الامام الصدر ودوره في الصراع السياسي في العراق

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة

يشكل الاسلاميون ـ اليوم ـ القوة السياسية الرئيسية المعارضة للعديد من انظمة الحكم في المنطقة الاسلامية، كما تبرز الحركة الاسلامية كقوة رئيسية في حركة المعارضة العراقية، ويعتبر حزب الدعوة الاسلامية اوسع الحركات والوجودات الاسلامية انتشاراً داخل العراق وخارجه، ويحظى بتعاطف والتفاف جماهيري واسع لا يتوفر لاي وجود سياسي معارض آخر في العراق.

ويبرز الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر باعتباره المؤسس والمنظر الرئيسي للحزب، ولكونه مرجعاً دينياً بارزاً، وقائداً سياسياً تصدى لقيادة جهاد الشعب العراقي ضد نظام البعث في العراق، كأبرز شخصية اسلامية وسياسية عرفها تاريخ العراق والمنطقة خلال قرننا الحالي.

لا يمكن فهم الاوضاع السياسية في العراق، وادراك حقيقة الصراع الدموي الذي تشهده بلاد الرافدين، من دون دراسة الدور الذي لعبه الامام في الاصعدة الفكرية والسياسية والدينية، ومعرفة اهداف تحرك الشهيد الصدر وبرنامجه السياسي.

فلقد كان الامام الصدر صاحب مشروع سياسي يهدف الى تكوين دولة اسلامية[1]. تنمي الطاقات الخيّرة لدى الانسان وتوظفها في المسيرة الحضارية للانسانية، وتحرره من الانشداد للدنيا، بما تحمله من اخلاقية، فترتفع بالانسان عن الهموم الصغيرة التي تفصله عن الله سبحانه وتعالى، وتجعله يعيش من اجل الهموم الكبيرة، بحيث تكون كل قواه وطاقاته معبأة للمعركة ضد التخلف[2].

الا ان تحقيق هذا الهدف ـ اقامة الدولة الاسلامية ـ بلحاظ الظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها المسلمون، يبقى هدفاً دونه شوط بعيد.

فبعد ان دخل المستعمرون بلاد المسلمين وتقاسموها بينهم، تمت عملية استعباد للعالم الاسلامي، حيث اقصيت العقيدة الاسلامية من موقعها كقاعدة رئيسية لكيان الامة، ووضعت الامة في أطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها، ولذا فان المعركة الحاسمة التي تخوضها الامة ضد اعدائها، تستهدف قبل كل شيء استرداد القاعدة للاسلام وجعل العقيدة الاسلامية في موضعها المركزي من حياة الامة، والقضاء على الواقع الفاسد والكيان القائم برمته.

ان ابرز ما تميّز به الامام الصدر عمّن سبقه من العلماء والمفكرين والمصلحين، هو الوعي التغييري الجذري الذي يؤمن به ويطرحه. فلقد شخّص المشكلة التي تواجهها الامة الاسلامية، وادرك ان الاعمال الاصلاحية التي كانت تطرح والمشاريع التي تقام على مدة اكثر من ثلاثة عقود، لم تكن قادرة على تحقيق نتائج ايجابية كبيرة لكونها لا تستند الى نظرية عمل واضحة، ولا تعتمد اساليب عمل كفيلة بتحقيق المعالجة الجذرية لمشكلة الامّة.

ورغم ان السيد الصدر لم يكن يرفض الاعمال الاصلاحية بل كان يشجعها الا انه كان ينظر اليها على انها يجب ان تكون حلقات في مخطط تغييري شامل، فكان يؤكد ان النظرة الاصلاحية لواقع الامة الاسلامية هي نظرة غير واقعية، فالامة التي ابتعدت كثيراً عن قيم الاسلام ومفاهيمه، وشاع في اوساطها الكثير من العادات والاعراف الجاهلية، وسيطرت على اذهانها الافكار المادية المعادية للاسلام، وخضعت لسيطرة القوى الاستعمارية وادواتها في العالم الاسلامي. ان هذه الامة هي بحاجة الى عملية تغيير فكري واجتماعي شامل، وصياغة جديدة لشخصيتها.

الامام الصدر… والتنظيم

ان عملية التغيير الفكري والاجتماعي الشاملة لواقع الامّة تحتاج الى وعي اسلامي تغييري واساليب عمل كفوءة قادرة على ترجمة هذا الوعي في ساحة الواقع.

فكانت خطوة الامام الصدر الاولى في انجاز مشروعه الكبير، تأسيسه لتنظيم اسلامي سياسي، اطلق عليه اسم «حزب الدعوة الاسلامية» حيث وضع اسسه الفكرية وارسى قواعده التنظيمية.

كانت بداية التأسيس لقاءً عقد في شتاء عام 1957 ضم السيد الصدر مع سبعة اخرين من علماء دين ومثقفين اسلاميين، اجتمعوا في منزل المرجع الديني السيد محسن الحكيم. وكان ذلك اللقاء بمثابة الاجتماع التأسيسي، سبقته لقاءات عديدة جرت فيها دراسة لتجارب الاحزاب السياسية في العالم والاطلاع على انظمتها الداخلية.

كانت مبادرة السيد الصدر بتأسيس حزب سياسي، نهاية لحقبة طويلة ابتعد فيها العلماء عن ممارسة هذا اللون من النشاط الاسلامي، وهي حقبة بدأت بعد عودة العلماء المنفيين عام 1924 الى العراق، وعودة الى المرحلة التي نشط فيها علماء الدين في قيادة الشعب العراقي، فمنذ مطلع هذا القرن، وخاصة بعد دخول القوات البريطانية الى العراق، تصدى علماء الدين لتأسيس العديد من الجمعيات والاحزاب السياسية، ففي عام 1917 تم تأسيس جمعية النهضة الاسلامية برئاسة السيد محمد بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري، وهذه الجمعية هي التي تولت اعلان ثورة النجف عام 1918[3] والتي كانت اول مواجهة مسلحة مع القوات البريطانية بعد الحرب العالمية الاولى، وفي تموز 1918[4] تأسس الحزب النجفي السري وضم عدداً من علماء الدين كالشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد جواد الجزائري والشيخ جواد الجواهري، كما ضم عدداً من رؤساء العشائر والشخصيات الاجتماعية كالحاج محسن شلاش والسيد هادي زوين، والسيد علوان الياسري، والشيخ شعلان ابو الچون، وحظي هذا الحزب بدعم المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي[5]، كما تأسست في كربلاء في تشرين الاول 1918 الجمعية الاسلامية التي ترأسها الشيخ محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي، وضمت في عضويتها السيد هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني، وآخرين.

وفى شباط 1919 تأسست جمعية حرس الاستقلال وكان من ابرز اعضائها الشيخ محمد باقر الشبيبي، وعلي البازرگان، وجلال بابان، ومحمد رامز، ومحي الدين السهروردي، وشاكر محمود، والسيد محمد الصدر، وجعفر ابو التمن، ويوسف السويدي، والدكتور سامي شوكت[6].

وكان لهذه الاحزاب والجمعيات دورٌ بارزٌ في التصدي للاحتلال البريطاني للعراق، والذي توج بانطلاقه ثورة العشرين الخالدة في 30 حزيران 1920، والتي تركت اكبر الاثر في مستقبل العراق السياسي، وكانت صفحة مشرقة في تاريخ الشعب العراقي، برز فيها الدور الاسلامي بزعامة علماء الدين في التصدي للبريطانيين.

الا انّ تصدي العلماء للعمل السياسي أصيب بنكسة، حين قامت حكومة عبد المحسن السعدون في 25 حزيران 1922 باعتقال ونفي عدد كبير من علماء الدين المعارضين لمعاهدة 1921 بين الحكومة العراقية التي شكلت بعد ثورة العشرين وبين بريطانيا.

ثم عرضت الحكومة العراقية على العلماء المنفيين العودة الى العراق بشرط التعهد بعدم التدخل في الامور السياسية، فبعث السيد ابو الحسن الاصفهاني من منفاه في ايران في 25 شعبان 1342 هـ  برسالة الى الملك فيصل الاول، ملك العراق، يعلن فيه قبوله بالشروط التي وضعتها الحكومة العراقية، وكانت تلك الرسالة بمثابة الاقرار بالانسحاب من حلبة الصراع السياسي من قبل العلماء والتخلي عن قيادة الجماهير العراقية في مطالبتها بنيل حقوقها المشروعة.

وقد عملت السياسة البريطانية في العراق على عزل علماء الدين عن الامة، وتشويه الصورة المشرفة للجهاد الذي خاضه العلماء من اجل قيادة الامة وتحقيق استقلالها. كما خططوا لضرب طوق من العزلة حول المؤسسة الدينية وخاصة الحوزة العلمية في النجف الاشرف.

وبمرور الزمن بدأت تبرز قيم ومفاهيم غريبة داخل اوساط الحوزة العلمية في النجف الاشرف، ما لبثت ان سرت في الاوساط الشعبية، فبات التعاطي بالامور السياسية يعد نوعاً من الخروج عن الاسلام ومبادئه واصبح التداول بالفكر او العمل السياسي من المحظورات المحرمة، بحيث ان اي متدين او عالم دين اذا ما حاول ان يمارس عملا سياسياً كان يخّطأ ويعزل اجتماعياً ويكون محطة لاثارة الشبهات[7].

وكان السيد الصدر يدرك وهو يتصدى لتأسيس حزب اسلامي، ان هذا الامر سيثير الكثير من الاشكالات، حيث كان الوسط الذي يعيشه يعاني من حالة التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، في نفس الوقت كانت الاوساط الدينية تستنكر العمل السياسي بشكل عام واسلوب العمل الحزبي في الدعوة للاسلام بشكل خاص[8].

فبادر السيد الصدر للدفاع عن العمل الحزبي قائلا «ان اسم الدعوة الاسلامية هو الاسم الطبيعي لعملنا، والتعبير الشرعي عن واجبنا في دعوة الناس الى الاسلام، ولا مانع في ان نعبّر عن انفسنا بالحزب والحركة والتنظيم، فنحن حزب الله، وانصار الله، وانصار الاسلام، ونحن حركة في المجتمع، وتنظيم في العمل، وفي كل الحالات نحن دعاة الى الاسلام، وعملنا دعوة الى الاسلام» وحول مشروعية هذا العمل يقول «وحيث ان الشريعة الاسلامية لم تأمر باتباع اسلوب محدد في التبليغ والتغيير جاز لنا شرعاً انتهاج اية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الاسلام واحكامه وتغيير المجتمع بها ما دامت طريقة لا تتضمن محرماً من المحرمات الشرعية، وأية حرمة شرعية في ان تتشكل الامّة الداعية الى الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في هيئة، وجهاز، وتكون كياناً موحداً وفعالية منتجة في الدعوة الى الله عز وجل»[9]. وبسبب الظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المؤسسة الدينية والمجتمع العراقي، اضافة الى موقف السلطات العراقية والدوائر الغربية المهتمة باوضاع العراق، كان لابد ان يتخذ التنظيم الذي اسسه السيد الصدر طابعاً سرياً. لان الاعلان عنه سيثير من حوله الكثير من المشاكل بفعل الاجواء الراكدة التي يتحرك في داخلها، تلك الاجواء التي استسلمت للدعة والهدوء وباتت ترفض كل تغيير، فاصبح الحديث عن السياسة والعمل السياسي ومناقشة قضايا الامة والاهتمام بها لوناً من ألوان الانحراف والضلال والخروج عن منهج الاسلام وابتعاد عن جادته.

ولم يكن قرار السرية في التنظيم مما اختص به مؤسسوه بل ان المرجع الديني السيد محسن الحكيم، هو الآخر كان يعتقد بضرورة الحفاظ على سريته وهو ما أشار به على وفد من حزب الدعوة الاسلامية التقاه في 9 حزيران 1969[10].

ورغم السرية التي احاط بها الحزب نفسه، الا ان تحركه في اجواء راكدة كان كفيلا بان ينبه البعض ممّن لم يكن يروق لهم التغيير في الاوضاع الجامدة التي تعيشها الحوزة العلمية في النجف.

فواجه السيد الصدر حملة منظمة لتوزيع الاتهامات واشاعة الاكاذيب والاباطيل بحجة حماية جامعة النجف الاشرف، وتحرك البعض على مراجع الدين وكبار العلماء يوم ذاك، امثال السيد محسن الحكيم والسيد ابو القاسم الخوئي لتشويه صورة السيد الصدر في اذهانهم:، فذهب احدهم الى السيد الحكيم وتباكى أمامه عى مستقبل الحوزة العلمية في النجف الاشرف، بينما سعى آخر الى السيد الخوئي ليخبره في معرض التعريض بالسيد الصدر بانه اسس حزباً اسلامياً، فرد عليه السيد الخوئي «لو اسس السيد محمد باقر الصدر حزباً فانا أوّل من أسجل أسمي فيه»[11].

واستخدم السيد الصدر نفوذه وشخصيته العلمية الكبيرة في توسيع قاعدة التنظيم، حيث كان يرسل على العلماء ويطرح عليهم فكرة العمل في هذا التنظيم، ثم يبعثهم الى مناطق العراق المختلفة لفتح خطوط تنظيمية جديدة، وهكذا فلم تمض فترة طويلة حتى امتد التنظيم الى بغداد، وكربلاء، والبصرة، والناصرية، وغيرها من المدن العراقية.

جماعة العلماء:

بعد انقلاب 14 تموز 1958 الذي قاده عبد الكريم قاسم، شهد العراق مداً شيوعياً واسعاً، بسبب تحالف عبد الكريم قاسم مع الحزب الشيوعي العراقي لدعم موقفه في الصراع الذي كان يخوضه مع مجموعة من ضباط الجيش بزعامة عبد السلام عارف.

وادى تغلغل الشيوعية في المدن ذات الطابع الديني مثل كربلاء، والنجف، والكاظمية الى دق نواقيس الخطر في صفوف المرجعية، ممّا حمل مجموعة من كبار العلماء على المبادرة عام 1959، الى تأسيس جماعة العلماء[12]، والتي ضمت عدداً من المجتهدين وكبار العلماء، وترأس الجماعة الشيخ مرتضى آل ياسين. ولم يكن السيد الصدر عضواً في جماعة العلماء لصغر سنة، الا انه كان اللولب المحرك للجماعة ومحور نشاطها بشكل عام، وتولى مع ثلة من العلماء الواعين اصدار مجلة «الاضواء» لسان حال الجماعة، وكتب افتتاحيات اعدادها الاولى تحت عنوان «رسالتنا».

وقد ادرك اعداء الاسلام الدور الكبير الذي تلعبه «الاضواء» بما تقدمه من زاد فكري، وثقافي اصيل، فراموا الطعن فيه والقضاء عليه، فاستغلوا بعض الثغرات الموجودة في تشكيلة جماعة العلماء.

وقد واجهت الجماعة مشكلة كبيرة بعد اعتراف شاه ايران بالكيان الصهيوني حيث ارسل الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر يومذاك رسالة الى السيد محسن الحكيم طلب منه استنكار ذلك والضغط  على الشاه لسحب اعترافه، وقد نشرت الاضواء رسالتي شلتوت والحكيم وعلقت على ذلك بشكل مثير، ممّا أثار الانقسام في صفوف علماء النجف، فريق مع الاضواء وفريق ضدها[13].

وقد اعترف السيد الصدر بنجاح الحملة المضادة للاضواء ولموضعه فيها «رسالتنا» في رسالة كتبها لاحد تلامذته حيث يقول «أمّا واقع الاضواء فهو واقع المجلة المجاهدة في سبيل الله، غير ان حملة ـ على ما أسمع ـ شنها جملة من الطلبة ومن يسمى بأهل العلم او يحسب عليهم»، وهي حملة مخيفة، وقد أدت ـ على ما قيل ـ الى تشويه سمعة «الاضواء» في نظر بعض أكابر الحوزة. ويضيف في رسالته «ان هناك زحمة من الاشكالات والاعتراضات لدى جملة من الناس او (الآخوندية) في النجف على النشرة وخاصة «رسالتنا» باعتبار انها كيف تنسب الى جماعة العلماء مع انها لم توضع من قبلهم ولم يطلعوا عليها سلفاً وان في هذا هدراً لكرامة العلماء»[14].

وازاء حملة التشكيك والافتراء، اضطر السيد الصدر الى التوقف عن الكتابة في الاضواء بعد صدور عددها الخامس[15].

انقلاب 17 تموز 1968

بعد مصرع الرئيس العراقي عبد السلام محمد عارف في عام 1966 في حادث جوي، ومجيء شقيقه خلفاً له شهد العراق نوعاً من الاستقرار والحرية النسبية مما وفرّ فرصة للحركة الاسلامية للتحرك الواسع في العراق دون ان تتعرض للقمع والاضطهاد، ثم جاءت نكسة 5 حزيران 1967 والتي شهدت هزيمة الانظمة العربية والتيار القومي في المنطقة، مما خلق ارضية مناسبة لتحرك الاسلاميين، فشهد العراق عودة واسعة الى الدين والالتزام الاخلاقي في الاوساط المثقفة ولا سيما شباب الجامعات، ودخلت الحركة الاسلامية في مرحلة جديدة تميّزت بالنمو الواسع والوقة المتزايدة، حتى بات المراقبون يتوقعون تغييراً وشيكاً في خارطة العراق السياسية لصالح الحركة الاسلامية[16].

وادركت الدوائر الاستعمارية، حقيقة الاوضاع في العراق، وقوة الحركة الاسلامية وضعف النظام وعجزه عن مواجهتها، فبدأت تلك الدوائر الاعداد لطبخة جديدة للحد من حصول مفاجئات على صعيد السلطة ووقع الاختيار على حزب البعث للقيام بانقلاب عسكري.

وقد كشف التقرير السياسي للمؤتمر القطري السادس لحزب البعث في العراق في معرض تبريره لانقلاب 17 تموز 1968، ان من اسباب التعجيل بالانقلاب هو لقطع الطريق امام القوى «الرجعية» من الوصول الى السلطة في العراق.

وبعد ان ثبت البعثيون اقدامهم في العراق، بدأوا تنفيذ مخطط تصفية التيار الاسلامي، فصدر القرار الرسمي بالقضاء على الحركة الاسلامية في 4 نيسان (ابريل) 1969 عن القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث، حيث جاء في القرار «ضرورة القضاء على الرجعية الدينية باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب»[17].

ضرب المرجعية الدينية:

كانت الخطوة الاولى في المخطط البعثي، ضرب المرجعية الدينية باعتبارها تمثل غطاءاً حامياً للحركة الاسلامية، وان الاجهاز على الحركة لا يتم الا بعد اضعاف المرجعية المتمثلة آنذاك بالسيد محسن الحكيم.

بدأت السلطة تحرشها بالمرجعية الدينية بمصادرة الاموال التي رصدت لجامعة الكوفة والتي بلغت حوالي خمسة ملايين دينار عراقي، وسحبت اجازة الجامعة. وقد استنكر السيد الحكيم قرار الالغاء وأوفد ولده السيد مهدي الحكيم لابلاغ السلطة احتجاجه.

في هذا الظرف تحرك السيد الصدر لمواجهة الهجمة البعثية ضد المرجعية الدينية، فاقنع السيد الحكيم باقامة اجتماع جماهيري حاشد في النجف الاشرف، حيث احتشدت جماهير غفيرة معلنة تأييدها للسيد الحكيم، وقد تلا السيد مهدي الحكيم كلمة المرجعية، وهي كلمة كتبها السيد الصدر.

ثم قرر السيد الصدر السفر الى لبنان للقيام بحملة اعلامية للدفاع عن النجف والمرجعية الدينية. وقد لخص السيد الصدر النشاط الذي قام به في لبنان في رسالة بعثها الى بعض اصدقائه «اكتب اليك هذه السطور بعد اسبوعين كاملين من دخول لبنان واود  ان اعطيك صورة عن الموقف، اما ما تم عمله فهو كما يلي:

1 ـ خطاب استنكار وقع عليه حوالي اربعين عالماً.

2 ـ ملصقة جدارية الصقت في كثير من المواضع في بيروت تطالب بانقاذ النجف.

3 ـ برقية طيّرها ابو صدري ـ الامام السيد موسى الصدر ـ الى جميع رؤوساء وملوك الدول العربية والاسلامية باسم المجلس الشيعي الاعلى يشرح فيها لهم المأساة ويستنجد بهم، وقد جاء الجواب حتى الآن من جمال عبد الناصر وفيصل والارياني الرئيس اليماني.

كما ان المودودي وجملة من السياسيين السنة قاموا باستنكار الموضوع واعلنوا تأييدهم المطلق للنجف[18].

مثّل النشاط الذي قام به السيد الصدر في لبنان تحدياً واضحاً للسلطة في بغداد، ولذا فان كثيرين من بينهم المرجع السيد الحكيم كانوا يتوقعون اعتقال السيد الصدر لدى عودته الى العراق، ولم يكن هذا الاحتمال غائباً عن ذهن الصدر، الا انه لم يعبأ به واستعد لمواجهته.

وصعدت السلطة البعثية من مواجهتها للمرجعية الدينية، حين اتهمت السيد مهدي الحكيم في 9 حزيران 1969 بالضلوع في محاولة لقلب نظام الحكم، وجاء الاتهام في مقابلة تلفزيونية مع مدحت الحاج سري، كما وجهت الى السيد مهدي الحكيم تهمة العمل لحساب ايران.

وكان هذا الاتهام اكبر ضربة تلقتها مرجعية السيد الحكيم، وقد رافق ذلك حملة واسعة من الاعتقالات في صفوف علماء الدين، وقامت قوات الامن باقتحام مقر اقامة المرجع الحكيم في بغداد، واقتادته عنوة الى مقره في الكوفة ووضعته تحت الاقامة الجبرية[19] وقد توفي السيد الحكيم بعد اقل من عام على هذه الحادثة.

كانت وفاة المرجع السيد الحكيم في 2 آيار 1970 (قد وفّرت فرصة ثمينة لحكومة البعث لاكمال مخطط تصفية الوجود الاسلامي في العراق، والبدء بالمرحلة الثانية من المخطط، حيث باشرت السلطة بشن حملة اعتقالات في صفوف حزب الدعوة الاسلامية، بدأت في 28 ايلول 1971 باعتقال الحاج عبد الصاحب دخيل وهو عضو قيادي في الحزب، فتعرض الى تعذيب وحشي في «قصر النهاية» المعتقل البعثي سيئ الصيت، حيث استشهد بعد القائه في حوض الحامض (التيزاب)، وتصاعدت حملة الاعتقالات لتشمل اعداداً كبيرة من اعضاء وقيادات الدعوة.

وقامت السلطة في 12 آب باعتقال السيد الصدر ثم اطلقت سراحه بعد تردي حالته الصحية.

كان البعثيون يدركون منذ تسلمهم السلطة في العراق، الدور الذي يضطلع به السيد الصدر، في تأسيس جماعة العلماء، وحزب الدعوة، وفي دعم المرجعية الدينية، ونشر الثقافة الاسلامية والوعي السياسي في اوساط الامة، ولذا كانت ملاحقة الصدر والتخلص منه في مقدمة اهداف السلطة في مواجهتها للحركة الاسلامية.

فاعتقل ثانية في تموز 1974 مع اكثر من 70 قيادياً وكادراً في حزب الدعوة، بينهم عدد كبير من العلماء واساتذة الحوزة العلمية[20].

في 22 كانون الثاني 1977 اعتقل السيد الصدر اثناء احداث انتفاضة صفر عام 1379 هـ  التي حملّه النظام مسؤولية اندلاعها، وتعرض هذه المرة الى التعذيب الجسدي[21].

الامام الصدر والمرجعية

تركت وفاة السيد محسن الحكيم فراغاً قيادياً في الساحتين العراقية والشيعية، حيث برزت مرجعيات ارتأت تجنب العمل السياسي وعدم الاصطدام بالسلطة، ممّا فرض على السيد الصدر التصدي وطرح نفسه كمرجع للمسلمين[22].

وكانت فكرة تصدي السيد الصدر للمرجعية نوقشت من قبل قيادة الدعوة في الستينات، وابدى الصدر حينها استعداده لذلك، الا ان وجود السيد محسن الحكيم وتصديه للمرجعية كان من العوامل التي أخّرت تصدي الصدر، اضافة الى امور اخرى ترتبط باوضاع النجف والحوزة العلمية فيها، والظروف السياسية المحيطة بالسيد الصدر.

في منتصف السبعينات صدرت «الفتاوى الواضحة» وهي الرسالة العملية التي تضم آراء الصدر الفقهية والتي يرجع اليها مقلدوه في معرفة الاحكام الشرعية، وكان اصدارها بمثابة اعلان رسمي عن تصدي السيد الصدر لموقع المرجعية الدينية العامة.

كان السيد الصدر يرى ان تنفيذ مشروعه التغييري الشامل وتحقيق اهداف الحركة الاسلامية، يعتمد على دعم المرجعية وحمايتها لهذا العمل، ففي حديث مع احد العلماء البارزين في حزب الدعوة قال الصدر «ان الحركة الاسلامية لا تؤدي دورها المنشود الا بدعم المرجعية لها، كما لا غنى للمرجعية عن الحركة الاسلامية، فكل منهما يدعم الآخر، وانا ارى من الآن ان التصدي للمرجعية هو الوظيفة الشرعية، والمطلوب منكم دعم هذه الفكرة، انا معكم والمرجعية لا تستغني عن الحركة ولا يمكن ان تؤدي رسالتها بدون الحركة»[23].

الا ان السيد الصدر وهو يتأمل واقع المرجعية وطريقة عملها، يجدها عاجزة بواقعها التي هي عليه عن النهوض بمشروعه التغييري، وغير قادرة على الانسجام مع حاجات الامّة في عصرنا الحاضر، ولذا كان تصديه للمرجعية مقترناً بطرح مشروع لتطوير المرجعية وتنظيمها.

كان يردد دائماً «الشهيد الاول قبل قرون وقرون فكر في تنظيم شؤون الدين والمرجعية بشكل من الاشكال، ونقل الكيان الديني من مرحلة الى مرحلة، لكن أليس بالامكان ان يفكر العلماء الموجودون فعلا في تطوير اساليب الشهيد الاوّل؟ في تحسينها، في تنقيتها، في تطويرها؟ فاذا كنا نؤمن بان الاساليب تتغير وان كانت النظرية ثابتة، اذن لابد لنا ان نفتح باباً للتفكير في هذه الاساليب[24].

اطلق السيد الصدر على مشروعه في اصلاح المرجعية تسمية «المرجعية الموضوعية» والتي يصفها بانها مرجعية هادفة بوضوح ووعي وتتصرف دائماً على اساس تلك الاهداف بدلا من ان تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة.

ويلخص اهداف المرجعية الموضوعية بالامور التالية:

1ـ نشر احكام الاسلام على اوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الاحكام في سلوكه الشخصي.

2ـ ايجاد تيار فكري واسع في الامة يشتمل على المفاهيم الاسلامية الواعية من قبيل المفهوم السياسي الذي يؤكد ان الاسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من اساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3ـ اشباع الحاجات الفكرية للعمل الاسلامي وذلك عن طريق ايجاد البحوث الاسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الاسلام وبقية المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الاسلامي، وجعله قادراً على مد كل جوانب الحياة بالتشريع وتصعيد الحوزة ككل الى مستوى هذه المهام الكبيرة.

4ـ القيمومة على العمل الاسلامي والاشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الله في مختلف انحاء العالم الاسلامي، من مفاهيم وتأييد ما هو صحيح منها واسناد وتصحيح ما هو خطأ.

وحول اسلوب عمل المرجعية الموضوعية يعتقد الصدر بضرورة وجود جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على اساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الاهداف المحددة، ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلا من الحاشية التي تعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من اشخاص جمعتهم الصدفة والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئية وبدون اهداف محددة وواضحة.

ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعددة تتكامل وتنمو بالتدريج الى ان تستوعب كل امكانات العمل المرجعي[25].

الا ان تلاحق الاحداث في الساحة العراقية، وحصول المواجهة مع السلطة البعثية، واستشهاد السيد الصدر، حالت دون ان يرى هذا المشروع العملاق النور، فظّلت المرجعية على اسلوبها القادم، مرجعية ذاتية، لا تنسجم وحاجات الامة وظروفها المتجددة. وبقي المشروع ينتظر همم العلماء المجاهدين الواعين لانجازه.

انتصار الثورة الاسلامية في ايران

في 11 شباط 1979 سقط عرش الطاووس في طهران وانتصرت الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني، وفور وصول النبأ اعلن السيد الصدر عن تعطيل دروسه في الجامعة النجفية لمدة ثلاثة ايام ابتهاجاً بالانتصار. وشهد العراق موجة تدين واسعة، حيث اصبح الحجاب هو الغالب في صفوف النساء، واكتظت المساجد بالمصلين وانتشرت ظاهرة الالتزام الديني ونزوع شديد نحو التنظيم والعمل الحركي الاسلامي خاصة بين الشباب. وامتدت حركة التدين والوعي الاسلامي الى قواعد الحزب الحاكم نفسه.

لقد حطّم انتصار الثورة الاسلامية معظم طموحات النظام وجهوده خلال الاعوام العشرة التي سبقت الثورة، في تحويل العراق الى بلد لا ديني يسوده الانحراف الفكري والاجتماعي.

هذه التطورات في الساحة العراقية اثارت هلع النظام البعثي وقلق الدوائر الغربية في نفس الوقت. فقد توصلت دراسة اعدتها المخابرات المركزية الاميركية بطلب من الرئيس الاميركي جيمي كارتر، الى ان العراق مرشح كبلد ثان من الممكن ان يحذو حذو ايران في ثورة اسلامية ناجحة، وان الحزب المرشح لان يكون له شأن في العراق هو حزب الدعوة الاسلامية وان القائد المرشح هو السيد محمد باقر الصدر[26].

وأوصت المخابرات الاميركية حكام العراق بالتحرك بسرعة لضرب الحركة الاسلامية والقضاء عليها، كما زار العراق في تلك الفترة مجموعات من رجالات الغرب ابرزهم اللورد كارنغتون وزير خارجية بريطانيا.

قامت السلطة بعدة خطوات تمهيداً لهجومها الواسع الجديد ضد الحركة الاسلامية، منهاعمل احصائية دقيقة بوكلاء السيد الصدر والسيد الخوئي للفرز بينهم، حيث وضعت وكلاء السيد الصدر باجمعهم تحت المراقبة الشديدة، كما طردت واعتقلت معظم ائمة المساجد المؤيدين للثورة الاسلامية واستبدلتهم بآخرين موالين للسلطة.

واتخذت القيادة القطرية لحزب البعث قراراً بتحويل العراق الى دائرة مغلقة على البعثيين، فلم يعد من حق اي مواطن عراقي ان لا يكون بعثياً[27].

ثم بدأ النظام بالتضييق على السيد الصدر ومنعه من مزاولة نشاطاته.

الامام الصدر يقود المعارضة

التحولات التي شهدتها الساحة العراقية شجعت الحركة الاسلامية والمرجعية الدينية ممثلة بالسيد الصدر للتصدي لمخططات السلطة البعثية في ضرب التحرك الاسلامي. فبدأ السيد الصدر بعدة خطوات للاعداد لثورة اسلامية في العراق، كان ابرزها:

1ـ أفتى بحرمة الانتساب الى حزب البعث العراقي والتعاون معه تحت اي عنوان، ولو كان انتماءاً شكلياً.

2 ـ أفتى بحرمة دخول الطالبات الى الجامعات بدون الالتزام الكامل بالحجاب الاسلامي.

3 ـ أصدر حكماً شرعياً بحرمة الصلاة خلف رجال النظام المتلبسين بزي علماء الدين.

4 ـ أستنفر تلامذته وممثليه ووكلاءه ووزعهم على مدن العراق، وفرّغ بعضهم للتنقل بين المناطق المختلفة.

من جانبها وجدت الحركة الاسلامية، ان الواقع الذي وصلت اليه الساحة العراقية ينسجم مع التنظير الفكري للمرحلة السياسية ومستلزماتها.

فقد كان الامام الصدر والدعاة الاوائل قد خططوا لمسيرة حزب الدعوة الاسلامية وقسّموا الطريق منذ انطلاقة الحركة الى قيام الدولة الاسلامية الى عدة مراحل، حيث اطلق على المرحلة الاولى اسم المرحلة التغييرية او الفكرية فيما سميت المرحلة الثانية بالمرحلة السياسية، واستغرقت المرحلة الاولى اكثر من عشرين عاماً من عمر الحركة.

في نهاية السبعينات بدأت الدعوة تطرح في ادبياتها قضية الانتقال الى المرحلة الثانية، وذكرت

ان مستلزمات الانتقال من المرحلة الفكرية الى المرحلة السياسية هي:

1ـ تكامل الدعاة فكرياً ونفسياً وميدانياً وتزودهم بالخبرات والكفاءات الضرورية لخوض غمار المرحلة، فلا تصح المواجهة قبل الاعداد ولا يصح الانتقال من مرحلة الى اخرى قبل توفر مستلزماتها.

2ـ توفر العدد الكافي من الطلائع القيادية والدعاة المجاهدين، بحيث لا تؤثر عمليات العطاء والتضحيات التي تقدمها الحركة على مسيرها ومواصلة المسؤولية الجهادية.

3ـ تكامل اجهزة الدعوة وتنظيماتها وقابلياتها بشكل يجعلها قادرة على تحمل الصراع ـ مهما طال ويستمر ـ وامتصاص السلبيات وردود فعل السلطة.

4ـ نمو الوعي الاسلامي والروح الجهادية في اوساط الامّة الى درجة تجعلها قادرة على المشاركة الفعلية، بحيث تستطيع ان توفر سياجاً يحمي تحرك الاسلاميين وتتحمل مسؤولية الصراع معهم.

5ـ قدرة الدعوة على كسب نتائج الصراع  والهيمنة على الساحة هيمنة تحول دون قفز القوى السياسية او العسكرية المتربصة في الميدان والتي تحاول ان تركب الموجة من غير ان تقدم في عملية الصراع شيئاً، فيكون الاسلاميون وقود الصراع الخاسر، في حين تجني القوى غير الاسلامية ثمار جهودهم وجهاد الامّة معهم.

6ـ وجود ظرف سياسي عالمي، ومحلي ملائم للتحرك[28].

وبدأ حزب الدعوة الاسلامية يعد العدة للاعلان عن انتقاله الى المرحلة السياسية، الا انّه ينبغي الاشارة الى ان قرار الانتقال لم يكن معزولا عن الاحداث وتلاحقها السريع، وقد أحست الحركة بحالة الانجرار فحاولت ان لا تكون عملية الانتقال فجائية ومربكة، وقد جرى حوار مطول في قيادة الحزب حول قضية الانتقال الى المرحلة العلنية (السياسية) وطرح في احد الاجتماعات انه لماذا لا نعلن عن اسم الحركة الصريح، فاعداؤنا يعرفوننا ونحن نملأ السجون وملفات التحقيق كلها تنظم تحت عنوان «اتهام بالانضمام الى حزب الدعوة»، ان الذي يجهل وجودنا السياسي ككيان حركي هو الامّة، ولابد من تعريفها اذن.

برقية الامام الخميني

في ظل اجواء ملتهبة في العراق تنذر بحصول مواجهة ساخنة بين الحركة الاسلامية بقيادة الامام الصدر من جهة، والسلطة البعثية من جهة اخرى، جاءت البرقية التي ارسلها الامام الخميني فى 19 مايس (أيار) 1979 الى السيد الصدر يطلب منه عدم مغادرة العراق. وقد بثت البرقية من القسم العربي في اذاعة طهران، وقد اثارت البرقية استغراب السيد الصدر حيث قال «لقد سمعت اذاعة طهران تذيع برقية من الامام الخميني يطلب مني فيها عدم مغادرة العراق، وانا متى أردت مغادرة العراق، ومتى فكرت بذلك، ومن اين علم الامام بهذا؟ انّا لله وانا اليه راجعون»[29].

ويظل مغزى هذه الرسالة والعوامل التي دفعت بالامام الخميني الى ارسال هذه البرقية، بدون تفسير مقبول، اذ  يحمل البعض المسؤولين الايرانيين مسؤولية دفع الامام الخميني الى ارسال البرقية، ويضع البعض اللوم على العاملين في القسم العربي لاذاعة طهران، اذ كان فيهم عدد من اللاجئين العراقيين كشفت الايام انهم لم يكونوا مسرورين لتصدي السيد الصدر للمرجعية ولقيادة التحرك الاسلامي في العراق، وكانوا على صلة وثيقة ببعض الشخصيات النافذة في قيادة الثورة الاسلامية في ايران.

وقد رد السيد الصدر على برقية الامام الخميني في اليوم التالي ببرقية جاء فيها «تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت ابوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الاشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، واني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما اشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الاشرف»[30].

وقد وجد حزب الدعوة الاسلامية في الاجواء التي خلقها تبادل البرقيات بين الزعيمين الدينيين، فرصة لتأكيد زعامة السيد الصدر وقيادته للمواجهة مع السلطة، فاتخذ قراراً بعد التشاور مع السيد الصدر، بتنظيم وفود شعبية من مختلف المدن العراقية والتوجه الى مقر السيد الصدر في النجف لمبايعته. فبدأت الوفود الشعبية بالتقاطر الى منزل السيد الصدر بعد يومين من تبادل البرقيات، وكانت تلك الوفود على قدر كبير من التنظيم وضمت كوادر الحركة الاسلامية الى جانب الطبقات المختلفة من المجتمع العراقي.

وبعد تسعة ايام متتالية من وصول الوفود الى النجف الاشرف، أمر السيد الصدر بايقافها، لان الآلاف التي شاركت في الوفود في مختلف مناطق العراق ومدنه استطاعت التعبير عن موقف الشعب العراقي والتفافه حول المرجعية الدينية، ورفضه للسلطة الجائرة، كما كان السيد الصدر حريصاً على عدم كشف كافة الاوساط الموالية والمؤيدة، اذ ان السلطة كانت تراقب الوفود بدقة وتقتفي اثارها، تمهيداً لحملة شرسة شنتها حيث اعتقلت الآلاف من الشباب بحجة الانتماء الى حزب الدعوة، ثم اعلنت السلطة حالة الطوارىء ونزلت قوات الأمن والاستخبارات الى الشوارع[31].

وقد أحست الحركة الاسلامية ان السلطة ربما تعد لاعتقال السيد الصدر نفسه، فاتفقت معه على اخراج تظاهرات فيما لو حدث الاعتقال. وفي مساء يوم الاثنين 12 حزيران (يونيو) 1979 بدأت قوات الأمن تكثف من دورياتها ومراقبتها لمنزل السيد الصدر والازقة القريبة منه، ثم منعت المارة من التجول في الزقاق الذي يقع فيه منزله.

وفي صباح اليوم التالي 13 حزيران، المصادف 17 رجب جاء مدير أمن النجف، وطلب اللقاء بالسيد الصدر، وقال له «ان السادة المسؤولين يريدون الاجتماع بكم في بغداد»، فأجابه السيد الصدر ان كنت تحمل أمراً باعتقالي فنعم اذهب وان كانت مجرد زيارة فلا، ثم خاطب مدير الأمن ومن معه قائلا: «انكم كممتم الافواه وصادرتم الحريات وخنقتم الشعب تريدون شعباً يعيش بلا ارادة ولا كرامة، وحين يعبر شعبنا عن رأيه او يتخذ موقفاً من قضية ما، حين تأتي الألوف لتعبر عن ولائها للمرجعية والاسلام، لا تحترمون شعباً ولا ديناً ولا قيماً، بل تلجأون الى القوة لتكموا الافواه وتصادروا الحريات وتسحقوا كرامة الشعب، اين الحرية التي تدعونها»[32].

انتفاضة 17 رجب

كان يوم 13 حزيران 1979 (17 رجب 1399ه) يوماً خالداً في تاريخ العراق، حيث شهد ملحمة رائعة من ملاحم الشعب العراقي، اعادت الى الاذهان ثورة العشرين وغيرها من انتفاضات وهبّات هذا الشعب المجاهد.

فبعد ساعات قلائل من اعتقال الامام الصدر، قررت الحركة الاسلامية كسر جدار الصمت الجماهيري، وتنظيم تظاهرات شعبية للاحتجاج. وخرجت اولى التظاهرات في الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء (17 رجب) في مدينة النجف الاشرف، تلتها مظاهرات مماثلة في مدن الثورة، والكاظمية في بغداد، والسماوة، والرميثة في محافظة المثنى، والخالص وجيزان الچول، وجديدة الشط في محافظة ديالى، والنعمانية في محافظة الكوت، والفهود في محافظة الناصرية. وقد ابدى المتظاهرون صلابة وصموداً رائعاً، فسقط البعض منهم شهداء وجرحى فيما اعتقلت اجهزة النظام القمعية اعداداً غفيرة منهم.

كما نظمت تظاهرات واسعة في دولة الامارات العربية المتحدة ولبنان وايران وبريطانيا وفرنسا.

وقد اضطرت السلطة الى اطلاق سراح الامام الصدر في نفس يوم اعتقاله، حيث عاد الى النجف عصراً دون ان يلحق به أي اذى. وكانت الانتفاضة انتصاراً باهراً للحركة الاسلامية وجماهيرها، ونقطة تحول في جهادها، وبداية مرحلة جديدة في المواجهة مع النظام.

وقد اعترف النظام على لسان مدير أمن النجف بأن ما حدث في (17 رجب) كان ثورة حقيقة حيث خاطب مدير الامن السيد الصدر قائلا «ان ما حصل كان ثورة حقيقة قد نجحت لولا حزم القيادة السياسية، سيدنا أنت تعلم ما فعل هؤلاء، ان صوركم في كل شوارع لندن وغيرها من الدول الاوربية ولافتات التنديد بنا في كل مكان، ما الذي صدر منا حتى نواجه من قبل هؤلاء بهذه الاساليب القاسية»[33].

المواجهة المسلحة

بعد اطلاق سراحه، افتى الامام الصدر بوجوب الكفاح المسلح ضد النظام الحاكم وجوباً كفائياً، حيث أكد على ضرورة اسقاط العشيرة الحاكمة بكل الموسائل المشروعة.

كما اتخذت الدعوة قرارها بالانتقال الى المرحلة العلنية، وبدأت بتسليح نفسها وشن عمليات جهادية ضد اركان النظام واجهزته القمعية.

كما اتخذ قرار بالاعداد لتظاهرة مسلحة كبرى، تنطلق في 21 حزيران (25 رجب) من مدينة الكاظمية، حيث جرى ابلاغ اعضاء الحزب في انحاء مختلفة من العراق بذلك، فبدأ الدعاة والمجاهدون بالتوجه الى بغداد، حيث كان مقرراً ان تبدأ المظاهرة من الكاظمية في ذكرى وفاة الامام موسى الكاظم عليه السلام لتنطلق من هناك في مسيرة مسلحة باتجاه القصر الجمهوري مخترقة بغداد، ولتكون بداية المواجهة، وكانت تقديرات المخططين للمسيرة انه يمكن حشد 12 ألف مجاهد في بداية التظاهرة، الا ان هذه الخطة انكشفت وتقرر ايقافها.

اما الذي اذاع أمر هذه التظاهرة المسلحة فهو القسم العربي لاذاعة طهران ـ ايضاً ـ اذ راح يدعو العراقيين ولعدة ايام قبل موعدها، الى التوجه الى مدينة الكاظمية والمشاركة في الانتفاضة لاسقاط النظام البعثي!!.

مما دفع النظام الى حشد اعداد هائلة من قوات الامن والمخابرات والمنظمات الحزبية في المدينة، حيث احتلوا شوارعها ومبانيها الرئيسية وجرى تطويق المنطقة لمدة يومين قبل موعد الانطلاق، وجرى اعتقال اعداد كبيرة من الشباب الذين قدموا من خارج بغداد والذين لم يصلهم قرار الغاء التظاهرة.

نداءات الثورة

وخلال هذه المرحلة، بدأ الامام الصدر بتوجيه نداءات مسجلة على اشرطة الكاسيت وموجهة الى الشعب العراقي، حيث صدر النداء الاوّل بعد ثلاثة ايام من انتفاضة رجب اي في 15 حزيران 1979، والنداء الثاني صدر في 5 تموز تلاه بعد ايام نداؤه الثالث.

حدد الامام الصدر في نداءاته الثلاثة الخطوط العريضة لبرنامجه السياسي والجهادي لاسقاط النظام وشرح فيها مطالب الشعب العراقي.

ان ابرز ما كشفت عنه تلك النداءات هو الايمان العميق والحب الكبير الذي يكنه الامام الصدر للشعب العراقي، واعتزازه بتاريخ هذا الشعب، ففي ندائه الاول يسجل الصدر هذا الموقف تجاه ابنائه العراقيين قائلا «اني اخاطبك ايها الشعب الحر الابي وانا أشد الناس ايماناً بك وبروحك الكبيرة وبتاريخك المجيد، واكثرهم اعتزازك لما طفحت به قلوب ابنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية» وهو لا يكتفي بابراز مشاعر الحب والامتنان للموقف الشجاع الذي وقفته جماهير الشعب العراقي، التي خرجت في مظاهرات صاخبة للمطالبة بالافراج عنه، بل يؤكد وبشكل واضح ارتباطه بهذا الشعب واستعداده للتضحية من اجله اذ يقول «واني اؤكد لك يا شعب آبائي واجدادي اني معك وفي اعماقك ولن اتخلى عنك في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل اللّه من اجلك» وكانت النداءات خطاباً سياسياً مفتوحاً استهدف تعرية النظام وكشف حقيقته، وتحريض الجماهير للتصدي له واسقاطه، وتحد للسلطة في اعطاء الشعب فرصة للتعبير عن رأيه فيها، حيث يقول «وأود ان اؤكد للمسؤولين ان هذا الحكم الذي فرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي، وحرمه من ابسط حقوقه وحرياته لا يمكن ان يستمر».

ويضيف في تحد ساخر من السلطة «واذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم ايها المسؤولون اقناع الناس بالانتماء الى حزبكم الا عن طريق الاكراه فماذا تأملون؟! ثم يستمر في تحديه للسلطة «واذا كانت السلطة تريد ان تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمد اجهزتها القمعية اسبوعاً واحداً فقط ولتسمح للناس ان يعبروا خلال اسبوع واحد عمّا يريدون».

أمر آخر برز واضحاً في نداءات الامام الصدر، هو تصديه لقيادة الشعب العراقي كله، بكل قومياته ومذاهبه وفئاته، فرغم كونه مرجعاً دينياً وعالماً اسلامياً شيعياً، ومؤسساً ومنظراً للتيار الاسلامي، الا انه تصدى للتعبير عن جميع فئات الشعب، ولم يطرح نفسه قائداً لقومية دون اخرى او طائفة دون سواها، او اتجاهاً من الاتجاهات بعينه، بل تحدث باسم العراق والعراقيين، وناشد الجميع، ودافع عن الجميع، ففي ندائه الذي اصدره في منتصف تموز 1979، خاطب الامام الصدر العراقيين قائلا «يا شعبي العراقي العزيز، ايها الشعب العظيم، اني اخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك بعربك واكرادك بسنتك وشيعتك، لان المحنة لا تخص مذهباً دون اخر ولا قومية دون اخرى، واني اعاهدكم جميعاً باني لكم جميعاً ومن اجلكم جميعاً وانكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل».

كان الامام الصدر يدرك مخاطر الورقة الطائفية في العراق، ومحاولات النظام تزييف الصراع الدائر بينه وبين الشعب العراقي، وتصويره على أنه نزاع شيعي سني، فتصدى الامام الصدر لكشف هذه المؤامرة الخبيثة وتحذير ابناء العراق من الوقوع في شباك المخطط البعثي حيث يقول «ان الطاغوت واولياءه يحاولون ان يوحوا الى ابنائنا البررة من السنة بان المسألة هي مسألة شيعة وسنة، ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، واريد ان اقولها لكم يا ابناء علي وابناء ابي بكر وعمر، ان المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، ان الحكم السني الذي كان يحمل راية الاسلام قد افتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، ان الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيين، بل يعني حكم ابي بكر وعمر الذي تحداه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفوقد حدد الامام الصدر في نداءاته المطالب السياسية التي يسعى لتحقيقها باسم العراقيين جميعاً حيث أكد على ما يلي: ـ

1ـ اطلاق حرية الشعائر الدينية.

2ـ ايقاف حملات الاكراه على الانتساب الى حزب البعث على كل المستويات.

3ـ الافراج عن المعتقلين بصورة تعسفية وايقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.

4ـ فسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية، حقه في ادارة شؤون البلاد، وذلك عن طريق اجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الامّة تمثيلا صادقاً.

ان الامام الصدر اذ يطرح هذه المطالب ويتحدى النظام الذي تطوّق اجهزته القمعية منزله، يدرك حجم المخاطر التي يتعرض لها في هذا السبيل، ولكنه يدرك ايضاً ان هذه المطالب هي مشاعر امّة وحقوقها المهدورة وهي لا تموت بموت الافراد مهما عظموا، في احد نداءاته يؤكد الصدر هذه الحقيقة قائلا «واني اعلم ان هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً وقد تكلفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست مطلب فرد لتموت بموته، ولكنها مشاعر امّة وطلبات امّة وارادة امّة، ولا يمكن ان تموت امّة تعيش في اعماقها روح محمد وعلي والصفوة من آل محمد واصحابه واني اعلن لكم يا أبنائي بأني صممت على الشهادة»، ويختم الامام الصدر نداءاته بالتأكيد على ضرورة الاستمرار في مقارعة نظام الطغيان فيقول «فعلى كل مسلم في داخل العراق، وعلى كل عراقي خارج العراق ان يعمل كل ما بوسعه ولو كلفه ذلك حياته من اجل ادامة الجهاد والنضال لازالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب».

الحصار

بعد انتفاضة 17 رجب، اطلق سراح الامام الصدر، وأعيد الى منزله في النجف الاشرف، حيث وضع تحت الاقامة الجبرية.

وتصف منظمة العفو الدولية في احد تقاريرها الحصار الذي فرضته السلطة على السيد الصدر بالقول «آية اللّه السيد محمد باقر الصدر ـ تقول آخر التقارير بانه تم قطع الماء والكهرباء عن داره، ويجلب له الطعام مرة واحدة في الاسبوع، ولا يسمح له بمغادرة الدار، وحتى الذهاب الى المسجد، وكذلك لا يسمح له باستقبال الزوار من اصدقائه او طلابه، ولم يسمح ايضاً بزيارة الطبيب له عندما كان مريضاً، وقد تم اخلاء الدور التي تحيط ببيته من النجف، وتم اشغالها من قبل قوات الأمن)[34] وقد استمرت الاقامة الجبرية المفروضة على الامام الصدر وعائلته ثمانية شهور، حيث رفعت في بداية شهر شباط (فبراير) 1980.

وخلال فترة الحصار تعرض الامام الصدر لاكثر من محاولة اغتيال من قبل النظام، كلف في احداها ضابط في الاستخبارات بقتل السيد الصدر ليلا في مكتبه، الا ان الضابط اتصل بالصدر واخبره بذلك، ثم انه كتب منشوراً ضد السلطة وقام بتوزيعه فاعتقل واعدم على أثر ذلك»[35]36.

انقلاب داخل البعث

كشفت الاحداث التي شهدها العراق منذ نيسان (ابريل) 1979 مدى قوة الحركة الاسلامية وعجز النظام عن السيطرة على الاوضاع رغم الاجراءات العنيفة التي اتخذها وحملات الاعتقال والاعدام الجماعي والتي شملت الآلاف من الاسلاميين.

وبدأ التخلخل في داخل مؤسسة الحزب الحاكم نفسه، حيث تعرض عدد كبير من اعضاء ومسؤولي الدولة والجيش الشعبي وقوى الامن والمخابرات الى العزل والاعتقال والاعدام بسبب التعاطف مع الحركة الاسلامية او التهاون في عمليات القمع التي يشنها النظام.

وكانت الدوائر الغربية تشعر بقلق كبير من تطور الاوضاع في العراق، فقام وزير الخارجية البريطاني اللورد كارنغتون بزيارة لبغداد في 2 تموز (يوليو) 1979 حيث اجتمع بصدام على أنفراد، مؤكداً على ضرورة تسلمه قيادة السلطة في البلاد بدلا من احمد حسن البكر، واشار الوزير البريطاني الى الخطوط العريضة لخطة مواجهة الحركة الاسلامية، وأكد على ضرورة عدم تكرار الاخطاء التي حصلت في ايران من قبل الشاه.

وبدأ صدام بتنفيذ انقلابه داخل الحزب والدولة، حيث قدّم قائمة باسماء 300 شخصية اسلامية من بينها السيد محمد باقر الصدر الى احمد حسن البكر للتوقيع على أمر اعدامها، وقد رفض البكر التوقيع على القائمة، وفي اليوم التالي طرح صدام القائمة في اجتماع مجلس قيادة الثورة، فرفض بعض الاعضاء وطالبوا بالمزيد من البحث والتأمل، وبعد جدل عنيف، اقترح احدهم استثناء السيد الصدر من القائمة، باعتبار ان في اعدامه خطر على حزب البعث في جميع الدول العربية كونه عالم يندر مثيله، وله وزن كبير في العالم الاسلامي كله، فرفض صدام ذلك وترك الاجتماع وهو يتوعد اعضاء المجلس المخالفين بالانتقام منهم.

وفي منتصف نفس الليلة اعتقل جميع القادة المعارضين للخطة واقيلوا من مناصبهم في 12 تموز، وفي 16 تموز القى احمد حسن البكر خطاباً من على شاشة تلفزيون بغداد اعلن فيه تنحيه عن السلطة وتسلم صدام رئاسة الجمهورية وجميع مناصب البكر الاخرى.

ثم عرض التلفزيون مقابلة مع محي عبد الحسين الذي كان يشغل منصب امين سر مجلس قيادة الثورة، حيث اعترف بتورطه مع مجموعة من قادة الحزب في مؤامرة ضد النظام بالاشتراك مع الحكم السوري.

وفي 8 آب (اغسطس) تم اعدام 22 من كبار قادة الحزب والدولة وحكم على عشرات آخرين بالسجن المؤبد وبمدد مختلفة. ومن بين الذين اعدموا محمد محجوب، ومحمد عايش، وعدنان حسين، وغانم عبد الجليل، وهم وزراء، واعضاء في مجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية لحزب البعث، اضافة الى محي عبد الحسين، وعبد الخالق السامرائي، وهو عضو في القيادتين القطرية والقومية وكان معتقلا منذ عام 1972 لاتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها ناظم گزار مدير الأمن.

وبعد نجاح صدام في ازاحة جميع المعارضين لسياسته والمنافسين له على الزعامة في الحزب والدولة، شرع في تنفيذ الخطة التي طرحها الوزير البريطاني في تصفية الحركة الاسلامية وقيادتها في العراق.

استشهاد الامام الصدر

لم تطل الفترة على رفع الحصار عن السيد الصدر طويلا، فبعد أقل من شهرين قرر النظام تصيفته جسدياً، وقد مهد لذلك بخطوتين، الاولى اصداره قرار أبادة الاسلاميين في العراق والذي عرف بالقرار 461 وجاء فيه «لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد أثبتت بأدلة قاطعة ان حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالاجنبي وخائن لتربة الوطن ولاهداف ومصالح الامّة العربية ويسعى بشتى الوسائل الى تقويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة 17 تموز مجابهة مسلحة، لذا قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق احكام المادة 156 من قانون العقوبات بحق المنتسبين الى الحزب المذكور او العاملين لتحقيق اهدافه العملية تحت واجهات او مسميات اخرى.

ينفذ هذا القانون على الجرائم المرتكبة قبل صدور هذا القرار والتي لم يصدر قرار باحالتها الى المحكمة المختصة.

والمادة 156 من قانون العقبات تنص على «يعاقب بالاعدام من ارتكب عمداً فعلا بقصد المساس باستقلال البلاد او وحدتها او سلامة اراضيها وكان الفعل من شأنه ان يؤدي الى ذلك».

والخطوة التالية هو قيام النظام بطرح شروطه على السيد الصدر لفسح المجال أمامه لمزاولة حياته الطبيعية، وقد نقل هذه الشروط الشيخ عيسى الخاقاني (أحد المعممين البعثيين) وهي

1ـ رفع الفتوى بحرمة الانتماء الى حزب البعث والافتاء بجواز ذلك.

2ـ عدم دعم الثورة الاسلامية والبراءة من الامام الخميني.

3ـ البراءة من حزب الدعوة الاسلامية والافتاء بتحريمه.

وأزاء رفض السيد الصدر هذه الشروط، أرسل النظام مبعوثاً آخر هو السيد بدر الدين (لبناني) الذي عرض على السيد الصدر تنازل النظام عن شروطه السابقة والاستعاضة عنها بفتويين

1ـ تحريم الانتماء الى حزب الدعوة الاسلامية.

2ـ جواز الانتماء الى حزب البعث.

فكرر السيد الصدر رفضه، فعاد مبعوث النظام ثانية حاملا معه تنازلا آخر، حيث قال للسيد الصدر، ان الرئيس يبلغك تحياته ويقول «اننا نكتفي منك بفتوى واحدة من الفتويين السابقتين» واضاف مبعوث السلطة «اذا أصدرتم مثل هذه الفتوى فستفك الحكومة عنكم الحصار ويزوركم السيد الرئيس بنفسه، ويهدي اليكم سيارته الخاصة، وتنفتح لكم الدنيا» فامتعض السيد الصدر وقام بطرد مبعوث صدام وأمره بعدم المجيء مرة اخرى.

بعد ظهر يوم الاحد 5 نيسان (ابريل) 1980 اعتقل السيد الصدر من قبل اعداد كبيرة من قوات السلطة وارسل الى بغداد وحجزت عائلته، وفي اليوم التالي اعتقلت شقيقته آمنه الصدر (بنت الهدى)، حيث تعرضا الى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي.

وبعد ثلاثة ايام تم نقل السيد الصدر وشقيقته الى مكتب صدام، حيث قام صدام بتعذيبه بيده، ثم اطلق النار عليه من مسدسه فخر مضرجاً بدمه، ثم وجه برزان التكريتي أخو صدام غير الشقيق نيران سلاحه الخاص الى جسد الامام الصدر، ثم أمر صدام نائبه عزت الدوري بقتل الشهيدة بنت الهدى فخرت هي الاخرى صريعة[36].

لقد كان التحرك السياسي للامام الصدر والحركة الاسلامية العراقية سابقاً لمعظم التحركات السياسية للحركات الاسلامية في المنطقة لجهة تزامنها وتفاعلها بالثورة الاسلامية في ايران، ولذلك فان الضربة التي تلقاها الاسلاميون في العراق كانت عنيفة، واعتبرت البداية في مخطط استنزاف ومن ثم تصفية الوجودات الاسلامية الاخرى في باقي دول المنطقة.

فلم يكن اعدام الامام الصدر حدثاً عراقياً يهم العراق وحده، ذلك ان الامام الشهيد الصدر لم يكن شخصية منغلقة على الواقع العراقي فقط.

سامي العسكري

الفهرست:

* مقدمة

* الامام الصدر والتنظيم

* جماعة العلماء

* انقلاب 17 تموز 1968

* ضرب المرجعية الدينية

* الامام الصدر.. والمرجعية

* انتصار الثورة الاسلامية في ايران

* الامام الصدر يقود المعارضة

* برقية الامام الخميني

* انتفاضة 17 رجب

* المواجهة المسلحة

* نداءات الثورة

* انقلاب داخل البعث

* استشهاد الامام الصدر

سامي العسكري

* باحث اسلامي وصحفي عراقي.

* مواليد سوق الشيوخ (العراق) عام 1953.

* حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة البصرة عام 1978.

* عمل مديراً للمركز الاسلامي للابحاث السياسية.

* تولى رئاسة تحرير صحيفة «صوت العراق» التي تصدر في لندن لاكثر من 8 سنوات.

* نشرت له العديد من البحوث والمقالات في المجلات والصحف العربية.

* يعيش حالياً في لندن.

[1] د. عبد الرحيم حسن ـ الامام الشهيد محمد باقر الصدر ـ مراجعة لما كتب عنه باللغة الانجليزية/ الفكر الجديد العدد 6 ص 290.

[2] محمد باقر الصدر ـ الاسلام يقود الحياة ص 197 محمد باقر الصدر ـ الاسلام يقود الحياة ص 197

[3] حسن شبر ـ العمل الحزبي في العراق ص 39.

[4] عبد الجبار مصطفى ـ تجربة العمل الجبهوي في العراق ص 105.

[5] حسن شبر ـ العمل الحزبي في العراق ص 74.

[6] نفس المصدر ص 55.

[7] علي الاديب ـ اثارات في العمل السياسي الاسلامي صحيفة الجهاد العدد 571 في 23/11/1992.

[8] على المؤمن ـ سنوات الجمر ص 34.

[9] ثقافة الدعوة الاسلامية ـ القسم التنظيمي الجزء الاوّل ص 14

[10] مجلة الجهاد العدد 12 ربيع الاوّل 1402ه

[11] محمد الحسيني ـ الامام الشهيد محمد باقر الصدر ص 232.

[12] د. عبد الرحيم حسن ـ الامام الشهيد محمد باقر الصدر، مراجعة لما كتب عنه باللغة الانجليزية مجلة الفكر الجديد العدد 6 ص 291

[13] محمد الحسني ـ مصدر سابق ص 251

[14] كاظم الحائري ـ مباحث الاصول ص 57.

[15] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ص 47.

[16] نفس المصدر ص 70.

[17] مذكرات حردان التكريتي ص 38.

[18] محمد الحسيني ـ الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر ص 277

[19] علي المؤمن سنوات الجمر ص 100.

[20] نفس المصدر ص 166.

[21] محمد الحسيني ـ مصدر سابق ـ ص 308.

[22] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ـ ص 159.

[23] مجلة الجهاد للدراسات العدد 12 ص 46.

[24] الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ المحنة ص 80.

[25] كاظم الحائري مباحث الاصول (بتصرف) ص 91

[26] عبد الحميد العباسي ـ صفحاء سوداء من بعث العراق الجزء الثاني ص 17

[27] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ص 164.

[28] ثقافة الدعوة الاسلامية ـ القسم السياسي ج 1 ص

[29] الخطيب ابن النجف ـ تاريخ الحركة الاسلامية في العراق ص 123

[30] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ص 165.

[31] محمد الحسيني ـ الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر ص 371.

[32] كاظم الحائري ـ مباحث الاصول ص 126.

[33] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ص 171.

[34] بيان منظمة العفو الدولية في 17 تشرين الاول 1979.

[35] علي المؤمن ـ سنوات الجمر ص 189.

[36] مجلة الجهاد العدد 12 كانون الاوّل 1983.