الجانب الاقتصادي في أعمال السيد محمد باقر الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

من الأعمال الفكرية في حقل العلوم الاقتصادية التي ألفها السيد محمد باقر الصّدر رحمة الله عليه، والتي اطلعت عليها هي «اقتصادنا»، و«البنك اللاربوي في الاسلام» وبعض البحوث الاقتصادية التي اطلعت عليها مؤخراً في كتابه «الاسلام يقود الحياة» من إصدار وزارة الارشاد الاسلامي في إيران. إن السيد الشهيد لو لم يؤلف غير كتاب واحد هو «اقتصادنا» لكفاه فخراً فقد استطاع بهذا الكتاب، وبكتاب البنك اللاربوي في الإسلام أن يسد نقصاً كبيراً كانت تعاني منه المكتبة الاسلامية. ولا نستطيع في هذا الموضوع أن نفصل القول في كل الجانب الاقتصادي الذي تتضمنه أعمال الشهيد الصدر الفكرية. ولكننا سنحاول التعريف بكتابية القيمين «اقتصادنا» و«البنك اللاربوي في الإسلام». بيد أننا سنقف وقفة أطول مع كتابه «الاسلام يقود الحياة» لنلقي الضوء على المذهب الاقتصادي الاسلامي من خلاله، لا لأن كتابه الأخير أكثر أهمية من ذينك الكتابين، ولا لأنه طرحٍ فيه المذهب الاقتصادي الاسلامي بطريقة أكثر عمقاً ووضوحاً وتفصيلاً مما جاء في كتاب اقتصادنا. لا ، ولكن لأن معالجته للخطوط العريضة لهذا المذهب جاءت مذيلة بخلاصات صاغها على شكل قواعد محددة، تصلح لو استلت لوحدها من البحث لتقوم بمهمة تحديد الخطوط العريضة للمذهب الاقتصادي الاسلامي، ولكن بصورة مختصرة.

في كتاب «اقتصادنا» استطاع السيد الشهيد أن يرسي قواعد هذا المذهب على أسس علمية موضوعية، لم يسبقه على ما اعتقد الى ذلك كاتب. حتى نال إعجاب الكثير من فحول العلماء الاقتصاديين المنصفين. كل ذلك من خلال دراسة مقارنة مع كل من المذهبين الماركسي والرأسمالي. فتناول في الفصل الأول دراسة الماركسية في أساسها العلمي الذي تستند إليه، وهو المفهوم المادي للتاريخ أولا، ثم تناول بالنقد والتحليل الجانب المذهبي فيها، المتمثل في الاشتراكية والشيوعية. وانتهى من ذلك الى نسف الأسس الفكرية للماركسية، مما يدعو لانهيار البناء المذهبي المستند إليه.

في الفصل الثاني استعرض الاقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية، وعالج علاقة المذهب الرأسمالي بقوانين علم الاقتصاد السياسي. ثم حلل الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها. أما الفصول اللاحقة فقد خصصها لدراسة المذهب الاقتصادي الاسلامي، وتأصيل قواعده وأسسه على ضوء قاعدة الكسب للعمل. يقول السيد الشهيد: «… فنتحدث في هذا الفصل عن مجموعة من الأفكار الاساسية لهذا الاقتصاد، ثم ننقل الى التفاصيل في الفصول الأخرى، لنشرح نظام التوزيع، ونظام الانتاج في الإسلام، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات الطبيعية، وتحديدات الملكية الخاصة، ومبادىء التوازن والتكامل .الضمان العام، والسياسة المالية، وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية ودور عناصر الانتاج…»[1].

أما كتابه الثاني «البنك اللاربوي في الاسلام» فقد وضح فيه أطروحةً وسياسةً لمصرف اسلامي لا يقوم على الربا، بل يستند في تحصيل مكاسبه على أساس قاعدة العمل. «إن سياسة البنك اللاربوي المقترح يجب أن توضح على ثلاث أسس: ـ

أولاً: أن لا يخالف احكام الشريعة الاسلامية.

ثانياً: أن يكون قادراً على الحركة والنجاح ضمن إطار الواقع المعاش بوصفه مؤسسة تجارية تتوخي الربح.

ثالثاً: أن تمكنه صيغته الاسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، ومن ممارسة الدور الذي تتطلبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك، وما تتطلبه ظروف التدعيم والتطوير»[2].

يتكون الكتاب من فصلين، يقدم الكاتب في الفصل الأول الأطروحة الجديدة لتنظيم علاقات البنك بكل من المودعين والمستثمرين، على أسس يخلص منها البنك من التعامل بالفائدة في حالتي الاقراض والاقتراض، وتقوم هذه الطريقة على فكرة «المضاربة» التي تعني بأن المصرف ليس إلا وسيطاً بين أصحاب الأموال والمستثمرين، اللذين هما طرفا المضاربة وللبنك عمولة لقاء عمله على تسهيل التقائمها، ويشارك صاحب المال المستثمرين بنسبة من الربح يتفق عليها، كما يتحمل معه الخسارة وهكذا فإن العلاقة تصبح بين صاحب المال والمستثمربعد أن كان المستثمر وصاحب المال لا يعرف أحدهما الآخر في البنك الربوي الرأسمالي، وإنما علاقة كل منهم على انفراد مع المصرف فقط كدائن أو مدين.

إن المضاربة تجعل الكسب محللاً لأنه لقاء عمل قام به كل من المصرف وصاحب المال والمستثمر، وليس هناك فائدة يدفعها المصرف لمقرض أو يستلمها من مقترض. كما قد يقوم البنك نفسه بالاستثمار مشاركاً صاحب المال بالأرباح والخسائر. هذه صيغة المضاربة وهي تتعلق بالودائع الثابتة «الودائع لأمد» أما الودائع المتحركة «الجارية» فهناك صيغة أخرى قدمتها الأطروحة لتفادي التعامل بالفائدة، وهي أن يقوم صاحب المال باقراض المصرف قرضاً حسناً بلا فائدة ، ثم يقوم المصرف باقراض الآخرين بال فائدة أيضاً. على أن يحافظ البنك على القيمة الحقيقية للقرض، أي يعوض صاحب المال عن الانخفاض الحاصل من جراء تغير قيمة النقد. ويمكن أن يقوم المصرف نفسه باستثمارها عن طريق المضاربة، وفي هذه الحالة يكون المصرف طرفاً في المضاربة وليس وسيطاً.

أما في الفصل الثاني، فيستعرض الوظائف الأساسية التي تمارسها البنوك القائمة حالياً من خدمات مصرفية، وتسهيلات واستثمارات على ضوء الأطروحة السابقة، ليتخذ المصرف اللاربوي موقفاً من هذه الأنشطة.

أما كتاب «الاسلام يقود الحياة» فيتكون من عدة موضوعات هي: ـ

لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية، صورة عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، خلافة الانسان وشهادة الأنبياء، منابع القدرة في الدولة الاسلامية، وأخيراً الأسس العامة للبنك في المجتمع الاسلامي. وسنقف في الصفحات التالية على الخطوط العريضة للمذهب الاقتصادي الاسلامي من خلال الموضوع الثالث من هذه المواضيع وهو«خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي» وإن كان ذلك ممكناً، وبتفصيل أكثر من خلال كتاب «اقتصادنا».

يبين السيد الشهيد في هذا الموضوع أن مبدأ الخلافة العامة للانسان في الأرض يعني أن المالك الحقيقي للكون بما فيه الثروات هو الله سبحانه وتعالى. وأن لكل من أفراد المجتمع حقاً في هذه الثروات، وأن هذه الخلافة هي أمانة في عنق الانسان. وأنه تعالى وضع لادراة هذه الثروات وامتلاكها والتصرف بها أحكاماً هي أحكام الثروة، وأن الالتزام بهذه الأحكام طاعة له تعالى وبالتالي أداء للأمانة. وبالعكس فإن الخروج عن أحكام الثروة التي وضعها الاسلام هي عصيان لأوامر الله تعالى وبالتالي خيانة للأمانة وهي الخلافة العامة.

إن أحكام الثروة تعطي من خلال صورتين: إحداهما الصورة المحدودة اسلامياً والأخرى الصورة الكاملة اسلامياً، والصورة المحدودة تقدم للفرد لتحكم مسيرته ضمن مجتمع لا يقوم على أساس الشريعة الاسلامية، بل يتبع غيره من الايديولوجيات والأنظمة الوضعية، لتعصمه من الوقوع بالخطأ ومخالفة الشريعة الاسلامية. في حين تعطي الثانية صورة كاملة عن اقتصاد مجتمع يقوم على أساس الشريعة الاسلامية، ويبني نظاماً أسلامياً يعم كل جوانب الحياة الاقتصادية في مجتمع تطبق فيه الشريعة الاسلامية بصورة كاملة، وليس للأنظمة والايديولوجيات الوضعية أي مكان فيه. ونحن لسنا بصدد الصورة الأولى المحدودة فهذه تقدمها الرسائل العملية للفقهاء ويمكن الرجوع اليها. ولكن نزيد أن نقف على الصورة الثانية التي رسمها لنا الاسلام كما قدمها السيد الشهيد، هذه الصورة التي تقدم لنا عناصر المذهب الاقتصادي الاسلامي في مجتمع اسلامي ودولة اسلامية عالمية. فما هي عناصر هذه الصورة؟

قبل إعطاء هذه الصورة يقدم لنا السيد الشهيد صورة أخرى ولكن عن العوامل الفاعلة في ظهور الأنظمة الاقتصادية «علاقات التوزيع» بما فيها الاسلام، موضحاً الخلاف الجذري للصورة الماركسية لهذه المسألة.فبدأ بتوضيح كل من: ـ

أ ـ أشكال الانتاج:

ففي عملية الانتاج تنبثق بين الانسان والطبيعة علاقة من خلال محاولته السيطرة عليها وتسخيرها لخدمته عن طريق قوى الانتاج. وهناك أشكال عديدة من هذه العلاقات، فالحجر، والقوس، والسهم، والمحراث الخشبي، فالمعدني، فالماكنة البخارية والمعمل الاكتروني الحديث تعبر كلها عن درجات مختلفة من الانتاج أو «أشكال الانتاج».

ب ـ علاقات التوزيع:

كما تنشأ خلال عملية الانتاج علاقة بين المنتخبين أنفسهم فيها يتعلق بتوزيع الانتاج وشكل الملكية تسمى «علاقات التوزيع».

يبين السيد الشهيد الخطأ الذي وقعت فيه الماركسية بربطها بين هذين الشكلين من العلاقات، علاقات الانسان بالطبيعة معبراً عنها بدرجة تطور قوى الانتاجٍ وبين علاقات التوزيع. حيث «اعتبرت علاقات التوزيع بناء علوياً حتمياً لعلاقات الانتاج. فكل علاقة إنتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة، وهي العلاقات التي تنسجم مع الشكل السائد للانتاج وتساعد على نموه، حتى إذا أصبحت علاقات التوزيع بشكلها الاجتماعي عقبة أمام نمو الانتاج، وظهرت علاقات انتاج وقوى منتجة جديدة تتطلب تنميتها إعادة التوزيع على شكل جديد، إتجهت قوانين المادية التاريخية الى تغيير الميزان الاجتماعي، وتبديل علاقات التوزيع، وإقامة علاقات توزيع جديدة تفي حاجات الانتاج وعلاقاته»[3].

أن هذا التحليل الماركسي ليس صحيحاً بنظر الاسلام كما يراه السيد الشهيد فإنه لا يجد مصلحة الانتاج هي المبرر لعلاقات التوزيع، وإنما يقيم ـ أي الاسلام ـ هذه العلاقات على أساس قيم ثابتة وهي القيم الانسانية والربانية التي تعبر عنها خلاقة الانسان في الأرض وتؤكد الحق والعدل والمساواة والكرامة الانسانية. ولهذا يشجب الاسلام علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الانتاج وشكله»[4] أي لا يربط الاسلام بين علاقات التوزيع ـ ونوع الملكية إحدى أهم هذه العلاقات ـ ودرجة تطور قوى الانتاج بل يجعل العمل والحاجة أساسين للملكية. وفي ضوء الاسلام فإن عناصر المجتمع تقسم إلى ثلاثة أقسام: ـ

عناصر ثابتة،وضعت على «شكل أحكام منصوصة في الكتاب الكريم والسنة، أو مستخلصة من الأحكام المنصوصة»[5].

عناصر متحركة، «تدعو الضرورة اليها بسبب المستجدات في عملية الانتاج وملابساتها [6]» ويضرب لنا مثلاً على هذا القسم بـ «تحديد الحاكم الشرعي حداً أعلى لا يسمح بتجاوزه في عملية إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعية فيما إذا كان السماح المطلق مع نمو القدرات المادية والالية لعملية الانتاج يؤدي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار لا يقرها الاسلام»[7].

العناصر المتحركة الزمنية، ويقصد بها تطور قوى الانتاج المادية، التي هي وليدة الخبرة البشرية. وهي تتجدد وتنمو باستمرار وتستند إلى الدراسات والبحث العلمي والعلوم الطبيعية. ويرى السيد الشهيد أن واجب الدولة في المجتمع الاسلامي «أن ترسم سياسة اقتصادية للانتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات»[8].

ومن خلال التركيز على القسمين الأول والثاني من هذه العناصر يقدم لنا السيد الصدر المعالم الرئيسية في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي، وذلك من خلال تصنيف أحكام الثروة في الاسلام الى الأبواب التالية: ـ

الباب الأول:  التوزيع الأولي لمصادر الثروة الطبيعية.

الباب الثاني:  الانتاج وكيف يتم توزيعه «الانتاج الأولي والانتاج الثانوي».

الباب الثالث: التصرف في الاموال. «التبادل والاستهلاك».

الباب الرابع: مسؤلية الدولة الاسلامية.

وبتحليل هذه المشاكل الاقتصادية التي تتضمنها هذه الابواب الاربع يصل الكاتب الى استخلاص نتائج فذة يضعها على شكل قواعد «ثلاث عشرة قاعدة» تعطي صورة واضحة عن الاقتصاد الاسلامي، وتؤكد هذه القواعد على انه لا يجوز التملك الا على اساس العمل والحاجة وكل ملكية لا تقوم على هذا الاساس هي ملكية محرمة لا تجوز الاسلام.

وقبل الدخول في هذه الابواب الاربع التي تشكل جوهر الموضوع، يشرح لنا الكاتب عددا من المصطلحات الاقتصادية الاسلامية التي ترد أثناء البحث مثل: الملكية العامة، ملكية الدولة، الملكية الخاصة، رقبة المال، المباحات العامة، حق الاولوية الحق العام للأمة، الحمى، الاحياء، القطاع العام، القطاع الخاص، الانتاج الرأسمالي، الانتاج الاولي، والانتاج الثانوي.

الباب الاول

التوزيع الاولي لمصادر الثروة

تنقسم الثروات الطبيعية الى قسمين: ـ

القسم الاول: مصادر الثروة الطبيعية، ويمكن تسميتها بالاموال غير المنقولة وتشمل: ـ

أـ الارض بما تضم من غابات.

ب ـ المعادن سواء على الارض أو في باطنها أو في قاع البحر.

وهذان النوعان يدخلان في نطاق القطاع العام.

ج ـ مصادر المياه من انهار وبحار وبحيرات وعيون ماء، ويدخل هذا النوع في نطاق المباحات العامة.

هذا وكل مصدر من مصادر الثروة يسمى «رقبة المال». وكل هذه المصادر لا يسمح لنشوء ملكية خاصة فيها على اساس الحمى، أو الحيازة عليها، حيث تكون الحيازة فيها احتكارا بطبيعتها وأنما سمح بنشوء حق خاص للافراد على أساس الإحياء فقط. وهذا يعطي للمحيي حق الانتفاع بالمصدر الطبيعي، ولكنه لا يصبح ملكا له بل له حق الاولوية بلى غيره بالانتفاع بهذا المصدر فاذا زالت معالم الإحياء فقد القرد حق الاولوية، ويصبح لاي في آخر حق احيائه والانتفاع به (وأما التحجير، وهو وضع علامات أو احجار معينة أو بناء سور يحيط بالارض فلا يؤدي الى نشؤ حق للمحجر الا بوصفه شروعا في عملية الاحياء) [9]والاساس الذي يرجع اليه في ذلك هو عنصر العمل، والعمل المباشر فقط. فلا يجوز استئجار الغير للعمل في هذا المصدر الطبيعي كما هي الحال في الطريقة الرأسمالية، لأن الاسلام يرى أن العمال المستأجريئ يصبحون مالكين حقيقيين للانتاج وليسوا عمالا اجراء. (ومن حق الدولة أن تشتري حق الاولوية من الفرد المحيي وتلزمه ببيعة اذا أدى بقاء هذا الحق الى اخلال في عدالة توزيع المصادر الطبيعية على الافراد والتوازن الاجتماعي…) [10]. حتى وان كان المحيي قادراً على الاحياء ويبذل عملا مباشراً في ذلك.

القسم الثاني: ثروات طبيعية اخرى (وليست مصادر) كالحيوان والنبات والاخشاب والاحجار. وتسمى الاموال المنقولة، ويمكن الانتفاع بها عن طريق حيازتها، وتكون حيازتها عملا اقتصادياً موضوعياً، في حين لا تكون حيازة الاموال غير المنقولة عملاً اقتصاديا موضوعيا، بل احتكار يؤدي الى سوء التوزيع، الذي يحرمه الاسلام. على أن حيازة الاموال المنقولة يجب أن تتم هي الاخرى ببذل عمل مباشر وجهد شخصي والا ظل مالا مباحا للجميع. ويمكن وضع هذه الامور كلها على شكل قواعد: ـ

القاعدة (1)

كل مصادر الثروة الطبيعية تدخل في القطاع العام ويكتسب الافراد الحقوق الخاصة بالانتفاع بها على اساس وحيد هو العمل الذي يتمثل في الاحياء ويراد به العمل المباشر.

القاعدة (2)

كل الثروات المنقولة في الطبيعة تملك على اساس العمل لحيازتها، ويراد بذلك العمل المباشر، ولا تملك بسبب آخر الا عن طريق الانتفاع من العامل بارث أو معاوضة أو غير ذلك من نوافل الملك.

الباب الثاني

الانتاج وكيف يتم توزيعه

وينقسم هذا الباب الى ثلاثة اقسام، يبين الأول أهمية الانتاج في الاقتصاد الاسلامي وفي الانظمة الاقتصادية الاخرى. كما يبين الثاني كيف يتم توزيع الانتاج الاولى، أما الثالث فيبين كيف يتم توزيع الانتاج الثانوي.

أـ الانتاج وأهمية:

يرى السيد الشهيد أن الانتاج في الانظمة الاقتصادية الأخرى هو الاساس وهو الهدف لا الانسان، بينما نرى العكس في النظام الاسلامي. وبكلمة أخرى أن الانظمة غير الاسلامية تجعل الانسان في خدمة الانتاج بينما يضع الاسلام الانتاج في خدمة الانسان (… فالنظام الرأسمالي مثلا يعتبر تنمية الانتاج هدفاً بذاتها، بينما الاسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وانما هو وسيلة لايجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس…) [11]. ويشير السيد الصّدر الى عدد من الفروق في النظرة الى الانتاج: ـ

الأول: أن اشكال الانتاج وعلاقات التوزيع في الاسلام يجب أن تنسجم وكرامة الانسان. بينما في النظام الرأسمالي لا مانع من استغلال النساء والاطفال بكل انواع الاستغلال.

الثاني: يكون الانتاج في النظام الرأسمالي وفقا للطلب والقدرة الشرائية، ويؤدي الى توفير سلع الترف والتسلية وفنون التجميل، على حساب الانتاج الحيوي والضروري، بينما في الاسلام يتجه الانتاج:

ايجابيا نحو توفير المواد الاولية مهما كانت ظروف الطلب.

سلبيا نحو شجب انتاج سلع الترف والبذخ والاسراف.

الثالث: يرى السيد الصدر أن الانتاج (لا الاسعار) في المجتمعات الرأسمالية في حالات معينة يعاني يعاني من تضخم مضطنع، لأنه يتجه نحو طلب غير حقيقي هو طلب الوسطاء المتنوعين حيث (يعيد الانتاج عمله في صنع السلعة من جديد بمجرد تصريفها على هؤلاء الوسطاء، بقطع النظر عن الحاجة الحقيقية للمستهلكين وحجمها الواقعي، وبهذا يتراكم الانتاج وتحدث الازمات ويضطر الرأسماليون الى ايقاف العمل وحتى الى اتلاف كيمات كبيرة من البضاعة …) [12]. بينما ـ وكما يرى الكاتب ـ أن الاقتصاد الاسلامي (يتجه الى استئصال الادوار الطفيلية لهؤلاء الوسطاء…) [13]. ومن هذا كله نستنتج: ـ

القاعدة (3)

الانتاج لخدمة الانسان وليس الانسان لخدمة الانتاج.

ب ـ الانتاج الاولي وكيف يتم توزيعه:

يقصد بالانتاج الاولي انتاج المواد الخام كالمعادن والانتاج الزراعي والحيواني ويقصد بانتاج المواد الخام قبل تغيير شكلها في مراحل لاحقة.

تتميز نظرة الاقتصاد الاسلامي عن نظرة كل من الاقتصاد الرأسمالي والماركسي الى هذه المسألة. فالاقتصاد الرأسمالي (يعتبر العمل الانساني عنصرا من عناصر الانتاج وعلى مستواها. ويحدد نصيب كل واحد منها على اساس قوانين العرض والطلب)[14]. بينما لا يرى الاسلام في بقية عوامل الانتاج عناصر مكافئة للانسان، بل هي خادمة له، لا تستحق آية حصة من الانتاج، والانتاج كله للعمل. ولمالك ادوات الانتاج اجر يدفعه له العامل الذي استأجرها. ولهذا فالعمل فقط هو اساس الملكية وليس عناصر الانتاج.

أما الماركسية فهي ترى أن العمل البشري  يستحق القيمة التبادلية للسلعة. ويرى الكاتب أن الملكية الجماعية في جزء من الثروة، الذي تبرر الماركسية أخذه من قبل الدولة لا مبرر له حتى على ضوء الماركسية نفسها، لأن الجماعة ليس لها مساهمة في عملية الانتاج، بينما هي مبررة في الاسلام على أساس مبدأ خلاقة الانسان في الارض. فالثروة ملك لله تعالى. وقد استخلف فيها جميع افراد المجتمع، فجميعهم لهم حق الانتفاع بها. أي (أن للجماعة ممثلة بالدولة الحق في جزء من الثروة المنتجة تأخذه كأجره عن انتفاع المنتج بالمصدر الطبيعي الذي تملكه الدولة كما في الخراج … الخمس… ) [15].

وملكية الجماعة هذه جاءت لتغطية حاجاتها ومصالحها العامة. لذلك فأن الحاجة في الاساس الثاني للملكية بعد العمل في الاسلام. لذلك فأن الاسلام يرفض اكتساب حق في قيمة السلعة المنتجة بطريقة رأسمالية عن طريق استئجار العمل وتوفير أدوات الانتاج لهم، بحيث تكون القيم التي ينتجونها تذهب لصاحب رأس المال دافع الاجور بدون أن يقدم ـ هو ـ أي عمل. والصحيح كما يرى الاسلام أن يكون الانتاج ملكا لهؤلاء العمال ويدفعون هم لصاحب رأس المال اجرة المثل ليس غير. وهذا ما تعبر عنه: ـ

القاعدة (4)

يقوم توزيع الثروة المنتجة في الانتاج الأولى على أساسين أحدهما العمل والاخر الحاجة، وتستأصل كل اشكال الانتاج الرأسمالي.

ج ـ الانتاج الثانوي وكيف يتم توزيعه: ـ

الانتاج الثانوي هو الذي يطرأ على المواد الاولية (الانتاج الاولي) من أجل تغيير شكلها في مراحل انتاجية لاحقه لاستكمال منفعتها. وسيعالج على أساس حالتين: ـ

الحالة الاولى: في مجتمع لم يقم على أساس أحكام الثزوة في الاسلام. كما أن عمليات الانتاج الأولي فيه وتوزيع الثروة وفقا لقواعد الاقتصاد الاسلامي.

الحالة الثانية: حالة مجتمع لم يقم على اساس الاسلام مما أدى الى التفاوت الكبير في الملكية واختلال التوازن الاجتماعي. فكيف يعالج الانتاج الثانوي في كل من هاتين الحالتين؟

الحالة الاولى: ـ

سبق وان كان الانتاج الاولي ملكا لعنصر العمل (الشخص الذي انتجه) فعند دخوله الى مرحلة لاحقة يبقى ملكا لصاحبه، له وحده حق التصرف به. فان كان لا يملك أدوات الانتاج. فيستأجرها من صاحبها كما انه يمكنه أن (يأذن لعامل آخر بالقيام بهذه العملية، وفي هذه الحالة أما أن يشاركه في السلعة المنتجة على أساس الجعالة، واما أن يحدد له أجرا غير مجحف لقيمة عمله، والدولة هي التي توجه هذه الاتفاقات لكي تضمن سلامتها من روح الاحتكار. وحين تقدر قيمة العمل كنسبة من السلعة أو كأجر ثاتب يجب على الدولة أن تلغي من الحساب الندرة المصطنعة التي تنشأ من عوامل الاحتكار)[16]. تلك الندرة التي تجعل حصة رأس المال في النظام الرأسمالي اكبر كثيرا من حصة العمل المنفق في انتاجها.

هذا الخلاف الاول مع الرأسمالية. اما اختلاف الاسلام في هذا الصدد عن الماركسية فأن الماركسية بربطها خطأ بين القيمة التبادلية للسلعة (لا السلعة نفسها) وملكية المنتج جردته من ملكيتها الحقيقية في مراحل الانتاج الثانوي. وللدولة أن تأخذها منه، فاذا أنفق عمال آخر جهده عليها في المراحل اللاحقة فليس له من حق في السلعة المنتجة الا بمقدار الزيادة في قيمتها التبادلية. بينما على العكس فان الاسلام بربط بين العمل وملكية السلعة نفسها لا قيمتها التبادلية ولذلك فيبقى له حق امتلاكها والتصرف بها في جميع المراحل اللاحقة من الانتاج الثانوي.

الحالة الثانية: ـ

وهي في حالة قيام الاقتصاد على اسس غير اسلامية. فسيكون هناك افراد استطاعوا من خلال الظروف الشاذة لعملية الانتاج أن يحتكروا شراء المواد الاولية ويتحكموا في اسعارها عن طريق خلق الندرة المصطنعة.

وهنا يجب على الدولة التدخل لمقاومة الاحتكار وتحديد الاسعار باستخدام القطاع العام وتحديد المشاريع الفردية للانتاج الثانوي كما توضحه القواعد التالية : ـ

القاعدة (5)

الثروة التي تدخل في عملية الانتاج الثانوي تظل ملكا للعامل الذي ملكها بالانتاج الاولي ما لم يحصل بينه وبين فرد آخر اتفاق يعدل من ذلك.

القاعدة(6)

تحدد أجور أدوات الانتاج وأجور العمل من قبل الدولة مع الاتجاه الى الغاء عامل الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار.

القاعدة(7)

كلما وجدت ظروف استثنائية تؤدي الى تعرض التوازن الاجتماعي الى الخطر بسبب ما تقدم في القاعدة (5) تتدخل الدولة وفقا لصلاحياتها بأتخاذ الاجراءات المناسبة لايجاد التوازن الاجتماعي والحفاظ عليه.

الباب الثالث

التصرف في الاموال التبادل والاستهلاك

أ ـ التبادل:

قبل ظهور النقود كانت المقايضة هي الشكل السائد في التبادل، ولم يكن الهدف منها الا سد الحاجات الضرورية فالمنتج يبادل ما زاد عن حاجته من انتاجه بما يحتاج اليه من انتاج الآخرين. وهكذا بقية المنتجين وهذا يؤدي الى: ـ

أن الانتاج كان لا ينفصل عن الاستهلاك ويساويه.

أن الادخار العيني باستمرار لم يكن ممكنا.

ان المبادلة نفسها لم تكن تحقق كسبا جديدا للفرد. أي لا يحقق ثروة لبم ينتجها بنفسه.

وبعد ظهور النقد، وفي غياب تطبيق احكام الثروة الاسلامية تأثرت هذه الظواهر الثلاثة تأثيرا كبيرا. فبالنسبة للظاهرة الاولى انفصل الانتاج عن الاستهلاك، وأصبح بامكان المنتج أن يبيع أنتاجه ويؤجل شراءه الاستهلاكي.

وبالنسبة للظاهرة الثانية اصبح الادخار والاكتناز ممكنا وظهرت امكانية أحتكار النقد وبيعه بنقد اكبر مؤجل، ونشأ من ذلك الربا، والاسلام بعناصره الثابته والمتحركة يضع حدا لهذا الانحراف عن هذه الظواهر الثلاثة. فالربا لم يعط مقابل بذل عنصر العمل، كما لم يكن مقابل ما تفتت من عمل مختزن في ادوات الانتاج، يعوض عنها بأجرة المثل التي يحصل عليها مالك أدوات الانتاج عند تاجيرها. وبالنسبة للظاهرة الثالثة، اصبح من الممكن أن يحصل على ثروة بدون أن يبذل أي عمل في انتاجها وذلك عن طريق عملية المبادلة، بشراء كميات كبيرة من السلع وبيعها باسعار احتكارية بعد خلق الندرة المصطنعة. لذلك وكما يقول السيد الصدر ف، الاسلام يحرم اكتناز النقد وأدخاره [17]….

وكذلك اتجه الاسلام الى الغاء عمليات المبادلة الطفيلية التي تفصل بين الانتاج الاستهلاك ومنع من بيع السلعة قبل قبضها وأعطى للتاجر مفهوما يستنبط من العمل والجهد [18]. ويمكن صياغة ذلك على شكل القواعد التالية: ـ

القاعدة (8)

يمنع من ادخار النقد وأكتنازه.

القاعدة (9)

يتجه العمل لمنع أي كسب تولده الاثمان الاحتكارية للنقد بما في ذلك الفوائد الربوية.

القاعدة (10)

تتجه السياسة الاقتصادية في الدولة الاسلامية الى تضييق الهوة بين المنتج والمستهلك، وأستئصال دور عملية المبادلة نفسها كأساس للكسب بصورة منفصلة عن الانتاج والعمل.

ب ـ استهلاك المال: ـ

وضع الاسلام قيودا على الاستهلاك لتحريم الاسراف الذي يمثل تحديدا كميا لنفقات المعيشة: ـ

الاول: هو منع الاسراف. والاسراف هو تجاوز الحدود المألوفة في اشباع الحاجات.

الثاني: هو الارتفاع بمستوى معيشة الفقراء قريبا من المعدل العام للرخاء. والاسراف أمر نسبي يتأثر بدرجة الرخاء العام في المجتمع. ويضرب السيد الصدر مثلا على التبذير بأن ينفق احدهم جزء من امواله على اعالة مجموعة من الكلاب. هذا ما يتعلق بالقيود الموضوعية على التصرف بالثروة يقابلها حث المسلم على التطوع بما زاد عن حاجته للجماعة («ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو») [19] أي ما زاد عن الحاجة. كما اوجب الاسلام التكافل الاجتماعي، بأن يسد القادرون حاجات المعوزين ويعولوا غير القادرين على العمل.

القاعدة (11)

أن مستوى الفرد يجب ان لا يتجاوز بصورة حادة مستوى الرخاء العام للجميع وللدولة، وتقدير ذلك هو القيام بما يكفل عدم الاسراف.

الباب الرابع

مسؤوليات الدولة العامة

هناك مسؤوليات كثيرة للدولة من أجل تطبيق المبادئ الواردة في الابواب الثلاثة الاولى، وذلك بتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة في الشريعة الاسلامية وأهم هذه المسؤليات هي: ـ

مسؤولية الضمان الاجتماعي، مسؤولية التوازن الاجتماعي، مسؤولية رعاية القطاع العام وأستثماره باقصى درجة ممكنة، مسؤولية الاشراف على مجمل حركة الانتاج في المجتمع وأعطاء التوجيهات اللازمة بهذا الصدد، تفاديا لفوضى الانتاج ولتنمية الدخل الكلي، ومسؤولية الحفاظ على القيم التبادلية الحقيقية للسلع وأشكال العمل ومقاومة الاحتكار في كل مجالات الحياة الاقتصادية الذي يسبب ابتعاد الاسعار عن القيم التبادلية الحقيقية، وقد عبر السيد الصدر عن هذه المسؤوليات في نهاية دراستها وتفصيلها في هذا الباب بالقواعد التالية: ـ

القاعدة (12)

على الدولة أن تطبق العناصر الثابتة في الاقتصاد الاسلامي، وتحدد العناصر المتحركة وفقا للمؤشرات الاسلامية العامة.

القاعدة (13)

على الدولة من خلال ممارستها لتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة أن تحقق: ـ

أولا: ضمانا اجتماعياً يكفل حدا ادنى من الرفاه لجميع افراد المجتمع.

ثانياً: توازنا اجتماعياً في المعيشة بالتقريب بين مستويات المعيشة وفي الدخل بالمنع من الاحتكار وتركز الاموال.

ثالثاً: استثماراً بأعلى درجة ممكنة للقطاع العام مع وضع سياسة عامة للتنمية الاقتصادية.

رابعاً: عملا مستمرا في سبيل تقريب اثمان السلع وأشكال العمل نحو قيمها التبادلية الحقيقية، وذلك بمقاومة الاحتكار لكل ميادين الحياة الاقتصادية.

الجانب الاقتصادي في أعمال السيد محمد باقر الصدر

فارس أحمد الخليل

من الأعمال الفكرية في حقل العلوم الاقتصادية التي ألفها السيد محمد باقر الصدر رحمة الله عليه، والتي اطلعت عليها هي «اقتصادنا»، و«البنك اللاربوي في الاسلام» وبعض البحوث الاقتصادية التي اطلعت عليها مؤخراً في كتابه «الاسلام يقود الحياة» من إصدار وزارة الارشاد الاسلامي في إيران. إن السيد الشهيد لو لم يؤلف غير كتاب واحد هو «اقتصادنا» لكفاه فخراً فقد استطاع بهذا الكتاب، وبكتاب البنك اللاربوي في الإسلام أن يسد نقصاً كبيراً كانت تعاني منه المكتبة الاسلامية. ولا نستطيع في هذا الموضوع أن نفصل القول في كل الجانب الاقتصادي الذي تتضمنه أعمال الشهيد الصّدر الفكرية. ولكننا سنحاول التعريف بكتابية القيمين «اقتصادنا» و«البنك اللاربوي في الإسلام». بيد أننا سنقف وقفة أطول مع كتابه «الاسلام يقود الحياة» لنلقي الضوء على المذهب الاقتصادي الاسلامي من خلاله، لا لأن كتابه الأخير أكثر أهمية من ذينك الكتابين، ولا لأنه طرحٍ فيه المذهب الاقتصادي الاسلامي بطريقة أكثر عمقاً ووضوحاً وتفصيلاً مما جاء في كتاب اقتصادنا. لا ، ولكن لأن معالجته للخطوط العريضة لهذا المذهب جاءت مذيلة بخلاصات صاغها على شكل قواعد محددة، تصلح لو استلت لوحدها من البحث لتقوم بمهمة تحديد الخطوط العريضة للمذهب الاقتصادي الاسلامي، ولكن بصورة مختصرة.

في كتاب «اقتصادنا» استطاع السيد الشهيد أن يرسي قواعد هذا المذهب على أسس علمية موضوعية، لم يسبقه على ما اعتقد الى ذلك كاتب. حتى نال إعجاب الكثير من فحول العلماء الاقتصاديين المنصفين. كل ذلك من خلال دراسة مقارنة مع كل من المذهبين الماركسي والرأسمالي. فتناول في الفصل الأول دراسة الماركسية في أساسها العلمي الذي تستند إليه، وهو المفهوم المادي للتاريخ أولا، ثم تناول بالنقد والتحليل الجانب المذهبي فيها، المتمثل في الاشتراكية والشيوعية. وانتهى من ذلك الى نسف الأسس الفكرية للماركسية، مما يدعو لانهيار البناء المذهبي المستند إليه.

في الفصل الثاني استعرض الاقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية، وعالج علاقة المذهب الرأسمالي بقوانين علم الاقتصاد السياسي. ثم حلل الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها. أما الفصول اللاحقة فقد خصصها لدراسة المذهب الاقتصادي الاسلامي، وتأصيل قواعده وأسسه على ضوء قاعدة الكسب للعمل. يقول السيد الشهيد: «… فنتحدث في هذا الفصل عن مجموعة من الأفكار الاساسية لهذا الاقتصاد، ثم ننقل الى التفاصيل في الفصول الأخرى، لنشرح نظام التوزيع، ونظام الانتاج في الإسلام، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات الطبيعية، وتحديدات الملكية الخاصة، ومبادىء التوازن والتكامل .الضمان العام، والسياسة المالية، وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية ودور عناصر الانتاج…»[20].

أما كتابه الثاني «البنك اللاربوي في الاسلام» فقد وضح فيه أطروحةً وسياسةً لمصرف اسلامي لا يقوم على الربا، بل يستند في تحصيل مكاسبه على أساس قاعدة العمل. «إن سياسة البنك اللاربوي المقترح يجب أن توضح على ثلاث أسس: ـ

أولاً: أن لا يخالف احكام الشريعة الاسلامية.

ثانياً: أن يكون قادراً على الحركة والنجاح ضمن إطار الواقع المعاش بوصفه مؤسسة تجارية تتوخي الربح.

ثالثاً: أن تمكنه صيغته الاسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، ومن ممارسة الدور الذي تتطلبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك، وما تتطلبه ظروف التدعيم والتطوير»[21].

يتكون الكتاب من فصلين، يقدم الكاتب في الفصل الأول الأطروحة الجديدة لتنظيم علاقات البنك بكل من المودعين والمستثمرين، على أسس يخلص منها البنك من التعامل بالفائدة في حالتي الاقراض والاقتراض، وتقوم هذه الطريقة على فكرة «المضاربة» التي تعني بأن المصرف ليس إلا وسيطاً بين أصحاب الأموال والمستثمرين، اللذين هما طرفا المضاربة وللبنك عمولة لقاء عمله على تسهيل التقائمها، ويشارك صاحب المال المستثمرين بنسبة من الربح يتفق عليها، كما يتحمل معه الخسارة وهكذا فإن العلاقة تصبح بين صاحب المال والمستثمربعد أن كان المستثمر وصاحب المال لا يعرف أحدهما الآخر في البنك الربوي الرأسمالي، وإنما علاقة كل منهم على انفراد مع المصرف فقط كدائن أو مدين.

إن المضاربة تجعل الكسب محللاً لأنه لقاء عمل قام به كل من المصرف وصاحب المال والمستثمر، وليس هناك فائدة يدفعها المصرف لمقرض أو يستلمها من مقترض. كما قد يقوم البنك نفسه بالاستثمار مشاركاً صاحب المال بالأرباح والخسائر. هذه صيغة المضاربة وهي تتعلق بالودائع الثابتة «الودائع لأمد» أما الودائع المتحركة «الجارية» فهناك صيغة أخرى قدمتها الأطروحة لتفادي التعامل بالفائدة، وهي أن يقوم صاحب المال باقراض المصرف قرضاً حسناً بلا فائدة ، ثم يقوم المصرف باقراض الآخرين بال فائدة أيضاً. على أن يحافظ البنك على القيمة الحقيقية للقرض، أي يعوض صاحب المال عن الانخفاض الحاصل من جراء تغير قيمة النقد. ويمكن أن يقوم المصرف نفسه باستثمارها عن طريق المضاربة، وفي هذه الحالة يكون المصرف طرفاً في المضاربة وليس وسيطاً.

أما في الفصل الثاني، فيستعرض الوظائف الأساسية التي تمارسها البنوك القائمة حالياً من خدمات مصرفية، وتسهيلات واستثمارات على ضوء الأطروحة السابقة، ليتخذ المصرف اللاربوي موقفاً من هذه الأنشطة.

أما كتاب «الاسلام يقود الحياة» فيتكون من عدة موضوعات هي: ـ

لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية، صورة عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، خلافة الانسان وشهادة الأنبياء، منابع القدرة في الدولة الاسلامية، وأخيراً الأسس العامة للبنك في المجتمع الاسلامي. وسنقف في الصفحات التالية على الخطوط العريضة للمذهب الاقتصادي الاسلامي من خلال الموضوع الثالث من هذه المواضيع وهو«خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي» وإن كان ذلك ممكناً، وبتفصيل أكثر من خلال كتاب «اقتصادنا».

يبين السيد الشهيد في هذا الموضوع أن مبدأ الخلافة العامة للانسان في الأرض يعني أن المالك الحقيقي للكون بما فيه الثروات هو الله سبحانه وتعالى. وأن لكل من أفراد المجتمع حقاً في هذه الثروات، وأن هذه الخلافة هي أمانة في عنق الانسان. وأنه تعالى وضع لادراة هذه الثروات وامتلاكها والتصرف بها أحكاماً هي أحكام الثروة، وأن الالتزام بهذه الأحكام طاعة له تعالى وبالتالي أداء للأمانة. وبالعكس فإن الخروج عن أحكام الثروة التي وضعها الاسلام هي عصيان لأوامر الله تعالى وبالتالي خيانة للأمانة وهي الخلافة العامة.

إن أحكام الثروة تعطي من خلال صورتين: إحداهما الصورة المحدودة اسلامياً والأخرى الصورة الكاملة اسلامياً، والصورة المحدودة تقدم للفرد لتحكم مسيرته ضمن مجتمع لا يقوم على أساس الشريعة الاسلامية، بل يتبع غيره من الايديولوجيات والأنظمة الوضعية، لتعصمه من الوقوع بالخطأ ومخالفة الشريعة الاسلامية. في حين تعطي الثانية صورة كاملة عن اقتصاد مجتمع يقوم على أساس الشريعة الاسلامية، ويبني نظاماً أسلامياً يعم كل جوانب الحياة الاقتصادية في مجتمع تطبق فيه الشريعة الاسلامية بصورة كاملة، وليس للأنظمة والايديولوجيات الوضعية أي مكان فيه. ونحن لسنا بصدد الصورة الأولى المحدودة فهذه تقدمها الرسائل العملية للفقهاء ويمكن الرجوع اليها. ولكن نزيد أن نقف على الصورة الثانية التي رسمها لنا الاسلام كما قدمها السيد الشهيد، هذه الصورة التي تقدم لنا عناصر المذهب الاقتصادي الاسلامي في مجتمع اسلامي ودولة اسلامية عالمية. فما هي عناصر هذه الصورة؟

قبل إعطاء هذه الصورة يقدم لنا السيد الشهيد صورة أخرى ولكن عن العوامل الفاعلة في ظهور الأنظمة الاقتصادية «علاقات التوزيع» بما فيها الاسلام، موضحاً الخلاف الجذري للصورة الماركسية لهذه المسألة.فبدأ بتوضيح كل من: ـ

أ ـ أشكال الانتاج:

ففي عملية الانتاج تنبثق بين الانسان والطبيعة علاقة من خلال محاولته السيطرة عليها وتسخيرها لخدمته عن طريق قوى الانتاج. وهناك أشكال عديدة من هذه العلاقات، فالحجر، والقوس، والسهم، والمحراث الخشبي، فالمعدني، فالماكنة البخارية والمعمل الاكتروني الحديث تعبر كلها عن درجات مختلفة من الانتاج أو «أشكال الانتاج».

ب ـ علاقات التوزيع:

كما تنشأ خلال عملية الانتاج علاقة بين المنتخبين أنفسهم فيها يتعلق بتوزيع الانتاج وشكل الملكية تسمى «علاقات التوزيع».

يبين السيد الشهيد الخطأ الذي وقعت فيه الماركسية بربطها بين هذين الشكلين من العلاقات، علاقات الانسان بالطبيعة معبراً عنها بدرجة تطور قوى الانتاجٍ وبين علاقات التوزيع. حيث «اعتبرت علاقات التوزيع بناء علوياً حتمياً لعلاقات الانتاج. فكل علاقة إنتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة، وهي العلاقات التي تنسجم مع الشكل السائد للانتاج وتساعد على نموه، حتى إذا أصبحت علاقات التوزيع بشكلها الاجتماعي عقبة أمام نمو الانتاج، وظهرت علاقات انتاج وقوى منتجة جديدة تتطلب تنميتها إعادة التوزيع على شكل جديد، إتجهت قوانين المادية التاريخية الى تغيير الميزان الاجتماعي، وتبديل علاقات التوزيع، وإقامة علاقات توزيع جديدة تفي حاجات الانتاج وعلاقاته»[22].

أن هذا التحليل الماركسي ليس صحيحاً بنظر الاسلام كما يراه السيد الشهيد فإنه لا يجد مصلحة الانتاج هي المبرر لعلاقات التوزيع، وإنما يقيم ـ أي الاسلام ـ هذه العلاقات على أساس قيم ثابتة وهي القيم الانسانية والربانية التي تعبر عنها خلاقة الانسان في الأرض وتؤكد الحق والعدل والمساواة والكرامة الانسانية. ولهذا يشجب الاسلام علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الانتاج وشكله»[23] أي لا يربط الاسلام بين علاقات التوزيع ـ ونوع الملكية إحدى أهم هذه العلاقات ـ ودرجة تطور قوى الانتاج بل يجعل العمل والحاجة أساسين للملكية. وفي ضوء الاسلام فإن عناصر المجتمع تقسم إلى ثلاثة أقسام: ـ

عناصر ثابتة،وضعت على «شكل أحكام منصوصة في الكتاب الكريم والسنة، أو مستخلصة من الأحكام المنصوصة»[24].

عناصر متحركة، «تدعو الضرورة اليها بسبب المستجدات في عملية الانتاج وملابساتها [25]» ويضرب لنا مثلاً على هذا القسم بـ «تحديد الحاكم الشرعي حداً أعلى لا يسمح بتجاوزه في عملية إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعية فيما إذا كان السماح المطلق مع نمو القدرات المادية والالية لعملية الانتاج يؤدي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار لا يقرها الاسلام»[26].

العناصر المتحركة الزمنية، ويقصد بها تطور قوى الانتاج المادية، التي هي وليدة الخبرة البشرية. وهي تتجدد وتنمو باستمرار وتستند إلى الدراسات والبحث العلمي والعلوم الطبيعية. ويرى السيد الشهيد أن واجب الدولة في المجتمع الاسلامي «أن ترسم سياسة اقتصادية للانتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات»[27].

ومن خلال التركيز على القسمين الأول والثاني من هذه العناصر يقدم لنا السيد الصدر المعالم الرئيسية في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي، وذلك من خلال تصنيف أحكام الثروة في الاسلام الى الأبواب التالية: ـ

الباب الأول:  التوزيع الأولي لمصادر الثروة الطبيعية.

الباب الثاني:  الانتاج وكيف يتم توزيعه «الانتاج الأولي والانتاج الثانوي».

الباب الثالث: التصرف في الاموال. «التبادل والاستهلاك».

الباب الرابع: مسؤلية الدولة الاسلامية.

وبتحليل هذه المشاكل الاقتصادية التي تتضمنها هذه الابواب الاربع يصل الكاتب الى استخلاص نتائج فذة يضعها على شكل قواعد «ثلاث عشرة قاعدة» تعطي صورة واضحة عن الاقتصاد الاسلامي، وتؤكد هذه القواعد على انه لا يجوز التملك الا على اساس العمل والحاجة وكل ملكية لا تقوم على هذا الاساس هي ملكية محرمة لا تجوز الاسلام.

وقبل الدخول في هذه الابواب الاربع التي تشكل جوهر الموضوع، يشرح لنا الكاتب عددا من المصطلحات الاقتصادية الاسلامية التي ترد أثناء البحث مثل: الملكية العامة، ملكية الدولة، الملكية الخاصة، رقبة المال، المباحات العامة، حق الاولوية الحق العام للأمة، الحمى، الاحياء، القطاع العام، القطاع الخاص، الانتاج الرأسمالي، الانتاج الاولي، والانتاج الثانوي.

الباب الاول

التوزيع الاولي لمصادر الثروة

تنقسم الثروات الطبيعية الى قسمين: ـ

القسم الاول: مصادر الثروة الطبيعية، ويمكن تسميتها بالاموال غير المنقولة وتشمل: ـ

أـ الارض بما تضم من غابات.

ب ـ المعادن سواء على الارض أو في باطنها أو في قاع البحر.

وهذان النوعان يدخلان في نطاق القطاع العام.

ج ـ مصادر المياه من انهار وبحار وبحيرات وعيون ماء، ويدخل هذا النوع في نطاق المباحات العامة.

هذا وكل مصدر من مصادر الثروة يسمى «رقبة المال». وكل هذه المصادر لا يسمح لنشوء ملكية خاصة فيها على اساس الحمى، أو الحيازة عليها، حيث تكون الحيازة فيها احتكارا بطبيعتها وأنما سمح بنشوء حق خاص للافراد على أساس الإحياء فقط. وهذا يعطي للمحيي حق الانتفاع بالمصدر الطبيعي، ولكنه لا يصبح ملكا له بل له حق الاولوية بلى غيره بالانتفاع بهذا المصدر فاذا زالت معالم الإحياء فقد القرد حق الاولوية، ويصبح لاي في آخر حق احيائه والانتفاع به (وأما التحجير، وهو وضع علامات أو احجار معينة أو بناء سور يحيط بالارض فلا يؤدي الى نشؤ حق للمحجر الا بوصفه شروعا في عملية الاحياء) [28]والاساس الذي يرجع اليه في ذلك هو عنصر العمل، والعمل المباشر فقط. فلا يجوز استئجار الغير للعمل في هذا المصدر الطبيعي كما هي الحال في الطريقة الرأسمالية، لأن الاسلام يرى أن العمال المستأجريئ يصبحون مالكين حقيقيين للانتاج وليسوا عمالا اجراء. (ومن حق الدولة أن تشتري حق الاولوية من الفرد المحيي وتلزمه ببيعة اذا أدى بقاء هذا الحق الى اخلال في عدالة توزيع المصادر الطبيعية على الافراد والتوازن الاجتماعي…) [29]. حتى وان كان المحيي قادراً على الاحياء ويبذل عملا مباشراً في ذلك.

القسم الثاني: ثروات طبيعية اخرى (وليست مصادر) كالحيوان والنبات والاخشاب والاحجار. وتسمى الاموال المنقولة، ويمكن الانتفاع بها عن طريق حيازتها، وتكون حيازتها عملا اقتصادياً موضوعياً، في حين لا تكون حيازة الاموال غير المنقولة عملاً اقتصاديا موضوعيا، بل احتكار يؤدي الى سوء التوزيع، الذي يحرمه الاسلام. على أن حيازة الاموال المنقولة يجب أن تتم هي الاخرى ببذل عمل مباشر وجهد شخصي والا ظل مالا مباحا للجميع. ويمكن وضع هذه الامور كلها على شكل قواعد: ـ

القاعدة (1)

كل مصادر الثروة الطبيعية تدخل في القطاع العام ويكتسب الافراد الحقوق الخاصة بالانتفاع بها على اساس وحيد هو العمل الذي يتمثل في الاحياء ويراد به العمل المباشر.

القاعدة (2)

كل الثروات المنقولة في الطبيعة تملك على اساس العمل لحيازتها، ويراد بذلك العمل المباشر، ولا تملك بسبب آخر الا عن طريق الانتفاع من العامل بارث أو معاوضة أو غير ذلك من نوافل الملك.

الباب الثاني

الانتاج وكيف يتم توزيعه

وينقسم هذا الباب الى ثلاثة اقسام، يبين الأول أهمية الانتاج في الاقتصاد الاسلامي وفي الانظمة الاقتصادية الاخرى. كما يبين الثاني كيف يتم توزيع الانتاج الاولى، أما الثالث فيبين كيف يتم توزيع الانتاج الثانوي.

أـ الانتاج وأهمية:

يرى السيد الشهيد أن الانتاج في الانظمة الاقتصادية الأخرى هو الاساس وهو الهدف لا الانسان، بينما نرى العكس في النظام الاسلامي. وبكلمة أخرى أن الانظمة غير الاسلامية تجعل الانسان في خدمة الانتاج بينما يضع الاسلام الانتاج في خدمة الانسان (… فالنظام الرأسمالي مثلا يعتبر تنمية الانتاج هدفاً بذاتها، بينما الاسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وانما هو وسيلة لايجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس…) [30]. ويشير السيد الصدر الى عدد من الفروق في النظرة الى الانتاج: ـ

الأول: أن اشكال الانتاج وعلاقات التوزيع في الاسلام يجب أن تنسجم وكرامة الانسان. بينما في النظام الرأسمالي لا مانع من استغلال النساء والاطفال بكل انواع الاستغلال.

الثاني: يكون الانتاج في النظام الرأسمالي وفقا للطلب والقدرة الشرائية، ويؤدي الى توفير سلع الترف والتسلية وفنون التجميل، على حساب الانتاج الحيوي والضروري، بينما في الاسلام يتجه الانتاج:

ايجابيا نحو توفير المواد الاولية مهما كانت ظروف الطلب.

سلبيا نحو شجب انتاج سلع الترف والبذخ والاسراف.

الثالث: يرى السيد الصّدر أن الانتاج (لا الاسعار) في المجتمعات الرأسمالية في حالات معينة يعاني يعاني من تضخم مضطنع، لأنه يتجه نحو طلب غير حقيقي هو طلب الوسطاء المتنوعين حيث (يعيد الانتاج عمله في صنع السلعة من جديد بمجرد تصريفها على هؤلاء الوسطاء، بقطع النظر عن الحاجة الحقيقية للمستهلكين وحجمها الواقعي، وبهذا يتراكم الانتاج وتحدث الازمات ويضطر الرأسماليون الى ايقاف العمل وحتى الى اتلاف كيمات كبيرة من البضاعة …) [31]. بينما ـ وكما يرى الكاتب ـ أن الاقتصاد الاسلامي (يتجه الى استئصال الادوار الطفيلية لهؤلاء الوسطاء…) [32]. ومن هذا كله نستنتج: ـ

القاعدة (3)

الانتاج لخدمة الانسان وليس الانسان لخدمة الانتاج.

ب ـ الانتاج الاولي وكيف يتم توزيعه:

يقصد بالانتاج الاولي انتاج المواد الخام كالمعادن والانتاج الزراعي والحيواني ويقصد بانتاج المواد الخام قبل تغيير شكلها في مراحل لاحقة.

تتميز نظرة الاقتصاد الاسلامي عن نظرة كل من الاقتصاد الرأسمالي والماركسي الى هذه المسألة. فالاقتصاد الرأسمالي (يعتبر العمل الانساني عنصرا من عناصر الانتاج وعلى مستواها. ويحدد نصيب كل واحد منها على اساس قوانين العرض والطلب)[33]. بينما لا يرى الاسلام في بقية عوامل الانتاج عناصر مكافئة للانسان، بل هي خادمة له، لا تستحق آية حصة من الانتاج، والانتاج كله للعمل. ولمالك ادوات الانتاج اجر يدفعه له العامل الذي استأجرها. ولهذا فالعمل فقط هو اساس الملكية وليس عناصر الانتاج.

أما الماركسية فهي ترى أن العمل البشري  يستحق القيمة التبادلية للسلعة. ويرى الكاتب أن الملكية الجماعية في جزء من الثروة، الذي تبرر الماركسية أخذه من قبل الدولة لا مبرر له حتى على ضوء الماركسية نفسها، لأن الجماعة ليس لها مساهمة في عملية الانتاج، بينما هي مبررة في الاسلام على أساس مبدأ خلاقة الانسان في الارض. فالثروة ملك لله تعالى. وقد استخلف فيها جميع افراد المجتمع، فجميعهم لهم حق الانتفاع بها. أي (أن للجماعة ممثلة بالدولة الحق في جزء من الثروة المنتجة تأخذه كأجره عن انتفاع المنتج بالمصدر الطبيعي الذي تملكه الدولة كما في الخراج … الخمس… ) [34].

وملكية الجماعة هذه جاءت لتغطية حاجاتها ومصالحها العامة. لذلك فأن الحاجة في الاساس الثاني للملكية بعد العمل في الاسلام. لذلك فأن الاسلام يرفض اكتساب حق في قيمة السلعة المنتجة بطريقة رأسمالية عن طريق استئجار العمل وتوفير أدوات الانتاج لهم، بحيث تكون القيم التي ينتجونها تذهب لصاحب رأس المال دافع الاجور بدون أن يقدم ـ هو ـ أي عمل. والصحيح كما يرى الاسلام أن يكون الانتاج ملكا لهؤلاء العمال ويدفعون هم لصاحب رأس المال اجرة المثل ليس غير. وهذا ما تعبر عنه: ـ

القاعدة (4)

يقوم توزيع الثروة المنتجة في الانتاج الاولى على أساسين أحدهما العمل والاخر الحاجة، وتستأصل كل اشكال الانتاج الرأسمالي.

ج ـ الانتاج الثانوي وكيف يتم توزيعه: ـ

الانتاج الثانوي هو الذي يطرأ على المواد الاولية (الانتاج الاولي) من أجل تغيير شكلها في مراحل انتاجية لاحقه لاستكمال منفعتها. وسيعالج على أساس حالتين: ـ

الحالة الاولى: في مجتمع لم يقم على أساس أحكام الثزوة في الاسلام. كما أن عمليات الانتاج الأولي فيه وتوزيع الثروة وفقا لقواعد الاقتصاد الاسلامي.

الحالة الثانية: حالة مجتمع لم يقم على اساس الاسلام مما أدى الى التفاوت الكبير في الملكية واختلال التوازن الاجتماعي. فكيف يعالج الانتاج الثانوي في كل من هاتين الحالتين؟

الحالة الاولى: ـ

سبق وان كان الانتاج الاولي ملكا لعنصر العمل (الشخص الذي انتجه) فعند دخوله الى مرحلة لاحقة يبقى ملكا لصاحبه، له وحده حق التصرف به. فان كان لا يملك أدوات الانتاج. فيستأجرها من صاحبها كما انه يمكنه أن (يأذن لعامل آخر بالقيام بهذه العملية، وفي هذه الحالة أما أن يشاركه في السلعة المنتجة على أساس الجعالة، واما أن يحدد له أجرا غير مجحف لقيمة عمله، والدولة هي التي توجه هذه الاتفاقات لكي تضمن سلامتها من روح الاحتكار. وحين تقدر قيمة العمل كنسبة من السلعة أو كأجر ثاتب يجب على الدولة أن تلغي من الحساب الندرة المصطنعة التي تنشأ من عوامل الاحتكار)[35]. تلك الندرة التي تجعل حصة رأس المال في النظام الرأسمالي اكبر كثيرا من حصة العمل المنفق في انتاجها.

هذا الخلاف الاول مع الرأسمالية. اما اختلاف الاسلام في هذا الصدد عن الماركسية فأن الماركسية بربطها خطأ بين القيمة التبادلية للسلعة (لا السلعة نفسها) وملكية المنتج جردته من ملكيتها الحقيقية في مراحل الانتاج الثانوي. وللدولة أن تأخذها منه، فاذا أنفق عمال آخر جهده عليها في المراحل اللاحقة فليس له من حق في السلعة المنتجة الا بمقدار الزيادة في قيمتها التبادلية. بينما على العكس فان الاسلام بربط بين العمل وملكية السلعة نفسها لا قيمتها التبادلية ولذلك فيبقى له حق امتلاكها والتصرف بها في جميع المراحل اللاحقة من الانتاج الثانوي.

الحالة الثانية: ـ

وهي في حالة قيام الاقتصاد على اسس غير اسلامية. فسيكون هناك افراد استطاعوا من خلال الظروف الشاذة لعملية الانتاج أن يحتكروا شراء المواد الاولية ويتحكموا في اسعارها عن طريق خلق الندرة المصطنعة.

وهنا يجب على الدولة التدخل لمقاومة الاحتكار وتحديد الاسعار باستخدام القطاع العام وتحديد المشاريع الفردية للانتاج الثانوي كما توضحه القواعد التالية: ـ

القاعدة (5)

الثروة التي تدخل في عملية الانتاج الثانوي تظل ملكا للعامل الذي ملكها بالانتاج الاولي ما لم يحصل بينه وبين فرد آخر اتفاق يعدل من ذلك.

القاعدة(6)

تحدد أجور أدوات الانتاج وأجور العمل من قبل الدولة مع الاتجاه الى الغاء عامل الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار.

القاعدة(7)

كلما وجدت ظروف استثنائية تؤدي الى تعرض التوازن الاجتماعي الى الخطر بسبب ما تقدم في القاعدة (5) تتدخل الدولة وفقا لصلاحياتها بأتخاذ الاجراءات المناسبة لايجاد التوازن الاجتماعي والحفاظ عليه.

الباب الثالث

التصرف في الاموال التبادل والاستهلاك

أ ـ التبادل:

قبل ظهور النقود كانت المقايضة هي الشكل السائد في التبادل، ولم يكن الهدف منها الا سد الحاجات الضرورية فالمنتج يبادل ما زاد عن حاجته من انتاجه بما يحتاج اليه من انتاج الآخرين. وهكذا بقية المنتجين وهذا يؤدي الى: ـ

أن الانتاج كان لا ينفصل عن الاستهلاك ويساويه.

أن الادخار العيني باستمرار لم يكن ممكنا.

ان المبادلة نفسها لم تكن تحقق كسبا جديدا للفرد. أي لا يحقق ثروة لبم ينتجها بنفسه.

وبعد ظهور النقد، وفي غياب تطبيق احكام الثروة الاسلامية تأثرت هذه الظواهر الثلاثة تأثيرا كبيرا. فبالنسبة للظاهرة الاولى انفصل الانتاج عن الاستهلاك، وأصبح بامكان المنتج أن يبيع أنتاجه ويؤجل شراءه الاستهلاكي.

وبالنسبة للظاهرة الثانية اصبح الادخار والاكتناز ممكنا وظهرت امكانية أحتكار النقد وبيعه بنقد اكبر مؤجل، ونشأ من ذلك الربا، والاسلام بعناصره الثابته والمتحركة يضع حدا لهذا الانحراف عن هذه الظواهر الثلاثة. فالربا لم يعط مقابل بذل عنصر العمل، كما لم يكن مقابل ما تفتت من عمل مختزن في ادوات الانتاج، يعوض عنها بأجرة المثل التي يحصل عليها مالك أدوات الانتاج عند تاجيرها. وبالنسبة للظاهرة الثالثة، اصبح من الممكن أن يحصل على ثروة بدون أن يبذل أي عمل في انتاجها وذلك عن طريق عملية المبادلة، بشراء كميات كبيرة من السلع وبيعها باسعار احتكارية بعد خلق الندرة المصطنعة. لذلك وكما يقول السيد الصدر ف، الاسلام يحرم اكتناز النقد وأدخاره [36]….

وكذلك اتجه الاسلام الى الغاء عمليات المبادلة الطفيلية التي تفصل بين الانتاج الاستهلاك ومنع من بيع السلعة قبل قبضها وأعطى للتاجر مفهوما يستنبط من العمل والجهد [37]. ويمكن صياغة ذلك على شكل القواعد التالية: ـ

القاعدة (8)

يمنع من ادخار النقد وأكتنازه.

القاعدة (9)

يتجه العمل لمنع أي كسب تولده الاثمان الاحتكارية للنقد بما في ذلك الفوائد الربوية.

القاعدة (10)

تتجه السياسة الاقتصادية في الدولة الاسلامية الى تضييق الهوة بين المنتج والمستهلك، وأستئصال دور عملية المبادلة نفسها كأساس للكسب بصورة منفصلة عن الانتاج والعمل.

ب ـ استهلاك المال: ـ

وضع الاسلام قيودا على الاستهلاك لتحريم الاسراف الذي يمثل تحديدا كميا لنفقات المعيشة: ـ

الاول: هو منع الاسراف. والاسراف هو تجاوز الحدود المألوفة في اشباع الحاجات.

الثاني: هو الارتفاع بمستوى معيشة الفقراء قريبا من المعدل العام للرخاء. والاسراف أمر نسبي يتأثر بدرجة الرخاء العام في المجتمع. ويضرب السيد الصدر مثلا على التبذير بأن ينفق احدهم جزء من امواله على اعالة مجموعة من الكلاب. هذا ما يتعلق بالقيود الموضوعية على التصرف بالثروة يقابلها حث المسلم على التطوع بما زاد عن حاجته للجماعة («ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو») [38] أي ما زاد عن الحاجة. كما اوجب الاسلام التكافل الاجتماعي، بأن يسد القادرون حاجات المعوزين ويعولوا غير القادرين على العمل.

القاعدة (11)

أن مستوى الفرد يجب ان لا يتجاوز بصورة حادة مستوى الرخاء العام للجميع وللدولة، وتقدير ذلك هو القيام بما يكفل عدم الاسراف.

الباب الرابع

مسؤوليات الدولة العامة

هناك مسؤوليات كثيرة للدولة من أجل تطبيق المبادئ الواردة في الابواب الثلاثة الاولى، وذلك بتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة في الشريعة الاسلامية وأهم هذه المسؤليات هي: ـ

مسؤولية الضمان الاجتماعي، مسؤولية التوازن الاجتماعي، مسؤولية رعاية القطاع العام وأستثماره باقصى درجة ممكنة، مسؤولية الاشراف على مجمل حركة الانتاج في المجتمع وأعطاء التوجيهات اللازمة بهذا الصدد، تفاديا لفوضى الانتاج ولتنمية الدخل الكلي، ومسؤولية الحفاظ على القيم التبادلية الحقيقية للسلع وأشكال العمل ومقاومة الاحتكار في كل مجالات الحياة الاقتصادية الذي يسبب ابتعاد الاسعار عن القيم التبادلية الحقيقية، وقد عبر السيد الصدر عن هذه المسؤوليات في نهاية دراستها وتفصيلها في هذا الباب بالقواعد التالية: ـ

القاعدة (12)

على الدولة أن تطبق العناصر الثابتة في الاقتصاد الاسلامي، وتحدد العناصر المتحركة وفقا للمؤشرات الاسلامية العامة.

القاعدة (13)

على الدولة من خلال ممارستها لتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة أن تحقق: ـ

أولا: ضمانا اجتماعياً يكفل حدا ادنى من الرفاه لجميع افراد المجتمع.

ثانياً: توازنا اجتماعياً في المعيشة بالتقريب بين مستويات المعيشة وفي الدخل بالمنع من الاحتكار وتركز الاموال.

ثالثاً: استثماراً بأعلى درجة ممكنة للقطاع العام مع وضع سياسة عامة للتنمية الاقتصادية.

رابعاً: عملا مستمرا في سبيل تقريب اثمان السلع وأشكال العمل نحو قيمها التبادلية الحقيقية، وذلك بمقاومة الاحتكار لكل ميادين الحياة الاقتصادية.

فارس أحمد الخليل

(1) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطيعة الثالثة عشرة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1980 ص33.

(2) محمد باقر الصدر، البنك اللاربوي في الاسلام، الطبعة الخامسة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1978ص 9ـ10.

(3) محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، الطبعة الثانية، وزارة الارشاد الاسلامي، طهران 1983، ص67 .

(4) محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، الطبعة الثانية، وزارة الارشاد الاسلامي، طهران 1983، ص67 .

(5) المصدر السابق، ص69.

(6) المصدر السابق، ص69.

(7) المصدر السابق، ص70.

(8) المصدر السابق، ص71.

(9) المصدر السابق، ص85.

(10) المصدر السابق، ص86.

(11) المصدر السابق، ص93.

(12) المصدر السابق، ص95.

(13) المصدر السابق، ص95.

(14) المصدر السابق، ص97.

(15) المصدر السابق، ص97.

(16) المصدر السابق، ص103.

(17) من المعروف أن علم الاقتصاد يعطي مفهومين أصطلاحيين مختلفين لكل من الادخار والاكتناز، ويعرف الاول بأنه الامتناع عن استهلاك جزء من الانتاج خلال دورة أنتاجية «سنة في الغالب» من أجل تحويلها الى استثمار في بداية الدورة اللاحقة، وهذا مفهوم تنموي ضروري للاتصاد، ويختلف عن الاكتناز الذي يعني تعطيل النقد عن القيام بدوره الطبيعي لتسهيل عملية المبادلة كما أنه أقتطاع جزء من هذه الاموال المعدة للاستثمار وتعطيله عن القيام بهذه المهمة بينما يستعملها الكاتب بمعني واحد كمترادفات!

(18)-

(19) سورة البقرة، آية 219.

(20) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطيعة الثالثة عشرة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1980 ص33.

(21) محمد باقر الصدر، البنك اللاربوي في الاسلام، الطبعة الخامسة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1978ص 9ـ10.

(22) محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، الطبعة الثانية، وزارة الارشاد الاسلامي، طهران 1983، ص67 .

(23) محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، الطبعة الثانية، وزارة الارشاد الاسلامي، طهران 1983، ص67 .

(24) المصدر السابق، ص69.

(25) المصدر السابق، ص69.

(26) المصدر السابق، ص70.

(27) المصدر السابق، ص71.

(28) المصدر السابق، ص85.

(29) المصدر السابق، ص86.

(30) المصدر السابق، ص93.

(31) المصدر السابق، ص95.

(32) المصدر السابق، ص95.

(33) المصدر السابق، ص97.

(34) المصدر السابق، ص97.

(35) المصدر السابق، ص103.

(36) من المعروف أن علم الاقتصاد يعطي مفهومين أصطلاحيين مختلفين لكل من الادخار والاكتناز، ويعرف الاول بأنه الامتناع عن استهلاك جزء من الانتاج خلال دورة أنتاجية «سنة في الغالب» من أجل تحويلها الى استثمار في بداية الدورة اللاحقة، وهذا مفهوم تنموي ضروري للاتصاد، ويختلف عن الاكتناز الذي يعني تعطيل النقد عن القيام بدوره الطبيعي لتسهيل عملية المبادلة كما أنه أقتطاع جزء من هذه الاموال المعدة للاستثمار وتعطيله عن القيام بهذه المهمة بينما يستعملها الكاتب بمعني واحد كمترادفات!

(37)-

(38) سورة البقرة، آية 219.