نموذج من الدليل الفلسفي عند باقر الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

نموذج من الدليل الفلسفي عند باقر الصدر

يقدم الشهيد الصدر على عادته مباحث لتوضيح المبحث والمفهوم الذي يراد بحثه، ومن هنا بدأ بتوضيحات حول الإستدلال وأقسامه والإشارة إلى بعض مناهجه.

وقد أورد ثلاثة أقسام ـ أو أنواع ـ للدليل العلمي، والدليل الرياضي، والدليل الفلسفي.

وبالنسبة للدليل الفلسفي قال: هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعي في العالم الخارجي على معلومات عقلية (المعلومات العقليّة هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة)، إضافة إلى مبادئ الدليل الرياضي.

ويرى الشهيد أن المعلومات العقليّة في هذا الدليل عنصر رئيس، لكن هذا لا يعني رفض المعلومات الحسّيّة والإستقرائيّة فيه، فله حينئذٍ نحوان الأول:

أنه يحتوي على المعلومات العقليّة خاصّة؛ والثاني: بالإضافة إلى العقليّة أخرى غيرها كالمعلومات التجريبيّة ولحسّيّة والإستقرائيّة ومن هذه الجهة لا يختلف عن الدليل العلمي.

ثمَّ يمضي الشهيد في حديثه ليرد الشبهات عن النحو الأول منه، وأن رفض هذا الدليل ـ أعني الفلسفي ـ لمجرّد اعتماده على معلومات عقليّة

بحتة غير خاضعة للتجربة، يعني رفض الدليل الرياضي، لأنه يعتمد على قانون عدم التناقض الذي هو عقلي بحت.[1]

وقرّر الشهيد أنموذجاً من الدليل الفلسفي لإثبات وجود الواجب تعالى.

فيقرر ثلاث قضايا تشكل قاعدة وأرضيّة هذا الأنموذج من الدليل، وهي كما يلي:

القضيّة الأولى: (كل حادث لها سبب).

وهو يرى أن هذه القضيّة بديهيّة يدركها الإنسان بشعوره الفطري كما يؤكدها الإستقراء العلمي باستمرار[2].

القضية الثانية: (الادنى لا يكون سببا لما هو أعلى منه درجة).

القضية الثالثة: (اختلاف درجات الوجود في هذا الكون و تنوع أشكاله)[3].

وفي توضيحها قال: (إن المادة في تطورها المستمر تتخذ أشكالاً مختلفة في درجة تطورها ومدى التركيز عليها، فالجزئ من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس يمثل شكلاً من أشكال الوجود للمادة، ونطفه الحياة التي تساهم في تكوين النبات والحيوان (البروتوبلازم)، تمثل شكلاً أرفع لوجود المادة، و(الأميبا) التي تعتبر حيواناً مجهرياً ذا خلية واحدة تمثل شكلاً من وجود المادة اكثر تطوراً، والإنسان هذا الكائن الحي الحساس المفكر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون)[4].

ثم يقرر أن هذه الأشكال المختلفة من أدناها إلى أعلاها إنما هي مراحل من التكامل ودرجات من الوجود نوعية وكيفية وليست عددية فحسب. وأعلاها وأكملها حياة الإنسان.

ثم يتساءل الشهيد المستدل عن هذه الزيادة والإضافة الجديدة والنمو النوعي في هذه المادة من أين جاءت؟ وكيف ظهرت؟. لا بد لها من سبب تؤكده القضية الأولى المطروحة.

والجواب: إنها جاءت من المادة نفسها، ترفضه المقدمة أو القضية الثانية.

والإجابة الصحيحة الحقيقية هي: (إن هذه الزيادة الجديدة التي تعبر عنها المادة من خلال تطورها جاءت من مصدر يتمتع بكل ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر وهو الله رب العالمين حقاً سبحانه وتعالى، وليس نمو المادة إلا تربية وتنمية يمارسها رب العالمين بحكمته وتدبيره «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلفتنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسوناً العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين»[5].[6]

وهو يرى إن هذه الإجابة هي التي في وسعها إعطاء تفسير لعلمية النمو المشاهدة في المادة.

ويرى ـ قده ـ أن لهذا الدليل إشارات قرآنية في عدد من الآيات الشريفة التي تخاطب الفطرة الإنسانية السليمة وعقله السوي.

ثم يورد بعض الآيات الشريفة، كقوله تعالى: «أفرأيتم ما تمنون * أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون»[7]، وقوله: «أفرأيتم ما تحرثون* ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون»[8]، وقوله: «أفرأيتم النار التي تورون* ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون»[9]، وقوله: «ومن ءاياته أن خلقكم من تراب إذا أنتم بشر تنتشرون»[10].[11]

دليل الإحتمالات عند الشهيد الصدر( قده)

التعريف بالدليل:

وقد استخدمه الفيلسوف الإسلامي الكبير السيد الصدر (قده) بعد دراسة شاملة في الأسس المنطقية للإستقراء لإعادة بناء نظرية المعرفة في تاريخها الفلسفي منذ قرناً[12].

وقد بناه إنطلاقاً من نظرية جديدة في الإحتمال أنتجتها عقلية هذا الفيلسوف.

ويعتمد على النظام والحكمة والإنسجام في عالمنا المادي، وقد اخترنا نقله عن كتابه (موجز في أصول الدين) لما فيه من البساطة والوضوح.

في البداية وقبل تقرير الدليل يحاول الشهيد الصدر أن يقدم بعض التوضيحات والبيانات حول الدليل كمنهجية الدليل وتقييمه[13].

فيبدأ ببيان منهج الدليل، متوخياً البساطة والوضوح ضمن خمس

خطوات هي كالآتي ـ حسب ما قال-:

قال ـ قدس سره الشريف -:

(أولاً: نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة.

ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر أنها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً.

ثالثاً: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرضه تواجد تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جداً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها ـ أو عدم واحد منها على الأقل ـ ضئيلة جداً كواحد في المائة، أو واحد في الألف.

ورابعاً: نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.

خامساً: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال عدمها، على افتراض كذب الفرضية، فكلما كانت هذه النسبة، أقل كانت درجة الإثبات أكبر، حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية..).

وبعد الفراغ من توضيح المنهج أشار إلى نقطتين مهمتين تتعلق بهذا المنهج:

أولها: الابتعاد عن اصطلاحات ومقاييس وضوابط نظرية الاحتمال

المعقدة والدقيقة، والاكتفاء بالتقييم الفطري لقيمة الاحتمال.

ثانيها: ما من دليل استقرائي يقوم على حساب الاحتمالات إلا وهو ينطلق من هذه الخطوات الخمس ويعتمد عليها، سواء في مجال الحياة الاعتيادية أو (على صعيد البحث العلمي) أو في مجال الاستدلال على الصانع.

وفي محاولة أخرى قام الشهيد بتقييم المنهج في مثالين، أحدهما: مثال افتراضي، وهو افتراض وصول رسالة من أخ لأخيه، وهو كما يقال: إنه مثال من الحياة اليومية الاعتيادية.

والثاني: مثال علمي، وهو (نظرية نشوء الكواكب السيارة)، وطبق المنهج على المثالين في محاولة جادة دقيقة وببراعة فائقة.

تقرير الدليل

تم شرع الشهيد ـ وبنفس الخطوات المذكورة ـ في استخدام الدليل على إثبات الصانع تعالى.

وحول الخطوة الأولى لحظ الشهيد مجموعة من الظواهر التي تدخل تحت عنوان مهمة تيسير الحياة على كوكب الأرض، فقال:

(تتلقى الأرض من الشمس كمية من الحرارة تمدها بالدفئ الكامل لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحي إلى الحرارة لا أكثر ولا أقل..).

ثم أخذ في بيان ظواهر أخرى، فقال:

(ونلاحظ أن قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركبات ـ الجزء الأعظم من الأوكسجين، حتى أنه يكون ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيمياوية للاندماج على هذا النحو، فقد ظل جزء محدود منه طليقاً يساهم في تكوين الهواء، وهذا الجزء تحقق شرطاً ضرورياً من شرط الحياة، لأن الكائنات الحية ـ من إنسان وحيوان ـ بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفس، ولو قدر له أن يحتجز كله ضمن مركبات لما أمكن أن توجد.

وقد لوحظ أن نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21% من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرضت البيئة إلى حرائق شاملة وباستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذرت الحياة، أو أصبحت صعبة، ولما توفرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهماتها.

ونلاحظ ظاهرة طبيعية تتكرر باستمرار ملايين المرات على مر الزمن تنتج الحفاظ على قدر معين من الأوكسجين باستمرار وهي أن الإنسان ـوالحيوان عموماًـ حينما يتنفس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقاه الدم ويوزع في جميع أرجاء الجسم، ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولد ثاني أكسيد الكربون، الذي يتسلل إلى الرئتين ثم يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار.

وهذا الغاز بنفسه شرط ضروري لحياة كل نبات، والنبات بدوره حين يستمد ثاني أكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذر هذا العنصر، وتعذرت الحياة على الإنسان نهائياً.

إن هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمعت حتى أنتجت المهمة التي تتوافق بصورة كاملة مع متطلبات الحياة.

ونلاحظ أن النتروجين بوصفه غازاً ثقيلاً أقرب إلى الجمود، يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه، ويلاحظ هنا أن كمية الأوكسجين التي ظلت طليقة في الفضاء، وكمية النتروجين التي ظلت كذلك منسجمتان تماماً، بمعنى أن الكمية الأولى هي التي يمكن للكمية الثانية أن تحفظها، فلو زاد، فلو زاد الأوكسجين أو قل النتروجين لما تمت عملية التخفيف المطلوبة.

ونلاحظ أنه الهواء كمية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلت لتعذرت الحياة أو تعسرت، فإن زيادتها تعني ازدياد ضغط الهواء على الإنسان الذي قد يصل إلى ما لا يطاق، وقلتها تعني فسح المجال للشهب التي تترى في كل يوم لإهلاك من على الأرض واختراقها بسهولة.

ونلاحظ أن قشرة الأرض التي كانت تمتص ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين محددة على نحو لا يتيح لها أن تمتص كل هذا الغاز، ولو كانت أكثر سمكاً لامتصته ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونلاحظ أن القمر يبعد عن الأرض مسافة محددة، وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان بعد عنا مسافة قصيرة نسبياً لتضاعف المد الذي يحدثه، وأصبح من القوة على نحو يزيح الجبال من مواضعها).

ومن الأشياء الكونية انتقل الشهيد إلى الكائنات الحية على وجه الأرض وغرائزها وتركيبها الفيزيولوجي، فقال:

(ونلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحية المتنوعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر، فما تعبر

عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً، بل يعتبر ظاهرة قابلة للملاحظة العلمية تماماً.

وهذا السلوك الغريزي في آلاف الغرائز التي تعرف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية، أو في بحثوه العلمية، يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وأنه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان.

وحينما نقسم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أن كل وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يمثل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية، وكل ظاهرة في تكوينها ودورها الفسيولوجي وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمة تيسير الحياة وحمايتها.

فمثلاً: نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمة الإبصار، وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة..

إن عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكون من تسع طبقات وتحتوي الطبقة الأخيرة منها على ملايين الأعواد والمخروطات، وقد رتبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمة الإبصار من حيث علاقات بعضها بالبعض الآخر، وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً، وهو أن الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنه استثناء مؤقت، فإن الأبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحس بالأشياء وهي مقلوبة، بل أعيد تنظيم الصورة في ملايين أخرى من خويطات الأعصاب المؤدية إلى الملخ حتى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتم عملية الإبصار، وتكون عندئذٍ متوافقة بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

حتى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية نجد أنها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمة تيسير الحياة، ويؤدي دوراً في ذلك..

فالأزهار التي ترك تلقيحها للحشرات لوحظ أنها قد زودت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتميز الأزهار التي يحمل الهواء لقاحها عادة بعناصر الإغراء.

وظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لأنثاه، في الإنسان، وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمة تيسير الحياة).

ثم ختم الشهيد ـ قده ـ جولته هذه بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم»[14].هذا كله في الخطوة الأولى[15] وشؤونها. وبعد فراغه انتقل الشهيد المستدل ـ قده ـ إلى:

الخطوة الثانية[16]: وفيها يضع فرضية تتلائم مع هذا التوافق وتفسيره فقال:

(الخطوة الثانية: نجد أن هذا التوافق المستمر بين الظاهرة ومهمة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسر في جميع هذه

المواقع بفرضية واحدة، وهي أن تفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة، وييسر مهمتها، فإن هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات).

وقال في الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتة في الواقع, فما هو مدى احتمال أن تتواجد كل تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود؟ ومن الواضح أن احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة الموردة إليك في مثال سابق من شخص آخر أخيك ولكنه يشابهه في كل الصفات بعيداً جداً، لأن افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكل ما تضمه من صنع مادة غير هادفة ولكنها تشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين الصفات).

ويواصل الشهيد ـ قده ـ سيرة الاستدلال هنا ليصل إلى تصحيح الفرضية المطروحة والتشبث بها، وهي فرضية الصانع الحكيم، وهو ما نجده في الخطوة المقبلة الرابعة.

فيقول:

الخطوة الرابعة: نرجح بدرجة لا يشوبها الشك أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة، أي أن هناك صانعاً حكيماً.

وفي الأخير انتهى الشهيد إلى الخطوة الخامسة لينهي الدليل ويحصد ثمرته، وهي ثبوت الصانع الحكيم.

فقال:

الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الإحتمال التي قررناها في الخطوة الثالثة، ولما كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلما ازداد عدد الصدف التي لابد من افترضاها فيه ـ كما عرفنا سابقاً ـ فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلاً بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أي قانون علمي، لأن عدد الصدف التي لابد من افتراضها في الاحتمالات الخطوة هنا أكثر من عددها في أي احتمال مناظر، وكل احتمال من هذا القبيل فمن الضروري أن يزول).

وقال بعد ذلك مباشرة: (هكذا، نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون صانعاً حكيماً، بدلالة كل ما في هذا الكون من آيات الاتساق والتدبير.

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد[17].

الإشكالات الموجهة إلى الدليل

وعندما يريد المستدل (الشهيد) ـ قده ـ أن لتزم الموضوعية الجادة يثير بعض الاشكالات التي يمكن أن تثار في البين وتوجه لهذا الدليل لتكون ثغرة تزاحم أو تخدش هذا الدليل العظيم، يحاول ـ قده ـ أن يسد الثغرة، فيجيب عن الإيرادات هنا.

الإشكال الأول: أنه قد يلاحظ أن البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي هو أن تكون كل ظاهرة من الظواهر المتوافقة لتيسير مهمة الحياة ناتجة عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها وبحكم تناقضاتها الداخلية وفاعليتها الذاتية هي السبب

فيما يحدث لها من تلك الظواهر.

والمقصود من الدليل الاستقرائي تفضيل فرضية الصانع الحكيم على البديل المحتمل، لأن تلك لا تستبطن إلا افتراضاً واحداً، وهو افتراض الذات الحكيمة، بنما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة بعدد الظواهر موضوع البحث، فيكون احتمال البديل احتمالاً لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضاءل حتى يفنى.

غير أن هذا إنما يتم إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنة لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع أنه قد يبدو أنها مستبطنة لذلك، لان الصانع الحكيم الذي يفسر كل تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستبطنه هذه الفرضية من هذه العلوم والقدرات بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء، فأين التفضيل؟.

هذا هو الإشكال الأول بتقريره ـ قدس سره الشريف -، وهنا تصدى المستدل الشهيد للإجابة قائلاً:

(والجواب: إن التفضيل ينشأ من أن هذه الضرورات العمياء غير مترابطة، بمعنى أن افتراض أي وحدة منها يعتبر حيادياً تجاه افتراض الضرورة الأخرى وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال أنها حوادث مستقلة، وأن احتمالات مستقلة.

وأما العلوم والقدرات التي يتطلبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر موضوع البحث فهي ليست مستقلة، لأن ما يتطلبه صنع بعض آخر مون علم وقدرة هو نفس ما يتطلبه بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات ليس حيادياً تجاه افتراض البعض الآخر، بل يستبطنه، أو يرجحه بدرجة كبيرة، وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال

أن احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات مشروطة، أي أن احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر كبير جداً وكثيراً ما يكون يقيناً.

وحينما نريد أن نقيم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات واحتمال مجموعة تلك الضرورات، ونوازن بين قيمتي الاحتمالين يجب أن نتبع قاعدة ضرب الاحتمال المقررة في حساب الاحتمال، بأن نضرب قيمة احتمال كل عضو في المجموعة بقيمة احتمال عضو آخر فيها وهكذا. والضرب كما نعلم يؤدي إلى تضاؤل الاحتمال، ولكما كانت عوامل الضرب أقل عدداً كان التضاؤل الاحتمال، وكلما كانت عوامل الضرب أقل عدداً كان التضاؤل أقل، وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلة تبرهن رياضياً على أن نضرب قيمة احتمال عضو بقيمة احتمال عضو آخر، على افتراض وجود العضو الأول، وهو كثيراً ما يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، فلا يؤدي الضرب إلى تقليل الاحتمالات المستقلة التي يكون كل واحد منها حيادياً تجاه الاحتمال الآخر، فإن الضرب هناك يؤدي إلى تناقض القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل أحد الافتراضين على الآخر)[18].

والإشكال الثاني: قال السيد في بيانه أنه شيء عن (تحديد قيمة الاحتمال القبلي للقضية المستدلة استقرائياً.

ولتوضيح ذلك، يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أن الرسالة التي تسلمتها بالبريد هي من أخيك.

ويقال بصدد المقارنة: إن سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأن الرسالة قد أرسلها أخوة تتأثر بدرجة احتمال هذه القضية قبل أن يفض الرسالة ويقرأها ـ وهو ما نسميه بالاحتمال القبلي للقضية-، فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة يحتمل بدرجة خمسين في المائة مثلاً أن أخاه يبعث إليه برسالة، فسوف يكون اعتقاده بأن الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعاً، بينما إذا كان مسبقاً لا يحتمل أن يتلقى رسالة من أخيه بدرجة يعتد بها، إذ يغلب على ظنه مثلاً بدرجة عالية من الاحتمال أنه قد مات، فلن يسرع إلى الاعتقاد بأن الرسالة من أخيه، ما لم يحصل على قرائن مؤكدة، فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟).

ثم نرى السيد الشهيد يتصدى للإشكال فيواصل: (والحقيقة أن قضية الصانع الحكيم سبحانه ليست محتملة، وإنما هي مؤكدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا أنها قضية محتملة نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي، فيمكن أن نقدر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية[19]:

نأخذ كل ظاهرة من الظواهر موضوعة البحث بصورة مستقلة، فنجد أن هناك افتراضين يمكن أن نفسرها بأي واحد منهما، أحدهما: افتراض صانع حكيم، والآخر افتراض ضرورة عمياء في المادة، وما دمنا أمام افتراضين، ولا نملك أي مبرر مسبق لترجيح أحدهما على الآخر، فيجب أن نقسم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون قيمة كل واحد منهما خمسين بالمائة، ولما كانت الاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلة وغير مشروطة، فالضرب يؤدي باستمرار إلى تضاؤل شديد في احتمال فرضية الضرورة  العمياء، وتصاعد مستمر في احتمال فرضية الصانع الحكيم)[20].

تعليق وتوضيح حول هذا الدليل

هذا الدليل يعتبر من أعظم الأدلة العلمية المبتكرة على وجود الله تعالى في العصور الحالية.

ويلاحظ أن بناءه التحتي يقوم على الخطوتين الأولى والثانية، حيث المشاهدة الحسية للظواهر وتجميعها؟، ثم وضع فرضية لتفسيرها، وباقي الخطوات الثلاث البنية الفوقية، ويتركز النقاش والحوار فيها.

ففي الخطوة الثالثة يبدأ الاستدلال ومن ثم يبدأ حساب الاحتمالات فهنا:

1) يفرض البديل المحتمل وهو عدم الهدفية فيما إذا لم نقبل بالفرضية الأولى، وفرض البديل يعني مجموعة من الصدف بعدد الظواهر وحينئذٍ نظر احتمال تواجد تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية، ومهمة تيسير الحياة، فستكون القيمة الاحتمالية ضئيلة جداً جداً، ولو أضفنا ظواهر أخرى فستتضاءل أكثر، وهكذا حتى تنتهي، فإذا قطب الخطوة الثالثة، أو اكتشاف ضآلة احتمال وجود الفرضية البديلة المزاحمة للأولى، ما يدفعنا إلى أن نتشبث بالفرضية الأولى (الصانع الحكيم)، وهي الخطوة الرابعة.

فإذاً الخطوة الرابعة نرتاح فيها إلى الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

والجديد في الخطوة الخامسة عملية الربط بين هذه النتيجة التي حصلنا في الخطوة الرابعة، التي هي (صحة فرضية الصانع الحكيم) وبين ضآلة احتمال البديل المحتمل المزاحم، التي استجليناها في الخطوة الثالثة.

فقد عرفنا في الخطوة الثالثة أن فرصة تواجد التلاؤم والانسجام بين الظواهر الطبيعية، ومهمة تيسير الحياة ـ بناءاً على فرضية المادة العمياء ـ ضئيلة جداً، إن لم تكن مستبعدة من البين، بخلاف تفسيرها بالصانع الهادف، فإن القيمة الاحتمالية عالية جداً.

فإذا أنشأنا عملية الربط بينهما بالإضافة إلى القوة الاحتمالية في الفرضية الأولى والضعف الاحتمالي في الفرضية البديلة، وجدنا أن القيمة الاحتمالية للفرضية الأولى (فرضية الصانع الحكيم) مقارنة بالقيمة الاحتمالية للبديل تتخذ طابع الشدة أو الاشتداد كلما تزايد عدد الظواهر.

وفي نفس الوقت تتنازل القيمة الاحتمالية للبديل حتى تنتهي.

فإذا عملية الربط هنا في هذه الخطوة انسجام عكسي أو تلاؤم تعاكسي فكلما كانت الضآلة للقيمة الاحتمالية متمادية في التنازل بالنسبة للبديل، كانت القيمة الاحتمالية لفرضية الصانع في تزايد ورسوخ، وهكذا العكس.

وتوضيح الإشكال الأول:

أن في الدليل ـ كما علمنا ـ بديلاً محتملاً آخر مطروحاً لتفسير ظواهر الخطوة الأولى وهو (فرضية المادة العمياء وضروراتها) في حالة إغفال (فرضية الصانع الحكيم) والإغراض عنها.

ويفترض في الدليل تفضيل فرضية الصانع الحكيم عليها، لأنها تستبطن أمراً واحداً، وهو (الصانع الحكيم).

أما في الفرضية الثانية البديل المحتمل، أعني (فرضية المادة العمياء) فيفترض عدة ضرورات في المادة العمياء، وهو يعني عدة صدف وحوادث ووقائع، بعد الضرورات التي في المادة العمياء (الفرضية الثانية) بعدد الظواهر محل البحث.

ومن هنا ينشأ العد التنازلي للقيمة الاحتمالية، أي ضآلة الاحتمال المفترض في (الخطوة الثالثة) في مقابل الفرضية الأولى (فرضية الصانع الحكيم).

وبعبارة أخرى: إن توافق الظواهر الطبيعة  – محل البحث ـ مع تيسير مهمَّة الحياة بتفسيرها بالفرضيَّة الثانية المزاحمة للأولى قيمتها الإحتمالية ضئيلة جدّاً، وضآلتها وضعفها ناشئ من كثرة الصدف والوقائع فيها.

يقول المستشكل: وهذا غير صحيح، لأن المتأمَّل الدقيق يقتضي بتبخر هذا التفضيل بين الفرضيتين.

لأن كثرة الملحوظة في (فرضيَّة المادة العمياء)، أعني أن افتراض ضرورات في المادة العمياء بعدد ظواهر (الخطة الأولى) توازي كثرة موجودة في (فرضيَّة الصانع الحكيم)، إذ أن نفترض علوماَ وقدرات ومهارات وخبرات كثيرة بعدد تلك الظواهر ـ محل البحث -، وفي هذا كفاية التقابل والتساوي وعدم التفضيل بين الفرضيتين لتوازي الكثرة فيهما.

ويُسلِّم الشهيد ـ قده ـ هذه الكثرة في الفرضيتين، ولكنه يجيب بالجواب الحلّي.

بأن هذه الضرورات المتكثِّرة بعدد الظواهر غير مترابطة، وكل واحدة لا علاقة لها بالأخرى، ولا تُعزِّز كل واحدة منها الأخرى في قاموس حساب الاحتمالات وجوداً وعدماً، فيقوم وينشأ لكل واحدة منها احتمال آخر محايد مستقل عن الآخر، ويسمى احتمالاً مستقلاً، بخلاف ذلك في فرضيَّة (الصانع الحكيم) تماماً، فإن افتراض العلوم والقدرات يُعزِّز كل منها الآخر، ويزيده قيمة احتمالية أخرى إلى قيمته، لأنها متظافرة مترابطة (أي أن احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر كبير جدّاً، وكثيراً ما يكون يقيناً). وباصطلاح نظريَّات الإحتمال: أن في فرضيًّة (الصانع الحكيم) تكون الإحتمالات مشروطة، وعلى فرضيًّة (المادة العمياء)تكون مستقلّة.

وللبرهان على ذلك ـ أي لاستكشاف مقدار القيمتين الإحتماليتين للمجموعتين، مجموعة الإحتمالات المشروطة والمستقلًّة والموازنة بينهما ـ يلزم الرجوع إلى القاعديتين مقرّرتين في نظريات الإحتمال، وهما:

1 ـ قاعدة الضرب في الإحتمالات المستقلّة , و

2- قاعدة الضرب في الإحتمالات المستقلّة المشروطة.

قاعدة الضرب في الإحتمالات المستقلًّة

قال الشهيد ـ قده ـ في الأسس المنطقية فيما يتعلق بهذه القاعدة ما نصّه: وهناك احتمالات غير مشروطة لا يتأثر بعضها بافتراض صدق الآخر من قبيل أن ينجح خالد في المنطق، واحتمال أن ينجح زيد في الرياضيّات فإن قيمة احتمال نجاح زيد في الرياضيات تساوي قيمة احتمال نجاح خالد، يُسمى هذا النوع من الإحتمالات بـ (الإحتمالات المستقلة).

فإذا رمزنا إلى نجاح خالد بـ (أ)،وإلى نجاح زيد بـ (ب)، وإلى الإنتماء إلى المدرسة بـ (ج)، كان:

أ            أ

ـ  = ــــــــ،

ج          ج + ب

وهذا معنى أن الإحتمال غير مشروط.

وفي هذه الحالة تكون قيمة احتمال (أ) و (ب) معا = قيمة احتمال

أ                      ب

ـــ قيمة احتمال ــــــ وفقاً لبديهة الإتصال[21] لأن

ج                     ج

ب               ب       [22]

ـــــ = ـــــــ .

ج            ج + أ

قاعدة الضرب في الإحتمالات المشروطة

وفيما يتعلق بقاعدة (الضرب في الإحتمالات المشروطة) قال أيضاً: إذا كان (أ) و(ب) حالتين محتملتين، فقد تكون قيمة احتمال (ب) إذا افترضنا وجود (أ) أكبر من قيمة احتمال (ب) إذا لم نفترض وجود (أ)، ومثال ذلك: أن نجاح الطالب في المنطق حالة محتملة، ونجاحه في الرياضيات حالة محتملة أيضاً، غير أنّا إذا افترضنا أن الطالب قد نجح في المنطق فسوف يكبر احتمال أن ينجح في الرياضيات على أساس ما يكشف عنه النجاح في المنطق من كفاءة عقلية، والعكس صحيح أيضاً، بمعنى أنا إذا افترضنا أن الطالب قد نجح في الرياضيات فعلاً فسوف يكبر احتمال أن ينجح في المنطق.

وكل احتمال يتأثر بافتراض صدق احتمال آخر يُسمى (احتمالاً مشروطاً).

فإذا أردنا أن نعرف قيمة احتمال أن ينجح الطالب في المنطق والرياضيات معاً فلابد أن نضرب قيمة احتمال نجاحه في المنطق بقيمة احتمال نجاحه في الرياضيات، على افتراض نجاحه في المنطق وفقاً لبديهية الإتصال، فإذا أردنا رمزنا إلى النجاح في المنطق بـ (أ)، وإلى النجاح في الرياضيات بـ (ب)، وإلى الإنتماء إلى المدرسة ـ (ج) حصلنا المعادلة التالية، وهي  قيمة احتمال (أ) و(ب) معاً = قيمة:

أ           ب   [23]

ـــ x ـــــ.

ج        ج ÷ أ

وبهذا تتم البرهنة على تفصيل فرضية (الصانع الحكيم) على فرضية (المادة العمياء).

وبهذا أيضاً تدرك سر تناقض القيمة الاحتمالية وفقاً لقاعدة الضرب في الإحتمالات المستقلة المطبقة بالنسبة للفرضية الثانية.

كما يتضح لك سر اشتداد القيمة الاحتمالية في الفرضية (الصانع الحكيم) وفقاً لقاعدة الضرب في الإحتمالات المشروطة.

وإذا أردت فعليك بالتطبيق الدقيق، أما نحن فقد سرنا مع الشهيد على طريق الوضوح والابتعاد عن التعقيدات والتطويل.

وبقي علينا بيان الإشكال الثاني وجوابه بشيء من الوضوح والتبسيط.

تقرير الإشكال الثاني

والإشكال هذا يتعلق بقضية الاحتمال القبلي لتلك الفرضيتين، سواء في هذا الدليل أو أي دليل مماثل.

وينشأ الإشكال عادةً من إعطاء إحدى الفرضيتين قيمة احتمالية أكبر مبدئياً، وهنا نشأ الإشكال من المقارنة بين فرضية (الصانع) وفرضية الرسالة التي ذكرها لتوضيح الدليل سابقاً، فراجع.

وفي الحقيقة ليس هنا إشكال بالاحتمال القبلي بالنسبة لفرضية (الصانع الحكيم) وإنما ذلك ضرورة اقتضاها البحث منا، ولو فرضنا أن الدليل هنا انطلق من قيمة احتمالية قوية قبلية قوية، فإن هذا أمر فطري نابع من الطبيعة البشرية للإنسان، ومع ذلك بإمكاننا إرجاع فرضية (الصانع الحكيم) إلى مقابلها على حد سواء لإعطاء القيمة الاحتمالية العادية المتساوية، فإذا أردنا أن نعالج مسألة الاحتمال القبلي[24] ونقيمه، فسنجد أمامنا خطوتين أو مرحلتين..

الأولى: نقوم بوضع الفرضيتين متكافئتين من حيث القيمة الاحتمالية القبلية، فنعطي لكل واحدة خمسين بالمائة.

الثانية: بعد التفكيك بين الظواهر ـ محل البحث ـ وفصلها عن بعضها، ونسبتها لكلتا الفرضيتين، فسنرى أن فرضية (الصانع الحكيم) تحظى بالاحتمالات المشروطة المترابطة التي يمون كل واحد منها الآخر بينما لاحظ للفرضية الأخرى في شيء من ذلك، بل ـ كما تقرر ـ احتمالاتها مستقلة.

وحينئذٍ بتطبيق القاعدتين المذكورتين على المثلين، سنجد الضرب (يؤدي باستمرار إلى تضاؤل شديد في احتمال فرضية “الضرورة العمياء”، وتصاعد مستمر في احتمال فرضية “الصانع الحكيم”)[25].

وإلى هنا توصلنا بفضل هذا الدليل الجديد إلى إثبات الصانع واجب الوجود تعالى بالدليل العلمي الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

لكن لماذا لا نرى هذا الدليل متداولاً لدى الفكر الأوربي الحديث؟ والجواب بنص الشهيد ـ قده ـ هو:

(والذي لاحظته بعد تتبع وجهد أن السبب الذي جعل الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لا يلقى قبولاً عاماً على صعيد الفكر الأوربي، وينكره فلاسفة كبا أمثال رسل، هو عدم قدرة هؤلاء المفكرين على التغلب على هاتين النقطتين اللتين أشرنا هنا إلى الطريقة التي يتم التغلب بها عليهما).

ثم أحال على الأسس للتوسع في هاتين النقطتين في صفحة 441-451[26].

الدليل في نظر الفيلسوف الصدر

يثق الفيلسوف الصدر في هذا الدليل ثقة قوية ويوليه عناية كبرى وأهمية قصوى من حيث ابتكاره وإبداعه وأسسه المتينة التي يرتكز عليها.

فأولاً: يرى الفيلسوف الصدر أن الأسس التي يقوم عليها هذا الدليل هي نفس الأسس التي ينطلق منها كل استدلال علمي ينطلق من التجربة والملاحظة.

فإنه لا يختلف عن الأدلة العلمية القائمة على أساس استقرائي تجريبي.

ومن هنا تبدو أهمية في عصر العلم والتجربة، كما يبدو أن هذا الدليل مصيري أيضاً من حيث أنه يضع الإنسان بين خيارين لا ثالث لهما وهما رفض الاستدلال العلمي بكل أشكاله أو قبوله، ومع هذا الأخير لا يستطيع الفصل بين هذا الدليل والدليل العلمي من حيث القيمة، فسيعطي نفس القيمة لكلا الدليلين أو النوعين من الاستدلال[27].

وثانياً: يعتقد فيلسوفنا الإسلامي أنه بهذا وضع الأساس المتين والقاعدة الصلبة للإيمان والعلم والتي يعتمدان عليها ويلتقيان على أساسها أخوين يعزز كل منهما الآخر ويعضده في سبيل الوصول إلى الباري تعالى، وبهذا تكون مسألة الإيمان والعلم والتوفيق بينهما ـ تلك المسألة التي وقع النزاع فيها واحتدم الصراع بين موفق ومنكر ـ قد لقيت حلاً دافئاً يركن إليه المؤمنون وينصاع له الملحدون والنافون.

وثالثاً: لا يشك فيلسوفنا الصدر أبداً في أن القرآن الكريم يمثل الأساس والمنطلق لهذا النوع من الاستدلال من بين المناهج والطرق الاستدلالية المتنوعة يؤكدها القرآن، بل يراه القرآن الممثل الحقيقي لمناهج الاستدلال العلمي كما يعتبره أفضل أنواع البرهنة العلمية والفلسفية على وجود الله؛ كل ذلك تأكيداً منه على الميل القوي إلى الطابع التجريبي الاستقرائي[28].

ويزيد على ذلك بأن يرى فيلسوفنا أن القرآن يثير هذا الدليل لأنه يرى أنه أقرب إلى الفهم البشري وأقدر على دغدغة عواطف الإنسان بالإيمان[29].

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[30]

الشيخ محمد صالح البارباري القشمعي

[1] الموجز ص50.

[2] الموجز ص52.

[3] الموجز (مصدر سابق).

[4] الموجز ص56.

[5] المؤمنون 13 ـ 14.

[6] الموجز ص 57.

[7] الواقعة: 58-59.

[8] الواقعة: 63-64.

[9] الواقعة: 71-72.

[10] الروم: 20.

[11] الموجز في أصول الدين ص57.

[12] راجع الأسس المنطقية للاستقراء (آخر صفحة).

[13] راجع موجز في أصول الدين ص 50.

[14] النحل18.

[15] في الأسس المنطقية جعل الخطوة الأولى مقصورة على التركيب الفسيلوجي للإنسان أو لإنسان معين.

[16] في الخطوة الثانية من الأسس المنطقية افترض أربع فرضيات، وهي كما يلي:

(أولاً فرضية تفسير تلك الظواهر على أساس أنها من صنع ذات ليست حكيمة قد تصرفت تصرفاً غير واعٍ ولا هادف فأوجدت تلك الظواهر.

ورابعاً: فرضية تفسيرها على أساس علاقات سببية غير واعية ولا هادفة يفترض قيامها بين المادة وتلك الظواهر)، وقال: (المطلوب إثبات الأول من هذه الأمور الأربعة ونفي الفرضيات الثلاث الأخيرة بالدليل الاستقرائي).

[17] موجز في أصول الدين ص 47، وراجع الأسس المنطقية للاستقراء ص 441، إثبات الصانع بالدليل الاستقرائي.

[18] موجز أصول الدين ص 46.

[19] راجع الأسس المنطقية للاستقراء للبحث في كيفية قيمة الاحتمال القبلي ص 442.

[20] موجز في أصول الدين ص 46.

[21] بديهة الإتصال: إحدى بديهيات الإحتمال، راجعها في الأسس ص 148و 149.

[22] الأسس المنطقية للإستقراء ص 152. ([22])

[23] الأسس المنطقية للاستقراء ص 153.

[24] لتحديد قيمة الاحتمال القبلي وتفاصيلها راجع الأسس المنطقية في فقرة (إثبات الصانع بالدليل الاستقرائي) ص 441 وما بعدها.

[25] موجز في أصول الدين ص 47.

[26] راجع الموجز ص 48.

[27] راجع الأسس المنطقية للاستقراء (آخر صفحة).

[28] المصدر السابق ذاته والصفحة.

[29] راجع الأسس الصفحة نفسها.

[30] فصلت: 53.