المواجهة الدامية.. المرجع قائداً

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

المواجهة الدامية.. المرجع قائداً

عندما انتصرت الثورة الإسلامية في ايران في شباط 1979م، حدثت أكثر من عملية تحول في وقت واحد.. فلأول مرة في التاريخ الإسلامي يقود مرجع شيعي ثورة جماهيرية ويؤسس دولة اسلامية يتولى قيادتها وفق نظرية ولاية الفقيه، وسط ردود فعل إقليمية ودولية مضادة نشطت بشكل سريع لرصد هذه الظاهرة الخطيرة التي صنعها الأمام الخميني (قدس سره). وقد شخّصت الدوائر الاستكبارية بأن هذه الثورة تمثل بادرة خطيرة في مستقبل المنطقة الإسلامية، ولا بد من منع تكررها في الساحات الإسلامية. وسرعان ما أصبح هذا الموقف هو الخط الاستراتيجي لحكومات المنطقة الإسلامية، وكان العراق هو الدولة الأولى التي إهتمت بهذا التحول باعتبارها المتماسة جغرافياً مع إيران، ويتحرك على ساحتها وبشكل سري حزب الدعوة الإسلامية الذي يحمل نفس توجهات المشروع الخميني في تقويض نظام الحكم في العراق وتأسيس دولة إسلامية.

وفي الوقت الذي إنتصرت فيه الثورة الإسلامية في ايران كان التحرك الإسلامي في العراق قد قطع أشواطاً طويلة من عمله التغييري وفرض نفسه على الساحة بشكل قوي، وهو ما كان واضحاً لدى السلطة البعثية من خلال المظاهر الإسلامية والحضور المكثف في الساحة الجماهيرية، اضافة إلى معلوماتها حول التحرك الإسلامي منذ مجيئها للحكم عام 1968م كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الرابع من هذا الباب.

لقد فهم النظام الحاكم في العراق أن تجربة الثورة الإسلامية في إيران ستتكرر في العراق، فإذا كانت المرجعية الدينية الثورية في ايران والمتمثلة بالامام الخميني قد حققت مشروعها الثوري وأسست الدولة الإسلامية، فان المرجعية الحركية في العراق والمتمثلة بالسيد الصدر ستحقق هذا المشروع إذا ظلت الأمور تسير على وضعها المألوف. بل أن السلطة البعثية تصورت أن الحكم الإسلامي في ايران سيقدم دعمه للحركة الإسلامية في العراق من أجل تسهيل مهمة تقويض نظام الحكم البعثي وإقامة الدولة الإسلامية، وذلك من خلال ما كان يطرح صراحة في أجهزة الاعلام الايرانية وبشكل مكثف وساخن. هذا بالاضافة إلى أن التوجه المبدأي للحركة الإسلامية في العراق كان واضحاً في إرتباطه العقائدي مع الامام الخميني (قدس سره)، وهو ما يجعل المخاوف السلطوية تصل إلى ذروتها.

في تلك الظروف واجه النظام الحاكم أزمة داخلية حادة، حيث ظهرت الصراعات بين مراكز القوى، وكان صدام يحاول إبعاد كل منافسيه عن السلطة. وفي الوقت نفسه كانت محاولة ضرب التحرك الإسلامي تتطلب من وجهة النظر الغربية إجراء تعديل أساسي في هيكلية النظام من أجل أن يكون قادراً على القيام بمهمة ضرب الحركة الإسلامية في العراق، والقضاء على محتملات إقامة حكومة إسلامية.

وقد تمت هذه الإجراءات بشكل مفاجئ في 17تموز 1979م حيث تمت تنحية أحمد حسن البكر عن رئاسة السلطة، وتسلم صدام حسين كافة مناصبه. ثم اعقب ذلك حملة تصفيات شملت فيها أحكام الاعدام العديد من رجال النظام البارزين من وزراء وأعضاء في القيادتين القطرية والقومية للحزب الحاكم..وأتذكر أنني كنت مع الشهيد الشيخ حسين معن في محل إختفائنا في النجف الاشرف، نستمع إلى خطاب البكر وهو يتنازل عن السلطة لصدام، فعلق الشهيد (رضوان الله عليه) بقوله: إن العراق مقبل على فترة دموية.

لقد أراد صدام حسين أن يتخلص من جميع المنافسين، وأن يقضي على كل رجل لا يخضع لإرادته، وإستطاع أن يمسك بيده كل مراكز القوة ومؤسسات النظام الأمنية والمخابراتية، وأن يكون الحاكم المطلق في السلطة.

وبعد أن إستكمل صدام ترتيبات الجهاز الحاكم بدأ المهمة الحقيقية في حكمه وهي القضاء على الحركة الإسلامية والمرجعية الدينية في العراق. ومن هذه النقطة بدأت المواجهة الدموية التي استخدم فيها النظام كل أساليبه وإمكاناته الارهابية ضد أبناء الحركة الإسلامية[1].

المرجع الصدر يقود المعارضة

في تلك الفترة الحساسة من تاريخ العراق ومن مسيرة الحركة الإسلامية، كانت زعامة المرجعية لآية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره)، ثم يليه الأمام الشهيد الصدر. وكان السيد الخوئي لا يتدخل في الشؤون السياسية ويرى أن دوره ينحصر في الحفاظ على الحوزة العلمية.لذلك لم تجد الحركة الإسلامية الدعم الذي كانت تحظى به على عهد الامام السيد الحكيم (قدس سره)، في الوقت الذي كانت فيه الظروف السياسية تستدعي موقفاً مباشراً من قبل المرجعية، تتصدى فيه لقيادة التحرك الإسلامي وتمارس دورها بقوة وسط الأحداث.

ومع إبتعاد الامام الخوئي عن السياسة وكذلك بقية المراجع في النجف الأشرف، بقي السيد الصدر وحده الذي يقف في مواجهة الأحداث، في حين كان الوضع العام يتطلب موقفاً موحداً من قبل مراجع الدين وكبار العلماء في الحوزة الدينية ضد السلطة الظالمة في بغداد.

لقد إستفاد نظام صدام من هذه الحالة إلى أبعد الحدود، فقد وجد أن مشكلته مع القيادة الدينية الشيعية تنحصر بالسيد الصدر وحده، وأن التحرك الإسلامي سيتعرض إلى ضربة قاصمة فيما لو تمكن من إيجاد حاجز بينه وبين المرجعية القائدة المتمثلة في الامام الصدر.

وفي الحقيقة فان هذه النظرة تمثل المرتكز الثابت في السياسة الاستكبارية وفي تخطيط الحكومات العميلة لها، فقد مرّ بنا في فصل سابق من هذا الكتاب أن السياسة البريطانية في العراق وجدت أنها لا يمكن أن تحقق أغراض سياستها ما لم تعزل المرجعية القائدة عن التحرك الجماهيري، وقد لجأت إلى نفي مراجع الدين من العراق لتحقيق هذا الهدف، وإستطاعت بعد ذلك أن تنفذ مشاريعها السياسية في العراق. كما سارت على هذا التخطيط حكومة الشاه في إيران. وبشكل عام فان محاربة المرجعيات الحركية هو هدف الدوائر الاستكبارية، لأنها تمثل القيادة الحقيقية للحركات الإسلامية، ومصدر الوعي الجماهيري الذي يدفع بالأمة لمواجهة المشاريع المعادية للاسلام.

التلاحم الجماهيري مع مرجعية الامام الصدر

لم يكن من الممكن القيام بأي عمل مؤثر ما لم يحدث التلاحم الحقيقي بين الأمة وبين المرجعية، وقد كانت العلاقة بين الأمة وبين المرجعية خلال الفترة التي سبقت تلك الأحداث، لاتحمل معنىً مؤثراً إلاّ ما يتصل بالمسائل الفقهية التي يرجع فيها المقلِّد إلى مرجعه.

وقد كان الامام الصدر يدرك ضعف العلاقة بين الأمة والمرجعية وآثارها السلبية على الوضع الإسلامي العام، فمع غياب الترابط الوثيق بين المرجعية والأمة لا يمكن القيام بدور مؤثر في حركة الأحداث.. وفي المقابل فأن هذا الوضع يصب في صالح السلطة لأنها من خلال هذه الفاصلة تستطيع أن توجه ضربتها للمرجعية وللتحرك الإسلامي الجماهيري بعد أن ترى تفكك الجسم الإسلامي وعدم وجود ترابط حركي بين القيادة وبين الأمة. لذلك كان (رضوان الله عليه) يفكر بالاسلوب الذي يجب إعتماده لربط الأمة بالمرجعية من أجل أن تكون مهيأة للسير خلفها عند المواجهة، كما أنه (قدس سره) كان يريد أن تفهم السلطة الحاكمة أن المرجعية تقف وراءها قاعدة جماهيرية ضخمة، ليشكل ذلك رادعاً بوجه مخططاتها العدوانية.

وعلى هذا الأساس تم الاتفاق بين الشهيد الصدر وبين قيادة حزب الدعوة الإسلامية على القيام بارسال الوفود الجماهيرية من مناطق العراق المختلفة إلى النجف الأشرف لتعلن عن بيعتها للامام الصدر قائداً ومرجعاً تلتزم بالانضواء تحت لوائه من اجل الإسلام.

بدأ تنفيذ هذا البرنامج في شهر رجب 1399 هـ (1979م) حيث أخذت وفود البيعة تتوافد على مدينة النجف الأشرف بعزم ثوري صادق، وأصبح منزل السيد الشهيد مهوى قلوب السائرين في خط الجهاد والثورة. فكانت المواكب الجماهيرية الحاشدة تقف بين يديه (قدس سره) وهي تهتف بحياته وتعلن صراحة إنضوائها تحت لوائه وإستعدادها للإمتثال لأمره وأنها رهن إشارته.

كنت في تلك الفترة وكيلاً للسيد الشهيد في منطقة «جديدة الشط» وهي مدينة صغيرة تقع على نهر دجلة أقرب إلى بغداد منها إلى بعقوبة، تقابلها في الضفة الأخرى منطقة الطارمية شمال بغداد. وفي الساعة السادسة مساءً بلغتني التعليمات القاضية بالتوجه إلى النجف الأشرف في اليوم التالي لمبايعة الامام الصدر.

بعد صلاتي المغرب والعشاء تحدثت كالعادة حديثاً عاماً وقلت في ختام الحديث إننا سنتوجه صباح اليوم التالي ان شاء الله إلى النجف الاشرف للمثول بين يدي الامام الصدر ومعاهدته ومبايعته على الولاء والطاعة باعتباره قائدنا الذي نقلده في أمور ديننا ودنيانا. ثم عقدت إجتماعاً خاصاً مع بعض الاخوة لترتيب مستلزمات التحرك. وفي اليوم التالي توجهنا إلى النجف في موكب جماهيري حافل، وعندما اجتزنا مدينة الحلة كتبت بعض الابيات وأخذنا بترديدها ونحن متجهون إلى منزل المرجع القائد السيد الصدر أتذكر منها الابيات التالية:

يافقيه العصر ياسيدنا***يا أبا جعفر يا قائدنا

نحن جند لك دوماً أُمنا***وستبقى عبقرياً رائدا

وصلنا إلى منزل الامام الصدر وكانت الحشود الجماهيرية تزدحم أمام مرجعها القائد، تعلن له عن مبايعتها له والسير تحت لوائه. وكان (رضوان الله عليه) يفيض حباً ورعاية وهو يلقي بكلماته التوجيهية لأبنائه المجاهدين.. ولشدة الموقف والزحام ألقيت كلمة تعريفية مختصرة بين يديه حول وفد جديدة الشط، وعن مبايعتنا له مرجعاً وقائداً لمواصلة الطريق الصعب من أجل الإسلام وقضيته العادلة.

كما كانت الوفود الجماهيرية تتوافد على منزل الامام الصدر من مختلف مناطق العراق، وتحولت مدينة النجف الأشرف إلى ميدان ثوري ضخم يضم جماهير السائرين في خط الثورة، وكانت المدينة في الوقت نفسه تزدحم بقوات الأمن وأجهزة المخابرات الحكومية، وهي تعيش الخوف والقلق من هذا الغليان الجماهيري الصاخب.

كان الامام الصدر وهو يخطب في جموع الجماهير، يؤكد لهم أنه سيسير في خط الجهاد حتّى النهاية، وأنه لن يتراجع عن نصرة قضية الإسلام ما دام فيه عرق ينبض.

فقد كان يقول (رضوان الله عليه):

(أنتم إخوتي وأبنائي ولن أبرح مكاني حتّى أجاهد معكم حتّى النفس الأخير، أعاهدكم أحبتي انني سأحذوا حذو جدي الحسين)[2].

لقد كان (رضوان الله عليه) يريد أن يعلم الجميع أن قضية الإسلام فوق كل إعتبار، وأن المرجع هو الذي يعيش هموم أمته ويقف في مقدمة الصفوف مدافعاً عن قضية الإسلام، فيعطيها القوة والثقة.. ويتحمل قبل كل فرد من أفرادها مسؤولية الجهاد حتّى ولو كلفه ذلك حياته. فلقد كان (رضوان الله عليه) يحاول أن يزرع في ضمير الأمة صورة الجهاد الحقيقي، وأن يرسم الموقف المطلوب للمرجعية باعتبارها القيادة الشرعية للأمة. فالمرجعية مسؤولية كبرى لا بد لمن يتصدى لها أن ينهض بهذه المسؤولية في الظروف التي يحتاجها الإسلام، وهذا ما جسده الامام الخميني (قدس سره).. وجسده الامام الصدر (رضوان الله عليه).. وجسده عدد من مراجعنا (طاب ثراهم) في فترات تاريخية مختلفة.

بعد أن وجد الامام الصدر أن الوفود الجماهيرية حققت أغراضها، وأظهرت قوة الارتباط المبدأي بين المرجعية الدينية وبين الأمة، قرر (رضوان الله عليه) أن تتوقف الوفود حفاظاً على أبناء الأمة من إنتقام السلطة، فهم رصيد الثورة ومادتها الأساسية. وتوقفت الوفود لكن السلطة لم تتوقف عن إجراءاتها الانتقامية. وكان طبيعياً بالنسبة لها أن تركز ضغطها على القائد الصدر.

في 17 رجب 1399 هـ اقدمت السلطة على إعتقال المرجع الشهيد من منزله في النجف الأشرف، لكن رد الفعل الجماهيري كان سريعاً وقوياً، فقد إنطلقت في مدينة النجف الأشرف تظاهرة جماهيرية تهتف بحياة السيد الصدر وتندد بالسلطة الحاكمة.. كما خرجت تظاهرات جماهيرية اخرى في مناطق مختلفة من العراق.

وقد كان للشهيدة بنت الهدى (رضوان الله عليها) الأثر الكبير في توجيه الأحداث في مدينة النجف الأشرف، فقد وقفت بصلابة وقوة أمام قوات الأمن وخاطبتهم بشجاعة قل نظيرها:

(انظروا ان أخي وحده بلا سلاح بلا مدافع بلا رشاشات.

أما انتم فبالمئات مع كل هذا السلاح،

هل سألتم انفسكم لم هذا العدد الكبير ولم كل هذه الأسلحة

أنا اجيب.. والله لأنكم تخافون.. ولأن الرعب يسيطر على قلوبكم،

والله انكم تخافون لأنكم تعلمون أن أخي ليس وحده، كل العراقيين معه، وقد رأيتم ذلك باعينكم، وإلاّ فلماذا تعتقلون فرداً واحداً لا يملك جيشاً ولا سلاحاً بكل هذا العدد من القوات).

وإستمرت الشهيدة بنت الهدى في خطبتها الشجاعة هذه أمام القوات البعثية المدججة بالسلاح، وقد أثارت خطبتها خوف هذه القوات فتفرق أزلام السلطة في الأزقة.

ولم تقف الشهيدة الكبيرة بنت الهدى عند هذه الخطبة فقط، بل أنها توجهت إلى ضريح الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث ألقت هناك خطبة ثانية اشد حماساً وتأثيراً من الأولى قالت فيها:

(الظليمة الظليمة..

ياجداه..يا أمير المؤمنين..لقد إعتقلوا ولدك الصدر..

ياجداه.. إني اشكو إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد.

أيها الشرفاء المؤمنون هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذب

ماذا ستقولون غداً لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم

إخرجوا وتظاهروا واحتجوا..)[3].

كان للموقف الجماهيري الذي وقفه أبناء السيد الصدر وإعلان تنديدهم وسخطهم على السلطة، أثره البالغ على موقفها، فقد خشيت السلطة الحاكمة أن يتفجر الوضع العام إذا إستمر إعتقال السيد الصدر لذلك إضطرت إلى الافراج عنه سريعاً. لكن الموقف أصبح غير قابل للتراجع من قبل الطرفين، فالسلطة البعثية كانت ترى أنها تواجه أخطر مرحلة في تاريخها السلطوي ولا بد من توجيه ضربة قاضية للحركة الإسلامية وللمرجعية الدينية القائدة.. والحركة الإسلامية كانت ترى أنها تخوض مرحلة مصيرية في مسيرتها وأن التراجع خطوة واحدة يعني الموت إلى الأبد.

الصدر وحيداً كانت الأحداث تتصاعد بشكل خطير، لكن نقطة ضعف قاتلة إستفادت منها السلطة البعثية في توجيه ضربتها للثورة الإسلامية المشتعلة في العراق، تلك هي عدم وقوف مراجع الدين في النجف الاشرف إلى جانب السيد الشهيد، بحيث تشكل المرجعية الدينية موقفاً تضامنياً موحداً ضد النظام الحاكم في العراق. فلقد ترك مراجع الدين السيد الشهيد لوحده يواجه الأحداث دون أن يصدر منهم موقف يشير إلى تأييدهم له أو يُشعر السلطة أنهم غير راضين على ما يتعرض له من مضايقة وضغط من قبلها.

إن الموقف الذي كانت تستند عليه المرجعية في تلك الفترة في الإبتعاد عن الأحداث السياسية، وعدم تسجيل موقف لصالح الثورة الإسلامية في ايران، لم يكن مبرراً بأي شكل من الاشكال، وهذا ما عبّر عنه الامام الصدر بقوله:

(إن الواجب على هذه المرجعية وعلى النجف كلها أن تتخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلامية في ايران… ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ أليس هو إقامة حكم الله عزوجل على الأرض وها هي مرجعية الامام الخميني قد حقققت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرج، ولا أتخذ الموقف الصحيح والمناسب حتّى لو كلفني ذلك حياتي وكل ما أملك)[4].

إن كلام الامام الصدر يشير بما لا يقبل الشك أن المراجع الذين إلتزموا الصمت، قد خالفوا الخط الصحيح للمرجعية، وهم بموقفهم الصامت عطّلوا الدور الحقيقي للمرجعية التي تسعى على طول التاريخ إلى إقامة حكم الله في الأرض كما قال السيد الشهيد.

ونستطيع من خلال كلام السيد الشهيد الصدر أن نفهم أنه يرى أن المرجعية الحقيقية هي التي تسعى لإقامة الحكم الإسلامي كهدف أساس لتحركها وعملها، باعتبارها القيادة الشرعية للأمة التي تتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، وأنها إذا ما تنازلت عن هذا الهدف فانها ستفقد الصفة الحقيقية للمرجعية المطلوبة.

إن السلطة الظالمة إضطرت إلى إطلاق سراح السيد الشهيد لأنها أدركت خطورة الموقف بعد أن حدثت إنتفاضة رجب البطولية، وفي الوقت نفسه كان حزب الدعوة الإسلامية يقوم بعمليات جهادية شجاعة وجريئة ضد مؤسسات ورجال النظام الحاكم بشكل يومي، كما أن هناك مجاميع جهادية كانت تمارس العمل المسلح بصورة متحمسة مستقلة. الأمر الذي جعل السلطة تتخوف من القيام بخطوة تصعيدية ضد المرجع القائد لأنها أدركت بما لا يقبل الشك أن الرد الإسلامي سيأتي سريعاً وقوياً.

وعلى هذا فقد كانت الأحداث بمحنتها القاسية تتصل بالمرجع القائد الصدر وبالحركة الإسلامية، أما مراجع النجف وأساتذة الحوزة العلمية فقد كانوا غير معنيين بما يحدث، وكأن الذين يقتلون ويعّذبون في سجون النظام ليسوا من أبناء الإسلام الذين يدخلون ضمن مسؤوليتهم..

لقد وجدت السلطة الظالمة في ضوء هذا الواقع أن قيادة التحرك الإسلامي منحصرة بالسيد الصدر، فهو المرجع الوحيد الذي أيد الثورة الإسلامية في ايران، ويتصدى وحده لقيادة الثورة الإسلامية في العراق، أما بقية المراجع وأساتذة الحوزة فقد ضمنت السلطة موقفهم، وتأكدت أنهم لن يخرجوا عن صمتهم مهما كانت حملتها شرسة ومهما قامت من أعمال إرهابية بحق السيد الصدر ووكلائه الحركيين وابناء الحركة الإسلامية المجاهدين. وهذا ما جعلها تفكر بعزل السيد الصدر عن قواعده المجاهدة وعن عامة الشعب العراقي، لتمنع تأثيره في رفد ورعاية وتوجيه حركة الثورة المتصاعدة في العراق.

كانت محاولة العزل تتمثل في فرض الإقامة الجبرية على المرجع الصدر، بشكل خانق، فبعد أن أعادته إلى منزله يوم 17رجب 1399 هـ منعت دخول وخروج أي فرد من أفراد أسرة السيد الشهيد، كما منعت دخول أي شخص إلى منزله بما في ذلك خادمه الشخصي الذي كان يتولى مهمة توفير المواد الغذائية لعائلة السيد الصدر. وكان هذا الإجراء يعني حظراً كاملاً حتّى الموت. كما تم قطع الماء والكهرباء والهاتف عن المنزل وبذلك عاش الامام الصدر عزلة تامة عن الشارع وعن كل ما يجري خارج منزله.

يقول الأخ الشيخ محمد رضا النعماني ـ وهو الوحيد الذي ظلّ مختفياً في منزل السيد الصدر ـ في كتابه:

(ولم تنجح خطة الحصار الغذائي بعد أن إنتشر خبرها وشاع بين الناس، فقد واجهت السلطة ضغطاً لا من المرجعية، ولا من الحوزة، بل من الشباب وعامة المؤمنين الذين ملأوا الجدران بالشعارات، وبالمناشير التي توزع بسرية، وتندد بالحصار الغذائي مما إضطر السلطة إلى فك الحصار، فسمحت للحاج عباس ـ الخادم الشخصي للسيد الشهيد ـ بايصال الغذاء يومياً ولكن في رقابتها، وكان شرطي الأمن يرافقه كظله في السوق، ولا يسمح له بالكلام مع عائلة السيد الشهيد فكان يستلم ورقة صغيرة كُتبت عليها إحتياجات العائلة من المواد الغذائية فيقوم بشرائها تحت إشراف الأمن)[5].

لم تتخذ المرجعية وكبار علماء الدين في الحوزة العلمية أي موقف مضاد للسلطة، ولو في مستويات محدودة، من أجل أن تعبّر للسلطة عن رفضها لفرض الحجز على السيد الصدر، وبقي الصمت هو الموقف العام لها. لكن جهاد أبناء الحركة الإسلامية ظل يتواصل بشكل تصاعدي مما أحدث مشكلة خطيرة لأجهزة الدولة الأمنية، فلم يكن بمقدورها رغم الارهاب الوحشي الذي كانت تستخدمه أن تمنع العمليات الجهادية أوحتّى أن تقلل من قوة الإندفاع الثوري لأبناء الحركة الإسلامية.

حاولت السلطة أن تخفف من أزمتها بأن تفاوض السيد الشهيد على التنازل عن مواقفه المؤيدة للثورة الإسلامية ولحزب الدعوة الإسلامية، مقابل رفع الحجز والسماح له بممارسة حياته الطبيعية من جديد. لكنه (رضوان الله عليه) رفض ذلك بشدة وظل على موقفه المبدأي بكل قوة وإصرار. لأنه لم يكن يفكر بوضعه الشخصي، بل كان همه الأول والأخير هو نصرة القضية الإسلامية، وكان (قدس سره) على كامل الاستعداد أن يضحي بكل ما يملك من أجل قضية الإسلام، ولا أدل على ذلك من أنه كان يرى أن إستشهاده يمثل عامل دفع وتحفيز للتحرك الجماهيري، لذلك كان يخطط ليحول إستشهاده إلى مشروع ثوري وقضية تاريخية تدفع الأمة إلى مواصلة الثورة والجهاد من أجل إقامة الحكم الإسلامي، ولقد أعلن عن ذلك في إحدى نداءاته التي أعلنها للشعب العراقي بأنه صمم على الشهادة.

في تلك الأجواء الملتهبة كان حزب الدعوة الإسلامية يكثف نشاطه الجهادي المسلح ضد رموز وأجهزة ومؤسسات الحكومة الظالمة، وكان التنظيم قد تحول إلى العمل المسلح بكامله. ورغم أن المشكلة الكبيرة التي واجهت الحزب هي تصدع الارتباط التنظيمي نتيجة الاعتقالات الواسعة التي شنتها الأجهزة الأمنية في مختلف مناطق العراق والتي طالت عدداً كبيراً من الكوادر، الأمر الذي كان يؤدي إلى إنقطاع الخطوط التنظيمية عن قياداتها، رغم هذه المشكلة الحقيقية، إلاّ أن أفراد حزب الدعوة الإسلامية انطلقوا من الخط العام للمرحلة ومن التوجيهات الثابتة التي كان قد أعلنها الحزب لأفراده، في ممارسة نشاطاتهم الجهادية. وقد برع أبناء الحزب في تدارك الظروف الطارئة، حيث كانت بعض الخطوط التنظيمية تعيد تشكيلاتها بعد فترة وجيزة من تقطعها. وقد ساهمت هذه النشاطات في إبقاء الحزب متماسكاً ومتواصلاً مع قواعده. وفوت على السلطة محاولة إحداث الشلل في تشكيلاته وخطوطه التنظيمية.

لم تكن المواجهة متكافئة بأي شكل من الأشكال، ولم يكن حزب الدعوة الإسلامية قد إستعد بصورة كافية لمثل هذه المواجهة، لكن الأحداث كانت تفرض دخول مرحلة المواجهة وخوض الصراع مع السلطة، ولو تردد الحزب في قرار الثورة لكانت النتائج على قدر كبير من السلبية، ولإنعكست آثارها على الواقع الإسلامي في العراق بشكل يصعب تداركه، حيث كان نظام الحكم قد قرر أن يوجه ضربة نهائية لكل الوجود الإسلامي الحركي في العراق.

كان حزب الدعوة الإسلامية يسعى بكامل جهده إلى تحويل المواجهة المسلحة ضد نظام الحكم إلى حالة جماهيرية عامة يشترك فيها الشعب بكل قطاعاته وطبقاته، ولا تكون مقتصرة على الحركة الإسلامية وحدها. ولذلك كان يخطط من خلال عملياته الجهادية والاعلامية إلى كسر جدار الخوف الذي فرضته السلطة على الشعب العراقي عبر إجراءاتها الارهابية منذ مجيئها إلى الحكم عام 1968م، وقد كان هذا هو ما يتمنى الامام الصدر أن يتحقق في الساحة العراقية. ولقد حدثت إستجابة مشهودة في قطاعات عديدة من أبناء الأمة، حيث كانت تتشكل مجاميع جهادية مستقلة تمارس نشاطات معارضة مختلفة دون توجيه من أي قيادة إسلامية، لأنها وجدت أن الواجب يتطلب إتخاذ موقف عملي من أجل القضية الإسلامية.

لكن المشكلة كانت تكمن في الموقف الصامت للمرجعية وكبار اساتذة الحوزة العلمية، حيث كان هذا الصمت يؤثر سلبياً على إندفاع قطاعات الأمة باتجاه الثورة، كما أنه كان يمنح السلطة بصورة وبأخرى إمكانية تصعيد ممارساتها الارهابية ضد التحرك الإسلامي وقائده الامام الصدر، لأنها تجد أن القيادة الدينية لا تعكس موقفاً موحداً ولا تمثل وجوداً واحداً.

أرادت السلطة أن تخفف من حجم الأزمة التي تواجهها، فقررت رفع الحجز عن السيد الشهيد. ولعلها أرادت أيضاً أن تكتشف بصورة قاطعة الموقف الإسلامي العام من المرجع القائد السيد الصدر، وحجم التلاحم بعد فترة الحجز، وذلك تمهيداً لإتخاذ مواقف قادمة.

وقد أراد الامام الصدر أن يتحول رفع الحجز إلى أمر واقع وأن يحدث الاتصال بينه وبين الأمة بصورة مباشرة، من أجل أن تستمر الحالة الثورية في العراق تحت قيادته، وهذا ما كان يتطلب مبادرة المراجع وكبار العلماء وأساتذة الحوزة إلى زيارة السيد الصدر، لكي تدرك السلطة أن المرجع الصدر ليس وحيداً، وأن المرجعية والحوزة متضامنة معه. لكن هذا لم يحدث وكان المرجع الوحيد الذي زار السيد الشهيد هو المغفور له آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره)[6].

لقد أدركت السلطة أن المرجعية والحوزة الدينية لا تقف مع السيد الصدر، وأنه الوحيد في هذا الوسط الذي يتصدى لقيادة حركة المعارضة والثورة الإسلامية ضدها. وكانت هذه النتيجة لها دلالاتها الخطيرة على الواقع الحرج في تلك الفترة، فهي تعني أن السلطة لو أقدمت على إعدام المرجع القائد فإنها لن تواجه ردة فعل من قبل المراجع والحوزة الدينية… كما أنها لو اعدمت السيد الصدر فإن الحركة الإسلامية ستفقد قيادتها ولن يملأ الفراغ القيادي مرجع آخر من المراجع الموجودين في العراق. وقد كان تقدير السلطة دقيقاً كما أثبتت الأحداث فيما بعد.

فاجعة العصر

بعد أن وجدت السلطة عدم وجود تلاحم بين السيد الصدر وبقية المراجع واساتذة الحوزة، عادت إلى فرض الحجز وبصورة أكثر صرامة من السابق، وكانت في هذه المرة تمهد إلى تنفيذ جريمتها في إعدام الامام الصدر. لكنها في الوقت نفسه كانت تدرك خطورة هذه الخطوة، لا سيما وأن حركة المعارضة المسلحة لم تهدأ أبداً بل كانت تتصاعد مع كل يوم جديد.

حاولت السلطة قبل أن تقدم على جريمتها أن تتفاوض معه من أجل الحصول على بعض التنازلات في مواقفه المتبنية لحزب الدعوة الإسلامية والمؤيدة للثورة الإسلامية في ايران، مع إغراءات كبيرة تقدمها السلطة له في حالة موافقته، لكنه (قدس سره) رفض كل تلك الشروط والعروض وأصر على موقفه المبدأي، رغم علمه الكامل بأن هذا الموقف يعني الاعدام لا غير كما كان يخبره بذلك موفدو السلطة بشكل صريح وقاطع[7].

لقد كان الامام الصدر يدرك بوضوح لا يقبل الشك أن أي مصالحة مع السلطة الحاكمة في العراق، وأي تراجع عن قرار الثورة مهما كان محدوداً، فانه يعني مصادرة جهاد الحركة الإسلامية، وتمكين السلطة من القضاء نهائياً على التحرك الإسلامي في العراق، لذلك رفض (رضوان الله عليه) كل العروض وواجه السلطة بالموقف المبدأي الثابت الذي كان ينطلق من قوة الايمان ووضوح الرؤية والحرص الكامل على الإسلام وقضاياه الكبرى.

قبل إقدام النظام على قتل الامام السيد الصدر، أصدر أبشع قرار في تاريخ العراق وذلك في 31 آذار 1980م، والذي يقضي باعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، وكل من يحمل أفكاره ويروجها أو يتعاطف معها، وتسري أحكام القرار بأثر رجعي[8].

بعد إصدار هذا القرار أقدمت السلطة على جريمتها النكراء بإعدام الامام الصدر (رضوان الله عليه) في 8 نيسان 1980م، مع إخته العالمة الفاضلة الشهيدة بنت الهدى (رضوان الله عليها). وبذلك خسرت الحركة الإسلامية قائدها ورمزها ومرشدها، وخسرت الأمة الإسلامية فكره العملاق وعطاءه الفذ وهديه العظيم، لقد كانت شهادته بحق هي الفاجعة الكبرى في التاريخ الإسلامي المعاصر.

لقد قدّم الامام الصدر النموذج الأمثل للمرجع الديني الذي يعيش هموم الأمة بكل وعي وعمق وتفهم، فلم يكن يرى نفسه خارج دائرة الأمة، بل كان يعيش داخلها وفي مواجهة التحديات التي تتعرض لها، فيقف في الصف الأول مدافعاً ومضحياً.. ولا أدل على ذلك من تصميمه قدس سره على الشهادة في سبيل الله من أجل نصرة قضية الإسلام في العراق، كما قال ذلك في بيانه التاريخي الثاني الذي وجهه إلى الشعب العراقي.

لقد جعل الامام الصدر الشهادة في سبيل الله مشروعاً حضارياً من أجل الإسلام، وهو من خلال هذه القناعة، قطع الطريق أمام كل محاولات المساومة والابتزاز والإغراء والتهديد التي مارستها معه السلطة في بغداد.. كما أنه لم يبق لغيره عذراً في إتخاذ الصمت والتخلي عن قضية الإسلام في العراق.

لكن المحزن في الأمر، أن الحوزة العلمية في النجف الأشرف لم تتخذ أي موقف لتعبر فيه عن إستنكارها لهذه الجريمة النكراء، وظل الصمت هو موقف الحوزة العلمية، وفي تقديرنا أن هذا الموقف السلبي هو موقف طارئ على الحوزة العلمية، لأنها كانت قبل ذلك سباقة إلى التصدي في مثل هذه المواقف الصعبة، لا تسكت لأمثال هذه الجرائم.

مرحلة ما بعد الصدر

بعد إستشهاد الامام الصدر، فقدت الحركة الإسلامية رمزها الكبير وقائدها التاريخي الذي رسم لها معالم الطريق وأسس التحرك والعمل. ومع أن شهادته لم تؤثر على توجهات التحرك الإسلامي من حيث الخط العملي في مواجهة النظام وتصعيد الثورة. حيث واصل حزب الدعوة الإسلامية عمله الجهادي ضد نظام الحكم، كما سارت على نفس النهج التنظيمات الإسلامية الأخرى التي كانت تنطلق بدافع الحماس الثوري. إلاّ أن الزمن كان يختزن في داخله مشاكل كبيرة، لم تكن في البداية واضحة بحكم الوضع الثوري المتصاعد، لكنها فيما بعد أخذت تظهر على السطح لتشمل كل الوضع الإسلامي المعارض.

كانت حركة المعارضة المسلحة تتصاعد باستمرار، وفي المقابل كانت الاعتقالات تزداد شراسة من قبل أجهزة النظام الأمنية، بحيث كان الاعتقال العشوائي ظاهرة مألوفة في الوسط العراقي. وقد كانت تلك الاوضاع تضغط بشدة على حركة المعارضة الإسلامية، فلم يكن هناك مكان آمن يمكن أن يختفي فيه المجاهدون، حيث أن كل الأماكن معرضة لمداهمة قوات الأمن البعثي.

ضمن عمليات الملاحقة والاعتقال، تعرضت لملاحقة قوات الأمن، فاضطررت إلى ترك منطقة جديدة الشط في بعقوبة، لأبدأ مرحلة جديدة من العمل كانت المسافة بيني وبين الموت لمرات ومرات بضع ثوان.. ولمرات عديدة لم يفصل بيني وبين السجن سوى خطوة. وهكذا كان حال المئات أو الآلاف من أبناء الحركة الإسلامية.

كانت خطوط التنظيم تتقطع بشكل يربك العمل والعاملين، ولم يكن أمام المجاهدين سوى مواصلة السير، وترميم ما يمكن ترميمه في حدود الممكن، حيث يبادر الدعاة المجاهدون إلى تجميع تشكيلاتهم في تلك الاجواء الطارئة، وحتّى هذه التشكيلات كانت تتعرض للتقطع باستمرار[9].

في تلك الفترة كان الشهيد الكبير الشيخ حسين معن يتصدى لمهام قيادية واسعة في العمل الجهادي، وقد كنت أعمل معه في توجيه المجموعات الجهادية في مناطق مختلفة من العراق. لكن قوات الأمن البعثي ألقت القبض عليه بعد محاولات عديدة ومطاردة شرسة، ولم تتعرف قوات الأمن في البداية على شخصيته الحقيقية لأنه كان يتحرك تحت أسماء مستعارة. وتم تنفيذ حكم الاعدام به بعد أن تعرفت على شخصيته، وكان ذلك خسارة كبيرة للحركة الإسلامية لما كان يتمتع به من مواصفات عالية قلما تتوافر في الاشخاص المتصدين.

بعد فاجعة الشهيد الشيخ حسين معن، كان لا بد لي أن أواصل طريقه، فقمت باعادة تشكيل المجموعات الجهادية، وطريقة الارتباط بقيادة حزب الدعوة الإسلامية الموجودة خارج العراق.

كانت المشكلة التي نواجهها هي عدم وجود الامكانات الكافية لتنفيذ العمليات الجهادية ضد مؤسسات ورموز النظام الظالم في العراق، لذلك كنا نقوم بشرائه من مصادر متعددة وفي ظروف صعبة لا تقل خطورة عن القيام بعملية جهادية.. وكنت أتحرك باسم مستعار ظل متداولاً في أجهزة الأمن لعدة أشهر، حتّى توصلوا إلى أن صاحب الاسم الحقيقي هو حسين الشامي[10].

إن البطولات التي سطرها أبناء الحركة الإسلامية كانت بحق ملحمة جهادية رائعة قل نظيرها في تاريخ الشعوب، فرغم كل الصعوبات وعدم تكافؤ الطرفين، إلاّ أنهم كانوا بحجم الظرف والتحدي. لقد أثبتوا أنهم أبناء الشهيد الصدر الأوفياء.. ومن عاش تلك الفترة يستطيع أن يقدر قيمة تلك الملحمة التي ستظل شاخصة في تاريخ العراق.. وفي ضمير كل عراقي يعيش همّ قضية الإسلام بصدق وإخلاص.

الهجرة إلى ايران

كانت الأجواء في العراق تزداد إختناقاً مع كل يوم جديد، فالسلطة كانت تصعّد بشكل جنوني إجراءاتها القمعية، وتحاول تضييق مساحات التحرك المعارض إلى أصغر دائرة ممكنة، وكنا نواجه أزمة حادة في أماكن الإختفاء، وفي التنقل بين المدن العراقية نتيجة الاجراءات الأمنية المشددة، وهذا ما كان يجعل تنفيذ المهام الجهادية عملية في غاية الصعوبة. لذلك كنا على إستعداد دائم للدخول في مواجهة مسلحة في أية لحظة، وذلك أثناء تنقلنا بين المدن والمناطق العراقية، أو داخل المدينة الواحدة، فلم يكن لنا خيار آخر غير هذا.

في تلك الفترة كان المجاهدون يضطرون إلى الهجرة خارج العراق، وكانت الهجرة في معظمها تكون نحو إيران، حيث يرابطون في المناطق الحدودية الجنوبية ليبدأوا من هناك تحركهم الجديد.

لم تكن الهجرة برنامجاً مقرراً من قبل حزب الدعوة الإسلامية، لكنها كانت تحدث بصورة قهرية، إذ لم يعد أمام المجاهدين أي طريق آخر غير إجتياز الحدود.. لكن إجتياز خط الحدود ليس نقلة قدم، إنما نقلة بين حياتين وواقعين.

إستطاع حزب الدعوة الإسلامية في بداية الهجرة أن يقدم إلى خطوة كبيرة في حساب الزمن، تلك هي إعادة تشكيل خطوطه التنظيمية في الخارج بشكل كفوء ونشط، وخلال فترة زمنية قصيرة. وقد كان لهذه الخطوة أثرها الكبير على مستقبل الحزب وإستمرار مسيرته. إذ أن الهجرة مع كونها حركة هامة في مسيرة الشعوب، ولها إيجابياتها الكبيرة باعتبار أن الكثير من الحركات حققت نتائجها بعد مرحلة طويلة من الهجرة، كما يحدثنا بذلك تاريخ الانسانية. لكن الهجرة في الوقت نفسه تختزن عوامل سلبية إذا لم تحدث عملية السيطرة على عامل الزمن، لأنها ستتحول على عملية تذويب للعناصر المهاجرة، كما حدث للكثير من الجماعات البشرية التي هاجرت دون أن تحتضنها جهات مسؤولة.

لقد إستطاع حزب الدعوة الإسلامية أن ينظم صفوفه من جديد، دون أن يترك أفراده وجماهيره في الخارج يتحركون بصورة فردية بعيداً عن قضيتهم. وهذه شهادة له تكتب في التاريخ.

في نهايات عام 1979م كان حزب الدعوة ينظم صفوف أفراده في المناطق الجنوبية من ايران، تنظيماً عسكرياً، فيما كانت له مكاتبه الاعلامية والتنظيمية في مدن أخرى وفي عواصم أخرى عربية وأوروبية.

وخلال تلك الفترة عملنا على تنظيم المجاهدين عسكرياً، وتم تشكيل قوات الشهيد الصدر في معسكر قرب مدينة الاهواز. وذلك بعد مساع حثيثة وإتصالات مع المسؤولين في الدولة الإسلامية، ولم يكن الدعم بالحجم المطلوب لوجود خطوط داخل جهاز الدولة كانت تعمل في الخفاء ضد الاتجاهات الإسلامية الأصيلة، وقد تم كشف تلك الخطوط وتنحيتها عن مواقع المسؤولية فيما بعد. لكن ذلك كان بالنسبة لنا إجراءً متأخراً، فلقد دفعنا الكثير وتضررنا الكثير.

كانت قوات الشهيد الصدر نقلة نوعية في طبيعة العمل الجهادي، ليس في مسار حزب الدعوة فحسب، بل في مسار القضية العراقية، فلقد قام مجاهدو قوات الشهيد الصدر بدور بطولي يفوق الوصف والتعريف، في داخل العراق.. وفي العمليات العسكرية على جبهات القتال بعد إندلاع الحرب العراقيةـ الايرانية في أيلول عام 1980م. وأقولها للتاريخ: إن قوات الشهيد تمثل علامة شاخصة في تاريخ القضية الإسلامية في العراق، ولن تكتمل أي دراسة عن تاريخ هذه القضية ما لم تقف طويلاً عند هذه القوات المبدأية المجاهدة.

فمنذ بداية الهجوم العراقي على الأراضي الايرانية، كنا نقف في الخطوط الأمامية دفاعاً عن دولة الإسلام، وقد قدمت قوات الشهيد الصدر أول الشهداء من أبناء العراق في هذه الحرب الطويلة. ولن أنسى ما حييت اولئك الشهداء الأبرار الذين إستشهد بعضهم على بعد امتار مني، والذين فاضت أرواح بعضهم في احضاني، والذين ودعتهم وودعوني الوداع الأخير.. فسلام عليهم جميعاً وتحية حب وتقدير وإعتزاز لكل شهيد ولكل من قضى في سجون العراق صامداً ثابتاً من أجل قضية الإسلام.

الفراغ القيادي

ترك إستشهاد المرجع القائد الامام الصدر، فراغاً قيادياً كبيراً في ساحة المعارضة الإسلامية. فلم يكن هناك أي بديل يستطيع أن يرقى إلى الموقع الكبير الذي كان يشغله (رضوان الله عليه). وقد تنبه الامام الصدر قبيل إستشهاده إلى هذه المسألة، وقدّر أن المرحلة التي ستعقب رحيله، ستواجه هذه المشكلة الحقيقية، لذلك فكر بطرح مشروع القيادة النائبة، حيث يتولى قيادة القضية عدة أشخاص كان قد حدد أسماءهم بنفسه، ووضع برنامجاً محدداً لطريقة عملهم. لكنه (قدس سره) واجه خيبة أمل كبيرة عندما رفض أحد هؤلاء تكليف السيد الشهيد، لأنه كان يتطلع إلى موقع متميز في التشكيلة، وقد سببت هذه القضية ردة فعل مؤثرة لديه، أثرت على صحته وعلى نظرته للكثير من الأمور، كما ذكر ذلك الأخ الشيخ النعماني في كتابه.

إن الفراغ القيادي كان مشكلة حقيقية واجهت المعارضة الإسلامية، فلم يكن من الممكن قيادة حركة المعارضة دون وجود رمز قيادي تلتقي عنده الأمة، ويعبر عن توجهاتها وتطلعاتها. وقد درس حزب الدعوة الإسلامية هذه المسألة وبذل جهوده من اجل الخروج من هذه الأزمة وإيجاد رمز قيادي يتصدى للقضية الإسلامية في العراق.

وفي الحقيقة أن المشكلة القيادية في الوقت الذي كانت تتحرك فيه على مستوى القضية العراقية، فإنها كانت أيضاً تواجه الوضع الداخلي لحزب الدعوة الإسلامية. وعلى هذا فلا بد من الحديث عن هذه المشكلة التي ولدت بعد إستشهاد الامام الصدر، وكانت لها إنعكاساتها غير المباشرة على الوضع الداخلي للحزب، وآثارها المباشرة على حركة المعارضة الإسلامية.

أزمة القيادة في حزب الدعوة الإسلامية

بعد أن حدثت الهجرة إلى خارج العراق كما أشرنا، كانت الجمهورية الإسلامية في ايران هي القاعدة الأكبر لوجود أعضاء حزب الدعوة الإسلامية. وبدأ الحزب في إعادة تشكيل خطوطه التنظيمية وممارسة نشاطه السياسي والإعلامي والعسكري، من خلال اللجان والهيئات المختصة. لكن المشكلة التي واجهها هي النقص الكبير في الكادر القيادي بعد الهجمة الشرسة التي تعرض لها داخل العراق. فكان لا بد من إعادة تشكيل القيادة من جديد، لتمارس مهامها بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة.

دخلت أوساط الحزب في مختلف مواقعها في نقاشات مطولة حول الوضع القيادي وضرورة تشكيل قيادة تتلائم مع المرحلة التي يمر بها الحزب. وقد أسفرت هذه النقاشات عن مشروع عقد مؤتمر عام للحزب يتم فيه إنتخاب القيادة. وقد تم عقد هذا المؤتمر في طهران عام 1980م.

كانت الانتخابات تحدث لأول مرة في تاريخ حزب الدعوة الإسلامية، فمنذ تأسيسه أواخر الخمسينات، وحتّى عام 1980م، كانت قيادة الحزب تقوم على أساس الكفاءة.

لقد كانت الانتخابات في تلك الفترة تمثل حلاً موضوعياً للمشكلة القيادية، إذ لم يكن أمام الحزب خيار آخر. وبالفعل حلت الانتخابات هذه المشكلة. لكن في الوقت نفسه وضعت الحزب أمام مشاكل جديدة، ظهر بعضها في أجواء الانتخابات.. وكان بعضها يولد ببطء مع الأيام.

لقد عارض مشروع الانتخابات عدد من أعضاء الحزب، كان يتزعمهم الشيخ علي الكوراني[11]، ووقف هؤلاء موقفاً متشدداً من هذا المشروع، رغم أن قواعد الحزب وقيادته أقرت هذا المشروع، ورغم أن سماحة آية الله السيد كاظم الحائري الذي تولى في تلك الفترة مسؤولية فقيه الحزب، قد أصدر فتواه بوجوب الالتزام بالانتخابات وعدم معارضتها.

كان من نتائج هذا الاختلاف أن إنفصل هذا الجناح عن تنظيم الحزب، وشكل لنفسه تجمعاً خاصاً. وقد حاولت قيادة الحزب فيما بعد على إمتداد سنوات طويلة إعادة هذا الجناح إلى التنظيم من جديد، لكن المحاولات كانت تنتهي بالفشل، حتى كتابة هذه السطور.

كما أن الانتخابات دفعت بعض رجال الحزب إلى الخروج منه، بعد أن وجدوا أن أسماءهم لم تدرج في قائمة القيادة.

واضافة إلى ذلك فإن هناك مجموعة من أعضاء الحزب، لم تكن لديهم طموحات شخصية، لكن نتائج الانتخابات لم تكن مرضية لهم من ناحية طبيعة الاشخاص الذين تم إنتخابهم. حيث كانوا يرون فيهم أقل كفاءة وقدرة من الموقع الذي شغلوه، وقد آثر هؤلاء الانسحاب بهدوء من التنظيم فيما بعد.

ورغم أن الانتخابات أفقدت التنظيم بعض كوادره، إلاّ أنها كانت خطوة هامة في تلك الفترة. فلم يكن هناك خيار آخر لإعادة تشكيل التنظيم والوضع القيادي غير مشروع الانتخابات. لكن الذي نسجله على الانتخاب أنه تحول إلى قانون ثابت في الحزب دخل في نظامه الداخلي، دون أن يعير مسألة الكفاءة أهمية في هذا الجانب، وبذلك سمح للعناصر غير الكفوءة بالوصول إلى المواقع القيادية، بينما كانت مسيرة الحزب السابقة تولي الكفاءة أهمية خاصة. وحسب قناعتنا كانت هذه المسألة من المسائل الأساسية في وقوع الحزب في مشاكل عديدة، كانت تكبر مع الزمن.

في اكثر من مناسبة ذكرنا أن حزب الدعوة الإسلامية ولد في احضان المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وكان دائماً يعمل تحت الرعاية المباشرة لمراجع الدين وكبار العلماء. وبعد إستشهاد المرجع السيد الصدر، واجه الحزب الفراغ القيادي المرجعي، لكنه عالج هذا الفراغ بأن طرح سماحة آية الله السيد كاظم الحائري كفقيه للحزب. وسماحته من أبرز تلامذة السيد الصدر، ومن اساتذة الحوزة العلمية المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة العلمية العالية. وكان له الدور البارز في إخراج الحزب من أزمة الوضع القيادي وفي سدّ الفراغ الناجم عن إستشهاد الامام الصدر.

بعد إنتهاء مشروع الانتخابات وعقد أول مؤتمر عام للحزب عام 1980م تحت اسم (مؤتمر الشهيد الصدر) تم إقرار النظام الداخلي. وهذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها حزب الدعوة الإسلامية نظامه الداخلي.

جاء في النشرة المركزية للحزب وتحت عنوان: (حول مؤتمر الشهيد الصدر والنظام الداخلي):

(عملت الدعوة المباركة لأكثر من عقدين من الزمن وقطعت اشواطاً مهمة من مسيرتها المباركة دون أن يكون لها نظام داخلي على الطريقة المألوفة في الأحزاب السياسية المعاصرة، وكانت تعاليم الإسلام العظيم وخط الدعوة الفكري والعملي يحكمان سير العمل وينظمانه.. وخلال هذه الفترة طالب عدد من الأخوة المجاهدين باقرار نظام داخلي للدعوة جرياً على ما هو سائد بين الحركات، وكانت المطالبة تزداد كلما ظهرت مشكلة بين الدعاة أو بين الدعاة وأجهزة الدعوة.. وبعد إجتياز مرحلة البناء واستكمال التصور بما يجب أن يكون عليه العمل الحزبي للاسلام ومستلزماته، وفي معظم مراحل مسيرة الدعوة، وبعد تكوّن رصيد ضخم من مفردات خط سير الدعوة ورصيد ضخم من تجاربنا، صار الاتجاه نحو صياغة وإقرار نظام داخلي لعمل الدعوة)[12].

وقد أقر النظام الداخلي مبدأ (فقيه الدعوة)، وكانت هذه الخطوة بمثابة الاجراء القانوني الذي يؤكد خضوع الحزب لقرار المرجعية، وأنه لا يتحرك بمعزل عن رأي الفقيه وتوجيهه.

جاء في النظام الداخلي وتحت عنوان (فقيه الدعوة) ما يلي:

(لما كانت الدعوة تتبنى مبدأ ولاية الفقيه وتحتاج إليه في مسيرتها العملية، فلا بد من أن يكون للدعوة فقيه كفوء يتمتع بمنصب الولاية فيما يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين والحزب.

المادة الأولى: شروط الفقيه الذي يمارس صلاحية أعمال الولاية داخل الحزب هي: الاجتهاد والعدالة والكفاءة.

المادة الثانية: يقوم مجلس الفقهاء بتعيين فقيه الدعوة حسب مواصفات المادة الأولى، وإن لم يوجد مجلس إنحصر الأمر بالفقيه المتصدي.

المادة الثالثة: يجب أن توافق الأكثرية المطلقة للمؤتمر العام على كفاءة فقيه الدعوة ولا يجوز العدول عن هذا القرار إلاّ بقرار من المؤتمر نفسه بالأكثرية المطلقة أيضاً.

المادة الرابعة: المقصود بكفاءة الفقيه ليس هو الكفاءة المباشرة في كل الأمور، بل يكفي فيها رجوعه إلى آراء ذوي الاختصاص في شؤون الدعوة أو غيرهم في الموضوعات الأخرى للتشاور معهم.

المادة الخامسة: يعتمد الفقيه في الدعوة: الإلتزام بالتشاور وتحقيقه له.

المادة السادسة: إذا لم يتوفر الفقيه الذي يستجمع شروط الولاية، يقوم مجلس الفقهاء بمهمة ولاية الفقيه.

المادة السابعة: إذا دانت الأمة لفقيه مستجمع لشرائط الولاية فليس للدعوة أن تتجاوز حكمه مطلقاً)[13].

وقد كان فقيه الحزب هو سماحة السيد الحائري الذي مارس مهامه في هذا المجال، وقد اولى إهتمامه لشؤون الحزب ونشاطاته العامة. لكن سماحته وحسب رأيه الفقهي قرر أواسط الثمانينات الخروج من الهيكل التنظيمي، وممارسة دوره في الاشراف على الحزب من الخارج، باعتبار أن الحزب وصل إلى مرحلة من النضج لا يحتاج إلى وجوده داخل الهيكل التنظيمي.

لكن أعقب ذلك بروز أزمة بين سماحة السيد الحائري وبين الحزب، كان سببها الاختلاف في الرأي حول دور فقيه الحزب والمجلس الفقهي في القرارات والمواقف التي تتخذها القيادة. وكذلك موضوع الثنائية بين فقيه الحزب وبين الولي الفقيه العام للأمة، وضرورة الارتباط به مباشرة أو من خلال ممثل يشرف نيابة على مسيرة الحزب. وقد أوضح سماحة السيد الحائري هذا الاختلاف في رسالة كتبها بتاريخ 4 محرم 1409 هـ إلى تنظيم حزب الدعوة في أوروبا جواباً على إستفسارهم حول موضوع الخلاف، جاء فيها:

(إن إختلافي ليس على اصل التنظيم في العمل الإسلامي كما ورد إحتماله في رسالتكم، ولا هو موجه إلى تنظيم الدعوة بالخصوص، وإنما إعتراضي على فهم مقلوب لمبدأ ولاية الفقيه تعيشه قيادة الدعوة في طهران.

فهم يتخيلون أن ولاية الفقيه تعني أنهم يجب عليهم أن يستأذنوا فقيهاً من الفقهاء في ما رأوا أنه بحاجة إلى الإذن، فرأس الخيط الرابط بينهم وبين الفقيه يكون بيدهم، أي أنهم هم الذين يشخّصون موارد ضرورة الرجوع إلى الفقيه، وليس رأس الخيط الرابط بينهم وبين الفقيه بيد الفقيه نفسه، أي لا يحق للفقيه أن يأمرهم بشي أو ينهاهم عن شيء ابتداءً، وإنما يكون تدخل الفقيه في مورد هم يحسون بضرورة تدخله ويطالبونه بالتدخل، في حين أن معنى ولاية الفقيه لدى الفقهاء الذين يؤمنون بها هو عكس ذلك تماماً، أي أن تشخيص ضرورة التدخل يكون بيد الفقيه لا بيدهم….

إنني من الاشخاص الذين يؤمنون بالعمل الحزبي وأرى له فائدة عظيمة، ولكن اقول: إن العمل الحزبي لو فرض هو القوة الرئيسية في المجتمع، كان هذا عبارة عن العمل الحزبي بروحه الغربية، والذي لا يخدمنا في بلادنا الإسلامية، فان القوة الرئيسية في بلادنا الإسلامية والتي خطط لها الامام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، إنما هي المرجعية الواعية، والعمل الحزبي يجب أن يكون منضوياً تحت قيادة المرجعية الواعية إلى ظهور الحجة عجل الله فرجه الشريف).

لم يصل حزب الدعوة الإسلامية إلى إتفاق مع سماحة السيد الحائري في هذا الخصوص، وقد ظلت الأزمة على حالها حتّى كتابة هذه السطور. وفي تقديرنا أنها ستظل كذلك ما لم يغيّر أحد الطرفين موقفه الفكري في هذا المجال.

وقد مثلت هذه الاشكالية معضلة هامة في مسيرة الحزب في المهجر، وظلت تشكل نقطة خلاف حتّى داخل الأجواء الخاصة في التنظيم. وهي مشكلة كبيرة لأنها تتصل بجانب حساس من العمل وهو مسألة القيادة الشرعية، وآلية العلاقة مع الفقيه.

إن هذه المشكلة لها جذورها التاريخية في مسيرة حزب الدعوة الإسلامية، ففي بدايات الصراع مع السلطة الظالمة في العراق، قرر الامام الشهيد الصدر أن يكون التنسيق بينه وبين قيادة الحزب على أعلى المستويات القيادية من اجل دفع حركة الثورة الإسلامية إلى الامام بشكل فاعل. وقد تم تعيين عضو ارتباط بينه وبين قيادة التنظيم، وفي خلال تنسيق المهام والأعمال طرح ممثل القيادة على الامام الشهيد مسألة القرار النهائي في حالة إختلاف وجهات النظر بين السيد الشهيد وبين الحزب، فأوضح السيد الشهيد بأن القرار النهائي له وعلى الحزب أن يطيع.

ورغم أن حزب الدعوة إلتزم فعلاً بهذا الرأي وكان يؤكد لقواعده بأن رأي السيد الصدر في أي قضية يعتبر أمراً ملزماً تجب طاعته دون الرجوع إلى التنظيم، لكن ذلك لم يكن موقفاً فكرياً عاماً دخل في فكر الحزب، إنما موقع الامام الشهيد ودوره التأسيسي والقيادي، هو الذي كان وراء هذا الموقف. وبعد إستشهاده (قدس سره) عادت هذه المشكلة من جديد.

لقد إعتمد حزب الدعوة الإسلامية مبدأ ولاية الفقيه، وتحدث في ادبياته عن نظرية ولاية الفقيه وضرورة الالتزام بها، وأهميتها الكبيرة في الواقع الإسلامي. كما أوضح طبيعة علاقته بالولي الفقيه العام للأمة، ووجوب الالتزام برأيه وقراراته، وأن فقيه الحزب لا يمثل بديلاً عن الولي الفقيه العام. ثم إنتهى بعد ذلك إلى التخلي عن إطروحة فقيه الحزب، ومحاولة الارتباط بالولي العام عبر ممثل خاص، وذلك لحل إشكالية الاثنينية التي قد يُساء فهمها بين فقيه الحزب وبين الولي الفقيه. لكن ذلك كله لم يعالج المشكلة من الأساس وظلت إشكالية العلاقة بين قيادة الحزب وبين الفقيه قائمة.

وفي هذا المجال نثبت بعض المرتكزات النظرية التي نؤمن بأنها تمثل حلاً لهذه الاشكالية التاريخية التي ظلت تواجه حزب الدعوة الإسلامية، وتتفجر بين فترة وأخرى في أوساطه التنظيمية:

أولاً: إن حزب الدعوة الإسلامية من الناحية التاريخية ولد في أجواء الحوزة العلمية، وتحت رعاية المرجعية ومباركتها، وهذا ما أتاح له فرصة كبيرة في التحرك والعمل والاتساع في الساحات الإسلامية. وهذه مسألة لها أهميتها الكبيرة في مسيرة الحزب، ومن الضروري أن تظل سارية في كل آفاق العمل الإسلامي، وفي كل الحركات الإسلامية، فهي تمثل مسألة مبدأية في العمل السياسي الشيعي عبر التاريخ.

ثانياً: لقد حقق حزب الدعوة الإسلامية نجاحاته الميدانية لأن معظم كادره الأول كان من علماء الدين، ولعالم الدين في الوسط الشيعي خصوصيته المتميزة، فهو يمتلك قدرة على التأثير في الأوساط الاجتماعية. وقد أثبتت التجارب التاريخية في العراق وإيران أن حركة عالم الدين في مجال العمل السياسي تفوق حركة الاشخاص الآخرين، باعتبار أن العلماء هم الواجهة المتصدية للحالة الإسلامية، وهم الرمز الشاخص للوضع الإسلامي.

ثالثا: أثبت علماء الدين الحركيون كفاءتهم الميدانية في صناعة الموقف الجماهيري، وفي تصعيد حالات الثورة في الظروف الصعبة، وهذا ما لاحظناه عن قرب في تجربة القضية الإسلامية في العراق، فقد كان لوكلاء السيد الشهيد في المناطق المختلفة الدور الكبير في إتساع الدائرة التنظيمية لحزب الدعوة الإسلامية، كما كان لهم الدور البارز في شدّ الأمة باتجاه قائدها الامام الصدر، وفي تعبئتها في طريق الثورة.

وإلى جانب هذه المعطيات الحقيقية، نلاحظ أن الامام الشهيد الصدر (قدس سره)، كان يرى ضرورة إعطاء عالم الدين الصفة القيادية في الأمة، فقد جاء في الهدف الخامس من أهداف المرجعية الصالحة، وهي الاطروحة التي كتبها (رضوان الله عليه)، وعمل من أجل تحقيقها:

(إعطاء مراكز العالمية من المراجع إلى ادنى مراتب العلماء، الصفة القيادية للأمة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام)[14].

إننا نفهم من كلام السيد الشهيد أن الصفة القيادية لعالم الدين لاتكون صفة تشريفية، إنما يجب أن تكون واقعية لها مصداقيتها الكاملة في الواقع الإسلامي. كما نستوحي من هذا الهدف الذي حدده السيد الشهيد وجعله أحد أهداف المرجعية الصالحة، أن من القضايا الاساسية التي يجب أن يعمل الحزب الإسلامي وحزب الدعوة على وجه الخصوص باعتباره نتاج الشهيد الصدر، هي مسألة التعامل مع علماء الدين على أنهم يمتلكون صفة قيادية في العمل الإسلامي. فإذا كان المفروض أن يكون للعالم الصفة القيادية في الأمة، فإن من البديهي أن يحضى بنفس الصفة في داخل العمل الحزبي، باعتباره يمثل ممارسة طليعية واعية وسط الأمة.

وتتضح هذه النظرة اكثر من خلال التأمل أكثر في إطروحة المرجعية الصالحة التي رسمها الشهيد الصدر لكن شهادته حالت دون تحققها عملياً. فقد جاء في الهدف الرابع ما نصه:

(القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف انحاء العالم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حق منها واسناده، وتصحيح ما هو خطأ).

إن كلام السيد الشهيد واضح في دلالته، فالمرجعية الواعية هي الحاكمة على العمل الإسلامي بشكل عام. ومع أن هذه النقطة من المسلمات في حزب الدعوة الإسلامية، إلاّ أن المسألة الهامة هي آلية التعامل مع موقع المرجعية، فلا بد وحسب ما نستوحيه من كلام السيد الشهيد، أن يكون العمل الحزبي خاضعاً في الموقف والقرار لرأي المرجع الصالح. وأن إمتدادات المرجع المتمثلة في العلماء الواعين العاملين المرتبطين به بالوكالة والتمثيل لهم صفة قيادية في مواقع العمل الحزبي، وذلك من أجل تحقيق الاشراف المرجعي على الحزب الإسلامي.

وقد كان الشهيد الصدر يرى ضرورة العمل من أجل تهيئة الأجواء التي تجعل المرجعية الصالحة تتمتع بالقوة المطلوبة، حيث كتب (رضوان الله عليه) يقول:

(إيجاد امتداد أفقي حقيقي للمرجعية يجعل منها محوراً قوياً تنصب فيه كل قوى ممثلي المرجعية والمنتسبين إليها في العالم، لأن المرجعية حينما تتبنى أهدافاً كبيرة وتمارس عملاً تغييراً وواعياً في الأمة، لا بد أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك وتفرض بالتدريج وبشكل آخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثليها في العالم).

لقد ولد حزب الدعوة الإسلامية في أجواء المرجعية، ولا بد من أن يحافظ على نقطة القوة هذه ويجعلها حقيقة ثابتة في كل مراحل وفترات عمله. ولا نظن أن هناك عملاً حركياً إسلامياً أكثر إخلاصاً من هذا الحزب للسيد الشهيد وللمرجعية الدينية الحركية.

هذه تصورات نظرية نضعها في مجال العلاقة بين قيادة الحزب وبين المرجعية، وقد إنطلقنا فيها من تجارب التاريخ الشيعي، ومن تجربة حزب الدعوة الإسلامية. وفي تقديرنا أن هذه المسألة لو تم مناقشتها بموضوعية وتجرد فإنها ستحل اشكالية آلية العلاقة بين قيادة الحزب وبين قيادة الفقيه، وتنهي إمكانية بروزها في المستقبل في ظل الظروف الطارئة.

أزمة القيادة في المعارضة الإسلامية

قلنا أن إستشهاد الامام القائد السيد الصدر ترك فراغاً قيادياً في الساحة الإسلامية في العراق. وقد تمثل هذا الفراغ في ثلاث محاور أساسية:

الأول: الفكر العملاق الذي يقدمه رضوان الله عليه، وهذا الفراغ لا يختص بالعراق وحده، إنما يشمل الساحة الثقافية الإسلامية بشكل عام، فلقد خسرت فيه الفكر الأصيل القادر على رفد الأمة بمختلف النظريات والآراء الفقهية والأصولية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية وغيرها. إنها خسارة الفكر الإسلامي التي لا تعوض. لكن المطلوب من مفكري الأمة ومثقفيها ولا سيما تلامذة السيد الشهيد أن يواصلوا مسيرته الفكرية على ضوء المنهجية التي وضعها في نتاجاته، وأن يبلوروا الأسس العلمية لمدرسته الفكرية الرائدة[15].

الثاني: ترك إستشهاد الامام الصدر فراغاً كبيراً في الحركة الإسلامية، فقد كان القائد الذي ترجع إليه في الأمور الصعبة والظروف الحساسة، ورغم الظروف المعقدة التي إضطرته إلى الابتعاد عن الصيغة التنظيمية لحزب الدعوة، إلاّ أنه ظل يمثل الرمز والقيادة العليا للحزب، حيث كان (قدس سره) المرجع الفصل في شؤون الحركة عندما تتطلب الأمور ذلك، وكان هو الملهم والمعلم والقائد الذي يرعى المسيرة ويحدد معالم الطريق.

الثالث: الموقع المرجعي الذي كان يحتله السيد الشهيد، فلقد كان هو المرجع الذي عاش هموم الأمة، وتصدى لقضيتها الإسلامية في مواجهة السلطة البعثية الحاكمة في العراق. وقد بذل رضوان الله عليه كل جهوده من أجل أمته وقضية الإسلام، وكان يخطط لأن يجعل المرجعية مؤسسة فاعلة في حياة الأمة، وليس مجرد وجود ذاتي ينحصر في شخص المرجع، لقد أراد أن يجعل المرجعية رسالة هادفة، وليست حالة شخصية تنتهي بموت المرجع، وقد رسم معالم هذه النظرية بشكل دقيق في أطروحة المرجعية الصالحة[16]. وهو قدس سره من هذه المنطلقات الكبيرة، كان يتعامل من موقع المرجعية على أنه المسؤول عن كل قضايا الامة، ولذلك وقف في مقدمة الصفوف وقاد الأحداث بشجاعة ومبدأية، وظل على مواقفه الثابتة رغم إدراكه الكامل بأن الثبات سيعرضه لإنتقام السلطة، لكنه كان يرى أن إستشهاده هو المشروع الرسالي الذي يخدم قضية الإسلام، فهذا هو الدور الذي يجب أن يمارسه مرجع الأمة عندما تتطلب الظروف ذلك.

وباستشهاد الامام الصدر، خلت الساحة من المرجعية القائدة التي تعيش هموم الأمة وتتفاعل معها وتضحي من أجلها، وقد ظهرت آثار هذه الخسارة الكبيرة على عموم الوضع الإسلامي في العراق.. وعلى القضية الإسلامية العراقية التي فقدت باستشهاده القائد الحقيقي الذي يمكن أن يعطي للأمة ولقضيتها الإسلامية كل ما عنده، حتّى لو كلفه ذلك حياته كما فعل المرجع القائد (رضوان الله عليه).

لقد خسرت الأمة بفقده المرجع والقائد الذي تحتاجه في أصعب مراحلها التاريخية، وخسر حزب الدعوة الإسلامية، المرشد والموجه الذي يحسم الأمور عندما يواجه الحالات الصعبة في أوضاعه الداخلية.. خسره في أدق مرحلة من مسيرته. وخسرت القضية الإسلامية في العراق القائد الذي يستطيع أن يعطيها الموقف الثابت والقرار الصائب، والرمز الذي تجتمع تحت رايته كل الفصائل والقوى المخلصة.

محاولات ملء الفراغ

إستطاع عدد غير قليل من علماء الدين أن يهاجروا من العراق ويستقروا في سوريا وايران وغيرهما من الدول. ولم يكن لهذه الشخصيات في الأيام الأولى للهجرة برنامج محدد له صفة المشروع السياسي المتكامل، فساحة الهجرة كانت جديدة وتتطلب بعض الوقت من أجل التعرف على ظروفها وإمكانيات التحرك في خط المعارضة.

حاول حزب الدعوة الإسلامية الاتصال بعدد من هذه الشخصيات والتنسيق معها لمواصلة العمل ضد النظام في العراق. وكانت ردود الفعل تختلف من شخص لآخر، فقد آثر البعض عدم الدخول في المعترك السياسي، وأبدى البعض تعاطفه مع خط الحزب في حدود معينة، فيما سار البعض الثالث مع توجهاته بشكل فاعل. وهناك عدد من العلماء بدأوا تحركهم بشكل مستقل أوضمن حركات إسلامية ولدت في المهجر.

كانت الجماهير العراقية تنتظر من المعارضة الإسلامية موقفاً تاريخياً مؤثراً، بحيث يكون بمستوى المرحلة. فقد كانت الجماهير العراقية في المهجر على استعداد كامل للتضحية والعطاء، وهذا ما أثبتته في سنوات الحرب الثمان. فلم تكن المشاركة العراقية في الحرب حدثاً بسيطاً، كما أنها لم تكن وجوداً رمزياً، بل كانت حدثاً كبيراً على مستوى الفهم الإسلامي وعلى مستوى الأداء العسكري. فلقد تجرد المجاهد العراقي من مشاعر الانتماء الاقليمي والقومي والعرقي، وتعامل مع الموقف في ضوء مفاهيم الشريعة الإسلامية، فنهض بواجبه على أحسن وجه، وكان مخلصاً في مرابطته على جبهات القتال إلى أعلى درجات الاخلاص، ويكفي أنه كان يتسابق من أجل الوصول إلى خطوط النار، وأنه قدم الدليل حياً واضحاً باستشهاده بعيداً عن الأهل والوطن[17].

وطوال سنوات الحرب الثمان قدم المجاهدون العراقيون مئات الشهداء ومثلهم من الجرحى والمعوقين، وشارك الآلاف في كل المعارك وإنتزعوا بجدارة شهادة إعجاب وتزكية وتقدير ببطولاتهم الاسطورية.

في ظل تلك الأجواء لم تستطع الفصائل الإسلامية أن تنهض بالمسؤولية إلى المستوى المطلوب، ولم تستطع نتيجة التعقيد الكبير في مواقفها من بعضها البعض أن تبلور صيغة قيادية تسد الفراغ الكبير الذي خلفه غياب الامام الشهيد الصدر.

لقد أفرز تعدد فصائل المعارضة وتقاطع إتجهاتها ومصالحها حالة تعقيد كبيرة، فرضت نفسها على ساحة المعارضة العراقية، وجرّت هذه الفصائل إلى حرب باردة، شغلت الجميع عن متطلبات المرحلة، واستهلكت الكثير من الجهود والطاقات والزمن.

ولقد حاول المخلصون تلافي عقبات الطريق، وتجاوز نقاط الخلاف وطرحوا شعار العمل على أساس المشتركات التي يلتقي عليها الجميع وتجميد نقاط الخلاف.

ورغم موضوعية هذا الطرح إلاّ أن سبل التنفيذ كانت عسيرة. حيث وجد البعض أن حجمه الحقيقي لا يمكّنه من الاستحواذ على حصة تناسب طموحه فيما لو حدث تغيير في جهاز الحكم في العراق. كما وجد البعض الاخر أن اللقاء يقيد مرونته ويغلق عليه بابه المفتوح نحو الطموح. هذا بالاضافة إلى وجود أزمة ثقة عميقة بين العلمانيين والاسلاميين، وفي كل دائرة من هذين الانتمائين.

وخلال تلك الفترة المعقدة تمَّ تشكيل جماعة العلماء المجاهدين في العراق، وكان لسماحة الشيخ محمّد باقر الناصري دور بارز في نشاطها. وكانت الجماعة تحاول توحيد الصف الإسلامي لكن تعقيدات الساحة حالت دون ذلك كما ان سماحة السيد محمّد باقر الحكيم كانت له رؤية مخالفة لجماعة العلماء مما زاد الساحة تأزماً وتعقيداً.

لا نريد أن نتوسع في الحديث حول هذا الموضوع لأنه يخرجنا عن منهجية الكتاب، لكن الذي نريد أن نؤكده هنا، أن الفراغ الذي تركه الامام الصدر، ظل خالياً حتّى هذه اللحظة، وكان يمكن أن يملأ بعضه لو كانت الفصائل المتصدية تعيش المسؤولية بحجمها الحقيقي.. وتعيش هموم الامة بالشكل المطلوب. لقد كانت الأمة أكثر إستعداداً على العمل والعطاء من قياداتها، وكانت أسبق منها في التفاعل مع ظروف المرحلة، ولا أدل على ذلك من قيام الشعب العراقي بانتفاضته الكبرى في آذار 1991م والتي عرفت بالانتفاضة الشعبانية. فلقد صنعت الجماهير الانتفاضة وصنعت الأحداث بشجاعة وثبات، دون أن تستطيع الفصائل المعارضة في الخارج أن تواكب قوة الانتفاضة وسرعة الأحداث، لقد كانت هذه الفصائل تحاول اللحاق بحركة الأمة، لكنها لم تستطع ذلك حتّى قمعت السلطة الحاكمة بكل عنف ووحشية هذه الانتفاضة التاريخية[18].

لقد كشفت الانتفاضة عن الكثير من الأمور المهمة في جسم القضية العراقية، أمور لم تكن اطراف المعارضة تعيرها الاهتمام المطلوب، أو كانت غائبة كلياً عن رصدها. وكشفت الانتفاضة كذلك خطأ الكثير من الأحكام التي كانت متبناة بصورة قطعية من قبل المعارضة.

وفي الوقت الذي أسجل فيه هذه الحقيقة القاسية، لا أهمل العوامل الخارجيةـ الاقليمية والدوليةـ الضاغطة والتي ساهمت في منع الحركة الإسلامية الجماهيرية من مواصلة إنتصارها الذي كان يشرف على بلوغ الهدف الكبير في إسقاط نظام الحكم المتسلط في العراق، وإنهاء فترة الظلام التي طالت على أمتنا الإسلامية في العراق.

وجهة نظر

في نهاية هذا الباب نحاول تقديم وجهة نظر ختامية إستناداً إلى التجربة التاريخية التي مرت بها الحركة الإسلامية، وإلى فهم الواقع العام لحركة الاحداث في العراق.

إن الأمة الإسلامية في العراق كانت على طول فترات التاريخ، تتميز بالقدرة على التحرك فيما لو توفرت لها القيادة الواعية التي تعبر عن آمالها وتطلعاتها، ولقد قام بهذا الدور مراجع الدين الواعون والعلماء الحركيون، حيث حققوا التلاحم الكبير بين القيادة الدينية وبين جماهير الأمة، ونتيجة هذا التلاحم تم صناعة الكثير من المواقف التي ستظل شاخصة في التاريخ وفي وجدان الأمة وفي حركة الزمن.

ولا يمكن لأي مشروع يهدف إلى تحكيم الإسلام في الساحة العراقية، وإلى تلبية تطلعات الامة بالشكل المطلوب ما لم يستند على مرجعية دينية واعية لها حضورها الجماهيري والثقافي والسياسي.

لقد كان الامام الصدر (قدس سره) هو المرجع الذي إنتظرته الأمة، وإستطاع أن ينهض بالأمة وبالواقع الإسلامي إلى درجات متقدمة من الوعي والتحرك والعمل، لكن إستشهاده حرم الأمة من مواصلة مسيرتها نحو المستقبل الذي تنتظره.

وعلى هذا فإن المطلوب هو إستكمال المشروع التاريخي للامام الشهيد، والتعامل معه على أساس أنه يمثل المرتكز والمنطلق، وليس ذلك نابع من حالة عاطفية، إنما هو حقيقة موضوعية. فالسيد الشهيد كان مشروع الإسلام الحركي الأصيل في كل أبعاده وآفاقه، ولا بد من إستكمال هذا المشروع من أجل تحقيق هدف الإسلام في العراق.

إن مواصلة طريق الصدر وتحقيق طروحاته العملية هو خيارنا الأول. والجميع يتحمل هذه المسؤولية.

السيد حسين الشامي

(كتاب: المرجعية الدينية)

[1] راجع كتابنا: أزمة العراق..رؤية من الداخل، الفصل الثاني.

[2] مجلة الجهاد، العدد 16.

[3] الشيخ محمد رضا النعماني، الشهيد الصدر، ص216،220

[4] الشيخ محمد رضا النعماني، الشهيد الصدر، ص248

[5] المصدر السابق،ص281.

[6] الشيخ محمد رضا النعماني، الشهيد الصدر، ص302.

[7] حول هذه الفترة من حياة الامام الشهيد راجع كتاب الشيخ النعماني، الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار

[8] ينص قرار الاعدام على ما يلي:

(إستناداً إلى أحكام الفقرة(أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 31/3/1980م ما يلي:

لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد أثبتت بأدلة قاطعة أن حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالأجنبي وخائن لتربة الوطن ولأهداف ومصالح الأمة العربية، ويسعى بكل الوسائل إلى تقويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة 17 تموز مجابهة مسلحة، لذلك قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق أحكام المادة 156 من قانون العقوبات بحق المنتسبين إلى الحزب المذكور مباشرة أو العاملين لتحقيق أهدافه العميلة تحت واجهات أو مسميات أخرى.

ينفذ هذا القرار على الجرائم المرتكبة قبل صدوره والتي لم يصدر قرار بإحالتها على المحاكم المختصة)

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

ويذكر أن المادة 156 من قانون العقوبات تنص على ما يلي:

يعاقب بالإعدام كل من إرتكب عمداً فعلاً بقصد المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها وكان الفعل من شأنه أن يؤدي إلى ذلك.

[9] إن الأحداث المتعلقة بتلك الفترة لها تفصيلاتها الكثيرة التي تخرجنا عن منهج هذا الكتاب، وقد تناولتها بالحديث في كتابي المخطوط (ملحمة الحركة الإسلامية في العراق)

[10] من الطريف أن اسمي سبب مشكلة كبيرة للخطيب الكربلائي المعروف السيد حسين الشامي، وعندما تعرفت أجهزة الأمن على تشابه الاسمين زودته بورقة تبين أنه غير الشخص الآخر المطلوب إلقاء القبض عليه.

[11] الشيخ الكوراني عالم لبناني، تبوأ موقعاً قيادياً في حزب الدعوة الإسلامية، لكن علاقته بالمرجع الشهيد الصدر كانت متأزمة، وقد أراد الشهيد الصدر عزله من القيادة. وكان الشيخ الكوراني يوجه الكثير من التهم للامام الصدر (قدس سره). وعندما قرر الحزب إجراء الانتخابات عارضها بشدة، ولعله كان يدرك أن الانتخابات لم تكن في صالحه. وبعد أن أفرزت الانتخابات عدم إنتخابه في القيادة خرج من التنظيم وقاد حملة تشهيرية ضد حزب الدعوة الإسلامية.. وأخذ يعمل مع الجهات المعادية له، وقد ظل على موقفه المعادي للحزب وكل من له صلة به.

[12] صوت الدعوة، العدد 34. الصادر في ذي الحجة 1401 هـ.

[13] النظام الداخلي، الفصل العاشر، ص 100ـ101.

[14] السيد كاظم الحائري، مقدمة كتاب مباحث الأصول، نص اطروحة المرجعية الصالحة.

[15] بحثنا هذا الموضوع في دراستنا (إشكالية المنهج في دراسة شخصية الامام الصدر) وذلك في الفصل الأول من كتاب (محمد باقر الصدر.. دراسات في حياته وفكره) الذي أصدرته مؤسسة دار الإسلام من قبل نخبة من الباحثين.

[16] سنتعرض إلى هذه الأطروحة في الباب الرابع من هذا الكتاب عند الحديث عن الامام الشهيد الصدر.

[17] راجع كتابنا، أزمة العراق رؤية من الداخل، الفصل الثالث

[18] بحثنا في كتابنا أزمة العراق رؤية من الداخل، موضوع الانتفاضة الشعبانية والموقف المطلوب من فصائل المعارضة العراقية.