ذكرى الشهيد الصدر (ره):
نلتقي بذكرى شخصية إسلامية مرجعية أعطت للإسلام كل عقلها وكلّ قلبها وكل طاقاتها، بل وأعطته كلّ دمها، ألا وهي شخصية السيد محمد باقر الصدر (رض).
هذا الإنسان الذي نتحدث عنه الآن وبكلمة واحدةٍ نقول إنه كان الحركيّ الرساليّ، فلم يعش علمه كطاقة تجريدية تعيش ذاتية الموقع، ولم يعش مرجعيته منذ بدايتها كطموح يرضي العنفوان، بل كان منذ أن انطلق في الحياة إنساناً يريد أن يعيش الحركة غنية وواسعة حتى لو لم تكن طويلة، لأنّ الأشخاص الكبار الذين يحملون الرسالة لا يفكّرون في طول الحياة بل في عمقها وسعتها الأمر الذي يجعل حياتهم وهي تتحرك تختصر الساحة كلّها لتكون متنوعة في أبعادها بحيث تملأ الساحة في كلّ مرحلة من مراحل العمر، وهكذا كان.
ظروف النشأة
رافقته منذ بداية الشباب ونهاية الصبا، وقد كانت عبقريته في صباه تبشّر بأنه يحمل في طاقته مستقبلاً كبيراً، حيث نشأ في بيت علمّي في امتداد الآباء والأمهات، فقد كان من عائلة الصدر العلمية المعروفة، وكان أبوه السيد «حيدر الصدر» ممن ملأ ذهنية المجتمع الحوزويّ في النجف بعلمه وهو لا يزال شابّاً، وكان جدّه السيد «اسماعيل الصدر» من الأشخاص الذين يعيشون في مستوى المرجعية، وكان نسبه من جهة الأم يتصل بعائلة «آل ياسين» فكان خاله الذي تربى في أحضانه الشيخ «محمد رضا آل ياسين» المرجع والفقيه المعروف.
لقد نشأ السيد الصدر في هذا الجوّ وفي حضانة أخيه السيد «اسماعيل الصدر»، الذي كان من العلماء المعروفين في النجف، وبدأت عبقريته الجنينية تظهر عندما كان يحضر المجالس الحوزوية، وحيث كان يناقش ويذاكر، وقد ساعده الجوّ المرجعيّ الذي كان لخاله في أن تنفتح له المواقع.
اهتماماته الفلسفية:
وفي مقتبل عمره وعندما كان يدرس الأصول فكّر أن يدرس الفلسفة، ولم يكن يملك المال الذي يشتري به كتاب الفلسفة، فأعطى كتاب «الحدائق» الفقهي لبعض الناس ليأخذ منه في المقابل كتاب «الأسفار» الفلسفيّ، وانتقده بعض الناس لأنهم كانوا ينظرون إلى الفلسفة نظرة سلبية فلا يستسيغون استبدال كتابٍ فقهيّ بكتابٍ فلسفيّ.
وكانت نظرته إلى دراسته الفلسفية، تنطلق من تطلّعاته المستقبلية إلى أن الواقع الذي يتحدى الإسلام هو واقع الفكر المعاصر الذي يرتكز على عمق فلسفي،ّ وامتداد فكريّ يفرض على طالب العلم أن تكون له المشاركات التي يستطيع من خلالها أن يتعمّق حتى يمتلك عمق الفكرة ليواجه التحديات في العمق والإمتداد.
النبوغ العلمي المبكر:
ثم انطلق وقد تابع فضلاء الحوزة انطلاقاته، وحركة الإبداع في ذهنه وعمق نظرته إلى الأشياء، وأصبح من فضلاء الحوزة في وقت مبكر، حتى أنّ بعض علماء الحوزة الكبار وهو الشيخ «عباس الرميثي» (رحمه الله) كان يريد من السيد الصدر أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العلمية، وضمن هذه الظروف أخذت التحديات تهزّ العراق والحوزة معاً بصدمة لم تعهدها في تاريخها، لأنها لم تكن صدمة سياسية مجردة، بمقدار ما كانت صدمة ثقافية تتحرك فيها الخطوط الثقافية الالحادية التي كادت أن تسيطر على الساحة كلها، وأن تنذر الحوزة بواقع قد يسقط الكثير من مواقعها.
حركية السيد الشهيد:
وانطلقت حركية السيد الشهيد آنذاك بانطلاق (جماعة العلماء) التي كان خاله الشيخ «مرتضى آل ياسين» الشخص الأول فيها، وبدأت جماعة العلماء في النجف الأشرف تصدر المنشورات التي تتحدث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب تفرضه طبيعة تلك المرحلة، وكان السيد محمد باقر الصدر (رض) هو الذي يكتب هذه المنشورات بأسلوب لم تعرفه الحوزة في منهجها التقليدي سواء في الكلمات التي تطلقها أو في الأجواء التي تثيرها.
كتاب «فلسفتنا»:
ثم بدأ السيد محمد باقر الصدر يتحرك في واقع التحدّي الماركسيّ، مستنفراً كلّ ثقافته الفلسفية التي كانت منفتحة على الفلسفة القديمة للاستعانة بها وللاطلاع على الفلسفات الحديثة، وكتب كتاب «فلسفتنا» الذي كانت مقدمته برنامجاً عملياً لحركة إسلامية مقبلة، وكان هذا الكتاب يمثل أكبر تحدٍ للخط الماركسيّ وللخطوط المادية الأخرى، لأنه انطلق من خلفية فلسفية عميقة وحديثة تخاطب العقل المعاصر بأسلوب معاصر يتساوى مع أفضل الأساليب، وقد أحدث هذا الكتاب هزّة في أجواء الماركسيين آنذاك بشكل شعروا فيه بأنّ هناك علماً يخاطب الماركسية بدلاً من الكلمات التي كانت تواجهها بالطريقة الإستهلاكية، لأن السيد محمد باقر الصدر لم يكن إنساناً يستهلك الكلام، بل كان إنساناً يحمل مسؤولية الكلمة وكان ينتج من عمق حركة الفكر فكراً جديداً.
إفتتاحية «الأضواء»:
وعندما أُسست «مجلة الأضواء» وهي مجلة (جماعة العلماء) كان السيد محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيتها تحت عنوان «رسالتنا»، وهو الذي أطلق شعار أن يكون الإسلام قاعدة للفكر، وللعاطفة وللحياة، وهذه هي الكلمة التي اختصرت أبعاد الإسلام في كل مفرداته. وكان يتحرك بالأضواء في كل الأجواء التي يراد لها أن تنطلق بها مع ثلّةٍ ممن رافقه في فكره الإسلامي ومنهجه الحركيّ وتطلّعاته المستقبلية نحو التغيير.
كتاب «اقتصادنا»:
وقد رأى أن الفلسفة لا يمكن أن تمثل كلّ التحدي لهذا الخط الماركسي الذي يعتبر أن الإقتصاد هو الأساس في تطوّر الإنسان والواقع، فلقد كان «ماركس» يعتبر العامل الإقتصاديّ هو الذي يحرّك عملية تغيير الواقع، فكتب كتاب «إقتصادنا» وهو أول كتاب إسلاميّ يكتشف المذهب بطريقة علمية، ويناقش الإقتصاد الرأسمالي والماركسي بالإقتصاد الإسلاميّ، ولم يستطع أحد ممن سبقه أو ممّن تأخر عنه أن يتحدّى هذا الكتاب بكتاب أو بفكر أفضل منه.
إنشاء حركة إسلامية:
وكان الإنسان الذي أطلق الحركة الإسلامية، فانبثقت من فكره كقاعدة ومن أفكار بعض الذين عاشوا معه وتحركوا معه، وكان يعطيها فكره ومنهجه، كما كان يؤسس لها ويمنهج أسلوبها حتى استطاعت الوقوف على قدميها في عصره، وإننا نتصور أنه أول إنسان أطلق الحركة الإسلامية في المحيط الذي ينتمي إليه في العراق وفي خارجه.
إغناء الفكر الإسلاميّ:
وهكذا بدأ يتحرك في أكثر من جانب ليغني الفكر الإسلامي، فلقد كان يعيش قلق المعرفة، حيث كانت المعرفة عنده قلقاً يبحث فيها عن كل جديد، وعن متغيرات الواقع، وعن تحدّيات الكفر والإستكبار، وكان يعيش الهمّ العلمي والهمّ الإسلاميّ وهمّ الواقع الإنسانيّ بمسؤولية لا كمن يعيشون الهمّ في حالة بكائية خائفة تتحدث عن اليأس وعن الفشل، وكان الأمل بالإسلام يملأ قلبه، وكانت الثقة بالله تملأ عقله، وكانت إيجابيات المجتمع الإسلاميّ تحرّك خطواته.
وهكذا كان يعيش التحدي للواقع وهو يكتب الفقه والأصول و«الأسس المنطقية للإستقراء» ويعيش التحدي وهو يكتب مقالاً هنا ومقالاً هناك، ويعيش التحدي وهو يتحدث لطلابه في أكثر من جانب من جوانب الواقع في خط الإسلام.
مرحلته حسينية:
وكان الحسين في عقله، فكان يستوحيه ويستهديه وكان يشعر في قمة تحديه أنّ مرحلته حسينية، ولذلك كان يفكّر بالكثير من الأساليب التي قد يعتبرها الناس استشهادية إذا عاشوا مسؤولية الكلمة، وإنتحارية إذا لم يعيشوا مسؤوليتها.
كان يشعر أن عليه وهو في بداية مرجعيته أن يتحدث بصراحة، وأن يطلق الفتوى بوضوح ومسؤولية. ولم يكن يجد في مرحلته أنّ التقية تفرض عليه أن يسكت أو ينسحب، أو يخلع على الكلام غلافاً يغطّي الحقيقة أو يخفف من قسوتها، بل كان يجد أنّ المرحلة هي مرحلة صدمة الواقع لا الاسترخاء أمامه. من هنا أريد لهُ أن يخفّف من لهجته فزادها ثقلاً، وأريد له أن يبتعد عن الوضوح فكان أكثر وضوحاً، وأريد له أن يتراجع، فكان أكثر تقدّماً وتحدّياً.
قيل له إنّ المرجعية العربية تتمثل فيك، وسنفتح لك كلَّ المجال ولكن كن تقليديّاً كمن سبقك، ورفض أن يكون تقليديّاً في مرحلة كانت التقليدية أماناً وكانت الثورية خطراً، فتقبّل الخطر، وبدأ يفكّر في المرجعية الرشيدة بأن يضع لها منهجاً وأن لا يجعلها ذاتية تعيش في إطار الشخص، وبعبارة أخرى أرادها موضوعية تتحرك لتبلغ المرجعية المؤسستيّة.
إنتصار الثورة الإسلامية:
وكتب تجربته، وحاول أن يحرّكها في الواقع، وتجمّع ذلك كله لا سيما بعد أن نجحت الثورة الإسلامية في إيران، وأعطاها كلّه وذاب فيها، وأراد لكل أصحابه وأتباعه أن يذوبوا فيها لأنه رأى فيها الحلم الكبير، ورأى أن ما يفكّر فيه قد تحقّق ولو من خلال تجربة واحدة، ولا بدّ للجميع أن يحيطوها لتستمر وتقوى وتتصلّب وتبلغ أهدافها.
وخاف الآخرون.. وخاف النظام العراقي، ومن خلف النظام الطاغي أن يكون العراق هو الدولة الإسلامية الثانية، وشعروا بالخطر من خلال حركة الجماهير، وكانت المأساة.. وكانت الشهادة، ولكن السيد محمد باقر الصدر (رض) وهو الذي يمثل قوة الفكر، وقوة الموقف، وقوة التطلّع نحو المستقبل، وقوة التغيير، باقٍ بفكره، وبروحه، وبكل المنهج الحركيّ الذي خطّه، وبكل هذا الجيل الذي صنعه والذي فتح له الطريق.
فلا تدرسوه كتأريخ ولكن أدرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجة إليه، وكأمل لا يزال المستقبل بحاجة إليه.
والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّا
السيد محمد حسين فضل الله