة والفيزيولوجيا»[20]، [والمادة والبيولوجيا[21]]، و«المادة وعلم الوراثة»[22]، و«المادة وعلم النفس»[23].. وهنا بلغ الذروة في الإبداع.
إنّني لا أظنّ أنّ صحيفة يوميّة يمكن أن تتّسع لأكثر ممّا أسلفت، ولكنّ الكتاب لا يزال يحتاج إلى دراسة، وهو ممّا يجب أن يتناوله جميع المعنيّين بالفلسفة بحثاً وتدقيقاً.
وإنّني لأمحّض مؤلّفه المفكّر كلّ التقدير، وأتطلّع بشوق إلى إشراق كتابه «مجتمعنا» الذي سيكون المظهر التطبيقي لآرائه في «فلسفتنا».
إنّ عالمنا الذي طغت عليه الماديّة، والذي أصيب بمَحْلٍ روحي، وفشى فيه الجدب الإيماني، سيرى في هذا الكتاب فتحاً مبيناً.
وإنّ المؤمنين الذين يروعهم ما يحتاج العراق اليوم من أعاصير إلحاديّة تذهب بطمأنينته، وتهدف إلى القضاء على إسلاميّته، ويهولهم نشاط المذاهب الإلحاديّة المستوردة، والمبادئ التي تعيش على القلق، وتربو في حمأة الشك، إنّ هؤلاء المؤمنين سيجدون في «فلسفتنا» خيراً كثيراً وينبوعاً إيمانياً غزيراً»[24].
المدخل:
إنّ الغاية المتوخّاة من تقديم هذه الخلاصة عن «فلسفتنا»، هي تقريب البون الشاسع بين «فلسفتنا» ومدارك القرّاء من شبابنا الصاعد، لبناء حياة أفضل على منهاج الإسلام.
وبعبارة أوضح، لتكون سلاحاً بيد الشبيبة الكريمة لانتشال إخوانهم من الشبيبة [العزّل]، والقضاء على الشبهات التي تحصل لهم من جرّاء مغالطات الفكر الماركسي، موضحاً بعض النقاط المهمّة في «المثاليّة» و«الماركسيّة»، ونظرة «فلسفتنا» إليهما.
ولذلك كان حقّاً علينا أوّلاً وقبل كلّ شيء، أن نعلمكم بأنّ «فلسفتنا» هي فلسفة مستقلّة. أي إنّها غير «المثاليّة»، كما إنّها غير «الماديّة».
أمّا كونها ليست بـ «مثاليّة»، فلأنّها تؤمن بوجود واقعي موضوعي خارج عن الذهن البشري.
وكونها ليست بـ «ماديّة»، لأنّها لا تحصر الواقع الموضوعي بالمادة فقط، بل ترى أنّ حقيقة الواقع الموضوعي للمادة ليست حقيقة أوّليّة، أي إنّ المادة ليست كلّ شيء في الوجود، بل هناك وجودٌ لواقع موضوعي خارج عن الذهن وغير المادة أيضاً، كالطاقة مثلاً.
ولمّا كانت الأفكار الضيّقة، أو التي أخذت على عاقتها تضليل شبابنا ترى ـ تبعاً لأسيادها ـ بأنّ الإنسانيّة لا تملك في صرح الوجود سوى نوعين من الفلسفات:
أ ـ الفلسفة المثاليّة.
ب ـ الفلسفة الماديّة.
وذلك على حدّ تعبير النصّ الآتي: «إنّ أيّة ظاهرة من ظواهر الكون والمجتمع لا يمكن تفسيرها إلا من إحدى زاويتين: مثاليّة أو ماديّة»[25]، فإنّنا لسنا بحاجة إلى إبطال هذه المغالطة الواضحة إذا ما عرفنا مكانة «المثاليّة» و«الماديّة» من العقل والعلم.
ما هي «المثاليّة»؟
الفلسفة «المثاليّة» على قسمين:
الأوّل: «المثاليّة القديمة»: وهي من أقدم الفلسفات في تاريخ المعرفة الإنسانيّة، حيث تتّصل حلقاتها بالإغريق القدامى، ولها آراءٌ طويلةٌ عريضةٌ عن الكون والمجتمع لا يمكننا استيفاؤها هنا.
الثاني: «المثاليّة الحديثة»: وهي التي نروم التعرّض لها بشيء من الإيجاز، والفرق واضحٌ بين المثاليّتين، إذ إنّ المثاليّة القديمة تعترف اعترافاً عميقاً بالواقع الموضوعي للكون، وبالحقائق المجرّدة من المادة.
أمّا «المثاليّة الحديثة»، فهي ترفض كلّ الرفض الإيمان بأيّة حقيقة موضوعيّة عدا الذهن والمعاني المدركة.
فهذا «جورج باركلي» وهو أبو «المثاليّة الحديثة» يرى أنّ الكون موجود في ذهنه فقط على حدّ تصريحه المشهور: «أنْ يوجَد هو: أنْ يُدْرِك أو أنْ يُدْرَك»[26].
«فلا يمكن أن يقرّ بالوجود لشيءٍ ما لم يكن ذلك الشيء مدرِكاً أو مدركاً. والمدرِك هو النفس، والأشياء المدرَكة هي التصوّرات والمعاني القائمة في مجال الحسّ والإدراك. فمن الضروريّ أن نؤمن بوجود النفس، ووجود هذه المعاني. وأمّا الأشياء المستقلّة عن حيّز الإدراك ـ الأشياء الموضوعيّة ـ فليست موجودة، لأنّها ليست مُدْرَكة»[27].
والخلاصة أنّه ينكر وجود كلّ شيءٍ بعد العقل، فالنجوم والكواكب والشمس والقمر والجبال والأشجار وكلّ الموجودات لا وجود لها عند «باركلي»، وإنّما الوجود الحقيقيّ للعقل فقط، وإليك نصّه بهذا الصدد:
«إنّ الآراء والأفكار ليست خيالات يتخيّلها العقل، بل هي الموجود الحقيقيّ الذي لا يقبل التغيّر، وهذا ما يجعل وجودها أكثر تحقّقاً وثباتاً من الأشياء الخارجيّة والماديّة الزائلة التي لا ثبات لها، وغير الصالحة لأن تكون موضوعاً للعلوم»[28].
ويتناول «جورج باركلي» في بحثه بعد ذلك الأجسام التي تسمّيها الفلاسفة بالجواهر الماديّة، ليخفيها عن مسرح الوجود قائلاً:
«إنّنا لا ندرك من المادة التي يفترضونها إلا مجموعة من التصّورات الذهنيّة والظواهر الحسيّة، كاللون والطعم والشكل والرائحة وما إليها من صفات»[29].
ما هي الماديّة؟
أمّا الماديّة الماركسيّة، فهي وإن كانت تعترف بوجود الواقع الموضوعي للكون وجوداً مستقلاً عن الذهن البشري، إلا أنّها لا تعترف بوجود أيّ شيءٍ خارجٍ عن دائرة الواقع المادي المحسوس، وعلى هذا ينصّ «فردريك إنجلز»:
«… وإنّ العالم الماديّ الذي تدركه حواسنا، والذي ننتمي إليه نحن أنفسنا هو الحقيقة الوحيدة»[30].
أمّا الآن، وقد أثبت العلم وجود حقيقة موضوعيّة بقضائه على المادة، فقد جاء أستاذ المغالطات ليخرج ماديّته المقبورة في صعيد العلم الحديث قائلاً:
«إنّ دعائم المفهوم المادي عن العالم لا يمكن أن يزعزعها أيُّ تغييرٍ للمفهوم العلميّ لخصائص المادة، ذلك لأنّ المادة لا يمكن أن تفقد هذه الخاصّة الأساسيّة من خصائصها، وهي كونها ـ المادة ـ حقيقةً واقعيّة موضوعيّة»[31].
وهذا النصّ من «اللينيني» يقضي قضاءً تامّاً على الماركسيّة، لأنّه اعترافٌ صريحُ بالحقيقة المطلقة.
كما أكّد على تجاهله لكلّ فلسفة واقعيّة، عدا الواقعيّة القائمة على أساسٍ مادي. ولأجل أن يحلّ التناقض بين المفهوم المادي وحقائق العلم والفيزياء، شرح مفهوم المادة شرحاً غريباً، وأعطاه من السعة والشمول ما جعله يعبّر عن الواقع الموضوعي المستقلّ بالمادة، محاولاً بذلك أن يقدّم «الماديّة» كحلٍّ فلسفي وحيد لمسألة وجود العالم في مقابل «المثاليّة». ومن الواضح أنّ المادة إذا كانت تعبيراً مساوياً للواقع الموضوعي المستقلّ، وكانت خصيصتها الوحيدة اللازمة لها هي موضوعيّتها ووجودها بصورة مستقلّة عن وعينا، فالفلسفة الميتافيريقيّة الإلهيّة تكون فلسفةً ماديّةً تماماً باعتبار هذا المفهوم الجديد للمادة، ويرتفع التعارض نهائيّاً بالتالي بين «الفلسفة الميتافيريقيّة» و«الفلسفة الماديّة» ومفهومها عن العالم.
فالفيلسوفُ الإلهيُّ الذي يؤمن بما وراء الطبيعة يقول نفس الكلمة تماماً عن العالم. فالعالم عنده واقعٌ موضوعيٌّ مستقلٌّ عن وعينا، وليس المبدأ الإلهي الذي تعتقد به الفلسفة الميتافيزيقيّة إلا واقعاً موضوعيّاً مستقلاً عن وعينا.
وإليك اعترافُ «لِنِنْ» بهذا الصدد:
«إنّ تلاشي المادة يعيّن أنّ الحدّ الذي وصلت إليه معرفتنا بالمادة يتلاشى، وأنّ وعينا يتعمّق، فثمّة خصائص للمادة كعدم قابليّتها للاختراق وعدم الحركة والكتلة.. كانت تبدو لنا من قبل مطلقة ثابتة أوّليّة وهي تتلاشى الآن، وقد عرفت الآن بأنّها نسبيّة ملازمة فقط لبعض حالات المادة، ذلك أنّ الخاصّة الوحيدة للمادة التي يحدّد التسليم بها الماديّة الفلسفيّة، إنّما هي كونها ـ أي المادة ـ حقيقة موضوعيّة، وأنّها موجودة خارج وعينا»[32].
والحقيقة أنّ التلاعب بالألفاظ لا يجدي نفعاً ـ ما دامت هناك أفكارٌ له بالمرصاد ـ ، وتوسعة المفهوم المادي إلى حدٍّ يجعله ينطبق على المفهوم المعارض له وينسجم معه لا يعني إلا تخلّيه عن واقعه الفلسفيِّ الخاص، وعجزه عن الردّ على ما يعارضه من مفاهيم.
أضف إلى ذلك أنّ الماديّة الجدليّة لا تسمح لـ «لِنِنْ» أن يعترف بحقيقة مطلقة، لأنّ ذلك يتنافى مع الجدل القائل بتطوّر جميع الحقائق طبقاً للتناقضات المحتواة فيها. فهل الخاصّة الأساسيّة للمادة في مفهومها «اللينيني» الجديد خاصّة مطلقة لا تتطوّر ولا تخضع لقانون الجدل وتناقضاته؟
فإن كانت كذلك، فقد وجدت إذن الحقيقة المطلقة التي يرفضها الديالكتيك ولا تقرّها أصول الجدل الماركسي.
وإن كانت هذه الخاصّة خاصّةً جدليّةً ومحتوية على التناقضات الدافعة لها إلى التطوّر والتغيّر كسائر حقائق العالم، فمعنى ذلك أنّ الماديّة تشكو هي أيضاً من التناقض، وتضطرّ لأجل ذلك إلى التغيّر والتبدّل ونزع الصفة الأساسيّة للمادة عنها.
الفصل الأول
1 ـ ما هو المصدر الأساسيُّ للتصوّر؟
2 ـ ما هو المصدر الأساسيُّ للتصديق؟
3 ـ ما هي قيمة المعرفة؟
توطئة:
إنّ الإدراك ينقسم بصورة رئيسة إلى نوعين:
أحدهما: التصوّر، وهو الإدراك الساذج.
والآخر: التصديق، وهو الإدراك المنطوي على حكم.
فالتصوّر كتصوّرنا لمعنى الحرارة والنور أو الصوت.
والتصديق كتصديقنا بأنّ الحرارة طاقة مستوردة من الشمس، وأنّ الشمس أنور من القمر، وأنّ الذرّة قابلة للانفجار.
وتعترضنا بهذا الصدد أسئلة ثلاثة:
الأوّل: ما هو المصدر الحقيقي للتصوّرات والإدراكات الساذجة؟
الثاني: ما هو مصدر التصديقات والمعارف التصديقيّة؟
الثالث: ما هو مدى معارفنا وقيمتها من الناحية الموضوعيّة؟
وسوف نعقد لكلٍّ من هذه النواحي بحثاً موجزاً.
البحث الأوّل
ما هو المصدر الأساسيُّ للتصوّر؟
إن الذهنّ البشري ينطوي على قسمين من التصوّرات:
أحدهما: المعاني التصوريّة البسيطة، كمعاني «الوجود» و«الوحدة» و«الحرارة» و«البياض».
والقسم الآخر: المعاني المركّبة التي تنتج من الجمع بين تلك التصوّرات البسيطة؛ فقد نتصوّر جبلاً من تراب، ونتصوّر قطعة من الذهب، ثم نركّب بين هذين التصوّرين فيحصل بالتركيب تصوّرٌ ثالثٌ، وهو تصوّر جبل من الذهب. فهذا التصوّر مركّبٌ في الحقيقة من التصوّرين الأوّلين.. وهكذا نرجع جميع التصوّرات المركّبة إلى مفردات تصوّرية بسيطة.
والمسألة التي نعالجها هي محاولة معرفة المصدر الحقيقي لهذه المفردات، وسبب انبثاق هذه التصوّرات البسيطة في الإدراك الإنساني.
فـ «النظريّة العقليّة» تقول بوجود منبعين للتصوّرات: أحدهما الإحساس، والآخر الفطرة. فبعض المعاني نتصوّرها عن طريق الإحساس بها في الخارج، كالحرارة والنور والطعم والصوت؛ وبعض المعاني نتصوّرها لأنّها ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبطها من ذاتها، كفكرة «الله» و«النفس» و«الامتداد» و«الحركة» عند «دِكارت». فالحسّ والفطرة هما المصدران الأساسيّان للتصوّر.
و«النظريّة الحسيّة» تقول إنّ الإحساس هو المموّن الوحيد للذهن البشري بالتصوّرات والمعاني. فنحن حين نحسّ بالشيء، نستطيع أن نتصوّره. وأمّا المعاني التي يمتدّ إليها الحسّ، فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها، بل إنّ عمل النفس لا يعدو التركيب والتجزئة، فهي تركّب ما بين المعاني المحسوسة وتجزّئها تارةً أخرى، دون أن تخلق معنىً جديداً.
وتقول «نظريّة الانتزاع» ـ التي أخذ بها الفلاسفة الإسلاميّون ـ إنّ التصوّرات الذهنيّة تنقسم إلى قسمين: «تصوّرات أوّليّة» و«تصوّرات ثانويّة».
فالتصوّرات الأوّليّة ـ التي هي الأساس ـ تتولّد من الإحساس بمحتوياتها. فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر، ونتصوّر الحلاوة لأنّنا أدركناها بالذوق، وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا… فالإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره. وإلى هنا تتفّق «نظريّة الانتزاع» مع «النظريّة الحسيّة» في القول إنّ الحسّ هو الأصل، وترفض وجود معاني نظريّة نابعة من النفس بذاتها، لأنّ النفس بسيطة ولا تنبع الكثرة من البسيط.
ولكنّ «نظريّة الانتزاع» بعد ذلك تفترق أيضاً، فهي تؤكّد أنّ للذهن دوراً فعّالاً في خلق التصوّرات الثانويّة، فإنّ الإنسان بعد أن يكتسب تصوّراته من حواسه، يبدأ عقله بدور الابتكار والإنشاء ـ وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ الانتزاع ـ ، فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأوّليّة، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن نطاق الحسّ وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحسّ إلى الذهن. وذلك خلافاً للنظريّة الحسيّة التي زعمت ـ كما عرضت سابقاً ـ أنّ شأن الذهن هو الانعكاس لا الخلق والابتكار. ويكفينا لإبطالها مثالٌ واحدٌ في «العلّة والمعلول»، فنحن نحسّ مثلاً بغليان الماء حتى تبلغ درجة حرارته «100»، وقد يتكرّر إحساسنا بهاتين الظاهرتين: ظاهرتَيْ الغليان والحرارة آلاف المرّات، ولكنّنا لا نحسّ بعليّة الحرارة للغليان مطلقاً، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العليّة من الظاهرتين اللتين قدّمهما الحسّ إلى مجال التصوّر. فتصوّر العليّة إذن ليس مستمدّاً من الحسّ بصورة مباشرة، وإنّما هو مستخرجٌ من المعاني المحسوسة بالقوّة الخلاقة للذهن البشري.
البحث الثاني
المصدرُ الأساسيُّ للتصديق؟
ننتقل بك أيّها القارئ الكريم من درس التصوّر إلى درس التصديق الذي ينطوي على الحكم، ويحصل به الإنسان على معرفة، كمعرفتنا بأنّ الجوَّ حارٌّ أو أنّ الشمس طالعة، وأنّ الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والحرارة تولّد الغليان، إلى غير ذلك من المعارف والقضايا التصديقيّة. والمشكلة التي تواجهنا هي مشكلة أصل المعرفة التصديقيّة، فما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشريّة ويعتبر مقياساً عامّاً لتمييز الحقيقة عن غيرها؟
يقول «المذهب التجريبيّ»: «إنّ التجربة هي المصدر الأوّل لجميع المعارف البشريّة. ويستند في ذلك إلى أنّ الإنسان حين يكون محدوداً عن التجارب بمختلف ألوانها، لا يعرف شيئاً من الحقائق، ولذا يولد الإنسان خالياً من كلّ معرفة فطريّة»[33]، وكلّ معرفة يحصل عليها بعد ذلك فهي معرفة مستقاةٌ من التجربة. وهكذا، [فإنّها] هي المقياس، فإن أردنا أن نختبر صحّة شيء أو خطأه، رجعنا إلى التجربة، وما لم يثبت الشيء بالتجربة لا يمكن إثبات صحّته.
ويقول «المذهب العقلي» ـ الذي يؤمن به الفلاسفة الإسلاميّون ـ : إنّ المعارف البشريّة تنقسم إلى طائفتين:
إحداهما: معارف ضروريّة وبديهيّة، ونقصد بالضرورة هنا أنّ النفس تضطرّ إلى الإذعان بقضيّة معيّنة من دون أن تطالب بدليل، بل نجد من طبيعتها ضرورة الإيمان بها إيماناً غنيّاً من كلّ بيّنة وإثبات، وذلك كالقضايا الآتية:
1ـ النفي والإثبات لا يصدقان في شيء واحد.
2ـ الحادث لا يوجد من دون سبب.
3ـ الواحد نصف الاثنين.
4ـ الكلّ أكبر من الجزء. وغير ذلك…
والطائفة الأخرى: معارف ومعلومات نظريّة لا تؤمن النفس بصحّتها إلا على ضوء معارف ومعلومات سابقة، فيتوقّف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عمليّة تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح منها، كما في القضايا الآتية:
1ـ الأرض كرويّة.
2ـ الحركة سبب الحرارة.
3ـ التسلسل ممتنع.
4ـ الفلزات تتمدّد بالحرارة.
5ـ زوايا المثلث تساوي قائمتين.
6ـ المادة تتحوّل إلى طاقة.
إلى ما هنالك من قضايا الفلسفة والعلوم، فإنّ هذه القضايا حين تعرض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها إلا بعد مراجعة المعلومات الأخرى. ولأجل ذلك، فالمعارف النظريّة مستندة إلى المعارف الضروريّة. وهكذا يشرح «المذهب العقلي» بأنّ الأساس للمعرفة إنّما هو تلك المعارف الضروريّة التي لا تنشأ من التجربة، ويؤكّد بهذا الصدد على خطأ الفكرة القائلة إنّ «كلّ معرفة هي مستمدّة من التجربة» كما يزعم «المذهب التجريبي»، وإلا فمن أين استمد التجريبيّون فكرتهم هذه ـ أي القول بكون التجربة هي أساس المعرفةـ ؟! هل استمدّوها من التجربة؟!..
إنّ هذا غير ممكن، باعتبار أنّ التجربة لا تزكّي نفسها، فلا بدّ إذن من الاعتراف بوجود معارف ضروريّة غير ناشئة من التجربة. وللعقليّين براهين أخرى كثيرة على ذلك، شرحت في كتاب « فلسفتنا» بصورة مفصّلة[34].
البحث الثالث
ما هي قيمة المعرفة؟
أمّا الآن فنأتي إلى المسألة الثالثة، أي قيمة المعرفة: ونعني بذلك أنّ إدراكاتنا عن الواقع الخارجي، هل تملك حقّاً واقعاً تحكي عنه؟ وما هو مدى قدرتها على تصوير الواقع؟
وسوف نعرض هنا لموقف «المثاليّة» أوّلاً، و«الفلسفة الماديّة» ثانياً، و«الفلسفة الإسلاميّة» ثالثاً:
1ـ الفلسفة المثاليّة:
أمّا «الفلسفة المثاليّة»، فقد أنكرت وجود العالم الموضوعي، ولم تعترف بحقيقته إلا في تصوّراتنا المباشرة، لأنّ كلّ إنسان لا يتّصل إلا بتصوّراته فقط. فنحن حينما ندرك البحر، لا يوجد عندنا في الحقيقة إلا صورة البحر في ذهننا، فكيف نستطيع أن نعرف وراء الصورة شيئاً آخر؟
وقد غاب عن هؤلاء أنّ الصورة العلميّة تتمتّع بخاصيّة الكشف الذاتي عن الواقع الخارجي: فنحن وإن لم نتّصل بالبحر مباشرة، إلا أنّنا نملك الصورة التي تحكي عنه. والواقع أنّ الذي ساعد «المثاليّة» على اتجاهها هذا هو محنة العلم حين بدأت تتكشّف إليه أخطاؤه. فقد ذابت في لحظة ذرّات «والتون»[35]، وتزعزع قانون عدم فناء المادة، ودلّلت التجارب على أنّ «الماديّة» وهمٌ عاش فيه البشر ملايين السنين، فكان ردّ الفعل لذلك إثارة الشكّ من جديد. فما دامت مسلّمات العلم والتجربة بالأمس تصبح أخطاء اليوم، فلماذا لا يجوز لنا أن نرتاب في كلّ حقيقة مهما بدت واضحة؟! ولكنّ هذا العامل لا يعدو أن يكون باعثاً نفسيّاً، وتزول هذه الأزمة النفسيّة حين نعرف أنّ الاعتقاد بوجود الواقع الموضوعي للعالم ليس ناشئاً من براهين التجربة والعلم حتى يصبح مشكوكاً عند الشكّ فيها، بل هو اعتقادٌ فطريٌّ ضروريٌّ في الطبيعة الإنسانيّة يشترك فيه الجميع حتى المثاليّون كما تدلّ عليه حياتهم العمليّة، وإن أنكروا ذلك بلسانهم.
2ـ الفلسفة الماديّة:
وأمّا «الفلسفة الماديّة»، فهي ترى أنّ للمعرفة قيمةً محقّقة، وأنّ بإمكان الفكر على مرّ الزمن أن يكتشف كلّ حقائق الطبيعة والكون. وتستدلّ على ذلك بأنّ الفكر جزءٌ من الطبيعة، فكيف لا يكشف عنها؟ وإليك النصّ بهذا الشأن من كلام الماركسييّن:
«إنّ الفكر يستطيع أن يعرف الطبيعة معرفةً تامّة، ذلك لأنّه يؤلّف جزءاً منها، ذلك لأنّه نتاجها والتعبير الأعلى عنها. إنّ الفكر هو الطبيعة تعي ذاتها في ضمير الإنسان. يقول «لِنِنْ»: «إنّ الكون هو حركة للمادة تخضع لقوانين، ولمّا لم تكن معرفتنا إلا نتاجاً أعلى للطبيعة، لا يسعها إلا أن تعكس هذه القوانين». ولقد كان «إنجلز» يبيّن في كتابه «آنتي دوهرنگ»: «إنّ الماديّة الفلسفيّة هي وحدها التي تستطيع تأسيس قيمة المعرفة على دعائم متينة، حين يؤخذ الوعي والفكر على أنّهما شيئان معطيان، كانا في زمان يتعارضان مع الطبيعة ومع الكائن. عندئذٍ يؤدّي ذلك بنا حتماً إلى أن نجد ـ رائعاً جداً ـ كون وعينا للطبيعة وتفكير الكائن وقوانين الفكر متطابقةً إلى أبعد حدّ. ولكن إذا تساءلنا ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟ وجدنا أنّ الإنسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة، ومع نموّ هذه البيئة. وعندئذٍ يصبح في غنىً عن البيان كيف إنّ منتوجات الذهن البشري ـ التي هي أيضاً عناءٌ آخر، تحليلٌ لمنتوجات الطبيعة ـ ، ليست في تناقض، وإنّما في توافق مع سائر الطبيعة المتراصّة»[36].
ولنفترض أنّ هذا صحيح، فهل يكفي ذلك لأجل أن نبرهن على إمكان معرفة الطبيعة بصورة كاملة؟
إنّ الفكر إذا كان جزءاً من الطبيعة ونتاجاً لها، فهو يمثّل بطبيعة الحال قوانينها، ولكن ليس معنى هذا أنّ الفكر بهذا الاعتبار يصبح معرفة صحيحة للطبيعة وقوانينها.
أو ليس الفكر «الميتافيزيقي» أو «المثالي» فكراً؟ وبالتالي جزءاً من الطبيعة ونتاجاً لها في الزعم المادي؟! أو ليست جميع محتويات العمليّات الفيزيولوجيّة ظواهر طبيعيّة ونتاجاً للطبيعة؟!
فقوانين الطبيعة إذن تتمثّل في التفكير المادي الجدلي وتجري عليه، وفي التفكير المثالي والميتافيزيقي على السواء، كما تتمثّل في جميع العمليّات والظواهر الطبيعيّة، فلماذا يكوّن الفكر الماركسي معرفةً صحيحةً للطبيعة دون غيره من هذه الأمور؟! مع أنّها جميعاً نتاجاتٌ طبيعيّةٌ تعكس قوانين الطبيعة!. وبهذا نعرف أنّ مجرّد اعتبار الفكر ظاهرةً للطبيعة ونتاجاً لها، لا يكفي لأن يكون معرفةً حقيقيّةً للطبيعة، بل لا يضع بين الفكرة وموضوعها إلا علاقة السببيّة الثابتة بين كلّ نتيجة وسببها الطبيعي، وإنّما تكون الفكرة معرفة حقيقيّة إذا آمنا فيها بخاصّة الكشف والتصوير، التي تمتاز بها على كلّ شيء آخر.
3ـ الفلسفة الإسلاميّة:
وأمّا الفلسفة الإسلاميّة، فهي ترى أنّ الإدراك البشري على قسمين: أحدهما: «التصوّر»، وثانيهما: «التصديق».
وليس للتصوّر بمختلف ألوانه قيمةٌ موضوعيّة، لأنّه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن ـ إذا جرّد عن كلّ إضافة ـ على وجود الشيء موضوعيّاً خارج الإدراك، وإنّما الذي يملك خاصّة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقيّة، فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصوّر.
كما إنّ مردّ المعارف التصديقيّة جميعاً إلى معارف أساسيّة ضروريّة لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل، أو البرهنة على صحّتها، وإنّما يشعر العقل بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحّتها، كمبدأ «عدم التناقض»، ومبدأ «العليّة» والمبادئ الرياضيّة الأوّليّة… فهي الأضواء العقليّة الأولى، وعلى هدي تلك الأضواء يجب أن تقام سائر المعارف والتصديقات. وكلّما كان الفكر أدقّ في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها، كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار ارتكازها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها. ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كلٍّ من الميتافيزيقا والرياضيّات والطبيعيّات على ضوء تلك الأسس، وإن اختلفت الطبيعيّات في شيء وهو: إنّ الحصول على معارف طبيعيّة بتطبيق الأسس الأوّليّة يتوقّف على التجربة التي تهيّئ للإنسان شروط التطبيق. وأمّا الميتافيزيقا والرياضيّات، فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجيّة.
وهذا هو السبب في أنّ نتائج الميتافيزيقا والرياضيّات نتائج قطعيّة في الغالب، دون النتائج العلميّة في الطبيعيّات، فإنّ تطبيق الأسس الأوّليّة في الطبيعيّات لمّا كان محتاجاً إلى تجربة تهيّئ شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعيّة.
ولنأخذ لذلك مثالاً من الحرارة:
فلو أردنا أن نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدّة تجارب علميّة، ووضعنا في نهاية المطاف النظريّة الطبيعيّة الحقيقيّة نتيجة تطبيق لعدّة مبادئ ومعارف ضروريّة على التجارب التي جمعناها ودرسناها.. ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحّة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادئ الضروريّة. فالعالم الطبيعي يجمع أوّل الأمر كلّ مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمّى والأجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الأشياء الحارّة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقليّ ضروريّ عليها وهو مبدأ «العليّة» القائل: «إنّ لكلّ حادثة سبباً»، فيعرف بذلك أنّ لهذه المظاهر من الحرارة سبباً معيّناً، ولكنّ هذا السبب حتّى الآن مجهولٌ ومردّدٌ بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح لنا تعيينه من بينها؟
ويستعين العالم الطبيعيّ في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الضروريّة العقليّة، وهو المبدأ القائل بـ «استحالة انفصال الشيء عن سببه». ويدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدّةً من الأشياء ويسقطها عن الحساب، كدم الحيوان ـ مثلاً ـ ، فهو لا يمكن أن يكون سبباً للحرارة لأنّ هناك من الحيوانات ما هو بارد الدم ـ فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات. ومن الواضح أنّ استبعاد دم الحيوان عن السببيّة لم يكن إلا تطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر: «إنّ الشيء لا ينفصل عن سببه». وهكذا يدرس كلّ شيء ممّا كان يظنّه من أسباب الحرارة، فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقليٍّ ضروري. فإن أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلميّة جميع ما يحتمل أن يكون سبباً للحرارة، ويدلّل على عدم كونه سبباً ـ كما فعل في دم الحيوان ـ ، فسوف يصل في نهاية التحليل العلميّ إلى السبب الحقيقي ـ حتماً ـ بعد إسقاط الأشياء الأخرى من الحساب.
وتصبح النتيجة العلميّة حينئذٍ حقيقةً قاطعةً لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقليّة الضروريّة. وأمّا إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر، ولم يستطع أن يعيّن السبب على ضوء المبادئ الضروريّة، فسوف تكون النظريّة العلميّة في هذا المجال ظنيّة.
[سؤال:] ولعلّك تسأل ما هو الفارق بين الصورة الذهنيّة ـ فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة ـ والواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها؟
والجواب: هو أنّ الصورة الذهنيّة التي نكوّنها عن واقعٍ موضوعيٍّ «معيّن»، فيها ناحيتان:
فهي من ناحية صورةُ الشيء ووجوده الخاص في ذهننا، ولا بدّ لأجل ذلك أن يكون الشيء متمثّلاً فيها، وإلا لم تكن صورةً له.
ولكنّها من ناحية أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسيّاً، لأنّها لا تملك الخصائص التي يتمتّع بها الواقع الموضوعيُّ لذلك الشيء، ولا يتوفّر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعاليّة والنشاط. والصورة الذهنيّة التي نكوّنها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقةً ومفصّلة، لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعّالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنيّة في الخارج.
وبذلك نستطيع أن نحدّد الناحية الموضوعيّة للفكرة، والناحية الذاتيّة، أي الناحية المأخوذة من الواقع الموضوعي، والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهنيّ الخاص. فالفكرة موضوعيّةٌ باعتبار تمثّل الشيء فيها لدى الذهن، ولكنّ الشيء الذي يمثّل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كلّ فعليّة ونشاط ممّا كان يتمتّع به في المجال الخارجي بسبب التصرّف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في لغة الفلسفة الفارق بين الماهيّة والوجود.
الفصل الثاني
1 ـ اجتماع الحقيقة والخطأ.
2 ـ مبدأ عدم التناقض.
3 ـ الحركة والتطوّر.
البحث الأوّل
اجتماع الخطأ والحقيقة:
لقد كتب «إنجلز» ينتقد مبدأ الحقيقة القائل بعدم إمكان اجتماع الحقيقة والخطأ، فقال:
«ولنستشهد على ذلك بقانون «بويل» الشهير الذي ينصّ على أنّ حجوم الغازات تتناسب عكسيّاً مع الضغط الواقع عليها إذا بقيت درجة حرارتها ثابتة.
وجد «رينو» بأنّ هذا القانون لا يصحّ في حالات معيّنة، ولو كان «رينو» أحد فلاسفة الواقعيّة لانتهى من ذلك إلى الاستخلاص التالي: بما أنّ قانون «بويل» قابلٌ للتغيّر، فهو ليس بحقيقة محضة، أي إنّه ليس بحقيقة البتّة، فهو إذن قانونٌ باطل. ولو نهج «رينو» هذا النهج لارتكب خطأً أفظع ممّا تضمّنه «بويل»، ولتاهت ذرّة الحقيقة المنطوي عليها نقده لهذا القانون، واندفنت بين رمال صحراء الباطل، ولأفضى به الأمر أخيراً إلى تشويه النتيجة الصائبة التي أدركها، وإلى إحالتها إلى نتيجةٍ واضحة الأخطاء إذا ما قورنت مع النتيجة التي أدركها قانون «بويل» الذي يبدو صحيحاً رغم ما هو عالقٌ به من أخطاء جزئيّة»[37].
وتقول «فلسفتنا» إنّ الواجب يحتّم على «إنجلز» «ـ عوضاً عن تلك المحاولات [الصبيانيّة] لتبرير الحقيقة النسبيّة واجتماعها مع الخطأ ـ أن يتعلّم الفرق بين القضايا البسيطة والقضايا المركّبة، ويعرف أنّ القضيّة البسيطة هي التي لا يمكن أن تنقسم إلى قضيّتين، كما في قولنا: «مات أفلاطون قبل أرسطو»، وأنّ القضيّة المركّبة هي التي تتألّف من قضايا متعدّدة، نظير قولنا «الفلزات تتمدّد بالحرارة»: فإنّ هذا القول مجموعةٌ من قضايا، ويمكننا أن نعبّر عنه في قضايا متعدّدة فنقول: «الحديد يتمدّد بالحرارة»، و«الذهب يتمدّد بالحرارة»، و«الرصاص يتمدّد بالحرارة»…
والقضيّة البسيطة ـ باعتبارها قضيّةً مفردة ـ لا يمكن أن تكون حقيقة من ناحية وخطأً من ناحية أخرى، [فموت أفلاطون قبل أرسطو أما ان يكون حقيقة وأما ان يكون خطأ].
وأمّا القضيّة المركّبة، فلمّا كانت في الحقيقة ملتقى قضايا متعدّدة، فمن الجائز أن توجد الحقيقة في جانب منها والخطأ في جانب آخر. كما إذا افترضنا أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دون الذهب، فإنّ القانون الطبيعي العام وهو «الفلزّات تتمدّد بالحرارة» يعتبر صحيحاً من ناحية وخطأً من ناحية أخرى. ولكن ليس معنى ذلك أنّ الحقيقة والخطأ قد اجتمعا فكانت القضيّة الواحدة خطأً وحقيقة، بل الخطأ إنّما يوجد في قضيّة «الحديد يتمدّد بالحرارة» ـ مثلاً ـ فلم يكن الخطأ حقيقةً ولا الحقيقة خطأ»[38].
والخلاصة أنّ الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ، فالقضيّة البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقةً وخطأ.
البحث الثاني
مبدأ عدم التناقض
قد عرفت بأنّ الماركسيّة تؤكّد على اجتماع الحقيقة والخطأ، أي إنّ القضيّة الواحدة البسيطة يمكن أن تكون حقيقة وخطأ. وهذا متفرّع عن قولها بالتناقض الذي فرضته لتطوّر الموجودات، حيث يتصارع الشيء داخليّاً مع ذاته حسب القوانين السفسطيّة التي وضعها الديالكتيكيّون في صراع المتناقضات، والذي لا يمكن لفكرٍ سليمٍ قبوله، ولا تملك الماركسيّة شاهداً عليه من الطبيعة وظواهر الوجود مطلقاً.
وكلّ ما ذكرته «الماركسيّة من تناقضات الطبيعة المزعومة، فهو لا يمتّ إلى الديالكتيك بصلة»[39]، لأنّ شروط التناقض الذي يستحيل اجتماعه في شيء من الأشياء هي الاتحادُ في أمور تسعة، والاختلاف في أمور ثلاثة:
أمّا الأمور التي يجب اتحاد المتناقضين فيها فهي:
1ـ وحدة الموضوع: فلو اختلفا فيه (أي في الموضوع) لم يتناقضا، كـ«العسلُ نافعٌ والسمُّ ضارٌّ».
2 ـ وحدة الزمان: فلا تناقض بين «الماءُ باردٌ» أي في الشتاء أو الليل، و«الماءُ حارٌّ» أي في الصيف أو في الشمس.
3ـ وحدة المكان: فلا تناقض بين «الأرضُ خصبةٌ[40]» على ضفاف الأنهار، و«الأرضُ ليست بخصبةٍ» في الصحراء البعيدة عن الماء.
4ـ اتّحاد القوّة والفعل: فلا تناقض بين «الطفل الرضيعُ كاتبٌ» بالقوّة (أي له قابليّة الكتابة)، و«الطفلُ ليس بكاتبٍ» أي بالفعل الآن.
5ـ اتّحاد [الكل والجزء]: فلا تناقض بين «أرضُ العراق خصبةٌ» أي أغلبها، و«أرضُ العراق ليست بخصبةٍ» أي كلّها.
إلى ما هنالك من وحدة «المحمول» و«الشرط» و«الإضافة».. وليس هنا محلّ ذكرها[41].
وأمّا الأمور التي يجب أن يختلف فيها المتناقضان فهي:
1ـ الاختلاف بالجهة: وهو أمرٌ يقتضيه طبع التناقض، كالاختلاف بالسلب والإيجاب، لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه (أي إزالته). فكما يُرفع السلب بالإيجاب، فلا بدّ من رفع الجهة بجهة تناقضها صريحة أو غير صريحة.
2ـ الاختلاف بالكمّ: فلو كان الموضوع أعمّ أو أخصّ، فلا يحصل التناقض.
3ـ الاختلاف بالكيف: كما لو كان أحدها موجباً (مثبتاً) والآخر سالباً (نافياً) كما هو مفصّل في المطولات[42].
وكلّ ما ذكره أصحاب المنطق الديالكتيكي من الأمثلة على «صراع المتناقضات» فهو ليس من وحدة المتناقضات في شيء، بل من باب التداخل والتضادّ والدخول تحت التضادّ ـ أي الأقسام الثلاثة غير المتناقضة ـ وهي[43]:
1ـ الأشياء المتداخلة: أي المختلفة في الكمّ دون الكيف.
2ـ الأشياء المتضادّة: وهي المختلفة في الكيف دون الكم.
3ـ الأشياء الداخلة تحت التضاد: أي المتّفقة في الكيف من جهة.
ولنعرض عدّةً من تلك الشواهد التي حاولت أن تبرهن بها على منطقها الديالكتيكي، لنتبيّن مدى عجز الماركسيّة عن إقامة الدليل على مدّعاها:
1ـ يقول «ماوتسي تونگ»:
«والواقع أنّ الهجوم والدفاع في الحرب، والتقدّم والتراجع، والنصر والهزيمة، كلّها ظواهر متناقضة ولا وجود للواحدة من دون الثانية، وهذان الطرفان يتصارعان، كما أنّهما يتّحدان ببعضهما، فيؤلّفان مجموع الحرب ويفرضان تطوّرها، ويحلان مشكلاتها»[44].
وأنت إذا دقّقت النظر في هذا النصّ، عرفت خطأه. إذ تراه يعتبر أنّ الحرب كائناً حقيقيّاً واحداً، «ينطوي على النقيضين: على «النصر» و«الهزيمة»، مع أنّ هذا المفهوم عن الحرب لا يصحّ إلا في ذهنيّة بدائيّة تعوّدت على أخذ الأشياء في إطارها العرفي العام. فالحرب في التحليل الفلسفي عبارةٌ عن كثرة من الحوادث، لم تتوحّد إلا في أسلوب التعبير. فالنصر غير الهزيمة، والجيش المنتصر غير الجيش المنهزم، والوسائل أو نقاط القوّة التي مهّدت للانتصار غير الوسائل أو نقاط الضعف التي أدّت إلى الهزيمة. والنتائج الحاسمة التي أدّت إليها الحرب لم تكن بسبب صراع ديالكتيكي وتناقضات موحّدة، بل بسبب الصراع بين قوّتين خارجيّتين، وغلبة إحداهما على الأخرى»[45].
2ـ وقال «إنجلز»:
«رأينا فيما سبق بأن قوام الحياة، هو أن الجسم الحي في كل لحظة هو هو نفسه،، وفي عين تلك اللحظة هو ليس إياه، هو شيء آخر سواه. فالحياة إذن هي تناقض مستحكم، في الكائنات والعمليات ذاتها»[46].
والجواب:
«لا شكّ أنّ الكائن الحيّ يحتوي على عمليّتين ـ حياة وموت ـ متجدّدتين، وما دامت هاتان العمليّتان تعملان عملها، فالحياة قائمة. ولكن ليس في ذلك شيءٌ من التناقض، لأنّنا إذا حلّلنا هاتين العمليّتين اللتين نضيفهما بادئ الأمر إلى كائن حيٍّ واحد، نعرف أنّ عمليّة الموت وعمليّة الحياة لا تتّفقان في موضوع واحد. فالكائن الحيُّ يستقبل في كلّ دور خلايا جديدة ويودّع خلايا بالية. فالموت والحياة يتقاسمان الخلايا، والخليّة التي تفنى في لحظة غير الخليّة التي توجد وتحيا في تلك اللحظة.
وهكذا يبقى الكائن الحيُّ الكبير متماسكاً، لأنّ عمليّة الحياة تعوّضه عن الخلايا التي ينسفها الموت بخلايا جديدة، فتستمرّ الحياة حتى تنتهي إمكانيّاته، وتنطفئ شعلة الحياة منه. وإنّما يوجد التناقض لو أنّ الموت والحياة استوعبا في لحظة خاصّة جميع خلايا الكائن الحيّ، وهذا ما لا نعرفه من طبيعة الحياة والأحياء، فإنّ الكائن الحيّ لا يحمل في طيّاته إلا إمكان الموت، وإمكان الموت لا يناقض الحياة، وإنّما ينقاضها الموت بالفعل»[47].
3ـ ومن أقوى الأدلّة التي ذكروها عن اجتماع المتناقضات وصراعها، هو قانون «نيوتن» الميكانيكي القائل: «إنّ لكلّ فعل ردّ فعل يساويه في المقدار، ويعاكسه في الاتجاه»[48].
ولكنّك إذا تدبّرت جيّداً، فستجد أنّه ليس من التناقضات الديالكتيكيّة في شيء، وإنما هو سفسطةٌ حصلت من المشتبهات، فإنّ لنا هنا شيئين هما: «نفسُ الفعل» و«ردُّ الفعل»، وهما «قوّتان قائمتان في جسمين، لا نقيضان مجتمعان في جسم واحد»[49].
مثال ذلك: «العجلتان الخلفيّتان للسيّارة» و«الأرض».
فالعجلتان الخلفيّتان للسيّارة «تدفعان الأرض بقوّة، وهذا هو «الفعل». والأرض تدفع عجلتَي السيّارة بقوّة أخرى مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتجاه للأولى، وهذا هو «ردّ الفعل» الذي بسببه تتحرّك السيّارة»[50].
وإذا اتّضح لك المثال، عرفت بأنّ الجسم الواحد لم يحتوِ «على دفعين متناقضين، ولم يقم في محتواه الداخلي صراعٌ بين النفي والإثبات الذي اصطلحوا عليه بـ«صراع المتناقضات» بين النقيض والنقيض، بل السيّارة تدفع الأرض من جهة، والأرض تدفع السيّارة من جهة أخرى.
والديالكتيك إنّما يحاول أن يشرح نموّ الأشياء وحركتها باحتوائها داخليّاً على قوّتين متدافعتين ونقيضين متخاصمين، يصارع كلٌّ منهما الآخر لينتصر عليه، [ويبلور الشيء تبعاً له]، وأين هذا من قوّتين خارجيّتين يتولّد من إحداهما فعلٌ خاصّ، ومن الأخرى ردُّ فعل؟! وإنّك لتعلم بأنّ الزخمين المتعاكسين اللذين يولّدهما الفعل وردّ الفعل يقومان في جسمين، ولا يمكن أن يقوما في جسم واحد[51]، لأنّهما متعاكسان ومتنافيان، وليس هذا إلا لأجل مبدأ عدم التناقض»[52].
البحث الثالث
الحركة والتطوّر:
لقد أثبتت «فلسفتنا» بأنّ مبدأ عدم التناقض في الأشياء مبدأٌ ضروري، فاجتماع النقيضين في شيء واحد حسب الشروط التي ذكرت آنفاً لا يمكن أبداً.
كما نصّت على أن تطوّر الشيء ـ أي حركته من حالة إلى أخرى ـ ، لا يكون إلا في زمانين. خذ مثلاً الماء إذا وضعته على النار، فإنّ حرارته الأولى تساوي «30»، ثمّ بعد الاستمرار على تسخينه، تتطوّر درجة حرارته تدريجيّاً ـ في أزمنة متعاقبة ـ حتّى يصل إلى درجته النهائيّة «100ْ». وإلا فإذا كانت درجة حرارة الماء قبل تسخينه تساوي «100ْ»، فلماذا نسخّنه؟ وإن كانت درجة برودته تحت الصفر قبل أن نثلّجه، فلماذا نقوم بتبريده؟ فهل تصدّق أحداً إذا قال لك إنّ الماء يغلي من حرارته وهو ثلج في نفس الوقت؟
أمّا الماديّة الديالكتيكيّة فهي تنصّ على أنّ الشيء يحتوي في داخله على متناقضات. وعندما تبدأ هذه المتناقضات بصراعها الحتمي، يأخذ الشيء في الحركة والتطوّر. فحركة كلّ شيء نتيجةٌ لتصارع المتناقضات الكامنة في محتواه الداخلي، وعلى هذا ينصّ «إنجلز» بقوله:
«إنّ أبسط تغيير ميكانيكي في المكان لا يمكن أن يحدث إلا بواسطة كينونة جسم ما في لحظة ما.. ونفس تلك اللحظة في غير ذلك المكان. أي كينونته وعدم كينونته معاً في مكان واحد وفي نفس اللحظة الواحدة. فتتابع المتناقضات تتابعاً مستمرّاً وحلّ هذا التناقض حلاً مؤقّتاً مع هذا التتابع هو ما يسمّى بالحركة»[53].
وقال «ستالين»:
«إنّ الديالكتيك خلافاً للميتافيزيّة، لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود.. حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغيّر دائمين، حالة تجدّد وتطوّر لا ينقطعان. ففيها دائماً شيءٌ يولد ويتطوّر، وشيءٌ ينحلّ ويضمحل»[54].
ومن الواضح لدى كلّ أحد، أنّ الإيمان بوجود التغيّر في عالم الطبيعة مسألةٌ لا تحتاج إلى دراسات علميّة سابقة، وليست موضعاً لخلاف أو نقاش.. وإنّما الجدير بالدرس هو ماهيّة هذا التغيّر، ومدى عمقه وعمومه.. فإنّ للتغيير نوعين: أحدُهما التعاقب البحت، والآخر الحركة.
ومنشأ الصراع هو حول الجواب عن الأسئلة التالية:
«أ ـ هل التغيّر الذي يطرأ على الجسم حين يطوي مسافة ما عبارةٌ عن وقفات متعدّدة في أماكن متعدّدة تعاقبت بسرعة، فكوّنت في الذهن فكرة الحركة؟
ب ـ أو إنّ مردّ هذا التغيّر إلى سير واحد متدرّج، لا وقوف فيه ولا سكون؟
ج ـ وهل التغيّر الذي يطرأ على الماء حين تتضاعف حرارته وتشتدّ يعني مجموعة من الحرارات المتعاقبة، يتلو بعضها بعضاً؟
د ـ أو إنّه يعبّر عن حرارة واحدة تتكامل وتتحرّك وتترقّى درجتها؟
وهكذا نواجه هذا السؤال في كلّ لون من ألوان التغيّر، التي تحتاج إلى شرح فلسفيّ بأحد الوجهين اللذين يقدّمهما السؤال»[55].
وقد برهنت مدرسة «أرسطو» «على وجود الحركة والتطوّر في ظواهر الطبيعة وصفاتها، بمعنى أنّ الظاهرة الطبيعيّة قد لا توجد على التمام في لحظة، بل توجد على التدريج وتستنفذ إمكاناتها شيئاً فشيئاً، وبذلك يحصل التطوّر ويوجد التكامل. فالماء حين تتضاعف حرارته، لا يعني ذلك أنّه في كلّ لحظة يستقبل حرارة بدرجة معيّنة توجد على التمام، ثمّ تفنى وتخلق من جديد حرارة أخرى بدرجة جديدة، بل محتوى تلك المضاعفة أنّ حرارةً واحدة وجدت في الماء ولكنّها لم توجد على التمام، بمعنى أنّها لم تستنفذ في لحظتها الأولى كلّ طاقتها وإمكاناتها، ولذلك أخذت تستنفذ إمكاناتها بالتدريج، وتترقّى بعد ذلك وتتطوّر. وبالتعبير الفلسفي، إنّها حركةٌ مستمرّةٌ متصاعدة. ومن الواضح أنّ التكامل ـ أو الحركة التطوريّة ـ لا يمكن أن يفهم إلا على هذا الأساس. وأمّا تتابع ظواهر متعدّدة توجد كلّ واحدة منها بعد الظاهرة السابقة، وتفسح المجال بفنائها لظاهرة جديدة، فليس هذا نموّاً وتكاملاً، وبالتالي ليس حركةً وإنّما هو لونٌ من التغيّر العام.
فالحركة: سيرٌ تدريجيٌّ للوجود، وتطوّرٌ للشيء في الدرجات التي تتّسع لها إمكاناته، ولذلك حدّد المفهوم الفلسفي للحركة بأنّها خروجُ الشيء من القوّة إلى الفعل[56].
ويرتكز هذا التحديد على الفكرة التي قدّمناها عن الحركة. فإنّ الحركة ليست عبارة عن فناء الشيء فناءً مطلقاً، ووجود شيء آخر جديد، وإنّما هي تطوّر الشيء في درجات الوجود. فيجب إذن أن تحتوي كلّ حركة على وجود واحد مستمرّ منذ أن تنطلق الحركة إلى أن تتوقّف. وهذا الوجود هو الذي يتحرّك، بمعنى أن يندرج ويثري بصورة مستمرة. وكلّ درجة تعبّر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد. وهذه المراحل إنّما توجد بالحركة، فالشيء المتحرّك أو الوجود المتطوّر لا يملكها قبل الحركة، وإلا لما وجدت حركة، بل هو في لحظة الانطلاق يتمثّل لنا في قوى وإمكانات، وبالحركة نستنفد تلك الإمكانات، ويستبدل في كلّ درجة من درجات الحركة الإمكان بالواقع، والقوة بالفعليّة. فالماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة المحسوسة إلا إمكانها، وهذا الإمكان الذي يملكه ليس إمكاناً لدرجة معيّنة من الحرارة، بل هي بجميع درجاتها ـ التي تؤدّي إلى الحالة الغازيّة في النهاية ـ ممكنة للماء. وحين يبدأ الماء بالانفعال والتأثر بحرارة النار، تبدأ حرارته بالحركة والتطوّر، بمعنى أنّ القوى والإمكانات التي كانت تملكها تتبدّل إلى حقيقة. والماء في كلّ مرحلة من مراحل الحركة يخرج من إمكان إلى فعليّة، ولذلك تكون القوّة والفعليّة متشابكتين في جميع أدوار الحركة. وفي اللحظة التي تستنفد جميع الإمكانات، تقف الحركة.
فالحركة إذن في كلّ مراحل ذات لونين: فهي من ناحية فعليّةٌ وواقعيّة لأنّ الدرجة التي تسجّلها المرحلة موجودة بصورة واقعيّة وفعليّة. ومن ناحية أخرى هي إمكان وقوّة للدرجات الأخرى الصاعدة التي ينتظر من الحركة أن تسجّلها في مراحلها الجديدة.
فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معيّنة من الحركة، نجد أنّه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلاً، ولكنّه في نفس الوقت ينطوي على إمكان تخطّي هذه الدرجة، و«قوّة» تطوّر الحرارة إلى أعلى. ففعليّة كلّ درجة في مرحلتها الخاصّة مقارنةٌ لقوّة فنائها.
ولنأخذ مثالاً أعمق للحركة، وهو الكائن الحيُّ الذي يتطوّر بحركة تدريجيّة، فهو بويضة، فنطفة[57]، فجنين، فطفل، فمراهق، فراشد. إنّ هذا الكائن في مرحلة محدودة من حركته هو نطفةٌ بالفعل، ولكنّه في نفس الوقت شيءٌ آخر مقابل للنطفة وأرقى منها، فهو جنين بالقوّة. ومعنى هذا أنّ الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعليّة والقوّة معاً. فلو لم يكن في الكائن الحيّ قوّة درجة جديدة وإمكاناتها، لما وجدت حركة. ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل، لكان عدماً محضاً، فلا توجد حركةٌ أيضاً.
فالتطوّر يأتلف دائماً من شيء بالفعل، وشيء بالقوّة. وهكذا تستمرّ الحركة ما دام الشيء يحتوي على الفعليّة والقوّة معاً، أي على الوجود والإمكان معاً، فإذا نفد الإمكان، ولم تبقَ في الشيء طاقةٌ على الانتقال إلى درجة جديدة، انتهى عمر الحركة.
هذا هو معنى خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجيّاً، أو تشابك القوّة والفعل أو اتحادهما في الحركة.
وهذا هو المفهوم الفلسفيّ الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقيّة للحركة. وقد أخذته الماديّة الديالكتيكيّة، فلم تفهمه على وجهه الصحيح، فزعمت أنّ الحركة لا تتمّ إلا بالتناقض المستمرّ في صميم الأشياء»[58].
وقد برهن الفيلسوف الإسلامي الكبير «صدر الدين الشيرازي» «فلسفيّاً على أنّ الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه، لا تمسّ ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب، بل الحركة في تلك الظواهر ليست إلا جانباً من التطوّر يكشف عن جانب أعمق، وهو التطوّر في صميم الطبيعة، وحركتها الجوهريّة. ذلك أنّ الحركة السطحيّة في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء، فيجب لهذا أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً، لأنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً»[59]. كما «أوضح أنّ مبدأ الحركة في الطبيعة من الضرورات الفلسفيّة للميتافيزيقيّة»[60].
«فهل يصحّ بعد هذا كلّه اتّهام الإلهيّة أو الميتافيزيقيّة بأنّها تؤمن بجمود الطبيعة وسكونها؟!
والحقيقة أنّ هذا اتهامٌ لا مبرّر له، إلا سوء فهم الماديّة الديالكتيكيّة للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.
فما هو الفارق بين الحركة وقانونها العام في فلسفتنا، ونظريّة الحركة الديالكتيكيّة في الماديّة الجدليّة؟
إنّ الاختلاف بين الحركتين يتلخّص في نقطتين أساسيتين:
1ـ النقطة الأولى: إنّ الحركة في مفهومها الديالكتيكي تقوم على أساس التناقض والصراع بين المتناقضات. فهذا التناقض والصراع هو القوّة الداخليّة الدافعة للحركة، والخالقة للتطوّر. وعلى عكس ذلك في مفهومنا الفلسفي عن الحركة، فإنّه يعتبر الحركة سيراً من درجة إلى درجة مقابلة من دون أن تتجمّع تلك الدرجات المتقابلة في مرحلة واحدة من مراحل الحركة.
ولأجل أن يتّضح ذلك، يجب أن نميّز بين القوّة والفعل، ونحلّل المغالطة الماركسيّة التي ترتكز على اعتبار القوّة والفعل وحدة متناقضة.
إنّ الحركة مركّبة من قوّة وفعل. فالقوّة والفعل متشابكان في جميع أدوار الحركة، ولا يمكن أن توجد ماهيّة الحركة دون أحد هذين العنصرين. فالوجود في كلّ دور من أدوار سيره التكاملي يحتوي على درجة معيّنة بالفعل، وعلى درجة أرقى منها بالقوّة. فهو في اللحظة التي يتكيّف فيها بتلك الدرجة، يسير في اتجاه متصاعد يتخطّى درجته الحاضرة.
وقد خيّل للماركسيّة أنّ هذا لونٌ من التناقض، وأنّ الوجود المتطوّر يحتوي على الشيء ونقيضه، وأنّ هذا الصراع بين النقيضين هو الذي يولّد الحركة»[61].
وهي تتناسى «أنّ درجتين من الحركة لو كانتا موجودتين بالفعل في مرحلة معيّنة منها، لما أمكن التطوّر، وبالتالي لجمدت الحركة، لأنّ الحركة هي انتقالٌ للوجود من درجة إلى درجة ومن حدٍّ إلى حدّ. فلو كانت الحدود والنقاط كلّها مجتمعة بالفعل، لما وجدت حركة. فمن الضروريّ أن لا تفسّر الحركة إلا على ضوء مبدأ عدم التناقض، وإلا ـ لو جاز التناقض ـ فمن حقّنا أن نتساءل: هل إنّ الحركة تنطوي على التغيّر في درجات الشيء المتطوّر والتبدّل في حدوده ونوعيّته، أو لا؟ فإن لم يكن فيها شيءٌ من التغيّر والتجدّد، فليست هي حركة، بل هي وجودٌ وثبات. وإن اعترفت الماركسيّة بالتجدّد والتغيّر في الحركة، فلماذا هذا التجدّد إذا كانت المتناقضات كلّها موجودةً بالفعل، لو لم يكن بينها تعارض؟
إنّ أبسط تحليل للحركة يطلعنا على أنّها مظهرٌ من مظاهر التمانع، وعدم إمكان الاجتماع بين النقائض والمقابلات الذي يفرض على الموجود المتطوّر التغيير المستمر لدرجته وحده. وليس التناقض أو الديالكتيك المزعوم في الحركة إلا باعتبار الخلط بين القوّة والفعل.
فالحركة في كلّ مرحلة لا تحتوي على درجتين فعليّتين متناقضتين، وإنّما تحتوي على درجة خاصة بالفعل وعلى درجة أخرى خاصة بالقوّة. ولذلك كانت الحركة خروجاً تدريجيّاً من القوّة إلى الفعل. ولكنّ عدم الوعي الفلسفي الكامل هو الذي صار سبباً في تزوير مفهوم الحركة.
وهكذا يتّضح أنّ قانون نقض النقض وتفسير الحركة به، وما أحيط به من ضجيج وسخرية بالأفكار الميتافيزيقيّة التي تؤمن بمبدأ عدم التناقض، إنّ كلّ ذلك مردّه إلى المفهوم الفلسفي الذي عرضناه للحركة، والذي أساءت الماركسيّة فهمه، فاعتبرت تشابك القوّة والفعل أو اتحادها في جميع مراحل الحركة، عبارةً عن اجتماع فعليّات متقابلة، وتناقض مستمرّ، وصراع بين المتناقضات، فرفضت لأجل ذلك مبدأ عام التناقض، وأطاحت بالمنطق البشري العام كلّه»[62].
«2 ـ النقطة الثانية: إنّ الحركة في الرأي الماركسي لا تقف عند حدود الواقع الموضوعي للطبيعة، بل تعمّ الحقائق والأفكار البشريّة أيضاً. فكما يتطوّر الواقع الخارجي للمادة وينمو، كذلك تخضع الحقيقة والإدراكات الذهنيّة لنفس قوانين التطوّر والنموّ التي تجري على دنيا الطبيعة. وعلى هذا الأساس لا توجد في المفهوم الماركسي للفكرة حقائق مطلقة. قال «لِنِنْ»:
«فالديالكتيك هو إذن ـ في نظر «ماركس» ـ علم القوانين العامّة للحركة، سواء في العالم الخارجي أم الفكر البشري»[63].
وعلى العكس من ذلك، قانونُ الحركة العامة في نظر «فلسفتنا». فإنّه قانونٌ طبيعيٌّ يسود عالم المادة، ولا يشمل دنيا الفكر والمعرفة. فالحقيقة أو المعرفة لا يوجد فيها ـ ولا يمكن أن يوجد فيهاـ تطوّرٌ بمعناه الفلسفي الدقيق»[64].
وإلا كيف يبقى الجدل حقيقةً واحدة ثابتة، بينما هو ينفي الآحاد والثبوت مطلقاً.
ثم إنّ الماركسيّة التي تؤكّد بإصرار شديد «على حركة الحقيقة وتغيّرها طبقاً لقانون الديالكتيك، [وتعتبر أنّ هذا الكشف هو النقطة المركزيّة لنظريّتهم في المعرفة، وتتغافل عن أنّ هذا الكشف بنفسه] حقيقة من تلك الحقائق التي [آمنوا بحركتها وتغيّرها]»[65].
و[عن] بذور تلك القاعدة المزعومة نقول: إذا كانت هذه الحقيقة تتحرّك كأخواتها ـ جميع الحقائق ـ بالطريقة الديالكتيكيّة، فهي تنطوي على تناقض لا بدّ وأن يتبدّل ذلك القانون بتطوّرها، كما يحتّم ذلك الديالكتيك نفسه.
وإن قالوا: إنّ تلك الحقيقة مطلقة لا تتحرّك ولا يطرأ عليها التغيّر أبداً، كفى بذلك ردّاً على تعميم قوانين الديالكتيك والحركة للحقائق، ودليلاً على أنّ الحقيقة لا تخضع لأصول الحركة الديالكتيكيّة. فإنّ الديالكتيك الذي يُزعم إجراؤه على الحقائق والمعارف الإنسانيّة، يكمن في داخله تناقضٌ حتميّ، وحكمٌ صريحٌ بإعدام حقيقته على كلا التقديرين[66]:
أ ـ لأنّه إذا اعتبرناه حقيقة مطلقة، انتقضت قواعده، واتّضح بالتالي أنّ الحركة الديالكتيكيّة لا تشمل جميع الحقائق، لأنّها لو كانت كذلك لما وجدت حقيقة مطلقاً، ولو كانت تلك الحقيقة هي الديالكتيك ذاته.
ب ـ وإن اعتبرناه حقيقة نسبيّة خاضعة للتطوّر والحركة بحكم تناقضاتها الكامنة فيها، فلا بدّ من أن يطرأ عليها التغيّر ويزول المنطق الديالكتيكي ذاته ويصبح نقيضه حقيقة قائمة مكانة.
«ولمّا عرفنا الآن بكلّ وضوح أنّ الحركة ليست صراعاً بين فعليّات متناقضة دائماً، بل هي تشابكٌ بين القوّة والفعل، وخروجٌ تدريجيٌّ للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن ندرك أنّ الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتيّاً عن السبب، وأنّ الوجود المتطوّر لا يخرج من القوّة إلى الفعل إلا لسبب خارجي. وليس الصراع بين التناقضات هو العلّة الداخليّة لذلك، إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها.
فما دام الوجود المتطوّر في لحظة انطلاق الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيّات التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الداخلي إلا إمكان تلك الدرجات والاستعداد لها، فيجب أن يوجد سببٌ لإخراجه من القوّة إلى الفعل لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخلي إلى حقيقة.
وبهذا نعرف أنّ قانون الحركة العامة في الطبيعة يبرهن بنفسه على ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها الماديّة، ذلك أنّ الحركة بموجب هذا القانون هي كيفيّة وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارةٌ أخرى عن حركتها وتدرّجها، وخروجها المستمرّ من الإمكان إلى الفعليّة. وقد انهارت لدينا نظريّة الاستغناء الذاتي للحركة بتناقضاتها الداخليّة التي تنبثق من الحركة عن الصراع بينها في زعم الماركسيّين، إذ لا تناقض ولا صراع، فيجب أن يوجد التعليل، وأن يكون التعليل بشيء خارج حدود الطبيعة، لأنّ أيّ شيء موجود في الطبيعة، فوجوده في حركة وتدرّج، إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامة، فلا يمكن أن نقف بالتعليل عند شيء طبيعي»[67].
النتيجة من ذلك:
إنّ «المادة في حركة مستمرّة وتطوّر دائم، وهذه الحقيقة متّفقٌ عليها بيننا جميعاً. والحركة تحتاج إلى سببٍ محرّك لها، وهذه حقيقة أخرى مسلّمة بلا جدال.
والمسألة الأساسيّة في فلسفة الحركة هي أنّ المادة المتحرّكة، هل يمكن أن تكون هي علّة للحركة وسبباً لها؟ وفي صيغة أخرى، إنّ المتحرّك هو موضوع الحركة، والمحرّك سبب الحركة، فهل يمكن أن يكون الشيء الواحد ـ من الناحية الواحدة ـ موضوعاً للحركة وسبباً لها في وقت واحد؟
والفلسفة الميتافيزيقيّة تجيب على ذلك مؤكّدة أنّ من الضروريّ تعدّد المتحرّك والمحرّك، لأنّ الحركة تطوّر وتكامل تدريجيٌّ للشيء الناقص، ولا يمكن للشيء الناقص أن يطوّر نفسه، ويكمل وجوده تدريجيّاً بصورة ذاتيّة، فإنّ الناقص لا يكون سبباً في الكمال. وعلى هذا الأساس وضعت في المفهوم الفلسفي للحركة قاعدة ثنائيّة بين المحرّك والمتحرّك. وفي ضوء هذه القاعدة نستطيع أن نعرف أنّ سبب الحركة التطوريّة للمادة في صميمها وجوهرها ليس هو المادة ذاتها، بل هو مبدأ وراء المادة، يمدّها بالتطوّر الدائم، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرج.
وعلى العكس من ذلك الماديّة الديالكتيكيّة، فإنّها لا تعترف بالثنائيّة بين المادة المتحرّكة وسبب الحركة، بل تعتبر المادة نفسها سبباً لحركتها وتطوّرها.
فللحركة ـ إذن ـ تفسيران:
أمّا التفسير الديالكتيكي الذي يعتبر المادة نفسها سبباً للحركة، فالمادة فيه هي الرصيد الأعمق للتطوّر المتكامل. وقد فرض هذا على مبدأ الديالكتيك القول إنّ المادة منطوية ذاتيّاً على الأطوار والكمالات التي تحقّقها الحركة في سيرها المتجدّد. والسرُّ في اضطرار الديالكتيك إلى هذا القول، هو تبرير التفسير المادي للحركة، لأنّ سبب الحركة ورصيدها لا بدّ أن يكون محتوياً ذاتيّاً على ما يموّن الحركة ويمدّها به من أطوار وتكاملات. وحيث إنّ المادة عند الديالكتيك هي السبب المموّن لحركتها، والدافع بها في مجال التطوّر، كان لزاماً على الديالكتيك أن يعترف للمادة بخصائص الأسباب والعلل، ويعتبرها محتوية ذاتيّاً على جميع النقائض التي تتدرّج الحركة في تحقيقها، لتصلح أن تكون منبثقاً للتكامل ومموناً أساسياً للحركة وهكذا اعترف بالتناقض كنتيجة حتميّة لتسلسله الفلسفي، فنبذ مبدأ عدم التناقض وزعم أنّ المتناقضات مجتمعة دائماً في محتوى المادة الداخلي، وأنّ المادة بهذه الثروة المحتواة تكون سبباً للحركة والتكامل.
وأمّا التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهماً عن التناقضات التي يزعم الديالكتيك احتواء المادة عليها، فهل هي موجودة في المادة جميعاً بالفعل؟ أو إنّها موجودةٌ في المادة بالقوّة؟
ثم يستبعد الجواب الأوّل نهائيّاً، لأنّ المتناقضات لا يمكن لها ـ بحكم مبدأ عدم التناقض ـ أن تجتمع بالفعل، ولو اجتمعت بالفعل لجمدت المادة وسكنت. ويبقى بعد ذلك الجواب الثاني، وهو أنّ تلك النقائض موجودة بالقوّة، ومعنى وجودها بالقوّة أنّ المادة فيها استعدادٌ لتقبّل التطوّرات المتدرّجة، وإمكانيّةٌ للتكامل الصاعد بالحركة. وهذا يعني أنّها فارغةٌ في محتواها الداخلي عن كلّ شيء سوى القابليّة والاستعداد. والحركة في هذا الضوء خروجٌ تدريجيٌّ من القابليّة إلى الفعليّة في مجال التطوّر المستمر، وليست المادة هي العلّة الدافعة لها، لأنّها خالية من درجات التكامل التي تحقّقها أشواط التطوّر والحركة، ولا تحمل إلا إمكانها واستعدادها. فلا بدّ إذن من التفتيش عن سبب الحركة الجوهريّة للمادة، ومموّنها الأساسي خارج حدودها، ولا بدّ أن يكون هذا السبب هو الله تعالى، الحاوي ذاتيّاً على جميع مراتب الكمال»[68].
«وحين يتبلور المفهوم الفلسفي للمادة، القاضي بائتلافها من مادة وصورة، نعرف أنّ المادة العلميّة لا يمكن أن تكون هي المبدأ الأوّل للعالم، لأنّها بنفسها تنطوي على تركيب بين المادة والصورة، ولا يمكن لكلٍّ من الصورة والمادة أن يوجد مستقلاً عن الآخر، فيجب أن يوجد فاعلٌ أسبق لعمليّة التركيب، تلك التي تحقّق للوحدات الماديّة وجودها.
وبكلمة أخرى: إنّ المبدأ الأوّل هو الحلقة الأولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتماً بالواجب بالذات كما عرفنا [في الجزء السابق من هذه المسألة].
فالمبدأ الأوّل هو الواجب بالذات، وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنيّاً في كيانه ووجوده عن شيء آخر. والوحدات الأساسيّة في المادة ليست غنيّة في كيانها المادي عن فاعل خارجي، لأنّ كيانها مؤتلفٌ من مادة وصورة، فهي بحاجة إليهما معاً. وكلٌّ من المادة والصورة بحاجة إلى الآخر في وجوده، فينتج من ذلك كلّه أن نعرف أنّ المبدأ الأوّل خارجٌ عن حدود المادة، وأنّ المادة الفلسفيّة للعالم ـ القابلة للاتّصال والانفصال ـ بحاجة إلى سبب خارجيٍّ يحدّد وجودها الاتّصالي أو الانفصالي»[69].
«ولأجل التوضيح نأخذ مثالاً، وليكن هو «الكرسي». فالكرسيُّ عبارةٌ عن صفة أو هيئة خاصة تحصل من تنظيم عدّة أجزاء ماديّة تنظيماً خاصاً، ولذلك فهو لا يمكن أن يوجد دون مادة من خشب أو حديد ونحوهما. وبهذا الاعتبار يسمّى «الخشب» «علّة ماديّة» للكرسي الخشبي، لأنّه لم يكن من الممكن أن يوجد الكرسي الخشبي من دون الخشب. ولكن من الواضح جدّاً أنّ هذه العلّة الماديّة ليست هي العلّة الحقيقيّة التي صنعت الكرسي، فإنّ الفاعل الحقيقي شيءٌ غير مادته وهو النجّار، ولذا تطلق الفلسفة على النجّار اسم «العلّة الفاعليّة». فالعلّة الفاعليّة للكرسي ليست هي نفس علّته الماديّة من الخشب أو الحديد. فإذا سُئِلنا عن مادة الكرسي، أجبنا بأنّ مادته هي الخشب، وإذا سُئِلنا عن الصانع له «العلّة الفاعليّة»، لم نجب بأنّه الخشب، وإنّما نقول إنّ «النجّار» هو الذي صنعه بآلاته ووسائله الخاصّة»[70].
[1] يريد! الشيخ محمّد رضا الجعفري. (م)
[2] لا يخفى أنّ السيّد المؤلّف سيكون حينئذ رابع أربعة. (م)
[3] لم أقف عليه. (م)
[4] ما بين «» ليس كلاماً حرفيّاً للسيّد الشهيد!:
قال!: «إنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام ـ كما ألمحنا إليه ـ هو أنّ مصالح المجتمع [قائمة/منوطة] بمصالح الأفراد… والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخّر لخدمة الفرد وحسابه..». فلسفتنا: 17. وقال! في موضع آخر: «ولكنّ هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح الماديّة الطاغية، لم يبن على فلسفة ماديّة للحياة وعلى دراسة مفصّلة لها». فلسفتنا: 17. (م)
[5] ورد نظير هذه العبارة في «فلسفتنا» لدى الحديث عن النظام الشيوعي: قال السيّد الشهيد!: «ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفّف أو الكامل أنّ طابعه العام هو إفناء الفرد في المجتمع، وجعله آلة مسخّرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها». فلسفتنا: 31. (م)
[6] فلسفتنا: 43. (م)
[7] فلسفتنا: 44. (م)
[9] فلسفتنا: 56. (م)
[12] فلسفتنا: 202. (م)
[14] فلسفتنا: 202. (م)
[16] فلسفتنا: 209. (م)
[17] انظر فلسفتنا: 357. (م)
[18] انظر فلسفتنا: 359. (م)
[20] انظر فلسفتنا: 360. (م)
[22] انظر فلسفتنا: 364. (م)
[24] لم يرد المصدر في أصل البحث، ولم أعثر عليه، ولكنّ الذي يبدو أنّ النصّ المنقول عبارة عن مقالة في صحيفة يوميّة كتبها أحد المفكّرين تعريفاً بـ «فلسفتنا». (م)
[26] انظر عبارة «باركلي» في فلسفتنا: 119. (م)
[28] لم أعثر عليه. (م)
[29] فلسفتنا: 120. والنصّ للسيّد الشهيد! موضحاً مذهب «باركلي». (م)
[30] لم أعثر عليه. (م)
[31] فلسفتنا: 137، نقلاً عن «ما هي الماديّة»: 23. (م)
[32] فلسفتنا: 136 ـ 137، نقلاً عن «ما هي الماديّة»: 20 ـ 21. (م)
[34] راجع فلسفتنا: 79 ـ 84. (م)
[35] الظاهر أنّه يقصد عالم الذرّة الإيرلندي «إرنست والتون» (1903ـ1995م) الحائر على جائة «نوبل» عام 1951م نتيجة أبحاثه في الذرّة. (م)
[36] فلسفتنا: 180 ـ 181، نقلاً عن «ما هي الماديّة»: 46 ـ 47. (م)
[37] فلسفتنا: 198 ـ 199، نقلاً عن «ضد دوهرنگ الفلسفة»: 153. (م)
[38] فلسفتنا: 200 ـ 2001. (م)
[40] أي صالحةٌ للزراعة.
[41] انظر مثلاً: المنطق للشيخ المظفّر): 167 ـ 168، وقد أضيف إليها وحدة الحمل. (م)
[42] انظر مثلاً: المنطق للشيخ المظفّر): 168. (م)
[43] انظر مثلاً: المنطق للشيخ المظفّر): 170ـ 171. (م)
[44] فلسفتنا: 269، نقلاً عن «حول التناقض»: 14 ـ 15. (م)
[46] فلسفتنا: 266، نقلاً عن «ضد دوهرنگ»: 203. (م)
[48] فلسفتنا: 268. (م)
[50] فلسفتنا: 269. (م)
[51] في متن البحث: «يقومان في جسم واحد لأنّهما متعاكسان ومتنافيان». وقد صحّحناه من «فلسفتنا».(م)
[52] فلسفتنا: 269. (م)
[53] فلسفتنا: 236 ـ 237، نقلاً عن «ضدّ دوهرنگ الفلسفة»: 202. (م)
[54] فلسفتنا: 227، نقلاً عن «الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة»: 7. (م)
[55] فلسفتنا: 229. (م)
[56] «القوّة عبارة عن إمكان الشيء، والفعل عبارة عن وجوده حقيقةً». الشهيد الصدر!.
[57] في فلسفتنا: 232: «فنقطة» ولعلّه خطأ مطبعي. (م)
[59] فلسفتنا: 233. (م)
[60] فلسفتنا: 234. (م)
[62] فلسفتنا: 237 ـ 238. (م)
[63] فلسفتنا: 240، نقلاً عن «ماركس، أنجلز والماركسيّة»: 24. (م)
[64] فلسفتنا: 239 ـ 240. (م)
[65] فلسفتنا: 194 ـ 195. (م)
[66] انظر فلسفتنا: 195. (م)
[67] فلسفتنا: 238 ـ 239. (م)
[68] فلسفتنا: 357 ـ 359. (م)
[69] فلسفتنا: 356 ـ 357. (م)