الإمام الشَّهيد محمَّد باقر الصَّدر التَّجربة التَّاريخيَّة.. والإنسان‏

الأستاذ كمال السيِّد
مجلّة المنهاج / 1

ما هي الدُّنيا؟!.. مجموعة من‏ الأوهام.. لكنّ دنيانا أكثر وهماً من‏ دنيا الآخرين.
الإمام الشَّهيد

في البدء

إلتقيتك مرّتين؛ مرّة قبل «صفر» (انتفاضة صفر الشَّعبية عام 1977م)، والأخرى بعده… وكنتُ يومها في العشرين، وها أنا قد ذرّفت على الأربعين.
ودار الزَّمن وطوّحت بي الأيّام، وقد زُلْزلت الأرضُ زلزالها. والعراق الذي كان أرض الخصب والأمل والحياة ومرفأ الأئمَّة الأطهار، أضحى أرض الجمر. كلُّ شي‏ء فيه يحترق. وبدت الأشياء عارية ومقرفة، وقد ذرّ الشيطان قرنيه يعربد ويدمّر، ويحيل الأشياء الخضراء رماداً تذروه الرِّياح. الآمال… الأماني… الحياة المطمئنَّة الآمنة.. كلُّ شي‏ء أضحى هباءً منثور.
لن أكون قاسياً، أو مجانباً للحقيقة، لو قلت: إنّ الأمّة في العراق قد ركعت للنَّمرود، وإنَّ كلَّ المذابح التي حدثت في العراق لا تمثّل إرادة أمّة، وحالة شعب، وإنَّ الدِّماء التي لوّنت أرض الرافدين ما هي إلاّ صرخة الضَّمير المثقل. ولو كانت الحقيقة غير ذلك ما بقيتَ وحيداً يا سيّدي؛ لم يبقَ إلى جانبك أحد حتَّى من أهل بيتك إلاّ «آمنة»، وقد تشرّبت «زينبَ»، بعدما رأت فيك ملامح الحسين. ولكن الأوغاد الّذين عضّوا أنامل النَّدم لأنّهم لم يقتلوا «زينب» يوم عاشوراء، قتلوا «آمنة» من أجل أن تبقى ثورتك من دون صوت.

أجل يا سيّدي. التقيتك مرّتين؛ مرّة قبل «صفر»، ولا أزال حتّى اليوم أحسّ دف‏ء نظراتك الحانية. بريق عينيك يتألَّق فيه الحسين، وكان هذا مصدر عظمتك؛ فالذين كانوا يحجّون إليك لم يقرأوا «فلسفتنا» أو «اقتصادنا». لقد غرقوا في شواطى روحك العظيمة وقلبك الكبير.
أجل يا سيّدي. التقيتك مرّتين؛ مرّة بعد «صفر»، ولا أزال أتذكّر دف‏ء الكلمات وعمق الحروف، وأنت تحتلّ زاوية صغيرة في مكتبك؛ والذين جلسوا في حضرتك لم يدركوا بعد أنَّك ستحتلُّ التَّاريخ.
ما زلت أتذكّر ذلك المشهد المحفور في ذاكرتي، ولا يزال وجهك المضي‏ء ماثلاً أمامي رغم ضباب الأيَّام وغبار السِّنين.
ما زلت أتذكّر سيل الأسئلة التي أعدّها طالب جامعي.. وكانت أسئلة مصيريَّة حسّاسة يتهيّب الكثير الإصغاء إليها خوفاً وعجزاً، وكنت وحدَك الذي يصغي ويجيب من دون عجز أو وجل…
سأل الطَّالب عن أوراق اليانصيب، وأنّ لها غايات سامية، فلِم تحرّمها؟! فقلت: إنَّ الغايات السَّامية تلزمها وسائل سامية.
وسأل الطَّالب عن اللُّحوم المستوردة، فأجبت بحرمتها رغم «العيون الزُّجاجيَّة».
وسأل الطَّالب مرّة أخرى عن مجتمع الجامعة، فقال: نحن، يا سيّدي، طلاّب وطالبات في الجامعة، ونحن ملتزمون بالدِّين، فانبثق تعريف للمجتمع الإسلامي بأنَّه مجتمع مختلط، ولكنَّه ملتزم، فما هو رأيكم؟
وسكتَّ هنيهة، يا سيّدي، ثمَّ انسابت كلماتك هادئة. ما زلتُ أتذكّرها بعد عشرين سنة.
فقلت، يا سيّدي، ما لا أنساه: إنّ الإسلام لا يقف موقفاً حدّياً من مسألة الاختلاط، ولكنَّه يأخذ بنظر الاعتبار عدم الاختلاط ما أمكن. إنّني أسجّل هذه للذكرى فقط، لأنّي وعندما ودّعتك، يا سيّدي، تخطّفتني الكلاب. اقتادوني إلى أقبية التَّعذيب في بغداد. سألوني عنك. إنّهم يخشونك… يخشون بريق نظراتك

لأنّها ترنو إلى المستقبل. يخشون قلبك لأنَّه قنبلة موقوتة ربَّما تنفجر في أيَّة لحظة فتحيل قصورهم وعروشهم هباءً منثور.
عذّبوني، يا سيّدي، لأنّي التقيتك مرّتين. سألوني من أقلّد، فقلت غيرك، ولو قلت أقلِّد الصدر لقتلوني.
العالَم، يا سيّدي، لن يصدّق محنتك.. لن يصدّق الأهوال التي مرّت على عينيك، ولهذا ستبقى مجهولاً، فالجيل الذي سيدرك سرّك لا يزال في رحم الأيَّام. عذراً يا سيّدي، أنا لا أريد أن أؤرِّخ لك.. أنا أؤرِّخ لنفسي، فالتَّاريخ يخصّ الموتى، أمّا أنت فقد التحقت بالقافلة… قافلة الحسين؛ والذين انطلقوا مع الحسين لن يموتوا… لقد حطّموا قضبان الزَّمن الصَّدئة، واكتشفوا سرّ الخلود.

الجذور

غصن في شجرة معطاء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّه.
جدّه الحسين، والدِّماء القانية التي لوّنت الأرض في لحظة عاشوراء تسري في عروقه؛ وللحسين سرّ في أعماق الصَّدر غير فصيلة الدَّم، ولكنَّها الثَّورة الكامنة فيه، وفي ذلك التصميم الملحمي على الشهادة.. على الموت من أجل الحياة.. من أجل الخلود.
هو غصن من شجرة سماويَّة، والذين دقّقوا في حنايا التَّاريخ.. في زواياه المظلمة لا بدّ من أن تستوقفهم شمعة تتوهَّج؛ فعلى شواطى المتوسِّط من ـ أرض تركيا، وفي سنة 965هـ.، سقط أحد أجداده صريعاً مضمَّخاً بالدِّماء، فقد اغتالته اليد السوداء على نحو مؤسف‏‏ ((الشَّهيد الثَّاني، زين الدِّين الجبعي العاملي، استُدعي إلى اسطنبول في عهد سليمان القانوني، وتمّت تصفيته على شواطى البحر قريباً من العاصمة على نحو مأساوي يدعو للتساؤل حول الأسباب التي دفعت العثمانيين إلى التّخلّص منه.))من دون ذنب سوى الرَّأي والفكر والعقيدة.
هذه جذور الصَّدر.. بعيدة الغور.. شجرة معمّرة تقاوم عواصف التَّاريخ ورياح الزَّمن.

الميلاد

في الخامس ـ والعشرين من شهر ذي القعدة، عام 1353هـ.، أطلّ الوليد المبارك على الدُّنيا، في «الكاظمين»، على شواطى دجلة، عندما يخترق النَّهر بغداد.

ويمرّ عامان ونصف فيسدّد القدر أولى ضرباته القاسية.
كانت سنة 1356هـ. علامة محفورة في ذاكرة الصَّبي، فقد ابتسم لأنّه رأى إلى جانبه أختاً سترافقه الدَّرب حتَّى النِّهاية.
أجل مرّ عامان ونصف، فابتسم الصَّبي لحظة، ليحزن الدَّهر كلّه.
فجأة يختطف الموت أباه العظيم. غابت الشَّمس، فالدُّنيا برد وصقيع… لقد انهدّ العمود فتهاوت الخيمة خاويةً على عروشه.
وأصعب ليلة في الدَّهر ليلة يتيم ينتظر عودة أبيه فلا يعود. ها هي الأسرة الصَّغيرة تمضي اللَّيل من دون طعام، من دون عشاء. وتعلّم الصَّبي أوّل دروس الحياة… فالحياة مدرسة تعلّم المرء كلَّ شي‏ء. يكفي أن تفتح عينيك.. أن ترهف سمعك، لترى الأشياء على حقيقته.
تعلَّم الصَّبي الطُّهر أوّل ما تعلَّم من دروس الحياة… تعلَّم أن يكون نظيفاً طاهراً كقطرة النَّدى تتألَّق في ضوء الشَّمس. وأصعب شي‏ء على الفقير أن يبقى نظيفاً، كأنِّي به يقول: إذا كان ثوبك وحيداً فلا ينبغي أن يكون قذراً.. إنَّ نظافة الثَّوب الوحيد من أنبل جهاد الفقراء. فإذا كُتب عليك أن تكون فقيراً فحاول أن تكون شريف.
وتعلَّم الصَّبي الصَّبر حتَّى تعوّد مذاق الحنظل. تعلّم الطُّهر والصَّبر وعلّمهما.. علّم «آمنة» درسين من دروس الحياة.. وكانت أخته رمزاً للطُّهر ومثالاً في الصَّبر.. كانت «زينبَ» هذا العصر المتوحِّش.

الخطوات الأولى‏

وتمرّ الأيَّام ويتدفق نهر الزَّمن؛ تتدافع أمواجه غير آبهٍ بهذا أو بذاك. وباقر الصَّدر الآن في الصف الثَّالث الابتدائي في مدرسة «منتدى النَّشر» ينطلق كلَّ يوم إلى مدرسته ينهل العلم والمعرفة ويتشرّب ثقافة عصره… والتَّاريخ في غفلةٍ عن تلك اللحظات.. عن تلك الحقبة الحافلة التي صقلت عبقريَّةً كامنة في الأعماق. حتّى إذا دوّت عبقريّته عاد التَّاريخ القهقرى يبحث هنا وهناك عن البدايات.. عن البذرة والموسم والحصاد.. يضي‏ء شمعةً هنا ويسرج قنديلاً هناك.

والتَّاريخ ذاكرة الجنس البشري.. ذاكرة شيخ غارق في السِّنين والحوادث، وأنّى له الالتفات إلى صبيٍّ صغيرٍ في سيمائه ملامح النُّبوّات وعنفوان الرِّسالات.
باقر الصَّدر في الصَّف الثَّالث، ينطلق كلّ يوم إلى مدرسته «منتدى النَّشر» ليكون أوّل الدَّاخلين. يلج الصَّف كأنَّه يلج معبداً.. وينظر إلى معلّمه بخشوع المريدين.
كان مثالاً في أدبه وفطنته وذكائه.. بذرة تنطوي على سرّ شجرة معطاء وعقل يكتنف سرّ عبقريَّة سيكون لها شأن، وأيُّ شأن.
وها هو التَّاريخ يعود القهقرى.. إلى الوراء، ربّما أربعين سنة أو تزيد. لنرى كيف يضغط على جبينه.. يعتصر ذاكرته ليضي‏ء شمعة تلقي ولو بصيصاً من الضَّوء على طفولة تحمل جذوة من أسرار الرِّسالات.
أرهِف سمعك إلى زميله في المدرسة، محمَّد علي الخليلي، وهو يلملم خيوط زمن بعيد علّه يفلح في نسج مشهدٍ من تلك الطُّفولة المشرقة:
«جمعتني وإيّاه مدرسة واحدة.. كان حينها في الصَّف الثَّالث الابتدائي.. أمَّا أنا فكنت في السَّنة النِّهائية من هذه المرحلة الدِّراسية.
وطبيعي أن لا يكون بيننا اتِّصال مباشر.. ومع كلِّ ذلك، فقد لفت انتباه الجميع، وكان محطّ أنظار التَّلاميذ صغاراً وكباراً، كما كان موضع احترام معلّميه. كانت له شخصيَّة تفرض وجودها، وسلوك يحمل المرء على احترامه.
كنَّا نعرف عنه أنَّه مفرط في الذَّكاء، متقدّم في دروسه تقدّماً ندر نظيره.. يبزّ فيه زملاءه كثيراً. وما طرق أسماعنا أنَّ هناك تلميذاً في المدارس الأخرى يبلغ بعض ما يبلغه من فطنة وذكاء، لهذا اتَّخذه معلِّموه انموذجاً للطَّالب المجدّ والمؤدّب والمطيع.
وكان بعض التَّلاميذ يتأثَّرون به إلى الحدّ الذي يجعلهم يقلّدونه في المشي والحديث والجلوس في الصَّف، علّهم يظفرون ولو بجزء يسير من الإعجاب والاحترام. وله في تواضعه الجمّ هيبة في النفوس. فلم يكن أحد ليبدأه الحديث إلاّ إذا شعر المتحدِّث برغبته في الحديث أو يكون هو البادى.

إنّ في أعماق هذا الصَّبي قبساً من روح النبوّات في ذلك التَّواضع الإنساني الذي يزيد المرء هيبة في النُّفوس ومنزلة في القلوب.
كان عطوفاً على من هو أصغر منه، ومؤدّباً أمام من يكبره سنّاً. وكانت له في المدرسة زاوية ينفرد بها حتَّى أضحت مكاناً له لا يجسر أحد على الاقتراب منها.. فإذا انفرد تحلّق حوله زملاؤه، ويتحوَّل التلميذ الصغير إلى معلّم كبير.. معلّم له سحره في النُّفوس وتأثيره في الأرواح…
فلو اقتربت من تلك الحلقة العجيبة، لوجدت ذلك الصَّغير الكبير يتحدَّث عن أشياء عجيبة لا يطرقها إلاَّ الكبار.. وها هو ابن التَّاسعة يتحدَّث عن الماركسية، والأمبريالية والديالكتيك.. ويتطرَّق في حديثه إلى عباقرةٍ غابرين «فكتور هيغو» أو «غوته» وغيرهما من عمالقة التَّاريخ الإنساني، ولم يخطر على بال الذين كانوا يصغون إليه، ولعلّه هو أيضاً، لم يفكِّر أنَّه سيكون قمّة شامخة أين منها «هيغو» و«غوته» وكلّ عمالقة العصر الحديث!
ها هو التَّاريخ يجود، ـ فيشعل شمعة يعتصر ذاكرته فلا تسعفه إلاّ بومضات أشبه ببروق سماويَّة تشتعل وتنطفى، أمام عبقرية مبكرة وإرادة ستغيِّر في مسار التَّاريخ، ليكون هو بدايةً لمنعطف حادّ في المسار الخالد».
أرهِف سمعك، مرَّة أخرى، واصغِ إلى ما يقوله معلِّم له شهد تفتّح تلك الشَّخصية على الحياة والفكر والدُّنيا:
«كان طفلاً يحمل أحلام الرِّجال، ويتحلّى بوقار الشّيوخ. وجدتُ فيه نبوغاً عجيباً وذكاءً مفرطاً، وكان كلّ ما يدرّس في هذه المدرسة من كافة العلوم دون مستواه العقلي والفكري.
شغوفاً بالقراءة كان.. لا تقع عيناه على كتاب إلاّ وقرأه وفقِه محتواه، وما طرق سمعه اسمُ كتاب في أدب أو علم أو اقتصاد أو تاريخ إلاَّ وسعى إلى طلبه».
جاء يوماً إلى أحد معلِّميه، وقد اجتاحته رغبة عارمة في سبر غور الماركسية يقرأ نظريَّاتها ونظرتها إلى الإنسان والطَّبيعة والكون. ويتردَّد المعلّم، يخشى على هذا

الصَّبي من مزالقها أن تهوي به إلى الحضيض والقرار، وبعد إلحاحٍ وإصرارٍ وجد المعلِّم نفسه أمام إرادة عجيبة، فراح يهيّىّ له كتاباً ومجلاّت كانت في تلك الحقبة مثل الكبريت الأحمر.
وراح الصَّبي يغوص في الحجج العميقة ويطلب المزيد، وظنّ المعلِّم بعد أن جلب له أمّهات الكتب التي تشرح نظريَّاتها أنّ هذا الصَّبي سوف يقف أمامها حائراً لا يفقه منها شيئاً، فهو نفسه وقف عاجزاً عن فهْم دقائقها. وإذا بالصَّبي يعيد له الكتب بعد أسبوع، ولعلّ المعلّم قد ظنّ للوهلة الأولى أنَّ الصَّبي قد اصطدم بجدار صخريّ أصمّ، فأعاد الكتب فإذا به قد أحاط بها علماً، وراح يشرح ما خفي على معلّمه منها. ووقف المعلّم – ربّما لأوَّل مرّة- أمامه مذهولاً يتأمّل المعجزة مبهور.
كان معلِّموه يتوجّسون خشية أن يقتله الذَّكاء المفرط.
وكان يؤمّ التَّلاميذ في الصَّلاة خاشعاً للَّه خشوعَ الزَّاهدين الذين عافوا الحياة ونبذوا الدُّنيا، وربَّما اعتلى المنصّة خطيباً تنساب كلماته مؤثرة في فصاحة ورصانة.
قال له معلّمه يوماً، وقد بهرته عبقريَّة مبكرة: سيأتي اليوم الذي ننهل فيه من علمك ونهتدي بأفكارك وآرائك.
فأجاب الصَّبي العظيم، وقد اصطبغت وجنتاه بحمرة تنمّ عن أدب وحياء عظيمين: عفواً أستاذ، فأنا لا أزال، وسأبقى تلميذكم وتلميذ كلّ من أدّبني وعلّمني في هذه المدرسة، وسأبقى تلميذكم المدين إليكم بتعليمي وتثقيفي.
وكان، إلى جانب دراسته في المدارس العصرية، قد طوى شوطاً مهمَّاً في دراسة العلوم الدِّينية في مناهجها السَّائدة يومذاك، وربّما تغيَّب عن الحضور في مدرسته في بعض الأيَّام لانشغاله في تحصيل العلم والمعرفة.
وكان أستاذه الأوّل أخوه إسماعيل الصَّدر الذي شهد تفتّح نبوغه وبداية انطلاقته.
فقد درس، وهو في الحادية عشرة من عمره، علم المنطق وسبر غوره، حتَّى ألّف رسالة سجّل فيها بعض اعتراضاته في مسائل منطقية. ودرس في الثَّانية عشرة من عمره علم الأصول لدى أخيه، وكان يعترض على بعض ما يرد في كتاب «معالم الأصول»، وهي اعتراضات لم يكن يكتشفها سوى علماء لهم وزنهم وعمقهم.

الهجرة

تبقى الهجرة في التَّاريخ الإنساني واحدة من أهمِّ الظَّواهر التي ارتبطت بالإنسان منذ ظهوره، وهي العامل الأساس والمؤثِّر في انتشار الجنس البشري، بل وفي قيام حضارات ودول، كما هو الحال في انطلاق حضارة الإسلام على أثر هجرة النَّبيِّ من مكَّة إلى يثرب؛ حيث بدأ التَّاريخ الإسلامي الذي اتَّسم بميسم الهجرة.
تبقى البواعث الاقتصادية والقهر السياسي والاجتماعي وراء أغلب الهجرات في التَّاريخ، إضافة إلى الهجرات القسرية، وهي في الحقيقة لا تمتلك مقوِّمات الهجرة بل هي في واقع الحال لصوصية على نطاق واسع. ولعلّ مصداقها الوحيد ما قام به الغرب من عمليَّات الخطف في أفريقيا لملايين البشر في واحدة من أبشع الحوادث في التَّاريخ البشري.
وهناك، في تاريخ الشِّيعة، ظاهرة تستحقُّ التَّأمُّل، منذ سقوط بغداد في أيدي السَّلاجقة ونشوء المدن العلمية على أثر هجرة فردية أو جماعية.
ومنذ ذلك الوقت، وحتَّى اليوم، نشاهد بوضوح أنَّ الهجرة لطلب العلم هي وراء تمدّد تلك المدن وتجذّر الحالة العلمية فيها، وهي أيضاً وراء نبوغ معظم عباقرة الفكر الشِّيعي. ولقد كانت هجرتهم خالصةً للَّه ولدينه متحمّلين مشاقّ الغربة وشظف العيش، لا لشي‏ء إلاَّ استجابة لنداء يضجّ في الأعماق.
في عام 1365هـ.، غادر محمَّد باقر الصَّدر مدينة «الكاظميَّة» إلى «النَّجف الأشرف» وتتلمذ لدى علَمين من علمائها، وهما:
السَّيِّد أبو القاسم الخوئي.
الشَّيخ محمّد رضا آل ياسين.
امتدَّت مدَّة دراسته في النَّجف أربع عشرة سنة، وهذه المدّة تبدو قصيرة نسبياً، ولكن المهاجر الذي يتوقَّد ذكاءً وعبقرية كان يستثمر من يومه ستّ عشرة ساعة في الدِّراسة والبحث والتَّحقيق.
وإذا كان التّقليد للأعلم هو قدر كلّ المنتسبين للمذهب الإمامي، سواء العلماء

منهم أم البسطاء، فإنَّ محمَّد باقر الصَّدر هو الاستثناء الوحيد، فهو لم يقلّد أحداً من العالمين، وإذا كان قد قلّد آل ياسين فقد كان ذلك في صباه إذ لم يصل سنّ البلوغ بعد.
ورحلته العلميَّة لم تكن اجتراراً للعلوم، ولا تراكماً للمعرفة والثَّقافة بقدر ما كانت تفاعلاً كيميائياً موظِّفاً العناصر الخام لميلاد شي‏ء جديد لا ينتمي إلى ما سبقه إلاَّ في الجذور فقط.
كانت رحلته مع العلم إبداعاً واكتشافاً، وكان يفجّر ينابيع المعرفة تفجيراً فتسيل أودية بقدر.

سنوات العطاء

كان كتاب «فدك في التَّاريخ» باكورة أعماله التي فاجأ بها عصره، وكان عمره يومذاك سبعة عشر عاماً. على أنَّ المقدّمة تشير إلى أقلّ من هذا العمر بكثير. وقد يتساءل المرء لماذا فدك؟ وهي مشكلة تاريخية حول قرية صغيرة في الحجاز؟
ولكن من يتأمَّل في حيثيَّات هذه القضيَّة وملفاتها التَّاريخيَّة المعقَّدة، لا بدّ من أن ينظر بإجلال إلى هذا الكتيِّب، المحدود في أوراقه والواسع بأفكاره ومنهجه في دراسة واحدةٍ من أكثر معضلات التَّاريخ تعقيداً، إذ إنّها كانت ولا تزال تثير أسئلة عديدة.
ففدك لم تعد تلك القرية الصَّغيرة في قلب الحجاز.. لقد أضحت رمزاً لكلِّ الأرض الإسلامية. فهي لدى «الصَّدر» تمتدّ -كما عبّر عن ذلك جدّه «الكاظم»- من عدن إلى سمرقند.. إلى إفريقيا.. إلى سيف البحر، ممَّا يلي الجزر وأرمينيا. ومشكلة فدك في ـ التَّاريخ التي حدثت في غمرة التَّحوُّلات الهائلة التي أعقبت رحيل الرَّسول الأكرم‏(صلي الله عليه و آله و سلم) لا تزال إلى اليوم مشكلة تواجه المنهج التَّسويغي لتاريخ صدر الإسلام بأسئلة محيّرة.
والجدير ذكره، هنا، أنّ المؤلّف، وبالرُّغم من كتابته للموضوع وهو في فورة الشَّباب، إلاّ أنّه كان يجسّد أسمى صيغ التَّعامل الرَّفيع مع رجالات العصر النَّبوي، وهو أدب ظلَّ يطبع جميع فصول حياته القصيرة حتَّى استشهاده.

وإذا علمتَ أنّ هذا السِّفر لم يستغرق من الوقت سوى مدَّة العطلة الدِّراسية أدركتَ أيّة عبقريَّة مخزونة في أعماق هذا الإنسان.
ومن «فدك في التَّاريخ» إلى «فلسفتنا» الذي أحدث دويّاً كبيراً في الأوساط الفكريَّة، حتَّى يمكن القول إنّه قَلَبَ موازين القوى -إذا صحَّ التَّعبير- لصالح الإسلاميِّين الذين بدأوا مرحلة الهجوم بعد أن ظلّوا في مواقع الدِّفاع سنين طويلة.
والذين عاشوا حقبة الصِّراع الفكري المريرة في العراق يدركون ماذا فعل «فلسفتنا» و «اقتصادنا» في معادلات الصِّراع آنذاك.
إنَّ المرء ليحسّ حرارة إيمان هذا الإنسان من انتخاب اسم الكتاب. إنّه اعتداد بالنَّفس وبالشَّخصيَّة التي تستمدُّ من الإسلام مقوّماتها وبناءها، وكان الشَّهيد العظيم بصدد إصدار كتاب آخر هو «مجتمعنا» ولكن القدر لم يمهله.
ومع كلّ هذا الدويّ الذي أحدثه الكتاب، فإنَّنا نصغي إلى كلمات تنمّ عن روح عجيبة هي قبس من روح الأنبياء:
«حينما طبعت هذا الكتاب، لم أكن أعرف أنّه سيكون له هذا الصِّيت العظيم في العالم والدَّويّ الكبير في المجتمعات البشريَّة، ممّا يؤدِّي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب؛ وأنا الآن أفكّر أحياناً أنّي لو كنت مطّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى النّاس، فهل كنت مستعدّاً لطبعه باسم «جماعة العلماء» وليس باسمي كما كنتُ مستعدّاً لذلك أوّلاً؟ وأكاد أبكي خشية أنّي لو كنتُ مطّلعاً على ذلك لم أكن أستعدّ لطبعه بغير اسمي»‏ ((وقد جاء حديثه بعد طبع الكتاب، وكان قد عرضه أوّلاً على جماعة العلماء ليطبع باسمها، غير أنّها اشترطت إجراء بعض التّعديلات في الكتاب، وكانت غير صحيحة في رأيه، ما اضطرّه إلى طبع الكتاب باسمه.)).
ثمَّ يأتي كتاب «اقتصادنا» ليكون مفاجأة أخرى، فيجد المسلم الرِّسالي الذي ينافح عن دينه ملامح أوّل نظريَّة للاقتصاد الإسلامي، ولا يقف الكتاب عند البناء الاقتصادي للإسلام، بل يتعدَّاه إلى نسف المذهبين السَّائدين في النُّظم الاقتصاديَّة وتقويضهما؛ وهما النِّظامان: الرأسمالي والاشتراكي.
وبالرُّغم من أنَّ الكتاب قد يبدو معالجة لمسائل اقتصاديَّة بحتة، إلاّ أنّ القارى سوف يعثر على أفكار تدعو إلى التّأمّل، وحتَّى يمكن القول إنّها إذا صيغت ضمن

إطار خاص، فإنّها ستكون أساساً لنظريَّة رائعة في الحضارة الإسلاميَّة. فالصَّدر، وهو يكتب، إنّما يعالج مشكلة كبرى هي مشكلة المسلم المعاصر التي تتمثَّل في استلهام تجربته الرَّائعة قبل مئات السِّنين، ثمَّ بعث حضارته الكبرى من جديد…

لنصغِ إلى ما يقوله هذا المفكِّر العظيم في «اقتصادنا»:
– التَّوجيهات الإسلاميَّة هي قوانين علميَّة تؤتي ثمارها متى توافرت الشُّروط التي تقتضيها هذه القوانين‏‏ ((اقتصادنا، ص 311.)).
– بالرُّغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التَّجربة والقيادة بعداً زمنيّاً امتدّ قروناً عديدة، وبُعداً روحيَّاً يقدَّر بانخفاض مستوياتهم الفكريَّة والنَّفسيَّة واعتيادهم على ألوان أخرى للحياة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، بالرُّغم من ذلك كلِّه، فقد كان للتَّحديد الذَّاتي الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة دوره الإيجابي الفعّال في ضمان أعمال البرِّ والخير‏ ((المصدر نفسه، ص 300.)).
استطاعت «الرِّسالة الإسلاميَّة» أن تحدث هزّة روحيَّة كبيرة في نفسه [الإنسان العربي‏] وتفجّر في أعماقه الإحساس بالمسؤوليَّة.
– العلم لا يستطيع حلّ المشكلة الاجتماعيَّة إنّما ينبّه له.
العلم يكشف الحقيقة بدرجة ما.. وليس هو الذي يطوّرها‏ ((المصدر نفسه، ص 323.)).
– الدِّين هو صاحب الدَّور الأساس في حلّ المشكلة الاجتماعيَّة عن طريق تجنيد الدَّافع الذَّاتي لحساب المصلحة العامَّة‏ ((المصدر نفسه، ص 326.)).
ثمَّ انظر كيف يفلسف قيام الحضارة الإسلاميَّة:
إنَّ الإنسان هو القوّة المحرِّكة للتَّاريخ‏‏ ((المصدر نفسه، ص 338.)).
– ولم يكن هذا الواقع الانقلابي الذي خلق أمّة وأقام حضارة وعدّل من سير التَّاريخ وليد أسلوبٍ جديد في الإنتاج أو تغيّر في أشكاله وقواه‏‏ ((المصدر نفسه، ص 341.)).
– الدِّين هو الإطار العام لاقتصادنا‏ ((المصدر نفسه، ص 427.))
واصغِ إلى ما يقوله عن الآلة:

– الآلة التي تنتج النَّسيج يوميَّاً ليست ثروة طبيعيَّة خالصة، وإنّما هي مادّة طبيعيَّة كيّفها العمل الإنساني خلال عمليَّة إنتاج سابقة‏((الإسلام يقود الحياة، ص 168.)).
لا تلعن الظَّلام؛ أشعل شمعة!
لم يكتف الصَّدر بوضع اليد على الجراح النَّازفة، ويشير إلى مواطن المرض، لأنَّ اكتشاف المرض لا يعني بداهةً معرفة الدَّواء.
فهذا الفتى الذي وصل «النَّجف» على قدر، أدرك كلّ آلام أُمّته بعمقها التَّاريخي النَّازف، وبحاضرها المريض، فراح يفجّر ينابيع الخير لتسيل أودية بقدر.
لقد عاش المفكّر الصَّدر في حقبة تاريخيَّة بالغة الخطورة، وكان الفكر الإسلامي يعيش حالة من الجمود، في زمن كانت الأفكار المستوردة تجد لها أنصاراً متحمّسين، وكان الدِّين في مهبّ إعصار فيه نار، وكانت الحصون مهدّدة من داخلها، وفي هذه الظُّروف ولد محمّد باقر الصَّدر قائداً ومفكّراً وأباً رحيماً لأُمّة منكوبة.
يعدّ عام 1958م ـ 1378هـ بداية التّغيّرات الهائلة فكريَّاً وسياسيَّاً، حيث كانت الجبهة الإسلاميَّة -إذا صحّ التّعبير- تهتزّ بعنف. – في غمرة الصِّراع بين التَّيَّار الماركسي المدعوم حكوميَّاً والتَّيَّار القومي، ولدت الحاجة لموقف إسلامي واضح، فكانت «جماعة العلماء» التي يمكن أن نقول بحقّ إنَّ وجودها يرتبط بشكل رئيسي بعقليّة السّيّد الشَّهيد الصَّدر‏ ((مجلّة الجهاد، العدد 14، جمادى الثَّانية 1401هـ.)).
«ورغم أنَّ السّيّد الشَّهيد، رضوان اللَّه عليه، لم يكن أحد أعضاء «جماعة العلماء» لصغر عمره!! إلاّ أنَّه كان له دور رئيسي في تحريكها وتوجيهها»‏ ((المصدر نفسه.)).
وشقّت «جماعة العلماء» طريقها في غمرة تلك الأفكار، فكانت «الأضواء» البداية المشرقة لإطلالة الموقف الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً، وكان للمفكّر الصَّدر عمود «رسالتنا» الذي بدأ يحرّك الأصدقاء ويغيظ الأعداء.
الكثيرون، بل والكثرة الغالبة لا تفهم لعبة الصِّراع الفكري؛ حيث يرصد الاستعمار الأفكار الخطيرة، ثمَّ يبدأ تطويقها وقتلها بخفاء، وهكذا وُضع الصَّدر في قائمة الخطرين منذ ذلك التَّاريخ، وبدأت الملاحقة لأفكاره.

ومن نافلة القول إنّ الصَّدر كان بمستوى الرَّجل الذي أدرك أساليب العدوّ جميعها، فكان يتصرّف بهدوء ويفوّت الفرص التي يحاول الاستعمار التَّسلُّل منه.
كتب مرّة، وكان ذلك عام 1380هـ، إلى أحد تلامذته يبثّه همومه: «… لقد كان بعدك أنباء وهنبثة، وكلام وضجيج وحملات متعدّدة جُنِّدت كلّها ضدّ صاحبك وبغية تحطيمه».
وتأمّل هاتين الكلمتين: «أنباء وهنبثة»، لتستشف من ورائهما عمق المعاناة، وبخاصَّة إذا علمنا أنّهما وردتا ربّما مرّة واحدة في التَّاريخ وعلى لسان فاطمة الزَّهراء(عليها السلام)، في حادثة اغتصاب الميراث المؤسفة.
لقد كانت الزَّهراء(عليها السلام) تعيش أوّل محنة في الإسلام، عندما خاطبت أباها الرَّاحل بكلمات تقطر حزناً ولوعة:
‏‏
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم‏
لمَّا مضيت وحالت دونك التّرب
واللَّه وحده الذي يُراقب الأعماق، ويحيط بكلّ شي‏ء. وربّما يأتي اليوم الذي ينكشف فيه كثير من الأسرار والخفايا، ويسجّل التَّاريخ تفاصيل المحنة التي مرّت بهذا الرجل العظيم، والخناجر المسمومة التي كانت تسدّد له في قلب اللَّيل.
ومخطى من يتصوّر أنّ الحرب التي شنّت ضدّه كانت محلّيّة تواجه كلّ إنسان يحاول إلقاء حجر في البحيرة السَّاكنة وكسر حالة الجمود، وأنّها نابعة من بعض ذوي النُّفوس المريضة والمتخلّفة.
إنّ محمّد باقر الصَّدر كان ظاهرة تهدّد الوجود الاستعماري. وإذا شئت فقل: «القابليَّة للاستعمار»، وإنَّ أطرافاً دوليَّة يهمّها مستقبل العراق هي التي كانت تدير لعبة الصِّراع فكريَّاً ومن وراء حجاب، وإنَّ تلك الأطراف استفادت من الواقع الفكري والنَّفسي في تجنيد أعداء محلّيّين، كانوا يضربون بقسوة. وكان الصَّدر يتأوّه وحيداً ويسكت على مضض، فالصَّبر كان سلاحه الوحيد؛ والصَّبر سلاح الأنبياء.

يقول الشَّاهد الشَّهيد:
«ابتدأت تلك الحملات في أوساط «الجماعة» التَّوجيهيَّة المشرفة على «الأضواء»؛ أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم».
وفي رسالة أخرى يقول: «لا أستطيع أن أذكر تفصيلات الأسماء في مسألة (جماعة العلماء) وحملتها على (الأضواء)!… ولكن أكتفي بالقول، بأنَّ بعض الجماعة كان نشيطاً في زيادة أعضاء (جماعة العلماء)، لإثارتهم على (الأضواء) وعلى (رسالتنا)»‏((المصدر نفسه.)).
ويمكن القول: إن الصِّراع المرير الذي خاضه الصَّدر قد وصل إلى تعادل في الأهداف، فقد وفق الصَّدر بعبور الأزمة، فمرّت بسلام واستمرَّت «الأضواء» بالصُّدور كما توقّع لها:
«حدسي أنّ (الأضواء) سوف تستمرّ إن شاء اللَّه تعالى؛ لأنّها تتمتَّع الآن برصيد قويّ من الدَّاخل والخارج»‏ ((المصدر نفسه.)).
أمَّا خصومه فقد نجحوا في إيقاف القلم الذي كان يمدّ «رسالتنا» بالأفكار المقاتلة.

الحسين يولد من جديد

هل يعيد التَّاريخ نفسه حقّاً، فتعود سنوات القهر سنوات عجاف؛ تنسلخ الأمّة فيها عن نفسها.. عن هويَّتها.. وعن ذاتها، فتغدو هياكل ميِّتة أو تكاد.
في غفلة من التَّاريخ؛ حيث المنعطفات الحادّة المظلمة يسطو أبناء اللَّيل والظَّلام ليسرقوا وطناً ومجداً، فلا تجد من يرفع رأسه أو صوته. فالنَّاس نيام أو عاكفون على عجل له خوار. والصَّدر كان يقاتل.. تسكن في أعماقه ثورة، وتبرق في عينيه رؤى كربلاء.. يوم كان «الحسين» يقاتل وحيداً، وكانت الأُمّة تمجّد عجلاً اسمه «يزيد»، وكان على «الحسين» أن يُذبح ليوقظ بدمائه التَّاريخ والحضارة والإنسانيَّة.
لا ينكر أحد أنّ العراق، وربَّما هو البلد الوحيد الذي يقدّس التَّضحية، كان يقف مفتوناً أمام البطل وهو يقتحم الموت اقتحاماً، وهو يكاد لهذا المشهد يفقد وعيه تمام.

ولعلّها ظاهرة تاريخيَّة أن تنتاب هذا البلد، وهو يبحث في كلّ عصر عن بطل ينوب عنه في التَّعبير عن عذاباته وآلامه وطموحاته.. يبحث عن فرد ينوب عن المجتمع العاجز عن التَّغيير ليقدّم أحد أبنائه إلى المذبح؛ من أجل أن ينوح عليه.. إنّه لا يريد أن يدفع ثمناً ما، وهو الموت، فيبحث عمّن ينوب عنه في هذه المهمَّة.. حتَّى أمست البطولة في رأيه لا تعني شيئاً سوى الموت.
ومن المفارقات أنَّنا نجد المجتمع، وهو يبكي «الحسين»، يشعر بالسَّعادة وهو يبكي من أجله، بعد أن تبلغ التَّضحية أوجها بذبح «الحسين» في مشهد درامي فريد..

لهذا كان على أبطال الأمّة إذا ما أرادوا التَّغيير أن لا يفكّروا بطريق آخر غير الموت، وكلّما كان المشهد قريباً من صورة كربلاء كانت الصَّدمة أكبر وسعادة الأُمّة بالبكاء أكثر…
أليس عجيباً أن يقول الصَّدر: «ليس كلّ النَّاس يحرّكهم الفكر بل هناك من لا يحرّكه إلاّ الدَّم»؟!
ولقد شاء القدر أن يهب الصَّدر هذه البطولة بأروع صورها حتَّى إنَّنا نجد إلى جنبه شقيقته «آمنة» لتستلهم موقفاً زينبيَّاً يوفر للبطولة قدراً أكبر من التَّأثير.
إنّنا لا نستطيع مواكبة كلّ المسيرة الجديدة للاستشهاد، ولكن التأمّل في بعض محطَّاتها سوف يمنحنا رؤية لحقبة تاريخيَّة شاء القدر أن يكون الصَّدر بطلها الوحيد.

إنّ جميع المؤشِّرات تشير إلى أنّ الصَّدر لم يكن متفائلاً إزاء مستقبل العراق، بل كان يدرك أنّ الشَّعب العراقي يعيش حالة تشبه إلى حدٍّ كبير الحقبة التي سبقت سنة 61هـ؛ حيث الحقّ مغلوب على أمره. وكان إعدام «عارف البصري» ورفاقه، بعد محاكمة صوريَّة، يدلّ على أنَّ البعث العراقي اختار البطش والقسوة مع التَّيَّار الإسلامي الذي يمثّل الوعي العميق لأُمّة مسلوبة الإرادة.
كان الصَّدر في مكتبته عندما وصله نبأ إعدام الشَّيخ «عارف البصري»‏ ((استشهد مظلوماً مع صحبه، ومرّ الحادث بسلام ما عدا تجمّع طلاّبي أمام «الطبّ العدلي» ما لبث أن تفرّق مذعوراً.))ورفاقه لمجرّد الرَّأي، وربّما يكون هذا الحادث، وبالرُّغم من خطورته، أوّل اختبار يجريه النِّظام لإرادة الأمّة التي سجّلت فيه أدنى درجات الوعي وانعدام الإرادة.

كان الصَّدر يبكي بحرقة، فقال له تلميذه، وهو يحاوره:
– إذا أنت تصنع هكذا، فماذا نفعل نحن؟
أجاب الصَّدر، وهو يكفكف دموعه:
– يا بني! واللَّه لو أنّ البعثيّين خيّروني بين إعدام خمسة من أولادي وبين إعدام هؤلاء لاخترت إعدام أولادي.
كان البعث العراقي قد بدا قدراً صارماً لا تمكن مواجهته، فكانت خططه التَّدميريَّة تنفذ بقوّة ونجاح، وكانت الأُمّة تنسلخ من تاريخها وحاضرها ومستقبلها لتصبح ألعوبة بأيدي أوغاد قذرين.
كانت عجلة البعث العراقي تسير بقوّة، تسحق كلّ من يقف في طريقها.. حتَّى أنَّ الشِّعارات المرفوعة بدت فيها روح الاستفزاز واضحةً، بل وكانت تبعث على القي‏ء من قبيل: «جئنا لنبقى».

وكان من المتوقَّع أن تسير الأمور على هذه الوتيرة، لولا حادث كبير وقع فأيقظ الجميع.. الأعداء والأصدقاء..
لقد انفجرت ثورة الإسلام، وجاء رجل يحمل ملامح الأنبياء ليطيح بعروش الجبابرة. ويوم أعلنت طهران أنّها صوتُ الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، بدأ تاريخ جديد، واتَّخذ الصِّراع في العراق منحىً آخر اتّسم بتسارع الأحداث نحو مشهد لا يقلّ بريقاً عن مشهد عاشوراء «الحسين»(عليه السلام).

اشتعالات قبيل الغروب‏

جاءت انتفاضة الأربعين من «صفر»، عام 1397هـ ـ 1977م، أوّل صِدام عنيف بين الشَّعب والنِّظام. وفي غمرة تلك الحوادث الدَّامية بات واضحاً لدى الطَّرفين أنّ «الحسين»(عليه السلام) لا يزال يقاتل في كربلاء، وأنّ دمه الطَّاهر يهب الأحرار حماساً فريداً في الإقدام والتَّضحية والفداء. وكان للسّيّد الصَّدر في تلك الحادثة موقفه الرَّائع في دعم الانتفاضة وتغذيتها بالرُّوح، كأنّ روح «الحسين»(عليه السلام) تسكن في أعماقه، وكان من رأيه دعم المواكب الحسينيَّة التي تتدفق صوب كربلاء في

موسم عاشوراء، لأنَّها الطَّريق الأمثل في بعث الرُّوح الإسلاميَّة وانبعاث الضَّمير المسلم من جديد، وكان يقول: «إنّ هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، وإنّها يجب أن تبقى».
إنَّ الفكر وحده، مهما كان عميقاً، لا يخرج عن دائرة العقل، وإنّ التَّغيير المنشود يحتاج إلى العاطفة المتأجّجة.. العاطفة التي يمكن أن تشعل لهيب الثَّورات في العالم. من أجل هذا كان الصَّدر يتطلّع إلى جدّه «الحسين»(عليه السلام)، يستلهم ذكراه ويحاول السَّير في خطاه؛ فالضَّمير المثقل بالخوف والإرهاب يحتاج إلى عمل بطولي يحطّم حاجز الرُّعب، وقد قال الصَّدر من قبل: «لقد وضع البعثيّون طوقاً من الخوف على رقاب الشَّعب العراقي وسأعمل على تحطيم هذا الطَّوق».

وبالرُّغم من عدم وجود الصَّدر في الواجهة إبَّان الانتفاضة، ولكن كان هناك ما يُشير إلى القلب النَّابض فيها كما تشير البوصلة إلى القطب دائم.
وإذا كان «ابن سعد» قد ظهر، سنة 61هـ، بوصفه بيدقاً أمويَّاً، لتنفيذ أبشع مذبحة في التَّاريخ، فإنّ عام 1397هـ شهد كلباً دنيئاً هو «أبو سعد» ليتولّى اعتقال السيّد الصَّدر واقتياده مخفوراً إلى بغداد.
وفي بغداد، تعرّض الصَّدر إلى تعذيب نغول بغداد، وكان قرار الإعدام جاهزاً، فقد بات الصَّدر نقيضاً للعث الحاكم في العراق؛ حيث وجود أحدهما يعني فناء الآخر.

وقد كشّر النِّظام القذر عن أنياب تنزّ صديداً، وخاطب الصَّدرَ بلهجة مليئة بالتَّهديد والوعيد:
إنَّنا نعلم أنّك وراء هذه الأعمال العدوانيَّة، ونعلم أنّك قدّمت لهم الأموال، لكنَّنا نعرف كيف ننتقم منك في الوقت المناسب. لولا انشغالنا بالقضاء على هؤلاء (المشاغبين) لنفذنا الإعدام الآن! ولكن سترى بعد حينٍ مصيرك.
لقد وقع الحادث قبل انتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران بعامين تقريباً، ولمّا حدث الزِّلزال الإيراني، برز الصَّدر متقلّداً سيف جدّه «الحسين»(عليه السلام)؛ برز لوحده يقاتل نظاماً دمويَّاً مجهّزاً بجميع وسائل القمع والموت والدَّمار. ونظام البعث

العراقي يمثّل ذروة الوحشيَّة.. نظام لا يتورَّع «الشّرطي الأوّل» فيه حتّى عن أكل رؤوس الأطفال.
وهكذا انتخب الصَّدر طريقه العجيب.
ولعلّ الأمّة في العراق كانت تحلم بالبطل الجديد.. البطل الذي سيقدّم ثمن البطولة، وهو الموت.

لحظات الغروب‏

لقد سجّل التَّاريخ عام 61هـ على شواطى النَّهر بكربلاء قصّة أولئك النَّفر من جيش «يزيد» كيف كانوا يبكون وحدة «الحسين»(عليه السلام)، وكانوا يتضرّعون إلى اللَّه أن ينصره!.. إنّها قصّة الضَّمير مسلوب الإرادة.
هكذا كانت النَّجف، وهي ليست عن كربلاء ببعيدة..، حالة مدمّرة من التّرقّب وانتظار المعجزة.
بدت المدينة الصَّغيرة ذلك المساء، من يوم الاثنين السَّادس عشر من «رجب» 1399هـ؛ حيث التَّاريخ الهجري على أعتاب قرن جديد.. بدت موحشة. ذئاب اللَّيل تنتشر هنا وهناك، واستعدّ الصَّدر للبلاء، وكانت إلى جانبه شقيقته امرأة تحمل ملامح «زينب»(عليها السلام) في كلّ شي‏ء.
العيون الزُّجاجيَّة مفتوحة ترقب منزلاً صغيراً أوى صاحبه إلى النَّوم آمناً مطمئنَّاً، والعالم من حوله يموج بالغدر.
انطوى اللَّيل، واستيقظ الفجر كئيباً رماديَّ اللَّون، وجاء زوّار الفجر.
قال رجل الأمن، وهو يلوك الكلمات بصفاقة:
– السَّادة المسؤولون في بغداد يريدون الاجتماع بكم في بغداد.
أجاب الإمام بانفعال:
– إذا كنت تحمل أمراً باعتقالي فنعم أذهب، وإن كانت زيارة فل.
وأضاف بألم:

– إنَّكم كممتم الأفواه وصادرتم الحرِّيَّات، وخنقتم الشَّعب، تريدون شعباً ميّتاً، يعيش بلا إرادة ولا كرامة، وحين يعبّر شعبنا عن رأيه أو يتّخذ موقفاً من قضيَّة ما، حين تأتي الألوف لتعبّر عن ولائها للمرجعيَّة وللإسلام، لا تحترمون شعباً ولا ديناً، ولا قيماً، بل تلجأون إلى القوّة، لتكمّوا الأفواه وتصادروا الحرِّيَّات وتسحقوا كرامة الشَّعب.. أين الحرِّية التي تدّعونها؟!
لاذ رجل الأمن بالصَّمت.. الصَّمت الذي يعبّر عن لا شي‏ء وعن كلّ شي‏ء.
هل فوجى رجل الأمن بموقف لم يتوقّعه.. لقد رأى أُمّة بأسرها تركع، وها هو يشهد تمرّد فرد واحد يعبّر عن كرامة شعب سحقت تحت الأقدام؟
وغادر موكب عجيبٌ البيت المتواضع الذي بدا في ذلك الفجر الرَّمادي شيخاً ينتحب بصمت.

كلمات منقوعة بالنَّار

الطَّريق المؤدِّي إلى شارع «زين العابدين» هو مجرّد خطى معدودة في حساب الجغرافيا. أمَّا التَّاريخ فله حساباته التي لا تختلف عن الجغرافيا فحسب، بل وقد تتناقض معها في بعض الأحيان.
أصحاب العيون الزُّجاجيَّة (الغرباء) منبثُّون في الزَّوايا هنا وهناك، وفي أيديهم رشَّاشات «الكلاشنكوف»، يريدون أن يوقفوا عجلة التَّاريخ.
فبدت، ذلك الفجر، حيّات وأفاع تنظر من خلال فوّهات مدهوشة إلى رجل يحمل في وجهه ملامح «موسى بن عمران»(عليه السلام) وفي عينيه بريق «الحسين»(عليه السلام).
كانت «آمنة» تستلهم «زينب».. تستلهم صبرها وشجاعتها، وهي تخطو إلى حيث احتشد الذِّئاب.
ووقفت «آمنة» في مواجهة نظام مدجّج بالسِّلاح، ووقف التَّاريخ يصغي إلى كلمات منقوعة بالنَّار، مضمَّخة بصهيل كربلاء:
– انظروا! أخي وحده بلا سلاح.. بلا مدافع ورشَّاشات.. أمَّا أنتم بالمئات..

وهتفت، وهي تشير إلى عشرات «الغرباء»:
– انظروا.. أنتم بالمئات.. هل سألتم أنفسكم لِمَ هذا العدد الكبير وكلّ هذه الأسلحة؟ لأنّكم تخافون، وواللَّه لولا ذلك لما جئتم لاعتقال أخي في هذه السَّاعة من الفجر..
وأطلقت صرخة مدوّية:
– لماذا لا تجيئون إلاّ والنَّاس نيام؟.. لماذا تختارون هذا الوقت، هل سألتم أنفسكم؟
هناك لحظات يتحوّل فيها الصَّمت إلى حديث هو أبلغ من جميع الأحاديث.. لغةٌ عجيبة.
كان الصَّمت يغمر المكان تماماً، وكانت العيون الزُّجاجيَّة ترقب امرأة عجيبة كأنّها ليست من بنات «حوّاء».. سيّدة من سيّدات التَّاريخ، ما زال التَّاريخ يردّد كلماتها، وهي تخاطب أخاها في قبضة الجلاّدين:
– اذهب يا أخي.. اللَّه معك، فهذا هو طريقنا، وهذا هو طريق أجدادك الطَّاهرين.
عادت «آمنة» إلى المنزل.. كأنّها تعود إلى قلعة مهجورة، فيما رحل الرَّجل الذي اختار طريق «الحسين»(عليه السلام)..
قال رجل يخشى الموت ويشفق منه على «آمنة»:
– أما كان من الأفضل أن تتريَّثي؟ كلماتك الثَّائرة تبشّر بالخطر، سوف يفتحون لك صفحة جديدة في سجلاّتهم.
أجابت «زينب هذا العصر»:
– إنَّ ديني يدفعني لاتّخاذ هذا الموقف.. لقد انتهى زمن السُّكوت.. ولا بدّ لنا من أن نفتح صفحة جديدة من الجهاد.. لقد سكتنا طويلاً.. وكلّما طال سكوتنا، كبرت محنتنا. لماذا أسكت وأنا أرى مرجعاً مظلوماً في قبضة هؤلاء المجرمين؟

قال الذي أشفق من الموت: ولكنّهم قد يعدمونك، فهم مجرمون.
قالت «آمنة»، وفي قلبها دويٌّ من كربلاء:
– واللَّه! إنّي أتمنّى الشَّهادة في سبيل اللَّه.. منذ يوم «الوفود» وأنا أتمنَّى ذلك، أنا أعرف هذه السُّلطة وأعرف وحشيَّة هؤلاء وقسوتهم.. الرَّجل عندهم والمرأة سواء.. أمَّا أنا فسيّان عندي أن أعيش أو أموت ما دمت واثقة من أنّ موقفي كان للَّه ومن أجله.
«آمنة» تتحدّث بلغة عجيبة.. لغة لا يفهمها إلاّ قليل من العالمين. من أجل هذا بقيت وحيدة إلاّ من بعض المشفقين.
وكان على «آمنة» أن تفعل شيئاً.. لقد ولدت «زينب».

أشرقت الشَّمس.. شمس يوم الثُّلاثاء.. حزينة كعين تنحب، أو حجرة متوقِّدة تبشّر بالثَّورة..
حثّت «آمنة» الخطى نحو مرقد جدّها العظيم… «عليّ».. «عليّ» الذي قال مرّة، وهو على شاطى الفرات بصفين:
الموت في حياتكم مقهورين.. والحياة في موتكم قاهرين.

كلّ شي‏ء كان هادئاً داخل الضَّريح، حيث يرقد بطل الإسلام الخالد «عليّ بن أبي طالب»(عليه السلام) كأنّه عاد توّاً من صفين أو النَّهروان.. كلّ شي‏ء كان هادئاً سوى تمتمات الدُّعاء من شفاه المؤمنين.. أو تأوّهات المظلومين..
وجاءت «آمنة» تتوشّح عزم «زينب»(عليها السلام).
– يا جدّاه! لقد اعتقلوا ابنك الصَّدر.. فإلى اللَّه المشتكى!
والتفتت إلى ثلّة من أُمّة نائمة.. علّها تستيقظ.. تهبّ من نومها فتتذكَّر بيعة قديمة للحسين(عليه السلام).
كلّما ادلهمّت الخطوب، أو قسا الزَّمان.. وكلّما ظهر «يزيد» يعيث في الأرض

فساداً، تطلّعت القلوب إلى رجل يدعى «الحسين»(عليه السلام)، وإلى حفيده الذي يأتي في آخر الزَّمان.. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجور.
وهكذا شهد «الحرم الطَّاهر» أوّل تجمّع يستنجد «بالمهدي الموعود»، فلقد امتلأت الأرض ظلماً وجوراً وفساد.
كثيرون هم الذين يتصوَّرون أنَّ «المهدي» من اختراع «الشِّيعة»، فهذه الطَّائفة من البشر مظلومة عبر التَّاريخ، فأبناؤها لم يعيشوا بسلام أبداً، مقهورون أينما حلّوا. لهذا ركنوا إلى من سيخلّصهم.. إلى من يمنحهم الأمن والطّمأنينة والسَّلام. وف«المهدي» منحهم ذلك الشُّعور، فناموا على القهر. كلاّ.. «المهدي» ليس أسطورة وإن حيكت حوله الأساطير. «المهدي» رجل من ولد «الحسين»(عليه السلام) علويّ ثائر.. مطلوب من جميع حكومات الدُّنيا.. من جميع طغاة التَّاريخ. ينتظره المعذّبون.. في كلّ زمان ومكان. إنّه الأمل، والأمل أعظم شي‏ء يملكه الإنسان.
من أجل هذا اجتمع المؤمنون في حرم الإمام «عليّ»(عليه السلام) يهتفون باسم المنقذ المنتظر.

من أجل هذا ينهضون كلّما ذكر «المهدي»(عليه السلام)، حركة أشبه بالرَّمز تعبّر عن الإرادة والاستعداد للثَّورة تحت لوائه(عليه السلام)… يضعون أكفهم فوق رؤوسهم تحيَّة مباركة طيِّبة للفارس ـ الأخضر.
يوم الثُّلاثاء.. يوم طويل.. من أيَّام اللَّه.. لقد استيقظ الضَّمير المثقل بالخدر.. أيقظته صرخة لها صدىً زينبي؛ وكانت انتفاضة «رجب» بكلّ زخمها الشعبي صدىً لصرخة هذه السّيّدة العظيمة.
خرجت تظاهرة في النَّجف.. تندّد.. تهتف باسم الصَّدر.. بحسين العصر. وخرجت تظاهرة في الكاظميّة (مدينة الميلاد)، ومثلها في «الخالص» من أرض ديالى، وتظاهرة في مدينة «الثَّورة» خاصرة بغداد عاصمة «السفاح».
كان «الصَّدر» أسيراً في قبضة «المغول» من نغول بغداد. العيون الزُّجاجيَّة تبرق حقداً وشتائم بذيئة كلعاب الأفاعي تنفلت من الأفواه الكريهة.

وجاء «البرّاك» يحمل سيف الشِّمر، وكان كلّ شي‏ء ماثلاً.. والجريمة وشيكة. الجميع ينتظرون لحظة الذَّبح. حتَّى الإمام الصَّدر كان هو الآخر ينتظر ميلاده الجديد.. ميلاده شهيداً. سوف تتدفق دماؤه حمراء.. حمراء.. تمتزج بمياه الرافدين.. وعندها سيهبّ النائمون وتحدث المعجزة. هكذا علّمه «الحسين»(عليه السلام).
كان سيف الشِّمر على وشك الانقضاض عندما جاء رجل من أقصى المدينة يسعى.
قرأ «البرّاك» ورقة صغيرة. تراجع الذِّئب المتحفز في الأعماق. اختبأ وراء قناع لحمل وديع.
أخفت الأفاعي أنيابها.. ألسنتها المشقوقة، وحاولت أن تبتسم لرجل أسير في يده عصا «موسى» وفأس «إبراهيم»(عليهما السلام).
وفكّر الصَّدر لحظة: ربّما حدثت المعجزة واستيقظ الشَّعب. ها هو يصغي إلى صهيل فرس غاضبة تقاتل في كربلاء تدفع عن فارسها غائلة السُّيوف الغادرة.. تمرّغ ناصيتها بالجراح النَّازفة.
وعاد الصَّدر إلى النَّجف، وهو أكثر تصميماً وعزماً على المضيّ في طريق «الحسين»(عليه السلام)، طريق قلّ سالكوه.. طريق مصبوغ بدماء الأنبياء، وتنتصب على جانبيه أعواد المشانق.

هاجس عاشوراء

لعلّ شيعة العراق وحدهم هم الذين يدركون هواجس الإمام الصَّدر، وهو يتحدّث عن لغة الجراح وموت الشَّهادة؛ فهذا الرَّجل أدرك نفسه ودوره، وأدرك الظُّروف التي تحيط به، وشمّ في الأفق رائحة «الحسين»(عليه السلام) وأصغى إلى صهيل جواده، وإلى صوته وهو يشحذ سيفه عشيَّة عاشوراء..
ولقد سمعه العديدون، وهو يتمتم قائلاً: «العراق بحاجة إلى دم كدمي».
وإذا كان قرار النظام العراقي هو إعدام الصَّدر أو اغتياله، فإنّ ذلك يعود إلى

تصميم الإمام نفسه على الشَّهادة.. فالشَّهادة لدى الشِّيعة انتصار، والموت الأحمر في نظرهم خلود أخضر.
لا أحد يدري متى ولد «الحسين»(عليه السلام) في أعماق الصَّدر، ومتى أضحت كربلاء هاجسه الوحيد… ولكن من المؤكَّد أنَّ شقيقته «آمنة» هي الإنسان الوحيد الذي أدرك ما يعتمل في ذلك القلب الكبير، وأدركت أنّه يحتاج إلى «زينب».. لهذا تشرَّبت «آمنة» «زينبَ» ومضت معه في الطَّريق العجيب الذي انتخبه أخوها العظيم.

في آونة مبكّرة كان الإمام الصَّدر يعيش هاجس كربلاء، وكان يردّد أمام بعض تلامذته ذلك قائلاً: «إنَّ الأمَّة مبتلاة اليوم بذات المرض الذي ابتليت به في زمن «الحسين»، وهو فقدان الإرادة؛ فالأمَّة تعرف حزب البعث، ولا تشكّ في طبيعة الحاكمين في العراق.. لا تشكّ في فسقهم وفجورهم وفي طغيانهم وظلمهم.. ولكنّها فقدت إرادتها..

إنّ علينا أن نعالج هذا المرض بذات الخطوة التي قام بها «الحسين»(عليه السلام)؛ وهي التَّضحية الكبرى التي هزّ بها المشاعر، وأعاد دماء الحياة إلى عروق الأمّة من جديد».

ويبدو أنَّ الفكرة قد اختمرت في ذات الإمام الصَّدر حتَّى لم تعد إلاّ خطوات يقطعها إلى مسرح كان قد عيّنه من قبل، وهو الصَّحن الطَّاهر لبطل الإسلام «عليّ‏بن أبي طالب»(عليه السلام).

عندما نفتِّش في زوايا التَّاريخ؛ نقلّب صفحاته السَّوداء والبيضاء والصَّفراء، فإنَّنا نجد في هذه البقعة أو تلك من دنيا اللَّه.. في هذا العصر أو ذاك من نهر الزَّمن المتدفق ثلّة تجتمع تحت جنح الظَّلام على ضوء القناديل أو الشُّموع أو المصابيح الخافتة؛ تتهامس لقلب نظام حكم ما، أو الإطاحة بعرش أو دولة.. تخطّط للهجوم.. للثَّورة والانتصار، وهي في كلّ ذلك تتمنَّى النَّصر والغلبة والسَّيطرة.
أمّا أن يجلس إنسان أعزل وحيد يخطّط لذبحه، ليتدفق دمه في مكان ما أُعدّ له من قبل، فهذا لم يحدّث به التَّاريخ أبداً، إلاّ أن نقول إنَّ «الحسين»(عليه السلام) قد اختار

كربلاء ليذبح وينتصر. وإذا كان ذلك كذلك فإنّ الصَّدر سيكون ابن «الحسين»(عليه السلام)، وتلميذه الأوحد عبر التَّاريخ.
وهكذا تكلّم الصَّدر.. بلغة الجرح.. لغة عجيبة تستمدّ أبجديَّتها من شاطى الفرات بكربلاء.. فيها دماء قانية.. وصهيل.. وفيها إباء، وفيها ما يشبه الجنون، وبخاصَّة لدى «العقّال» من العالمين!

ولكن ما الذي منع الصَّدر من تنفيذ فكرته؟ مَن الذي حال دون إتمام وعده؟
لقد عاش الصَّدر في زمن عجيب له مقاييسه «المأسلمة».. مقاييس ليست من الدِّين في شي‏ء؛ حيكت لتكون ثوباً يستر «العورة».
أرسل الصَّدر من يجسّ له «الضَّغط» والحرارة، في المدينة، فألفاها الرَّسول «ترتجف» لمجرّد «التَّسفير»، وعاد بخفي حنين.
يمّم الصَّدر صوب «الخميني» الرَّجل الوحيد الذي يفهم لغة الصَّدر.
أصغى الإمام لحديث عجيب، وهزّته الكلمات الثَّائرة تنساب مع الجراح.

يا لهول المشهد. الصَّدر يخطب في أُمّة من النَّاس. يقاوم ويهاجم، ثمَّ يسقط شهيداً تتدفق دماؤه طاهرة تلوّن الأرض بلون الشَّفق.
سكت الصَّدر وظلّ «الخميني» مطرقاً برأسه ترى ماذا سيقول… وبعد صمت مدوٍّ تمتم الإمام:
– لا أدري!!
إنَّ المرء لن يتوقَّع جواباً أبلغ من هذا، فيه حزب الأنبياء.. إنّه يدري ويقول: لا أدري.
ونهض الصَّدر ينوء بثقل الرِّسالة.

لاءات في زمن الذّلّ‏

لم يقل فرعون: «أنا ربُّكم الأعلى» إلاّ بعد أن وجد من يسجد له ويمجّد اسمه، ولم يوجد الاستعمار إلاّ بعد أن سبقته قابليّة للاستعمار، ولم تظهر النُّظم الدّكتاتوريّة إلاّ في المجتمعات الخائفة المهزومة من الأعماق.

إنَّ البطش الصدَّامي، في العراق، لم يولد من العدم. لم يظهر من الفراغ لولا وجود أرضيَّة تضجّ بالخنوع والذّلّ والعبوديَّة.
ولم يكن «صدّام» سوى انعكاس لمجتمع مثقل بالضِّعة، وخلاصة لعصر الانحطاط.
ومن هنا يبرز موقف الإمام الصَّدر بطولةً نادرة المثال إذا ما وضعت في ظروفها المريرة التي لا يمكن تصوير أهواله.
وعندما تركع أُمّة بأسرها، فإنّ تمرّد فرد واحد سوف ينتزع الإعجاب.. إعجاب الأصدقاء والأعداء مع.
ومن أجل هذا تكلّم رأس «يحيى»(عليه السلام)، وتحدّث رأس «الحسين»(عليه السلام). ومن أجل هذا لا يزال الصَّدر في ذروة الحضور رغم غيابه.
في الظَّهيرة، وقبل أسبوع من الكارثة، جاء رجلان «خاقاني» و «تكريتي».. جاءا من عند «النَّمرود» الذي يقول:
– أنا أُحيي وأُميت!
جاءا يخوّفان رجلاً لا يعرف ما هو الخوف. جاءا يخوّفانه بالموت؛ والموت لم يعد لديه منيّة بل أُمنية.
جاءا يمنِّيانه بالحياة.. وما أتفهها في زمن الذّلّ!
قال «الخاقاني» بعد حديث طويل:
– لقد جئتك من عند «صدَّام»، أحمل معي خمسة شروط هي خمسة طرق للحياة، وسادسها الموت. فاختر لنفسك أحدها:
– أن تتخلّى عن تأييد الثَّورة في إيران وعن «الخميني».
– أن تصدر بياناً تؤيّد فيه بعض مواقف الحكومة حتَّى لو كان ذلك حلَّ المسألة الكرديَّة أو تأميم النَّفط.
– إصدار فتوى بتحريم الانتماء إلى حزب الدَّعوة.
– إلغاء فتوى حرمة الانتماء إلى حزب البعث.
– إجراء مقابلة مع مراسل صحيفة أجنبيّة، أو عراقيّة، والإجابة عن مسائل فقهيّة عاديّة.
قال الصَّدر، وقد تأهّب للرَّحيل:
– فإذا لم أستجب؟
– كما قلت لك، يا سيّدنا، واللَّه لقد سمعت «صدَّاماً» يقول: سوف أعدمه.

قال الصَّدر:
– إنّ كلَّ ما كنت أطمح إليه في الحياة هو أن تقوم حكومة للإسلام في الأرض، ولقد تحقَّق ذلك. والآن فإنّ الموت والحياة عندي سواء.
أمّا التَّأييد لبعض المواقف فل.
وأمَّا حزب الدَّعوة فلا أحرِّم الانتماء إليه.
وأمَّا حزب البعث فلا أُجيز الانتماء إليه.
وأمَّا المقابلة فل.
والتفت الصَّدر إلى رجل تكريتي أذهلته لاءات عجيبة.
– أخبر صداماً أنّه في أيّ وقت يريد إعدامي فليفعل.

العراقيّون وبعض سكّان شرق المتوسِّط يعرفون ماذا يعني «رجل الأمن». إنّه ذئب في إهاب إنسان، وحش بشري له عيون زجاجيَّة وقلب منحوت من ثلوج سيبيريا. في أعماق هذا المخلوق المخيف يوجد إنسان مغيَّب في ظلمات، مقيّد بالسَّلاسل والأغلال.
ترى كيف تمكّن الصَّدر، وفي لحظة، أن يحطّم أنياب الذِّئب، وأن يحرّر الإنسان في الأعماق المظلمة لتدمع العينان الزُّجاجيَّتان.
لو كانت هناك أجهزة يمكنها رصد ما يجري في أعماق النُّفوس لسجّلت انهيارات مدوّية، ولسمعت أصداء الأنقاض وهي تتراكم بعضها فوق بعض.

هتف التَّكريتي، وهو يبكي:
– حيف واللَّه حيف.
ونهض ليقبّل يداً تشير إلى طريق لا يسلكه أحد من العالمين.

رؤيا

عندما يغمض المرء عينيه عن الدُّنيا، فإنّهما تنفتحان على عالم آخر.. عالم لا يمتّ إلى هذا العالم بصلة، وتشتدّ درجة الرُّؤية، حتَّى لتصل أحياناً مرحلة الشُّهود الكامل وكشف الغطاء، فإذا البصر حديد.
لقد أزفت ساعة الرَّحيل، وهذه إشارة من العالم الآخر.

وقال الصَّدر:
رأيت «إسماعيل» و «آل ياسين» جالسَين وبينهما كرسيّ خالٍ هو لي، وكان هناك ملايين الناس ينتظرون.
وتمتم الإمام، وهو يروي رؤياه:
– وأنا أبشّر نفسي بالشَّهادة.

جريمة في بغداد

اهتزّ العراق من أقصاه إلى أقصاه على أثر سقوط أعتى عروش الشَّرق الأوسط، ونجاح الثَّورة الإسلاميَّة، وبدا الشَّعب العراقي يهتزّ طرباً على أناشيد حماسيَّة:… هنا طهران، صوت الثَّورة الإسلاميَّة.
ومنذ ذلك التَّاريخ، شهد العراق تغيّرات كبرى.. جاءت سريعة ومثيرة.
فقد تمّت تنحية «البكر» عن «الرِّئاسة».. وظهر «صدَّام» الحاكم المطلق… ولم تكد تمضي أسابيع حتَّى استيقظ الشَّعب العراقي على مسلسل الإعدامات الجماعيَّة التي بدأت بشخصيَّات حزب البعث ممّن تشمّ منهم رائحة الاستقلال.. إنّها إرادة «النَّمرود» الذي يزعم أنّه يُحيي ويُميت. وفي «آب» تساقطت رؤوس واحد وعشرين بعثيّاً.. وظهر «صدَّام» وحشاً مصَّاصاً للدِّماء، وسُمِعَ يقول: واللَّه لو وقفت زوجتي وأبنائي في طريقي لأذبتهم بالتّيزاب!

وبدأ عصر الرُّعب، وانتشرت رائحة الدَّم، وسادت ظاهرة ارتداء ثياب الحداد؛ والشَّباب المسلم يساق إلى أعواد المشانق زرافات زرافات..
وإذا كان «معاوية» يدسّ السّمّ في العسل ويقتل معارضيه، فإنّ جلاّد بغداد بدأ يضع سمّ الفئران في اللَّبن. وكان الذين يطلق سراحهم من السِّجن يموتون بين أبنائهم وأهليهم، بعد أن ضجّ الجلاّدون من حدّة الإعدامات.
وفي هذا الزَّمن قال الصَّدر:
لقد تضاربت الرِّوايات حول الطَّريقة التي تمّت فيها تصفية الإمام، ولكن هناك ما يشبه الحقيقة.. وهي أنَّ «صدّاماً» لم يكن يتصوّر أن يقف في طريقه أحد؛ لهذا أراد أن يتأكَّد بنفسه، فاستدعى الإمام إلى القصر الرِّئاسي، وكان هناك طريقان.. إدانة الثَّورة في إيران أو الموت، ولم يتردّد الإمام الصَّدر في الاختيار.
سأل الوحش: أيّ نوع من الموت تختار؟
فقال الإمام:
– أن أُذبح كما ذُبح «الحسين»(عليه السلام).
ولكنَّ «صدّاماً» كان يجهل مهنة جدّه «الشِّمر»، فأمر بقتل الإمام رمياً بالرّصاص.
وخلع الإمام عمامته لمجابهة رصاص الجلاّدين، وقام «النَّمرود» بإطلاق الرّصاص، وقتل الإمام.
الذين يعرفون ساديَّة «صدَّام» يدركون الأهوال التي تعرّض لها الصَّدر قبل أن يستشهد. لقد أراد «يزيد» الجديد أن يقهر «الحسين»(عليه السلام) الكامن في الأعماق، فاستخدم ألوان التَّعذيب. ولكنَّ الرُّوح العظيمة كانت تشتدُّ صلابةً وعنفواناً. ولقد حانت لحظة الخلاص.. الخلاص من ويلات الأرض، وولوج العالم الآخر.
إنّ أحداً لن يحيط أو حتَّى يدرك سرّ الإنسان وهو يتأهّب لدخول ملكوت السَّماء؛ وهؤلاء الذين شهدوا اللَّحظات الأخيرة قبل مصرع الإمام وقد اعترتهم

الرَّجفة -رغم ولوغهم في الدِّماء- قد رأوا شيئاً جعلهم يعجزون عن تنفيذ الجريمة فنفذها «صدَّام».
«وكان قتل الإمام الصَّدر يعني أنّه لم يعد هناك حياء، ولم تعد هناك حدود، ولم يعد هناك معقول ولا معقول، ولم يعد هناك ما تتوقَّعه وما لا تتوقَّعه.. كلّ حرمات الشَّعب العراقي مستباحة ومهتوكة تحت سنابك حصان الغازي صدَّام»‏ ((يوميَّات بغداد، صافي ـ ناز كاظم.)).
أرأيت كيف يعيد التَّاريخ نفسه؟ إصغ إلى «السِّبط» وهو يسبر الآفاق في عاشوراء:
– يا أمّة السّوء، بئس ما خلَّفتم «محمّداً» في عترته. أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي.
ولقد صدقت نبوءة ابن النبيّ، فاجتاحت جيوش «يزيد» المدينة وقتل صحابة كانوا حول الرَّسول‏(صلي الله عليه و آله و سلم) وانتهكت ألف عذراء..
وبعد مذبحة الحرّة حوصرت مكّة، وقصفت الكعبة بالمجانيق وأُحرقت، فلم يعد هناك حياء.
وأعقب مصرع الصَّدر خوفاً ورعباً، ونُفذت إعدامات جماعيَّة، وباتت جميع الأُسر العراقيَّة خائفة تترقّب.
وإذا كان «يزيد» قد اجتاح المدينة، وأهلك الحرث والنَّسل، وحاصر مكّة، وأحرق بيت اللَّه الحرام، فإن «صدّاماً» بدأ عدوانه الشَّامل ضدّ إيران.. إيران «الخميني» التي أعلنت نفسها دولة من دول المواجهة مع إسرائيل.
وكان الغزو البعثي العراقي بداية لسلسلة من المآسي لا تزال مستمرَّة حتَّى اليوم.
إنَّ اللحظة التي اعتلى فيها «الشِّمر» صدر «الحسين» هي لحظة رهيبة تزلزلت لها الأرض، وأمطرت لها السَّماء دماً عبيط.
الإنسان هو جزء من الكون إذا لم يكن خلاصته كلّه، وإنَّ كلّ ما يجري في التَّاريخ الإنساني الطَّويل لا بدَّ من أن تكون له آثاره الكونيَّة سلباً أو إيجاب.

إنّني أُسجّل هذه السُّطور لمن يصدّق أو لا يصدّق، لأنَّني لا أُريد أن أُقرّر ظاهرة علميَّة بقدر ما أُسجّل واحدة من مشاهداتي التي ظلّت محفورة في ذاكرتي إلى اليوم.
كنت حينها في ضواحي «كركوك» شمال العراق، وكان الوقت عصراً وقد بدا الجوّ مشحوناً.. متوتِّراً.. وشيئاً فشيئاً سادت صفرة كثيفة، اشتدّت لتتحوّل إلى حمرة مخيفة، والغبار يغمر الأرض من دون رياح حتَّى تعذَّرت الرُّؤية لأبعد من أربعة أمتار، وساد الوجوم والخوف الوجوه، وأدّى بعضهم صلاة الآيات، وتساءل رجل بصوت يشوبه الحزن: أتراهم قتلوا سيّداً؟!
ولقد ظلّ هذا التَّساؤل أيّاماً حتَّى ظهرت الحقيقة.
نعم لقد قتلوا سيّد.
لقد بايع سكّان المدينة بعد الاجتياح على أنّهم عبيد ليزيد، وكان ذلك نتيجة لمصرع «الحسين»(عليه السلام) الذي كان يمثّل كرامة الإسلام والإنسان.
واستسلم العراقيّون إلاّ قليلاً لإرادة «صدّام»، وقد حدث ذلك بعد مصرع الصَّدر، وقد كان يمثّل كرامة الشَّعب العراقي بأسره.
سوف تمرّ الأيّام؛ ويجري نهر الزَّمن. لقد غاب الصَّدر، وسوف يموت جلاّده، وستنطوي صفحات التَّاريخ، الواحدة تلو الأخرى، وسيأتي من يقرأ عن رجلٍ قال: لا، في زمن الذّلّ، فدفع حياته ثمناً لذلك.
ستكتب قصّة فريدة من قصص التمرّد لرجل نهض وحده يقاتل نظاماً مدجّجاً بأسلحة الدَّمار والموت، ولم ينهض معه سوى امرأة اسمها «آمنة».