الشهيدة بنت الهدى؛ أساليب الدعوة وسرّ الانتصار

السيد فاضل النوري

<لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ>[1]

الإهداء

إلى الأستاذة الكبيرة ومنارة الدرب.

إلى العالِمة العاملة والواعظة المتّعظة.

إلى التي شاركت حسين العصر في

تكرار ملحمة كربلاء على خطى زينب.

إلى صوت المرأة المجاهدة في العراق.

إلى فداء الحق وقربان الرسالة.

أقدّم هذا البحث:

مقدمة

في حياة الشهيدة الطاهرة آمنة الصدر (بنت الهدى) معالم باهرة تضيء الطريق للسائرات، بل وللسائرين أيضاً بأعباء المسؤولية الإلهية نحو الهدف المنشود، وهو بسط لواء الإسلام على الأرض، وفي حياتها أيضاً سجايا فريدة هن نبراس للعاملات والعاملين تزيل ظلمات الخوف والحيرة والتردد، وتعمّق روح العزم والإصرار على سبيل الخدمة الخالصة لله.. إن تلك المعالم وهذه السجايا هي في الواقع إرث الزهراء وزينب(ع) لهذه الحفيدة الرشيدة التي جددت الخط والصرخة في عالم المرأة المسلمة الرسالية.

لقد جُسّد الإسلام بالمرأة المجاهدة مع أخيها الرجل المجاهد مصداق الريادة، الاثنينية المتوازنة لمسيرة الحق <وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..>.[2] <فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ..>.[3]

إن الإسلام الذي أخرج المرأة من قمقم الحجر والتوهين والاستعباد وسوء النظرة والازدراء والوأد، ووضعها في واجهة التصدي وصنع الأحداث، وتغيير وجه التاريخ، وضربها مثلاً للذين آمنوا في الإيمان والصبر والتحدي والصمود، ورفع لواء المبدأ الحق رغم كل الصعاب والمحن والشدائد التي قد يضعف أمامها الأشداء من الرجال.

إن هذه الرسالة التي رسمت للتاريخ وللأجيال صورة المرأة التي تريد صنعها على هداها وفي قالبها الخاص، من خلال عرض النماذج النسائية الخالدة في خط الرسالات، وإبراز الواقع الملموس لهن جنباً إلى جنب إخوانهن الرجال خلف رائد الإنسانية الرسول الأعظم صل الله عليه و آله قد رسمت إعجازها المذهل في التصدي والتدبير وتوجيه البشرية بأروع القيم والمثل والأساليب نحو كمالها وخلودها، وأبانت كذلك عنايتها الفائقة بالمرأة التي لم تزل طول المسيرة الإنسانية (سقط المتاع، وملهاة الأهواء والرغبات، وضحيّة التضييع).

فتحدّت تلك الرسالة أعراف البشرية وقوانينها الجاهلية المرسومة للمرأة، وحطّمت رأس الاحتقار كما حطّمت رؤوس الأصنام، وكما أبدلت الشرك المقيت القاتل بالوحدانية المنجية أبدلت عادات الجاهلية مع مظلوم التاريخ وأسير القيود (المرأة)، فرفعت الظلامة، وكسرت الأغلال، وصنعت ما هو محير للعقول، فعادت المرأة سيد نفسها وريحانة الحياة، وبان فضلها، وظهرت مواهبها وقابلياتها حين أزال الإسلام بيده صدأ الأيام التائهة، وغبار الأعراف والعادات عن جوهرة الوجود البشري، ونصف المجتمع، وشريك الرجل في صنع التاريخ، وبناء الحياة، وإعلاء أشرف كلمة في الكون وهي كلمة الله.

لقد لمعت في آفاق الشريعة المحمدية مفاهيم وأحكام للمرأة أطاحت بغرور الجاهلية بعد أن قاومتها طويلاً، فعادت هذه الإنسانة المضطهدة المجهولة القابليات إلى الوجود، وأعطتها من الحقوق والامتيازات ما فاق حتى ما أثبتته للرجل منها في بعض المجالات، ويكفيها أن كلمة (المعروف) اقترنت بها كثيراً في أدبيات هذه الشريعة وأحكامها <وَعٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ>[4]، <وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ>[5]، <فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ>،[6] وإذا كان لابد للرسالة أن تمتد ۔ وهذا هو حقها وحكم الله لها لأنها خاتمة الرسالات ۔ فلابد إذن أن تبتدع مقومات بقائها وخلودها، ومن أهمها دور المرأة الواعية المجاهدة في نشرها وتثبيتها.

وقد فعلت فأظهرت للعالم موكباً رائعاً من بنات حواء الصالحات العاملات، اللواتي ساهمن في صنع ملحمة الانتشار لتلك الرسالة في أقسى الظروف وأحلك المحن وأشد حملات الأعداء الداخليين من المرتدين والمتحللين، والأعداء الأجانب الصليبيين والصهاينة والملاحدة، والذين كادوا الرسالة وهي في مهدها وفي صباها وشبابها ولا زالوا.. وسجّلت المرأة على خط أهل البيت ۔ الذي تجسّدت فيه عصارة الإسلام الأصيل، وروح المقاومة للانحراف، ودعامة الثبات أمام الهزاهز التي تعرض لها ۔ أروع المواقف التي شهد لها حتى الخصوم بالروعة الفائقة، في مواقف الفداء والتضحية والعطاء من أجل المبدأ.

وتشرق في عصرنا الراهن شموس نسائية على طريق الهدى تنير السبيل لكل السائرين، ويشاء الله أن تكون (بنت الهدى) إحدى تلك الشموس الساطعة في بلد المقدسات (العراق)، تضيء أجواءه المدلهمة بأنوارها الإلهية، وتعطّر أرجاءه المتعفنة بعبيرها الفوّاح، وتفتح أبواب الأمل في نفوس المؤمنات، وتأخذ بأيديهن إلى معاذ الوعي وملاذ البصيرة، فيدخلن أفواجاً في صفوف العاملات المجاهدات في الوسط النسائي الذي كان مستهدفاً من قبل الباطل، لجعله وسيلة من أشهى وسائله إلى غاياته وأهدافه.

وقد نجحت بنت الهدى في مسيرتها، وفازت بمقصودها، وظفرت بكرامة الدنيا والآخرة، فكيف تمّ لها ذلك؟ وما هي الأسباب والسبل التي أدت بها إلى هذا المقام؟ وما هي الظروف الموضوعية التي مكّنتها من المقصد البعيد؟ وما هي الأساليب التي استخدمتها في تعاملها في وسط يعجّ بأشرّ ألوان الفتنة وخدائع الشيطان، ومكائد الإعلام المضلّل، ومنافذ الكفر الواسعة إلى عالم المرأة بأخبث الوسائل؟

في هذا البحث جواب هذه الاستفسارات، حيث سنتعرف على عظمة شخصية (بنت الهدى) وحكمتها النافذة وبصيرتها النيرة وعقلها الكبير وما أعطاها الله من ملكات وخصائص نالتها منه سبحانه بإرادتها أن تكون بنت الهدى المنتصرة على طريق الله.

تنويه

لقد أخذت الأرقام الشاهدة الخاصة في هذا البحث من أهلها من بنات الإيمان اللواتي عايشن بنت الهدى في بهاء سيرتها وروعة جهادها، وانغمسن في نور سلوكها الرفيع، فحفظن مفردات ذلك الشموخ الباهر في ذاكرة الإكبار والإعجاب، ليبدعا روح التأسي وعزمة الاحتذاء.

الاعتقاد بالحقوق الثلاثة

في نفس كل عامل ۔ أي عامل كان على أي منهج ۔ دوافع تأخذ بيده في الساحة على مستوى قوتها في نفسه وضميره نحو الهدف المرسوم، وبنت الهدى وهي في طليعة العاملين كانت في نفسها دوافع:

عزمها العملاق من خلال الواقع الفريد الذي تمثّل في تفرّد بنت الهدى في ريادة الصحوة النسائية في العراق على شدة المخاوف والأهوال، وظهور المرعبات على الطريق كأنهن رؤوس الشياطين، فلم تتراجع حتى وهي على شفا الموت تهدّد بما هو أفظع الخطوب في نظر الناس ألا وهو القتل.. لقد كان أهم دوافع الشهيدة هو اعتقادها الراسخ الذي لا يتزعزع بحرمة الحقوق الثلاثة: حق الله، وحق الشريعة، وحق الأمة، حق الله الذي يتمثل بالطاعة والانقياد والتقوى وأداء التكاليف، واجتناب المناهي، وحمل الأمانة الثقيلة، أمانة الإسلام موروثة من النبي المصطفى وآله الطاهرين، وهم يهيبون بأبناء العقيدة وفي الطليعة منهم علماؤهم الأخيار القيام بالواجب الأعظم وهو تبليغ الرسالة وصيانتها، فإن عبادة الله بأداء هذا التكليف هي أعلى درجات العبادة وأصدقها؛ لأنها عبادة المصداق الأروع للعبادة (الجهاد في سبيل الله)، ورفع لوائه، وبسط ظل شريعته في أرضه، وتلك هي مهمة الأنبياء وخلفائهم، وليس هناك مهمة أسمى منها.

لقد كان حضور حق الله في نفس بنت الهدى حضور العشق الفريد الذي أخذ عليها كل شيء في وجودها، فلم يبق شيء لسواه إلا ما يتعلق بحقه من فروع مثل حق شريعته وحق عباده.

وكانت فلسفة أخيها الشهيد الصدر رضوان الله عليه في حق الطاعة، وتبريره على الأسس المتينة التي يتهاوى أمامها مشروع (قبح العقاب بلا بيان) الذي تمسك به طلاب البراءة ۔كانت۔ تلك الفلسفة هي زاد روحها العاشقة، وكانت مظاهر الشعور بحرمة هذا الحق الرباني تتلألأ في قسمات وملامح الوجود الشريف لتلك العلوية الطاهرة، عبادتها الخاشعة، نشاطها الدؤوب في الله، أرقها، عناؤها للإسلام، وفاؤها، تضحيتها للدين، إيثارها، ونكرانها لذاتها.

إن معرفة ذلك الحق الإلهي بذلك الوعي وتلك البصيرة صيّر وجود بنت الهدى ساحة مقدسة تتسابق فيها الهموم للحق والهمم والعزائم والآمال، والسعي الدؤوب الذي حذف من قاموسه كلمة (الراحة) و(الغفلة)، وأبدلها بكلمة (طلب المعشوق).

وتفرّع عن حق الله في وعي بنت الهدى حق الشريعة، فما دام هو أصلها والآمر بها وبمعرفتها فإن حبيب المحبوب رغيب، وإن مطلوبه مطلوب القلوب، وما تعلقت به إرادته هو عروة الاعتصام، وما هوته مشيئته هو مهوى العاشق المستهام. وكان حق الشريعة كما عرفته بنت الهدى من وعيها الفذ، وتوجيه أخيها رائد الصحوة الفكرية في العالم الإسلامي، وعملاق الفكر الديني المعاصر، يتمثل في معرفة المنهج؛ لأن حقه في حرمته، وحرمته في معرفته، ومعرفته هذه تستدعي أخذه من منابعه الصافية، وعيونه النابعة من أصول الجبال وأعماقها.. فأجهدت بنت الهدى نفسها للبحث والدرس على يد ذويها الأبرار، وأخذت منهم نقاء الإسلام، وصفاءه وروعته، ووعي الرساليين الهادفين، ودرست عندهم معاني الإسلام، ونهلت من فهمهم المتميز فهم الشريعة كما بينه القرآن في بيانه الرسالي الهادف، وكما شرحته كلمات رسول الهدى وأهل بيته، وأن هذه الشريعة هي رسالة وثورة، وعقيدة، وجهاد، ومبدأ وحركة، وعمل ونظام، وقدرة ودين ودولة، فليس هو كما أراد أن يفهمه الآخرون من المتحجرين الخاوين، طقوساً جامدة وعبادات فارغة لا ربط لها بالواقع ولا شأن لها بالحياة.

العمل الصادق في إطار المنهج بعد معرفته، والسعي الدؤوب إلى أداء حق تلك المعرفة الملازم للبقاء في العهدة حتى براءة الذمة على فلسفة حق الطاعة، والتي تتسع حتى للمحتملات، حيث يتجسد الورع في أعلى درجاته، وصدق الاعتقاد في أبهى حالاته، وأن أول هموم هذا السعي وأهدافه هو نشر هذه الشريعة، وتثبيت دعائم وجودها في المجتمع من خلال التبليغ والتوعية والتفهيم، وإرشاد المغفّلين، وجذب المغرر بهم بالكلمة الطيبة، والسلوك الرفيع، وصدق الإيمان الذي هو أكثر أثراً في الإبلاغ من بليغ الكلام، والبحث عن شتى السبل الممكنة في الإطار الشرعي للنفوذ إلى أوساط الأمة، ووضع قاعدة (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) نصب العين حكمة في العمل؛ بغية الوصول إلى المقصود، فهي تخاطب الأخت المسلمة وتقول:

أنا أختك المخلصة الدائبة على تتبع آثارك، وتعقّب خطواتك بدافع الحب والعطف، وأنا أيضاً متطوعة مختارة لأجل قضية الإسلام، وحمل مشعله الوهّاج ما وسعني حمله وعلى قدر طاقتي وإمكانياتي في الجهاد، وأنا أيضاً من أريد أن أجعل من نفسي مثلاً ونموذجاً أجري عليه تجارب أدب الإسلام التي قد يظن البعض الجاهل أو المتجاهل أنها تجارب فاشلة، فأنا أريد أن أثبت لنفسي ما يحدّثنا به التاريخ الإسلامي من أمهات وأخوات لنا في صدر الإسلام ناهضن بثقافتهن أعاظم الرجال مع تمسّكهن بالإسلام وتعاليمه..

الجرأة في طرح الحقائق التي تتعلق بالهدف الأساسي من وجود الرسالة وهو التطبيق من خلال دولة يحكم بها عدل الله في الأرض، وتُحمى بها مكاسب هذا العدل من الشرور. وهذه الفكرة الإستراتيجية ۔التي أطبق الظالمون على دفنها مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وبأية وسيلة۔ كانت في الساحة الإسلامية في العراق، وفي أوساط الأمة، بل حتى في الحوزة في قائمة المحظورات الكبرى التي هي عبارة عن خطوط حمر لا يجوز لأحد أن يتجاوزها.. وقد تحالف الجهل والخوف والعناد في تلك الأوساط مع إرادة النظام الحاكم في فصل الدين عن السياسة، وإبعاد من يسمّيهم رجال الدين عن أمر الدولة، وحصر شؤونهم مع الناس في الصلاة والدرس والحقوق المالية…

لقد مارست بنت الهدى على خُطى أستاذها وأخيها الصدر هذا الدور الخطير وهي تعدّ نفسها لكل محتمل من البلاء، وقد واجهت في ذلك كأخيها العنت، وسوء القول، وقسوة الاتهام، وسهام التقريع، ووعيد التخويف. ولكنها قاومت هذا كله وسحقته بقدميها؛ لأنها كانت تحمل قلباً كأنه الصخر صلابة وقوة، حيث اعتصمت بعروة الله وقدرته المطلقة، وتحلّت بالمعرفة التامة واليقين بعاقبة الصابرين المضحّين في مقعد الصدق وفي مقام الشاهدين.

أما حق الأمة فقد علمته الشهيدة من كتاب الله وحديث الهداة الطاهرين، وتوجيهات أستاذها ودوره الرائد، ومن إحساسها في أعماق ضميرها ووجدانها بأن الجاهل لابد أن يعلم، وأن العالم لابد أن يفيد من علمه. وأن العلماء رسل الأنبياء إلى الأمم، وخلفاؤهم، وأن أهل البصيرة والوعي ملزمون بالتوعية والإرشاد يزيلون بهما ظلمات النفوس، وأسقام القلوب، ويفتحون مغاليق العقول التي سوّرها الضلال بأسواره الغاشمة، وأن قادة الأمة من حملة لواء الشريعة لا خيار لهم غير التصدي، وهذا التصدي بحاجة إلى قوة القلب ورسوخ الجنان، وأن دور القيادة يتحمل مسؤولية توعية الأمة وتفهيمها دينها ووظائفها المكلفة بها من قبل الله تعالى، والسعي بها بعد ذلك إلى مشروع إقامة دولة تحكم بالشريعة الإلهية المجيدة.

لقد عرفت بنت الهدى أن الغاية من الخلق هي العبادة من خلال أداء الأمة لواجبها إزاء الخالق بما حكم به العقل وأيّده الشرع من وظيفة العبادة وأحكامها <وَمٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ>[7]، ولهذه الغاية سخّر الله الأنبياء والرسل والأوصياء والعلماء، وجنّدهم وكلّفهم التضحيات على طريق هذا الهدف الأسمى، وكان دور التربية والهداية والتعليم أرفع أدوارهم وأولها.

عرفت بنت الهدى ذلك وأدركت أن الله ألزمها من خلال الدور الملقى على عاتقها لتحقيق الهدف الإلهي على الأرض (العبادة) بتصدّيها في عالم المرأة إلى مهمة البيان والبلاغ.

<وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ>.[8]

وإذا كانت الأمة المرحومة بالرسالة الخاتمة تطالب بحقها من ألطاف هذه الرسالة يقول لسان حالها لبنت الهدى وأمثالها:

(ما أخذ الله على الجاهل أن يتعلم حتى أخذ على العالم أن يعلّم).

فلا يمكن للأمة أن تنال من نِعم تلك المائدة السماوية العامرة إلا بالدلالة عليها والهداية إليها، وهذا هو واجب المعلّمين والهداة والمرشدين، فإذا قصّروا في ذلك ظُلمت الأمة وكان وزرها على من حرموها الهداية، وأي وزر أعظم من هذا؟! ويا له وزراً ما أثقله! ولا يناله العفو؛ لأنه تبعة من أكبر التبعات وأفدحها.

من أجل هذا نذرت بنت الهدى نفسها لأداء حقوق الأمة، وحرمت نفسها من راحتها، فبذلت جهدها وكل وسعها في سبيل توعية هذه الأمة وإرشادها إلى السبيل القويم.. من أجل ذلك كان مكان بنت الهدى الوحيد هو في أوساط بنات جنسها، تستقبلهن في البيت الذي حوّلته إلى مدرسة إسلامية كما فعل أخوها وأستاذها، أو تذهب إلى بيوتهن، أو مناسباتهن، أو معاهد وعيهن في الأماكن المعدّة للدروس الإسلامية، وتقطع لهذا المسافات الطويلة، وتبذل غالي الأوقات، وهي في غاية الأنس واللذة بما تجهد نفسها في سبيل الله.

الإحساس بالفراغ ومسؤولية ملئه

لقد كانت رضوان الله عليها تعلم يقيناً أن دور التبليغ النسوي شاغر، وأنه ليس فيه من يسده من بنات الإيمان بوعيها وأساليبها الناجحة، وأن الساحة مباءة التبليغ الضال تعبث فيها ذئاب الضلال كما تريد، تأكل العقول وتستبيح النفوس، وتجر أبناء الأمة أفواجاً إلى دياجيرها المطبقة.. لقد فكّرت في هذا الأمر مليّاً في ريعان الصبا الذي لم ينفتح إلا على الإسلام والقضية الكبرى قضية الرسالة التي يجب أن تسود على غيرها، وأن تكون كلمتها هي الحاكمة، وأعدّت نفسها لهذه المهمة الخطيرة، ونهلت من معين المعرفة الصدرية، وكلّفت نفسها وهي في أول الخطى أن تتصدى للعمل الرسالي النسوي، فكتبت لمجلة الأضواء مبتدأة عملها، مشيرة إلى اسمها…

ولكن الأجواء الحاكمة في وسط الحوزة في ذلك الوقت كانت تستثقل بروز صوت نسوي يدعو إلى الإسلام بسبب الإشكالات الناجمة من التحجر وعدم الوعي، ومن بعض الحساسيات، من هنا تم إرجاع موضوعها إليها مع الاعتذار اللطيف من أحد المتصدين في أمور المجلة، ولم تيأس بنت الهدى لأنها كانت مع عقيدتها الراسخة بحقيقة دورها، ومع دعم أخيها المعنوي، ومع علمها بأن الدرب شائك، وليس مفروشاً بالورود للعاملين المخلصين ولاسيما لمثلها؛ لذلك أعادت الكرّة فكتبت، ونشر لها أول موضوع، لكن لا باسمها بل برمز، اتقاءً من المسؤولين عن المجلة للخط المتحجر، وخوفاً من سهامه التي يخشون ضررها على وجود المجلة وهي في بداية انطلاقتها.. ومن تلك النقطة الصغيرة المحاطة بالإبهام والحذر والترقب والإشكالية المقيتة، انطلقت رسالة العمل الكبرى لرائدة الصحوة النسوية في العراق، ولو لم يكن الإحساس بالمسؤولية المقدسة يستحوذ على بنت الهدى لم نجدها تحوّلت من خلال كل تلك المعاناة والمكابدة المرة إلى مارد إسلامي نسوي أثّر أثره الكبير في هذا الوسط الحساس.

نذر النفس للإسلام والعزوف عن الدنيا

هاتان الصفتان الرائعتان هما من أعلى سجايا تلك المجاهدة الخالدة التي أعانها الله بهما على أن تعتلي أسمى المكانة في النفوس، وفي الواقع الذي كاد لها فكان الله معها حتى انتصرت أروع الانتصار.

لقد صمّمت(ره) على أمر فريد وخطير في حياة مثلها لا نكاد نجد له شبيهاً في التاريخ إلا في مريم المنذورة لله، الخالصة لوجهه، المتمحضة للعقيدة والمسؤولية الثقلية.. لقد وقفت نفسها لرسالتها، متناسية ذاتها وما فيها من الدواعي التي تكون لدى غيرها حتى من خيرة الصالحات، فخطّت بالعلامة الحمراء على شيء مهم وأساسي في حياة مثلها وهو الزواج، فبات مرفوضاً رفضاً حاسماً، وردّت الرغبات المحترمة حتى من الواعين الأجلّاء كالشيخ الآصفي بالاقتران بها لتكون عوناً لهم في حياتهم الرسالية الهادفة.

ولقد تطلّب هذا الإقدام الفذ على (نذر النفس) قضية كبيرة مهمة ما أمكنت ولا تحققت لغير بنت الهدى، مع كل ما يتوفر لديها من عوامل القدرة والنفوذ والوصول إلى المنى عند بزوغ نجمها المتألق الباهر، وتلك القضية هي العزوف عن الدنيا، وحذف وجود حبها في القلب، رغم أنها حق أقرّته الشريعة لبني البشرية، وهو من أهم مطلوبات بنات جنسها.

نعم، كان لديها ظاهر من الدنيا فرضته عليها مسألة الوظيفة الشرعية المقدسة، ولم يكن له ربط بتوجهات قلبها النافر من القشور الترابية، فلأنها كانت مهوى النساء، ومحور العمل الإسلامي النسوي، كانت مقصد الراغبات في اللقاء بها أو اللواتي لم يكنّ ينظرن للمتدينات إلا نظرة تثير الاشمئزاز حول أفكارهن وحول المضمون والظاهر، وأنهن لا يعرفن غير سجّادة الصلاة، ومسبحة الذكر، وكلمات العجائز حول الموت والقيامة، وقصصهن ومواعظهن البالية المليئة بالخرافات والأساطير، أما حين تجد هذه المجموعة من النساء المتحضرات إن صح التعبير امرأة كبنت الهدى مثلهن في المظهر المواكب لروح العصر والمدنية، ولا تتحفظ عليه الشريعة لمثلها في مثل دافعها وهدفها، وتتكلم لهن بلغة العصر وبألوان الأساليب البيانية التي تعتبر ثقافة المتنورات، ومنطق المثقفات، مما لا مراء لإحداهن في أنها الفضلى المؤدية إلى الغرض من إزاحة الشبهات، وتثبيت الحقائق، وبها وحدها يمكن إلزامهن، وعن طريقها يمكن جذبهن، إنهن عند ذلك وبحرارة الإعجاب تتبخر لديهن تلك الصورة الكئيبة القاتمة عن المرأة المؤمنة، وتحل مكانها صورة الملاك العصري الذي يستحوذ على قلوبهن فلا يخرجن من محضره إلا بالحب والاحترام والانشداد الروحي الذي قد يغير في اللحظة، ويعيد إلى الرشد والصواب في أقصر الأوقات.

وما دامت بنت الهدى على يقين بأن <ما عِندَ اللَّهِ باقٍ> فاللحاق سريع، والأزوف وشيك، واللقاء مع البقاء الأسمى في منتهى المنى قريب؛ لذا كانت رضوان الله عليها تهتز عندما تقرأ هذه الآية: <قُل إِن كانَ آباؤُكُم..>.[9]

وهي تنسجم أبلغ الانسجام وأروعه مع مضمونها التحذيري العجيب من بريق الدنيا وخداعها وأحابيلها، وقد رأت أنها قادرة على أن تسحقها سحقاً فريداً لم يتح لغيرها من بنات جيلها، فاتّكلت على حبيبها الوحيد وهو ربها الذي عشقته منذ نعومة أظفارها، وذابت في نور رسالته وعبير شريعته، وانطلقت في عملية الإعراض عن بهارج الحياة الفاتنة انطلاقة خلّابة تخلّدت بها بنت الهدى في صف (العظماء) والنماذج الفريدة.

فلسفة التأسي

إن للأسوة في الحياة تأثيراً بالغاً جداً، وقلّما نجد إنساناً لم يتأسّ في حياته بقدوة يحترمها وشخصية يكبرها في نفسه، ونموذج يراه الأروع الأفضل يحذو حذوه، ويسير على خطاه، وحتى الذين لا يظهرون أنهم قد تأسّوا واقتدوا في حياتهم فإنهم في اللاشعور يحترفون ذلك الاقتداء، ويندفعون بقواه المؤثّرة وإن لم يشعروا.. ولحقيقة تأثير القدوة في الحياة أكد الإسلام على مسألتين مهمتين جداً:

أولاهما: أن يكون خيرة التأسي ممن يحملهم ربهم المسؤولية الرسالية، قدوة للآخرين بأعمالهم الحميدة، وسلوكهم الرفيع، وصبرهم على منهج الالتزام، وخط التحفظ من المشينات، وتوافه الأمور وصغائرها (كونوا لنا دعاة بأعمالكم) ليرى الناس زين المنهج الذي يتبنونه بزين فعال الداعية إليه، وينقطع عذر المتعللين بعدم القدرة وغيره؛ لأن الوقوع أدلّ دليل على الإمكان كما يقولون، وبذلك يكون الأسوة حجة لله في واقع الممارسة، وحقيقة المشهد المحسوس.

وثانيتهما: أن يقتدي الآخرون بصفوة البشر، ويسيروا على مثالهم، ويمشوا على منوالهم، ويتخذوهم مناراً للالتزام به، والأخذ بمنهاجه؛ ليكون هؤلاء المتأسّون بصدق التأسّي وشهادة التجربة للواقع الملموس على ذلك أسوة لغيرهم، إذ لابد لكل جيل من أسوة، ولكل محيط من نماذج اقتداء تكون برهاناً على الحق بحسن الالتزام، وداعيه إليه بالسلوك الرشيد، وحجة على الآخرين بحقيقة التجسيد الرائع.. . من هذا كله نعرف لماذا جعل الله رسوله وأهل بيته قدوة للمسلمين، وندرك أن وظيفة الاقتداء بهم أوجدت المعجزات في صنع النفوس، وصبّ القلوب في قالب التأّي، لتخرج وكأنها نسخ طبق الأصل من المقتدى به، لتكون وسيلة لاستمرار تأثير القدوة الأصل، وبقائها حية في الواقع.

وكانت من معجزات ذلك التأسي بهم شخصية الشهيدة بنت الهدى التي جعلت سيدة النساء فاطمة الزهراء وابنتها العقيلة زينب(ع) مثالها في الحياة، ونموذجها الذي صبّت في قالبه وجودها وسلوكها.

لقد أخذت من الزهراء علاقتها المبكرة بالإسلام منذ الصغر، بعد أن نهلت معرفته ووعيه من معينه الصافي في البيت في رحاب أخيها كما نهلته أسوتها الزهراء في رحاب أبيها، وكانت لأخيها منذ البدء في الخط عوناً على المشكلات، ومسلّياً عن الهموم، كما كانت الزهراء لأبيها كذلك…

سلكت طريق الجهاد والمكابدة والتحمل من أجل الخط والخروج إلى ميدان النضال والمقاومة كما سلكته من قبلها قدوتها، وشكّلت عنواناً لرفض الظلم والانحراف، والوقوف بالصرخات الرافضة في وجه الاستبداد، والاستهتار بالأصالة، والخروج عن سواء السبيل…

وقررت بصدق الاقتداء وقوة العزيمة فيه أن تؤول مآل قدوتها البتول، ضحيّة الرسالة، وقربان الرفض، ونبراس الفداء، شهيدة خالدة في الأرواح والضمائر.

ولم تنس طبعاً أن تأخذ من الزهراء بلاغتها ونبوغها الأدبي لتسخّرهما في مجال الخدمة والتبليغ، وكما خطبت الزهراء ووعظت، وشرحت فلسفة الإسلام ببيانها الساحر، كذلك فعلت ابنتها المتأسية بها، فاستخدمت الجانب الأدبي وسيلة للخدمة الصادقة، وطريقاً إلى العمل الرسالي البنّاء.

وأخذت من زينب البطولة والجرأة في ذات الحق، ومرافقة حسين العصر على الدرب، معاهدة إياه على المشاركة في الثورة، وإيصال صوتها، وإبلاغ رسالتها، وجسّدتها في صرخاتها لأسماع الظلمة والطواغيت، تعرّيهم، وتفضح زيفهم، وتكشف للناس خداعهم الذي مارسوه للتضليل والإغواء، وصدّ الأمة عن شريعتها وقادتها الحقيقيين.

وكانت صيحاتها التاريخية في حرم جدها أميرالمؤمنين وفي جموع النساء عند اعتقال أخيها الصدر يجسّد العنفوان الزينبي أمام جموع أهل الكوفة تستثير مشاعرهم، وتحرّك نخوتهم، وتؤنّب ضمائرهم وتحركهم للثأر.

وكانت وقفة بنت الهدى التاريخية أيضاً أمام الجلاوزة الذين جاؤوا لاعتقال أخيها وهي تقرّعهم، وتسحق أنوفهم بحذاء الاستخفاف، وتصبّ على رؤوسهم جام غضبها بمنطقها البليغ مثالاً رائعاً يعيد إلى الأذهان الموقف الخالد لبطلة كربلاء أمام عبيد الله ويزيد وجلاوزتهما، تزلزل الأرض من تحت أقدامهم بتقريعها وبلاغتها.

كانت رضوان الله عليها تلهج بذكر سيدة النساء وابنتها الحوراء، وتؤكد على قضية الاقتداء بهما في محوري العفاف والحشمة وروح الجهاد والخدمة.

ومما لا يجوز إغفاله هنا إنصافاً للحقيقة أن نذكر أن بنت الهدى تأسّت كذلك بأستاذها ومربيها وأخيها الصدر تأسّياً جعلها تجيد مزج نور الفهم والاقتباس بعطر العزم والتصميم، لتكون الحصيلة ملاكاً مهيباً يطل من سماء الاقتداء، يأخذ بمجامع القلوب، ويدهش الألباب.

البصيرة بالواقع والأساليب

لا شك في أن أي متصدّ، وعلى أي صعيد، وفي أي مشروع، لابد له في مساعيه إلى النجاح من دراسة الظروف الموضوعية التي تحيط به، ومعرفة الأساليب الناجحة في معالجة معطيات تلك الظروف لبلوغ الهدف، وسلوك سبيل الحكمة والتدبير في التعامل مع الواقع بما تفرزه ملابساته، في مقتضياتها من السبل والوسائل الكفيلة بالوصول إلى الغاية من إيحاءات للحل، وشفرات لفتح الأقفال تحتاج إلى تحليل صائب.

ويستوي في هذا الموضوع كل العقلاء المخطّطين لنيل مرتجياتهم سواء كانوا أنبياء أو مصلحين أو سياسيين أو غير ذلك، وحتى رب العزة سبحانه وهو القادر القاهر يتعامل مع ملابسات الواقع وأجوائه وظروفه تعامل من لا يريد أن يقهره بسلطة خارجة عن الشروط الموضوعية للتعامل مع واقع الأرض.. ومن أجل هذا يعاني أنبياؤه الكرام الأمرّين من مشاكل ذلك الواقع، وطريقة الخروج منها إلى المأمول، ويسلكون كل مسارب الحكمة والبصيرة في المسير نحو التغيير، بعد معرفة المحيط وما يكتنفه من أوضاع ليكون الأسلوب في الاحتكاك به على ضوء معطيات النظر الدقيق في شؤونه وحالاته.

وبنت الهدى طاب ثراها هي على سجية المتصدين الأخيار في دراسة الواقع الذي تريد أن تقوم فيه بدور التغيير، واختيار الأساليب التي تؤدي إلى المطلوب، ولأن توجّهها الأهم نحو المرأة المسلمة التي اضطهدها الانحراف، وضلّلها المجرمون، وأبعدوها عن مسيرها القويم في ظلال دينها ورسالتها، كان لابد لبنت الهدى أن تختار الطريق التي غزيت من خلالها المرأة ثقافياً وعاطفياً، فرأت في المنحى الأدبي والشاعري وبالأخص (القصة) أهم تلك الوسائل والسبل، فسلكته وأبدعت فيه قصصها الرائعة التي عالجت الضياع الذي سيطرت متاهاته على الوسط النسائي، وكانت تحفها القصصية (الفضيلة تنتصر، امرأتان ورجل، الباحثة عن الحقيقة، الخالة الضائعة، لقاء في المستشفى).

التحرك باتجاه الطليعة

ركّزت بنت الهدى على الوسط المثقّف في الجامعة، وسعت إلى الارتباط به نفسياً والاقتراب منه ما أمكنها ذلك؛ لعلمها أن الشابات في الجامعة هن عماد المستقبل، ويمثّلن أمل الإسلام، وهن اللواتي يحملن مشعل القرآن بوعيهن وشخصيتهن ونفوذهن في المجتمع.. وكانت لبنت الهدى على هذا الصعيد لقاءات وحوارات وجلسات كثيرة مع هذا الوسط من الأمة، ورتّبت فصول تدريس في بغداد، وحلقات توعية لهذا المحفل النسائي الكريم في بيتها وأماكن أخرى، واجتذبت لجهودها المباركة أفواجاً من حرائر العراق، ونفذ مشروعها الإيماني في الصفوف التي جنّدها الباطل في عالم المرأة، فأصبحت الشابة المثقفة الواعية أهم عنصر من عناصر المواجهة الإسلامية العصرية قدرة نافذة للإسلام لغزو الظلمات في عقر دارها تبدّدها كما تبدّد الشمس الساطعة حالكة الدياجير.

وركّزت الشهيدة على معالجة جانب الشبهة في ذهن المرأة، فهي تعلم من خلال مخالطتها الدؤوبة بالمثقّفات ۔ ومطالعتها اللازمة لكتب الضلال وحراب الغزو الفكري التي استهدفت نصف المجتمع ۔ أن دور الشبهة والفرية على الإيمان والإسلام هو النار التي أجّجها أعداء الدين في عقيدة المرأة المسلمة والتزامها، فكادت أن تأتي عليهما لولا أن قيّض الله جنوده الواعين وفي الطليعة كانت بنت الهدى، فردّوا الشبهات، وذادوا عن حياض القرآن، وأعادوا إلى معقل المرأة حصانته ومنعته وقدسيته، وصيّروه معسكراً للحق تتدرب فيه المرأة الرسالية على فنون المواجهة الثقافية والفكرية لتخرج لبوة ضارية على فلول الضلال، ورسول نجاة لبنات جيلها، وملاك سكينة للمتعبات المرهقات في أطواق الحيرة والعذاب.

إنها تقول على لسان الصفوة المجاهدة من بنات الرسالة:

غد لنا مهما ادّعى ملحد    وارتجلت مبادئ وافدة
غدلنا إذا صمدنا ولم    نضعف أمام العصبة الجاحدة

 

إن جُلّ وقت الشهيدة كان لتلك الطليعة في العمر والثقافة، أي الشابات الجامعيات والمثقّفات، وكن يحظين بالاهتمام الفائق عندما يأتين إليها في بيتها في النجف أوفي مقرّ نشاطها في الكاظمية، ولم تكن تضيق بواحدة ممن يقصدنها أو تقصدهن للفائدة، وكن يجدن عندها صدراً رحباً برحب الفضاء يتّسع حتى للهفوة والقسوة واللجاجة الشاذة، أو ما قد يبدر أحيانا من سوء الأدب، ويكون موقفها الملائكي جواباً شافياً يرد الأمور إلى نصابها، ويحوّل اللجاجة إلى استسلام، وسوء الأدب إلى غاية الاحترام…

عندما كانت الشهيدة تحاضر في بيتها حول موضوع (التبرج وحرمته) وفيما هي في حديثها هذا إذ قالت إحدى الحاضرات: (ولكن يا علوية إن النفس تشتهي أحياناً) فلم يكن من الشهيدة إلا أن تردها بابتسامة مشرقة مشفقة، وعتب من عينين حانيتين، وراحت عيون الحاضرات تلاحق المتحدثة بالغضب والنفرة، حيث لم يصدر من الشهيدة أي شيء يجعل تلك الأخت في موقف حرج أمام الأخريات…

مثل هذا حدث يوماً في بيت الشهيدة وقد آن وقت صلاة المغرب وكان لديها وافدات حديثات عهد بمعرفتها، ولعلهن حديثات عهد بالالتزام أيضاً، وهي مسترسلة في الحديث الشيق معهن فقامت إحدى الحاضرات لتصلّي، وبعد أن أتمت صلاتها التفتت إلى الشهيدة وقالت (لماذا تتساهلون بالصلاة وأوقاتها؟) فالتفتت إليها وهي ترى وقت الصلاة بعد في أوله لتجيبها برفق عطوف، وهي تستغلّ هذه البادرة لتعطي الدرس النافع (وهل عندنا غير الصلاة؟ وكيف نتهاون بها، ونحن نعلم أن وصية كل نبي ووصي نبي هي الصلاة، والمحافظة عليها، وأن من استهان بها لا ينال شفاعة الرسول وأهل بيته) قالت هذا وهي تتذكر جدها السبط في كربلاء يقول لمن ذكر أمامه وقت الفريضة: (ذكرت الصلاة، جعلك الله من الذاكرين).

صدق النية

لقد تضمّن وجود بنت الهدى ضميراً حياً شفّافاً تجسّد فيه حضور الله ورقابته بأعلى حالات التجسد، وقلباً عاشقاً تيّمه حب الحقيقة السامية فاستباحه، وصيّره حماه المصون من عاديات العلقة بسواه. واحتوى كيانها روحاً ملائكية تمشي مع الناس تخدمهم إلى أجل مسمّى تری هذا الإنسان طاقة الإنسان القادرة على أن تسمو، وأن تصبح في صف الملائكة.

لقد عمّر الإيمان الصادق الراسخ كالجبل الراسي الأشم قلب تلك العقيلة من عقائل الفضيلة الزاهرة من هبات أهل البيت، وإرثهم الجاري في الدماء، فهم أهل المحامد والمكارم والخصال الرفيعة، تناقلتها الأصلاب الشامخة عبر الأرحام المطهرة.

لقد عاشوا عالم الصدق، فقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه فما وهنوا في المواقف، ولا ضعفوا عند الملمّات، ولا استسلموا للهوى والنزعات، ولا استجابوا لداعي الغريزة العشواء.

طووا الدنيا طيّ المنازل، وازدروا بها ازدراءهم بالتراب، أرادتهم فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، فهم متيّمون بما أعطاهم الله من حلاوة قربه ولذة وصله.. لقد صفت أنفسهم من كل شائبة وتنزهت نياتهم من كل شوب ولبس.

إن صدق النية هو السر وراء تلك المناقب والمفاخر التي حازتها بنت الهدى كما يحوز الغوّاص المغامر الصبور أبهر اللآلي، وهو المحرك لتلك المواقف المتفردة بروعة الجلال في جهاد العقائل، واحتمال الحرائر في تاريخ المرأة التي صنعها القرآن.. لقد كانت نيتها تبراً نقّاه لهيب النوائب والمصاعب من أوشابه في غمرة الآلام، ومرارة الصبر وجرعة الغيظ المكبوت بقدرة الحلم والتعفف، فكان ذلك العسجد الفريد الذي زيّن حياة بنت الهدى بزينة الشمائل والقيم وخصائص اللطف الإلهي.

لقد كانت صادقة مع ربها، وأيّ صدق نية أسمى مما احتواها من توحّد الله بها، وتفرّده بنفسها وسيطرته التامة على قلبها، ما لم تُبق معها لسواه غير الرفض والحرمان المرير.

وكانت صادقة النية مع دينها فالتزمته كعبة تطوف حولها طوافاً واصباً لا هوادة فيه، فوقتها كله له، وجهدها جميعه في وجوده، ومشاعرها على سعتها ورقتها ووثبتها وقف مطالبه وشؤونه.. لقد وعته وتفهّمته وغاصت في معانيه العالية ومراميه البعيدة، فانسجمت مع روح مقاصده، وذاب وجودها فيه لتعود أسيرة هواه، تلتذ فيه بما لم يخطر على البال النافذ من أفانين اللذة وألوانها، فحق لها إذن أن تهيم فيه هيام الفراشة بالنور ولو جرّها إلى الاحتراق.

وصدقت النية بأشرف أفانين الصدق مع أمتها، فوهبتها راحتها لراحتها، وشأن ذاتها لشأن سلامتها، وأصبحت وهي تذوب في الله ورسالته علاقة فريدة بربها وعباده الذين جعل وصلهم به أمانة في أعناق العلماء المصلحين، وجهاد المتقين، وصار رعيل المرأة في وجود بنت الهدى أمراً مقدساً، وأمانة مفروضة، وصار الفكر الدائم بهذا الرعيل من ذات الفكر ببارئه، ومن ذات الفكر بشريعة ذلك البارئ العظيم.

وصدقت بنت الهدى في احتمال أمانة المسؤولية صدقاً لم يسبقها فيه في عراق المحنة الفقماء إلا أخوها صدر المكارم والجهاد والتضحية، ومشت على درب تلك المسؤولية الكبرى التي هاب أثقالها الكثيرون ممن تذرّعوا بالتقية، أو تشبّثوا بالانتظار، أو ذابوا في مصهر اليأس فقعدوا مع الخوالف والمتربصين، ومنهم بادون على تلال العزلة في أسار الخوف الجامح يسألون عن أنباء القرابين، وما هابت هي مع أنها الأنثى التي ينبغي لها العيش الآمن من القواصف بين رعود الطغاة، ووعيد الجناة، وكواسر الطريق المتوثبة.

المؤهّلات الشخصية والمميزات الذاتية

تفرّدت الشهيدة (بنت الهدى) بخصائص عزّ نظيرها في وسط العاملات المجاهدات، وكانت تلك الخصائص من عوامل النجاح الفريد الذي لقيته في مسيرتها الظافرة.. وإن يكن بعض تلك المواهب ذاتياً، بمعنى أنه لم يكن لها دور في اختياره، فإن رغبتها وحكمتها في توظيفه للخدمة الإسلامية هو وسام الشرف الذي يزيّن صدر هذه الإنسانة المقدسة التي عرفنا أنها نذرت نفسها خالصة لله لم يشركه أحد في توجهاتها وطاقاتها.

لقد كانت تمتلك جاذبية فائقة تستحوذ بها على محاورها وجليسها، ولا مبرر لهذه الهبة الإلهية التي يعزّ بها عباده العاملين إلا لطفه سبحانه <وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي..>[10].

وكان لديها رضوان الله عليها قابلية التحمل للأذى والتعب والإرهاق، فهي لا تكلّ ولا تملّ، ولا تعتذر عن عمل الخير بسبب مرض أو ألم أو نصب، فطالما تراها وهي في إحدى تلك الحالات ۔ التي تعتري الإنسان في سيره فتقعده حيناً أو دهراً ۔ تؤدي وظيفتها وكأن شيئاً لم يكن، ولا يحس الجالس إليها أنها تعاني من مكروه ألمّ بها، فهي تشعر أن عملها المقدس الذي وظّفت نفسها له لا يمكن التراجع أو الاعتذار عنه، ولا فرق عندها بينه وبين إقامة فرائض الصلاة التي لا تسقط على أي حال دون مسوّغ شرعي.

وكانت الشجاعة والجرأة من مميزاتها العجيبة، فرغم أن طريقها محفوف بالمخاطر، وحركاتها مرصودة من قبل طغاة العراق، ويصل سمعها الوعيد والتهديد ونذر الشؤم، وتأتيها أخبار الممارسات الإجرامية التي تفوق الخيال في حق العاملين والعاملات في سجون الجلادين، رغم كل هذا كانت لا تزداد إلا صلابة وعناداً وإقداماً، كأن الوعيد مِحدّ تسنّ به صارم العزيمة في نفسها لتعود أعلى مضاءاً، وأبعد غوراً في الاستبسال، وناهيك بموقفها حين واجهت الجلاوزة بفظاعات التقريع والتشفّي الذي يفوق البصق في وجوههم، وتمريغ أنوفهم في التراب، وموقفها يوم خرجت على أعين الأشهاد في وسط الملأ في النجف تستنهض الأمة لنصرة قائدها، وإيقاف الظالم عند حدّه، وهلمّ العجب في موقفها حين جاءتها زمرة البغي لتقودها إلى بغداد خلف أخيها بعد اعتقاله الذي استشهد فيه، فقد خرجت إليها كأصلب ما تكون، غير هيّابة، ولا متخاذلة ولا مولولة، كما هو شأن بنات جنسها في أمثال هذه الخطوب الجائحة والنوازل القاصمة.

وحسْب المرء هذه المصاديق دليلاً قاطعاً على حقيقة البطولة الإيمانية التي تحلّت بها تلك العاملة الاستثنائية في تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، ولو لم تكن شجاعة جريئة لقعد بها الخوف عن أي نشاط إسلامي هادف؛ لأنه يدعو للتغيير وعودة العدل الإسلامي، ولصار حالها حال غيرها ممن قعدوا وسكتوا، وممن قعدن وسكتن؛ خوفاً وتقية وابتعاداً عن مواطن الهلكة.

كانت الرصانة الكافية ومتانة الشخصية والوقار المهيب من صفاتها المؤثرة إيجاباً في حركتها، وكانت موزونة الخطى، مدروسة الحركات والكلمات، تسوسها حكمة فريدة في القول والعمل، تتعامل بها بسياسة المؤمن الكيّس الفطن النابه البصير. وكانت هذه المحامد من موجبات نجاحها وأسباب فلاحها.

كانت البشاشة الساحرة من روائع خصالها المحيّرة، فالبسمة وطلاقة الوجه لا تفارقان محيّاها مع تلميذاتها وزائراتها <وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ>[11] وكانتا أول المفاتيح التي تفتح بها القلوب، تمهّد للكلم الطيب والهدي النافع والموعظة الناجعة…

ومن أغرب ما شوهد من سلطان الارتباط بهذه البشاشة والطلاقة لدى تلك المجاهدة ولزومه لها لزوم قلبها وروحها، أنها كانت لا تفارق هذه المنقبة حتى في أحلك ظروفها، وأشد ساعاتها سوءً، فكانت تهشّ لزائراتها في أقسى أزماتها.. . قصدتها إحدى مريداتها في ليلة من الليالي وفي ساعة متأخرة على إثر نوبة نفسية حادة، واضطراب روحي شديد؛ بسبب ظروف قاسية كانت تمر بها الحوزة والحركة الإسلامية على أيدي جلاوزة بغداد، وطرقت الباب، وكانت تظن أن أهل البيت قد استسلموا لبعض سلطان النوم، وخرجت لها زوجة الشهيد بحفاوتها المألوفة، وأخذتها إلى داخل البيت فجلستا في وسط الدار حيث عرفت الزائرة أن (بنت الهدى) قد أخلدت للراحة، وما هي إلا لحظات حتى رأتها قد أقبلت وطيور الكرى تداعب عينيها، وهي بطلاقتها المعهودة وبشاشتها المشهودة وقد عزفت عن نومها.

إن ما امتلكته الشهيدة السامية من صفة التواضع التي زيّنتها بأروع الزينة، ورفعتها إلى أسمى مقام، قد فتحت لها أبواب النفوس على مصراعيها، لترحّب بمقدمها إلى مكانة الإكرام والاحترام، تواضعت للجميع فأحبّوها حبّاً جماً.

ولم يصرفها مجدها ولا عزّها، ولا مستواها الرفيع من المنزلة، ولا حَسَبها، ولا ما بلغته من الشأو والكرامة، عن أن تعامل الأخريات بمنتهى اللطف والمحبة والتواضع، بعيداً عن أي لون من ألوان التعالي، أو الإحساس بالأنا، أو الشعور بالامتياز، أو الرغبة في إفهام الآخرين أنها شيء يفوقهنّ، وأنهن أشياء دونه.. .

تراها زائرتها في لباس تواضعها فيبهرها حسن هذا الثوب الخلّاب فتسلم مقودها لهذه الشخصية الكبيرة المتواضعة التي ما دعاها ألَقُها ولا صيتها الصاعد الرنان أن تنظر الناس من عل، أو تشمخ بأنفها عليهم. بل كان عزها المتناهي لا يزيدها إلا ذلة أمام المؤمنات وفي نفسها، وهكذا هي النفوس العظيمة بإيمانها وجهادها، كلما عظمت معرفتها بربها تواضعت لخلقه، وكلما شمخت بإيمانها وسمقت تذللت للعباد، ونزلت فيهم كأدنى منزلة أحدهم، ولا غرو فرسول الحق أعظم إنسان في التاريخ كان يؤاكل العبيد، ويجالسهم على التراب، ويقول لمن يهابه ويضطرب أمامه: (هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد).

وكان من سجاياها التي حبّبتها كثيراً للنفوس ۔التي التقتها واستمعت لها وأنست بها۔ لغتها العذبة في الحوار، ومنطقها الأدبي الشائق، وكلماتها المعسولة، وألفاظها المهذّبة، واستخدامها لغة العصر، وأساليب الثقافة المستحدثة التي تثير الإعجاب بها لدى مستمعتها، وكانت مجاراتها غير المسرفة للزمان في المظهر والكلام من العوامل التي جعلتها لدى من يلتقينها قدوة الدين المنفتح على الحياة، المجافي للتزمّت والانغلاق والتحجر.

كانت هي تذكر أحياناً لخواصها من أعوانها أن دافعها للباسها الأنيق هو العناوين الثانوية للخدمة والجذب للإسلام، ولولا ذلك لما كان لها إلا ما يراه أولئك الخواص منها معهم من البساطة المتناهية، كأنها تريد أن توحي للمتأنقات المسرفات ۔ حتى من نساء العلماء وبناتهم في الأناقة والتباهي بها، ومنافسة الأخريات ۔ أن هذا الهدف المجرد من المعاني الخيرة السامية هو ضرر على الإسلام والحوزة؛ لأنه إسراف بلا مبرّر، وبذخ بلا مسوّغ، وفيه فتح لأبواب التهمة، وتذويب في مصاهر الدنيا لنفوس يجب أن تحالف الزهد والإعراض عن الدنيا إلا ما ألزمت به أو حبّبته الشريعة، وكان فيه غبطتها ومصلحتها.

بنت الهدى كانت شاعرة، فقد كانت تدرك بقلبها المرهف النافذ سبل النفوذ إلى الوجدان من خلال التعابير التي تجسّد الأحاسيس والكلمات التي ترسم صورة النفس، والحركات والسكنات التي تمثّل مرآة الباطن الطهور، الذي تختزن فيه بنت الهدى لجليسها كل الحب والحرص ورجاء الخير في أعلى الدرجات.

وكانت لهفة الكسب إلى صف الله، والجذب إلى رحابه تجيش في أحنائها، وتسيطر على كل مشاعرها وتوجّهاتها، وتجعلها على نهج جدّها الرسول الدوّار بطبّه، الذي لا يستنكف أن يقصد كل مريض، ويسعى في شفاء كل سقيم مهما كان داؤه، ويكون أسعد أيامه ذلك اليوم الذي يرى فيه أنه قد رفع إلى رحاب الله إنساناً جديداً، ولا مغنم له من ذلك إلا رضاه سبحانه، وهو منتهى مأموله ومشتهاه.. .

ومن أروع ما جذب النفوس إلى بنت الهدى، وجعلها فيها ذلك الملاك المقدس المعشوق ۔الذي تطوف حوله المشاعر والأحاسيس بكل ضراعتها ولهفتها وشوقها۔ هو أنها كانت عالمة عاملة، واعظة متّعظة، آمرة مؤتمرة، ناهية منتهية، تدعو إلى الإسلام وهي مثال التجسيم له، وتهدي إلى الصلاح وإلى الصراط المستقيم وهي محض صلاح واستقامة، فلم تكن يوماً ممن يعنيهم التعنيف الإلهي:

<يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ>.[12]

لأنها كانت عملاً يسبق المقال، وفعلاً قبل الدعوة إلى الفعال، والتزاماً يدعو بخير ألسنة الدعاية إلى الهدى، واعتصاماً يحضّ على الخير فاق الوصف في كل مدى.

من هنا كان لسانها الهادي نافذاً إلى القلوب، ساري العطر إلى المشام، وكان قولها مؤثراً في النفوس تأثير أرقى المشاعر في أرق الأفئدة، وكأن لكلامها سلطان جاذبة الأرض. وقد جعل لها الله سبحانه لحبها له وتعلقها به حباً جماً في الصدور، وتعلقاً فريداً من الأرواح، وصدق حيث قال: <إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدّاً>[13].

وكان لديها القدرة الكافية على احتمال مرّ الصبر في المداراة، ومقاساة طبائع الناس، وإعطاء كل موقف وكل شخص حقه من لون التعامل والكلام وأسلوب الحوار.

ومن المعلوم أن قاصداتها ومن تقصدهن صنوف شتّى: فيهن الغليظة الجافية، والرقيقة المنسابة، والفطنة الحاذقة، والحمقاء العابدة، والمتدينة الواعية، وفيهن الشيخة الكبيرة، والصبية اليافعة، وفيهن المتعنّتة المتزمّتة، والمنفتحة المتفهمة الرشيدة، وفيهن ابنة المرجع، وابنة البقال، وابنة التاجر، وفيهن الأمّية الجاهلة، والمثقفة من أعلى المستويات، وفيهن المشبوهة المدفوعة والمتطفلة، وفيهن المتباهية المتأنقة تجسّد معرضاً متنقلاً للأزياء والزينة، ولا تعرف حتى في مجلس بنت الهدى غير الحديث عن آخر الموضات، وفيهن المعدمة التي حرمت من كل مظاهر الدنيا وأوصافها.

كانت بنت الهدى تلتقي وتمارس دورها الرسالي مع كل تلك الأصناف المختلفة، فما ظنك بما يحتاج إليه هذا الأمر الكبير من الصبر، والمداراة ومرارة المعاناة في تحمّل الهفوة، وعنت السؤال، وسوء المقال، ولجاجة الحوار، وبساطة الفهم، وأمّية الاستفهام، وغشّ الدخيلة، وخبث الطوية، وتفاهة المطالب، وسخافة الطرح، وخرق روحية المجلس بالأمور الباهتة، والرغبة من أغلب الحاضرات ألا تؤثر بنت الهدى واحدة منهن على سواها بعينها ووجهها، فوجهها إلى الجميع، وعينها إليهن على السواء.

وما ظنك بما تتطلب تلك النفوس المتباينة، والتوجهات المختلفة، من الحيطة والحذر والحكمة، ودقة التدبير، ووقار التصرف، ورزانة الموقف، والانسجام وسعة الصدر، وحسن الاختيار في أسلوب التعامل وروح التفهم والاستيعاب، ووضع كل حركة وقول حيث ينبغي، وبذل الجهد المضني في إرضاء الجميع قدر الإمكان، والخروج بالسلامة من الإساءة إليهم.

النفس اللوامة

لقد أعز الله ذلك الكيان الذي حباه بلطفه وكرمه في تلك المرأة المثالية بجوهرة هي من أثمن جواهر الوجود المعنوية، ألا هي (النفس اللوامة)، التي تقف أمام صاحبها رقيباً وحسيباً وشاهداً وحاكماً في محكمة الوجدان ۔ التي يقيمها الضمير الحي في ساحة العدل والجزاء في القيامة الصغرى ۔ التي تقام في أعماق كل إنسان يمتلك صحوة التأنيب، حيث توضع الموازين القسط من قبل الواعظ الخفي أمام الروح النادمة لترى قيمتها فيما أحسنت أو أساءت، فإن خفّت موازينها بادرتها بالسعي الصدوق النادم على ما فرط منه، يريد التدارك والإصلاح ما دام في الحياة متّسع للتائبين كي يتداركوا ويصلحوا.

لقد كانت نفس بنت الهدى لوامة في ذروة اليقظة والحساسية، واللوم واللوعة، من مصدر الندم الذي أكثره ما خالف الأولى، وجانف شأن المقربين، وهو شأنها الذي عرفت به، فإذا شطّ بها المسير يوماً لعارض لئيم عن ديدنها الرفيع أنكرت على نفسها أشد الإنكار، ووسمتها بميسم العار، كأنه النار تتلظى في أحشائها إلى أن تعود إلى سجيّتها عودة الظافرين.

وتبلغ الشفافية والصفاء في عالم النفس التقية اللائمة لدى بنت الهدى حدّاً عجيباً حين تحاسب نفسها أمام القريبات منها وقد نسيت وهي في فورة الندم أنها في محضر صواحبها، ويكون الدرس النافع أنها تعظهن من خلال موعظتها لنفسها أمامهن، وتعودهن على ديدن الحساب والرقابة والمتابعة الدقيقة لخطى المسير التي تكون فيها الزلّات والعثرات.

حين تخلو إلى نفسها تقوم قيامة ضميرها، وتقف هي فيها أمام الأشهاد من أقوالها وأفعالها التي توضع في كفّتي العدل الصارم، ويأتي كتابها المحصي الدقيق فتنظر فيه، وليس فيه إلا المحاسن التي تمحّض وجودها لها، وباعت دنياها بها، فتستقل بعضها وتهوّنه، وتحتقر الآخر وتَدينه، وتأسف على شيء منها أنه لم يكن ما هو أفضل منه، وتعتبر شيئاً آخر فيها ذميماً؛ لأنه يسير أمام شأنها في الخير والمرجو منها فيه، وهكذا هي في نكوصها في معركة الملام، حتى ترفع راية الاستسلام أمام سطوة الضمير، لتعلن بتصميم قاطع أنها لن تعود إلى ما أنكره عليها وجدانها مما لا يليق بشأنها.

دخلت عليها زائرة محبة حيث كانت هي في أزمة نفسية خانقة لفاجعة أليمة ألمّت بها بعلم من أعلام العلم والجهاد (اختفاء السيد موسى الصدر)، وأخطأت تلك الزائرة تقدير الموقف، وتوجّهت لتحاور بنت الهدى حوارها المسترسل كما في الأيام المعتادة، وكان صارف الهمّ المقدس أقوى من أن يسمح لبنت الهدى أن تكون على حالها كل يوم، فأحسّت المحاورة بالضيق والألم، وانصرفت عن المجلس.. وما هي إلا دقائق مرّت على بنت الهدى حتى ثارت ثورة السَدَم في النفس النقية، وكانت عارمة قاسية أجبرتها على الاعتراف لا في أعماقها فحسب، بل أمام الحاضرات، فقالت: (لعلي لم أحسن حوارها، ولعلها انزعجت فخرجت غير مرتاحة بسبب موقفي، لابد أن أجبر خاطرها حتى تطيب نفسها مني).

كانت حركاتها في إطار العمل كلها تحت مجهر تلك النفس الدقيق النافذ النظر في مختبر التحليل والتجزئة المعدّ لها من خلوصها ونقائها على طريق خطاها؛ ليفحص أعمالها فحص الشفيق، ويحول رأيه فيها إلى طبيب رشدها وشأنها ومقامها في كمال العمل والمسارعة فيه، ليصف لها الدواء الشافي، تأخذه من مذخر النفس الصافية جرعات من المواقف المطهرة والاستعدادات الوقائية، في حرص شديد على العافية من عوارض السوء لمثلها، وهي كسيئات المقرّبين التي يراها الأبرار حسناتهم وخير فعالهم، فلكل مقامه في الخير، ودرجته في طلب الرضوان، ومسؤولية كل أمام الله والوجدان على درجة علمه.

وكل ما عانته بنت الهدى من عنائها في تهذيب النفس وتكميلها، وما لاقته من المرارات في ذلك هو من صنع تلك النفس اللوامة التي أقسم الله بحرمتها وشرفها في كتابه المجيد؛ لأنها (قيامة صغرى) إلى يوم القيامة الكبرى.

<لاٰ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ وَ لاٰ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّٰامَةِ>.[14]

فكانت هذه النفس لدى تلك المرأة السامية نبي الباطن الماثل برشده لها، يهديها مواطن الكمال، ويجنّبها مواضع العيوب، وهي بين يديه واصبة السمع بأذن واعية، مرهفة الشعور للفهم والاستلهام، متحفّزة القلب للعشق والانفعال، متوثّبة الإحساس للأمر والنهي، متوفّزة الخطى بداعي الرقيب بين الإقدام والإحجام، زمام فؤادها في قبضة الرسول الباطن المكين، كزمام خطاها المنقاد طوع الهدى لخاتم النبيين، وخطام روحها الوالهة في يد الضمير اليقظان، كخطام سيرها المشدود بمشيئة الرحمن.

وما أصدق من زيّنها ولعله أخوها بوسام اللقب الرفيع (بنت الهدى)، فهي حقاً بنته، تحدّرت من صلبه وهي سليلته وشنجة من معانيه الزاهية، وعبقة من أنفاسه الفيّاحة، عاشت له، واحترقت في عشقه، وخلّدها الهيام الصادق في رموز العاشقين، وأقداء العارفين.

غيبة اليأس وحضور الأمل

كانت بنت الهدى تحمل في قلبها أملاً منفتحاً مع خطاها على الطريق إلى الهدف المقدس، ولم يكن يعرو هذا الأمل العنيد طائف من يأس، أو عارض من قنوط لتقعد بهما عن الصيال أو تحيد عن النزال.. كانت في ساحة الوغى، وعرامة الشرور، ودعارة الفجور، وعاديات الإلحاد ورعود الظالمين، أصلد من الصخر، وأرسخ في عمق الثبات من رواسي الجبال، فقد وثقت بالله حين وعدها النصر بإحدى الحسنيين: الغلبة أو الشهادة. وأخراهما خير من أولاهما. ووعدها أنها إذا تكثّفت عليها المحن، واشتدت الخطوب، وكاد اليأس يأخذ مكان الرجاء، فتح الله باب الظفر، لتدخل منه إلى عالم الكرامة بنياشين الخلود.

كانت رضوان الله عليها ترى أن حقيقة المطلوب منها هو أداء التكليف الذي تمثّل في نشر الوعي الرسالي، وبيان كلمة الله، وتثقيف الجيل على مفاهيم الإسلام، وإيجاد طليعة واعية رشيدة تتصدى لدور التبليغ في الساحة، لتستقطب الأمة إلى صف الشريعة، وتوصد في وجهها أبواب الضلالة والشقاء.

وكانت ترى أن هذا الواجب العظيم ۔ الذي تركه آباؤها وأسلافها العظام أثقل أمانة في عنقها لاسيما وسط المرأة الذي لم يُستهدف وسط غيره مثلما استهدف هو من قِبل أعداء الله وخصوم الدين الحنيف ۔ لابد أن يكابد الذين يحملونه وظيفة مقدسة أشد المصائب وأفدح البلاء، كما رأى الذين حملوا واحتملوا من قبل، فخلدتهم مواقفهم الباهرة أسوة للعاملين، ومن هذا الطريق (أداء التكليف) يكون النصر محرزاً وهو في الأساس الخروج من عهدة المسؤولية، ونيل رضا الله بذلك، ولا نصر أروع منه، فإن أمكنت الظروف من بلوغ غاية المطلوب في السير على ذلك الدرب (إقامة العدل الإلهي) و(بناء دولة الإسلام) فذلك هو منتهى مأرب المجاهدين في الحياة، وإن حالت بينهم وبين المرتجى قواهر الظروف، وحبسوا دون مهامهم الرسالية، وحيل بينهم وبين أقدس ما يبتغون، فهم منتصرون لقيامهم بالمهمة الملقاة على عواتقهم، فائزون برضى من ائتمنهم عليها فصدقوا في حمل الأمانة.

في مثل أجواء العراق التي حكمتها جاهلية القرن بأفظع أشكال قسوتها وضلالتها وإلحادها، كان قدر بنت الهدى أن تكون المتصدية الرسالية التي تحمل لواء العمل المقدس في أخطر مجال (عالم المرأة)، لتدكّ حصون العمى، وتقلع أوتاد الانحراف، وتشرع الأبواب والنوافذ على النور الذي حجبته الليالي الغادرة عن القلوب التي قتلها الظمأ.

وتواجه تلك المجاهدة الفذّة شراسة الخصم التي ثبت للعالم كله أنها الوتر وليس لها مثيل في دنيا القسوة، فلم تهن ولم تضعف ولم تتراجع، وبقي أملها بالله طوداً لا يهتزّ، وظلّ رجاؤها النصر بإحدى الحسنيين على حاله في الرسوخ المكين يفوق الوصف، ويستثير العجب.. كانت تردد:

إسلامنا أنت الحبيب   وكل صعب فيك سهل
ولأجل دعوتك الحبيبة   عـلـقـم الأيــام يــحـلـو

 

إن ذلك الأمل الراسخ والثقة القاطعة بالنصر هما نبعة الإيمان الفذّ المقتدر، وسلالة التوكل على مالك كل شيء، وجبار السموات والأرض، وهما صنعة اليقين بحقانية المبدأ والموقف والطريق، وحسن عاقبة العاملين الصابرين، ونهي الله عن اليأس من رَوحه على كل حال، يعضد هذه كلها الواقع المهيب لتوجه الأمة إلى المنهل العذب الذي فجر عيونه رائد الصحوة الإسلامية، ودلّ الناس عليه بأعلى ألوان الدلالة، بالبرهان الساطع، والبيان الجذاب، والفكرة الرصينة، والاستدلال النيّر، والروح العصرية، ولغة الزمان، والقدرة الفائقة على الكشف عن كنوز الإيمان الحق في معارفه ومعانيه ومفاهيمه وأحكامه.

من القلب إلى القلب

تحلّت شهيدة الإسلام الخالدة بخصلة فريدة تحلّى بها أخوها الصدر، والعظام المقدسون من أمثاله، والهداة الأبرار الذين أخلصوا دينهم لله، ومسيرهم على خطّه طلباً لرضاه، وتلك هي سجية الحديث من القلب، ذلك القلب الذي ملأه العشق الإلهي، والذوبان في ذات الله سبحانه، والتمحض في البحث عن مرضاته أنى كانت، وحيث يكون هذا النابض المقدس له وحده يكون كل همه وهو يخالط عباد الله أن يحوزهم لله، وأن يجتالهم عما سواه، في رغبة طاغية تتجسم شخصاً حسّياً يمسك بقدرة عارمة زمام من يتحدث إليهم عن لسان الحق ليقودهم إلى ساحل الأمان في الظلال الوارفة، وإذا كانت الجمادات محكومة للجاذبية فيما بينها، فمن باب الأوْلى أن تكون الأرواح ۔ذات الأسرار الإلهية التي نفخ الله فيها من مشيئته۔ قادرة على أن تصنع العجائب في الشدّ إليها بطاقة صفائها، وما كتب الله لها من تحبيبها للآخرين، وغرْس الودّ لها في النفوس راغبة أو راغمة.

لقد كانت بنت الهدى وهي تتحدث إلى جليساتها أو المتعلمات على يدها كأنها قلب يتحدث بكلام يوحيه الإحساس المشرق، وتفوح به المشاعر المتضوّعة، فلا يملك السامع إلا أن يقدّم قلبه هدية لأسرٍ حبيبٍ، هو أسر العشق لهذا المتلكم وللمعاني الرفيعة التي يفيض بها معين قلبه، وتنساب إلى الأرواح انسياب اللطف الخفي القادر على التأثير والتغيير.

وكانت لها مع حديثها العذب الرفراف أسارير تتهلل، وبسمات تسحر، وانمياث في المفاهيم التي تطرحها فتشعر السامعة أن محدّثتها صادقة الدعوة، معتقدة بما تقول، منسجمة مع ما تبلّغه غاية الانسجام، فليس ثمّة دعاوى الكذّابين، ولا أقاويل المخاتلين، ولا سفسطات الوضّاعين، بل هي روح مؤمنة معتقدة ذائبة في خطها، تفرغ في كلامها عن لسان الحق، وتجسّد فيه صدى الوحي، فلا عجب إذن أن تخشع لها القلوب، وتنحني الرقاب، وتنقاد النفوس بسطوة التسليم.

أكثر اللواتي التقينها ۔حتى أولئك البعيدات جداً عن المعاني الإيمانية والمعارف الإلهية۔ شهدن بعد اللقاء أنهن سحرن بكلامها، وانجذبن إليها بعاطفة لم يعرفن من أين أتت، فحين طلعت عليهن بنت الهدى بقلبها فكلّمتهن، ودعتهن إلى الهدى دعوة سافرة أو من وراء حجاب، وقد كنّ في نظر الآخرين أبعد شيء عن قبول الرشاد، ملن إلى خطّها توّاً أو بعد حين، وصار بعضهن من الرساليات، وقتل بعضهن في سبيل الله شهيدات خالدات، سبقن المرشدة إلى ذلك، أو ظفرن به بعدها، ولم يكن يخطر في بال أحد أنهن سيهتدين، ويصبحن من قرابين الهدى.

وإن كل بنات الإيمان اللواتي عاشرنها وهنّ اليوم بين ظهرانينا شاهدات بالحق لتلك الحقيقة (قدرة الجذب) التي منحها الله بنت الهدى، حين منحته قلبها، فسوّاه بيد اللطف على عين الاختيار والاصطفاء.

وهناك شواهد أيضاً للجذب الفرد الغالب في سيرة تلك العلوية، تلك القضية التي حدثت عند خروجها إلى صحن أميرالمؤمنين وحرم المكرّمين بعد اعتقال أخيها ما قبل الشهادة، داعية إلى ثورة الغضب والاعتراض على ما فعله الظالمون برائد الأمة، وزعيم الصحوة، ومنارة الطريق.. ومشت جاذبية دعوتها في النفوس مشيها الأخّاذ فانقادت لصيحتها، وملأت شوارع النجف وأزقّته تلك النفوس التي جاشت فيها مراجل الغيظ من نداء بنت الهدى، وعلت صيحة الاستنكار، وامتدّت في الآفاق، لتكون الدرس البليغ الذي أرادت تلك اللبوة الهاشمية أن تفهمه زمرة البعث، لتفرج عن أخيها المظلوم وهذا ما حدث.

ونظير هذه المفردة من مفردات الجذب العام ما حصل على يدها (طاب ثراها) حين وقفت في جمع الظالمين الذين جاؤوا لاعتقال أخيها في المورد المشار إليه آنفاً، فأذلّتهم، وأرغمت أنوفهم في التراب، وسفّهت أحلامهم، ووضعتهم وأسيادهم وفكرهم تحت قدميها بغاية الاستخفاف والازدراء، وهم صامتون قد بهتوا من الحيرة، بل مجذوبون مبهورون، لو أتيح لهم أن يكسروا قيود هواهم، وكبول ألسنتهم لمالوا إليها خاضعين، وعبروا لها بألسنة الثناء عما فعله خطابها فيهم من فعله العجاب.. ويشهد لهذا الأمر أن أولئك المردة العتاة ۔الذين سخّرهم أمر الطاغوت لاعتقال النور وهم مخوّلون أن يفعلوا كل شيء لتحقيق المطلوب، وأن يزيلوا كل مانع أمامهم إلى الهدف المنشود، وبيدهم سلاح البطش، وصلاحية الاستخدام۔ نكسوا رؤوسهم ضارعين، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة، ولم يحر جواباً، وكان الجو محكوماً للصمت المهيب الذي تصول فيه بنت الهدى ببلاغتها وقوارعها، تعبث بقلوبهم وأرواحهم.. لقد كان ذلك حديث قلبها الذي اخترق حتى السدود التي أقيمت بين قلوب أولئك الأعلاج وبين الإصغاء لدعوة الحق، ومن الذي يستطيع أن يمنع قدرة التأثير لذلك القلب الكبير الذي أعاد في ذلك المشهد من صنعه لوحة فنية باهرة للخلود، صنعتها يد المجد الزينبي في الكوفة، وهي تخطب فيمن أصاخوا لها بمنتهى الهيبة كأن على رؤوسهم السيف.

[1]. الأحزاب: 21.

[2]. التوبة: 71.

[3]. آل عمران: 195.

[4]. النساء: 19.

[5]. البقرة: 228.

[6]. البقرة: 231.

[7]. الذاریات: 56.

[8]. التوبة: 71.

[9]. التوبة: 24.

[10]. طه: 39.

[11]. آل عمران: 159.

[12]. الصف: 3_2.

[13]. مريم: 96.

[14]. القيامة:2۔1.