تمهيد:
هذا الكتاب يناقش مذاهب فلسفيّة، ويعنى أوّلاً بالفكر الماركسي، إلاّ أنّ هناك خلطاً وقع فيه المؤلّف عند تطرّقه للمذاهب السائدة في العالم.
فقد ورد( ) أنّ هناك مذاهب أربعة تسود الذهنيّة الإنسانيّة العامّة اليوم وهي:
1ـ النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2ـ النظام الاشتراكي.
3ـ النظام الشيوعي.
4ـ النظام الإسلامي.
فمن المعلوم لحدّ الآن على الأقلّ أنّ اصطلاح «نظام» دائماً يرافق الاقتصاد، حيث إنّ النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي هي أنظمة اقتصاديّة تعنى بأساليب الإنتاج وعلاقاته، ولكلّ منهما مذهبه الفلسفي وقوانينه الاجتماعيّة (البنى الفوقيّة).
فإذا كان المؤلّف يقصد من هذه المصطلحات المختلطة، [النظام] المثالي أو النظام الميتافيزيقي على غرار تقسيمه، ولو سلّمنا الأربعة علماً بأنّه يوجد ـ حسب تقسيمه ـ نظامٌ مسيحي، ونظامٌ يهودي، ونظامٌ بوذي… إلخ من سلسلة الأديان( ).
ويعقّب بعد ذلك بأنّ «النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع النظم الاجتماعيّة وأنجحها»( ).
إنّ الإسلام قبل كلّ شيء هو دين التوحيد مقابل العقائد الوثنيّة، له مفاهيمه عن الحياة والكون والإنسان تكوّن فلسفته. وأمّا النظام الاقتصادي الذي ولد ونشأ فيه، فهو مبنيٌّ على علاقات عبوديّة إقطاعيّة أفرزت مثل تلك المفاهيم. وما نسمّيه نظاماً هو النظام السعودي، فهل يقصد «الصدر» بهذا النظام هذه التجربة الرائعة؟
وإذا كان يقصد نوع الحكم، فكان [النظام] آنذاك نظاماً ثيوقراطيّاً( ) (حكم الخليفة)، فإضافةً إلى كونه مناقضاً للعصر الراهن، فهو تعثّر في مسيرته ورفضته الجماهير العربيّة ولم يمرّ بتجربة من أروع النظم.
فإذا تجاوزنا فترة النبي محمّد(صلوات الله عليه) والنصف الأوّل من حكم الخلفاء الراشدين، وهي فترات قصيرة وإيجابيّة بالنسبة للعصر الماضي، فإنّنا نصادف [أنّ] الحكم قد تحوّل إلى حكم الوراثي ـ الدكتاتوري، ليس للشعب فيه كلمةٌ أو رأي. وكذلك نرى التاريخ العربي مشحوناً بالانتفاضات والثورات والإرهاب الدموي، ابتداءً من مناهضة علي بن أبي طالب (عليه السلام) للتجربة الرائعة، ثمّ ثورات الخوارج والحسين بن علي (عليه السلام) والعلويّين والزنج والقرامطة.
ثمّ لا ندري كيف يوفّق «الصدر» بين روعة التجربة وبين قول علي بن الحسين(عليه السلام) ( ) في القرن الأوّل من هذه التجربة: «أصبحنا في قومنا كبني إسرائيل في آل فرعون يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم»( ).
وإذا كان يقصد بالتجربة الرائعة الغزو الذي توسّع في عهد الخلفاء والسلاطين (القياصرة)، فهل يجوز لنا ونحن نرفض التجزئة والاستلاب والغزو الأجنبي ونعاني الاضطهاد أن نتفاخر ونعتزّ بغزونا وسلبنا في الماضي للشعوب الأخرى؟
وقبل أن ندخل بمناقشة بعض جوانب الفصل الأوّل من الكتاب، نحاول أن نوضح نقطة مهمّة وقع فيها «الصدر»، وهي خلطه بين الفلسفة اللاهوتيّة والفلسفة الدينيّة الوحيويّة:
فرغم توافق الفلسفتين بالاعتقاد بالله، إلاّ أن الأولى لا يشترط فيها الاعتقاد بالأديان الروحيّة والوحي والكتب المقدّسة والأنبياء، وتحوي على جوانب ماديّة وأخرى مثاليّة، وتتراوح السيادة بين هذين الجانبين في بعض المجالات. أمّا الفلسفة الثانية ـ أي الدينيّة ـ ، فهي تعتمد الوحي والكتاب (المقدّس) أساساً، [إضافةً إلى] ما يتلوه الأنبياء والأولياء، ولا يمكن تخلّيها عن النصوص والشرائع الدينيّة.
فلذا لا يمكن مثلاً إضافة فلسفة «ابن رشد» إلى الفلسفة الدينيّة الإسلاميّة رغم التقائه ببعض جوانبها، حيث إنّ ابن رشد على الأغلب يعتبر [رائد] شرح كتب أرسطو( )، وأخذ علم الفلك عن المجسطي وعلم الطب عن جالينوس، وكانت لديه آراء لم يستطع البتّ فيها من باب الثقة( )، وليس كلّ ما قاله وردنا، خاصةً بعد أن أحرقت كتبه. وهو يبرّر تحصيله الفكري والثقافي من أمم ليست إسلاميّة بقوله: «فقد يجب علينا إن ألقينا لمن تقدّمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقاً للحقّ قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه»( ).
ونرى واضحاً المضايقات التي عاناها ابن رشد من الجمهور والفرق الإسلاميّة حيث خرج عن رأيها، ويتّهمها بأنّها: «كفّرت من ليس يعرف وجود الباري بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم»( ).
والآن ما علاقة ابن رشد ـ امتداد أرسطو والفلسفة القديمة ـ بالفلسفة الدينيّة الإسلاميّة؟ ثمّ أليس من التعسّف أن [نسبغ على]( ) فيلسوف إلهي أو عاش فترة الحكم الإسلامي طابعاً دينيّاً( )؟
ومن هذه النقطة سنحاول أن نناقش «فلسفتنا» باعتبارها فلسفة دين. وكأنّه عرضٌ أمامنا لصورتين أساسيّتين من الفلسفة:
إحداهما: يمكن تسميتها بالفلسفة الوثنيّة، وهي فلسفة الجاهلية العربيّة.
والأخرى: الفلسفة الإسلاميّة كما يتصوّرها القرآن( ).
البحث الأوّل
نظريّة المعرفة:
يتناول «الصدر» في هذا الفصل:
أوّلاً: المصدر الأساسي للمعرفة:
ويتطرّق إلى عدّة نظريّات في هذا الصدد. ويهمّنا هنا المذهب العقلي باعتباره المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلاميّة، وطريقة التفكير الإسلامي بصورة عامة ـ كما يقول ـ ، حيث يذهب إلى تقسيم المعارف البشريّة ـ حسب المصادر ـ إلى طائفتين:
1ـ معارف ضرورية أو بديهيّة: «ونقصد بالضرورة هنا أنّ النفس تضطرّ إلى الإذعان بقضيّة معيّنة من دون أن تطالب بدليل أو تبرهن على صحّتها.. مثل الواحد نصف الاثنين»( ).
2ـ معارف ومعلومات نظريّة: «فإنّ عدة من القضايا لا تؤمن النفس بصحّتها إلاّ على ضوء معارف ومعلومات سابقة»( ).
ثمّ يتابع بأنّ المذهب العقلي يوضح أنّ الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقليّة الأوّليّة.
وقبل أن نناقش هاتين الطائفتين من المعارف البشريّة، نودّ أن نذكّر «الصدر» بأنّه نسي طائفة ثالثة في الفلسفة الإسلاميّة( ) التي تعتمد الاستشراق أو الوحي وتعتبره الأساس في كلّ المعارف. حيث إنّ طبيعة الأمور تستدعي أن يُجعل [الاستشراق أو الوحي] أكثر أهمية للمعرفة من الوسيلتين السابقتين، وذلك لأنّ العلم الحقيقي في نظر القرآن هو العلم بعالم الغيب( )، وترتبط هذه الطائفة أساساً باليقين والإيمان (قُلْ أَیُّ شَیْء أَکْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ شَهیدٌ بَیْنی وَ بَیْنَکُمْ وَ أُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لاِ نْذِرَکُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّکُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنی بَریءٌ مِمّا تُشْرِکُونَ﴾( ).
ولولا هذه الوسيلة، فعلى أيّ أساس نفسّر ـ حسب الاعتقاد الديني ـ حكمة الأنبياء ومعجزاتهم وتفسيراتهم ومعارفهم، وهم ـ بصورة عامّة ـ أميّون( )؟!
وإذا تجاوزنا هذه، فسنجد ـ كما يوضحها [«الصدر»] ـ بأنّها معارف فطريّة خارجة عن نطاق التجربة والإحساس والتأمّل الفكري، وتعتبر المصدر الأوّلي لجميع المعارف حيث يقول «إنّ عدّة من قوانين العالم العامة يعرفها الإنسان معرفة مستقلّة عن التجربة»( )، ومن هذه القاعدة ينطلق لنقد الماركسيّة بعد سرده لعدّة نظريّات في مصادر المعرفة( )، ويسجّل أهمّ النقاط التالية:
«إنّ الماركسية كما يبدو تعترف بوجود مرحلتين للمعرفة البشرية، ومع ذلك فإنّها لا تريد أن تسلم بوجود معرفة منفصلة عن التجربة، وهذا هو التناقض الأساسي الذي تقوم عليه نظرية المعرفة في الماديّة الديالكتيكيّة»( ).
إنّ الماركسية إذ نؤكّد بأنّ الناس لا يمكنهم أن يحصلوا على المعارف إلاّ من خلال تعلّمهم وتربيتهم، تجاربهم وإحساساتهم، أي في وسط محيطهم الاجتماعي، فهي لا تنكر وجود البديهيّات المجرّدة (الواحد نصف الاثنين). وهذه المعارف مستقلّة عن التجربة المخصوصة لكلّ فرد على حدة، إلاّ أنها ليست منتجات عقليّة ذاتيّة وفطريّة مولودة مع الإنسان ومستقلّة عن التجربة الإنسانيّة. أي إنّها ليست تخيّلات حرّة خاصّة تضطرّ النفس إلى الإذعان [بها] والاستسلام لها دون دليل أو برهان.
إنّ مثل هذه المعارف حقيقيّة ومشتقّة ومستعارة من الواقع الخارجي، فكما يقول إنجلز:
«إنّ الرياضيات مثلها مثل جميع العلوم الأخرى، قد نشأت من حاجات البشر، من مسح الأرض وقياس سعة الأواني ومن حساب الوقت ومن الميكانيك»( ).
وتتوارث هذه القوانين والمعارف عن طريق التعلّم والتبصّر بعد الإحاطة باللغة وأشكال الفكر، وليست متوارثة بيولوجيّاً كمعارف أو أنّها معطىً خارجي.
إنّ المعرفة لدى الماركسيّة اشتقاقٌ من الواقع الخارجي، وهي امتدادٌ لكلّ معارف الخلائق الإنسانيّة عبر تاريخها الطويل، تفترق في مرحلة من التطوّر عن هذا العالم الواقعي، وتجابَه على اعتبارها شيئاً مستقلاً.. على اعتبارها قوانين آتية من الخارج ينبغي للعالم أن يتطابق معها.
إنّ معارف ضيّقة ومجرّدة وساذجة وأبديّة (الواحد نصف الاثنين) قيمة علميّة واعتبارها قوانين عامّة، حيث لا يمكن تطبيقها أو حتى الاستفادة منها في مجالات المعرفة الواسعة (علوم التاريخ الإنساني، الطبيعيّات، الفضاء) التي دائماً هي في تطوّر ونمو( ).
ويضيف لدعم مذهبه مثالاً، فيقول:
«الوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها. وحتّى إذا تذوّقناها، فإنّنا نحسّ بطعمها ولا نحسّ في تلك الأحوال بالجوهر [الذي تلتقي هذه الظواهر عنده]»( ).
ويضيف:
«فالسند الوحيد لإثبات المادة هو معطيات العقل الأوّليّة، ولولاها لما كان في طاقة الحسّ أن يثبت لنا وجود المادة وراء الرائحة الذكيّة واللون الأحمر والطعم الخاص للوردة»( ).
ونضيف من عندنا: حتّى لو شرّحناها و[وضعناها] تحت الاختبار وعرفنا تكويناتها الداخليّة (الحلويّة) وطرق تكاثرها وتغذيتها ووظائف أعضائها، فإنّنا لا نعثر على المادة (الوردة) بدون معطيات العقل الأوّليّة.
لا ندري ماذا يريد بالجوهر! وكيف أثبته بالمعطيات العقليّة! وهل يعني إذا لم تكن لدينا هذه المعطيات، فإنّ المادة ليس لها وجود! وهل يستطيع الإنسان أن يدرك الجوهر (الوردة) بمعطياته العقليّة إذا أبعدناه نهائيّاً ـ بالمعنى الساذج للكلمة ـ عن الوردة ومحيطه الاجتماعي! وهل إنّ الماركسيّة إذا لم تسلّم بحصول المعرفة دفعةً واحدة (هزّةً كاملة وموحاة)، يعني أنّها سلّمت بوجود معرفة منفصلة عن التجربة، وهذا هو التناقض الأساسي!
ويستطرد ليعيب على الماركسيّة علميّتها، لأنّها تبتّ في مسائل ميتافيزيقيّة وأنّها «تتدخّل في هذا اللون من القضايا وتجيب عليها بالنفي، الأمر الذي يجعلها تتمرّد على حدود الفلسفة العلميّة وتنساق إلى بحث ميتافيزيقي»( ).
ليست الماركسيّة حصيلة المعطيات العقليّة المستقلّة عن الواقع، أو التحليق فوق التاريخ والمعارف البشريّة. إنّها حصيلة المعارف السابقة والاهتمام باللحظات الفاعلة في المعرفة، وهي وليدة الصراع بين المثاليّة من جهة والماديّة النظريّة القديمة من جهة ثانية، وهي أيضاً وليدة الصراع بين الميتافيزيقيا والعلم.
ولئن تكن الماركسيّة علماً مثل كلّ العلوم، تطرح نظرتها وتفسيراتها للظواهر مقابل التفسيرات اللاعلميّة (الميتافيزيقية)، فلا بدّ لها أن تتدخّل في هذا اللون من القضايا. إلاّ أنّ هذا التدخّل المشروع لا يمكن أن يؤول باعتباره انسياقاً ميتافيزيقيّاً. فهل يمكن للعلم مثلاً اعتباره ميتافيزيقيّاً( ) إذا رفض عالم الجنّ وبتّ بعدم وجوده!
ثمّ إنّ تعريف الماركسيّة ليس متوقّفاً على موقفها من المفاهيم الميتافيزيقيّة. وبمعنى آخر، لا يمكن توضيح الماركسيّة باعتبارها موقفاً ضدّ الميتافيزيقيّة والمثاليّة بصورة عامّة، فالماركسيّة احتواءٌ جديدٌ لإمكانيات الناس وتطلّعاتهم ونضالاتهم ضدّ الطبيعة والمفاهيم الوهميّة من جهة، وضدّ واقعهم السيّئ من جهة أخرى. وتهدف بالتالي إلى تحقيق مشروع تكون الإنسانيّة فيه محوراً أساسيّاً وقيمةً عليا لنقل العالم من وضعه الراهن إلى وضع أفضل، تتحقّق فيه قيمة الإنسان وتلغى جميع استلاباته وتمزّقاته واغترابه.. يرافق هذا المشروع حلمٌ بتحقيقه، وهذا الحلم لا يشبه بأيّ حال حلم العقل الغيبي، لأنّه ناتج من خلال النضال ومعتمدٌ على الإمكانيّات المتوفّرة لدى البشر ودور الإنسانيّة الخلاق.
ثانياً: قيمة المعرفة:
وبعد أن وضّح «الصدر» المصادر الأساسيّة للمعرفة، يتناول المعرفة من ناحية أخرى لتحديد قيمتها الموضوعيّة ومدى إمكان كشفها عن الحقيقة. فهو بالرغم من مواجهته بصورة أساسيّة للماركسية، إلاّ أنّه يذهب لتدثير هذه المواجهة باستعراضٍ لا يعرف ذيله من رأسه، ببعض الآراء الفكريّة.
ومن خلال هذه الاستعراض، نستطيع أن نتبيّن من «فلسفتنا» ما يلي:
بصدد نقده للمثاليّة وخاصّة فلسفة «باركلي»، يحاول أن يتّهمها بالسذاجة، فيضع مقابل مواضع «باركلي» المعرفة التصديقيّة التي هي «عبارة عن الحكم النفسي بوجود حقيقة من الحقائق وراء التصوّر»( ). وهذه المعرفة التصديقية ليست «صورة لمعنى معيّن من المعاني التي يمكن أن نحسّها ونتصوّرها، بل فعلاً نفسيّاً يربط بين الصور»( ). ويضيف: «فالإنسان بطبيعته إذن يخرج من التصوّريّة إلى الموضوعيّة بالعلم التصديقي لمكان كشفه الذاتي»( ).
وبعد نقده للمثاليّة، يذهب لوضع أساسين ترتكز عليهما واقعيّته، وهما:
الأوّل: الإيمان بوجود كشف ذاتي للمعارف التصديقيّة( ).
الثاني: الاعتقاد بقاعدة أساسيّة للمعرفة البشريّة مضمونة الصدق بصورة ضروريّة( ).
وهو بعد كلّ هذا يذهب بين صفحة وأخرى ـ كعادته ـ لتناول المقولات الماركسيّة واعتصارها ومناقشتها والخروج بالنتيجة لصالحه.
إلاّ أنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يميّز المثاليّة ـ بما فيها واقعيّة «الصدر»ـ عن الماديّة الديالكتيكيّة، هو ما [يقوله] «لِنِنْ»: «هل يجب أن نذهب من الأشياء إلى الإحساس وإلى الفكر … أم من الفكر ومن الإحساس إلى الأشياء؟».
فإذا وافقنا الشطر الثاني ـ أي الذهاب من الفكر ومن الإحساس إلى الأشياءـ، فإنّنا سنؤكّد مقولة «باركلي»: «لا وجود إلاّ لأفكارنا»، ويعني أنّ الواقع غير موجود إذا لم توجد أفكارنا. وهذا ما يذهب إليه «الصدر» بطريقة ملطّفة، حيث يسلّم بوجود الأشياء خارج ذهننا من جهة، ويعتمد بمعرفة هذه الأشياء على أساس المعرفة التصديقيّة والفطريّة، أي الخروج من التصوريّة إلى الموضوعيّة، وإلاّ أين هو الجوهر؟
وحتّى يحافظ على مستواه الواقعي، يخلص إلى القول إنّ الواقعيّة «لا بدّ لها أن تعترف بأنّ الإدراكات الفطريّة في العقل عبارة عن انعكاسات علميّة لقوانين موضوعيّة مستقلّة»( ).
وكيف يجوز له اعتبار المعرفة هي معرفة فطريّة تصديقيّة تخرج من التصوريّة إلى الموضوعيّة، ثمّ يذهب للمقول إنّها «انعكاسات علمية لقوانين موضوعية مستقلّة»؟!
وكيف يوفّق بين اعترافه [بأنّ] الإدراكات الفطريّة انعكاسٌ لقوانين العالم الموضوعي المستقلّ، وبين قوله إنّها فعلٌ نفسيٌّ وإنّها معارف مستقلّة عن التجربة والإحساس؟!
ثمّ كيف تكون هذه المعارف مستقلّة وموضوعيّة ما دام العقل يشعر بضرورة التسليم والاعتقاد بصحّتها دون برهنة أو دليل؟!
والأنكى من ذلك أنّه يؤكّد بأنّ المعرفة التصديقيّة هي التي تكشف لنا موضوعيّة التصوّر ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا( ). يعني إذا لم توجد المعارف التصديقيّة الفطريّة، لا يوجد كشفٌ عن الواقع الموضوعي، أي لا يوجد جوهرٌ للأشياء..
أليس «باركلي» أشطر من «الصدر» عندما يقول: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، حيث لا يلفّ ولا يدور حول المصطلحات الرنّانة… «واقع موضوعي»، «معارف تصديقيّة»، و«فطريّة»، «مستقلّة»…
اعتراض الصدر على الماركسيّة:
وبصدد اعتراضه على الماركسية يضع نقطتين:
1ـ النقطة الأولى: كيف تتناول الماركسيّة عن طريق الحسّ والتجربة… وبهذا لا تتناول «إلاّ ظواهر الطبيعة ولا تنفذ إلى الصميم والجوهر»( )، حيث إنّ الجوهر ـ كما يقول معتمداً على «كَنْتْ» ـ «هو الشيء في ذاته ولا تنفذ إليه المعرفة البشرية»( ).
إذا كانت المعرفة البشرية لا تنفذ إلى جوهر الأشياء، فكيف استطاع «الصدر» أن ينفذ بمعرفته إلى جوهر الماركسيّة؟!
استند [«الصدر»] بعرضه لهذه النقطة على معارضة التصديقيّة، ومثله «الوردة» على أساس معارضة التصديقية( )…
إنّ الوردة هي شيءٌ في ذاته، إلاّ أنّها كلّما تقدّمت معارفنا وعلومنا عن طريق التجربة والإحساس، ستتحوّل إلى شيءٍ لنا. أي الجوهر هو الظاهرة والظاهرة هو الجوهر( ).
إلاّ أنّه ليس( ) ثمّة فرق ـ كما يقول «لِنِنْ» ـ بين ما هو معروف، وما لم يعرف بعد، وليس [هناك فرقٌ]( ) بين الجوهر والظاهرة. الظواهر هي أشياء لنا، أو نسخ عن أشياء في ذاتها.
فعندما نوضّح ظواهر الماء ـ أي كيفيّاته وأعراضه ـ بأنّه عديم الرائحة والطعم واللون وغير قابل للاشتعال، ثمّ نعقّب بعد ذلك التوضيح [ببيان]( ) مكوّناته عن طريق التجربة بأنّه يتكوّن من الهيدروجين (ذرّتان) والأوكسجين (ذرّة).. أليس هو بالضبط العجب عندما نسأل بعد ذلك ما هو جوهر الماء؟!
2ـ النقطة الثانية: أمّا النقطة الثانية في اعتراضه فهي: «هل تستطيع الماركسيّة أن.. تبرهن على أنّ الواقع الموضوعي يبدو لنا في أفكارنا وحواسنا كما هو في مجاله الخارجي المستقلّ؟»( ).
قبل كلّ شيء ينبغي أن نعرف بأنّ الواقع الخارجي ليس هو الذي في أفكارنا وحواسنا، وإنّما صورته. أي إنّ حواسنا وأفكارنا صورة تقابل ـ وليست تماثل ـ هذا الواقع، وإنّ ضبط هذه الصورة لا توفّرها لنا غير الممارسة، أي حالما نخضع الأشياء (الواقع الخارجي) لاستعمالنا بصورة مطابقة للصفات التي ندركها، فإنّنا نخضع صحّة أو خطأ إدراكاتنا الحسيّة لاختبار لا يخطئ. والتسليم بوجود الواقع الخارجي وتكوين صورته في ذهننا لا يعني التسليم بأنّ هذه الصورة «مطابقة» للواقع الخارجي كما هو، لأنّ العلاقة بين الواقع الخارجي والفكر هي علاقة جدليّة وليست [..]( ). إنّنا في النهاية نستقي معارفنا من هذا الواقع، وكلّما ازدادت معارفنا برهنت على مدى تطابق انعكاس الواقع الموضوعي في دماغنا.
يتابع «الصدر» نقده للماركسيّة.. فبصدد الحركة الديالكتيكيّة في الفكر يقول:
«فليست في الفكر الإنساني حقائق مطلقة، وإنّما الحقائق التي ندركها نسبيّة دائماً، وما يكون حقيقة في وقت يكون بنفسه خطأ في وقت آخر. وهذا ما يتّفق عليه النسبية والماركسية معاً»( ).
إنّه يسوّي المسألة بكلّ بساطة ويعتبرها حقيقة أبديّة مثل (الواحد نصف الاثنين).
إنّ «إنجلز» يكتب في كتابه «آنتي دوهرنگ» حول الحقائق الأزليّة، بأنّ هناك حقائق مثل: «إنّ ناپوليون قد مات في اليوم الخامس من أيار 1821».
وهذه الحقائق أزليّة، ومن الجنون الاعتقاد بخطئها، ولكن هل من الممكن تطبيق مثل هذه التفاهات على المعرفة الإنسانيّة؟
إنّ تطبيق مقياس تلك الحقائق على العلوم الطبيعيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة لن يؤوب إلاّ بصيد قليل، فهل من الممكن اعتبار الاعتقاد السائد في فترة ماضية بأنّ الحركة هي حركة ميكانيكيّة فحسب ـ أي انتقال الجسم من مكان إلى آخر ـ حقيقة تشبه الحقائق الأبديّة، أو أنّها خطأ أبدي؟! ليس هذا ولا ذاك..
وتطوّرت الحركة بإضافات واكتشافات جديدة: ميكانيكيّة، فيزيائيّة، بيولوجيّة واجتماعيّة..
إذن فمعارفنا لا يمكن أن تتمّ بدفعة واحدة، وليست معارف إنسان مفرد، بل هي الفكر المفرد لمليارات عديدة من البشر الماضين والحاضرين والمقبلين، وليس من السهل أن نطبّق على مسائل المعرفة مقاييس مثل «خطأ أو صح» و«نعم أو لا» و«اثنين أو واحد».
ثمّ كيف اتّهم الماركسيّة بإنكارها للحقيقة المطلقة؟ حيث يؤكّد «إنجلز» بأنّ الفكر الإنساني مطلق وغير محدود في طبيعته وديمومته وإمكاناته وهدفه التاريخي الأخير، وهو غير مطلق ومحدود في تحقّقه الفردي وفي واقعه في أيّة لحظة( ).
وهذا يعني التسليم بوجود حقيقة مطلقة موضوعيّة مستقلّة عن المعارف الإنسانيّة، إلاّ أن مدى إدراكنا لهذه الحقيقة هو نسبي في تزمّنه وفرديّته، وأن الجدلية المادية كما يقول «لِنِنْ» ـ تضمّ بلا ريب( )، ولكنها تؤول إلى النسبية، أي أنّها تسلم بنسبية جميع معارفنا ليس بمعنى إنكار الحقيقة لهذه الحقيقة( ).
فالمسألة لا يمكن أن توضع ببساطة «الحقيقة الموضوعيّة»، بل بمعنى النسبيّة التاريخيّة لحدود مقاربة معرفتنا مقابل الخطأ، وهذا ليس معناه اجتماع الحقيقة والخطأ معاً، وإنّما نسبيّة حقيقة معارفنا. فلا يمكننا مثلاً أن نحكم ببساطة على علوم الفلك السالفة بأنّها خطأ. إنّها كانت نسبيّة تجمّعت وتطوّرت إلى علوم الفضاء خلال القرون التالية، أي أصبحت حالة خاصّة من حقيقة أكثر عموماً.
ويستطرد «الصدر» بعد ذلك فيعظ الماركسيّة إذا أرادت أن تكوّن فلسفة واقعيّة مؤمنة بالقيم الموضوعيّة حقّاً، فعليها أن تؤمن بأنّ «الحقيقة لا يمكن أن تتطوّر وتنمو»( ).
إننا نصل بهذه النقطة إلى جوهر الصراع ـ وإن كان الجوهر مبهماً بالنسبة للصدر ـ بين المثاليّة والماديّة، حيث إنّ الأولى لا تقرّ إلاّ بالخطأ المطلق أو الحقيقة المطلقة، فليس لديها سوى إمّا معرفة حقيقة مطلقة فقط أو خطأ فقط.
إلاّ أنّ المادية الجدليّة ترى بأنّ المعرفة مطلقة( ) ونسبيّة وفي تطوّر ونموّ، حيث إنّ القول الآن بأنّ سطح القمر مظلمٌ هو حقيقة مطلقة، ولكن من أين جاءت؟ لم تأت دفعة واحدة… هذه حقيقة قبل اكتشاف الإنسان لها ومستقلّة عنه، إلاّ أن معرفته بها جاءت من جهود طويلة، ثمرة تاريخ طويل من التجارب لم نعرفها فطريّاً على أساس معارفنا التصديقيّة، بل نتيجة تجارب ومشاريع وفرضيّات تعطي في كلّ مرّة حقيقة نسبيّة، وهذه الحقائق النسبيّة تجمّعت لتكوّن بالتالي حقيقةً مطلقة: «سطح القمر مظلم». ثمّ ستظلّ هذه الحقيقة مفتوحة بمعنى تستوعب كلّ الإضافات والاكتشافات الجديدة، كلّ الحقائق النسبيّة. أي إنّ معارفنا عن جوهر القمر تتطوّر من يوم إلى آخر( )، أي تحويل الأشياء في ذاتها إلى أشياء لنا.
إذن فبداية المعرفة لم تكن مستقلّة عن المراجعة والاستقراء مثل الحقائق الأزليّة: «مات أفلاطون قبل أرسطو». هذه حقيقة مطلقة ومجرّدة وجامدة، لا يمكن تطبيقها على مجال المعرفة والعلوم التي هي في طبيعتها ـ نسبيّاً ـ متطوّرة.
[البحث الثاني]
المفهوم الفلسفي للعالم:
يتناول «الصدر» في الفصل الثاني من كتابه «المفهوم الفلسفي للعالم».
بعد أن مهّد لنفسه طريق الدخول ضمن الواقعيّة، يأتي في مقدّمة الفصل ليصحّح أخطاء بعض الكتّاب المحدثين. ضمن جملة هذه الأخطاء كما يقول:
1ـ [الخطأ الأوّل]: «محاولة اعتبار الصراع بين الإلهيّة والماديّة مظهراً من مظاهر التعارض بين المثاليّة والواقعيّة»( ).
ويبرّر زعمه عن هذا الخطأ بقوله: «يوجد مفهوم آخر للواقعيّة هو المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة ويرجع الروح والمادّة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً»( ).
2ـ [الخطأ الثاني]: أمّا الخطأ الثاني، «ما اتّهم به بعض الكتّاب المفهوم الإلهي من أنّه يجمّد مبدأ العلميّة في دنيا الطبيعة»( ).
3ـ [الخطأ الثالث]: «إنّ الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهيّة معاً، حتّى أخذ يبدو أنّ الروحيّة في المفهوم الإلهي هي بمعناه في المفهوم المثالي»( ).
وبعد سرد أخطاء المحدثين، يوضح نقطتين حول المفهوم الإلهي والمادي:
1ـ [النقطة الأولى]: «الفيلسوف سواء أكان إلهيّاً أم ماديّاً، يؤمن بالجانب الإيجابي من العلم»( ). كما يقول: «ليس في المسألة العلميّة فيلسوفٌ إلهيٌّ وآخر مادي»( ).
2ـ [النقطة الثانية]: «إذا كان التعارض بين الإلهيّة والماديّة هو تعارض الإثبات والنفي، فأيّ المدرستين يقع على مسؤوليتها الاستدلال والبرهنة [على اتجاهها الخاص الإيجابي أو السلبي]؟»( ).
ويضيف: «ولكنّ الواقع أنّ كلاً منهما مكلّف بتقديم الأدلّة والمدارك لاتّجاهه الخاص»( ). ويضع للإجابة على مثل هذا السؤال شرطاً حيث يقول: «يجب أن يكون هو العقل، لا التجربة المباشرة خلافاً للماديّة»( ).
قبل كلّ شيء، الماركسيّة لها استعدادٌ أن تتخلّى عن تسميتها بالواقعيّة. فقد كتب «لِنِنْ» قائلاً:
«إنّني لن أستخدم ـ متأثّراً [بـ]إنجلز في ذلك ـ سوى كلمة ماديّة في هذا المعنى، وأعتبر هذا المصطلح وحده صحيحاً، وبالخاصّة منذ تبنّى عبارة «واقعيّة» الوضعيّون واختلاطيّون آخرون ومتذبذبون بين الماديّة والمثاليّة»( ).
والآن لنترك التسميات جانباً، ونأتي إلى «فلسفتنا» الواقعيّة والصراع القائم بينها وبين الماديّة الديالكتيكيّة..
فرغم جمعه ـ أي «الصدر» ـ الآلي بين المذاهب المختلفة والتحليق فوقها واستلهام المفاهيم الماديّة بصورة عفويّة والإقرار باعتبار الواقع الموضوعي ـ بما فيه الجنّ والشياطين والملائكة ـ خارجاً عن ذهننا، عن أفكارنا. إلاّ أنّ المسألة الآن: من المعطى الأوّلي؟ هل الشعور أو المادة؟..
كان من الأفضل أن يجيب «الصدر» على هذا السؤال بأنّ المادّة هي المعطى الأوّلي حتّى يتبنّى الماديّة وينهي الصراع القائم. إلاّ أنّه يرجع ذلك إلى «سبب أعمق فوقهما جميعاً»( ). وهذا السبب الأعمق هو [واقعٌ] خارجي للعالم والطبيعة، أي إنّه لا يوجد ضمن عالمنا وطبيعتنا، ويجب تصوّره بالعقل لا بالتجربة.
وبمعنى آخر: إنّ هناك واقعاً في أذهاننا خارجي للعالم والطبيعة لا يمكننا الاستدلال عليه إلاّ في ضوء معارفنا التصديقيّة والفطريّة. فما دام هناك واقعٌ لا يوجد إلاّ في العقل ـ عقل الفلاسفة الواقعيّين ـ والذهن، وليس في العالم والطبيعة وإنّما «فوقهما جميعاً»، فما وجه الاختلاف عن المثاليّة التي تدّعي وجود مثل هذا الواقع؟!
أمّا عن الخطأ الثاني الذي وقع فيه «بعض الكتّاب المحدثين»، فهو اعتقادهم بأنّ المفهوم الإلهي يجمّد «مبدأ العلمية في دنيا الطبيعة» كما يقول، وهذا حقاّ خطأ.
والآن سنناقش ليس المفهوم الإلهي، بل مفهوم «فلسفتنا» باعتبارها فلسفة دينيّة إسلاميّة( )، أي فلسفة «وحيويّة» تنطلق من كتابها وشرائعها وأحكامها وتصوّراتها عن العالم. ويمكننا بعد ذلك صياغة السؤال التالي: «هل هناك اختلاف بين الفيلسوف الديني والمادي في المسألة العلمية؟».. وإذا تركنا المادي جانباً باعتباره مقرّاً بالمسائل العلميّة حسب اعتراف «الصدر»( ).
العلاقة بين الفلسفة الدينيّة والمسألة العلميّة:
والآن نوضح العلاقة بين الفلسفة الدينيّة والمسألة العلميّة، فهناك ثمّة نقاط أساسيّة للتعارض:
1ـ [أوّلاً: المنهج:] فمن ناحية المنهج، فإنّ العلم يتّبع منهجاً استقرائيّاً وتجريبيّاً باعتباره نتاج الفكر الإنساني؛ أي إنّ الإنسانيّة هي التي تكتشف الحقائق والقوانين. أمّا المنهج الديني، فهو ينطلق من الحقائق المنزلة والثابتة.
فمثلاً على صعيد علوم الحياة والأرض، فإنّ المفاهيم العلميّة ـ لحدّ الآن على الأقلّ ـ استطاعت أن تستقصي تطوّر الأرض وأصل الأنواع التدريجي، وهي في سبيلها إلى تطوير حقائقها. بينما تزعم وجهة النظر الدينيّة بأنّها خلقت دفعة واحدة بسبعة أيام( ).
2 ـ [ثانياً: المعرفة:] ومن ناحية المعرفة، فإنّ العلوم تطمح لمعرفة المجهول، بينما تنسب النظرة الدينيّة كلّ ما تجهله إلى الغيب واعتبار العلم منزلة من الله: ﴿َفَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾( ).
3 ـ [ثالثاً: التاريخ:] وعلى صعيد التاريخ، فإنّ العلميّة أثبتت تطوّر الأخلاق والعلاقات الاجتماعيّة ونموّها، أي إنّها متزمّنة وهي نتاجٌ اجتماعي. بينما تعتبر الوصايا والأخلاق الدينية ثابتة لكلّ الأجيال والأزمان، حيث إنّ أيّ نصٍّ دينيٍّ لا يمكن مناقشته أو إلغاؤه أو البتّ في عدم صحّته أو تصويره إلاّ عن طريق التوفيق والملائمة كما فعل البعض حتّى لو تجاوزنا مرحلته بآلاف السنين، لأنّ هذه النصوص سرمديّة وأبديّة ومقدّسة، حيث إنّ الوصيّة التي تقول (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾( ) أو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾( )، هي وصيّة أبديّة وحقيقة سرمديّة مثل: «أفلاطون مات قبل أرسطو».
4ـ [الإنسان:] زيادةّ على ذلك، أثبتت العلوم بأنّ الإنسان نتاج محيطه ومجتمعه ومراحله التاريخيّة، بينما تدّعي النظرة الدينيّة بأنّ الإنسان يخلق إمّا خيّراً وإمّا شريراً، وليس له حولٌ على كلّ ما هو مكتوب له ولا قوّة، حيث إنّ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾( ).
5 ـ [الخوارق:] ثمّ إن العلوم كفرضيّة ومشروع تجريبي يتحقّق خلال ما فعل الإنسان، بخلاف المفاهيم الدينيّة التي تعتقد بأشياء خارقة ومسبقة لفرضيّات العلم ومشاريعه وممكناته وإنجازاته، تحوّل العصا إلى ثعبان، الانتقال من أماكن متباعدة بلمحة بصر، الولادة بدون تواصل جنسي، إحياء الموتى…إلخ.
ثمّ إنها تعتبر الإيمان وليس «المعرفة البشرية ووسائلها» هو الأساس بتصديق مثل هذه المفاهيم… (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾( ).
والشيء المهمّ أنّ الأديان ليست منهاجاً أو بحثاً في العلم، وإنّما هي قبل كلّ شيء نظرة إصلاحيّة لوضع الناس وعلاقاتهم، وعلومها أساساً علومٌ بعالم الغيب، إضافةً إلى كونها تشريعيّة وتنظيميّة لهذه العلاقات. أي إنّ الدين لا يمكن اعتباره موقفاً ضدّ العلم وحاجزاً متطوّر العلوم، بل منهجاً يخالف منهج العلم، إضافةً إلى إمكانيّة استغلال هذا المنهج بسبب قداسته لحجب العلم عن الناس عن طريق إشاعة الشعوذات والروح العاجزة والاتّكاليّة وحجزهم عن التطوّر والإبداع( ): «الله أعلم»( )، «لا تفكّر لها مدبّر»، «الصبر مفتاح الفرج».. (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾( )..
أي إنّه ثمرة إنسانيّة لمعالجة وضع اجتماعي معيّن، فأيّة محاولة لاصطياد الاصطلاحات أو استيزاف النصوص الدينيّة لموافقتها مع العلوم، أو تلبيسها النظريّات الحديثة هي محاولة تنافي الدين أساساً.
زائداً إلى ذلك، إنّها يائسة وعقيمة وتنفي دور الدين الإيجابي كمحاولة لإنقاذ البشر من استلابهم و[عبوديّتهم].
التعارض بين الإلهيّة والماديّة:
أمّا عن التعارض بين الإلهيّة والماديّة، فهو ـ كما يقول [«الصدر»] ـ «تعارض الإثبات والنفي»( )، ويقصد بهذا التعارض قبول الإلهيّة لعالم المغيبات بينما رفض الماديّة لهذا العالم.
ويقول «الصدر»( ) إنّ الإلهية والماديّة مكلّفة وملزمة لإثبات عدم وجوده […]( ) إلا من خلال التأكيد التاريخي والممارسة البشريّة، أي من خلال كشفها للواقع الموضوعي وتخلّصه من شوائب الأساطير الميتافيزقيّة، وهذا ما يبحثه العلم أيضاً: فنفي الأسطورة اللاموجودة في واقعنا لا يحتاج إلى إثبات، فإنّ إثبات وجود الأوكسجين والهيدروجين فقط في الماء، ومن خلال التجربة والإحساس دليلٌ قاطع على عدم وجود عنصر الكاربون فيه، فليس هناك إذن داعٍ لإثبات عدم وجود الكاربون إلاّ من خلال هذه الحقيقة.
نقد قوانين الديالكتيك:
وينتقل «الصدر» لنقد قوانين الديالكتيك، فيستهلّ في نقده حركة التطوّر، وتراه يقع في حذلقة نقديّة حيث يقول:
«والواقع أن قانون التطور الديالكتيكي الذي يعتبره الجدل الحديث من مميزاته الأساسية، ليس شيئاً جديداً في الفكر الإنساني، وإنّما الجديد طابعه الديالكتيكي [الذي يجب نزعه عنه كما سنعرف]»( ).
ويتابع:
«فليس علينا لأجل أن نقبل هذا القانون، ونعرف سبق الميتافيزيقا إليه، إلاّ أن نجرّده عن قالب التناقض، وأساس الجدل القائم عليه في عرف الدياليتيك»( ).
رجع «الصدر» إلى عادته كما «ذهبت هَيْفٌ لأَدْيانها»( ).. فهو يفصل قانون المتطوّر الديالكتيكي كما فصل جوهر الوردة عن ظواهرها. ولكي يتقبّل هذا القانون، يذهب لتجريده عن قالبه التناقضي.. يا لها من سهولة لغويّة.!!
ألا ينزعج «سيّدنا» لو قلنا إنّ فلسفته ماديّة لوجودها عن الغيبيّات( )؟!
ألا يذهب للقول: ما هذه السخافة! كيف تجرّ «فلسفتنا» عن أساسها الغيبي؟!
والحركة ـ كما يستمدّها «الصدر» من الإغريق ـ سيرٌ تدريجيٌّ للوجود. ويتابع: «ولذلك حدّد المفهوم الفلسفي للحركة بأنّها خروجُ الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجيّاً»( ). ويضيف: «فإنّ الحركة ـ كما عرفنا ـ ليست عبارة عن فناء الشيء فناءً مطلقاً ووجود شيء آخر جديد، وإنّما هي تطوّر الشيء في درجات الوجود»( ). ويعقّب بعد ذلك بانتصار: «هذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقيّة للحركة، وقد أخذته الماديّة الديالكتيكيّة فلم تفهمه ولم تتبيّنه على وجهه الصحيح»( ).
إنّ الماديّة الجدليّة تعترف بتواضع بأنّها نتاج المفاهيم السابقة، وأنّها حصيلة الفكر الإنساني لآلاف السنين، وهي ثمرة جهود بذلتها الإنسانيّة في صراع مستمرّ منذ فجرها؛ إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّها تحلّق فوق المعطيات البشريّة، أو أنّها خلقٌ خارجٌ عن البشر وتاريخهم، وأنّها معصومة ومنزلة بقدرة قادر..
زيادة إلى ذلك، إنّها ليست مغلقة، أي ليست نهائيّة ومكتملة، فهي في تلاقٍ وائتلاف وتجدّد مع كلّ المفاهيم الجديدة المؤكّدة لإنسانيّة الإنسان؛ وهذا ما يميّزها عن الفلسفة الإيمانيّة المعتقديّة باعتبارها معطىً خارجيّاً (خارج التاريخ والإنسان)، وهي نهائيّة ومكتملة وملائمة لكلّ زمان ومكان.
فليس عيباً أن تأخذ الماديّة الجدليّة مفاهيمها من الفلسفات السابقة وتعيد النظر فيها، فتغيّر المنطلق وتعيده على قدميه.
ونعود إلى الحركة، فعلى أيّ أساس( ) شرح «الصدر» نظريّته في الحركة؟!
أليس من التعسّف أن يأخذ مفاهيم «أرسطو» في الحركة، فيصقلها ويقول إنّها «فلسفتنا»؟!
ألم تكن فلسفته دينيّة باعتبارها منزلة من «الله» عن طريق الوحي وخارجة عن تدخّل الناس؟!
أم ينكر هذا! ـ والإنكار لا بأس به ـ فيدّعي بأنّها من صنع البشر، وهي امتدادٌ للفلسفات السابقة، أي ليس للوحي أيّ دخل [فيها]، وليست معطاةً من الخارج (السماء)…
إذا أنكر ذلك، فسيقع في شرك الإلحاد وإنكار فلسفة الدين المعتمدة على كتاب «الله» المقدّس المنزل والمكتمل، أي ليس نتاجاً بشريّاً( ).
وليس مثاراً للعجب أن تلتقي الماركسيّة بالجانب المادي من آراء الفيلسوف الإلهي «صدر الدين الشيرازي»، حيث يذهب إلى كون الشيء المتحرّك متغيّر الحال بالتدريج في كلّ حين من أحيان حركته، ويؤكّد على مفهوم التغيّر وعدم الثبات.. «إنّ الحركة هي نفس التجدّد والخروج من حالة إلى غيرها، وهذا يطابق تأكيد ديمومة الحركة بالنسبة للماديّة الجدليّة بأنّها شكل أو أسلوب وجود المادة مع الربط الجدلي بين الحركة والمادة وعدم انفصالها إلاّ ذهنيّاً»( ).
ورغم محاولة «الصدر» في تبرير فلسفته بالاستنجاد بالشيرازي ، فإنّه يحاول أن يجد تعارضاً بصدد مقولات الحركة بين الماركسيّة والحركة الجوهريّة عند الشيرازي، فيقول:
«ولأجل أن يتّضح ذلك، يجب أن نميّز بين القوّة والفعل، ونحلّل المغالطة الماركسيّة التي ترتكز على اعتبار القوّة والفعل وحدة متناقضة»( ).
ثمّ يتابع بنشوة:
«انظروا ما أسخف مفهوم الحركة في الماديّة الجدليّة! هذا المفهوم الذي يشرحه [إنجلز] على أساس التناقض، وهو لا يعلم أنّ درجتين من الحركة لو كانتا موجودتين بالفعل في مرحلة معيّنة منها، لما أمكن التطوّر»( ).
إنّ هويّة الحركة تتحدّد بمعيارين: أن يبقى منها شيءٌ بالقوّة، وبأن لا يكون الذي هو المقصود من الحركة حاصلاً بالفعل..
فالشيء إذا كان فعلاً محضاً، وكان ممّا لا يبقى بعد حصوله شيءٌ منه بالقوّة، لم يتحرّك… هذه مقولة «الشيرازي» عن الحركة.
إنّ ما يحاوله «الصدر» هو فصل القوّة عن الفعل كدرجتين متمايزتين في جوهر الحركة، فليس باستطاعته أن يقبل هذا القانون إلاّ بتجريده عن قالب التناقض كما يقول.
إلاّ أنّ الشيرازي يؤكّد وجود القوّة والفعل في آن واحد (وحدة متناقضة) حتّى يمكن للشيء أن يتحرّك، حيث [إذا] كان الشيء فعلاً محضاً ـ أي لا يبقى بعد حصوله (أي حصول الفعل) شيءٌ منه بالقوّة ـ ، لم يتحرّك.
وعلى هذا المنوال التجريدي يتابع «الصدر» نقده لقوانين الديالكتيك…
فإذا تركنا مناقشة «الصدر» ونقده لهذه القوانين إلى مجال آخر ـ حيث لا يسعنا هنا المجال ـ ، فإنّنا ننتقل إلى مسألة يقول إنّها «تقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الإلهيّة والماديّة»( )، ويطرح سؤالاً بالصيغة الفلسفيّة: «إنّ العلّة الفاعليّة للعالم، هل هي نفس العلّة المادية أو لا؟»( ).
ولا ندري لماذا يتجاوز «الصدر» هذه المسألة التي تقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع بعرض سريع [وخفّة]( )، متحاشياً العمق الفلسفي في البحث والتفصيل في العرض، حيث يكرّس للبتّ في هذه المسألة المهمّة صفحةً ونصف فقط من كتابه الضخم، وبعدها يغوص لتوضيح المسألة في صفحات طويلة يشجً مرّة ويأسو أخرى كيفما شاء.
ويورد لتوضيح المسألة مثالاً أكل الدهر عليه وشرب كما يقال، وهو العلاقة بين النجّار والكرسي، ويطلق على النجّار اصطلاح «العلّة [الفاعليّة]»، ويذهب لتطبيق هذه العلاقة المجرّدة الضيّقة على الكون والعالم ويستنتج ما يلي:
إنّ العلّة [الفاعليّة] للعالم خارج حدود المادّة ومغايرة لها، كما إنّ صانع الكرسي مغايرٌ لمادّته الخشبيّة.
ورغم محاولة «الصدر» التعسّفيّة تطبيق هذه العلاقة الساذجة واعتبارها «مفارقة فلسفيّة» يمكن تطبيقها على العالم، فإنّنا نحاول أن نوضح ما يلي:
1ـ إنّ الكرسي مادّة عضويّة، والنجّار مادّة عضويّة، أي كلاهما أشياء ماديّة.
2ـ النجّار لم يخلق الكرسي من الـ«لا شيء»، ـ بل رتّب فقط مادّته الأساسيّة (الخشب)، وهي موجودة قبل وجود العلاقة بينهما.
3ـ استند النجّار [في] صناعته للكرسي على ممارسته وتجارب وذهنيّات سابقة.
4ـ إنّ النجّار سيتخلّى عن كرسيّه بعد الانتهاء من صناعته، فهو ليس ملازماً له.
5 ـ استعمل النجّار عدّة أدوات: مسامير، مطرقة، أقلام، مبردة.. وهذه الأشياء ليست من صنعه. إذن فالنجّار لم يصنع الكرسي وحده، وإنّما معه شركاء: الحدّاد وصانع الأقلام، وربّما شركات أجنبيّة صدّرت له الخشب إذا كان الكرسي من النوع الأنيق..
ومن هذا نستنتج ـ على طريقة «الصدر»:
1ـ [إنّ] العلّة [الفاعليّة] للعالم هي شيءٌ من نفس مادّته ولم تخلقه، بل رتّبته فقط. وقد تخطيء في ترتيب، خاصّة إذا كان النجار غير ماهر في صنعته.
2ـ إنّ المادة الأساسيّة للعالم موجودة قبل وجود العلاقة بين العلّة [الفاعليّة] والعالم.
3ـ إنّ العلّة [الفاعليّة] استندت في ترتيبها العالم على خلفيّة فكريّة وتجريبيّة.
4ـ [إنّ العلّة الفاعليّة] تخلّت عن العالم بعد أن رتّبته وانتهت من ذلك.
5ـ [إنّ للعلّة الفاعليّة] شركاء في صناعة العالم.
ثمّ أليس صانع الكرسي إنسانٌ من لحم ودم؟! أي إنّه معرضٌ للصدمة العقليّة أو الخلل العقلي، فيذهب لتحطيم كرسيّه بدون مبرّر.. فكيف نضعه بمرتبة صانع العالم؟!